المحرر موضوع: رحلة ايمانية من بين النهرين  (زيارة 1082 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل الأب نويل فرمان السناطي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 169
    • مشاهدة الملف الشخصي
رحلة ايمانية من بين النهرين

الأب نويل فرمان السناطي
عن محاضرة في مدينة ملبورن استراليا - آب 2017
* عدسة المصور سمير نونا صفار

لقد رأيت أن اقدّم هذا الموضوع، كشهادة مطروحة من زاوية صحافية أنثربولوجية، متعشقة بما دعاني إلى ان اقبل الكهنوت كمنحة مجانية، فيما قارنته بدعوة عمال الساعة الاخيرة، وأن تشمل المشاركة جانبا مما  يجعلني في الغرب، اتملّى بإيماني أمام مجتمع حديث الايمان، وأقدم الموعظة كمن يحضّر لتحقيق صحافي او مقال افتتاحي... كنت أسعى خلال ذلك قدر إمكاني البسيط للاستجابة المتجددة لنداء بطرس الرسول (كونوا مستعدين لأن تقدّموا جوابا مقنعا لكل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي في داخلكم 1 بطرس 3: 15.) وان استلهم في ذلك من ولادتي في  بيئة ترى أنها تفهم بيئة يسوع وما ساقه من أمثال ورموز في احاديثه وما عُرض في الانجيل من أحداث لا غرو ان اشارت اليها اللوحات الفنية العالمية ولكن جانبا منها ما كان يعكس المشهد كما عايشناه، اضافة الى اننا أصبحنا في أماكن متعددة من الغرب أمام جمهور، يكاد لا يعرف الا تاريخه المباشر والقريب.

قصة قائمة مستمرة
أجل إنها قصة قائمة ومستمرة، فهي ليست وصفًا لما مضى في وقته واوصلني الى الكهنوت. إنها بالأحرى انعكاس لما أدّى الى وضعي الحالي ككاهن، بقدر ما هي تأمل في يمكن من تعايش وتفاعل ايجابي مع العالم الذي حوالي. مع ما رافقني من مبادئ في السعي لتفهم معتقدات وثقافات من حولي من مؤمنين او غير مؤمنين.

معتقدات اجدادي النهرينيين
إني من أبناء بين النهرين، حيث تعامل أجدادي مع عناصر الطبيعة، وتأملوا في ما يمكن ان يحكمهم، من علاقة وجدانية مع هذه العناصر، علاقة كانت اول ما شدّ هؤلاء الأجداد الى القوى العظمى في هذا الكون. فحاولت أن أقرا من هذا المنظور ما ورثه آبائي وتداولوه من عادات وتقاليد ترتقي الى عدة آلاف من السنين.
يقترب إلى فهمي ما جاء من شفاءات يسوع المسيح لما سمي برؤوس الأهلة (ريشا دسيهرا) وما رتـّله القديس افرام في تبريكات العرسان (الشمس في حرّها لا تؤذيك ولا القمر في تبدلاته: شمشا بحومّـيه لا نكـّيخ وأپ لا سیهرا بشوخلاپه.)
فانبهرت عندما سألني يوما الوالد فرمان احد معمّري قريتي، عن تفسير ما كانوا يردّدونه برهبة أمام أول ظهور للقمر هلالا وهم يرسمون علامة الصليب: بجاهك وصلاتك يا قمر (خيلوخ وصلاواتوخ او سهرا.)

