حماية دولية أم عشائرية
د. صباح قيّاقد تلجا الدول إلى التحالف في ما بينها بغية تحقيق أهداف معينة والتي تشمل حماية بعضها البعض الآخر والوقوف صفاً واحداً لمجابهة عدو مشترك كما حدث خلال الحربين الكونيتين الأولى والثانية . وقد تضطر الدول الصغيرة والكيانات الضعيفة أو المستضعفة إلى طلب حماية الدول الكبرى أو المجتمع الدولي لدرء أي اعتداء خارجي أو داخلي كما حدث بعد الإجتياح العراقي للكويت , وما تبعه من عواقب نالت أهل كردستان العراق بمختلف اطيافه . وبفضل تلك الدول عادت الكويت إلى حكامها ’ وتحقق للأكراد ولادة إقليم كردستان العراق شبه المستقل .
وما يحصل على المستوى العالمي ’ يظهر جلياُ على المجاميع أو الافراد في مجتمعنا العراقي . ربما يتذكر البعض مدى التلاحم الذي كان يحصل بين أبناء المحلة الواحدة في منطقة ما وأحياناً الإتفاق مع محلة أخرى أو أكثر للدفاع عن بعضها البعض الآخر ضد الهجمات الآتية من المحلات المجاورة او البعيدة وما كلن يطلق عليه " تسقيط المحلات " في ذلك الزمن . هذا بالإضافة إلى النزاعات العشائرية السائدة وقتذاك والصراعات القروية أو القبلية المتوارثة . ولا بد من الإشارة إلى الخصوصية التي كان يتمتع بها أفراد بعض العشائر أو المناطق في فترات متعاقبة من الحكم نتيجة إستئثار أزلام ذلك البعض بالسلطة , وكمثل على ذلك قبيلة " ألجميلات " و أهالي " عَسَفَتْ " حيث يرمز كل حرف لمجموعة متسيّدة .
يتبادر الآن السؤال التالي : من الذي يحمي المواطن المسيحي الذي بات ضعيفاً أو مستضعفاً نتيجة المظالم والإضطهادات التي قاسى منها ولا يزال عبر التاريخ الغابر وليومنا الحاضر . هنالك من يتذرع بالقانون . نعم .... من المفروض أن يحتمي الجميع بالقانون , ولكن القانون وُضع لحماية الأقوياء كما ذكر الفلاسفة القدماء , ولم يكن القانون مع المسيحي يوماً ما عدى في فترة الحكم الإستبدادي المطلق , والفضل هنا ليس لشرعية القانون بل لمن يتحكم بالشعب وسلطته هي القانون والويل لمن لا يطيع . ومع غياب تلك السلطة أصبح الشارع هو القانون ودخل المسيحي في نفق واضح المصير لمن عقله مستنير , وحصل الذي حصل لمن ظن أنه في منأى عن كل شيئ خطير .
من السذاجة الإعتقاد بأن المسيحي لا يحتاج إلى حماية من نوع محدد أو آخر سواء كانت دولية أو عشائرية أو فردية . ومن ينكر أن المواطن المسيحي دأب عبر مسيرته الحياتية في أرض الوطن الجريح إلى اللجوء إلى أحد معارفه من ألاخوة المسلمين إذا ما ألم به أي حدث عسير أو جابه مشكلة مستعصية , وحتى من أجل الحصول على أبسط حقوقه في كثير من الأحيان ....
حدثني أحد معارفي عن ما حصل له بعد أن دهس إحدى المسنات في طريق خارجي . طلب منه أهل الضحية الحضور في مجلس الفصل العشائري , وهذا يعني إما سفك دمه أو دم فرد من أفراد عائلته أو دفع تعويض مادي ضخم ً قد لا يتمكن عليه. توسط لدى أصدقاء له من المذهب الشيعي بعد أن علم أن عشيرة المجنى عليها شيعية . رافقه الأصدقاء بعد أن أخبروه بأن يقول للمجلس أنه من " أحفاد جون " ويطلبهم ثأر . وبالفعل قرر المجلس العفو عنه حال سماعه ذلك أي " ثأر بثأر " فأصبحت الكفة متعادلة ......
إلتقيت بالأقرباء الساكنين في إحدى محافظات الجنوب بعد نقلي إليها في بداية سبعينات القرن الماضي . إقترح عليّ بعضهم الإنتماء إلى إحدى العشائر المعروفة لقاء مبلغ بسيط أدفعه سنوياً بهدف تأمين الحماية العشائرية لي في الظروف الطارئة وحسب ما يتطلب الحدث . لقد كان ذلك العرف سائداً بين المسيحيين في تلك المحافظة للإحتماء بظل عشيرة متنفذة .
برأيي المتواضع أن المسيحي بحاجة إلى حماية في بلده الأم وخاصة أنه ينتمي إلى أقلية يتضاءل عددها رويداً رويداً وقد تقترب إلى الصفر آجلاً أم عاجلاً إن استمر الحال على هذا المنوال . وما كان يحصل بالأمس من حماية فردية أو عشائرية لا يمكن تحقيقه اليوم بعد أن تغيرت النفوس واختلفت النوايا وطغت المصالح الشخصية والمذهبية والحزبية على المشاعر الوطنية الصادقة . كما أن السلطة الحاكمة لا تتمكن من تأمين الحماية اللازمة للمسيحيين لضعفها من ناحية وحاجتها هي نفسها إلى الحماية لتأمين ديمومتها , وهذا ينطبق على المركز وعلى الإقليم , كلاهما دمى أجلسها الأجنبي على كراسي الحكم , وسوف يحركها متى شاء ... أما الحكم المذهبي والديني المسيّس فلا يمكنه من تقديم الخدمة المشروعة قانوناً للمواطنين على السواء . حماية الفرد وتأمين حقوقه تأتي من خلال الحكم العلماني العادل الذي لا يفرق بين مواطن وآخر بسبب اللون والفكر وما شاكل . والعلمانية لن ترى النور في عراق اليوم ما دامت المذهبية الضيقة هي السائدة .... إذن لم يبق للمسيحي من خيار إلا الحماية الدولية أو حزم حقائبه واللحاق بمواكب المهاجرين إلى حيث الحرية والأجواء النقية قبل فوات الأوان . ولكن هل بالإمكان تأمين الحماية لشعب موزع هنا وهنالك أم ينبغي جمعه في كيان واحد ؟ ألمنطق مع الجمع إذا كان لا بد من الحماية الدولية .... ألمسيحي في الأرض المنكوبة على مفترق الطرق اليوم . إما البقاء وانتظار المصير المظلم , أو الهجرة إلى العالم المتمدن أوّله معاناة تعقبها حلاوة المستقبل لأجيال لاحقة . ألمصير المظلم قد يتحول إلى مستقبل زاهر لو قررت الإرادة الدولية وعملت جدياً لتحقيق ذلك ... لا بد من معالجة المشكلة بعقل نيّر بعيداً عن العواطف والأحلام النرجسية .
من يعتقد أنه يستطيع إبقاء المسيحيين في هذا الظرف هو حتماً واهم , ومن يعتقد أنه بالإمكان جمعهم في إقليم أو محافظة أو أي مسمى آخر بدون حماية دولية هو بدون شك حالم . ألمخالب الكردية أشد فتكاً من الأنياب العربية ... حذاري حذاري ...