المحرر موضوع: ذكريات - الهروب من معتقل خلف السدة  (زيارة 2012 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Jassim Al Halwai

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 6
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذكريات

الهروب من معتقل خلف السدة
(1 ــ 3 )

جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
عندما قلت لزوجتي ماجدة وبثقة تامة " لاتقلقي إنني سأهرب لو القي القبض علي"، كان بودي أن لا يتسرب اليأس الي قلبها ولكي تبقى ، في حال إعتقالي ، بمعنوية عالية ، و تنتظر عودتي اليها في أية لحظة . وماذا لو طال أمد إعتقالي؟ وهل من الصحيح وهي شابة دون العشرين أن تبقى تنتظر ، ربما ، لسنوات طويلة؟ أليس في ذلك أنانية في موقفي ؟ لم تخطر ببالي تلك الأسئلة آنئذ . وعندما خطرت ببالي لاحقا ، أرضيت ضميري ، معللا الأنانية بحبي لزوجتي ، والحب لايخلو من الأنانية .

في خريف 1964، وعندما كنت سكرتيرا مؤقتا للجنة التنظيم المركزي للحزب الشيوعي العراقي ، إلتحق بأجهزتها الشهيد جواد عطية منتقلا ، مع اختيه ، من مدينة النجف الى بغداد ، وهي مكان إقامتهم ، قبل إنتقالهم الى النجف للإختفاء فيها على أثر إنقلاب شباط الفاشي . كانت ماجدة ، تلي جوادا في تسلسل اخوته، تنشط  كمراسلة بين منظمة النجف وقيادة منطقة الفرات الأوسط التي أقامت في الريف بعد إنقلاب شباط ، ولاحقا ، بين الأخيرة والمركز الحزبي في بغداد . كل ذلك وهي لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها! تعرفت عليها وطلبت يدها من أبيها وأخيها وبعد موافقتهما عقد قراننا في بيت جابر الحكيم (أبو عادل) في بغداد ـ كرادة خارج ، بحضورعائلتي أبو عادل وباقر إبراهيم ومرجعي الحزبي صالح الرازقي ، وبحضور السيد الذي قام بمراسم عقد القران ، وفقا لسنة الله ورسوله . ذكرت هذه التفاصيل ، متعمدا، ردا على الدعايات والتخرصات المعادية للشيوعيين والتي تدعي ، زورا ، إستهتارالشيوعيين بالعادات والقيم الإجتماعية. الملاحظة الوحيدة التي سمعتها من السيد هي إن لبس خاتم (حلقة) الذهب حرام ، فخلعت الخاتم ووضعته في جيبي . وبعد خروج السيد لبست الخاتم ثانية ، لقناعتي بأنه غير مخالف للقيم الإجتماعية . وتزوجنا بإقامة حفل بسيط لم يتعد الضيوف فيه أصابع اليد الواحدة ، ولم يكلف زواجنا الحزب أكثر من مئة دينار.. وعندما أعتقلت كان عمر إبنتنا البكر شروق شهرا واحدا.

في مساء 21 تشرين الأول 1965 عندما كنت قادما من مدينة الثورة متوجها الى بيتنا في الكرادة ـ  خارج، مستخدما سيارة أجرة (فورد) تسع 14 راكبا، كان علي تبديلها باخرى من نفس النوع في ساحة التحرير. وقد قمت بذلك فعلا وكنت الراكب ما قبل الأخير في السيارة، اما الأخير فصعد مسرعا وهو يلهث وجلس في المقعد الفارغ الوحيد أمامي مرتبكا. شككت في أمره، وفكرت بأن أرشيه وكنت قد إستلمت للتو مالية منظمة مدينة الثورة. تحركت السيارة، وما أن وصلنا الى مكان هو الأقرب الى مديرية الأمن العامة، حتى طلب الراكب الأخير من السائق التوقف وطلب مني الترجل قائلا:

 ـ تفضل أخي إنزل وياي. ترجلت وسألت:
ـ شتريد مني؟ تعرفني؟
ـ إمشي وياي للأمن.
ـ شراح إتحصل لو وديتني للأمن؟ أنطيك 50 دينار واتركني لحال سبيلي.
ـ تريد ترشيني إمشي إمشي وياي. ( بصوت عال)   