مبادرة أولية من الوحي الالهي للبشر من فوق أرضنا
هناك ما يدعوني الى ان أتأمل في اولى محاولات اجدادي للانفتاح الى الحالة الطقوسية والايمانية، في زمن الميثولوجيا، معوّلا على مبادرة الله الاولى ليكشف عن وجوده من خلال الكون، الذي انبهر به اجدادي. فكانت الذبائح الى عناصر الطبيعة: القمر، الشمس، الرعد... اولى اشارات تجاوب اجدادي مع جوانب خارقة من المطلق.
وفي كل هذا يسترعي انتباهي بانبهار ما يكتشف في الحقل الاريكوولجي الاثاري، فديانتي لا تقف سدّا منيعا امام اكتشافات العلم والمؤرخين بل تزوّد ابناءها بعناصر قراءتها الايمانية. مما يدعوني ان أقرأ أولى معالم التجلي الالهي للإنسان بنحو عام وابتدائي.
اسم قريتي والقرى المجاورة
فكم يكون اذن حبوري عندما ألمس أن اجزاء عديدة من الكتاب المقدس حُررت على ارض اجدادي المعروفة بكونها مهدا للحضارات. من ذلك القصة التعليمية للطوفان والتي جاءت كقراءة تحت الوحي الالهي والإيمان بالخالق وعلاقته مع البشر. من ذلك ملحمة  كلكامش، وما جاء في قصة الطوفان ونوح، مما ترك اثره على ذاكرتنا الجمعية، وبضوئها، تفاعلت مع ما طرحه المؤرخون من مضامين تسمية عدد من قرانا عندما تكشف لي ان القرية التي ولدت فيها (اسناخ – سناحت - سناط) وجدت جذور اسمها في المراجع الكتابية، تحديدا في قصة نوح والطوفان، حيث رست سفينة نوح: اس نوخ، المكان الذي ارتطمت فيه مرساة سفينة نوح... هذه القرية وعدد من القرى المحيطة، في ما نظر اليه كإشارة إلى أن هذه القرى تعدّ أبناءها منحدرين من جيل الانسانية الجديد لما بعد نوح. على وفق ما ذكره المؤرخ الدومنيكي الأب حنا فيـّيه، في كتابه آشور المسيحية، وهي  قرى مثل: دشتتاخ زرناخ، أپراخ، درناخ، گزناخ و ديرابون (وهذه الاخيرة تم تفسیر اسمها على انه تكتمل بهذا النحو: دير أبون نوح)...
 فكانت القراءة في قصة نوح ضمن مؤشرات العلاقة بين الله والانسان، على ضوء ما كان من دلالات وردت في ملحمة كلكامش الشخصية الاسطورية السومرية ، وما تلقّـاه عن جده اتونابشتم، بشأن مخطط كشفه له مُحبه احد الاله (أيا) عن هلاك الجنس البشري، مما دعاه الى انشاء الفلك بغية الخلاص من الطوفان. كما ان ثمة نظرة متصوفة عن شجرة المعرفة، وما قورن مع انفتاح كاتب سفر التكوين إلى  أول تعامل للانسان مع عناصر الخير والشر، والعلاقة مع الخالق. ووجدت هذا على ضوء انفتاح كنيستي، خصوصا مع انطلاق بحوث الكتاب المقدس، في القرن العشرين، للتجاوب الإيجابي مع  المعطيات العلمية والتاريخية وقراءة لعناصر الميثولوجيا في بلاد بين النهرين  من منظور الوحي في الكتاب المقدس.

بين النهرين وصلة الترابط بين الديانات "الابراهيمية"
على ضوء هذا تفاجأت باستغراب شديد خلال زيارة الى الارض المقدس (2013) لمتحف تاريخي في أورشليم، بمقارنة رأيتها تمتاز بالسطحية والادّعائية والسذاجة عندما اكتفوا بالقول ان اليهودية قدمت للبشرية كلا من تفرعات المسيحية والإسلام ... بينما من خلال رحلتي الايمانية، وما اجريته من مشاركات بشأن جذور ايماني، بقيت أتأمل بدهشة و بنحو معاكس، ان اجدادي هم الذين اعطوا للبشرية، مفهوما ايمانيا دينيا وطقوسيا، تكرس بمناح متباينة، في الديانات التي تعلن كل منها الانتماء الى ابراهيم؛ ولكن العطاء وجد قمته وذروته المجيدة، من خلال ما تكرس في المسيحية التي تمثل جزءًا ديمغرافيا كبيرا على الكرة الارضية، حيث تكرس مفهوم الحمل والقربان والذبيحة.
فما وصلني من تراث أجدادي النهرينيين، وما كان من انفتاح الكتـّاب الملهمين في عدد من اسفار الكتاب المقدس، هناك ما تناغم مع الميثولوجية النهرينية في تقديم الذبائح. فكان ابراهيم أبو المؤمنين وأحد أجدادي من اور الكلدانيين، عندما أوحي اليه بشأن ما يقدّمه قربانا للخالق الذي خاطب روحه المنفتحة لتعبّـد الله، فهم بأن أفضل ما يمكن أن يقدّمه لله، هو ابنه، في ايمان كبير منه بالخلود، من خلال انصهاره مع ابنه، ويرى الآباء في هذا واحدا من أسمى رموز الايمان بالأبدية. فكان كبش الفداء حاضرا، ليحلّ محل اسحق، وكان اسحق طبقا لمفهومنا المسيحي الانجيلي رمزًا ليسوع المسيح الابن الحبيب المقدّم قربانا للخلاص.
ومن ثم فإن قرابين الفصح عند اليهود، وتقديم قرابين الاضحى في الاسلام، هي المنحدرة مما تفتقت عنه الروح البشرية في أول انفتاحها في بلاد مهد الحضارات بين النهرين، من عصارة تعاملها مع السامي المطلق، في الضحايا، ذبيحة كفارة وشكر.
ومع تطلع أبينا ابراهيم للوحدة مع الذات الالهية من خلال تقديم ابنه على المذبح، ها هو بحسب إيماني، الكلمة المتجسد، الذي اتحد بنا لحما ودما، ها هو على مذبح الشكر الاوخارستي، يدعوني للاتحاد بالله عبر ذبيحة القداس الالهي.
ومن ضمن كل ما يجذر ايماني في عمق حضارتنا النهرينية اراني امام رسالة ازاء من حولي، خصوصا اولئك الذين أومن بأن ناموس الله مكتوب في ضمائرهم بقدر كونهم يسيرون بإرادتهم الصالحة نحو خيرالبشرية. فإن ما يميزني عنهم، بنعمة مجانية، هو ان مسيحيتي لا تدعوني الى العبادة المتباعدة والمبهمة تجاه خالق بعيد منال، فهي اتحاد بنوّة حميمة مع هذا الخالق، وهي رسالتي الى غير المسيحيين تهدف الى ان ينهلوا في ارادتهم الصالحة، وفي ضميرهم الصافي، ما يعمّـق اخوّتهم مع بعض بحثا عن البنوة مع الآب والخالق.

