قال صديقي..
ـ سأعد القهوة
وغاب جسده خلف الباب. حدقت حولي مستقصياً معالم الغرفة.. أشياؤها تغرق في ألق ساطع ، المناضد العالية والمائلة التي يستعملها صديقي لرسم خرائطه الهندسية المعمارية التي تنداح مستلقية بتثاقل فوق ركامات هائلة من الأوراق العريضة البيض الصقيلة، بعضها اكتمل تخطيطها فبدت من حيث أجلس ، على نسق فني مرهف بالغ الجمال ، فيما بدت إحداها وكأنها تلطيخات سود غير نظيمة للوحة لم تكتمل بعد ، وفوقها تكومت أقلام تحبير بأحجام مختلفة وعلى جانبها تماما وفي طرف منضدة ملاصقة بدت السيكارة الموضوعة على حافة المنفضة ، والتي تتقصف بفعل الاحتراق ، والدخان الأزرق المتصاعد على شكل تهويمات هندسية لا أسماء لها أشبه بمدخنة قصية في واد مقفر، همست لنفسي .
ـ ما أثقل الليل...
ولشد ما آلمني هذا الشعور المفاجئ الكئيب فحدقت عبر الباب أنتظر أوبة صديقي من المطبخ بيد أني وقفت والدهشة والحيرة يربكان لساني حين دخلت بقبعتها البيضاء التي تغطي شعرها الأشقر الممتد على كتفها البض الدقيق اللابد كصوص الدجاج تحت معطف فراء الثعلب الرمادي، ابتسمت برفق ورنمت ....
ـ مساء الخير
ثم تقدمت بخطى وئيدة وصافحتني ، استكانت كفها الناعمة في قبضة يدي كحمامة مستوفزة ، أبقت أناملها في كفي وهي تحدق فيَّ بلواحظها الزيتونية ثم قالت :
ـ هيّا نذهب
ولأول مرة سمعتُ صوتي الواجف .
ـ أين..؟
ـ إلى بيتنا .
ووقفت اتامل المكان ، انداحت التفاصيل أمامي عالماً أسطورياُ شفافاً مكللا بالبياض الناصع والثلج يتطامن نحو الأفق حتى يتلاشى في خط ابيض تمتد وراءه سماء مرصعة بغيوم ربابية فيمسي للأرض المتموجة والسماء اللامتناهية لون واحد هو لون الثلج الهاطل بتمهل وكثافة مغطياً معظم أجزاء كوخ كبير ينام بوداعة على بعد مرمى حجر منها وبدت الشجيرات العارية المنتشرة على جانبيه وعلى أبعاد متباينة في اتساق رهيف ونظيم، ومن سقفه كانت ثمة مدخنة آجرية تنث دخاناً رصاصياً فيجعل للمدى حركة حبلى بالحياة بالرغم من افتقاره إلى أي كائن ظاهر، و كان رغم الليل الأبيض . ثمة ضوء ساطع يتسلل من خصاص نافذته الخشبية مضيئاً المسافة على بعد ياردتين أو ثلاث كوخاً صغيراً يبدو من بابه المخلوع مربض كلب أو قن دجاج مهجور ، همست معجباً متسائلاً ...
ـ هيا .. ؟!
أومأت برأسها ، والومض البارق من أعمق نقطة من اللواحظ الزيتونية خيوط عنكبوت لزجة تمسك بخناقي وتجرني إلى قدري المحصور بين الحدقتين الزيتونيتين، قالت بحرارة ..
ـ وقتنا قصير ..
ثم بعد وهلة .
ـ لم نحتفل معاً بعيد الميلاد منذ سنتين .
وامسكتني من معصمي ، انقاد جسدي، مبهوراً ومسلوباً . خلف الثوب المتطاير الأبيض ، أحسست ببرد قاصف يهمي في عروقي فحشرت رقبتي داخل ياقة معطفي وأنا منتش من صوت تقصف وانسحاق الطبقة الثلجية تحت حذاءينا فيسري إلى رأسي خدر لذيذ . كان الليل الثلجي البض يشمل الامتداد الشاسع أمامنا ويضفي على المساء مسحة قدسية .. أقترب الكائن الأنثوي ، شعرت بأنفاسه الدافئة اللاهثة تهمي على خدي ، وكان ثمة في عينيه الزيتونيتين شمس أبدية وبحر لا نهاية له يدعوني في اصطفاقه المجنون لامتطاء عبابة ، سمعت صوتها المرتعش .
ـ أشعر ببرد .
وتلبية لهاجس أزلي أحطُّ خصرها بيدي وسحبتها تحت جنحي . استكانت كعصفور مبلل ينشد الدفء والطمأنينة . أركنت رأسها إلى صدري وهمست .