كنت اجرجر نفسي واجرجره معي الى منعطف قريب لكي أحاول الهرب ، فعرف قصدي فسحب مسدسه وأطلق إطلاقة واحدة في الهواء، فتجمع الناس وبينهم أفراد أمن راحوا يدفعونني ويحثونني للذهاب معه، وأنا أصيح محتجا على إعتقالي مسببا ضجيجا بودي أن يصل الى أوسع دائرة، لعله يصل الى الحزب. كان معي بعض الورقيات من لجنة منظمة الثورة رميتها بعيدا عني، عندما يأست من الهرب. أغلق أفراد الأمن فمي ووضعوا الأصفاد  في يدي. وبعد دقائق معدودة أصبحت وجها لوجه أمام مدير الشعبة الثالثة الخاصة بالشيوعيين، والذي عرفت إسمه لاحقا محمد صالح، والورقيات التي "تخلصت" منها أمامه على المكتب.

 كانت العلاقة بين الحزب وسلطة عبد السلام عارف عدائية. ففي نيسان من نفس العام كنا قد رفعنا شعارأ يدعو لإسقاط السلطة ، بإعتبارها سلطة عسكرية ودكتاتورية ورجعية. وذلك في إجتماع للجنة المركزية، حضره كل من سلام الناصري وعامر عبد الله وآرا خاجادور وحميد الدجيلي وناصر عبود وتوفيق أحمد وصالح دكلة وحسين سلطان وبهاء الدين نوري وأنا ، أقر رفع الشعار بالأغلبية ، وقد تحفظ على ذلك بهاء الدين نوري الذي طالب بالإكتفاء بطرح البديل ، وهو إقامة حكومة إئتلاف وطني ديمقراطي .

قبل خمسة أشهر من القاء القبض علي ، وجهت للحزب ضربة قوية بكبس المطبعة الرئيسية وإلقاء القبض على سليم إسماعيل والعاملين معه في الجهاز، ومن ثم القي القبض على عضو اللجنة المركزية صالح الرازقي ، الذي إنهار في التحقيق وأرشد على بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، حيث القي القبض عليه . ونصب الأمن كمينا في البيت إنتبه اليه عضو اللجنة المركزية الشهيد حميد الدجيلي ، فهرب محاولا الفرار فقتلوه رميا بالرصاص . لم تؤثر تلك الضربة على منظمات الحزب وخاصة منظمة بغداد التي اعيد بناؤها ، وكنت سكرتير لجنتها القيادية ، عند إلقاء القبض على صالح الرازقي. وأصبحت عضو مكتبها عندما نسب سلام الناصري، عضو المكتب السياسي ، سكرتيرا لها . 

أصعب إمتحان في حياتي

عندما أصبحت في المكتب وجها لوجه أمام مدير الشعبة محمد صالح كان عدد من جلاوزة الأمن يحيطون بي ويشيعون جوا إرهابيا . بعد أن فتشوني تفتيشا دقيقا ، وجدوا عندي حوالي 60 دينار ، ولم يجدوا عندي أي مستمسك ، قال محمد صالح:

ـ إسمع جاسم إحنا نعرف كل شي عنك . انت عضو لجنة مركزية وسكرتير لجنة منطقة بغداد . أحسن لك إتصير عاقل وتعترف من هسَ (الآن) قبل ما يروح جلدك للدباغ ، أو تالي هم تعترف ، لأن أحنا ما ممكن إنجوزمنك .

لم أشك بأن الإمتحان الذي سأمر به سيكون مختلفا عن كل الإمتحانات  التي مررت بها ، سابقا ، أمام الجلادين . فأنا صيد دسم بالنسبة لهم . فمفاتيح أكبر وأهم منظمة للحزب عندي . والطريق الوحيد لإجتياز هذا الإمتحان الأصعب في حياتي هو أن يقتنع مسؤولي الأمن بأني صلب وغير قابل للإنكسار. قررت إتباع نفس الإسلوب الذي إعتدته أمام الجلاوزة ، الإجابة على قدر السؤال ، عدم إستفزاز الجلادين بدون مبرر، عدم إظهار أية نقطة ضعف بما في ذلك " أن لا أدعهم يرون الخوف في عيني". أجبت على سؤال محمد صالح:

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ وين إتقيم ؟
ـ في غرفة عند عائلة متعهد ما أسبب إلها  إزعاج .

