المحرر موضوع: من لفّق مذكرات نجيب الريحاني  (زيارة 1269 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31448
    • مشاهدة الملف الشخصي
من لفّق مذكرات نجيب الريحاني
يعد نجيب الريحاني المصري من أصل عراقي من أبرز رواد المسرح والسينما في مصر والوطن العربي، إذ يعتبر رائد الفكاهة، هذا النمط الفني العريق. ومثلت سيرة الفنان مصدرا ثريا للتعرف على أحوال الفن في نشأته وبيئته، لكن أثير مؤخرا جدل كبير بصدور كتاب يفنّد المذكرات المنشورة، معتبرا إياها مذكرات ملفّقة.
العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/12/09، العدد: 10837، ص(16)]

فنان ظلم حيا وميتا
لا يختلف كتاب شعبان يوسف الجديد “نجيب الريحاني مذكِّرات مجهولة“، الصادر عن دار بتانة للنشر 2017، عن كتاباته السَّابقة التي تناول فيها ظواهر أدبيّة مهمّة على نحو بحثه عن الأبوية في الإبداع والتي آلت بالكثير من الكاتبات إلى الانتحار كما في كتاب “لماذا تموت الكاتبات كمدا؟” أو بحثه في ظاهرة يوسف إدريس، ومُساءلة فحولته التي طغت على كثيرين وكانت سببا لأن يكون لإدريس ضحايا حتى وإن لم يقصد، على نحو ما جاء في كتاب “ضحايا يوسف إدريس وعصره”.

المذكرات الملفقة
نُشرت “المذكرات الملفّقة” في عام 1959 في كتاب الهلال، وقد أعادت الهلال مؤخرا في سبتمبر الماضي نشرها من جديد في 166 صفحة بذات التقديم القديم لبديع خيري صديق الفنان. وفي الأصل كانت هذه المذكرات قد نشرت منُجمة في مجلة الكواكب عام 1952 بداية من العدد رقم 44 الصادر في 3 يونيو عام 1952 أسبوعيا دون انقطاع حتى العدد رقم 66 الصادر في 4 نوفمبر 1952، ولكنها راجت رواجا كبيرا، حتى صارت المصدر الموثوق منه عند الحديث عما يتعلّق بالريحاني.

لكن ثمّة مذكِّرات أخرى صدرت بعد وفاة الريحاني مباشرة عام 1949 ولم تحظ بفرص الانتشار والذيوع لأنها صادرة عن دار نشر غير معروفة كما يقول شعبان يوسف الذي تلبَّس لُبُوسَ المحقِّق هنا وهو يستقصي حقيقة المذكِّرات الحقيقية، ويكشف أكاذيب المذكرات الملفقة، وادعاءات مُحرِّرها.

ويرى يوسف أنّ من العوامل التي ساهمت في تحقيق الحصانة وعدم الدفع بالشكوك في طبيعة المذكِّرات المـُلفَّقَة، نشرها في دار عريقة هي دار الهلال، وأيضا التقديم الذي كتبه رفيق نجيب الريحاني الفنان بديع خيري، والغريب كما يقول المحقِّق أنه (أي بديع خيري) صدَّق على كل ما جاء في المذكِّرات، علاوة على ما ذكرته دار الهلال من أنَّ هذه المذكرات سلّمها الرّيحاني بخط يده لدار الهلال.

لكن أحد الدوافع التي ساقت الباحث لمراجعة اليقين السَّابق وزحزحته إلى مرحلة الشّك، تساؤله: لماذا لم تنشر الهلال صورة من خط يد المؤلف؟ وهو ما يقطع باليقين نسبتها إليه، ثم جاءت المبالغات والخيالات في الأحداث التي من الصعب تصديقها، لتزيد من هذه الهواجس. فاضطرّ إلى البحث عن الريحاني في المجلات القديمة وكذلك في المذكرات التي كتبها معاصروه وإن كانوا من خصومه ومنافسيه مثل فتوح نشاطي، علاوة على ما كتبه الريحاني نفسه من مقالات في مجلات ذلك الزمان.

وقد لاحظ اختلاف أسلوب الريحاني في المقالات عمّا جاء في هذه المذكِّرات، وهذه الملاحظة دفعته إلى الانتقال مِن مرحلة التردّد إلى مرحلة الجزم واليقين في الشّك في نسبة المذكِّرات إلى الرّيحاني. لكن التطوّر الأخير للجزم بالشك، تمثَّل في العثور على مذكِّرات صدرت بعد رحيل الريحاني بقليل عن دار الجيب بعنوان “مذكرات نجيب الريحاني… زعيم المسرح الفكاهي” وتصدرتها كلمة لنجيب الريحاني ذاته. وقد جاءت هذه المذكرات في 116 صفحة.

ويدلِّل المؤلف على صدق المذكّرات الأخيرة بأنها جاءت تالية لوفاته كما أن الكثير من موادها نُشر في أعداد سابقة لمجلات. كما يلفت المؤلف الانتباه إلى الخيال المفرط لمـُحرِّر هذه المذكّرات؛ فالمحرِّرُ مال إلى الاستظراف في الكتابة إضافة إلى تحقير الذات، حتى أنّ المؤلف يخال له الأمر كما لو أن “هناك مؤامرة حيكت حول نجيب الريحاني”.

