المحرر موضوع: العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية! الحلقة الأولى  (زيارة 881 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كاظم حبيب

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1265
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
كاظم حبيب
العراق والموقف الحضاري من المبادئ والقيم الإنسانية!
الحلقة الأولى
تؤكد لوائح الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومؤتمراتها الدولية منذ أن صدرت لأول مرة اللائحة الدولية لحقوق الإنسان في العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1948 وما صدر بعد ذلك من مواثيق وعهود دولية بشأن الاعتراف بهذه المبادئ وممارستها وحماية كرامة الإنسان وحقوقه، بما في ذلك الحق في الحياة والعمل، وحقوق القوميات وحقوق المرأة والطفل والسجناء والعيش في بيئة نظيفة ...الخ، بأن هذه المبادئ والقيم والحقوق لا تتجزأ، فهي كلها سلة واحدة يستكمل بعضها البعض الأخر، ويعتمد على مستوى وعي الشعب وفهمه لها في مدى قدرته على تحقيقها وحمايتها ومستوى نضاله في سبيل منع الحكام من الإساءة لها أو تقطيع أوصالها وممارسة الانتقائية في ممارستها. وقد صدرت هذه اللائحة الدولية بعد مرور 159 سنة على دور صدور "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" في العام 1789 باعتباره واحداً من أهم وثائق الثورة الفرنسية، فهو يمس الحقوق الفردية والجماعية وشكل الأرضية الفكرية الصالحة لنضال الشعوب الأخرى في سبيل تأمين ممارسة تلك الحقوق وقاعدة للائحة الدولية.
والإنسان الحضاري الواعي لوجوده وحقوقه وكرامته يرفض الإساءة لحرية وحقوق وكرامة الإنسان الآخر أو الآخرين من البشر. وهذا ينطبق على الشعوب أيضاً، فالشعب الحر الذي يتمتع بالحرية والحياة الديمقراطية والكرامة يرفض أن يسيء لحرية وحقوق وكرامة شعب آخر، بل يتضامن معه في حالة تعرضه لأي إساءة لرفع الإساءة أو الغبن والإجحاف عنه والتعامل على أسس من المساواة، بما في ذلك حق هذا الشعب أو ذاك في تقرير مصيره بنفسه ودون وصاية من شعب آخر.
ووطننا العراقي الذي ساهمت حكومته الملكية في العام 1948 في وضع لائحة حقوق الإنسان الدولية في العام 1948 ووقعت عليها، هي أول من خرق بنود هذه اللائحة في الممارسة العملية وتجاوزت على الشرعية الدستورية والحياة الديمقراطية، وهي التي أسست فعليا لحصول تجاوزات وممارسات أفظع وأبشع في الفترات اللاحقة، حتى وصل الأمر بالحكومات اللاحقة تن ترتكب المجازر وعمليات الإبادة الجماعية والإساءة المباشرة لحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى بالعراق.
ووطننا العراق عرف على مدى تاريخه الحديث ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 ثلاثة أنواع من البشر في مواقفهم من تلك المبادئ والقيم والحقوق من الناحية النظرية والممارسة:
1)   قوى سياسية واجتماعية ديمقراطية مقتنعة بمبادئ حقوق الإنسان وحقوق القوميات وتدافع عنها وتناضل من أجلها ولا تتصور إمكانية تجزئتها، بل هي سلة واحدة متكاملة وتميز بين التنكر لتلك المبادئ والقيم وبين سبل وأدوات ممارستها وضمان تحقيقها، بما في ذلك الحق في تقرير المصير.
2)   قوى سياسية واجتماعية تعترف ببعض مبادئ وقيم حقوق الإنسان وترفض البعض الآخر منها، بما في ذلك حق تقير المصير، وتمارس الالتزام أو عدم الالتزام بتلك الحقوق برؤية انتقائية قاصرة، منطلقة من نظرة ضيقة ووحيدة الجانب والمصلحة في الممارسة الفعلية لهذا المبادئ والقيم والحقوق. ومن بين أكثر المبادئ المرفوضة لديها حق تقرير المصير لأتباع هذه القومية أو تلك.
3)   قوى تدعي التزامها بتلك المبادئ والقيم والحقوق، ولكنها ترفض في الواقع العملي ممارستها حين تكون في السلطة بشكل خاص، وتعتبر المناداة بحق تقرير المصير انفصالاً وتجاوزا على السيادة الوطنية.