ما ان أنهيت كلامي ، حتى إنهال علي الجلاوزة شتما وضربا بالأيدي و ركلا بالأرجل ، مطالبين أن أدلهم على مكان إقامتي . عندما توقف الجلادون السفلة عن الضرب والشتم ، سأل محمد صالح: تعترف لولا ؟

ـ ما عندي شيء أعترف عليه .
ـ أخذوه خلي يشوف نجوم الضحى .

أخذني  شرطي ، رئيس عرفاء ، ماسكا معصمي بقوة ومعه حوالي خمسة جلاوزة آخرين . أدخلوني ممرا طويلا وواسعا نسبيا إنعطفنا فيه مرة أو مرتين الى اليمين وإنتهى بفسحة صغيرة . دفعوني اليها وبيدهم هراوات وصوندات خاصة للتعذيب .
 
قبل إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 كانت لدينا بعض التقاليد عند تعرض المناضل للتعذيب نعتبرها حميدة، على سبيل المثال لا الحصر عدم التفوه بكلمة (آخ).  بعد الأنقلاب لم تعد تلك الإعتبارات ذات قيمة تذكر . المهم عدم التفوه بأسرار الحزب أو ما يسيء اليه .
 
لذلك ما أن نزلت الهراوات على جسمي النحيل حتى بدأت بالصراخ ، صراخ قوي وصل الى آذان فؤاد الركابي وزميله أحمد الحبوبي ( وكانا معتقلين في دائرة الأمن العامة آنئذ )، رغم إنني لم ألحظ أي منفذ في القبو! وقد أوصلا الخبر للحزب . كان الصراخ وسيلتي للدفاع عن نفسي ويخفف الآلام عني ويزودني بطاقة للمقاومة. وعندما إشتد الألم وأصبح هائلا حاولت أن أمسك إحدى الهراوات لادافع بها عن نفسي . وفعلا أفلحت أخيرا أن أمسك بقبضتي على إحدى الهراوات فقرفصت نفسي عليها بكل قوة محاولا إنتزاعها ، بدون جدوى . ولم ينتزعوها مني الا بعد إنهيارمقاومتي ووقوعي هامدا لنفاد طاقتي ، ولكن لم أفقد وعيي . توقف الضرب ، وقبل أن يتوقف لم أكن أحس بألم الضربات لتخدّر جسمي . كنت قد سمعت بنظرية ، إن الجسم يتخدر بالتعذيب وبعدها لايشعر المرء بألألم ، ولم أصدقها إلا بعد هذه التجربة!!               

أوقفوني ، وتأبطني أحدهم ليساعدني في السير. وفي الطريق قال لي رئيس العرفاء  "إحمد ربك ما وكعت بيد عقائديين"  يقصد بيد البعثيين . وضعوني ، مدميا ، في غرفة لوحدي . وبعد فترة قذفوا علي كمية من القطن. وعندما كنت مشغولا بتنظيف جروحي ، وإذا بشرطي يدخل صالح الرازقي الى الغرفة ويغلق الباب خلفه . تظاهرت بأني لا أعرف بإنهياره ،  في الوقت الذي ساورتني الشكوك بأن يكون هو الذي ساعد الأمن لإلقاء القبض علي . وقد تأكد لنا لاحقا، بأنه كان يخرج يوميا مختبئا في سيارة الأمن ويترصد الكوادر في ساحة التحرير . قال لي صالح الرازقي أسوء مايمكن أن يقال لي وأنا في تلك الحالة :

ـ ما راح يجوزون منك .
ـ أدري .