السارد لا يجتر كل حياته وإنما ينتقي مواقف بعينها يرى أنها المهمة

المذكرات فنيا
تختلف طبيعة المذكّرات المشوَّهة عن المذكّرات الأصلية في أنها ناقصة لا تحتوي على ما ورد في المذكّرات الأصلية، وهو ما أسماه المؤلف بالمحذوفات، وهي تتعلق بمحاولات يوسف وهبي تقليد الريحاني واختراع شخصية له على شاكلة “كِشْكِشْ بيه” لكنه فشل فشلا ذريعا. ومنها أيضا حكايات عن بديعة مصابني ومحمد عبدالوهاب، وهناك أيضا حكايات عن الملك فاروق وعطفه عليه وتشجيع الجمهور على مشاهدة مسرحياته، وبالمثل ثورة الملك عبدالله ملك الأردن وغضبه عندما شاهد العرض ظنا منه أن المسرحية تنتقد الحكومة. ويبرر يوسف لجوء المحرّر إلى الحذف، بأن هذه المحذوفات تظهر الريحاني بطلاً مدافعا عن الفن، فهو يقصد إظهاره بأنه فنان هزلي وظيفته إضحاك الناس، وهو الاتجاه الذي حاول تأكيده من انتقدوه في مقالاتهم.

وفي الفصل الثاني “الرِّيحاني المفترى عليه” يستعرض المؤلف تاريخا من الإجحاف تعرّض له الريحاني من الدولة ومؤسساتها الرسميّة، نظير ما قدمته من خدمات للمسرح وللجمهور، لكن لم يجد الريحاني إلا التعنت والهجوم والتسخيف ومحاولات النيل ممَّا يُقدِّمه. وما زاد من الأمر بلَّة هو أن هذا الجحود جاء أيضا من بعض الأدباء الذين اعتبروا ما يُقدِّمه الرّيحاني لا ينتمي إلى الفن بأيّ طريقة، على نحو ما فعله الكاتب محمد تيمور في مقالته، وكذلك رجال الدين ومدَّعو الفضيلة الذين اعتبروا أن مسرح الريحاني الهزلي هادم للأخلاق وأركان الدين. ولم يتوقف الهجوم ضدّه حتى بعد وفاته.

الكتاب جاء في ثلاثة أقسام؛ القسم الأوّل كان بمثابة تحقيق لهذه المذكِّرات الجديدة، وبيان تلفيق المذكِّرات الرّائجة عن الريحاني. ثم جاء القسم الثاني بعنوان “مذكرات نجيب الرِّيحاني زعيم المسرح الفكاهي” وهو يعرض المذكِّرات الجديدة في ستة فصول مذيلة بكلمة المحرر. أما القسم الثالث فهو عبارة عن “آراء ومقالات في الريحاني” ويتناول المقالات التي تعرضت بالنقد لشخصية الريحاني، وكذلك المقالات التي أوفت الفنان حقه.

وتحكم بنية المذكرات، تقنية الانتقاء والاختيار، فالسارد لا يجترّ كل حياته وإنما ينتقي مواقف بعينها يرى أنها ذات أهمية في تشكيله، ويترك الحوادث الصغيرة. فيبدأها من لحظة فارقة في حياته، دون أن يستعرض أمجاده القديمة أو حتى طفولته ومراحل تكوينه. وهذه التقنية لا نجدها في المذكرات الملفقة، حيث تستعرض حياة الريحاني منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره في المدرسة، ومع إهماله للبدايات إلا أنه بدأها من التكوين الفكري حيث المدرسة، في حين أن المذكرات الحقيقية بتعبير شعبان بدأت من علاقته بالمسرح وهو اختيار مقنع.

وتتميزُ المذكِّرات بأسلوب جذَّاب وسلسل في العرض، فلا يقتصر الأمر على الطرائف التي يسوقها الريحاني وإن كانت من جوهر حياته وليست دخيلة عليه، وإنما أيضا عبر أسلوبه المرح حتى وهو يسرد عن أقسى المواقف في حياته، علاوة على وعيه التام لشدّ القارئ إليه الذي يضعه أمامه عينيه ويخاطبه.

وأهمية هذا الكتاب ليست فقط في أنه تعامل مع المذكرات الملفقة على أنها واقعة تحتاج إلى بحث وتحرّ لإثبات صدقها أو نفيها، ومن ثمّ كانت عاملا مهما في الكشف وإظهار المذكرات الحقيقية، وإنما في إحاطته التامة بالريحاني وتقديمه ليس مِن منظور واحد، وإنما عبر تصوّر الآخرين له حتى ولو كانوا معارضين له، لكن يبقى السؤال الذي لم تُجب عنه الدراسة على سخائها: مَن وراء المذكرات الملفقة؟ وما الغرض منها؟