ـ ضمني إلى صدرك بقوة .
وبعد برهة بنبرة تخنقها حشرجة الأنثى الراغبة .
ـ اشعري بالأمان .
التصقت كقطة منزلية أليفة ، تسلقت أنفاسها الساخنة المعجونة برائحة الأنثى الزكية فانغمرت ذائباً في لهيب هذا الذات الناعس المخدر وانقادت مثل الشاة المساقة إلى مسلخها ، في هذا المدى الموحش تجرّني خطواتي الممغنطة بتسليم راضٍ ... حثثنا خطانا نرسم على الثلج المسفوح على امتداد الأرض آثار أقدامنا الوثابة، وفجأة تفجّرت في تلك النقطة البعيدة في حناياي ، تلك البقعة المثيرة الداكنة المجهولة في ثنايا هذا الصدر المتعب ، زوابع خانقة ودبقة تسللت منزلقة مثل سمكة صغيرة وانتشرت في تجاويف صدري المقهور ، شعرت على أثرها بنفس الشعور الذي يتلبسني عندما ينفجر البركان على حين غرّة وتتدفق النيران تلسع كل شيء ورويداً رويداً انغمرت في نفس البحر الذي دخلت دياجيره المعتمة حين وقفت أمام تلك الصورة الفوتغرافية الفذة لذلك المصور المجبول باقتناص الحياة . أتملى تفاصيلها مأخوذاً باللحظة الفريدة التي رتّب بها خالق الصورة تفاصيلها ، وكأني بتلك الجمجمة المنخورة عند الفك والملقاة بإهمال متعمد وسط الكومة من الأوراق النقدية والمعدنية تصرخ ثاقبة الفضاء المعتم الذي يكتنفها من الخلف .
ثمة ما يمسك على الدوام
ويعود بي إلى الوراء
إلى الزمن الذي كان كل شيء
يهيب بي أن أحيا ... ( [ 1 ] )
وانفتحت كوة صغيرة في دياجير ذاتي الموصدة ، انساح خلالها صوت زاخر بالحيرة يصفد نفسي المعذبة .
ـ حتام تسير وما مآل هذه الرحلة .. ؟ ومن هذه الجنية المضمخة برائحة الزوال .. ؟ والى أين تقودك عبر هذا الأديم ؟
والآلاف الأخرى من الأسئلة التي تبقى تواجه عين الأجوبة البلهاء على وجهي المنقاد نحو هذه المغامرة المجهولة ... وقفت إزاء الباب ، كان من خشب البلوط ، ندفت انفي رائحة الخشب الرطب فأغمضت لحظي بانتشاء مستذكراً في ذهني وقفاتي الفجائية أثناء ذهابي وإيابي إلى الكلية أمام محل النجارة في فم الزقاق والرائحة الزكية للخشب المنشور تستاف منخري فأسافر مستلذا بعظمة اللذة هذه، وحين فتحت عيني رأيتها تقرّب وجهها من ثقب الباب تحاول عبثاً إدخال المفتاح الضخم ، وبعد لأي صرّ الباب ثم انفتح معلناً عن أحشاء الكوخ ... كل شيء في الحيز الغارق بالألق الناصع الناثِّ من مصباح كبير يتدلى من السقف بسلسلة فضية كان يفصح عن ذوقِ فنانٍ مرهف الحس بدءا بتنظيم الأرائك مروراً بالرفوف المتوزعة على الحيطان الخشبية وقد زيّنتها كتبٌ ذات أغلفة صقيلة لمّاعة، وانتهاءً باللوحات الكثيرة الكبيرة المنتشرة باتساق، كنت أرى فان كوخ ، انجلو، دالي ، كوكان... شدّتني لوحة تحتل ركناً قصياً بين رفين... كانت تمثل إنساناُ ضامر الساعدين والساقين ، أصلع الرأس، ناصل البدن... بالكاد يكسوه ثوبٌ لا يطول الركبتين ، معصوب العينين بلفافة قماش سوداء ويمشي على حبلٍ رفيعٍ جداً وفي الطرف القصي منه وإزاء وجهه الآدمي ثمة وهج اصفر . أو فضاء تعلوه غيمة صفراء تفضي إلى عالم غامض رصاصي وتحت قدميه الحافيتين الملتصقتين بإصرار مجنون بالحبل . أسنة برتقالية تهمي ملامسة قدميه فيثويه الم ممض .. تسمّرت في مكاني عند العتبة أتأملها مأخوذاً بتلك الحركة الحائرة بين السقوط إلى الهاوية المعمّدة بالنار أو بلوغ الفسحة الصفراء البعيدة القريبة السهلة العصية،، أيقظني صوتها .