في صباح اليوم التالي أخذوني للتحقيق ثانية . المكان مكتب معاون المدير . الأجواء نفس الاجواء الإرهابية، عدد من الجلاوزة واقفين على أهبة الإستعداد للإنقضاض علي . والمحقق معاون المدير .

 ـ إنت عضو بالحزب الشيوعي العراقي ؟
 ـ نعم
ـ إحجي لنا شنو مسؤولياتك ؟ شنو تنظيماتك ؟ منو يشتغل وياك ؟ إذا حجيت وتعاونت بالتحقيق ، أحنا نساعدك . والعناد ما يفيدك ، تأذي روحك بالبلاش . صير خوش ولد وإحجي .
ـ آني عضو بالحزب ومن واجبات العضو الحزبي أن يصون أسرار الحزب . والمعلومات اللي تريدها أسرار حزبية .
ـ شوف.. شوف كام يتفلسف براسنا إبن ... يبين بعده معاند . اخذوه خلي يشوف عناده وين يوصله . 

يتبع
------------------------------------------                                           
الهروب من معتقل خلف السدة
(2 ــ 3 )
[/b]

 


جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
أخذوني تحت درج ، وثقوا يدي من الخلف بحبل وراحوا يسحبون الحبل الى الأعلى تدريجيا ، وطوال الوقت يطلبون بإلحاح أن أعترف (إعترف أحسن لك) إنطوت يداي الى الخلف وراح كتفي يؤلماني . وإشتد الألم عندما إرتفعت قدماي عن الأرض. مع مرور بعض الوقت دخلت في حالة نفسية صعبة جدا، بعد أن ترك الجميع المكان وحل فيه سكون تام .  كنت مستعدا أن أعطي أي شيء أملكه حتى لو كان الف قصرا! أو مئة مليار دولار! لكي تلامس قدمي أي شيء صلب. كنت أرمي بجسمي الى الأمام عسى أن تلامس للحظة الجدار الذي أمامي ، ولكن دون جدوى، فقد كان الجدار أبعد من أن تلامسه قدماي. وعندما إقترب مني أحد أفراد الأمن، ( نفس الشخص الذي القى القبض علي ) محاولا أن يكويني بسيكارته، ربما ليتأكد من إني لم أمت بعد، تلقفته برجلي مشبكا إياها عليه بكل قوة . كنت مستعدا أن أخرج روحه من جسده ، على أن لا أرجع للوضع السابق . إستنجد بالجلاوزة ، فساعدوه وأنقذوه مني ، وإبتعدوا مرة أخرى. في ذلك السكون كنت مستعدا ان أموت فعلا، بدلا من الوضع الذي كنت فيه، فأية آلام عاناها الشيوعيون الذين إستشهدوا تحت تعذيب أقسى على يد البعثيين الفاشست؟ قفز هذا السؤال الى ذهني ، ومرت في خاطري وجوه الشهداء الذين سبق وأن إلتقيت بهم وتعرضوا للتعذيب حتى الموت ـ  سلام عادل ومحمد حسين ابو العيس وجمال الحيدري وحسن عوينة ونافع يونس، ومحمد موسى وعبد الأله الرماحي ، وقد ساعدني ذلك على الصمود .
عندما كنت معلقا لخص الجلاوزة مطلبهم بان أرشدهم الى مكان مواعيدي الحزبية، لكي ينزلونني الى الأرض. عندما لم يحصلوا على نتيجة ، طلبوا إسمي الحزبي فقط ، لم ألب طلبهم ، رغم أنني أعرف بأن ذلك لم يعد سرا، بعد إعترافات صالح الرازقي ، لأنني كنت أعرف بأنهم سيحاولون إستدراجي . قد يعتبر البعض بأن موقفي متزمتا أولا ينم عن ذكاء. ولكن التجارب تشير، كما ذكرت ذلك في هامش إحدى مقالاتي ، بأن العلاقة بين الأجهزة القمعية والقوى التي تتعرض للقمع لم تكن ولايمكن أن تكون لعبة ذكاء وغباء كما يظن بعض مدعي الذكاء. إنها صراع بين قوة غاشمة بإمكانيات غيرمحدودة تريد أن تجبر المرء على المساومة، بأي شكل من الأشكال، وحدها الأدنى إخراج المناضل من حلبة النضال أو كسر شوكته من جهة، وإرادة إنسان حريص على مصائر رفاقه ويأبى المساومة على أسرار حزبه ومعتقداته وقضية شعبه وكرامته وعلى حريته كإنسان ، من جهة أخرى .
في اللحظة الأخيرة من تعليقي تحت الدرج ، إقترب مني أحد أفراد الأمن وقال لي "إسمك ناهض مو؟ " في تلك اللحظة لم أكن قادرا على لفظ أية كلمة ، مستسلما لقدري أعاني ، بلا مبالغة ، من سكرات الموت . وإذا بالذي تلفظ إسمي الحزبي يصرخ "إعترف.. إعترف يكول إسمي ناهض". عندما أنزلوني شعرت للحظات بأني بدون أيدي ، فقد كان القسم العلوي من بدني مخدرا. أخذت أتلفت يمينا وشمالاٌ قبل أن يدير الجلاوزة يداي المخدرتين ليعيداهما الى محلهما.

