المحرر موضوع: عبد الحسين الشيخ موسى الخطيب و نِداء الجراح....  (زيارة 991 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هاتـف بشبـوش

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
  هاتف بشبوش، شاعر و ناقد (عراق/دنمارك)

عبد الحسين الشيخ موسى الخطيب و نِداء الجراح....

 

في يومٍ بهيّ وشهرٍ زاهدٍ وسنةٍ ملفعة بغيوم اللّغة الرّصينة، أمطرتِ السّماء في مدينة السماوة كلمات موزونة فراهيدية مقفاة ذات معنى ، وبإيقاعٍ موسيقي ومعنوي مذهل تجمّعتْ كلّها وأنجبتْ لنا في عام 1924 الشّاعر عبد الحسين الخطيب ومن منّا لا يعرف هذا العلم البارز وسيظلّ هكذا اليوم وغدا وبعد أجيالٍ لما تركه لنا رحمهُ الله من مُنجز عظيم في عالم الشّعر الوجداني والسياسي والحسيني و ما تغزّل بالنّساء والمفاتن التي تستيقظ لها أعين الرّجال فتستثار لمجرّد النّظر إلى الرّقاب المرمريّة والوجوه ذات النّبع النّوراني والصّدور الخافيات العارمات خلف العباءةِ السّوداء.
الشّاعر عبد الحسين زرع وحصد ثمّ أعطى ثماره فما علينا سوى أنْ ننضد العناقيد العنبية لشعره بشكلها الجميل ثمّ نرشّ عليها رذاذ الماء كي تظهر بمظهرها البرّاق النّظيف الذي يليق بأفواه النّساء المعطّرات بوصفه كما نرى لاحقا في ديوانه مدار بحثنا هذا ( نداء الجراح ) الذي اشتملَ على أكثر من ثلاث مائة صفحةٍ من القطع الكبير.
أرى في هذا الدّيوان الكثير من الأشياء اجتمعت بقوّة النصّ وصاحب النصّ وإطلالة الكلمات من شاعر له اسمه المعروف في السماوة والعائلة التي اتّخذتْ من الأدب مهنة وحرفة وذائقة.
عبد الحسين هو ذلك الرّجل الذي يدخل سويداء القلب بلا استئذان كما عرفناه.
 عبد الحسين الخطيب كحال أغلب الشّعراء الوطنيّين الذين ناضلوا ضدّ الطغيان وجرّبوا السّجون تراه في صراع دائم بين أن ينسى وبين أن يتذكّر تلك العذابات التي نالها جسده وعقله في السّجون حيث عُنْفُ الجلادين أو في الشّوارع حيث رؤيا الظّلم عن كُثب لفقر النّاس وما تفعله الزّمرُ الموالية للأنظمة الرجعية والقومية الشوفينية بشعوبها ولذلك قال ميلان كونديرا (إنّ صراع الإنسان ضدّ السّلطة هو صراع الذّاكرة ضدّ النّسيان).
 كتب عبد الحسين الخطيب في ديوانه هذا كثيرا عن جراحات العراق والأمة العربية وعن عبد الكريم قاسم في أكثر من نصّ وعن آيار العمال وعن فلسطين وثورة تموز وحرب حزيران 1967 وحرب تشرين الأول 1973 ، فكلّها شروحات وطنيّة خالصة تتغنّى بالذود عن الأرض وعن الوطن. ولذلك نرى ثاني قصيدة في الدّيوان مهداة إلى ثورة تموز 1958( فلا بدّ للّيل من آخر) التي يقول فيها :

أطلّي على شعبك الثّائرِ كإطلالة القمر الزاهرِ
مدي الظلالَ بخير الرؤى تحومُ على الفلك الدائرِ
و أرخي عنان المنى الحالمات لتختال في الموكب الظافرِ
أيا ابنة تموز والذكريات نشاوى تراقصُ في الخاطرِ

إلى أن يقول:

يرف التحرّر في وجنتيك ويومض من وجهك السّاحرِ
وأقوى من الموت والمعتدين  بحنكة ربّانكِ الماهر ِ

ويقول في ذكرى تقسيم فلسطين 1948 نصّا بعنوان ( الحياة كفاح):

تقدّم لنطرد عن أرضنا قراصنة من أذل الأممْ
تقدّم وطهّر ثرى القدس من جراثيمٍ تنفثُ حقداً وسمْ
تقدّم سلمت إلى تل أبيب لنرفع قهرا عليها العلم ْ
تقدّم لعزٍ يهان ومجدٍ  يداس وحقّ لنا يخترمْ




حتّى ينتهي فيقول:

فدعها وجرّد حسام الجهاد وإلاّ تعضّ بنان النّدم
وعهدي بأنّك يوم النّزال  تصول وتثبتُ طودا أشمْ