ـ أعجبتك .. ؟
ـ هائلة ...
ثم غمغمتُ ..
ـ لِمَن هذه اللوحة .. ؟
قالت :
ـ تستطيع أن تخمِّن ؟
ـ فان كوخ ؟
هزّت رأسها الجميل نفياً
ـ دالي ..
أنسلت بسمة ساخرة من شفتيها وهزت رأسها نافية .
ـ أنجلو ..
وأنسابت ضحكة ناعمة ثم نبرت .
ـ يبدو انك تجهل كل شيءٍ عن الفن وعن المدارس الفنية .
شعرت بالحرج ، بيد أن صوتي وجد تبريره الذي قد يبدو مقنعاً ، بالنسبة لي على الأقل
ـ صحيح.. ولكني متذوقٌ للفن ، تستهويني التفاصيل الواضحة التي تقبل التنظير.
قالت في شبه اقتناع .
ـ لا بأس
همست وأنا لم أزل مأخوذاً بمضمون اللوحة
ـ ولكنها قاسية
تأملتها بإمعان ثم قالت :
ـ أنها الفارزة التي تقرر مصير الإنسان ، هي مسافة زمنية قصيرة محدودة بين رفع القدم ووضعها ثانية ، ولكن ينبغي أن تكون المحاولة دقيقة وحذرة لرسم خطوة جديدة ... ، أما إلى تحت ، أو على المبتغى .
ــ تعبير جميل ولكنه ناقص .
تقوس حاجباها الخيطيان وسألت
ـ كيف .. ؟
ـ نستطيع أن نقول ، أنها تجسيد فلسفي عن المطلق وعن ماهية الإنسان .
ـ افهم من كلامك أن الإنسان مسير .. ؟
ـ بالضبط
ـ والحجة .. ؟
ـ انه كما ترين بلا بصر ، تدفعه إلى مصيره خطى غير محسومة . غائرة في سحب الحظ .
قطعت استرسالي فجأة
ـ لم لا نجلس
غاص جسدي في حفرة رحبة هانئة أحدثتها عجيزتي في المقعد الوثير، شعرت بالانتعاش والدفء يتسرب إلى حجيرات جسدي ، وبحثت عن المصدر، وجدت أمامي وقبالة اللوحة تماما مدفئة غائرة في الحائط وثمة في جوفها عيدان غليظة من خشب متيبس يحدث هسيساً لذيذاً بفعل احتراقه ، قالت وقد صعد الدم إلى وجنتيها وبانت أكثر حيوية :
ـ استميحك العذر لوقت قصير .
ومشت تميس في خطاها ، ابتلعها باب جانبي ، انفرج للحظة وجيزة، رأيت خلالها جوف غرفة تعوم في أضواء وردية، أغمضت عيني مستشعراً حرارة دافئة تسللت إلى مساماتي ، ثم تناهى إلى سمعي عزف هادئ شدتني فيه تلك النغمة المبهمة التي تستشفها الأذن المدربة في لحظات وجيزة ... هي أشبه بصيحة مبتورة لامرأة مسكونة باليأس والوحدة والرغبة ، وقفت كالمسحور تقودني قدماي في خط مستقيم نحو الباب ، كانت كل خطوة أخطوها نحو الغرفة تفجر في مخيلتي صورة مكان سرمدي غارق في الثلج ، وكوخ ينبت بغتة في الرجاء الفسيحة في تلافيف الدماغ ، وامرأة فاتنة خرافية ... أمسكت أكرة الباب مسحوراً بتلك النغمة التي تترجم دعوة أنثوية حارقة مبتورة ، دفعت الباب ووقفت مثل التمثال أتملى تفصيلاتها ، كانت صديقتي ...
ـ لم تنظر إليّ هكذا .. ؟!
قالها صديقي بتعجب وحيرة، كانت الصينية التي ينام فوقها فنجانان ساخنان من القهوة المرة ترتجف بين أنامله حين هتف ثانية ..
ـ ما بك .. ؟!
(1) مقطع من قصيدة للشاعر اليوناني نابليون لاباثيوتيس (1893-1943).
رَابِط المَصْدَر :
http://www.alnoor.se/article.asp?id=94611//////////////////
قِصَصٌ قَصِيرَة جِدَّاً
بِقَلَمِ : هيثم بهنام بردى
( 1 )
شمس
أسير ، المدينة خلفي تسبح في سراب عائم والشمس امامي جنيه عصية المنال أقف حائرا ..
•- أيهما اسلك .. ؟
طريقان ممتدان ، الاول خلفه تله ، والثاني مستقيم سهل ، أقرر الاخير ، المح شاهدة قبر قديم ، أقرأ ..
