المحرر موضوع: إلتباسات الحرية الدينية (من وجهة نظر الرابينية)  (زيارة 1018 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

إلتباسات الحرية الدينية
(من وجهة نظر الرابينية)

تأليف رابي ديفيد ماير
ترجمة الأب ريبوار عوديش باسه
 
المقدمة:

"التاريخ مختبر للاهوت اليهودي". هذه المقولة هي للكاتب واللاهوتي اليهودي الأمريكي المعاصر رابي إيوجن بوروفيتس، يذكرها في كتابه الشهير "كيف يستطيع اليهودي الحديث عن الإيمان اليوم" (Eugene BOROWITZ, How can a Jew speak of faith today, The Westminster Press, Philadelphia, 1969, p 25). يبين بوروفيتس من خلال هذه الكلمات البسيطة بأن الفكر الديني اليهودي هو ناتج عن محاولات لإعطاء معنى لخبراتنا التاريخية كشعب يهودي. إذن التاريخ يشكل اللاهوت، وليس العكس. ففي الواقع، تجمعنا هنا اليوم (٣ حزيران ٢٠١١) وكذلك موضوع نقاشنا مبنيٌّ على تاريخ، على قصة حقيقية لشخص، لا بل فاجعة حقيقة لشخص. تواجدنا هنا في المعهد الكهنوتي الحبري الإيرلندي في روما، حيث ارتسم الأب رغيد كني كاهناً قبل عودته إلى الموصل، ومقتله هناك قبل اربعة سنوات بسبب حقد ديني وتعصب أعمى، يدعونا مجدداً للطرح على طاولة النقاش حقيقة مواقفنا تجاه مفهوم الحرية الدينية. فإذا كان التاريخ يشكل اللاهوت، فلنستلهم إذن من شجاعة الأب الشهيد رغيد شجاعة لدراسة تعاليم موروثنا الديني من دون التستر بافتراض أخلاقي مريح مفاده أن كل واحد منا من طبيعته متسامح دينياً، وينبغي الإلقاء باللائمة على الصراعات والتوترات السياسية فقط.
إن الحرية الدينية هي من المواضيع التي يتحدث عنها الناس بكثرة. وكم يحلو ويطيب لنا جميعاً الحديث عن فائق احترامنا للخيارات الدينية للآخرين، وكم عانينا نحن من التعصب الديني الذي مارسه الآخرون ضدنا في حقبات مختلفة من التاريخ. كل منا بإمكانه الحديث عن كونه ضحية وأن يشتكي من المظلومية. إذا كان هنالك جزء من الحقيقة في هذا الادعاء، فهنالك أيضاً حقيقة دينية أخرى لا ينبغي لنا إنكارها، وهي بأنه عندما تسنح لنا الفرصة وبالأخص عندما تتوافق وتنسجم القوى السياسية والدينية مع بعضها فإننا معرضون بأن نمارس التعصب الديني ضد الآخرين. في الواقع هنالك فجوة واضحة وواسعة بين وجهات نظرتنا اللاهوتية تجاه تعليمنا الديني من جهة، وحقيقة الواقع التاريخي من جهة أخرى. تدعوني هذه الفجوة لإلقاء نظرة نقدية على تقليد ديانتي بخصوص كيفية تصورها للحرية الدينية، ومحاولة الفهم بوضوح وأمانة موقفنا الفعلي من المفهوم المعاصر للحرية الدينية، وكم نحن منسجمون معه!
يجدر الملاحظة بأن الديانة اليهودية كونها أقدم ديانة تؤمن بالتوحيد هي بمثابة مفترق الطرق بين الشرق والغرب. فمن الناحيتين الجغرافية والتاريخية موقع اليهودية هو "ما بين وبين". فمع انتشار الجماعات اليهودية القديمة في بابل شرقاً وفي روما غرباً وبعدها نحو المناطق الجنوبية من الغرب، أصبح الشعب اليهودي قاطناً بشكل كبير بين عالمين مختلفين. إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم "الوسطية" هو في قلب الديانة اليهودية. يذكر في هذا السياق، بأن أحد الرابينيين الذي عاش في براغ في القرن السادس عشر، ذهب إلى حد تعريف اليهودية بأنها ديانة الوسطية "إيمتسا" أي الديانة التي هي في توتر دائم بين متناقضات، وبهذا المعنى هي ديانة أقرب لما يسميه العلماء "التوازن غير المستقر"، وليس بقدر ما هي مبنية على "أعمدة إيمان" ثابتة ومستقرة. هذا الرأي يبقى صائباً حتى عندما ينظر المرء الى موضوع الحرية الدينية في اليهودية. ولهذا السبب اخترت كلمة "تناقض"ambivalence لعنوان هذا النقاش لوصف التعاليم اليهودية بما يخص الحرية الدينية.