توقفوا عن تعذيبي وزجو بي في موقف مديرية الأمن العامة التي تحوي مجموعة زنازين، تفتح أبوابها نهارا وتغلق ليلا. كان الشيوعيون يحتلون جهته اليمنى والبعثيون جهته اليسرى. التقيت هناك بعمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الستجري وجورج يعقوب . كان الجو العام أفضل بكثير من سجن بعقوبة الإنفرادي في العهد الملكي . فهنا تدخل الصحف والمجلات بما في ذلك المجلات المصرية كالكاتب والطليعة ويسمحون بالأوراق والأقلام  ولدينا شطرنج وطاولي. وكان إحتكاكنا بالبعثيين محدودا.
بعد حوالي إسبوع إستدعوني لتسجيل إفادتي . وإستغربت في البداية أن يجري ذلك يوم الجمعة ، ولكن ظهر إن ذلك طبيعي في هذه الدائرة . كان المحقق ملازم حازم وحده . إستقبلني بشيء من الإحترام وقدم لي قهوة وسيكارة، وشرع يكتب بيده إفادتي . أنكرت المبرزات التي "تخلصت" منها عندما القي القبض علي . أنكرت سبع رسائل بإسمي الحزبي ، وأنكرت إسمي الحزبي معها . واجهني المحقق بمقتطفات من إفادة صالح الرازقي وكانت في ملف أمامه. كذبت إدعاءات الرازقي، وطلبت مواجهتنا. كنت أتمنى أن يتم ذلك ، لكي أأنبه على خيانته للحزب . أكدت مجددا بأن واجبي كعضو في الحزب هو أن أصون أسرار الحزب، ردا على بعض الأسئلة . أخيرا قال لي المحقق:
ـ إشلون أقدم مثل هالإفادة للحاكم؟
ـ بسيطة ، قدمني وي الإفادة لحاكم التحقيق .
لقد أغراني السلوك المؤدب والإيجابي للمحقق وخلو الدائرة بسبب العطلة وثقتي بالنفس بعد إجتياز الإمتحان الصعب في اليومين الأولين من إعتقالي ، الى محاولة  كسب المحقق للتعاون معنا!؟. وقد قطعت شوطا معينا في التمهيد لذلك . وردا على رأيه بأن الحكومة قوية والحركة ضعيفة قلت له: " تصور إن جلستي هذه مع أحد مسؤولي هذه الدائرة في يوم 13 تموز 1958، فهل كان يقول غير الذي تقوله أنت الآن ؟ ولكن يوم 14 تموز برهن إن الحكومة ضعيفة والحركة قوية. وبعد أن عرف نواياي ، عندما قلت له من الممكن أن يقدم أي إنسان ، من موقعه ، خدمة للحركة ، إخشوشن وذكرني بأني في جلسة تحقيق ، وطلب مني عدم التدخين! ومن ثم أنهى اللقاء ، بعد أن طلب مني أن أوقع إفادتي . قرأت الإفادة ووقعتها . 
كان كبس مطبعة الحزب الرئيسية في صيف 1965، وإلقاء القبض على الكوادر العاملة في هذا الجهاز وإنهيار صالح الرازقي وكبس بيت توفيق أحمد عضو اللجنة المركزية ، والذي كان مركز عمل لجنة التنظيم المركزي( لتم )، وإلقاء القبض على توفيق وإغتيال حميد الدجيلي عضو اللجنة المركزية ، بمثابة أقوى ضربة للحزب بعد إعادة بنائه. فجاء موقفي الجيد في التحقيق، حيث لم تمس لا تنظيمات بغداد ، ولا ما أعرفه من أسرار أخرى بأي سوء بعد إعتقالي ، بلسما شافيا للحزب. لذلك أشاد الحزب بموقفي في نشرته الداخلية المعروفة "مناضل الحزب" مبرزا قولي في التحقيق: " إن واجبي كعضو في الحزب، هو صيانة أسرار الحزب."
