المحرر موضوع: شهر نيسان وإبراهيم يلدا  (زيارة 731 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عصمت شاهين الدوسكي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 462
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
شهر نيسان وإبراهيم يلدا
« في: 16:11 09/07/2017 »
شهر نيسان وإبراهيم يلدا
الأفكار الموروثة هي المعول والأفكار الجديدة هي الحصاد.
التجدد هو الارتقاء الروحي قبل الارتقاء الذاتي.
هل نيسان شهر السقوط ؟

عصمت شاهين دوسكي

هناك من يسألني هل الكتابة الأدبية النقدية عمل إبداعي يوازي النص الإبداعي ؟ من خلال قراءتي واطلاعي وبحثي المستمر لأكثر من تسع وثلاثين سنة وكتاباتي وكتابات في الشعر والنقد والأدبي وصدرت لي كتابين في النقد الأدبي " عيون من الأدب الكوردي المعاصر " وكتاب " نوارس الوفاء " عن دار الشؤون الثقافية الكوردية في بغداد " وكتاب تحت الطبع عن حياة الأديب الرحال والشاعر المغترب في النمسا بدل رفو عنوانه " بدل رفو سندباد كوردستان في المهجر " وهي مجموعة مقالات نقدية كتبت في فترات زمنية وهناك خمسة كتب نقدية معدة للطبع وهي (( الاغتراب والاقتراب ، المرأة الكوردية بين الأدب والفن ، فرحة السلام عن الشعر الكلاسيكي الكوردي ، إيقاعات وألوان عن الشعر والأدب المغربي ، جزيرة العشق عن الشعر النمساوي ، جمال الرؤيا عن الشعر النمساوي ، ورواية عنوانها " الإرهاب ودمار الحدباء " تعتبر وثيقة أدبية تاريخية من رحم المأساة والأحداث التي جرت في الموصل ، وأكثر من أربع دواوين شعر مازالت تنتظر الجهات الثقافية المعنية والمسئولة عن الثقافة ومن همه أمر الثقافة لتطبع وترى النور قبل أن تحترق أو يأتيها طوفان ما لضيق الحالة المادية التي أعانيها .. ما عدى كتبي الشعرية الثلاثة الصادرة ، وستبقى العييون تسافر- بغداد ، وديوان بحر الغربة – المغرب طنجة ، حياة في عيون مغتربة - بغداد  )) ذكرت هذه الأعمال الأدبية ليس للتباهي لأني إنسان بسيط وفي غنى عن التباهي لأني على يقين الأعمال الأدبية هي التي تفرض نفسها على واقع الحياة الثقافية والعامة لكن فقط لأصل فكرة الإبداع النقدي للقارئ العزيز التي تعتبر حالة إبداعية فكرية تأويلية لاكتشاف السحر الذي يخبئه النص شعريا ، سرديا ، تشكيليا ، وغيرها من المجالات الأدبية والفنية ، من خلال إنارة تأويل الرموز والدلالات والإيحاء وكشف مختلف الحالات  بقراءة نقدية تفكك تلك الأطر النصية وتكشف العلاقة التي تربطها مع بعض بجوهر وجودها النصي كنواة فاعلة ولا ننسى دور القارئ العزيز الذي يخلق التصور الذهني والمعنى ، فالناقد الأدبي يقدم وصف الأساليب والطرق التي تشع نورا والتي عليه محاولة إتباعها للوصول لذلك المعنى مثلما قال البروفيسور الانكليزي " فرانك كرمود " : ( لا ينتظر من النقاد مثلما هو منتظر من الشعراء أن يكونوا عونا على وضع معنى لحياتنا ..) فدور وعي القارئ مهم بين النص والنقد ، النقد الذي يضع التصورات والطرق لتحليل النص ومحاولة اكتشاف المعنى الحقيقي بعد فك العوالم المخفية تحت سطح النص الذي أوجده الشاعر بإتقان ، على ضوء ما تقدم تعتبر الكتابة الأدبية النقدية عمل إبداعي يوازي النص ومن خلال هذه الرؤية الموجزة حاولت أن أفسر العلاقة بين النص والنقد والإبداع قبل دخولي لعوالم قصيدة شهر نيسان للشاعر الكبير " إبراهيم يلدا " ، يعتبر شهر نيسان رأس السنة الآشورية حيث الحضارات البشرية الأولى في بلاد ما بين النهرين التي كانت مقاما لولادة الفكر والثقافة الأدبية والعلمية والإدارية والدينية التي تأثرت كافة الحضارات ، منتجة لتفاعل الإنسان مع الأرض ومع محيطه في الحضارات القديمة ، نلاحظ كثرة الآلهة حيث الإنسان القديم قدس كل ما هو مخيف في الطبيعة والكون وأي حركة غير طبيعية غريبة في الطبيعة والحياة يحس إنها آله بيد الآلهة فمثلا يلجأ إلى إله الخصب أو إله الرعد عند جفاف المواسم ويلجا الحاكم أثناء حيرته إلى إله الحكمة ،ولكن الإلوهية الأولى لملك الكون في صلاتهم ، ومنذ القدم شهر نيسان له ميزة في حياة البشر فعند الدولة الآشورية في الألف الأول قبل الميلاد يبدأ الاحتفال في اليوم الأول من نيسان ويستمر أيام تتنوع فيه الطقوس والاحتفالات في كل الجوانب الدينية والاجتماعية والسياسية ، لكن شهر نيسان مع الشاعر الكبير إبراهيم يلدا يأخذ رؤى أولية فكرية عميقة .

