المحرر موضوع: مهدي السعيد وسرّديته السسيوثقافية الحلقة - 1-  (زيارة 637 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1288
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مهدي السعيد وسرّديته السسيوثقافية
مقدمة لكتاب (الجذور) "سيرة ذاتية"
بقلم : عبد الحسين شعبان
الحلقة - 1-
إني أحدثك لترى     
فإن رأيت             
فلا حديث           
النفري             
          قلم السياسي مغمّساً بحبر الذاكرة
         حين كتب مهدي السعيد "سيرته الذاتية" التي بدأت من أزقة الكرخ القديمة كما يروي وصولاً إلى براغ ولندن ودمشق، لم يكن يدر في خلده، إنه سيدوّن بعفوية شيّقة جوانب مهمّة من تاريخ محلّة الدوريين بشكل خاص، والمحلّة البغدادية بشكل عام، بكل تناقضاتها الإيجابية والسلبية وعناصر القوة والضعف فيها. وذهب أكثر من ذلك في مشواره السردي حين رسم بريشته لوحة بانورامية للمشهد السسيوثقافي لمدن عاش فيها، مستعرضاً في الوقت نفسه علاقات واسعة وعميقة مع رفاق وأصدقاء جمعته معهم حياة كاملة بكل عنفوانها وبكل ما لها وما عليها، بحلوها ومرّها، بما فيها من معاناة وقلق وهموم وآمال وأحلام وانكسارات.
          وبعدسة فنان حاول مهدي السعيد أن يصوّر لنا عدداً من اللاعبين على خشبة المسرح وحركاتهم وسكناتهم بعيني مراقب دقيق، وفي أحيان كثيرة كان يقترب من المشاركة أو يكون جزءًا منها، لكنه لا ينسى المراقبة التي سرعان ما يعود إليها وكأنه لا يريد أن يفقد متعة المشاهدة، وحسب صموئيل بيكت "المتعة بالفِرجة"، خصوصاً وإن مسرحنا السياسي ازدحم في العقود الثلاثة الماضية بألوان شتى من اللاعبين، من هواة السيرك إلى محترفي الجمنازتيك مروراً بالسحرة والمشعوذين وقرّاء الكف وفتّاحي الفال وصولاً إلى أصحاب التعاويذ والحروز المتنّوعة، حتى إنك لا تستطيع أن تميّز أحياناً بين الشيء وضدّه، فقد اختلطت الوجوه والصور والمواقف.
           وحسبنا أن نردّد قول شاعرنا الجميل مظفّر النواب : "قتلتنا الردّه إن الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّه"، خصوصاً حين إفتُقِدَتْ الصدقية التي كانت الرأسمال الإنساني الحقيقي سواء على الصعيد السياسي أو ببعديها الإجتماعي والثقافي، يوم كانت الأخطاء ذاتها صميمية، فالمرء يجتهد، وقد يخطأ وقد يصيب. وحسب قول الإمام الشافعي : "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب" والبشر وفقاً لفولتير "خطّاؤون"، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة فحيثما يميل تميل معه، لذلك اقتضى أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
         وحين تنهار المنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية أو تتصدّع أركانها، سواء بفعل عوامل خارجية أو داخلية، فإن صورة المجتمع تتشّوش بفعل الفوضى والعنف والزيف، خصوصاً حين تتداخل القضايا والمصالح. ولو تابعنا البرامج والسياسات والعلاقات الإجتماعية بغض النظر عن المواقع والمواقف، فسنرى الكثير من عناصر الشبه بينها، حتى إن المرء لا يستطيع أن يميّز أحياناً بين ذات الشمال وذات اليمين، لاسيّما حين أخذ بعضهم يستعير لسان الآخر وخطابه، حتى وإن كان متخماً بعكسه وأشبعنا بضدّه على مدى سنوات طوال. هكذا تضبّبت الصورة واختلط المشهد وتداخلت المواقع والأطروحات.