ومن يتابع ما جرى ويجري بالعراق منذ عقود سيرى بأن القوى الديمقراطية والتقدمية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وتقدمية أخرى، كانت وما تزال مقتنعة تماماً بمبادئ وقيم وحقوق الإنسان والقوميات، بما في ذلك الحق في تقرير المصير للقومية الكردية على سبيل المثال، أو الإدارة الذاتية لقوميات أخرى، إضافة إلى اعترافها ونضالها من أجل الالتزام ببقية الحقوق والقيم الإنسانية الواردة في اللوائح والمواثيق والعهود الدولية. إلا إن هذه القوى لم تصل إلى السلطة لتمارس هذه المبادئ والقيم فعلاً، في حين تشير المتابعة للتاريخ العراق الحديث إلى وصول ثلاث جماعات مختلفة من القوى التي تحمل أيديولوجيات قومية وإسلامية لا تعترف ولا تمارس أهم وأبرز المبادئ التي تتضمنها تلك الوائح والمواثيق والعهود وما فيهم من قيم إنسانية عامة وشاملة، وبعضها أحياناً وتحت وطأة ظروف معينة يعترف ببعضها ولكن يمارس بطريقة تجهضها بأي حال من الأحوال. ويمكن الإشارة إلى هذه القوى التي كانت أو ما تزال في السلطة ومواقفها من تلك المبادئ والقيم الإنسانية الحضارية:
أولاً: القوى المحافظة، ولاسيما الجزء الأكثر رجعية وتشدداً فيها، التي حكمت العراق في فترات مختلفة بين عامي 1921 – 1958، والتي ساهمت في وضع تلك اللائحة الأولى وصادقت عليها، ولكنها خرقتها بفظاظة، سواء أكان ذلك عبر ضرب وتحطيم المظاهرات والإضرابات بالحديد والنار واعتقال المشاركين فيها وزجهم في السجون، أم تزوير الانتخابات ضد قوى المعارضة، أم التمييز بين الذكور والإناث لصالح الذكور، أم التمييز بين أتباع القوميات وتهميش أتباع القوميات الأخرى أو الأقل عدداً، أم التمييز الديني والمذهبي، أو حتى ممارسة العنف واستخدام السلاح لقمع المطالبين بالحقوق المشروعة والعادلة ... الخ. وكان السبب وراء ذلك خليط بين السلوك الرجعي والقومي الشوفيني والمذهبي المتزمت وغياب النهج الديمقراطي في آن واحد. وكانت بعض هذه الحكومات لا تبدو متشددة في بعض مواقفها، ولكنها في المحصلة النهائية كانت تفرض على الشعب ما تريده دون احترام إرادة ومصالح الناس.
ثانياً: القوى والأحزاب ذات الأيديولوجية القومية اليمينية والمتشددة التي ترفض الاعتراف فعلياً أو تعترف شكلياً بمبادئ وقيم حقوق الإنسان، ولكنها لا تمارسها في الواقع، وتفرض أجواءً من الاستبداد الخانق بالبلاد، إضافة إلى إنها ترفض الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى، بما في ذلك حق تقرير المصير، وحتى لو اعترفت بوجود تلك القوميات بالبلاد، فأنها تمارس التمييز والتهميش والإقصاء ضدها، مما يؤجج الصراعات والنزاعات بالبلاد. وهي تستخدم كل الأساليب والأدوات غير المشروعة من أجل كبح نضال القوميات الأخرى، ولكنها تضطهد في الوقت ذاته حقوق القومية التي تنتمي إليه، وتصادر جميع الحريات وحقوق الإنسان والحياة الديمقراطية. وخير نموذج لمثل هذه القوى، سواء في موقفها النظري أم في ممارساتها الفعلية، هي الأحزاب القومية التي تشكلت بالعراق قبل أو بعد ثورة تموز 1958، ومنها القوى التي أطلقت على نفسها بالقوى الناصرية أو حزب البعث العربي الاشتراكي، وهي قوى مارست الاستبداد والاضطهاد لقوى الشعب، ولاسيما ضد القوميات الأخرى، وكذلك ضد القوى ذات الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى. ويمكن إيراد ما حصل في أعقاب انقلاب 8 شباط الدامي في العام 1963، أو في أعقاب انقلاب 17/30 تموز 1968 حتى إسقاط الدكتاتورية عبر الحرب في العام 2003. وقد وقعت مجازر دموية على أيدي القوى عموماً ولاسيما حزب البعث العربي الاشتراكي واجهزته الأمنية ومنظماته الاجتماعية وقواته العسكرية. وقد بروز ذلك باتجاهيين مناهضين للفكر الديمقراطي وللقوميات الأخرى، ولاسيما للشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين المستقلين، وللكرد والتركمان، كما عانى أتباع الديانات والمذاهب من تمييز واجحاف واضطهاد وتهجير وتعريب للبشر والمناطق، وكذلك ما حصل للكرد الفيلية والعرب الشيعة في الوسط والجنوب وبغداد. وعلينا هنا الإشارة إلى أن ليس كل القوى القومية سقطت في مستنقع الشوفينية والفاشية والاستبداد.
