المحرر موضوع: صادق الطائي في القدس العربي :محنة الأقليات: ماذا بعد «داعش»؟  (زيارة 947 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عنكاوا دوت كوم

  • مشرف
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 37773
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
محنة الأقليات: ماذا بعد «داعش»؟

عنكاوا دوت كوم/القدس العربي /صادق الطائي


لا شك أن محنة العراق بشكل عام ومحنة المدن التي سقطت بيد تنظيم «داعش» الإرهابي كانت كبيرة، تخللتها مآس كثيرة، لكن يجب أن نؤكد أن محنة الأقليات الدينية، وبعض الاقليات العرقية كانت مضاعفة، لأنها كانت هدفا لتوحش ارهابيي التنظيمات المتشددة من جهة، ورقما منسيا لا تفكر بهم الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية من جهة أخرى.
وبذلك تركوا لمعاناتهم بدون أن يسمع أحد صرختهم، ولم يواسهم أحد في مصابهم. أقليات دينية مثل المسيحيين، عمرهم ممتد بعمق تاريخ العراق، وفي لحظة مارقة من هذا الزمن الاسود يجدون أنفسهم مطرودين من بيوتهم ومدنهم وكنائسهم، التي تحولت إلى خرائب. طوائف دينية مسالمة لم يشهد تاريخ وجودها أنها حملت سلاحا في يوم من الايام مثل الايزيديين أو الشبك أو الصابئة المندائين تحولوا إلى مجرد رقاب للنحر، يشحذ الارهابيون بها حرابهم. هل ستتمكن حكومة بغداد من أن توفر الامان المجتمعي لهذه الاقليات، بعد اعلان النصر النهائي على «داعش»؟هل ستتمكن من إعادة المسيحيين والشبك والايزيدين إلى مدنهم؟ هل يمكن أن تعود حياة من هجروا لاسباب دينية وعرقية إلى ما كانت عليه قبل المأساة؟
تتميز منطقة شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا بكونها وحدة جغرافية حاضنة لمختلف الأديان والأعراق في الشرق الأدنى، حيث تواجدت فيها الأديان الإبراهيمية الثلاثة بمذاهبها وطوائفها المختلفة، بالإضافة إلى أديان وضعية قديمة وأعراق مثلت كل التنوعات التي تعيش في الشرق الأدنى، ونتيجة لطبيعة الأرض الجبلية، فقد توفرت في المنطقة ملاذات آمنة للكثير من الحركات الدينية التي حاولت أن تختبئ من مضطهديها، وأوضح مثال على ذلك تمثل في مختلف الطوائف المسيحية، التي كانت تهرب من مضطهديها وتلتجئ إلى هذه المنطقة كالكنيسة النسطورية، التي أصبحت الكنيسة الأم للمشرق لحقب تاريخية طويلة، وكذلك، كان الحال مع الأديان القديمة كالمندائيين الذين يروي تاريخهم الديني رحلة يختلط فيه التاريخي بالاسطوري، حيث انتقل أسلافهم نتيجة الاضطهاد الديني من ضفاف نهر الاردن في فلسطين إلى حران في سوريا، ثم إلى منطقة الأهوار في العراق. أما اتباع الديانة الايزيدية فقد وجدوا في جبل سنجار ملاذا يحميهم من مضطهديهم، وهو ما حظيت به الديانة الزرادشتية والكاكائية في سهل شهرزور.
مع كل ما شهده التاريخ من هجمات تشن على الأقليات باعتبارها الحلقة الأضعف التي يستقوي عليها جيرانها، الا أنها دائما كانت تحمي نفسها وتنغلق على وجودها وتحاول التعايش والبقاء، رغم حملات الاضطهاد. لكن الهجمة الحالية ربما نستطيع وصفها بالاشرس، لأنها كانت تنتهج آلية الاجتثاث من الجذور، اجتثاث البشر ومحوهم عن طريق القتل أو التهجير، اجتثاث الوجود المادي عبر تدمير الإرث الديني المتمثل بالكنائس والمعابد وتدمير المنازل، بالاضافة إلى ترسيخ ثقافة الكراهية ونشرها في عقول جيل من الأطفال والشباب عبر مناهج التنظيمات المتطرفة، التي سيطرت على المدن حوالي ثلاث سنوات، بل إن البعض يرى النقطة الأخطر في ما قام به «داعش» من عمليات غسيل دماغ لأطفال الأقليات من المسيحيين والايزيديين الذين أجبروهم على الدخول في الإسلام وحولوهم إلى ادوات للقتل، والنتيجة أنه حتى من تم تحريره منهم وإعادته لعائلته سيعاني طويلا مما زرع في عقله من كراهية لمجتمعه الأصلي.
عانت الأقليات الدينية منذ الاجتياح الامريكي للعراق في ابريل 2003 حتى الان الكثير من الاعتداءات، فقد اختطف وقتل منهم العديد، تقدر التقارير الرسمية، عدد المسيحيين الذين قتلوا بحوالي 1456 شخصا مدنيا، منهم رجال دين ورموز مجتمعية بارزة، مثل المطران بولص فرج رحو الذي اختطف في 29 فبراير 2008 وبعد مرور أسبوعين أعلن الخاطفون مقتله وعثر على جثته ملقاة في حي النور في مدينة الموصل شمال العاصمة بغداد. كما مثل الهجوم الارهابي الكبير على كنيسة سيدة النجاة، جرحا غائرا في نفوس مسيحيي العراق، حيث قتل في هذه المجزرة أكثر من خمسين شخصا من المصلين في ليلة العيد في كنيسة للسريان الكاثوليك في منطقة الكرادة في بغداد، مجزرة ذهب ضحيتها أبرياء في ليلة عيدهم عند اقتحام قوات الأمن للمكان الذي احتله الارهابيون الذين استعملوا السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة، بالاضافة إلى مختلف الأسلحة لقتل من كان يصلي في الكنيسة.
