المحرر موضوع: الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان  (زيارة 2294 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

                                          الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان
                                                       
 مُسَلسَلٌ بحلقاتٍ مُستلة مِن كتابي ( الكلدان والآشوريون عِبر القرون ) المُرتقب صدورُه مطلع العام القادم بعون الله

                                                        الحلقة الرابعة


الملك نبونَئيد ( نبونيدس ) Nabonid
( 556 - 539 ق . م )                                 وسقوط المملكة الكلدانية ( الامبرطورية البابلية الحديثة .)

كان نبونَئيد كَهْلاً  ويُرجِّح الكثيرُ من المؤرخين كونَه  متزَوِّجاً من إبنة نبوخَذنصَّر الكبرى ، وهذا ما جعله أهلاً  لتسَنُّمِ عرش بابل ، كان من مواليد  مدينة  حرّان الواقعة  على  نهر البالخ  أحد  فروع  نهر الفرات ، لوالدين ( نبوبيلاصو أقبي)  و( أدد قبي ) ويذكرها  المؤرخ هيرودتس  باسم (نيتوكرس) تنتمي  بنسبِها  الى العائلة السركونية الحاكمة في  آشور ،  شديدة التَدَيُّن  منذ  حداثتِها  وتقَلَّدَت  رُتبة  الكاهنة الكُبرى  في معبد ( سين ) إله القمر ،  طَغى  تأثيرُها  على حياة  نبونَئيد  ،  أما  والدُه  فكان  نبيلاً  كلدانياً   وتُشير بعض النصوص المسمارية  الى كونِه  حاكم  حرّان المحلي  ، ويقول آخرون بأنه كان ( رب ماك )  رئيس الكهنة  ، وبعضُهم يؤَكِّد بأنه  شقيق لاباشي مَردوخ الذي اغتاله رجال الدين اغتيالاً وليس تنحيةً بحجة صغر السن وعدم الكفاءة  ، ومهما كانت التكَهنات فإنه قد تولّى العرش البابلي .

في البيئَةِ التي أشرنا إليها شَبَّ نبونَئيد  مستقيماً  لتأثُّره  بمحبة  إِله القمر( سين)  والدِ  إِله العدلِ والقانون ( شمش ) و الذي كانت والدتُه الكاهنة الاولى  لمَعبَدِه ،  اختاره الملك  نبوخَذنصَّر عضواً في مجلس الحُكم  وحازَ على مكانةٍ  مُقَرَّبَةٍ  منه ، أدَّت الى تزويجِه من كُبرى بناتِه  فارتبطَ  بالعائلة  الملكية  بقَرابةٍ  دموية ،  وبذلك أصبحَ ذا حضور بارز  يؤخّذُ  برأيِه  ويُعَوَّلُ  على حُكمِه ،  وما يؤَكِّدُ ذلك  إنتِدابُه من قبل الملك نبوخَذنصَّر سنة 585 ق . م ، للتفاوض نيابةً عنه لإِرساءِ دعائم السلام  بين مملكتي ميديا وليديا اللتين تفاقَمَ الخِلافُ بينهما  مُنذِراً بقيام حَربٍ ضَروس بين الجانبين تَجلبُ  الفوضى والضرر الى المنطقة بأسرها ، فكان مُوَفقّاً في إحلال السلام .

تَوَلّى نبونَئيد الحُكمَ في زَمَنٍ بدأت فيه  المُتغَيِّرات السياسية تجري بسُرعةٍ  ، ويقول المؤرخ  بوستكَيت  بأن نبونَئيد  لم يكن ذلك الملك القوي الذي  تحتاجُه بلادُه  لهذه المرحلة ،  بدليل أن  اهتماماتِه  تركَّزت في غالبيتِها  وبِحَسَبِ كتاباتِه ذاتِها ، على  إِعمار معابد آلهة أكد وسومر القديمة  ،  وقد أفرَدَ  شَرحاً مُفصَّلاً  بِوَلَعِه الشديد  بقراءَة الطالع و حَفر أُسُس المعابد والوقوف على تواريخِها ، وقد اكتشفَ في أُسُسِ معبدِ  حرّأن آثاراً تعود الى عهدَي سركَون الأكدي وحفيدِه نرام سِن ،  وانعكاساً  لتأَثُّره الكبير  بوالدتِه ( أدد قبي - 651 - 547 ق . م )  المُتعبِّدة الكبيرة  للإِله( سين)  قامَ   بترميم وتجديد مَعبَد الإِله  سين  في  اور وتعيين إِبنَتِه ( بعل شالتي ننار) كاهِنةً كُبرى له ، و بالرغم من  وقوع  مدينة  حرّان تحت السيادة الميدية  قام  نبونَئيد  بإِعادة بناء  مَعبَد  ( سين)  في مَسقَط  رأسِه مدينة حرّان  مدفوعاً من  حُلمِه المُدوَّن على اسطوانته القابعة في المتحف البريطاني  ، وهو تَوَقُّعُه  سقوطَ الدولة الميدية  واختفاء حدودها من الخريطة الدولية  ،  إن أعمالَه هذه جلبت عليه نقمة البابليين  بسبب تفضيلِه آلهة المدن على آلهة بابل .

