المحرر موضوع: إعلان مريم العذراء لبشارة الخلاص  (زيارة 1079 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

إعلان مريم العذراء لبشارة الخلاص

ترجمة الأب
ريبوار عوديش باسه

مقدمة المترجم: بمناسبة حلول عيد انتقال أمنا مريم العذراء إلى السماء، نهدي لمؤمنينا الأحبة ترجمة كتيب عن مريم العذراء لأحد أساتذتنا في المعهد الحبري للدراسات الكتابية، الأب كليمنس شتوك اليسوعي (K. Stock, La buona notizia portata da Maria [Roma 2009]). يتناول الكاتب فيه بأسلوب مبسط سيرة مريم العذراء في العهد الجديد، وخاصة كيف أنها قبلت البشارة الخلاصية وعاشتها وساهمت في تحقيقها وأعلنتها إلى أن انتقلت إلى السماء لتكون بجانب ابنها ومخلصنا الرب يسوع المسيح ولتتشفع لنا من السماء. ننتهز هذه الفرصة لتقديم التهاني القلبية للجميع، طالبين من الرب العون لنكون نحن أيضاً مبشرين بالخبر السار على مثال مريم ورسلاً وخداماً للمسيح ولكنيسته، ونكون فرحين بالرب رغم كل صعوبات الحياة ومشقاتها وآلامها، مقتدين بأمنا مريم العذراء وطالبين منها الصلاة من أجلنا نحن الخاطئين، وليمنحنا الرب أمنه وسلامه ونعمه وبركاته.
 
المقدمة: تذكر جميع الأناجيل مريم العذراء ولو بنسب مختلفة. يأتي إنجيل لوقا بالمرتبة الأولى من هذه الناحية، حيث تقدم مريم فيه بشكل أكثر حيوية. وفي المرتبة الثانية يأتي إنجيل يوحنا، وبعده إنجيل متى حيث نلاحظ بأن كاتبه لا يشير إلى أية كلمة أو شعور لمريم، ولكن يروق له تكرار عبارة "الطِّفل مع أُمهِّ مَريم" (٢، ١١. ١٣. ١٤. ٢٠. ٢١)؛ وبهذا يشدد على العلاقة الغير قابلة الانفصال بينهما، ويُبين معنى الأم للطفل المحتاج للعون. أما في إنجيل مرقس، فإن التركيز على مريم يقل بشكل أكبر. وآخر ذكر صريح لمريم يرد في سفر أعمال الرسل (أع ١، ١٤) حيث تشكل "مَرْيَمُ أمُّ يسوع" جزءاً من النواة الأولى للكنيسة الناشئة، وتصلي معها لحلول الروح القدس.
   نود هنا البحث في الأناجيل، وبالأخص في إنجيل لوقا، لتعميق معرفتنا في طريقة تقديم كل إنجيل لمريم، وأي خبر سار يُعلَن لنا من خلال شخصها. إن الإنجيلي لوقا يركز بشكل خاص على علاقة مريم بالله، أما يوحنا فإنه يركز على علاقتها بإبنها البالغ. بالحقيقة، إن كل ما يتعلق بمريم وورد ذكره في العهد الجديد لا بد أن يُنور حياتنا ويساعدنا لفهم علاقتنا بالله بشكل أفضل وعيشها بصورة أمثل. ما يرد في الأناجيل عن مريم يمكننا تلخيصه بستة محاور، على النحو الآتي: ١. ممتلئة نعمة ومباركة من قبل الله. ٢. مكرسة لخدمة الله. ٣. مصلية لله. ٤. أم الأحزان ٥. أم السعادة. ٦. أُمنا.