لنحاول إذن شرح المقصود بمصطلح "الحرية الدينية" حسب الرؤية اليهودية. نقوم بذلك من دون الدخول في جميع التفاصيل، إلا أنه من الضروري بهذا الخصوص التمييز حسب وجهة النظر الرابينية بين ثلاث مستويات للحرية الدينية، وكما يلي:
١. الحرية الدينية للفرد المنتمي للشعب اليهودي.
٢. الحرية الدينية "للآخر"غير المنتمي للشعب اليهودية، وبُعدها الأواخراي.
٣. الحرية الدينية في دولة إسرائيل اليهودية العلمانية.
 
١. الحرية الدينية للفرد المنتمي للشعب اليهودي:
 
بهذا الخصوص علينا طرح هذا السؤال: ما هي حالة الحرية الدينية للفرد في اليهودية؟ انه لمن الضروري التذكير بأن أساس تعريف الهوية اليهودية وبالتالي الإنتماء إلى الإيمان اليهودي للفرد هو أن تكون والدته يهودية. بما معناه، اليهودي يهوديٌ بالولادة، وليس بالإختيار. بالطبع الإهتداءات إلى اليهودية ممكنة، ولكن إضافة إلى كون الديانة اليهودية غير إهتدائية، فالمهتدون يبقون أقلية ضمن الشعب اليهودي، وعليه من الممكن القول بأن هؤلاء المهتدون لا يؤثرون بشكل كبير على تعريف من هو يهودي. ولهذا عدم وجود حرية الأختيار يمكن بالتأكيد ترجمته كنقص في الحرية الدينية للفرد ليس فحسب كون الفرد لم يختار بأن يولد يهودي، بل أيضاً بعدم السماح له بإتخاذ قرار ترك اليهودية بإهتدائه لدين آخر. فاليهودي يبقى يهودياً بغض النظر عن أختياره الشخصي. ولا يقتصر غياب الحرية الدينية في حياة الفرد على التعريف الشرعي للإنتماء الديني، كونه يظهر أيضاً في سياقٍ أوسع ألا وهو العلاقة اللاهوتية بين الله وأبناء إسرائيل. وفي هذا الإطار تُذكر عادة العلاقة العهدية بين الله والشعب اليهودي . يعطي المدراش شرحاً مثيراً للإنتباه بهذا الخصوص حيث يرجع أصل هذا العهد لجبل سيناء وإعطاء التوراة بعد الخروج. ولتبرير ذلك يستند على آية من سفر الخروج (خر ١٩، ١٧) التي تفيد بأن أولاد إسرائيل كانوا واقفين "تحت الجبل". يفسر الرابينيون غرابة هذا التعبير بما معناه أن "الله أمسك بالجبل فوقهم كجرة، وقال لهم: إذا قبلتم التوراة فحسناً، أما إذا رفضتموها فهنا سيكون قبركم" (Shabbat 88a). يؤكد هذا التفسير على غياب الحرية الدينية بشكل واضح وجريء جداً.