(( لا تدهش
من كونك ستموت
فلتدهش
من أنك حي ... ))
- سأمشي في الاول .
أتسلق التل ثم أنحدر نحو السهل ، وعلى سفح جبل عال يتفرع الطريق الى اثنين ، يفضي احدهما الى الدوران حول محور الجبل والثاني يتسلق صدره .
•- أيهما اسلك .. ؟
أتلولب مع الاول ، وبعد خطى يسيرة المح عن بعد جمجمة وعظاما آدمية
( تكون أو لا .. )
لاشي خلفي سوى التل ، لاشيء امامي سوى جبل تجلس عليه شمس ملكة ، أحرث صدر الجبل بخطوى ، ثم ..
فرعان ...
- أيهما ... ؟
وأختار ...
... طريقان
•- ... ! ؟
وها انذا أسير ، لا أدري منذ متى ، ساعة ، يوم ، سنة ، قرن ، قرون ، والشمس مقصدي .
( 2 )
البيت
صبي يقتعد قمة رابية تبعد إطلاقة مقلاع عن آخر بيت في القرية ، يحدق عاليا وفي فمه بقايا سكاكر ، يتابع بعينين عسليتين الدائرة التي ترسمها الطائرة المحلقة في السماء وصوت أزيزها يختلط بقأقأة الدجاج المنتشر في الحقل وثغاء الحملان السارحة بين صفي أشجار الزيتون والفستق ، يتوكأ على عصاته ويلتقط قطعة سكاكر جديدة ويلقمها فمه الغض ويبدأ بتكسيرها وعيناه تتابعان جسد الطائرة الذي يبدو أحد جنبيها أسود والآخر أبيض ، وهي تتقلب مثل حمام منزلي مدرب ، همس لنفسه .
ـ كيف تطير الطيارة ..؟
ويحاول جاهداً أن يتقصى الجواب في ذاكرته اليافعة ولكنه يبدو عصيا كلغز ، يغض طرفه ويرقب القطيع ، ثمة حملان إتجهوا نحو أمهاتها وصاروا يرضعون الحليب الجني اللذيذ ، تلمض وهو يتذكر وجبته الصباحية... الجبن واللبن والحليب... أعاد نظره نحو الفضاء ، يتناوب اللونان الأسود والأبيض في الظهور كسمكة طرية تتلبّط في أسار الشباك ، يتقيأ جسدها كائناً أسطوانياً ينحدر كالمطر نحو الأرض ، ثم يختفي خلف تشابك شجر الزيتون والفستق لتصير الأرض أرجوحة والفضاء رعداً فتطير الطيور من قمم الأشجار ويسعى الدجاج لائطاً في أفياء البيوت ، وتتوقف الحملان عن اللعب وتقفز نحو أصواف أمهاتها ، وتسقط قطعة السكاكر من فم الصبي وهو يحاول أن يتماسك طارداً الرعدة من أوصاله والصريف من أسنانه ، وعندما سيطر على زمام جسده ، عانقت عيناه غيمة من دخان اسود يتعالى في الأفق ، وأمامه وعلى مقربة من جسد الغيمة وعلى مدار أفقي من ناظريه وعلى مقربة من منحدر الرابية نحو النهر لمح زوجاً من طائر السنونو وفي منقار كل منهما قشة يابسة يحلقان بجسديهما الأبيضين الأسودين نحو سقف غرفة مضخة الماء الهادرة بالصوتين ، المحرك وخرير الماء المنساب نحو الحقول ، يقفان قرب السقف ويضعان قشين جديدين لعشهما المرتقب .
( 3 )
التماهي
غرفة مشّيدة من آجر وصلصال مسقفة بطابوق ، مرمية في زاوية الطوار صباح يوم شباطي مطير، ثمة طفل يغادر السنة الأولى من العمر ويطرق بأنامله اللدنة حوله الثاني ..وأيضا عتبة الباب الخشبي المزين بأشكال معدنية : نسور ، أوراق تين ، أغصان زيتون ، حمائم .. يطرق بصوت يتماهى مع زقزقة الحساسين الهاربة من أعطاف الزيتونة السامقة في قلب الحوش .. ينتصب الطفل ويرتكز على يديه وينظر نحو أحشاء الغرفة المصّفدة بالعتمة التي تخنق بصيص الضوء الخارج من رحم ذبالة القنديل الموضوع على منضدة خشبية وسط الغرفة . يكركر الطفل إستجابة لنداء بنبرة محتضرة لإمرأة تجلس على تخت خشبي ، وإذ يرتد الضوء ويلطم الوجه الشائخ تبرز ملامحه جلية متلفعة بذلك التمازج النادر والتلاقي اللامعقول بين الضوء والعتمة المنفرش على تفاصيل الوجه : عجوز بملامح دقيقة شاحبة ولكن بها مسحة من جمال باهر مغادر ، وإبتسامة ساحرة تجعل الملامح مثل لوحة جميلة لفنان إكتوى بإلتقاط اللحظات التي لا يقتنصها إلا كائن مفعم بخيال جامح ، يهمس الوجه بصوت ناعم .