١. ممتلئة نعمة ومباركة من قبل الله: هذه أول عبارة توجه لمريم العذراء وتتجسد فيها، حيثُ يُحييها الملاك قائلاً: "إفرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمةً" (لو ١، ٢٨). وإليصابات تتحدث إليها، قائلة: "مُبارَكةٌ أَنتِ في النِّساء! ومَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ!" (لو١، ٤٢). نكرر هذين التعبيرين اللذين يصفان علاقة الله بمريم في كل مرة نصلي فيها "السلام لك يا مريم". "المُمتَلِئَةُ نِعْمةً" تعني بالطبع بأن الله ملئها من نعمه. وكذلك "مُبارَكَةٌ" تعني أن الله منحها بركاته. فالإنجيل يخبرنا قبل كل شيء عما فعله الله وكيف صنع العجائب من خلال مريم العذراء، وبالتالي يعلن لنا الخبر السار عن الله.
الفعل اليوناني "χαριτόω: ملءَ نعمة" يعني جَعلُ شيء ما أو شخص ما جميلاً وموضع إعجاب. إذن كان على الملاك نقل هذه الرسالة: (إن الله جعلكِ جميلة وموضع إعجاب. إنه جعلك مستحقة لمحبته. فالله التفت إليك، وإنك بالتالي في محبة الله، وهذه المحبة سترافقك دوماً في مسيرتك الإيمانية. هذا ما صنعه الله تجاهك، فهو يقف إلى جانبك. وهذه هي نعمته المجانية والغير مستحقة تجاهك). كل هذه المحبة تتجسد في مريم العذراء منذ الوهلة الأولى. وهذا ما ينطبق علينا أيضاً منذ لحظة معموذيتنا، لأننا في لحظة غطسنا في جرن العماذ نغطس أيضاً بمحبة الله، ومحبته اللامتناهية هذه ترافقنا في مسيرة حياتنا كأبناء الله. ولهذا يجب علينا أن نكون دوماً واعيين لهذه المحبة ومقدرين لها ومملؤين من السعادة والامتنان بفضلها.
أما بالنسبة للفعل "باركَ"، فأنه يعني إعطاء قوة مفعمة بالحياة، وبعث الحياة وتعزيزها. ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن الله وحده يمكنه أن يمنح البركة بشكل كامل، لأنه هو وحده مصدر الحياة وسيدها. الله يبارك مريم ويجعلها مؤهلة لتكون أماً لابنه. ولدت مريم يسوع المسيح ابن الله، وقامت بإرضاعه وتغذيته، وتربيته والاعتناء به إلى أن بلغ سن النضوج واندمج في الحياة البشرية. وهكذا وهب الله للبشرية مخلصاً وفادياً من خلال مريم. وهي بدورها قبِلت من الله هذه البركة والإمكانية بكل تواضع وخشوع. يذكر الكتاب المقدس بأنه سبق وأن نال إبراهيم من الله البركة، لا لنفسه وإنما كي تتبارك كل البشرية من خلاله: "ويَتَبَاركُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تك ١٢، ٣). وهذا ما ينطبق بطريقة أجلى على مريم، وعلى ابنها يسوع المسيح الذي من خلاله غلب الله على الموت ووهب الحياة الأبدية للبشرية. ونحن أيضاً باركنا الله، ونلنا منه حياتنا وقوانا وإمكانياتنا لكي نكون من خلالها "بركة" للأخرين. إذن كل هذه القوى والإمكانيات وُهِبت لنا لا لكي نستخدمها لإيذاء القريب وتهديده وتثبيط عزيمته، وإنما لدعمه وتشجيعه ومساعدته وجعله أن ينمو ويتقدم نحو الأفضل ويعيش الحياة بملئها.