كان توفيق أحمد متحمسا للهروب حتى أكثر مني ، فبين فترة وأخرى كان يعرض علي مشروعا للهرب من مديرية الأمن العامة!؟ ورغم خيالية مشروعاته فقد كنت أستمع إليه وأناقشه بجدية وأأمل بإيجاد مشروع واقعي فيه نسبة معقولة من النجاح. وعندما سجل الحارس أسماء من يرومون مراجعة العيادة ، سجلت إسمي ، بإقتراح من توفيق في القائمة ، لمعالجة بعض أصابع يدي التي كانت شبه مشلولة من التعليق تحت االدرج . وايضا ، عسى أن تتوفر لي فرصة للهرب ، ولكن المسؤولين رفضوا خروجي للعيادة وأبلغوني بأن ذلك ممنوعا علي ، بدعوى إني خطر، في حين سمحوا للآخرين.
عندما كنا في هذا الموقف وضعوا معنا شابين صغيربن من مدينة الثورة وهما نعيم الناشيء ولطفي حاتم ( أبو هندرين) من منظمات حزبنا في مدينة الثورة. وكان موقفهما جيدا في التحقيق. لم يكن لطفي يتجاوز السادسة عشر من عمره. وعندما هددوه في التحقيق بالإعتداء الجنسي عليه ، رد عليهم ردا واعيا وفريدا من نوعه، فلم يكرروا تهديدهم ذاك مرة أخرى! وكان لطفي موضع ثقتنا . وعندما نقلوه الى معتقل خلف السدة ، وضعوه في قاووش آخر، كنت أزوده ، سراً ، بأدبيات الحزب وبعض المساعدة المالية .
كان لدينا في الموقف راديو صغير سري، نسمع منه الأخبارمساء، عندما تغلق أبواب الزنزانات علينا، ونعممها على الاخرين صباحا. ومن الذين كنا نزودهم بهذه الأخبار شاب بعثي إسمه وهاب من الناصرية. كان موقفه جيدا في التحقيق، خلافا للآخرين من حزبه الذين كانوا يبررون مواقفهم الضعيفة ، كأمر طبيعي ، بشدة التعذيب. وتحول إعجاب وهاب بمواقفنا الصلبة في التحقيق الى صداقة وثقة متبادلة الى حد ما .
كان يسألنا من أين نحصل على الأخبار، كنا نعطيه إجابات مبهمة . في إحدى المرات قلنا له: " بأن مصدر أخبارنا رئيس العرفاء صيوان وإن غدا دورك للحصول على الأخبار منه وتزويدنا بها . وما عليك سوى إخباره بأن توفيق أحمد أرسلك اليه . وكان صيوان حارسا علينا وهو فض الطباع . وقد ذهب وهاب الى صيوان في اليوم التالي . فما أن سمع صيوان طلب وهاب ، حتى أعطاه دفعة قوية ليبعده عنه . وعندما عاد الينا بررنا موقف صيوان بعدم ثقته بالبعثيين! أعدم وهاب ضمن مجموعة من قبل قيادة حزب البعث ، على الأرجح ، في عام 1974، ولم أتمكن من معرفة الأسباب ، ولكن الذي أعرفه بأنه كان إنسانا نظيفا. 
بعد فترة وجيزة نقلنا جميعا الى معتقل خلف السدة. وكان مدير المعتقل العقيد إبراهيم السلامي . كان هذا المعتقل معسكرا للجيش بالأساس، وهو غير محاط بالأسوار، بل بالأسلاك الشائكة. وعندما كنا نتجول في الساحة، في الأوقات المسموح بها لنا، كنا نشاهد حركة المرور في الشارع الرئيسي ، عندذاك تمر لحظات على المرء ينسى فيها كونه معتقلا، تماما كما هوالحال عند إستغراق المرء في لعبة الشطرنج في المعتقل. وكان المعتقل يحوي العديد من القواويش ( القاعات) الكبيرة الذي يتسع الواحد منه لحوالي 60 شخصا. وفيه حانوت صغير ومكتبة أيضا.