(( نيسان
   في بلاد ما بين النهرين ولدت
   وفي بلاد النهرين توجت
   وعمد ت
   هناك شربت مع لحياة
   بين أراضي نهري دجلة والفرات
   فخلدت
   وأصبحت رمزا للخلق
   لكن الخليفة مرة أخرى
   ليكن مبارك يومك ، يوم ميلادك
   وليعد علينا في كل سنة
   ونحن نتأمل أمطارك
   أن تغسل قلبنا من حزن الأزمان
   ويتعمد فيها الفرح )) .

لكون الحضارات القديمة أكثرها معتمدة على الزراعة ، فموسم الزراعة مهم جدا الذي يتوج في شهر نيسان ، مثل نيسان الرافدينية وشم النسيم في الحضارة المصرية ، وكما تشير الكتابات الأولية البابلية والآشورية إن شهر نيسان هو عيد الاحتفال بحصاد الشعير ويمثل رأس السنة الجديدة ، الشاعر إبراهيم يلدا له رؤيته العميقة لشهر نيسان وهذا ما يعطيه خصوصية وجودية أدبية وفكرية ، قدرته على إنشاء وتسخير الرموز وتفاعلها مع بعض ضمن خيوط من المعاني ، ودقته في توظيفها كصورة شعرية وإنسانية يؤثث وجودها ويبني عالمها معنويا ويرسي رؤى الأشياء ومدى علاقة الإنسان بينها وبينه ، والأطر الأهم في هذه الرموز تشكل أفكارا حضارية روحية دينية اجتماعية سياسية  من خلالها تنهض الحياة البشرية للتطورات السليمة في وعي الناس خاصة المتصلة بالأشياء المقدسة وضمن محور الوعي والنضوج الفكري يحس الشاعر إبراهيم يلدا إن شهر نيسان سبب الأزمات والانكسار والسقوط ( أنت السبب في زوال نينوى ) فالكتب تقول غن نيسان من استبدل ( الخير بالشر ) وهذه الجدلية تجلت حتى في شهر نيسان شهر الخصب والجمال والوفرة ، فالشر هنا له ميزة السقوط حينما يقول : ( فيك أشهر الشر سيفه ) حتى تطلعات الطبيعة أصبحت في خانة الشر ( فيك ذابت الثلوج ، فاض نهر دجلة  ، مياهه طفحت أزقة نينوى ) فهل يبدو نيسان شهر السقوط وبداية السقوط بدلا من بداية الخصب والفرح والسرور ؟

(( يا شهر نيسان
   الكتب تقول
   عسى أن يكون كذبا
   وإن صدق ما قالوه
   كنت أنت السبب في زوال نينوى
   وأنت من استبدل الخير بالشر
   لإبائها ، إن كان حقا ، ففي بلاد آشور
   أعطيت لك نسمة الحياة
   أخذتها من أخوانك ، أبناء الوطن
   الكتب تقول : فيك أشهر الشرير سيفه
   وفيك ذابت الثلوج من المرتفعات
   وفاض نهر دجلة
   ومياهه طفحت في أزقة نينوى )) .