٢. مكرسة لخدمة الله: إن الله وكّلَ مريم مَهمةً. فهي ليست شخصية دون فائدة أو ثانوية، بل أن الله بحاجة إليها. فملاك الرب يبشرها، قائلاً: "فَستَحمِلينَ وتَلِدينَ إبناً فسَمّيه يسوع" (لو١، ٣١). إذن، يجب على مريم أن تقدم لإبن الله هذه الخدمة الإنسانية الأساسية. إنها بالفعل أعظم خدمة وذات أهمية فائقة، لأن مريم من خلال تلك الخدمة تصبح أمّاً ليسوع. هذه الخدمة تتطلب من مريم تكريس ذاتها بأسرها له. إن الخدمة تُقاس بما يقدمه المرء من المساعدة لقريبه الإنسان كي يستطيع أن يحيا الحياة بملئها وكأبن الله. يذكر الإنجيل باستمرار الخدمة التي قدمتها مريم لابن الله: "فولَدَت أبنَها البِكر، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّه لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في المَضافة" (لو ٢، ٧). كما يذكر الإنجيل إمراة تصرخ من بين حشدٍ، قائلة: "طوبى لِلبَطنِ الَّذي حَمَلَكَ، ولِلثَّدْيَيْنِ رَضِعتَهما!" (لو ١١، ٢٧). مريم بعد تأملها (لو ١، ٢٩) وتَسَأُلها (لو ١، ٣٤) ورغبتها بتوضيح الأمور وفهمها، تقبل هذه الخدمة، قائلة: "هَا أَنا أَمَةُ الرَّبّ، فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو ١، ٣٨). تقول مريم نعم من دون إكراهٍ أو قلقٍ، بل بفرح شديد وبرغبة عارمة تنوي تحقيق مطلب الله منها. وهكذا اعتبرت مريم من تلك اللحظة دعوتها بأن تكون " أَمَةُ الرَّبّ" ومكرسة لخدمته شرفاً وكرامةً.
   إن الله بحاجة لنا، وهو يعطي كل واحد منا مَهمّةً. ونحن من موضعنا علينا مساعدة القريب على أن يعيش الحياة بملئها. ويتوجب علينا أن نفتح أعيُنِنا لملاحظة ما يحتاجه الآخرين. نحتاج لقلب حنون ورحوم لنستطيع تكريس أنفسنا للآخرين والتعاطف معهم. نحتاج لسواعد نشطة تعمل كل ما هو ضروري ومفيد. رأينا كيف تُقَدِم مريم نفسها بكل تواضع كـ "أَمَةُ الرَّبّ". وهكذا نحن أيضاً ينبغي أن تكون أذهاننا وقلوبنا مركزة على خدمة الرب والقريب على مثال مريم، وبالوقت عينه يجب ألا ننسى بأن الله منحنا كل إمكانياتنا ومواهبنا وقوانا، وقد كرسنا للخدمة، وبالتالي علينا دوماً التوكل عليه لإتمام رسالتنا. وعليه يجب أن نتذكر دوماً بأن ما يسندنا في خدمتنا ويجعلها خدمة لائقة وأمينة وثابتة ليس الدعم البشري وتعاطفه معنا ورضاه عنا، وإنما علاقتنا الوثيقة الله والقوة التي نستمدها منه.

٣. مصلية لله: نقرأ ونصلي وننشد مراراً وتكراراً نشيد مريم: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي". بهذا النشيد تَذكُرُ مريم ما صنعه الله من عجائب من خلالها (لو ١، ٤٦ ـ ٤٩)، وكيف يعمل الله بطريقة شاملة لخير البشرية بأسرها (لو ١، ٥٠ ـ ٥٣)، وكيف تعامل مع الشعب العبراني (لو ١، ٥٤ ـ ٥٥). هذه الصلاة تجعلنا أن نرى الله بعيون مريم. فالله يملئ قلب مريم بالسعادة من خلال تدبيره الخلاصي، وهذا ما يدفعها للتعبير عن شدّة غبطتها وكبر بهجتها وإنشادها بصوت عالٍ نشيد الخلاص هذا. تتوجه مريم من خلاله إلى الله بكلمات امتنان وشكر وتمجيد. تُعينُنا صلاة مريم هذه على التعمق في معرفة الله. فسلوك مريم يكشف لنا كيفية اللقاء مع الله. إنه لفي غاية الأهمية تكوين صورة سليمة عن الله وفهمه بشكل صحيح. لا ينبغي علينا أن نكون مضطربين أو غير مبالين، وإنما يجب أن تكون قلوبنا وأرواحنا متوجهة نحو الله بكل محبة وإهتمام، وأن يكون لدينا رغبة قوية وجهد مستمر لمعرفة الله وفهمه بطريقة سليمة. ومعرفتنا لله هذه يجب أن تُفعِمَ قلوبنا بالحيوية وتملئهُ بالسعادة وتوجهه نحو البهجة وتمجيد الله.