ـ تعال ...
يقف الطفل على يديه ويرفع رأسه كحصان التقط إشارة نادرة تنبئ عن فعل قادم خارج المألوف ، تقتحم النغمة أذنيه وتدخل وجدانه فينتشي ملبيا صدى هذا النداء الدافئ ، يرقى العتبة زاحفا على عجل ويدخل جوف الحوت ، يقف إزاء الساق العالية للمنضدة وينظر وفي شفتيه إبتسامة تحاكي إبتسامة العجوز المحاط بتلٍ باذخٍ من وسائد ريش الحمام ، تمد يديها الواهنتين ، تلتقط أنفاسها المتلاحقة المتعبة عقب هذا الجهد اليسير ، تهش...
ـ هيا ياحبيبي .
يترك الدمية الملقاة على البلاط ويزحف نحوها ملبيا صدى الإشارات الغامضة التي تلتقطها ذاته الحية ، يلتقط طرف الشرشف بكلتا يديه ثم ينهض جسده ، يشعر أن ثمة قوى على شكل بساط متشكل من أنفاس العجوز تدفعه كي يقف على قدميه وعيناه تعاينان أصابع العجوز الممدودة نحوه، يمد أصابعه ثم .. تلتحم الكفان ؛ كف طينية ناعمة إسفنجية بأصابع وكأنها زغب صغير لقثاء في أول تبرعمه ، وكف بيضاء بشرتها محببة متقشرة بأصابع وكأنها تكوين حبالٍ من قنب.. تلتقيان عند السبابة ، التقاء نخالة الطحين الناعمة بالبلورات الخشنة المتبقية فوق الغربال ، تقدح الدنيا خارج الغرفة بضوء باهر لبرق عاصف اومض فوق الكون ، وعند استقرار كل شئ في موقعه .. المطر ، الهواء ، البرد ، في الخارج .. والظلمة ، الأثاث ، الأنفاس، في الداخل.. كان الكيان الهش الناعم يجلس فوق التخت الخشبي مسّوراً بالوسائد ومن عينيه تمطر الحكمة والحنكة ، وعلى مقربة منه ، فوق البلاط ، قرب ساق المنضدة يجلس كيان يسابق الدقائق نحو حتوفها ، يداعب بأصابعه الحبلية دمية صغيرة وفي عينيه براءة أطفال الكون .
رَابِط المَصْدَر :
http://www.alnoor.se/article.asp?id=54300////////////
الحكِيمَة والصَيَّاد
ــ حِكايَاتٌ شَعْبِيَّة عِراقِيَّة مُمَسْرَحة ــ
( مَسْرَحِيَّة لِلفُتْيان )
بِقَلَم : هيثم بردى
المشهد الأول
الزمان: قديم جداً
المكان: أي مكان
الوقت: فجراً
غرفة متواضعة، آثاث عتيق، فراش قديم، صياد يكمل ارتداء ثيابه وزوجته تكمل إعداد الصرة، أطفال نائمون.
الصياد: آن وقت الذهاب.. هل كل شيء جاهز؟
الزوجة: الصرة جاهزة، وكذلك عدة الصيد.
الصياد: الخبز والبصل كالعادة.!
الزوجة: نعمة من الله.
الصياد: (بتأفف) متى تُفرج..؟
الزوجة: مستورة والحمد لله.
الصياد: أي ستر يا امرأة، لقد نسينا طعم اللحم، حتى السمك الذي اصطاده لا نصيب لنا فيه.
الزوجة: تفاءل بالخير يا رجل.. فالدنيا فجر ورزق يومك بيد الخالق.. من يدري، ربما سيكون اليوم يوم صيد وفير..!
الصياد: (يشير إلى أطفاله النائمين) أنظري إليهم، صاروا جلداً على عظم، أنظري إلى نفسك في المرآة.
الزوجة: ما بالك هذا الصباح يا زوجي العزيز؟ اتكل على الله فهو لا ينسى عباده.
الصياد: (بعد فترة صمت) ماذا أفعل يا أم أولادي؟ آستغفر الله، إن الفقر ظالم.
الزوجة: لا بأس.. الحمد لله على نعمه، اتكل على ربك وابحث عن رزقك، فالبحر كريم طيب لا يرد صياداً.
