المحرر موضوع: عنكاوا .. و سفر الخروج  (زيارة 1592 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل آنو جوهر عبدوكا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 378
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
عنكاوا .. و سفر الخروج
« في: 21:01 27/06/2017 »
عنكاوا .. و سفر الخروج

((ملاحظات مقتضبة للساعات و الايام الاولى حول استقبال عنكاوا الحبيبة لأخوتنا النازحين من الموصل و سهل نينوى))


سفر الخروج


عندما طلب مني الاخ الحبيب رئيس التحرير كوثر نجيب أن اكتب مقالة اؤرخ فيها تجربتي في الساعات و الايام الأولى لنزوح ابناء شعبنا الكلداني السرياني الاشوري المسيحي من الموصل و مدن و قرى سهل نينوى الى مدينتنا الحبيبة عنكاوا ، في البداية ترددت كثيرا ، ليس لسبب معين ، و لكن بسبب هول و ضخامة هذا الحدث الكبير الذي غير و سيبقى يغير مصير شعبنا في ارض الاباء و الاجداد ، حدث سيتحدث عنه التاريخ بصيغة ، قبل النزوح و بعد النزوح ، قبل داعش و بعد داعش ، حدث لا يقل تأثيرا عن سقوط بابل و نينوى ، لا يقل تأثيرا عن مذابح سيفو و سيميل و صوريا و سيدة النجاة !
و لكن في النهاية ، يتوجب على من عايش هذه الايام المؤلمة ان يروي تجربته و ان يؤرخها للاجيال القادمة ، نعم ، نحن عايشنا هذه الايام مع ابناء شعبنا ساعة ، بساعة و يوم بيوم ، دمعة بدمعة و آه بآه .. لذلك لن اتهرب من المسؤولية و سأكتب في سطور مقتضبة جدا تجربة ابناء مدينتي الحبيبة عنكاوا و هم يستقبلون ابناء شعبهم و أمتهم و يساعدنوهم و يعضدوهم في مصابهم الجلل ، نعم قررت ان اكتب سطورا مقتضبة من ( سفر خروج ) ابناء شعبنا ، من الموصل و سهل نينوى ، و ادعوا كل من عاصر هذه الايام عن قرب ان يؤرخها ليس لسبب معين ، بل لكي لا ننسى كيف كنا و كيف اصبحنا و صمدنا في وجه اعتى عدو للانسانية جمعاء .

الموصل بلا مطران ؟


يوم الاحد 8/6/2014 ، بعد انتصاف اليوم ، كان يوما حارا من ايام صيف اربيل الحبيبة ، كنت جالسا  اطالع كتابا و استمع للاخبار القادمة من أم الربيعين حول دخول مسلحين اسلامويين الى المدينة و كانت الاخبار القادمة ضبابية و كل في قنوات الاعلام يغني على ليلاه ، قررت ان اقطع الشك باليقين و ان اتحدث الى شخص اثق به و بكلمته كثيرا ، اتصلت هاتفيا بنيافة المطران مار نيقوديموس داود متي شرف رئيس اساقفة ايبارشية الموصل و اقليم كوردستان للسريان الارثودوكس لأسأله حول الوضع في الموصل ، اجابني نيافه المطران و في صوته نبرة من حزن يختلط بالقلق الشديد و اخبرني بان الاوضاع متوترة جداً في الموصل من الناحية الامنية و العسكرية و ان هنالك اخبار مؤكدة حول اختراق أمني كبير ، طلبت من سيادته ان يتوخى الكثير من الحذر و ان كان يحتاج لأن نقوم بأي شيء معين ، رغم كل هذا ، كان سيادته فقط قلقا حول مصير مجموعة من المخطوطات ذات القيمة التاريخية و الكنسية الكبيرة و حول ذخائر ثمينة جدا لقديسيين تناقلتها الاجيال ، جيلا بعد جيل و تباركت بها على مر العصور ..

أندرواس ..