لتكوين نظرة شاملة عن الفكر الرابيني يمكن القول بأن الطبيعة اللاإختيارية للانتماء اليهودي، بكلا المعنين الوجودي ولاهوت العهد، يوازيها من الجهة الثانية التوكيد على فكرة المسؤولية. تفرض شروط العهد "بريت" على الشعب اليهودي الطاعة للوصايا (ميتزفوت). هنالك المئات من القوانين في التوراة والالاف في الأدب الرابيني لتنظيم السلوك اليهودي فيما يتعلق بكل جوانب الحياة اليومية لكل يهودي ملتزم. إن اليهودية بإعتبارها ديانة تعلم السلوك الصحيح orthopraxy  فهي عبارة عن ممارسات ينبغي على المؤمن اليهودي تطبيقها في حياته. ولكن بالرغم من ذلك، فإن خيار إنتهاك هذه الوصايا يبقى وارداً. تؤكد اليهودية في عدة أماكن إبتداءاً من الوصية الأولى من الوصايا العشرة بأن الناس قد منحوا حرية الإرادة من خلال "تحريرهم من عبودية مصر". ولكن الحرية الدينية للفرد داخل الجماعة قد حصرت لتقتصر فقط على حرية "المخالفة الدينية". إن الفرد مسؤول ومعرض للمحاسبة على مثل هذه الخيارات، وعليه أن يكون مستعداً لقبول عواقب ذلك. بمصطلحات دينية، ما نقصده هنا هو "العقاب والثواب الإلهيين"، أما بمصطلحات علمانية فما نقصد هنا هو ما يسمى بـ "العواقب التي لا مفر منها لسلوكيات فردٍ ما". وفي النتيجة ربما المقصود بكل هذه المصطلحات هو الشيء ذاته!
إذا كان قبول الوصايا ـ "عبء السماء" ـ  هو حقيقة لاإختيارية وفيها يوجد حرية المخالفة فقط، فلا بد من الحديث عن الوجه الثاني للعملة، أي الحرية الدينية الكاملة المعطاة بخصوص مسألة الإيمان وتفسير الكتاب المقدس. لا يوجد في اليهودية عقائد، وحتى مسألة الإيمان بالله ليست فرضاً. نجد صدى لهذه الحقيقة في الكثير من قصص تلمودية ورابينية. لطالما الفرد باقيٌ ضمن حدود هلاخاه Halakhah (النظام الشرعي اليهودي)، فأنه حرٌ في طرح أسئلة وتقديم شروح وإبداء تمرد والرضى أو عدم الرضى مع الرابينيين ومع المحكمة الرابينية وحتى مع الله. إن حادثة "الشيخ المتمرد" الواردة في سفر تثنية الإشتراع وكيفية تفسيرها في التلمود تساعدنا على فهم هدف وحدود هذا النوع من الحرية الدينية للفرد.
يذكر في سفر تثنية الإشتراع (تث ١٧، ٨ ـ ١١) بأنه إذا واجه أحد الكهنة أمر قضائي يصعب عليه أن يتخذ قراراً بخصوصه، فعليه أن يستعين بسلطة شرعية أعلى:
"إذا أعجزتك قضيةٌ في القضاء بين دم ودم أو دعوى ودعوى، أو ضربة وضربة، من قضايا الخُصومات في مُدُنكَ، فقم واصعد إلى الموضع الذي يختاره الرب إلهك، واذهب إلى الكهنة اللاويين وإلى القاضي الذي يكون في تلك الايام، فتستشيرُ ويبلغونك قرار الحُكم. واعمل بحسب القرار الذي يبلغونك إياه في الموضع الذي يختاره الربّ، وتنبه أن تعمل بكل ما أوصوك به. بحسب القرار الذي يُوجهونه إليك والحكم الذي يصدرونه لك تصنع، ولا تبتعد عن القرار الذي يبلغونك إياه يمنة ولا يسرة."
من حيث المبدأ، إذا رفض بعدئذ الشيخ الحكم الصادر من السنهدرين يكون عقابه الموت. ولكن التلمود يقترح قراءة مثيرة للإهتمام لهذه الحالة المذكورة في سفر تثنية الإشتراع. ففي مشنا إدويوت Mishnah Eduyot (٥، ٦ ـ ٧) نقرأ القصة التالية:
"يذكر أقافيا ب. ميهالّاليل أربعة أشياء أقنعه الحكماء بإنكارها وعلى أساس ذلك وعدوه ليرأس على العدالة في إسرائيل. وعليه أجاب هو بدوره قائلاً: أُفَضِل سماع كلمة غبي طوال حياتي على أن أصبح شريراً ولو لمدة ساعة واحدة أمام حضرته تعالى (Omnipresent)؛ ولكن لا ينبغي أن يقول أحد ’لقد قام بالإنكار للحفاظ على موقعه‘ [...] فوضعوه تحت حكم الحرم، وعندما وافاه الآجل رجمت المحكمة كفنه. إلا أن ر. يهوذا عارض قائلاً: إن أقافيا ب. ميهالّاليل الذي وسط كل إسرائيل أُغلِقت بوجهه جميع أبواب باحة الهيكل، كان منقطع النظير في المعرفة والرحمة، فهل كان فعلاً يستحق بأن يوضع تحت حكم الحرم؟ ما كان ينبغي حصول ذلك!".