   بعد ولادة الرب يسوع، يأتي الرعاة لزيارة الطفل ويخبرون عما قيل لهم عنه، ويضيف الإنجيلي لوقا بعد سرد هذا الحدث، قائلاً: "وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها" (لو ٢، ١٩). ومرة أخرى – بعد المقطع الإنجيلي الذي يتحدث عن يسوع ذي الثانية عشر من العمر في الهيكل – يكتب الإنجيلي لوقا: "وكانَت أُمُّه تَحفَظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها" (لو ٢، ٥١). ولكن قبل هذه الآية يذكر الإنجيلي ما يلي: "فلَم يَفهَما ما قال لَهما" (لو ٢، ٥٠). تلك الأمور التي يشير إليها الإنجيلي هي عن يسوع وتتعلق به، أي: الولادة في المغارة، مجيء الرعاة، رسالة الملاك، سلوك يسوع ذي الثانية عشر من العمر، وإلخ. كل هذه الأحداث ليست واضحة بالحقيقة ومعانيها ليست جلية ولا يمكن فهمها بمجرد إعطاء معلومة متواضعة، كونها تحمل معاني عميقة وواسعة، ومريم باستطاعتها التقرب من هذه الاحداث فقط ومحاولة فهمها، محتفظة بتلك الأمور في قلبها ومتأملة بما يجري بصبر. لا تستثني مريم إطلاقاً الأمور التي يٌصعب عليها إدراكها على الفور، بل تحفظها في قلبها بكل صبر وإيمان، إلى أن يأتي الوقت المناسب لفهمها بشكل أفضل وأعمق. إن احتفاظ مريم بتلك الأمور في قلبها يدل على عمق كيانها وشخصيتها التأملية وصبرها وإيمانها. كل ما يحدث ليسوع يمس أعماق قلب مريم. وهي بدورها ترغب بفهمه والتعامل معه بشكل صائب ولائق. إنها تهتم بكل ذلك وتعمل من أجله، ولكنها تتأنى في الوقت ذاته. إننا نتعلم منها أهمية التأمل ودوره في حياتنا الإيمانية، فمن خلاله تصبح صلاة مسبحة الوردية – على سبيل المثال – أكثر حيوية، لأن الأحداث التي تُذكَر في هذه الصلاة تتعلق كلها بما حدث ليسوع، وبالتالي يجب حفظها والتأمل بها في قلوبنا.
   يذكر لنا العهد الجديد وللمرة الاخيرة بأن مريم كانت مواظبة على الصلاة. ففي سفر أعمال الرسل (أع ١، ١٤) يذكر لوقا: "وكانوا يُواظِبون جَميعاً على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد، مع بَعضِ النِّسوَةِ ومَريَمَ أُمِّ يسوع ومعَ إخوَتِه". كان المنتمون الى الكنيسة الناشئة حاضرين أيضاً بجانب التلاميذ الإثني عشر. يا لها من لحظة فريدة، فقد إلتقوا بالرب يسوع القائم من بين الأموات وأستطاعوا أن يُعلنوا بأن يسوع قد إنتصر على الموت، وبأنه حيٌّ وعاد إلى الله أبيه. أعطى يسوع لهم مَهمة تبشير كل الأمم، وأمرهم بالبقاء في أورشليم، وإنتظار حلول الروح القدس. مريم بدورها تشكل جزءاً من هذه الكنيسة الفصحية والتبشيرية التي تصلي وتنتظر حلول الروح القدس. تؤدي هي أيضاً في وسطهم ومعهم الرسالة التي اُوكلها يسوع للجميع، حيث تصلي معهم لحلول الروح القدس. فبالرغم من أن مريم لها علاقة مميزة مع يسوع ومع الله، إلا أنها حاضرة دوماً وبكل تواضع بين المؤمنين بيسوع، ومُصغية لكلمة إبنها يسوع. فكم بالأحرى علينا نحن أن نقتدي بأفعال مريم وبالأخص فيما يتعلق بدورنا في الكنيسة وتعاملنا معها بكل تواضع. بالتأكيد لا يمكننا القيام بشيءٍ أفضلٍ من الصلاة في الكنيسة ومعها ولأجلها. هذه الكنيسة التي أسسها الرب يسوع القائم من بين الأموات وأوكلها مهمة إعلان بشارة الخلاص، مدعوة دوماً لتكون متحدة بالصلاة وخاصة من أجل أن يرافقها الروح القدس ليجددها على الدوام. تعلمنا مريم بأنه لا يسعنا أن نعرف يسوع من تلقاء أنفسنا، وإنما من خلال الكنيسة، ولهذا برفقة مريم وفي قلب الكنيسة وبقلب واحد ينبغي علينا أداء شهادتنا الإيمانية للرب، ونخدم الكنيسة والإنسانية.

