بعد خمسة قرون من بدء إصلاح المسيحيّة ,هل آن الأوان لإصلاح الإسلام؟
مقدمة :
قبل خمسةِ قرون وبالتحديد في نهاية إكتوبر عام 1517 ,نشر المُصلِح وأستاذ اللاهوت (مارتن لوثر) رسالتهِ الإصلاحيّة الشهيرة التي هزّت اُسس السياسة والسلطة والدين في جميع أنحاء أوربا .ثمّ إنتقل تأثيرها لاحقاً الى العالَم الجديد (أمريكا) .ومازالت تلك الرسالة تنتشر وتلقى قبولاً في باقي أرجاء العالم!
تضمّنت الرسالة الإصلاحيّة 95 مسألة تتعلّق بأهمّ مفاهيم (لاهوت التحرير)!
شملت بالطبع أهمّ ما كان شائعاً حينها (صكوك الغفران) ,وسلطة البابا في (الحلّ من العقاب الزمني للخطيئة) عن طريق دفع الأتباع بعض الأموال لرجال الدين!
مارتن لوثر علّقَ تلك الرسالة على أبواب كنيسةِ القلعة (كنيسة جميع القديسين) ,في بلدته (فيتنبرغ) الألمانيّة!
عام 1760 دُمّرَت تلك الأبواب في الحريق الناشب خلال حرب السنوات السبع!
(إسمها الآخر الحرب البومرانيّة ,وأسبابها الرئيسة المُنافسة الإستعماريّة في أمريكا بين بريطانيا وفرنسا ,والنضال لأجلِ السيطرة والنفوذ في ألمانيا نفسها التي لم تكن موحّدة بعد)!
على كلٍ توجد اليوم لتلك الكنيسة التأريخيّة أبواب برونزيّة قويّة نُقِشَت عليها كلمات مارتن لوثر باللاتينيّة!
وعلى ذكر اللاتينيّة فإنّ أهمّ مافعله لوثر حسب ظنّي (كوني أقارن ذلك مع كلمات وتبريرات مشايخ الإسلام حاليّاً) أنّهُ دعى (وقام بنفسهِ) بترجمة الإنجيل الى اللغة المحليّة (الألمانيّة) ليقرأه الجميع .بدل إقتصاره كما في السابق على اللغة اللاتينيّة التي لايجيدها إلّا القساوسة والبعض القليل من النخبة!
لذلك كان رجال اللاهوت يحتكرون معرفتهم بتفسير الإنجيل .بالضبط كما نسمع اليوم من مشايخ الإسلام ,الذين فاقوا أؤلئك بمراحل ,فإحتكروا تفسير (القرآن) وهو بالعربيّة حتى عن عامة العرب أنفسهم ,بدعوى الجهل بقواعد النحو والإملاء والبلاغة وماشابه!
وتبقى أبرز مقومات فكر (مارتن لوثر) ,قوله أنّ الحصولَ على الخلاص وغفران الخطايا هو هديّة مَجانيّة ونعمة الربّ من خلال الإيمان بيسوع المسيح مُخلصًا! وبالتالي لاضرورة (لأجلِ نيل الغفران) القيام بأي عمل تكفيري أو ماشابه!
كذلك رفضَ إتهامات الهَرطقة لكل مُشكك ومُجدّد ,كما رفض سلطة البابا التعليميّة وحتى الروحيّة ,وركز على العلاقة المُباشرة بين العبدِ وربّهِ .(بمعنى هو أسّسَ بشكلٍ ما للعِلمانيّة أيضاً)!
***
صورة!
***
لوثر , گوته , نيتشه / مُصلحون ألمان!
كون المعرفة والفلسفة والأفكار البشريّة والعلوم الإنسانيّة وقيم التجديد والنهوض والإصلاح والتطور كلّها أشياء ُمشتركة بين عموم البشر ,فإنّ مارتن لوثر الذي عاش 62 عاماً بين (1483 ـ 1546) سبق بأفكاره الفيلسوف الفيزيائي الرياضي الفرنسي (رينيه ديكارت) الذي جاء بعده بأكثر من قرن (1596 ـ 1650) ,
خصوصاً في فكرة (الشك أساس اليقين)!
لقد قام لوثر عبر رسالته المتكونة من 95 مسألة وقضيّة بالتشكيك بالمُعتقدات الكنسيّة والنظام المعمول به ,التي كانت سائدة منذ قرون طويلة!