إظلام
المشهد الثاني
الوقت: صباحاً
المكان: سوق السماكين، دكاكين متجاورة، أمامها أسماك مفروشة على مصاطب أو معلقة على حبال أمام الواجهات، صيادون، تجار، امرأة عجوز تقتعد دكة متواضعة أمامها بسطة.
العجوز: (تكلم نفسها) كلهم في حركة دائمة، الفقراء لأجل توفير لقمة الخبز، والأغنياء لاكتناز الذهب.
الصياد: صباح الخير يا خالة.
العجوز: (تنظر إليه بعمق) صباح الخير، كيف كان أمسك..؟
الصياد: كالعادة، حفنة من النقود لا تسد رمق أطفالي.
العجوز: (تهمس لنفسها) إني أرى الاثنين في عينيك، في الأولى أرى الطيبة وفي الأخرى.. اللهم اجعله خيراً.
الصياد: أريد ملحاً..
العجوز: (تجفل) خذ ما تشاء.
الصياد: (يأخذ حفنة صغيرة) مع السلامة.
العجوز: (بصوت مسموع) هذا الصياد طيب، ولكنني أراه ضحية نفسه الجموحة.
رجل ما: أريد كيساً من الملح.
العجوز: (تبتسم) أبشر.
الرجل: وأخيراً يا خالة أطلّ ابني.. (لنفسه) أورقت شجرة العائلة غصناً جديداً.
العجوز: (ترفض أخذ قطعة النقد) هذا الملح هدية مني لك.
الرجل: (مبتعداً) طيبتك لا حد لها أيتها المرأة الطيبة.
العجوز: إنها الحياة.. تبلى قامة لأجل قامة.
(يُسمع صوت عراك بين رجلين في قلب المسرح، يتجمع الصيادون والتجار حولهما)
العجوز: سباق محموم لأجل لا شيء.. إنه..
(رجل ممزق الثياب طويل اللحية يقطع المسرح ركضاً يتبعه جمع من الصبيان)
صبي: أيها المجنون..
صبي آخر: أرقص مثل الدب..
آخر: قل واحدة من حكمك أيها المجنون.
الرجل: (يقف، يهرش صدره، يجلس القرفصاء أمام العجوز، يتناول حفنة من الملح ويواجه الجمهور) كونوا مثل الملح (يذرو الملح في الوجوه ويلتفت إلى الصبي) هذه حكمتي..!.
العجوز: صدقت يا رجل..
الصبي: (لأقرانه) لم نفهم شيئاً.. (بعد وقفة) إنه مجنون.. هيا (يخرجون).
الرجل: (بعد أن يشيع الصبية المغادرين بابتسامة حب، يتجه نحو محل فخم يحتل دكته العالية تاجر أنيق الملبس) خذ هذا الملح. إنه الملاذ.
التاجر: (بعصبية) أغرب عن وجهي يا مجنون.
إظلام
المشهد الثالث
الوقت: ضحى
المكان: قاعة العرش في قصر السلطان، السلطان جالس على الكرسي، ومعه وزيره.
السلطان: (بوجه مبتسم) والآن.. ماذا لدينا يا وزيري؟
الوزير: جولة كل يوم..
السلطان: أين هذا اليوم..؟
الوزير: نطوف أطراف المدينة.
السلطان: كالعادة.
الوزير: نعم يا مولاي.
السلطان: بأي زيّ نتنكر هذا اليوم؟
الوزير: (بعد تفكير) مولاي.. ما رأيك بزي التاجر؟
السلطان: تاجر؟.. فكرة جميلة.. هيا.
الوزير: لوحدنا.
السلطان: مثلما نفعل دوماً.
إظلام
المشهد الرابع
الوقت: قبل الظهيرة
المكان: ساحل البحر، صيادون، الصياد يلملم الشبكة.
الصياد: (بتذمر) ما هذا النحس..؟ منذ الصباح لم أصطد شيئاً.. (ينظر نحو البحر ويخاطبه) أعلم أيها البحر ما تختزنه في أحشاءك من نفائس ودرر ولكنك اليوم بخيل جداً معي. (بعد لحظة صمت) أنظر يا صديقي البحر إلى هؤلاء الصيادين، إن سلالهم عامرة بالصيد وسلتي فارغة، ماذا اقترفت من ذنب تجاهك؟. يشهد الله إني احبك كثيراً لأنك كريم دائماً معي.. تهبني الصيد الوفير (بعد لحظة تأمل) وأنا أبيعه في سوق السماكين واشتري ما يشبع الزوجة والأولاد (يلتقط أنفاسه ويتأمل الأفق ثم يتابع) أعرف أنك صديق الصيادين الفقراء لا تبخل عليهم بوافر كرمك، ولكنك اليوم بخيل معي، أترضى يا صاحبي أن ينام أطفالي اليوم جائعين، أحس أن قلبك الطيب لا يقبل بهذا.. أليس كذلك..؟
البحر: (يدخل المسرح بهيئة رجل يرتدي ملابس زرقاء) إني صديقك أيها الصياد الطيب، وصديق كل الناس، أقدم كل كنوزي الدفينة أمام شباك الصيادين ويبقى الرزق بيد الخالق، وثق بأني لا أرضى لك ولكل الناس سوى الخير والسعادة.