هذه النّصوص كانت تُكتب في زمن الأغاني واللّحن الذي يُثير الحماس في نفوس الغيارى فكانت الإذاعات تدوّي بتلك الأغنيّة الفلسطينية الشّهيرة بعنوان (الثائر) من كلمات محمد حسيب القاضي وتلحين وجيه بدر خان (حين يصيح البروقي ما في عوقي ...كلاشنكوفي يسابقني يطير من شوقي... لو ميت طيارة من فوقي .. لو ميت دبابة قدامي .. بجعل درع من صدري واحمي رفيقي... بإيديّ أشد من ليلي خيط شروقي) . فكان بالفعل صوت الرّصاص هو نغم جميل بالنّسبة للثّائرين عكس ما نراه اليوم ومُجرمي الدواعش الذين جعلوا من مسار الرّصاص يتوجّه لشعوبهم وإخوانهم وأهاليهم فبالتّأكيد هنا سيكون الدويّ قبيحا ملعونا ونذير شؤم . وكم هي نتاجات الفنّ السّابع التي أتحفتنا بالكثير من الأفلام حول تحرّر الشّعوب وخلاصها من الاحتلال والاستعمار وكم هي الجيوش بجحافلها التي كانت تتغنّى بالأغاني الثوريّة الحربيّة التي تُلهبُ الجندي ومنها فيلم إنقاذ الجندي رايان ثمثيل توم هانكس، وفيلم عن حياة الرئيس جوزيف بروز تيتو وكيفية نضاله العسكري في تحرير يوغسلافيا تمثيل الراحل( ريتشارد بريتون) ،والحرب الأهليّة في إسبانيا التي غطّى أحداثها آنذاك أرنست همنغواي.
كلّ هذا النّوع من الكتابة والبوح تعطينا انطباعا حتميّا بوطنيّة الشّاعر عبد الحسين وحُبّه لشعبه وناسه وهذا يغيض السّلطة الغاشمة آنذاك ممّا أدّى إلى تعرّضه إلى السّجن في العمارة سنة 1963 فكتب نصّا من هناك تجاوز على ثلاثة عشر صفحة (قصّة ثورة مدينة) :

و يدُ الصّراع المذهبي تسومها سوء العذابَ
قامت فحامت حولها شبهات شكٍّ وارتيابِ
وأتتْ بغير أوانها فتجنّبت سبل الصّوابِ
كم من بريءٍ أودعته السّجن من غير ارتكابِ
كم حرمةٍ هتكت بعين  تسلّطٍ ويد استلابِ

ثمّ يُكمّل فيبوح :

وا ضيعتاه وهل لعهد الظّلم ذلك من إيّابِ
سحقته أقدام الجموع  فصار من بعض التّرابِ

يبدو أنّ الشّاعر هنا كان سجينًا في أيّام الحرس البعثي القومي وشباط الأسود ، هذا يعني أنّ موجة اليسار شملته في ذلك الوقت وهذا واضحا جليّا في أكثر قصائده . وحتّى الصّراع الطائفي كان في ذلك الوقت يُمارس ولكنّه في الأقبية والسّجون واليوم فوق الأرض وعلنًا وأمام أنظار العالم أجمع بل شمل الصّراع المذهبيّ أوطان المسلمين كلّها كما الحرب الدائرة اليوم بين السُنّة والشّيعة وبلا هوادة وآخرها الحرب الوشيكة بين إيران والسعودية.
كلّ ذلك الألم أعلاه يجعلنا نفهم الشّاعر عبد الحسين مِنْ أنّه هو ذلك المُحبّ للطّبقة العاملة وفقراء النّاس وهذا ديدن أيّ شاعر حقيقي سواء إن كان في الصين أو نيويورك أو موسكو أو في أبسط قرية من قرى الجنوب العراقي المتهالك اليوم . لذلك رأيناه وهو يدافع عن العمّال وفقراء النّاس وهو في سجن نقرة السلمان سنة 1964 حيثُ نقل إليها ربما من سجن العمارة كما نقرأ أدناه من نصّ ( آيار أهديك التحيّة) :

آيار يا أنهار من كدّ ومن عرقٍ وطاقاتٍ وأتعابٍ نقية
فاضت لتغمر كل أرضٍ أرهفت لنداك خير السمع بالنعم السخية
ولتكسح العقبات رغم شراسة الأطماع عن درب الزحوف الثوروية
آيار يا بأس الشغيلة حطّم الأصفاد دكّ معاقل السلب الوبيّة
يا قصّة إلإنسان يسعى لانتزاع  الحقّ بالدّم خطّها والعبقرية