مِن أهم مآثر الملك نبونَئيد تجريده حملة عسكرية على المقاطعات الواقعة شمال غربي الفرات والجزيرة ، حيث تَمَكَّنَ مِن ضَمِّ مُدِنٍ مُهِمة الى مملكتِه ومِنها مدينة ( حارّان Harran ) القائمة على نهر البليخ أحدِ روافد نهر الفرات و ( تيماء Taima  في الديار السعودية الحالية ، تَبعُدُ  عن بابل بما يزيد على ألف كيلومتر ، شَيَّدَ فيها قصراً شبيهاً بقصره الفخم في بابل ، واتخذَ مِنه مقرّاً لحُكمه ، تاركاً لإبنه ( بيل شاصَّر Bel-Shassar ) إدارة  شؤون الدولة . بعكس تَمَيُّز الملك نبونَئيد بشخصيةٍ مرموقة وتمتُّعِه بسمعةٍ عالية ومكانةٍ دوليةٍ كبيرة ، كان إبنُه بيل شاصَّر واهنَ الشخصية عديمَ الدراية والأهلية  لإدارة شوون الحُكم  ، إنتبَهَ  بقايا يهود السبي البابلي الى نقاط  ضعفِه فاستغلوها بشكل يخدمُ مصلحتَهم ويُعَبِّد الطريق أمامهم لإحتلال المراكز الحسّاسة في الدولة ، حيث هَيّأوا له مُختلف وسائل الترفيه واللهو الفاسد فانغمس فيها وأغفلَ الإهتمام بالامور الإدارية ، فانتاب إدارة الدولة التفكُّكُ وعَمَّت الفوضى وتفشّى الفساد والرشوة ، وبسبب هذا التسَيُّب خَلا الجوُّ أمام المُتنفذين اليهود فقاموا ببناء جسور بالخفاء مع الملك الأخميني ( كورش ) الذي كان قد سَرَّبَ أخباراً يَدَّعي أنه ( المسيح المُنتظر ) ، وحيث كان اليهودُ واثقين بأن المسيح مُزمعٌ على القدوم بلا شَكٍ طِبقاً لِمَ تنبّأَ به  أنبياؤهم ،  رأوا في شخص ( كورش ) المُنقذ الذي بإمكانه إطلاقَ سِراحهم مِن أسرهم المُزمِن ،  فعملوا جُهدهم لتمهيد السبيل أمام مُحاولاته لإسقاط بابل ، لا سيما وأنه قد وعدهم بالسماح لهم للعودة الى بلادهم وبمساعدتهم في إعادة بناء هيكل سليمان ، واعتماداً على تَعَهًّد  كورش الذي وَثِقوا به ، رسموا خِطة سرية  سار على ضوئها كورش في مشروعه لإحتلال الدولة الكلدانية  .

في هذه الأثناء  كان الملكُ الميدي  استياكِس  يستولي على بقية مناطق آسيا الغربية ،  ولكن الملك الاخميني  كورش الثاني  تصدّى له  واستطاع  دَحرَه  والاستيلاء  على كامل بلاده ،   ثمَّ  دفعَدتهُ  شَهِيَّتُه  التوسُّعية  بعد احتلاله  للدولة  الميدية ،  للإِنقضاض على  عاصمة  الامبراطورية البابلية  مُنتهزاً  غياب ملكِها  ،   وإِذ  رأى صعوبةً  في مواجهة  إِبن الملك   نبونَئيد   وولىِّ عهده  الأمير ( بيل شاصر Bel-Shazzar )  الذي  كان يَحكُم البلاد  في غياب  والدِه  الذي  اختار الاعتزال الاختياري  في واحة التيماء  في وسط الصحراء و دام اعتزالُه  عشرة  أعوام ،  وجَّهَ  جيشَه  نحو المملكة الليدية وهاجم جيشَ ملكِها ( كرويسس)  المعروف عربياً  باسم  ( قارون)  في منطقة  هالس  فتقهقَرَ الملكُ  الليدي عائداً الى عاصمتِه  سارديس ،   بيدَ أن  الملك الفارسي  كورش  لاحَقَه  في عُقر داره  واحتَلَّ عاصمتَه  سارديس ،  وضمَّ البلاد الليدية الى  مُمتلكاتِه .