مر علي الوقت و كأنه سنين طويلة من شدة القلق  .. اتصلت بنيافة المطران مرة ثانية و هذه المرة بدا لي القلق في صوته واضحا جدا، مؤكدا بأن الخرق الامني قد حصل في الموصل و بأن المدينة من الناحية الامنية و الادارية آيلة للسقوط اليوم او غدا بأحسن تقدير و بأن المسيحيين يغادرون المدينة على وجه السرعة  ، طلبت منه هذه المرة و بشدة ان يتوخى الحذر و بأني ساعلم السلطات المختصة في كوردستان حول موقع تواجده ، بسرعة اتصلت بمكتب السيد وزير الداخلية و الذي كان في اجتماع أمني مغلق و مهم للغاية و لذلك اتصلت بصديقي أندراوس العامل في مكتب وزير الداخلية ، و اعلمته بالموضوع و اخبرني بدوره بأن الوزير في اجتماع مغلق و بأني يجب ان اكتب رسالة الى موبايله لكي يوصلها بأمانة الى يدي السيد كريم سنجاري وزير الداخلية ، و هذا ما فعلت ، و بعدها اتصل بي الصديق اندراوس و اخبرني مشكورا بأنه و رغم اهمية الاجتماع فقط قاطعه و بأن من فور قراءة السيد الوزير للرسالة اتصل بنيافة المطران مار داود و بالتنسيق مع القوات الامنية العراقية و الكوردستانية تم ترتيب خروج نيافة المطران و ما بحوزته من مخطوطات و ذخائر مباركة للقديسين من الموصل و ايصاله بامان الى دهوك ، و طبعا هذا ما صرح به نيافة المطران حول هذه الحادثة في مقابلة لقناة روسيا اليوم.

الاسلام ، الجزية ، أو السيف ، الموصل تتقيأ مسيحييها


كنا قد علمنا سابقا بانه تم تخيير المسيحيين بأشهار اسلامهم او دفع الجزية ، أو قتلهم بحد السيف ، و تم دعوتهم الى اجتماع في الموصل من قبل مجرمي داعش و لم يحضروه ، و لهذا قررت داعش طردهم و الاستيلاء على كل املاكهم المنقولة و غير المنقولة ، حيث تمت اهانتهم و التعدي عليهم من قبل أناس حتى الامس اعتبروهم ابناء مدينتهم و جيرانهم ؟! لم تمر سوى ساعات قليلة و بعد اتصالات عديدة علمنا بان هنالك المئات من العوائل المسيحية تتجه نحو اربيل و سهل نينوى قادمة من الموصل ، اتصلنا بالاخ المحترم بارزان قصاب نائب مدير اسايش اربيل و الذي بدوره امن لنا الاتصال المباشر مع الاخ المقدم سرهنك المسؤول في السيطرات في اربيل لتسهيل دخول ابناء شعبنا من السيطرات و نقاط التفتيش  ، و بالتنسيق مع السيد جلال حبيب مدير ناحية عنكاوا و الدوائر المختصة و  مع سيادة المطران مار بشار متي وردة رئيس اساقفة ايبارشية اربيل للكلدان الكاثوليك و الذي كلف بدوره الاب ريان عطو للتنسيق مع اللجنة الامنية و العاملين على استقبال اخوتنا النازحين في الموجة الاولى للنزوح حيث و بعد اتصالات مكثفة تم ترتيب بناية مركز شباب عنكاوا كمخيم و ملجأ اولي لاخوتنا النازحين في عنكاوا و لاستقبال الموجات الاولى من النزوح و التي استمرت بوتيرة متسارعة منذ اليوم الاول لاجتياح داعش للموصل و تصاعدت في يوم 25/6/2014 بعد المعارك بين البيشمركه و مسلحي داعش الذين قاموا بقصف مدينة بغديدا بالهاونات و التي استشهد اثرها مجموعة من الابرياء من ابناء شعبنا من بخديدا.

ما أن وصلت الموجة الاولى  من النازحين، استنفرت مدينة عنكاوا ، بصغيرها قبل كبيرها ، بنسائها قبل رجالها ، تدمع عيني لحد اليوم عندما اتذكر مشهد النساء و الاطفال و هم يعدون اللفات ( السندويشات ) في البيوت و يحضرونها للجان الشبابية و خاصة اخوتنا في نادي شباب عنكاوا الاجتماعي و الذين حولوا ناديهم ايضا الى ملجأ للعوائل النازحة لتوزيعها على النازحين و مع الماء و الشراشف و الدواشيك و مختلف المساعدات الاخرى القادمة خصوصا من العوائل في عنكاوا و مؤسسة البارزاني الخيرية و مؤسسة روانكه ، عنكاوا ، في هذا اليوم ، تحولت برمتها الى خلية ازمة كبيرة و استطيع ان اجزم بأن كل مواطن في عنكاوا ، قدم ما بوسعه لخدمة اخواته و اخوته النازحين ، في جهد جماعي مبارك سيبقى صداه باقيا في ضمير امتنا ما حييت.