٤. أم الأحزان: لم تضمن قرابة مريم ليسوع حياة مريحة لها وخالية من الصعوبات، بل كان عليها اختبار عذابات وآلام ومعانات وغموض ومصير مجهول. ففي الواقع، قرابة مريم ليسوع وقربها منه يرافقهما الكثير من الآلام والتحديات والصعوبات.
   قدمت مريم يسوع للهيكل بعد أربعين يوماً من ولادته، وفي تلك اللحظة كان عليها أن تصغي لكلمات شمعون، القائل: "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيام كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة" (لو ٢، ٣٤ ـ ٣٥). ستكون حياة ابنها موسومة بإيمان وامتنان من جهة، وبالمقاومة والرفض من جهة أخرى. وكل ما يصيب إبنها من السوء، يجرح دون شكٍ قلبها، كونها أمه.
   لم يكن مصدر آلام مريم من الآخرين فقط، بل من يسوع نفسه أيضاً! فعلى سبيل المثال، عندما سألت مريم إبنها ذي الثانية عشر من العمر: "يا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعتَ بِنا ذلك؟ فأَنا وأَبوكَ نَبحَثُ عَنكَ مُتَلَهِّفْين" (لو ٢، ٤٨). إبتعد يسوع ببساطة ولم يفسر سبب تصرفاته، بل رافق مريم ويوسف من دون أن يقول لهما شيئاً. لم تكن مريم متهيئة ومستعدة لكل شيء، ولم تكن متفقة دائماً مع إبنها. كان يسوع ينتظر منها الكثير وكان عليها تحمل الكثير. يشير الإنجيل بأن أم يسوع وأقاربه كانوا يترددون إليه غالباً رغبة منهم برؤيته طيلة مسيرته التبشيرية؛ بينما كان يسوع من جانبه يتهرب منهم، قائلا: "مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله هو أَخي وأُخْتي وأُمِّي" (مر ٣، ٣٥). سبق وأن قال مرقس في ذات الفصل ما يلي: "وبَلَغَ الخَبَرُ ذَويه فَخَرَجوا لِيُمسِكوه، لأَنَّهم كانوا يَقولون: إنَّه ضائِعُ الرُّشد" (مر ٣، ٢١). هنا يوجد بعض الغموض. عمل يسوع والمخاطر التي كان يواجهها (مر ٢، ٧؛ ٣، ٦. ٢٢) كانت تقلق أقاربه وتثير مخاوفهم عليه. وكأنهم يفكرون بهذه الطريقة: (عندما كان يسوع في الناصرة لم يكن هنالك مشكلة. نود إرجاعهُ إلى الناصرة لتصبح حياته بمأمن). يسوع يرفض هذا المنطق، ويفضل الاستمرار بالعمل بمشيئة الآب وإتمام الرسالة المُوكلة إليه، والتي بالفعل تضع حياته في خطر، وفي النهاية يُعَلَقُ على الصليب. وأُمه مريم من جانبها تشاركه كل هذه المراحل وكل هذه العذابات والآلام.