شهر نيسان يجسد رؤية قيمة رغم التداخل في الأفكار فنيسان لا يكون بديلا لأي فصل ولا يوازي أي فصل فلكل فصل مكنونه وخاصيته وصفاته وإن كان قد أخذ في التاريخ العتيق دورا كسلام وحرب ، أمان ودمار ، جمال وخراب ، خصب وجفاف ، وجود وشبه وجود ، تبقى هذه الدلالات والإيحاء عملية ذهنية تخضع لوعي الإنسان حسب القياسات العلمية والدينية والثقافية والمنطقية المستندة على واقع الحضارات المكانية والزمنية  تعطي للشاعر الحق بأن يقدم وجهة نظره للعالم . ( نيسان ، لأنك لم تكن تنظر إلى البشرية بعينين مفتوحتين ) يحاول تأسيس علاقة جديدة صادقة بينه وبين شهر نيسان دون نفاق وتلميع وتنميق وتظليل إن أبى أو رضا الآخر وق تصور ذهني متحرر من هيمنة أي وصايا قديمة أو حديثة وبعيدا عن النظريات التي تقيد الفكر وتشل الحركة وتحجر القلوب والنفوس والوعي في اتجاه واحد للحياة ، ( بكل صدق أقول ، أنت لمتميز بين الظالمين والمظلومين ) فقد جرده نيسان من الأشياء الجميلة والعوالم الحالمة لم يبقى له إلا ديمومة الاستمرار . ( لم يبقى لي لا الحب ولا اللذة ، أيامي تمضي وهي خالية ) إن الرؤية الفكرية هي قراءة للعالم واكتشاف المغزى الحقيقي لها وإن خرج على السياقات التقليدية التي تعتبر نظرة قاصرة في اكتشاف العمق الحقيقي للأشياء . ( فصولي الصيف والشتاء بلا ربيع ) نكران شهر نيسان ليس ذاتيا حقدا كرها ، لكن يحاول أن يضع النقاط على الألواح الحضارية التي وجدت ذات يوم في الحضارة الرافدينية .

(( نيسان
   لأنك لم تنظر إلى البشرية
   بعينين مفتوحتين
   وبكل صدق أقول
   أنت لمتميز بين الظالمين والمظلومين
   فنسيتني ولم تحس بأوجاع قلبي
   من جمال وردك
   لم يبقى لي لا الحب ولا اللذة
   أيامي تمضي وهي خالية
   من أشهر الربيع والخريف وفي كل الفصول
   جسدي وروحي تغلي وتتصلب
   حياتي هي حر وبرد
   فصولي هي الصيف والشتاء بلا ربيع )) .

تأتي هذه الصور الشعرية بتناسق جميل رغم أشجانها وآلامها لتثير الوعي وتحرك الأفكار الراكدة بعد تطور الحضارات والأمم لكي لا يبقى الإنسان على أفكار محدودة نادرا ما تتجدد ، غالبا ترضى بالسكون ولا تدخل في معترك الصعوبات بعد مرور السنوات والقرون التي احتلت فيها التقلبات الكبرى كل طارئ على الأفكار الجديدة على كل تغيير في الوعي الذي يطغي عليه الحزن بإسهاب كبير ( نيسان ، مرت السنوات والقرون ، وقلبي لا يزال فيه الحزن القديم ) الشاعر إبراهيم يلدا مع مجرى الأفكار والرؤى المتجددة والصادقة التي تنقسم إلى الأول الأفكار الوقتية التي تولد من بعض الحوادث الآنية لساعتها كولادة مولود أو حركة من الحركات او مذهب من المذاهب والثاني الأفكار الأساسية التي تكتسب من الوراثة ، البيئة ، والرأي الثابت كالعقائد الدينية في الماضي والأفكار الاجتماعية الديمقراطية والحرية في الزمن الحالي وإن كانت الأفكار الأساسية تؤدي إلى الاضمحلال وتفقد الرسوخ والقوة وتزعزع الأسس والأنظمة التي كانت عليها لتشكل منحنى إنساني للأسفل ( رأسي منحني ) فقليل من الأفكار الجدية  تنمو في وسط نظامي لا يتغير ، لا يكون له في المستقبل أي تأثير ( زرعنا الحنطة في كل حقل ، ولكنها حصدت بمنجل الغرباء ) فسكون الأفكار لأزمنة طويلة هو الموت بحد ذاته ، فمتى يأتي اليوم الذي يتحرك فيه السكون ويسود ما هو مفروض أن يسود في عالم متطور متجدد فلا يمكن أن الأفكار في قواعد وقوالب مطلقة لتبدو في هيئة صورة جميلة ليتقبلها الآخر ( أين هو ذلك اليوم الذي  تستفيق وتضع حدا للموت ) وقد يرمز الموت للأفكار والتجليات والرؤى إضافة  لوهن حضارة قديمة وهذه الأفكار المصورة شعريا تكشف الروابط الطبيعية والعقلية من التشابه والتلازم في ما بينها فيجوز أن تحل بعضها محل بعض لكنها كما هي لا تتغير .