داعش تحتل سهل نينوى


كانت الاخبار بعدها لم تتوضح ، داعش و بكل اسلحته الثقيلة الحديثة التي استحصل عليها من مخازن الجيش العراقي في الموصل و التي تركها الجيش و رحل ، و سياراته المدرعة هاجم خطوط دفاعات البيشمركه و الذين لم يتلقوا معونة عسكرية من الحكومة المركزية منذ تأسيس ما يسمى بالعراق الجديد 2003 ، هجم داعش بكل قوته و ارهابييه و انتحارييه ، فأستطاع اختراق الدفاعات في سهل نينوى وبعدها مخمور و كوير ،  فعند اختراقه للدفاعات في سهل نينوى من خلال تفجير العشرات من الانتحاريين و السيارات المدرعة المفخخة في اسلوب هجومي لم تعهده جيوش العالم قاطبة ،  بدأت موجة النزوح الكبير و سفر الخروج من ارض الاباء و الاجداد في سهل نينوى. عشرات الاتصالات من اهلنا و احبابنا في سهل نينوى عن توجههم و بسرعة الى كوردستان و عنكاوا على وجه الخصوص ، اتصل بي احد الاصدقاء من سهل نينوى و قال لي ( آنو حضروا أنفسكم ، فيضان بشري قادم نحوكم ) ، على وجه السرعة و مرة اخرى اتصلنا بالاخ علي حسين مسؤول الفرع الثاني للحزب ( الديمقراطي الكوردستاني ) و بالاخ نوزاد هادي محافظ اربيل و  بأخوتنا في الاسايش قسم السيطرات و  بالتنسيق مع الرئاسة الكنسية  و الاخ مدير الناحية و بالدكتور بشتوان صادق وزير التربية و التعليم و السيد مدير تربية الاطراف لترتيب فتح المدارس كملجأ أولي للنازحين و ايضا جرى التنسيق مع منظمات المجتمع المدني في عنكاوا و ما هو الأ وقت قصير جداً ، حتي بدأت الاف العوائل المنهكة بالوصول الى مدينتنا الحبيبة عنكاوا.

عنكاوا تحتضن الشعب الكلداني السرياني الاشوري المسيحي


خلال ساعات قليلة عشية يوم 6/8/2014 تحولت عنكاوا الحبيبة ، الى مخيم كبير للاجئين ، قرابة المئة الف من ابناء شعبنا المسيحي و المئات من الاخوة الايزيديين و الكاكائيين افترشوا الطرقات و الكنائس و الحدائق و المدارس و منظمات المجتمع المدني ، كملجا أولي لهم ، و كانت المنطقة الاكثر اكتضاضا ، بناية مركز شباب عنكاوا ، و في نفس اليوم حضر الاخ نوزاد هادي محافظ اربيل الى بناية المركز ، و كان الاجتماع الاول بأشراف السيد المحافظ ، حول تأسيس خلية ازمة لشؤون النازحين في عنكاوا و التي تكونت بأشراف  السادة المطارنة ، مار بشار متي وردة ، مار نيقوديموس داود متي شرف ، مار يوحانا بطرس موشي ، مار أميل نونا ، و عضوية  السيد مدير ناحية عنكاوا مسؤول اللجنة الامنية في عنكاوا ، مسؤول لجنة محلية عنكاوا للحزب الديمقراطي الكوردستاني ، السيد مدير تربية اطراف اربيل ، السيد مدير عام اوقاف المسيحيين ، حيث قامت هذه اللجنة بتنسيق العمل و شؤون النازحين في المرحلة الاولى للنزوح .

عنكاوا بيثا رابا دسورايي


الذكريات التي احملها لهذه الليلة ، طبعت في ذاكرتي و لن استطيع ان انساها ما حييت ..الشباب و الشابات في عنكاوا ، من كل الاحزاب و التوجهات و الانتماءات يعملون كخلية نحل واحدة ، النساء ، الشيوخ و حتي الاطفال ، يحضرون الاكل و الماء و حليب الاطفال و مختلف المستلزمات و يقدموها و عيونهم تملؤها الدموع بسبب معاناة أخوتهم و ابناء شعبهم ، سيادة المطران بشار وردا ، منهكا يوزع معنا الطعام و الماء ، سيادة المطران يوحانا بطرس موشي ينام في العراء مع ابناء شعبه ، سيادة المطران نيقوديموس داود يوزع الدواشيك و يرد على وزير خارجية احد الدول العظمى في المنطقة و الذي يدعوه لزيارة دولته بقوله " تعال و اقعد معي على الرصيف مع ابناء شعبي " و سيادة المطران أميل ينظم عمل الشباب للتوزيع الامثل للماء و الطعام ، نساء عنكاوا و رجالها مستنفرين ، النساء يطبخون و الرجال يوزعون و الشباب و الشابات يخدمون الصغير قبل الكبير .. لوحة تمثل الاخلاق الحقيقية للمسيحية ، لوحة تمثل الاخلاق العالية لعنكاوا الحبيبة و اهلها الكرام.
في تلك الليلة استفرت كل منظمات المجتمع المدني دون استثناء ، و يطيب لي ان اذكر هنا جمعية مار عودا الزراعية ، التي تحولت الى مخيم كبير لعشرات العوائل ، حيث كان في ذلك اليوم فلاحي عنكاوا و بأشراف الاخ زياد سلمان ، يزرعون محبة و تضامنا ، ليحصدوا في المستقبل فلاحوا عنكاوا تاريخا و ذكرى مشرفة و جميلة ، و المشهد الذي شدني كثيرا ، العدد الكبير من اخوتنا الكورد المسلمين من اربيل و دشتي برانتي الذين قدموا ما استطاعوا تقديمه لاخوتنا الوافدين و النازحين في هذه الفترة الحساسة و الحرجة ، طوال الليل و في اليوم الذي تلاه زارنا في عنكاوا السيد المحافظ  و السيد علي حسين مسؤول الفرع الثاني لحزب الديمقراطي الكوردستاني و قدموا ما استطاعوا تقديمه في هذا الوقت الوجيز ، الاخوة العاملين في الامم المتحدة و شؤون اللاجئين اسعفونا في الوقت المناسب بالدواشيك و المستلزمات الاخرى ، بحق كانت هذه الساعات عبارة عن لوحة انسانية ترسخت في ذاكرتي و ستبقى .