الجوع هو أعلى مراحل التّرهيب .. الجوع في الغالبِ ينهض على شكل ثورةٍ أو تخريب، الجوع هو الذي يجعل من المرء كئيباً مريضا على الدّوام ، وهارباً من البؤسِ والملل إلى النّوم على الطرقات كما هو حال أغلب المتسولين، وحين يفرغُ الييت من الرّغيف.. يرفعُ الجوع راية الشرّ والمنازعة ضدّ الطغيان ممّا يُؤدّي إلى امتلاء السّجون بالوطنيّين والشّرفاء كما حصل للشّاعر عبد الحسين وسجنه لأنّه كان من دعاة الحقّ. لكن نقرة السلمان كسجن وصحراء مخيفة.. أصبحتْ على عكس ما أراده الحاكم، حيث تعلّمَ الجميع كلّ يوم درسا في العقل والعقلانية وفي البحث عن إمكانيّة الموائمة بين الحقّ والحبّ،بين الحقّ والجمال، بين الحريّة والصّدق، بين العمق والصّفاء، بين السّجن والنّضال. ولذلك لابدّ للطبقة العاملة أنْ ترفع لواء الكفاح بوجه الطّغاة لأنّها تعمل بعرقها وكدّها على طول النّهار فيتوجّب أن ينصفها الآخرون في العيش الرّغيد أسوة بالبرجوازية والطبقات الأخرى التي تحاول سرقة إنتاج العامل. ولذلك في تلك الأزمنة رفعت الطبقة العاملة عيدها العالمي الذي جاء نتيجة جراحاتها ونداءاتها لفئات المجتمع التي أصابها الحيف في جميع مرافئ الحياة. فاعتمادا على هذا رفع المناضل عبد الحسين صرخته في نصّه الذي حمل موسومية الديوان ( نداء الجراح 1967) :

سأصبرُ مهما ابتلاني الزّمانُ وأصمدُ مهما دهتني المحن
ومهما تمادى عدوّي الجبان بغدره لن يعتريني  الوهن
سأسقيه كأس الردى والهوان وأغسل بالدم عار الوطن

ثمّ يستمرّ في نفس النصّ :

تنزّ جراحي الدما و الصديد وتجأر بالثأرِ في كلّ حين
وتهتفُ بي كّل يومٍ جديد بأن لا أهون ولا أستكين
وليس لها من علاجٍ مفيد سوى أن أُطوّح بالمعتدين

مهمّة الشّاعر هو البوح والحلم في التّغيير والاستمرار حتّى تحقيق الأماني لكنّه ليس شرطا أن يكون هو الجندي أو المحارب أو المعماري الذي يساهم في عمليّة التّغيير مباشرة. لكن المهمّة الأساسيّة لدى الشّاعر هي عدم اليأس بل هو الإصرار والتّحدّي والموت وقوفًا. هذا النصّ كُتب في زمن شعراء المقاومة الفلسطينية الحقيقيّة لا المقاومة اليوم التي تغيّرت فيها المفاهيم ، وأيّام شعراء الفكر الحقيقيّ والحبّ الخالص للوطن الذي نجده أدناه في كلمات الشّاعر الفلسطيني توفيق زياد على سبيل المثال لا الحصر :


فلتسمع :
سنجوع و نعرى، قطعا نتقطّع، لكن لا نركع
للقوّة للفانتوم للمدفع
 لن يخضع منّا حتّى طفل يرضع

أمّا عبد الحسين كان صادقًا هو الآخر في كلّ ما يقوله في هذا الصّدد مثلما نتمعّن في الشّذرة الآتية من نصّه (اليأس لا ينمو هنا) :

هيهات لو يسقى الدما فاليأس لا ينمو هنا
هيهات ينبتُ في الحمى لا تنثروه بأرضنا
أرض العروبة لا تظام مهد الحضارة والسلام
لينيرها فجر الهنا فاليأس  لا ينمو هنا

لا لليأس أو الاستسلام فهذه عبارة لنيل الحياة والمضي بها تحت ظلّ الكرامة فهي عبارة أمميّة ولكن علينا التصرّف حيالها بذكاء. فكان الزّنجيّ تهان كرامته كلّ ثانيّة تحت طغيان الرّجل الأبيض لكنّ الإصرار وعدم اليأس هو الذي جعل الشّمس تُشرقُ من جديد في سماء الأمّة السّوداء فتنال الحريّة حتّى أصبح لها رئيسا زنجيًّا يحكم أمريكا اسمه أوباما. فيتوجّب على الشّعوب أنْ تتسلّح بالفطنة والدّهاء لأنّ زمن حركات التّحرّر انتهى واليوم يحكمنا عالم القوّة الذئبيّة التي خلقتها أمريكا عدوّة الشّعوب. ولذلك نرى اليوم كوريا الشمالية و روسيا و الصّين قد خطوا خطوات مُذهلة في مجال القوّة ممّا أدّى إلى ردع أمريكا واستفرادها بالشّعوب الفقيرة. هنا رفعت الشّعوب مبدأ عدم اليأس حتّى نالت حرّيتها واستطاعتْ أن تقفَ من جديدٍ بصرختها المدويّة التي أخرستْ الإمبرياليّة العالميّة.