لا يسعفنا الوقت الآن للدخول في جميع تفاصيل هذه الفقرة من التلمود، ولكن لنقول ببساطة بأنه في نهاية المطاف رفضت قضية أعتبار أقافيا ب. ميهالّاليل بـ"الشيخ المترد"، وبذلك وضَّحَ حكماء التلمود بأن المرء لا يعتبر متمرداً بسبب آراء وتعاليم مناقضة، إلا أنه يكون متمرداً عندما يُحرّض الآخرين على التصرف بحسب وجهات نظره الشخصية وتفسيراته الخاصة للممارسة الدينية. إن حرية الفكر الديني مضمونة في التقليد الرابيني، طالما الممارسة المطلوبة موجهة من قبل قاعدة الأكثرية. فبينما الهلاخا تحد من حرية الفرد، فإن حرية الفكر وحرية التفسير تبقى عنصراً أساسياً في اليهودية.
بعد أن ألقينا الضوء على مسألة غياب حرية الفرد الدينية داخل الجماعة بشكل عام، يبدو لنا أساسياً الآن محاولة فهم كيفية تأثير هذه الحقيقة على المفهوم الذي كونته اليهودية بخصوص الحرية الدينية لهؤلاء المنتمين لإيمان مختلف.
 
٢. الحرية الدينية "للآخر" غير المنتمي للشعب اليهودي، وبُعدها الأواخراي:

يرتبط بالطبع الجانب الآخر للحرية الدينية بموقف ديانة ما تجاه الذين لا ينتمون إليها أو لا يشاركونها نفس الإيمان. فالسؤال هنا هو الآتي: هل اليهودية من طرفها متسامحة وتقبل الآخر الذي يختلف عنها بالديانة وتحترمه، أم أنها ترفض الممارسات الدينية للآخرين وتمارس التمييز العنصري ضدهم؟
يظهر الخط الفاصل بسرعة عند المحاولة للإجابة على هذا السؤال. ينبغي على المرء الرجوع لما يسمى بقوانين نوح السبعة لكي يُكَوِّن تصوراً واضحاً لقضية التسامح اليهودي وقبوله بالحرية الدينية. إستناداً على قصة الطوفان الكتابية والفرصة الثانية المعطاة للإنسانية في سفر التكوين، وضع التقليد الرابيني مجموعة مكونة من سبعة قوانين، يطلق عليها الرابينيون "مجموعة الحد الأدنى من السلوكيات الإجتماعية والأخلاقية". ثُبِتَت هذه القوانين بشكل صريح في التلمود ونُقِشت بشكل مطول. لنقول ببساطة وأختصار بأنها تطرح خيارين أساسيين: إما الآخرون (أي غير اليهود) يحترمون الشرع الأخلاقي للنوحيين Noachides، وبالتالي تُمنَح وتُضمن لهم الحرية الدينية الكاملة من دون التمييز العنصري أو أي تقييد مهما كانت طبيعته، أو تتضارب ممارساتهم الأخلاقية مع أحد قوانين نوح السبعة، وبتلك الحالة اليهودية لا تعتبر العيش المشترك ممكناً ضمن أجواء إجتماعية وسياسية متقاسمة مع هؤلاء. من الملاحظ هنا بأن الخط الفاصل بين الحرية الدينية الممنوحة للنوحيين Noachides، وإنعدامها للآخرين واضحٌ. ولكن هذا الوضوح غير مذكور إطلاقاً في تعريف القوانين السبعة. بالحقيقة لا يتفق رابينيو التلمود مع بعضهم بهذا الشأن، ويقترحون مجموعات مختلفة لهذه القوانين. لنأخذ مثلاً واحداً يتعلق بعبادة الأوثان التي تُعد من القضايا الأخلاقية والدينية الممنوعة ضمن قوانين نوح، وذلك بحسب كل السلطات الرابينية. وكونها كذلك، فإن اليهودية غير متسامحة مع الشعوب التي تمارسها. موسى بن ميمون، المعروف أيضاً بلقب ميمونيدس Maimonides والذي عاش في القرن الثاني عشر، يختصر بكلمات قاسية جداً موقف الرابينيين من ذلك، قائلاً:
"بينما لا نجبر أحداً على إتباع التوراة، فمن جهة ثانية يوصينا موسى بأن الفرد مجبر بدفع كل إنسان إلى احترام قوانين نوح السبعة. والذين يرفضون إتباع تلك القوانين يُقتَلون"
( Maimonides, Mishneh Torah, Hilkhot Melakhim, 10, 8﹚.