النتيجة أن المسيحيين في العراق اليوم يعيشون أفولا ينبئ بإفراغ البلد من أقدم مكوناته البشرية، وهذه الحالة هي ما توجزه الإحصاءات شبه الرسمية، حيث يشير رئيس مجلس الطائفة المسيحية العراقية في الأردن غازي رحو، وهو أحد اقرباء المطران رحو المغدور في الموصل، في لقاء صحافي فيذكر أن عدد المسيحيين في العراق، قبل الاجتياح الامريكي كانوا بحدود مليون و420 ألف مسيحي من مختلف الطوائف، أما اليوم فإن عدد من تبقى منهم لا يتجاوز 450 ألف مسيحي، استطاعوا البقاء في مدنهم ومنازلهم بالقرب من كنائسهم، أي أن هنالك نحو مليون مسيحي عراقي تم تهجيرهم، سواء إلى إقليم كردستان أو إلى الأردن ولبنان وتركيا بانتظار هجرتهم النهائية إلى اوروبا وامريكا واستراليا.
أما الوجه الآخر للكارثة فقد تمثل في حملة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الإيزيديون في محيط جبل سنجار قرب الموصل على يد الإرهابيين من تنظيم «داعش»، وذكر محققو الأمم المتحدة في آخر تقرير صادر عن المنظمة الأممية بهذا الشأن؛ أن داعش ارتكبت إبادة جماعية بحق الايزيديين في سوريا والعراق للقضاء على هذه الأقلية الدينية، من خلال القتل والاستعباد الجنسي وجرائم أخرى. كما قال مكتب شؤون المخطوفين في دهوك، الذي تدعمه حكومة إقليم كردستان أنه يعتقد أن نحو 3500 أيزيدية ما زلن في عداد المفقودات، نتيجة تعرضهن لعمليات استعباد جنسي نتج عنه بيع السبايا أكثر من مرة في مختلف المدن العراقية والسورية في مناطق تخضع لسيطرة «داعش».
كما ذكر قائمقام قضاء سنجار محما خليل بعد تحرير المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة «داعش» أن الكشف الأخير رفع عدد المقابر الجماعية للايزيديين التي عثر عليها حتى الآن إلى 29 مقبرة وتوقع أن يفوق العدد الإجمالي 40 مقبرة جماعية في جميع المدن التي سيطر عليها الارهابيون.
كذلك تعرض الشبك والشيعة التركمان في تلعفر وبقية الأقليات في المدن والقرى التي سيطر عليها «داعش» إلى مجازر والى تفجير المقامات والحسينيات والمزارات، وتفخيخ منازل من هجروا من المدنيين العزل حتى بات من الصعب جدا عودة المهجرين إلى مدنهم التي تحتاج إلى جهد هندسي قد يمتد لاشهر لحين تطهير الشوارع والمباني والبيوت من المتفجرات، وأشهر أخرى لإعمار هذه المدن المهدمة.
ويرى بعض الباحثين أن هنالك تغيرات بنيوية في سلوك الأقليات المسالمة تمثل في انخراط شبابهم في ميليشيات مسلحة في محاولة للدفاع عن أنفسهم والوقوف بوجه موتهم المجاني، ولكنهم وفي الوقت نفسه أصبحوا جزءا من دوامة العنف الدائرة في العراق، ورغم أن رأس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم البطريرك لويس ساكو كان قد شدد على أن المسيحيين ليسوا مع تكوين ميليشيات ولا تكوين حشود أو فصائل مسلحة، الا أن العديد من الشباب المسيحيين في قرى وبلدات سهل نينوى ذي الغالبية المسيحية انخرطوا في ميليشيا بابلون، التي يقودها ريان الكلداني، حيث وجدوا نموذجا يحتذى للعيش في خضم العنف الذي يتعرضون له. كذلك أن ضم العديد من الشباب والشابات الايزيديين إلى مليشيا ايزيدية يشرف عليها تدريبا وتسليحا حزب العمال الكردستاني التركي ( PKK)، الذي أعد هذه المليشيا على غرار وحدات حماية الشعب في كردستان سوريا، لتواجه اي خطر قد يهدد مناطقهم مستقبلا، كذلك كان حال شباب التركمان الشيعة والشبك الذين انضموا إلى فصائل الحشد الشعبي المختلفة، بالتالي اصبحت هذه الاقليات جزءا من دوامة العنف الدائرة، فهل سينقذها هذا الحل ويحافظ على بقائها؟ أم أن بعض الحلول التي ربما اتسمت بنظرة مثالية للمشكلة ستمثل حلا افضل من الانخراط في دوامة العنف؟ حلا طرحه البعض وهم لا يتوقعون إمكانية تطبيقه، مثل إنشاء اقليم يتمتع بحكم ذاتي في سهل نينوى تعيش فيه الاقليات الدينية المضطهدة كالمسيحيين والايزيديين والشبك ويحظى بحماية اقليمية أو دولية. حال الاقليات اليوم يمثل أحد التحديات الكبرى التي ستواجه حكومة بغداد المقبلة.

كاتب عراقي
أي نشر، أو إعادة تحرير لهذه المادة، دون الإشارة الى " عنكاوا كوم " يترتب عليه أجراءات قانونية