حراسة المعتقل تتم من قبل شرطة القوة السيارة ( شرطة عسكرية) وهي غير ثابتة، فسرية الحراسة تتبدل كل ثلاثة أشهر. وخلال التبديل ، الذي يستمر وقتا لا بأس به، يختلط الحابل بالنابل، لعدم معرفة أفراد السرية الجديدة بالسرية القديمة. فحينذاك يتمكن أي معتقل مرتديا ملابس الشرطة أن يحمل (يطغ) بضع بطانيات ملفوفة على كتفه ويخرج من المعتقل بدون سؤال وجواب. تقررهروب أربعة وهم كل من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأنا بملابس الشرطة. في أول مواجهة لزوجتي مع إبنتنا الصغيرة شروق جلبت لي فراش (دوشك) فيه بدلتين كاملتين من ملابس الشرطة ، ودخل (دوشك) مماثل في نفس المواجهة .
وقام بإخفاء ملابس الشرطة في الدوشكين، بعد إستلامها من أحد الرفاق ، أخي حميد ، الذي كان يعمل ندافا آنئذ. توفرت لدينا أربع بدلات شرطة، ولكن بعد فوات الآوان. فتنفيذ الخطة بات مستحيلا، فقد هرب عبد الحسين مندور، وهو من جماعة سليم الفخري، بنفس خطتنا، من أحد القواويش؛ فإتخذت إدارة المعتقل جملة من الإجراءات، أدت الى إنعدام أية إمكانية لإستخدام الخطة المذكورة مرة أخرى.
كانت هناك خطة أخرى إستبعدناها لأنها لاتتسع لأكثر من شخصين. وعندما وصلنا خبر يفيد بأن السلطات تنوي نقلنا الى سجن نقرة السلمان الصحراوي، قررت اللجنة الحزبية، وكانت تتكون من عمر علي الشيخ وتوفيق أحمد وسليم إسماعيل وأحمد الحلاق وحسين علوان وأنا، وضع الخطة موضع التنفيذ. وتقرر تهريب اثنين وهما عمر علي الشيخ وأنا.
كانت الخطة تقتضي التنفيذ في أحد أيام المواجهة وذلك بالخروج من أحد الشبابيك. وإجراء بعض التغيير على مظهرنا والإختلاط بالمواجهين الذين يتجمعون عادة، بعد إنتهاء المواجهة، لفترة قصيرة، خارج القاعات وراء الشبابيك ، ريثما يجري تعداد المعتقلين في جميع القاعات.
ولكي يأخذ الحرس وطاقم إدارة السجن مواقعهم في نقاط التفتيش العديدة، التي يمر بها المواجهون عند خروجهم، مادين أيديهم ليظهروا أثر الأختام عليها. وكانت أخطر هذه النقاط ، هي النقطة الأولى ، حيث يقف طاقم الإدارة بما فيهم المدير والضباط والمراتب والعديد من الحراس، وبينهم بالتأكيد بعض عناصر الإستخبارات العسكرية، في صفين متقابلين ويركزون على الوجوه، فيما تركز النقاط الأخرى على رؤية الختمين اللذين يختم بهما المواجهون عند دخولهم المعتقل، والختمان أحدهما بيضاوي على اليد اليمنى والآخر مربع على اليد اليسرى.

يتبع[/size]