وجهة نظر موسى بن ميمون هذه كانت في جوهرها دينية ولاهوتية، لأن اليهود لم يكونوا في موقع سياسي يسمح لهم بتطبيق مثل هذا المبدأ، ولم يقتل اليهود أحداً على الإطلاق بسبب ممارسته لعبادة الأوثان، إلا أن العكس يبدو في الواقع صحيحاً. صرح ميناهيم ميري Menahem Meiri وهو أحد الرابينيين الشهيرين من القرن الثالث عشر، قائلاً:
"لا أحد إطلاقاً يعتبر اليوم بأن الوصية الكتابية ضد عابدي الأوثان ينبغي تطبيقها على الأمم، بل ينبغي معاملتهم كما يعامل الآخرين اليهود، فحالهم كحالنا، نحن اليهود، ينتمون من جانبهم لأمم مقيدة بممارساتها الدينية" (Umot Hagedurot be Darkei Hadato; Beth Habechirah, Avodah Zarah, 2b, 22a).
نستنتج من هذه الصورة المتباينة بأن حرية الممارسات الدينية التي عاش اليهود في أجوائها كانت تضمن حالة مساوية تجاه الآخرين، كما هي بالنسبة لليهود أنفسهم. بالحقيقة، هذه النظرة الممتلئة بالاحترام تجاه الممارسات الدينية للآخرين تعكس ببساطة تعاليم كتابية سبقتها، كالمقطع الكتابي البارز من سفر ميخا:
"لأَن جَمِيعَ الشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمِ إِلهِهِ، وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ" (ميخا ٥، ٤).
هذا المبدأ الذي يعكس الحرية الدينية بشكل كامل يتجاوز حدود المنهج العملي pragmatic approach الذي وفقه كأقلية يهودية تعيش بين المسيحيين أو مسلمين تبدي قبولها بأديان القوى الحاكمة، وذلك لتسليم بأمر الواقع وقبول الحكم السياسي للمحافظة على المكاسب السياسية، أو على الأقل لضمان سلامة الأفراد المنتمين لأقلية. بالنسبة لليهودية، فإن هذه الحرية الدينية الحقيقية تحتاج إلى أن تفهم بكل أبعادها، بما في ذلك البعد الآواخري. بعبارة أخرى، يؤمن الرابينيون بأن الديانات الأخرى لها أيضاً نصيبها من الحقيقة، وتقدم طريقاً صحيحاً جداً للسلوك الحسن وللخلاص. كما نقرأ في كثير من الأحيان في مختلف تعاليم يهودية تعاليماً مشابهة لنص الآتي:
"أي شخص يقبل على نفسه إتباع الوصايا السبع ويكون دقيقاً في مراعاتها يُعتبر واحداً من صالحي أمم العالم hasidei umot ha'olam، ويستحق نصيبه في العالم الآتي" (Maimonides, Mishnah Torah, Hilkhot Melakhim, 8, 11).