بعد أن خَلـت  الساحة  لِكورش الاخميني بعد استيلائه على دولتَي ميديا وليديا ،  ولم  يبقَ أمامَه  مُزاحِم ،  قَرَّر  إِضافة  بابل  المركز الحضاري القديم الى امبراطوريته ، وكان الملك  نبونَئيد  قد عاد  الى  عاصمتِه  بابل  فى  عام 539 ق . م ،  واجتمع  بالنبلاء  وقادة  الجيش  وأمر بالاستعداد للإِحتفال  برأس السنة الكلدانية التي تبدأ في الأول من نيسان  المتوقِّفِ  طيلة غياب الملك نبونَئيد عن البلاد  ،  وأُقيمَت الاحتفالات لعام 539 ق . م وشاركَ فيها الملك نبونَئيد ، وكانت تلك آخر الاحتفالات ، حيث قام الملك الفارسي كورش بضرب الحصار على بابل في شهر تموز لنفس العام 539 قبل الميلاد . 

كانت عودة الملك نبونَئيد الى عاصمته بابل مُتأخِّرةً جداً ،  إِذ كان السيف قد سبقَ العذلَ ،  حيث كان  الملك الفارسي  كورش بالإضافة الى الخطة السرية التي رسمها اليهودُ له  كما نَوَّهنا أعلاه  قد استمال كَهنة المعبد  عن طريق عُملائِه  واعداً إياهم  بإِعادة المكانة العُظمى  للإِله مردوخ  الى جانب امتيازاتهم السابقة  ، كما كان أيضاً  ٌقد  أغرى  قادة  الجيش والنبلاء  بوعودٍ مُجزية  مُظهِراً لهم ذاتَه كَمُنقِذٍ  لبلادِهم من الأزمة الاقتصادية التي تَمُّرُ بها ، ومُساعِداً لهم باستعادة دورهم في شؤون البلاد  للعملِ معه في إِعادة الرَخاء  وضمان الحرية للمعابد . انطلت الخُدعة الفارسية  على هؤلاء واعتبروا الامرَ  مَجَرَّد  تغيير سُلالةٍ  حاكِمة بأفضل  منها جديدة .