          كان مهدي السعيد وهو ابن البيئة الشعبية البغدادية الكرخية يقارب المشهد السياسي برؤية سسيوثقافية، ولم يرغب أن تفلت حادثة كبرى أو صغرى إلّا وحاول أن يمرّ عليها ولو سريعاً، كما توقّف عند بعضها وتعمّق في أخرى، لكن حبكته الدرامية ظلّت تنتقل معه وتتداخل مصادرها بين الإجتماعي والثقافي، وإنْ ظلّ السياسي والحزبي لاحقاً متميّزين في رؤيته على نحو بارز وشديد.
         ولكنه بالتدرّج أخذ يتّجه نحو أفق أوسع رحابة، منتقّلاً من العمل الحزبي "الضيّق" إلى العمل السياسي بمعناه "الواسع"، ومن هذا الأخير إلى العمل الإعلامي، خصوصاً باتساع معارفه وعلاقاته العربية بعد أن عمل في السفارة اليمنية في براغ وفيما بعد حين انتقاله إلى لندن، حيث توسّعت دائرة اهتماماته وعلاقاته العراقية، إضافة إلى الوسط الإعلامي العربي. وقد وفّر له ذلك فرصة إجراء مراجعات تاريخية، لاسيّما في سنوات ما بعد الإحتلال، لينتقل إلى التأمل وإعادة قراءة بعض الأحداث ونقدها بروح منفتحة وغير حزبوية.         
      جيل الستينات : جيل الأسئلة
       منذ أن علقَ مهدي السعيد بالسياسة، فتعلّق بأهدابها وركض وراء أحلامها الوردية حتى وإنْ كلفته منافي ومعاناة، لكنه واصل سيره في دروبها الفسيحة والوعرة في الآن، منتقلاً من  محطة إلى أخرى ومن مدينة إلى ثانية، حاملاً معه ذكريات متنوعة مختزناً أسراراً عديدة.   
       وكنت قد تعرّفت عليه وعلى أشقائه في العام 1960 وذلك من خلال صديقي العزيز جواد العادلي عن طريق صاحب المكوى "اسماعيل" الذي يرد ذكره في المذكرات، وهو من أقارب العادلي وكانت عائلته صديقة لعائلتنا وسكنوا بجوارنا لفترة من الزمن، وكان شقيق جواد العادلي "حمودي العادلي" وهو عضو في الحزب الشيوعي معتقلاً معنا، وقد تمّ تقديمه للمجلس العرفي العسكري، وحكم عليه لثلاث سنوات قضاها في سجن نقرة السلمان الصحراوي. وبعد إطلاق سراحنا وتسوية أمور فصلنا من المدرسة وقبولي في الجامعة، إلتقيت بهادي ومهدي وفيما بعد سعدي السعيد عدّة مرّات، حتى تعمّقت علاقاتنا خلال أحداث انشقاق الحزب الشيوعي في العام 1967 واستمرت خلال العقود المنصرمة.                                                                                                                                                                                                                                                         
       ولذلك حين طلب مني مهدي السعيد كتابة مقدمة لسيرته الذاتية، ركنت مشاعر الصداقة جانباً لكي أقرأ ما أعرفه ولا أعرفه عن صديق جمعتني به صداقة زادت على خمسة عقود ونصف من الزمان. ولا أذيع سراً إذا قلت إنني بقدر ما أعرف مهدي السعيد فقد استمتعت بما كتبه وبما لفت الإنتباه إليه وبما حاول إضاءته، فقد عاش الأحداث  بكل جوانحه منذ أواخرالخمسينات ومطالع الستينات من خلال معاينة ومعايشة ومشاركة، خصوصاً حين بدأ وعيه الأول يتشّكل مع السنوات الأولى من ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958  ليتوقف عند محطتة الراهنة، وهو بعد نحو نصف قرن من التعب والكدّ والإنشغال، يراجع بروح إيجابية مسيرته التي لا تخلو من مرارة وخيبة، بل إنه يراجع مسيرة جيلنا أيضاً، خصوصاً لماعاناه.