هذا المبدأ الآواخري الذي يعترف بالخيارات الدينية للآخرين، مبررٌ فقط على أساس مفهوم الحقيقة في اليهودية، حيث تنظر للحقيقة كتعبير ثنائي لله الحي. بهذا الخصوص تتبادر إلى الأذهان العبارة التلموذية الشهيرة بشأن وجهات النظر والنقاشات المتناقضة للرابينيين، والتي تفيد بأن "هذه وتلك هي الكلمات الحقيقية للإله الحي". في هذا السياق، ولكن بالتركيز بشكل أكبر على الأخطار الكامنة في مفهوم الحقيقة الدينية، يسترعي الرابينييون الانتباه إلى أن جذر الكلمة العبرية "ايميت" (אמת) أي الحقيقة هو نفس جذر الكلمة العبرية "مُت" (מת)، أي الموت. فالادعاء بامتلاك الحقيقة الدينية عادة ما يترجم بإنكار الحرية الدينية للأخرين وذلك في أفضل الأحوال، أما في أسوأها فيترجم بإماتتهم.
لا يمكن للمرء أن يتفادى التناقض الواضح في مناقشتنا حتى الآن. فمن ناحية، هنالك افتقار معين للحرية الدينية للفرد اليهودي، ومن ناحية أخرى هنالك التزام حقيقي بالحرية الدينية تجاه من هم خارج الجماعة اليهودية. كيف يمكن لهذا الشعور القوي والإيمان بالحرية الدينية الآواخري الانسجام مع لااختيارية المرء بالنسبة لكونه يهودياً؟ لشرح هذا التناقض الظاهري، نستعين بنصين من التلمود كونهما يبينان بطريقة رائعة كيف أن الافتقار إلى الحرية الفردية في اليهودية، يمكن أيضاً أن يكون مفتاحاً لضمان الحرية الدينية للآخرين.
يرد النص الأول فيBaba Batra  (60b)، وفيه يذكر رابي إسماعيل بن اليشاه بأنه بعد يوم من تدمير الهيكل وبعد أن أصدرت السلطات الرومانية مراسيم ضد الشعب اليهودي تحظر فيها الالتزام بالتوراة، كان يجدر باليهود وبكل حق إلزام أنفسهم بعدم الزواج وعدم إنجاب الأطفال حتى ينتهي نسل إبراهيم من نفسه. نعم، فقد كان أفضل للإنسان اليهودي بأن لا يولد كي يعيش في ذلك الحال. ومع ذلك، واصل الشعب اليهودي بالتزاوج وإقامة النسل. وبالرغم من أن أولاد اليهود لم يكونوا مخيرين بأن يكونوا يهوداً، كان عليهم العيش وتحمل الاضطهاد بسبب هويتهم. وهكذا دُفِعَ ثمن غياب الحرية الدينية بشكل باهض، كونه أدى إلى المزيد من الاضطهاد والمزيد من المعاناة.
النص الثاني من التلمود هو أقل مأساوية، ويرد في Iruvin (13b). ويُسرد فيه بأن المدرستين للفكر الرابيني هيلّل Hillel وشماي Shamaï ناقشتا لمدة سنتين القضية التالية: هل كان أفضل للإنسان بأن لم يكن قد خُلق؟ والنتيجة التي اتفقتا عليها هي أنه فعلاً كان من الأفضل للإنسان بأن لم يكن قد خُلق، وذلك بسبب الألآم التي عليه تحملها في الحياة من جهة، والقساوة التي يمكن أن يمارسها ضد الآخرين من الجهة الأخرى. ولكن بما أن الإنسان قد خُلق ولم يكن مخيراً بما يتعلق بولادته، تقع على عاتقه مهمة مراجعة سلوكه وأعماله بشكل مستمر وذلك للمساهمة في ضمان عيش البشر مع بعضهم بسلام وانسجام. يُبين هذا بأن لااختيارية الولادة والوجود لكل إنسان تقوده للعيش حياة متسمة بتحمل المسؤولية والاحترام والمساهمة في تكوين مجتمع متحضر تقدر فيه قيم الحياة.
