المحرر موضوع: الشهيد نابليون بشي - سيرة ذاتية / مسلسل التصفية في عهد صدام حسين  (زيارة 4357 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Farouk Gewarges

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 610
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
نابليون بشي .... سيرة ذاتية
ضاق به  فضاء الكلدان   فنكروه
الحلقة الثانية 2-3
                                                                               بقلم : صباح صادق
        فيما كنا نحن جمع من كلدان المهجر، نتجالس، نلتم حول أنفسنا في مطعم شرقي بديترويت، نفرغ همومنا ومتاعبنا على بعضنا ، نقاشاتنا ومعاركنا الكلامية تزداد كالعادة حدة وضجيجا مع جرعات الخمر الأمريكي، وهي تلعب في عقولنا المرهقة وتخبطها، تنزلق الأحاديث وتشتط، فنضرب الشرق بالغرب، فيما كان يطيب لنابليون الحديث في تراث وتاريخ الحضارات القديمة من بلاد مابين النهرين، ويطربه خصوصا ما كانت عليه الإمبراطورية الآشورية والكلدانية ويجرنا بإلحاح الى أحاديث (تصك) جماجمنا عن بابل ونينوى وآشور، وهو يتغني ويترنم بالأمجاد والجنائن المعلقة، واشور بانيبال وسرجون ونبوخذنصر، ثم ينقلنا كمن يسرق العقول في حيوية عجيبة الى محبوبته جريدة (المشرق)، ودورها الرائد كمدرسة فكرية تراثية ثقافية في هذا المغترب الاجرد ثقافيا وإنسانيا وعاطفيا.
(المشرق) فعلا  محاولة شجاعة، يقف على رأس تحريرها رجل مقدام، رابط الجأش، لا يهاب الوحوش الضارية، وهي تنهش ما تبقى من إنسانيتنا في هذا المغترب الصعب، افتتاحية المشرق التي يكتبها غالبا نابليون بشي بعصارة روحه ووجدانه، تعلمنا الشجاعة واقتحام الصعاب والصبر الجميل، كلمات نابليون بسيطة، عذبة، مشحونة بعواطف إنسانية جياشة ذات طلاء ثقافي ، يضفي على الملأ قوة سحرية تخلب الألباب، ونابليون بقضه وقضيضه صامد في معركة غير متكافئة بالمرة، والرجل في سرحاته الخيالية الخصيبة يستجيب في مواقع الحال لنداء شعبه وقومه واهله، نداء الكلدان والاشورين وقد بذلوا قبله دماءهم انهارا سخية، تخضبت بها وديان وسهول وبطاح وادي الرافدين العظيم . شهادة حق وتاريخ وحياة على مزوري الحقيقية الانسانية ، فأي باب أوسع واشرف من باب الدم المهراق، وأية شهادة أنبل طريقا في سبيل القيم والمبادىء للخلود والديمومة والبقاء ....
نابليون وهو على حاله هذا كان كائنا رومانسيا مصابا بأحلام وآمال عذبة، آمال تزدحم وتمر في ذهنه القروي النقي المتدفق صفاء مثل ينبوع عراقي رقراق ....  يلح نابليون وينضح مرارة  ... لماذا يا ترى لا يكون لنا وجود وتواجد كشعب حاضر متجذر في التاريخ، لماذا لا يكون لنا مستقبل مثل بقية الشعوب في حق تقرير المصير، وحق العيش المشترك على قدم المساواة في هذا الإصطفاف الإنساني الثر، مع بقية الأمم والملل والقوميات؟! كان يعدو الينا متثاقل الخطى، يجر نفسه رويدا رويدا نحونا مثل سفينة أتعبها الإبحار، وجلساتنا بدونه لا تطيب ولا تكتمل. يبتسم نابليون، فتنشطر شفتان كبيرتان ممتلئتان، يشع فوقهما جبين عريض مهيب، عينان كلدوآشوريتان واسعتان، تنطلق منهما نظرات قلقة مهمومة مضطربة. أنفه سومري مدبب طويل ينعكف مرتكزا الى الأسفل، كأنه سيف محدب آشوري فيغشي معظم وجهه النوراني المدور الريان الناصع، كأنه قمر شرقي. كان وديعا وأليفا وبشوشا الى حد السذاجة، وفي الوقت نفسه تراه في المبادىء والعقائد صلبا وعنيدا من النوع المقاوم، وكأنه محارب في معركة ضروس، حفر الزمن على قسمات وجهه الودودة الصدوقة أخاديد قاسية، تلوح فيها علائم القوة والتجلد والجبروت، بما يشبه المرجلة الشرقية العتيدة...