(( نيسان
   مرت السنوات والقرون
   وقلبي لا يزال فيه الحزن قائم
   ورأسي منحني
   في كل جنينه زرعنا الأزهار
   وبها تزين الجميع
   موائد الغرباء بظهر مكسور
   ولكنها حصدت بمنجل الغرباء
   بأمل وخوف
   زرعنا الأبناء في كل بيت
   من دمائهم ارتوى سيف الغريب القاسي
   أين هو ذلك اليوم الذي تستفيق
   وتضع حدا للموت )) .

رغم كل الآراء والتناقضات على أرض الواقع يلتمس الشاعر إبراهيم يلدا حلما جديدا ، فجرا هادئا ، شمس مشرقة بعد مرور المساء والليل ( عسى أن يمر المساء والليل ، تشرق الشمس ) ومضة مستقبلية رغم الفطرة المستديمة في العقول لا تستوجب الاستغراب حتى عند الذين ارتكزوا على معتقداتهم الدينية المستديمة وأفكارهم الاجتماعية الوراثية فالشمس الجديدة تطرد آخر أحزان ومآسي نيسان وتبدأ عملية البناء الفكري من جديد ( نبدأ من جديد ، بناء أسوار نينوى الشاهقة ) ويعود شهر نيسان لعلاقته الحميمة مع الإنسان وتنطلق الأفواه تمجدك متأثرة بالحياة الجديدة ( المجد لأسمك يا شهر نيسان ) هذه الرؤية الشعرية وصورها الراقية تكشف تجليات الماضي والحاضر .

(( عسى أن يمر المساء والليل
   وتشرق الشمس
   وتطرد آخر أحزاننا
   ونبدأ من جديد
   بناء أسوار نينوى الشاهقة
   ومن أجلك تفتح أفواهنا
   وتمجد اسمك قائلة
   المجد لأسمك يا شهر نيسان
   فلتفرح بك امتنا الآشورية )) .

الشاعر إبراهيم يلدا لمقتضى الحالة الإنسانية والروحية والفكرية والمستقبلية أجاد في الوصف والرؤية ، حتى لو كان الإنسان مناقضا لنفسه فالتناقض في الواقع ظاهر أكثر مما هو حقيقي فالأفكار الموروثة هي المعول والأفكار الجديدة هي الحصاد ، يجب إن تكون بهذه الصورة لتنتج منه الثمار المستقبلية التي تغدو رفيعة القيمة والحلم والأمل المنشود في حياة حبلى بالحب والشوق المتجدد لشهر نيسان وللارتقاء الروحي قبل الارتقاء الذاتي .
*******************************

المصدر

اسم الكتاب :الموت والميلاد للشاعر إبراهيم يلدا
اسم المترجم : نزار حنا الديراني
الطبعة الأولى بلغتها الأصلية : مطبعة نينوى ـ شيكاغو  1995 الولايات المتحدة الأمريكية
الطبعة الثانية ( ترجمة) : 2017 دار الأمل الجديدة ـ سوريا / دمشق