هنالك تشابه كبير بين النصين اللذين استشهدنا بهما. فكلاهما يؤكدان على غياب الحرية الوجودية (الأنطولوجية). ومثلما لا يخير الانسان، من الناحية الأنطولوجية بأن يكون أو لا يكون، كذلك لا يخير اليهودي بأن يكون يهودياً او لا يكون يهودياً. أفلا ينبغي إذن أن تقودنا هذه اللااختيارية للحالة الإنسانية إلى احترام وبصورة تلقائية من ولدوا مختلفون عنّا والتسامح معهم وضمان حريتهم الدينية؟ وبينما قد تقدر أو تدان (بالاعتماد على وجهات نظر) إمكانية اختيار المرء لدينه، كيف يمكننا أن نحكم على الآخر بسبب هويته الدينية، في حين نحن بأنفسنا قد فرضت علينا هويتنا الدينية؟ فالمفارقة هنا هي أن الافتقار إلى الخيار الديني للفرد يمكن أن يكون مفتاحاً لضمان التسامح الديني في سياق أوسع.
 
٣. الحرية الدينية في دولة إسرائيل اليهودية العلمانية:
 
من يريد أن يقوم بتحليل ديني نقدي صادق، يجب أن يتجاوز الرؤية النظرية البحتة لمبادئه الخاصة، ليواجه بشجاعة الواقع الذي تنتجه ممارسة السلطة السياسية. وعلى هذا النحو، يجب أن نتساءل ما هي الحالة الفعلية للحرية الدينية في دولة إسرائيل، كونها الكيان السياسي الوحيد الذي تخضع فيه روح التعاليم اليهودية لاختبار السلطة السياسية؟ (إسرائيل لا يحكمها القانون اليهودي، وبهذا المعنى هي دولة يهودية علمانية). فهل تضمن الدولة الاسرائيلية الحرية الدينية؟
للإجابة على هذا السؤال، نبدأ بوثيقة الاستقلال لعام ١٩٤٨، وبالقوانين الأساسية للبلاد والتي تؤكد على مبدأ الحرية الدينية من دون أي تمييز. في الكثير من النواحي، تعتبر الحرية الدينية واقعاً راسخاً في إسرائيل، فهي ليست مضمونة من الناحية القانونية فحسب، بل مقبولة أيضاً من قبل عامة الناس. ومع ذلك، هناك ثلاثة أنواع من التمييز الديني لا بد من الوقوف عندها، وهي:
أولاً، التمييز الديني الذي يهدف المجتمعات اليهودية غير الأرثوذكسية، حيث أنها لا تستمتع بنفس الحقوق أو الدعم المالي مثل نظرائها الأرثوذكسيين. فالحاخامية الإسرائيلية، كمؤسسة ذات سلطة سياسية، هي حكر على (الحاخامات) الأرثوذكس، حيث لهم يحق فقط ترأس مراسيم الزفاف ومنح الطلاق وأداء مراسيم الدفن.
ثانياً، التمييز الديني الذي يتعلق بالمنتمين لأديان أخرى. من هذا الجانب، يبدو أن حريتهم الدينية لا تقييد إلا في أوقات الأزمات السياسية الخطيرة. على سبيل المثال، عندما يمنع على الرجال المسلمين الذين تقل أعمارهم عن ٤٥ سنة الدخول إلى مسجد قبة الصخرة. هذا التقييد، وإن كان مؤقتاً، فإنه يحدُ بكل الأحوال من ممارسة حقيقية للحرية الدينية.
ثالثاً، التمييز الديني الذي يتمثل بعدم سماح اليهود للآخرين بالدخول إلى المواقع الدينية المشتركة ضمن الأراضي الفلسطينية التي هي تحت السلطة المزدوجة للهيئات الإسرائيلية والفلسطينية. فهكذا هو الحال بالنسبة لمغارة المكفيلة الواقعة في حبرون، وكذلك في أماكن أخرى.