يقول (تي مكيلن) وهو مساعد أمين (مكتبة ومتحف مورغان) في نيويورك للكتب والأغلفة المطبوعة عن هذا الموضوع (الرابط إدناه) :
[لقد كتبَ مارتن لوثر أفكاره بشكلِ نصوصٍ قصيرة موجزة ,وبصورة كتيّبات من 8 ــ 16 صفحة .كان يمكن طباعتها بسرعة وتوزيعها بسهولة .لكن دون المطبعة ما كان ذلك الحَدث التأريخي ليكون .ويعود للوثر الفضل غالباً في بدء الثورة الإعلامية الأولى ,فقد أدركَ بسرعة كيفيّة إستخدام اللغة والموسيقى والصور لنشر رسائلهِ .وقد قادت مساهماته الموسيقية لينالَ لقب أب الأغنية الإحتجاجية] ,إنتهى!
من جهة اخرى ,صحيح أنّ ( لوثر) كان زعيم التشكيك والإصلاح الديني ,إنّما هو لم يكن وحيداً في هذا المجال .لكنّه كان جزءاً من حوار إستمر حتى يومنا هذا !
فالإصلاح مُستمر ومطلوب أبد الدهر .لا توّقف ولا بديل عنه مع تطوّر الحياة على ظهر هذا الكوكب!
عكس الإصلاح هو التجهيل والتسفيه والإفساد والجمود والموت والتلاشي!
لذلك بقيت أفكار مارتن لوثر الثوريّة قابلة للإزدهار!
بعد لوثر بحوالي ثلاث قرون ظهر في ألمانيا مثقف وأديب وروائي متميز هو: يوهان فون گوته ,الذي عاش 83 عاماً بين (1749 ـ 1832) وترك إرثاً ثقافياً ضخماً لألمانيا والعالَم أجمع. ويُعدّ اليوم (معهد گوته) المركز الثقافي الألماني الوحيد الذي يمتد نشاطه على مستوى العالَم!
صادفت حياته (عصر التنوير) ,كان يتحدث ويكتب بلغات عديدة ,درس أغلب الأديان حتى الإسلام ,دعى الى الإصلاح والشك بالثوابت ,عاصر نابليون بونابرت وإلتقاه واُعجب الرجلان بأفكار بعضهم .من أقوالهِ الشهيرة :
ليس أفظع من جهلِ الحاكم!
الوطنيّة تُفسِد التأريخ!
اُمنياتنا هي رسائل قدراتنا الكامنة!
مع المعرفة ينمو الشك!
المعرفة وحدها لا تكفي ,الأهمّ العمل على أساسها!
أعمق موضوع في تأريخ الإنسان هو صراعُ الشك واليقين!
بعد (گوته) بحوالي قرن من الزمان ظهر في ألمانيا الناقد والشاعر وعالِم اللغويّات المُتميّز والفيلسوف المُختلف عليه:
فريدريك نيتشه ,الذي عاش 56 عاماً بين (1844 ـ 1900) ,وكانت خاتمة أعمالهِ التشكيكيّة التي أكملَ بها عمل سابقيه (مارتن لوثر وگوته) ,أنّه أعلنَ موت الإله في رائعته الخالدة :هكذا تكلّمَ زرادشت!
يقول نيتشه :
لا اُريد أنْ أكونَ قديساً ,بل اُفضّل أن أكونَ مُهرّجاً ,ولعلّني بالفعل إضحوكة !
يقول : فيما مضى كان العالَم بأكملهِ أحمق!
يقول : لا شيطانَ هناك ولا جحيم ,إنّ روحكَ سيُسرع إليها الموت قبلَ جسدِكَ ,فلا تخشى شيئاً إذاً !
يقول :رُعاةً أسميهم ,لكنّهم يدعون أنفسهم بالصالحين العادلين المؤمنين بالعقيدة الحقّ! (لماذا أتذكر البدو؟)
يقول : ليست الروح سوى كلمة لتسمية شيئاً ما في الجسد !
يقول : مليئة هي الأرض بالفائضين عن اللزوم ,والحياة قد داخَلها الفساد بسبب هذا الفائض من الفائضين !
يقول : هكذا خاطبني الشيطانُ ذات مرّة :
[ .. للرّب أيضاً جَحيمه ,إنّها محبتهِ للبشر] !
ومؤخراً سمعتهُ يقول : [إنّ الله قد مات ,جرّاء محبتهِ للبشر ماتَ الله] !
***
الخلاصة !
1 / النهوض والتطوّر الصناعي في أوربا حصلَ بعد البدء بالإصلاح الديني!
حيثُ إنتهى دور السيف الذي إستخدمه إمبراطور روما (قسطنطين العظيم) في القرن الرابع الميلادي لنشر الميسحيّة بالقوة .كما إنتهت الحروب الصلبيّة ومحاكم التفتيش وصكوك الغفران وحرق المكتبات والساحرات!