والاّ أنى لهذا الكلداني الغير متعلم كثيرا، الذي ثقف نفسه ذاتيا. فقد عمل في بداياته مصورا فوتوغرافيا جوالا في أزقة بغداد وحاراتها ودرابينها وأسواقها الشعبية، أنى لهذا الكلداني الوديع كل هذه الإرادة الصلبة الغريبة، للدفاع عن حقوق أمة مهضومة الحقوق، ومنسية في زوايا ومنعطفات التاريخ، أنى لهذا الصحفي الكدود نهارا، ورجل الأعمال المتعب ليلا في بقاليات نوبل كل هذا الإصرار؟ كنا نسأله نحن المقربين الى قلبه ووجدانه: بالله عليك يا نابليون يا أبن بشي، ألا تخاف هؤلاء المتجبرين الكفرة، وقد أرعبوا أحزابا عراقية محترفة لها شعبية ووجود مؤثر في الشارع العراقي؟ يصمت نابليون برهة، ووجهه المريح الضاحك الهادىء يشع فينا كبرياءً ورجولة.
الحق كان نابليون يفرح في حضرة هذه الأسئلة، ويعتبر ذلك تقييما أو شهادة لجهوده الدؤوبة المضنية التي تصوره كبطل شرقي مغوار، وقد عرفنا بعد مقتله على أيدي أولئك الطغاة، واستشهاده على مذبح الحرية والفداء، انه كان راضيا مرضيا، مقتنعا بالقدر الذي هو فيه، أوالذي وضع فيه كرأس رمح مشهود للمعارضة في جالية كلدانية آشورية عريضة في ديترويت وشيكاغو وكندا تقدر بنحو "180" ألف نسمة.
لم يكن نابليون حمامة سلام وديعة فحسب، بل كان- رحمه الله- دبلوماسيا مطاولا حذقاً في الملعب السياسي، وفي اختيار الكلمات والجمل الإنشائية المناسبة ... إجاباته لا تخلو من اللف والدوران والتمريرات الصعبة وعن الطيبين اذا خليت الدنيا منهم قلبت ... كان جبينه العريض يتقطب، وحاجبيه السوداوين الكثين يلعبان فينا ... وهو يتحدث عن الظلم الذي اذا دام دمر ... كان يقول اننا ندافع عن قضية عادلة لوجه الله دونما ثمن او منة ... وما ضاع حق وراءه مطالب ... ويجب ان نكسر حاجز الخوف والعبودية الشرقية القابعة في نفوسنا ...
الاكثر غرابة في هذا النسيج الكلداني الفريد، الذي اسمه نابليون بشي، وقد ملأ دنيا الكلدان ضجيجاً ونقاشاً وصراعاً ، ان كان من عائلة بشي التلكيفية (نسبة الى مدينة تلكيف التاريخية العريقة في شمال العراق) المحافظة، المعروفة بتدينها وطاعتها وشمامستها وقساوستها، والاكثر غرابة ان نابليون كان اعزل من اية حماية او وقاية، ولا يحمل سلاحاً وهو في مقر جريدته ومطبعته او في مخزنه الذي كان يبقى فيه حتى ساعة متأخرة من الليل... وحده ...هو والليل واهالي الحي (هيزل بارك)، وجلهم من الفلاحين الهلبليز (hill billys) الذين يتناقصون رويداً رويداً في زمهرير شتاء ديترويت القاسي ... خلاصة كل الفصول لقد دبروا له ذلك.... هناك اردوه قتيلاً يتخبط  بدمائه الزكية ...
بعد موته المفجع برصاصات جبانة من قاتل محترف مأجور ... علّمنا نابليون ... ان الكاتب الحق، ضمير الامة ووجدانها، يقدم نفسه قرباناً على مذبح هذه الغابة البشرية التي يسود فيها القوي ويستأسد 000 واكد لنا ايضا في رحيله المأساوي  ... أن ارادة الانسان على البقاء والخلود لا يقهرها الموت ...  وان قوى الخير اذا ما تجمعت على بعضها بوجه قوى الشر لا تهزها الرياح والزوابع.