             وحين أتحدّث عن جيلنا فهو جيل الستينات الذي أفلح الشاعر والروائي فاضل العزّاوي في كتابه "جيل الستينات - الروح الحيّة" في تسليط الضوء على معاناته الفائقة وإرهاصاته الباهرة، سواء على الصعيد السياسي والثقافي أو على الصعيد الإجتماعي لا سيّما التطلّع إلى الحداثة والإنفتاح على المدارس المختلفة في الأدب والفن والعمارة بكل صنوفها وألوانها، خصوصاً بعد هزّة العام 1963 الإرتدادية، التي أحدثت صدمة كبرى في الحركة الفكرية والثقافية والسياسية في العراق. وكان هذا الجيل قد اجترح عذابات لا حدود لها على صعيد الفكر والهوّية والعلاقة بالآخر والتنوّع والتعدّدية، وبالطبع في قضايا الحريات العامة والخاصة، ولاسيّما حرّية التعبير والإعتقاد والتنظيم والحق في المشاركة.
           ويختلف جيل الستينات الذي عاش فترة انتقال حادّة وأوضاع تغيير على صعيد عالمي، عن جيل الأربعينات والخمسينات، حيث سادت اليقينيات الآيديولوجية والتقسيمات الإستاتيكية "شبه الثابتة" في تقويم طبيعة الصراع، ناهيك عن الإنخراط فيه، كما إنه يتميّز عن جيل السبعينات والثمانينات الذي بدأ معه صراع من نوع آخر وكان المشهد قد اكتمل، فجيل الستينات هو جيل الأسئلة الكبرى، حيث لم تعد تكفيه الإجابات الجاهزة، واليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية، فقد أخذت الأسئلة تتكدّس، وكان الجواب لا يجد سبيلاً للإقناع، وهكذا كانت الإرهاصات تكبر وتغتني بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي احتاج إلى نوع جديد من الجدل على مستوى الداخل الجوّاني، إضافة إلى الخارج الفوقاني.
         لم يتحدث مهدي السعيد عن جيل الستينات بشكل عام، بل اختار "حلقة" محدّدة منه طابعها العام متمرّد وبأشكال متنوّعة وامتازت بنوع من التضامن والتواصل والمودّة، على الرغم من العواصف والمتغيّرات والصراعات (الداخلية والخارجية) التي كانت سائدة فضلاً عن اختلاف المواقع والمواقف والمآلات لاحقاً، وهو ما قد أعود إليه في وقت آخر.
        ويذكر مهدي السعيد بالأسماء عدداً من أفراد تلك "الحلقة" اليسارية التي عملت بثقة وظلّت متماسكة في كل الظروف أصابت أم أخطأت.
        بصمة مملّحة
       جاءت سيرة مهدي السعيد مزيجاً من ذكريات ومذكرات واستعارات ومراجعات وتجارب وخبر منها ماهو ناجح ومنها ماهو فاشل، وبقدر ما حاولت تقديم عرض جاد لتجربة ذاتية وسياسية بامتياز، فإنها في الوقت نفسه حفلت بطرائف وحكايات ومصادفات ممتعة حاول الكاتب تمليح نصّه لكي لا يأتي ثقيلاً، وقد وضعها بأسلوب مبسّط ويكاد يكون عفوياً، ولعلّها تعكس جوانب من شخصيته المرحة رغم جديّتها.
        السيرة الذاتية لمهدي السعيد تضمّنت بوحاً في جزء غير قليل منها وكشفاً لواقع سسيوثقافي، حاول أن يعطيه بصمته الخاصة، خصوصأً باستعراض لا يخلو من دهشة الكاتب ذاته الذي اختزن هذا الكمّ الهائل من الصور والمشاهد والأحداث والمفارقات في ذاكرته، وقد يكون مفيداً قراءة هذه المذكرات كحلقة متصلة ومتكاملة، بل ومتراصة على الرغم من المراحل التي وضعها.