الصياد: (يبدو أنه لا يسمع كلام البحر ولا يحس بوجوده) أتمنى يا بحر لو كنت رجلاً أحكي لك همومي وأحلامي المشروعة (مدة صمت) سأفترض هذا يا بحر، لنجلس معاً (يجلس الصياد ويجلس البحر بجانبه ولكن الصياد لا يحس به).
البحر: (لنفسه حزيناً) إن الصياد لا يراني ولا يحس بوجودي رغم جلوسنا متجاورين، يا للأسف.
الصياد: أنا يا صديقي إنسان فقير لا يكاد رزقي يكفي أفواه أطفالي المفغورة دائماً، ولي طموحاتي التي لا زلت منذ سنين أسعى إلى تحقيقها في مستوى أفضل من العيش، فلماذا لا يكون لي بيت جميل مؤثث، وأطفالي يتعلمون في الكتاتيب؟ لماذا لا يكون لي زورق صيد؟ لماذا لا يكون لي دكان في سوق السماكين؟ لماذا لا يكون لي فرس بيضاء؟ لماذا لا يكون لي خزين من المال ينير سواد الأيام الحالكة؟ لماذا..؟
البحر: (مقاطعاً) على رسلك يا صديقي؟ ما تقوله حق مشروع، ولكن ما أخشاه تواصل (اللماذا) إلى أكثر من طاقتي على التحمل.
الصياد: مرات كثيرة بعد أن تنام الزوجة والأولاد أبقى ساهراً أشيِّد عالمي الخاص في رأسي وأتخيل أنك وهبتني سمكة في أحشائها لؤلؤة كبيرة فأبيعها بثمن غالٍ وأحقق كل أمنياتي المستحيلة (بعد وقفة قصيرة) وأغفو على صورة زاهية للمستقبل لأستيقظ فجر اليوم التالي على واقعي الحقيقي البائس.
البحر: أخشى أن تكون مسكوناً بالشيء الذي أخشاه.. إياك..؟
الصياد: (موجهاً كلامه للبحر الساكن في الأفق) أيها البحر. امنحني كنزاً من كنوزك.
البحر: (متفكراً) حسناً أيها الصياد، إني أرى يوم سعدك في متناول يدك وعليك أن تحسن التصرف، كما يفعل العقلاء الذين يقنعون بما يستطيعون الحصول عليه.
الصياد: (لا يسمع كلام البحر أبداً) لا تتخل عني يا صديقي فأنت ملاذي.
البحر: سأفعل يا صديقي.
(يدخل السلطان والوزير بزي التجار)
الصياد: (ينتبه إليهما) من هذان..؟ إني ما رأيتهما من قبل؟ يبدوان تاجران.
السلطان المتنكر: (يتقدم من الصياد مبتسماً) طاب يومك.
الصياد: طاب يومك، هل من خدمة..؟
السلطان المتنكر: شكراً لك.. (بعد مدة صمت) أنت صياد؟
الصياد: (بتبرم) ماذا ترى..؟
السلطان: (بمرح) أرى أمامي صياداً.
الصياد: (بتبرم اكبر) مرحى لك.. (يصفق باستخفاف)
السلطان: (بعد أن يعطي إشارة للوزير الغاضب) كيف كان صباحك؟
الصياد: وما شأنك أنت؟
الوزير المتنكر: (يخرج عن طوره) كيف تخاطب...
الصياد: (يصرخ) إن كنتما كسلانين يمضيان ساعات فراغهما، ابحثا عن غيري..
الوزير المتنكر: (بحنق) أنت فظ.
الصياد: وأنت متبطر.
الوزير المتنكر: أتعرف من تخاطب؟!.
السلطان المتنكر: (للوزير والصياد) كفاكما.
الصياد: عليك بصاحبك.
السلطان المتنكر: (للصياد) أنا تاجر سمك، وأريد أن اشتري صيدك.
الصياد: (يعود إلى هدوءه) عاندني البحر هذا اليوم.
البحر: (يقف في زاوية المسرح بعد أن يتأكد أن لا أحد يحس به أو يسمعه) أنا..؟! سامحك الله يا صديقي.
السلطان المتنكر: (للصياد) إلق شبكتك، وأي شيء تصطاده أعطيك وزنه ذهباً.