ايقونة حية متفردة احملها مسيحيا الى العالم
اذا كانت بلادي بلاد الزقورات وبرج بابل وشريعة حمورابي، فإن شعبي النهريني بمكوناته الثقافية وارثه العريق، يحمل ايضا في صدره ايقونة حية متفردة بين الشعوب، الا وهي اللغة التي تحدّث بها يسوع المسيح، وما يصِلني بالبيئة الانثروبولجية التي عاشها يسوع وتحدث برموزها.
فيقترب إلى فهمي ضمن البيئة إياها أحداث ساقها الإنجيل منها قصة المرأة الخاطئة مع يسوع على مائدة الفريسي، والتي اقتربت الى قدميه من الخلف. لأذكر سياقات المآدب الأرضية في قرانا الجبلية المرتقية الى زمن المسيح وما قبله، و كيف كان المدعوون متمددين جانبيا محلقين حول المائدة لتأتي المرأة التائبة بقارورة طيبها، على اقدام يسوع من الخلف.
وأفهم كيف فتح الناس بسبب زحام الجمهور سقف دار لينزلوا منها المُخَلَّع بغية عرضه على يسوع  ليشفيه. وأفهم كيف كان قارع الليل، يحرج صاحب الدار فلا يستطيع ان يفتح الباب في الظلمة خشية ان يدوس على اولاده النائمين. إذ غالبا كانت تنام العائلة في الصلة الوحيدة من البيت بعد ان يطفأ سراج الزيت...
 وأفهم قول يسوع  أنه يعمل ما دام النهار... فأبناء قريتي كان يخلدون الى النوم بعد غسق الغروب، ويبكرون الى العمل بعد أول شفق للشروق، وهم يعيشون ليلهم ونهارهم بهدي من جاء ليكون نور العالم.
وثمة ما يُموسِق عندي التطويبات بلغة المسيح بنحو متفرّد، وما يجعلني أصلي المزامير باللغة عينها التي خاطبنا بها المخلص وبها كان يصلي ليلا؛ كما أن صلاة أبون دبشميا بلغة شعبي، مقارنة بنظيراتها المترجمة الى اللغات ألأخرى هذه الصلاة التي يتناغم لفظها عندي بنكهة لا تضاهي. ومن ذلك أيضا مفردات باتت الترجمات الى مختلف اللغات، ترددها، تلقى صداها في لغتي الام، لغة يسوع، عندما اسمع الانجيلي يورد عبارات مثل: طليثا قوم (يا صبية قومي) وعندما يضع على لسان المجدلية وهي تخاطب يسوع الممجد بالمفردة الحميمة (رابوني) كصيغة مصغرة من باب التحبب لكلمة رابي - معلمي.
هذه كانت جولة شمولية متواضعة في الرحلة الايمانية لابن النهرين، وهي برأيي تدعو الى المزيد من الغور،  لاكتشاف هذا التناظر بين الحضارة البشرية وتاريخها، وبين الديانات الابراهيمية؛ وعندي يدخل هذا التعمق في باب الاستجابة لنداء هامة الرسل: بأن نعطي الجواب لكل من يسأل عن سبب الرجاء الذي في داخلنا.