وعندما  تأكَّدَ الملكُ الاخميني  من نجاح  خِطتِه  وضمان  ولاءِ الذين تمَّ إِغراؤهم ، تحرَّكَ  في  الشهر السابع من  نفس السنة  539 ق . م على رأس جيش عَرَمرَم  دون أن  يلقى أيَّةَ  مُقاومة  حتى وصل بالقرب من مدينة  اوبيس الواقعة جنوب  بغداد  وعرفت  باسم ( سلوقيا)  بعد زمن  ،  فالتحَمَ الجيشان  واستطاعَ  الجيشُ البابلي  صدَّ هجوم الجيش الفارسي  المتفوِّق عليه عدداً ،  إلاَّ  أن ما قلب  سَيرَ المعركة لصالح  الفرس ،  كانت خيانة  قائدِ جيش كوتيوم < اقليم آشور > البابلي <  اوكبارو >  الذي انضمَّ الى الجيش الفارسي  تنفيذاً  للوعد الذي قطعَه  لكورش  ممّا  أدى الى خسارةٍ  فادحة  تكبَّدَها الجيش البابلي وسقوط  وَليِّ  العهد  الأمير بيل شاصر  قتيلاً  في المعركة  ،  ولم يبقَ بإِمكان الملك نبونَئيد  و بقيَّة  فيالق الجيش البابلي  إلاَّ الانسحاب الى  بابل  العاصمة  في  الرابع عشر من الشهر السابع  ،  وإذ لم يتِمَّ حَسمُ المعركة  كما  توقَّعَها  كورش  أناطَ  قيادة الجيش  بالقائد  البابلي الخائن < اوكبارو >   وعادَ الى عاصمتِه ،  وكان  اوكبارو  القائد الخائن  قد  أفلح  في إِقناع قُوّات مدينة  سُبّار لكي لا تُقاتل الفرس وان الملك الفارسي كورش لا ينوي السوءَ  بالبلاد ، فاجتازَها  متوَجِّها  نحو بابل  لإِطباق الحصار عليها ،  وفي السادس عشر  من  نفس الشهر  اقتحمَ   اوكبارو العاصمة بابل  وهو يقود جيش الفرس بدون قتال  وتمَّ أسرُ الملك نبونَئيد  ، وفي اليوم الثالث من الشهر الثامن  دخل الملك الفارسي  كورش الى  بابل  بدون عناء  حيث سَلَّمَها  له  اوكبارو خائنُ وطنه وأُمَّتِه  مُنهياً  آخر حُكم وطني  لبلاد  ما بين النهرين .  وَصَفَ المؤرخ هيرودتس  حَدَث  الاستيلاءِ على  بابل  عاصمة الكلدان  بأنها كانت  مدينةً عظيمة مُحصَّنة  ما كان بالامكان  فَتحَها بدون مقاومة  وحتى  بغياب كورش  عن قيادة  جيشِه الفارسي  لو لم  تُساهم  بذلك خيانة القائد  اوكبارو  حاكم اقليم  كوتيوم ( اقليم آشور )  ومَن  أدرى  بمداخل  ومخارج  بابل غير  قادتِها  والقائد الخائن  أحدهم   حيث يقول : <  تمَّ  حَشدُ  جيش  كورش الفارسي  عند  مَدخَل  نهر الفرات  الى المدينة  ،  و حَشد  قُوّاتٍ  اخرى  كبيرة  في  موقع  ابتعادِ  النهر  عنها ،  وأُمِرَت  القوات  المحتشِدة  على المَدخَل  بدخول المدينة  متى  وجدوا عُبورَه  ممكناً ،   وجرى  دخول الجيش عِبرَ  مجرى نهر الفرات ،  وبالنظر  لضخامة  المدينة وسعَتِها - بحَسَبِ رواية السكّان - فقد  هُزِمَ   المُتواجدون  في الأماكن الخارجية ،  بينما  ظلَّ  الذين في المناطق الداخلية  من المدينة  مُنهمِكين  في  الرقص احتفاءً  باحتفال أُقيم   بإحدى المناسبات ،  ولم  يعلَموا  بما  يجري  إلاَّ  بعد  فوات  الأوان >    وهكذا  سقطت  بابل العظيمة  بسبب  الخيانة  والإهمال  وأُدمِجَت  بلادُ  ما بين النهرَين   بالمملكة  الفارسية  .

هكذا سقطت الإمبراطورية الكلدانية بسبب التآمر اليهودي الدنيء وخيانة القائد اوكبارو  وكهنة المعبد ، وبذلك غابت شمسُ بابل العِلم والحضارة التي أضاءَت العالَمَ بشُعاعِها ردحاً مِن الزمن طويلاً ، تلك المدينة العظيمة التي وصفها إرميا النبي بقوله : <  كانت بابلُ كأسَ ذَهَبٍ بيدِ الرَّب ، تُسكِرُ كُلَّ الأرض ، مِن خَمرها شَربَت الامم ولذلك فقدَت رُشدَها. إرميا 51 / 7 >  وقال عنها النبي إشعيا:< بابل زينة الممالك وبهاء فخر الكلدانيين . إشعيا 13 / 19 >   إن سقوط  بابل عاصمة  الكلدان التاريخية والمركز الحضاري القديم ، وضعَ حَدّاً فاصلاً ونهايةً لآخر حُكم وطني أصيل لبلاد ما بين النهرين ، وبدايةً  لتعاقب الإحتلالات الأجنبية  . وما دمنا قد تحدَّثنا عن العصر الكلداني  الزاهر فلا بُدَّ  أن نُشيرَ الى الدور الحضاري الريادي للكلدان ولو بشكل مُختصر .