بالنظر إلى النقطتين الثانية والثالثة، من المؤكد أن المرء يميل إلى تحليل هذا الخرق للحرية الدينية وربما تبريره على أساس الدواعي السياسية / الأمنية. ومع ذلك، فإن اليهودية في جوهرها دين سياسي بعمق كونه يعنى بتكوين مجتمع لائق، ولا يكتفي فقط بالطقوس لتنظم العلاقة بين الله والشعب، وعليه فإن انتهاكات ضد الحرية الدينية بسبب التوترات السياسية هي مشكلة لا يمكن لليهودية تجاهلها أو رفضها. كل هذا يؤدي إلى الاعتراف بأن الحرية الدينية بالرغم من كونها قيمة فائقة الأهمية في نظر الرابينيين، إلا أنها أبعد من أن تكون أهم قيمة في اليهودية. فالقيم الأخرى مثل احترام الحياة وبقاء شعب، قد تكون لها الأسبقية في بعض الأوقات. مثال على هذا يمكن التماسه في المراحل الأولى لإنشاء قانون العودة (١٩٥٠) حيث بموجبه كل يهودي يحق له أن يصبح مواطناً إسرائيلياً. من الواضح أن هذا الجزء الأساسي من التشريع الإسرائيلي يخلق تمييزاً وفصلاً بين اليهود وغير اليهود، ويمكن بالتأكيد القول بأنه تجاوز لمبدأ المساواة الدينية. إذن نوعاً ما، التفضيل الديني متجذر بعمق في روح الدولة وفي "سبب وجودها" raison d’être. لا يزال هذا الواقع مستمراً حتى يومنا هذا، إذ أن ضمان تواجد أغلبية ساحقة من اليهود في إسرائيل، حتى لو كان ذلك سياسياً وأخلاقياً ودينياً غير مقبول، يعتبر في الوضع الراهن ضرورة تاريخية تقبل به اليهودية الآن، إذ أن بقاء الشعب اليهودي، في دولة خاصة به، هو قيمة دينية أعلى من الحرية الدينية والمساواة الدينية.
بدأنا بحثنا بمقولة الرابي إيوجن بوروفيتس "التاريخ مختبر للاهوت اليهودي"، ومن الطبيعي أن نعود إليها للاستنتاج. فاللاهوت اليهودي، بمعزل عن الاضطرابات التاريخية، يُقدر الحرية الدينية تقديراً عالياً. إن الطبيعة اللااختيارية للهوية اليهودية تعزز بطريقة مفارقة القناعة بأن الآخر له الحق الكامل في ممارسة ديانته وإيمانيه. ومع ذلك، عندما نواجه الواقع التاريخي، خاصة بعد الإبادة الجماعية لليهودHolocaust  وإقامة الدولة اليهودية، يمكن أن تعتم جزئياً الحرية الدينية في سبيل غاية أكبر ألا وهي الضرورة الوجودية. من المؤكد أن الحقائق السياسية في إسرائيل اليوم سيكون لها دور في تكوين قيم اللاهوت اليهودي في المستقبل. وطالما قضية بقاء الشعب اليهودي هي على المحك فإن الحرية الدينية، بالرغم من كونها تعليماً رئيسياً للرابينيين، قد لا تكون في مقدمة جدول الاهتمامات اللاهوتية لليهودية المعاصرة.
يعطينا الكتاب المقدس تعليماً عن العدالة، قائلاً: “Tsedek tsedek Tirdof” "اتبع العدالة ثم العدالة" (تث ١٦، ٢٠). يسأل الرابينيون: لماذا يستخدم هنا الفعل "اتبع"، ولم يتم اختيار فعل أكثر إيجابية، مثل "أقيم" أو "حقق"؟ ويجيبون بأن العدالة من طبيعتها لا يمكن إلا اتباعها، حيث أن الأنسان لا يستطيع تحقيق العدالة بشكل كامل وتام. فالعدالة هي من القيم التي ينبغي على المرء الكفاح من أجلها، وعدم الادعاء بإنجازها مطلقاً. ويبدو أن الحرية الدينية هي الأخرى قيمة ذات طبيعة مماثلة. ولهذا لا ينبغي أن يدعي المرء أبداً بأن تقاليده الدينية تضمن الحرية الدينية بشكل كامل وتام، وإنما عليه أن يكافح باستمرار من أجل تحقيق هذا الهدف السامي.
 
المصدر:
Rabbi David Meyer, The Ambiguities of Religious Freedom: a Rabbinic Perspective (For the conference on Religious Freedom, EAST & WEST; On the Anniversary of the death of Father Ragheed Ganni; Pontifical Irish College, Rome, 3d June 2011).