الصياد: (يعود إلى غضبه) قلت لك أيها الرجل إني لست لعبة للمتبطرين من أمثالك.
الوزير المتنكر: (يصرخ بغضب شديد) أيها الأحمق.
الصياد: الأحمق هو أنت.
الوزير المتنكر: لقد طفح الكيل.
الصياد: (متحدياً) وما أنت فاعل؟.. أرني..
الوزير المتنكر: أتعلم من تُكّلم؟
السلطان المتنكر: (للوزير) كفى...
الوزير المتنكر: حاضر.
السلطان المتنكر: (للصياد) إني جاد تماماً.
الصياد: (للسلطان) هل أنت معتوه..؟
الوزير المتنكر: (يرفع كفه محاولاً صفع الصياد) أيها...؟
السلطان المتنكر: (للوزير) لا يا صاحبي.. (ثم للصياد) ماذا قلت..؟
الصياد: (يفكر) كلام رجال؟!
السلطان المتنكر: كلام رجال، وصديقي شاهد على ذلك.
البحر: (يتقدم نحوهم) وأنا أيضاً شاهد على هذا.
الصياد: وما المطلوب مني..؟
السلطان المتنكر: أن تلقي شبكتك.
البحر: (يخاطب الصياد) إفعل.. وسأمنحك كنزاً من كنوزي.
الصياد: (للسلطان المتنكر) ذهب!..
السلطان المتنكر: (مؤكداً) نعم.
الصياد: (لنفسه) هذا الرجل به مسّ من الجنون.
السلطان المتنكر: (مبتسماً كمن يقرأ أفكار الصياد) ليكن.. أنا مجنون.
الصياد: (يلقي شبكته ثم ينتظر قليلاً ويسحبها) إنها فارغة، أعلم أن حظي سيء، الفقر لا يلد إلاّ الفقر.
السلطان المتنكر: (منتبهاً) يبدو أنك اصطدت شيئاً.
الوزير المتنكر: أجل.. هناك شيء ما في الشبكة.
الصياد: (يتفحص الشيء العالق في الشبكة) ما هذا..؟
الوزير المتنكر: أجل.. هناك شيء ما في الشبكة.
الصياد: (يتفحص الشيء العالق في الشبكة) ما هذا..؟
السلطان المتنكر: (بدهشة) إنها جمجمة..؟
الصياد: جمجمة إنسان!.
الوزير المتنكر: هذا نصيبك.
الصياد: (بحزن) حظي، بل نكدي وطالعي العاثر (يلتفت صوب الأفق) شكراً يا بحر، كل يوم تهبني سمكة، اثنتين، ثلاث، واليوم جمجمة.. جمجمة يا بحر!، بوزن الريشة، لو منحتني سمكة صغيرة لكنت حققت كل أحلامي المؤجلة.
البحر: (يلمس كتف الصياد بحنو أبوي) قلت لك أنه يوم سعدك وعليك أن تتصرف كالحكماء.
السلطان المتنكر: (للصياد) إني عند وعدي.. هيا إلى داري.
الصياد: (بلهجة رجاء) لماذا لا أحاول ثانية؟
السلطان المتنكر: اتفقنا على محاولة واحدة، ووعدتك أن أعادل وزن صيدك ذهباً، وإني لن أخنث بوعدي مطلقاً.
الصياد: (يتوسل) محاولة أخرى.
السلطان المتنكر: (بلهجة حازمة) لملم شبكتك واحمل صيدك واتبعني.
يخرجون من المسرح
إظلام
المشهد الخامس
الوقت: أول العصر.
المكان: قاعة العرش في قصر السلطان، يدخل السلطان والوزير المتنكرين يتبعهما الصياد والبحر.
الصياد: (بتوجس) اخبراني بالله عليكما.. لم جئتما بي إلى هنا؟
السلطان: (يهدئ من روعه) لا تخف يا رجل.
الصياد: ولكن لماذا أنا هنا؟ (يحدق في كرسي العرش) يبدو أني في قصر السلطان... (ينظر نحو السلطان المتنكر) من يكون هذا الرجل؟ (يقفز كمن لسعه دبور) أيكون السلطان..؟!!
السلطان: (وكأنه يقرأ أفكار الصياد) نعم... أنا السلطان.
الصياد: (بخوف) مولاي..
السلطان: أنت بضيافتي يا رجل..
الصياد: مولاي.. سامحني على سلاطة لساني.
السلطان: لا بأس يا صديقي.
البحر: (يهمس بأذن الصياد ولكن الصياد لا يسمعه) إنه يوم السعد.
السلطان: (يصفق بيديه فيدخل الحاجب) إليّ بميزان.
الصياد: يك