دور الكلدان الريادي في تطور الحضارة الإنسانية


في عام 1157 ق .م تَوَلَّت الحُكمَ في بابل السُلالة البابلية الرابعة بقيادة الملك ( مردوخ كابت أخيشو ) ومِن أشهر ملوك هذه السُلالة كان ملكُها الرابع ( نبوخَذنَصَّر الأول 1125 - 1104 ق . م ) الذي على عهدِه تَمَّ طردُ العيلاميين من اقليم نامار الكلداني الحدودي ، ثُمَّ تعاقبت على الحُكم أربع سُلالات اخرى ،  وكان مؤَسِّس السُلالة الثامنة الملك ( نابو موكين ابلي عام 978 ق . م )  مِن مملكة  ( بيث - دكوري ) ومِن بين ملوك هذه  السُلالة( أريبا مردوخ 770 - 760 ق . م ) خَلِفَه الملك ( نابو شمو اشكن 760 - 747 ق . م ) وفي نهاية  شهر  شباط  مِن  نفس العام 747 ق . م تَسَنَّمَ عرش  بابل الملك ( نبوناصَّر Nabonassar 747 - 734 ق . م )  مؤسِّسُ السلالة البابلية التاسعة ، كان ملكاً  ذا اعتزاز شخصيٍّ كبير ومَيلٍ الى إعلاءِ  شأن الحضارة  والعِلم ،  ولشدة وَلَعه  بهذا الشأن صَنَّفه المؤرخون كأحد علماء حضارة العهد القديم ،  في عهدِه انتقلت بابلُ الى عصر مُزدهر شَهِدَ تطوراً كبيراً في عِلم الفلك ،  وكان اهتمامُ هذا الملك الشديد بتدوين كافة الظواهر والأحداث وتوثيقِها بشكل دقيق مدعاةً لشُهرته ،  فقد أمر بتدوين كُلِّ ما يَطرأ في  المجال الكوني مِن ظواهر فلكية وطبيعية ، مِثل رَصدِ حركة الكواكب والنجوم وظاهرتي الكسوف والخسوف وتسجيل قياسات مناسيب الأنهار وتَبَدُّل أحوال الطقس ، ويقول  جان اوتس في كتابه ( بابل Babylon ) ص. 113 بأن المصادر التاريخية اليونانية القديمة قد أشارت : <  لقد قامَ  الكلدانُ  منذ عهد الملك نبوناصَّر 747 ق . م  برصدِ  كافة حركات  الكواكب  والنجوم المعروفة  حينذاك  وتدوينها  بدِقةٍ  متناهية ،  وقد استندَ  فيما بعد  الفلكيون  والرياضيون اليونانيون الى عِلم الفلك الكلداني  واعتمدوه مَصدراً  لبناء معلوماتهم بهذا المجال >  .

أما ( ادورد كييرا ) العالِم  الآثاري الكبير  فيقول  في  كتابه ( كتبوا على الطين ص . 172 ) : <  لقد  بلغَ  الكلدانُ  مرتبةً  مُتقَدِّمة  في علوم الجبر و الهندسة و الفلك ،  فإن  العالِمَين  الفلَكِيَين
 ( نابو ريماني Nabo-rimani ) الذي كان يعيش في بابل عام 500 ق . م  و ( كِدانو Kidanno ) قد طوَّرا عِلمَ الفلك ووصلا به الى درجةٍ  مُتقَدمة تَمنحُهما استحقاقاً لدَرج اسميهما  بموازاة  العلماء  غاليلو و كبلر و كوبرنيكوس ، إذ  في  سنة 367 ق . م  تَوَصَّلَ العالِمُ  < كِدانو > الى تقدير  مدة السنة الشمسية  بدقةٍ  متناهية  لم  يتعدّى الفارق  بينها  وبين  ما  هو معروف اليوم إلاّ  بزيادةٍ  قدرُها أربعُ  دقائق ونصفُ الدقيقة .  ويقول المؤرخ (  جورج رو George Roux ) < لقد تَوَصَّلَ الكلدان ومنذ القرن الثامن عشر ق . م الى استنتاج الجذرَين العَدَدِيَين التربيعي والتكعيبي  وبتطابق كبير لِما هو معروف عنهما اليوم > . ويُقال أن العالِمَ  فيثاغورس ابتكر نظريته اعتماداً على نظريةٍ مُشابهة سَبَقَه الى اكتشافها العلماءُ الكلدان قبل عشرة قرون مِن الزمان ، وكذلك وضعَ الكلدان نظامَ قياس للدائرة تحديداً ب ( 360 درجة ) وللاُفق ( 180 درجة ) .