بإيجاز شديد هذا هو نابليون بشي كما عرفته على حقيقته، كان رجلا شرقيا من بيت نهرين ، مصابا باحلام خصيبة وانسراحات وخيالات مشروعة لا حدود لها. رجل لم نعرفه كعادتنا السيئة الا بعد موته المفجع المؤلم  ...  وقد لقب فيما بعد بشهيد الصحافة الكلداشورية الذي نذر نفسه لوحدة الكلدان والاشورين ليكونوا كتلة واحدة، باعتبارهم شعبا ينحدر من سلالة واحدة. ولم يبخل الاشورين على نابليون مثلنا نحن الكلدان الذي نسيناه بسرعة غريبة، فقد ادخل بالفعل في سجل الاشورين كواحد من اصلب أبنائهم البررة، واعتبر من أعمدة الفكر الآشوري الحديث، ومن الشخصيات الآشورية التاريخية المعتبرة، واعتمدوا المقدمة التي كتبتها عنه كتعريف لشخصيته وهويته، أما الكلدان فقد نكروه بطموحاته، وجحدوا فضله وجهوده وخدماته لأبناء قومه وأهله مجانا لوجه الله، وبدا على البعض منا، انه ارتاح بالفعل من ضجيج وهلوسات نابليون ، ولسانه السليط المجلجل في الجالية، وصمتت في موته المأساوي المفجع المخجل لكل واحد منا، صمتت مراكز كلدانية معتبرة  .. نعم ...  نكره اهله الكلدان ووشوا به للجلاد، وهذه حقيقة يجب ان نستجمع ما تبقى فينا من شجاعة، لنقولها صريحة عارية كما خلق الله ادم وحواء، وقام يهوذا الجالية بتسليم رأسه للجلاد الأكبر وقدم مشورته للطاغية   ... لقد صار نابليون ظاهرة لا تطاق فهو ليس بالرجل الذي يقبل المساومة ويرضى بالمبلغ الضخم المقرر له شهريا وطبعا لا يمكن ان يقتل بأيادي كلدانية بل الأفضل التخلص منه بأيادي غير منظورة وغربية على الكلدان  ... نعم مرة اخرى نكرناه وخفنا من محاججاته وتنظيراته للظلم والتعسف  .... لكن نابليون بقي رغم انف القتلة كلدانيا قحا بلحمه ودمه، وأحاسيسه وخلجاته وتاريخه المشرق المضيء  ....  نابليون انسان كريم ومخلص يحب بطبعه مصاحبة الناس، ويرغب في معاشرة بني قومه، فتراه فرحا، مستبشرا بهذا الحضور الكلداني المتنامي المجتمع حول نفسه وكنيسته في هذه الديار القصية  ... قال لي مرة وقد تعرض لنقد من احد كبار القوم وكنت مهضوما له  .... قال لي ياأبا فراس: ( لا دير بال )  .... هؤلاء أهلي وأخواني وعشيرتي، فيهم وبينهم اعيش واتنفس ، وفي ديوانهم أحلّق، وبدونهم كم نساوي؟! هؤلاء اهلي  ....  احبهم واتودد الى مجالستهم  ....   واهلي  ... وان جاروا علي كرام ....   اما ضرباتهم الموجعة فدعها تدق صدري عنيفا كانها دغدغات ورود وريحان  .....  اقبل ضيمهم وقساوتهم  .. معهم  ..  ومعهم فقط يطيب لي ان اشرب كاس افراحي واتراحي عليّ ان اكون غريبا عنهم .
ليل نابليون في مدينة الثلج والضباب والرياح العاتية ديترويت موحش قاسي، وهو في مخزنه (نوبل) يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل  ...   يبدده امل وحلم اليوم التالي، وهو في مكتبه المتواضع في جريدة المشرق، وهي تشرق على الكلدان اسبوعيا حافلة بمواضيع زاخرة مثيرة، وقد التم حوله ومعه نفر كلداني خير متعلم يطرزون معه كخلية نحل دائبة مجلة اسمها ( المشرق) ، وهي تشرق على كلدان المهجر كشهاب مضيء يعدهم رغم حلكة الظلام بنهار عراقي جميل.