ثالثاً: القوى والأحزاب ذات الأيديولوجية الإسلامية السياسية التي يتداخل ويتشابك فكرها ومسيرتها الفعلية مع الأيديولوجية القومية ذات النهج اليميني الشوفيني. فهي من جانب لا تعترف بالقوميات باعتبار أن المسلمين كلهم أمة واحدة، ولكنها حين تصل إلى السلطة تمارس الأيديولوجيتان معاً وفي غير صالح القوميات الأخرى وأتباع الديانات المذاهب الأخرى وليس أدل على ذلك ما يعيش تحت وطأته العراق منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر. إن هذه القوى لا تعترف بوجود قوميات أخرى، وإذا ما أجبرت عل الاعتراف بوجودها تحت ظروف وأوضاع نضالية، فإنها سرعان ما تتنكر لها وتشن حملة لمصادرتها حالما تتوفر لها الذريعة لمماسة الإرهاب والقمع. ويمكن أن نتابع ذلك في سياسات الحكم الطائفي بالعراق منذ تولي إبراهيم الجعفري رئاسة الوزراء بالعراق ومروراً بنوري المالكي حتى الوقت الحاضر.
إن القوى القومية اليمينية والشوفينية وقوى الإسلام السياسي الطائفية لا تعترفان بتحالفات سياسية طويلة الأمد، بل تعتبران التحالفات تكتيكات آنية غرضها الوحيد إيصالهم إلى الهدف المنشود، إلى السلطة، ثم تتنكران لأي تحالفات عقدتها مع قوى وأحزاب أخرى. كما إنهما لا تعترفان بالديمقراطية كنهج وأداة فعلية للحكم، بل تعتبرانهما أداة للوصول إلى السلطة ثم التنكر لها في التعامل مع اتباع الفلسفات والاتجاهات الفكرية والقومية الأخرى. انهما يؤمنا بأيديولوجيات ذات مضمون ووجهة استبدادية مناهضة لحرية الفكر والعقيدة ولحرية وحقوق الإنسان والقوميات ولحقوق المرأة. أنهما يشكلان كارثة على الشعب ويشكلون خطراً كبيراً على حياة الشعب وكرامته وحقوقه. وإذا كانت المجموعة الأولى تحاول التغطية على سلوكها إلى أن يستتب لها الأمر، فأن الثانية تمارس النهج ذاته ولكن تحت ما يسمى في الإسلام "التقية"، أي عملياً التغطية على الهدف الفعلي من خلال الادعاء بغير ذلك إلى حين توفر الفرصة المناسبة لتسديد الضربة المطلوبة لمن يطلق عليهم بأعداء الإسلام والمسلمين لأنهم يحملون فلسفة أو فكراً آخر، أو أعداء المذهب لمن هم من مذهب آخر، كما يمكن متابعته بالعراق منذ العام 2004/2005.                 
حين يفتقد القوميون، أياً كانوا، القناعة بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، يمارسون سياسات مشوهة ومؤذية لا تساهم في تأمين وحدة الشعب وتعاون أتباع قومياته أو أتباع دياناته ومذاهبه، بل يسود التمييز والتفرقة والتهميش والإقصاء والعداء، وتكون العواقب وخيمة. وهذا يمكن أن يحصل مع الإسلاميين السياسيين الذي لا يؤمنون بالديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، وهي مشكلة ليست جديدة، وتبرهن الحياة على سلوك هذه القوى باستمرار. وهي ليست قاصرة على العراق بل نجدها في تركيا وإيران والسعودية وجميع الدول ذات الأكثرية المسلمة، والتي تحكمها قوى إما محافظة أو قومية شوفينية أو إسلامية سياسية طائفية متطرفة.
انتهت الحلقة الأولى وتتبعها الحلقة الثانية.