   وفي نهاية المطاف تقف مريم تحت خشبة صليب يسوع، إلا أنها لا تستطيع تقديم أية معونة له ولا تقدر على تغيير أي شيء. تنظر الى ضعف إبنها والإهانات التي ألحقت به والآلام التي كان عليه تحملها. تفتكر بأن الرفض قد انتصر ورسالة يسوع قد انتهت بالفشل فعلياً. لم يتدخل الله، واستمر يسوع في طريقه الذي سينتهي في القبر. كانت مريم في تلك اللحظة في عتمة كاملة، وقد إلتجئت إلى الإيمان. كان إيمانها يكمن في أن الذي حفظته في قلبها حتى الآن لا يزال ذي قيمة ومغزى، وبأن يسوع يبقى إبن العَلِيِّ (لو ١، ٣٢)، والمخلص والمشيح والرّب (لو ٢، ١١).
   إختبرت مريم معنى الآلام والعتمة والإيمان. إن المشهد الذي يسمى الرحمة "Pietà" والذي فيه تحمل مريم بين ذراعيها ابنها الميت والمنزل من الصليب، يُظهِر كم عانت مريم، ولماذا تدعى أم الأحزان. بتحملها لكل هذه الآلام والعذابات، أصبحت مريم قريبة من كل الذين يتألمون ويتعذبون في كل زمان ومكان. ونحن اليوم مدعوون بأن نتقاسم معها آلامنا، وبجانبها ينبغي علينا ألا نفقد الإيمان والرجاء بالله الذي يقود البشرية نحو الخير والمحبة والخلاص.

٥. أم السعادة: كان يجب على ملاك الرب إبلاغ مريم قبل كل شيء بما يلي: "إفرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ" (لو ١، ٢٨). قبل كل الأشياء الأخرى يخاطب الله مريم بطريقة شخصية للغاية ويدعوها للسعادة. ينبغي أن يملئ قلبها من السعادة، يجب أن تتصف حياتها ودعوتها بالسعادة. هذه الكلمة الأولى، أي "إفرَحي" ليست دعوة بلا معنى وبلا أساس، لأن كل ما سيأتي بعد هذه الكلمة يدعو للسعادة، فهي ممتلئة بنعمة، والله معها، ومدعوة لتصبح أُمّاً لإبن الله، والله يمنح من خلالها للبشرية مخلصاً يسوع المسيح. كلما تأملت مريم بكل هذا في قلبها بشكل أكبر واكتشفت شيئاً فشيئاً معناه، كلما أمتلأ قلبها بمزيد من السعادة والإمتنان.
أما نحن ففي الكثير من الأحيان نجد أنفسنا في عتمة وتكون أفكارنا مشوشة، وهذا ما يدفعنا بأن نكون غير مقتنعين وغير راضين، وبالتالي لا تبرز في حياتنا السعادة والامتنان.
بدأ ملاك الرب رسالته بكلمة "إفرَحي"، أما إليصابات فإنها ختمت حديثها لمريم بهذه الكلمات: "فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لو ١، ٤٥). تعلن إليصابات بأن مريم طوباوية وممتلئة من سعادة فائقة النظير، لأنه من خلالها يحقق الله التدبير الخلاصي لكل الخليقة. إليصابات تشير إلى أن إيمان مريم بكلمة الله الخلاّقة يُعد أساس لهذه الطوبى. وهذا ما يتعلق بنا أيضاً، لأن إيماننا ينبغي أن يكون الطريق للسعادة، كونه يربطنا بعلاقة وثيقة بالله.
   وبعد كلام إليصابات، تتكلم مريم ذاتها وتنشد قائلة: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأنَّهُ نَظَرَ إلى أَمَتِه الوَضيعة" (لو ١، ٤٦ - ٤٨). لم تغمر مريم بالسعادة على الفور. ففي الواقع، لا يمكن أن تأمر الإنسان بأن يكون سعيداً، وإنما ينبغي أن يأخذ وقته كي تنبع السعادة من داخله وتنضج. وبهذا الشكل تصبح السعادة أقوى ويُعبر عنها ببهجة وبصوت عالٍ أمام الله. وهكذا أدركت مريم بأن أساس سعادتها هو الله والتفاتته نحوها، ونظرته الحنونة والمملؤة بالمحبة تجاهها، ومن خلالها لكل البشرية. وهذا ما تشير إليه مريم في نشيدها، حيث تذكر كل الأسباب التي هي مصدر سعادتها وبهجتها.