لم تمر سوى ساعات قليلة و تلك الليلة لم انم سوى لمدة ساعتان او اقل ، اتصل بي سيدة المطران مار بشار متي وردة مع نسائم الصباح الاولى ليوم 7/8/2014 و قال لي احضر الى المنطقة القريبة من المركز الاكاديمي ، فذهبت مباشرة الى هناك ، حيث كان سيادة المطران يقف في العراء مع مجموعة من العمال و حيث بعد ذلك و بحضور الاخوة اعضاء اللجنة باشروا بالعمل من اجل ترتيب الارضية في سبيل تأسيس اول مخيم للنازحين ، و لم تمر سوى ايام و بتاريخ 16/8/2014 حتى اجتمعنا مع السيد المحافظ في دار المطرانية بحضور السادة المطارنة و تم الاتفاق على موقع اقامة المخيم الاكبر للنازحين و تم الاطلاع على احوال النازحين و الاماكن المعدة و التي سيتم اعدادها لايوائهم و قمنا مع الاخ علي حسين مسؤول الفرع بزيارة مخيم مارت شموني و اللقاء مع سيادة المطران مار يوحانا بطرس موشي و الاطلاع على الاوضاع و تقديم ما يمكن تقديمه فورا، يحضر الى ذاكرتي ايضا زيارة السيدة نوروز مولود وزيرة البلديات في كوردستان الى كنيسة و مخيم مارت شموني .

كلمة لا بد منها ..


هذه الفاجعة المؤلمة التي مر بها شعبنا ، كانت مهولة و كبيرة جدا و من الصعب علي و على اي انسان آخر ان يتذكر جميع التفاصيل برمتها، ففي النهاية نحن بشر ؟! ، ما ذكرته اعلاه ليس سوى ملاحظات قليلة جدا لما عاينته شخصيا في الساعات و الايام الاولى لنزوح ابناء شعبنا ، ليست سوى مقدمة قصيرة جداً لما حدث في عنكاوا الحبيبة مع قدوم ابناء شعبنا النازحين اليها ، هوامش صغيرة للألم الذي تعرض له ابناء شعبنا ، هوامش صغيرة لدور ابناء عنكاوا الكرام الذين احتضنوا ابناء شعبهم الاعزاء في مصابهم الجلل في محاولة انسانية للتخفيف قليلا من هول الكارثة ، هوامش صغيرة للدور العظيم و المفصلي  لكنيستنا المقدسة و مطارنتنا و الاباء الكهنة و الراهبات و الرهبان الاجلاء في رعايتهم لابناء شعبهم و صون كرامتهم ، هوامش صغيرة لدور حكومة كوردستان و الدوائر الحكومية و الحزبية و الخدمية في احتضانهم للنازحين ، هوامش صغيرة جدا لتجربة انسان مسيحي كلداني سرياني آشوري من عنكاوا عاصر قساوة داعش و صمود شعبه و عاصر كيف تحولت مدينته الحبيبة الى عاصمة للكلدان السريان الاشوريين المسيحيين في العالم اجمع !

* ملاحضة :
-المقالة منشورة ضمن العدد 56 لمجلة رديا كلدايا ( المثقف الكلداني ) الصادرة عن جمعية الثقافة الكلدانية / عنكاوا
- صور المقال بعضها يعود للمصور الوثائقي ألن ككوني و الاخرى من الارشيف الخاص لكاتب المقال

آنو جوهر عبدوكا
عنكاوا
30/5/2017