2 / الإصلاحيّون التنويريّون في أوربا أمثال .. كوپرنيكوس ,غالاليّو , مارتن لوثر ,جون لوك ,جون ستيوارت ميل ,ديكارت ,فولتير ,إسبينوزا ,جان جاك روسو ,إيمانويل كانت ,تشارلس داروين ,هيغل ,فيورباخ ,نيتشة ,ماكس فيبر ,فرويد ,آرفنغ شرودنجر ,أوزفالدو شبلنجر , جابمان كوهين ,آندي روني ,برتراند رسل ,إسحق دويتشر ,مات ريدلي , كارل ساجان ,كرستوفر هيتشنز ,روبرت لي پارك وبالطبع ريتشارد داوكنز .هؤلاء وغيرهم ,لم تكن لأعمالهم وتضحياتهم أن تؤتي أكلها ,لولا جرأة الناس والشعوب على تقبل أفكارهم ونقاشها ثمّ تبنيها ونشرها!
3 / في حالة بلادنا البائسة ,لا حاجة لنا لمزيد من إضاعة الوقت (بالقرون) ,كي نفهم تلك الحقيقة .تحالف السلطة السياسية وتُجار الدين ,يخلق مجتمع ونظام مشوّه ,لتبقى المشكلة في الدين والحلّ في العلمانية!
لقد ظهر من بين العرب قديماً وحديثاً مُصلحون أمثال جلال الدين الرومي ,مُحي الدين بن عربي ,إبن رشد ,الرازي ,الفارابي ,الخوارزمي , ثمّ لاحقاً الكواكبي والأفغاني وصولاً الى علي الوردي ,طه حسين ,فرج فودة ,نصر حامد أبو زيد , جمال البنّا ,سيّد القمني ,علاء الدين الأسواني وعشرات سواهم!
لكن جهود هؤلاء لن تؤتي أكلها إذا لم تفتح العامة عقولها للعِلم والقراءة العِلميّة والتطوّر لتنهض بنفسها من هذا المستنقع الآسن وخرافاتهِ التي عفا عليها الزمان!
4 / حتى دعوات الإصلاح الديني والإجتماعي الحاليّة من بعض الحُكام (كالعاهل المغربي ,الرئيس المصري ,وحتى ولي العهد السعودي وآخرين) لن تنفع كثيراً ببقاء فقرة في الدستور تنص على (أنّ دين الدولة هو الإسلام) ,فالدولة لا دينَ لها!
ثمّ كيف سيتّم الإصلاح ببقاء مناهج التعليم على حالها تحثّ على قتل كلّ مُخالِف بالعقيدة ,وكلّ مُجدّد بدعوى (كلّ جديد بدعة ..الخ)!
5 / أغلب مُثقفينا (للأسف) مُنافقين لا يجرؤون على قول الحقيقة في وجه الحاكم أو السلطة الدينيّة (كالأزهر في حالة مصر على سبيل المثال).وقد تجلى لنا ذلك في حالات كثيرة ,كما في حالة سجن المفكر إسلام بحيري ,وفي حالة التحرّش ثمّ الإعتداء الإجرامي الذي تلاه على الشابة (سُميّة عبيد) أو فتاة المول ,فحتى بعض النساء وقفنّ مع الجاني ضدّ الضحيّة!
6 / نصف الناتج القومي في إقتصادياتنا البائسة يذهب الى مظاهر التديّن والنفاق !
(شاهدوا المسيرات المليونيّة الأخيرة بمناسبة أربعينية الحُسين في العراق كمثال)
بعدها ناقشوا إمكانيّات البدء بالإصلاح وطرقهِ المُمكنة!
7 / الشكّ يقود الى التفكير ثم النقاش والحوار مع الآخرين!
الشك ليس من الشرك .والفكر ليس من الكُفر ,تلك دعايات المشايخ الأغبياء.
دعوات التجديد والإصلاح ليست عمليّات جلد للذات تستحق السباب والشتائم واللوم والتكفير .إنّما تستحق الدعم والتشجيع والرعاية والإهتمام الكبير!
[مغالطة البدوي ,يقول شيئاً سخيفاً ,يقنع نفسه به ,ثم يقتل الآخرين إذا لم يعتنقوه] رعد الحافظ !
***
الرابط من الـBBC : لماذا تعيش أفكار مارتن لوثر منذ 500 عام لحدّ الآن؟
http://www.bbc.com/arabic/vert-cul-41864968#رعد الحافظ
11 نوفمبر 2017