   مريم في نشيدها تتوجه بالحديث نحو إليصابات وتُجيبُها، قائلة: "لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سوف تُهَنِّئني بَعدَ اليَوم جَميعُ الأَجيال لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة" (لو ١، ٤٨ - ٤٩). بالتحديد قبل هذا النشيد، كانت إليصابات قد دعتها: مريم الطوباوية (لو ١، ٤٥). وفي إجابتها لإليصابات، تشير مريم بتعبيرٍ جريء إلى المستقبل، وتعلن بأن إليصابات بدأت بشيءٍ لن يكون له نهاية. إليصابات هي الأولى في جوقٍ عظيم يدعو مريم في كل زمان ومكان بالطوباوية، ويُعلن بذلك امتلائها بالسعادة اللامتناهية. ومجدداً نرى بأن الأساس هو الله. فالله بقوته صنع أموراً عظيمة في شخص مريم. أنه اختارها وأعطاها النعمة والقدرة لتصبح أماً لابنه. نشيد مريم يبين الصفة المميّزة لشخصية مريم بالنسبة لكل الأجيال، فهي مميزة بسعادتها وطوباويتها.
نحن اليوم مدعوون للتسأل فيما إذا كانت نظرتنا لمريم وعلاقتنا بها مرتكزة على هذا. إن مريم هي فعلاً طوباوية ومصدر للسعادة. فكلما تعمقنا بتأملنا بما صنعه الله بقدرته ومحبته تجاه مريم، كلما نلنا نحن أيضاً هذه السعادة وسترافقنا في مسيرتنا الإيمانية أكثر فأكثر.

٦. أُمنا: يذكر إنجيل يوحنا ما يلي: "فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبها التِّلميذُ الحَبيبُ إلَيه. فقالَ لأُمِّه: أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ. ثمَّ قالَ لِلتَّلميذ: هذه أُمُّكَ. ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه" (يو ١٩، ٢٦ - ٢٧).
   يلتفت يسوع أولاً لأمه، ويعطيها مهمة جديدة وعظيمة، إنها بالفعل لرسالة: ينبغي عليها أن تُصبحَ أمًّا للتلميذ الذي يُحبه يسوع (قارن يو ١٣، ٢٣؛ ١٨، ١٥ وألخ؛ ١٩، ٢٦؛ ٢٠، ٢ ـ ٨؛ ٢١، ٧ ـ ٢٠). بالرغم من أن يسوع يحب هذا التلميذ بشكل مميز، إلاَّ أنه أعلن محبته لجميع التلاميذ (يو ١٣، ٣٤؛ ١٥، ٩). الكلمات المُوجهة من قبل يسوع لأمه توازيها من جهة أخرى الكلمات التي يوجهها للتلميذ، حيث ينبغي على هذا التلميذ قبول مريم أم يسوع ويعتبرها أمّاً له.