وقبل أكثر من ثلاثين قرناً ابتكرَ الكلدانُ النظامَ الزمني الستيني المُتَبَنّى مِن قبل العالَم أجمع حالياً ، وهو احتساب الزمن بتقسيم ( الساعة الى ستين دقيقة والدقيقة الى ستين ثانية ) بالإضافة الى ابتكارهم للوحدة الزمنية  < اليوم - الشهر - السنة >  والشهرَين الشمسي والقمري Lunar & Solar Calender وذلك بِمُراقبتهم لواحدةٍ من دورات القمر ( شهراً تِلوَ شهر )  وتَداعياتِها نِسبةً  الى الزمن ،  حيث اتَّضحَ  لهم  بأن  كُلَّ اثنَتَي عشر  دورةٍ  قمرية  أي  بدءاً  بظهور القمر  واختفائه ،  يَتِمُّ  خلالها  تَكرارُ  وتَجَدُّدُ  فصول السنة ،  وقرَّروا  اعتماد  الأولَ  من  شهر  نيسان    ( نيشان Nishan بدايةً  لكُلِّ سنة جديدة ، واعتبروه عيداً قومياً تتخللُه احتفالات كبيرة مُطلقينَ عليه اسم ( أكيتو أو أخيتو = حَيُّوثا ) وتعني  الحياة  ،  حيث كان الاعتقادُ  سائداً  لديهِم  بأن الحياة والطبيعة تتجددتان في ذلك اليوم ،  ناهيكَ عن اكتشافهم المُدهش بأن الأرضَ والشمسَ والقمرَ  وخمسةَ  كواكب اخري تُشَكِّلُ مجموعة تَرتبِط  ببعضها البعض ، وهي نظرية  ثابتة  لم يَتسَنَّ  للعالَم إدراكَها إلاّ بعد مرور عشرين قرناً من زمن اكتشافها مِن قبل الكلدان ، ومِن ضمن اكتشافاتِهم الفلكية الاخرى ، ابتكارُهم التقويم الشمسي القمري على أساس أن كُلَّ ( 235 ) شهراً قمرياً  تُعادلُ ( 19 ) عاماً شمسياً ،  وللتوفيق بين السنتين الشمسية والقمرية ، نَظموا تقويماً يستندُ الى احتساب ( 13 ) شهراً لكّلِّ سنةٍ مِن السنين السبع مِن كُل ( 19 ) سنة  ،  وقد اقتبسَ يهود السبي البابلي هذا التقويم الذي وضعه الكلدان  ولا زالوا يستعملونه لغاية اليوم .

وعن تَفوُّق الكلدان في مجال عِلم الفلك ، يقول الباحثُ الآثاري ( لانكَدون Langdon ) <  إن أول مَن أوجدَ  نظرية الأبراج  واستطاع  تحديد َ مسار الشمس واحتسابَ  منازلها بدقةٍ  مُذهلة  كان العلماءُ الكلدان منذ سنة 700 ق . م ، كما نَظَّموا جداول زمنية لظاهرتَي الكسوف والخسوف لمِئات السنين اللاحقة > .  أما المؤرخ الفيلسوف ( بِليني Piline ) فيقول عن أنواع الفن الكلداني ما يلي : <  إن مهارة الكلدان في ميادين الرسم والفن والعِلم ، جعلتهم  يستحقون لنيل شرفِ  الامتياز  والتفوق على معاصريهم الآخرين ،  فشُهرة النسيج البابلي أخذت  موقعاً مرموقاً  لدى الفُرس واليونان والرومان .

أما مَهارة الكلدان وتفوُّقِهم  في عِلم المياه ( العِلم الهيدرولوجي ) فقد بَرهنَت عليه  الجنائن المُعلَّقة  في بابل التي عُدَّت إحدى عجائب  الدنيا السبع في العهد القديم ،  تلك التي أوقعت العلماءَ حتى يومنا هذا في حيرة  مِن  الطريقة  التي استخدمها  المهندسون الكلدان قبل ألفين وخمسمائة عام لايصال المياه الى ذلك العُلوِّ الشاهق .  وقد عثر المنقبون في منطقة بابل مؤخراً على  بطارية جافة لا تختلف كثيراً عن البطاريات الجافة الحديثة التي تُستَخدم في توليد القوة الكهربائية ،  قالوا بأن تاريخها يعود الى عهد الدولة الكلدانية  . والى الحلقة الخامسة قريباً .

الشماس كوركيس مردو
في 2 / 4 / 2007