إذن يسوع نفسه هو من يوحد أمه مع تلميذه. أنه يقوم بذلك في الساعة الأخيرة من حياته، وهو معلق على خشبة الصليب، حيث تبلغ محبته لخاصته إلى ذروتها (يو ١٣، ١). وبعدئذ يعلن الإنجيلي، قائلاً: "كانَ يَسوعُ يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ قد انتًهى" (يو ١٩، ٢٨)، أي أن الرسالة المُوكلة إليه من قبل الله الآب قد تمت (قارن: يو ٤، ٣٤؛ ٥، ٣٦). عندما يوحد يسوع بين أمه وتلميذه، لا يتمم فقط وعده بمحبته لخاصته وجعلها تصل إلى ذروتها فحسب، وإنما يؤدي أيضاً آخر مهمة ملقاة على عاتقه من قبل الآب أي تتميم كل شيء. فلنحاول فهم أساس وأهمية هذه الوحدة بين أم يسوع وتلميذه. بالتأكيد قد تتعلق القضية أيضاً بما يجب أن يقدمه تلميذ يسوع من العناية لأم يسوع التي بقيت الآن لوحدها، ولكن هذه العلاقة بين أم وإبنها لا ينبغي أن تكون فقط من طرف واحد. فقبل أن يقدم إبنا ما خدمة معينة لأمّه، تقوم هي بالكثير تجاههُ. كيف علينا إذن أن نفهم هذه العلاقة بين الأم والتلميذ الذي أصبح كابن لها؟ بالنسبة لإنجيل يوحنا هذه العلاقة تتصف بحقيقة أن أم يسوع لا تدعى أبداً باسمها "مريم"، وإنما منذ أول ذكر لها (يو ٢، ١) تدعى دائماً "أُمُّ يسوع"، أو "الأم". ومن جهة أخرى، لا يوضح الإنجيل المقصود بمصطلح "الأم". إن هذا المصطلح يجري التعامل معه كبقية المصطلحات الجوهرية في هذا الإنجيل، مثل: الماء، الخبز، النور، الباب، الراعي، الطريق، الحياة، الكرم، والخ. هذه المصطلحات لا يشرحها الإنجيلي، ولكنه يستخدمها كتعابير أساسية. ولهذا كل قارئ منذ البدء ينبغي أن يعرف معانيها وقيمتها.
   مصلطح الأم مميزٌ، لأن الأم تعطي الحياة، وهي تكرس ذاتها لخدمة الحياة بشكل أساسي وغير قابل للتبديل. ليس بمقدور أي مرءٍ ولا حتى إبن الله أن يولد ويبدأ حياته وينمو من دون أم. الأم هي الأقرب إلى الحياة، ولهذا هي أهم حتى من الخبز والماء والنور.   
   مريم هي أم يسوع، وبالتالي وجودها له دورٌ أساسيٌ لحياة كل تلميذٍ ليسوع. فمن خلالها ومن خلال خدمتها ينبغي علينا أن نقبل ذاك الذي بواسطته تُفتَح لنا آفاق الحياة بملئها. بخصوص يسوع كونه الكلمة المتجسد وابن الله، يقول الإنجيل: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبناء الله" (يو١، ١٢). فكوننا أبناء الله، لدينا حياة جديدة غير قابلة للفناء، وبواسطة إبن الله ننال هبة الدخول بالشركة مع الله الآب. وعندما نقبل مريم كأمنا، نعترف بما وُهِبَ لنا بواسطة إبنها وبواسطتها. ونؤدي الإكرام لله ذاته حينما نعترف وندرك الطريق الذي اختارهُ، وعندما لا نغض النظر عن أحد، وإنما نعترف بالأشخاص والمهمات الملقاة على عاتقهم، كونه الله ذاته إختارهم وأمرهم ليعملوا من أجل حياة وخلاص الكل. إن يسوع، وهو معلقٌ على خشبة الصليب، أعطانا مريم كأمّ لنا، مُتمِماً بذلك الرسالة التي أوكلها إياه الله الآب.

الخاتمة: هنالك مقاطع قليلة في الإناجيل تتحدث عن مريم. ولكن هذا القليل الذي ورد ذكره عما صنعه الله من خلال مريم، وكلما يتعلق بها وبإبنها غنيٌ جداً بمعانيه، وهو منهل سعادة غير متناهية. فإذا أردنا الإنضمام إلى الذين يدركون ويُقيّمون في أعماق كيانهم بما صنعه الله من العظائم بواسطة مريم، فسننضم بالتالي إلى هؤلاء الذين من خلالها وبالاقتداء بها والعمل بوصايا ابنها وإعلان بشارة الخلاص، سينالون السعادة وسيُعتبرون طوباويين على مثالها ومثال ابنها وربنا ومخلصنا يسوع المسيح.

https://www.libreriadelsanto.it/libri/9788873574743/la-buona-notizia-portata-da-maria.html