المحرر موضوع: مخاض رائع / قراءة في مجموعة نوبات شعرية للدكتور صالح الطائي  (زيارة 1311 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل أدب

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 308
    • مشاهدة الملف الشخصي


مخاض رائع / قراءة في مجموعة نوبات شعرية للدكتور صالح الطائي

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون الحسني

الشعر ما لم تحتضنه الموسيقى مغامرة غير مجدية. في القصيدة تتحول كل التفاصيل إلى قيم نغمية تحدث هذا التآلف والانسجام المذهلين فتنصهر الفكرة والخيال والكلمة محدثة أشبه ما يكون بسيمفونية تترافد فيها آلات كثيرة، ولكن تصنع لحنا واحدا منسجما. ولا يقصد بالموسيقى ذلك البناء اللحني الظاهر الممثل بالبحور، بل هذه البحور تدخل جزءا في نغمية الشعر، ولا تصنع بمفردها شعرا.
 إن التصدي لكتابة قصيدة ناجحة يحتاج إلى إحساس مرهف بالنغم وذوق سمعي رفيع، وعلى هذا الأساس يصنف الشعراء كبارا أو صغارا؛ فالشاعر الكبير يختار له طبعه كلماته فتأتي متناغمة، متآلفة مع أجزاء القصيدة ومتلابسة كالسبيكة . والشاعر الصغير هو الذي يختار كلماته بوعي تام ليقطّعها على قوالب موسيقية معدة سلفا فتأتي قصيدته مفككة غير متلابسة كذرات الرمل . وهذا يفسر لنا كيف أن كبار الشعراء كانوا على درجة غير اعتيادية من الموسيقية كالأعشى الذي سموه لنغمية أشعاره العالية بـ(صناجة العرب)، وكقمم شعراء الأمس واليوم الذين ابتكروا ألحاناً وأنغاماً تنسجم مع الصوت العربي فأبدعوا.
في مجموعة الدكتور صالح الطائي يبدو الظهور الموسيقي جلياً.. فنحن نتفاعل مع الأفكار والمفردات من خلال النغم فنعيش أجواءه.. فإذا كنا نريد التأكد من أن صالح الطائي شاعر أم لا، أو البحث عن الشاعر في الباحث الإسلامي صالح الطائي، فالقراءة الموسيقية تبرز حقيقة انه (شاعر) بالفعل. نجد ذلك في شعره العمودي، الذي كتبه بطريقتين: الشطرينية المعتادة، أي قصائد ذات شطرين متقابلين، وقصائد شطرينية وزع كلماتها بطريق الشعر الحر. وكذلك نجد الموسيقى في شعره النثري.
ومن الأمثلة الموسيقية في شعره العمودي قوله:
هل الجراح الشمُّ يا ضيغمُ      أسياف مجد يعتليها فمُ
تهجّد الدين على صوته      وسار في صراطه معلمُ
وقوله:
رتل تواشيح الهوى
فالحشد
قد رفع اللوى
والشعب هبَّ جميعه
ومشى يطهّر نينوى
فالموسيقى تظهر بسيطة عفوية منسابة، وكأنَّ الشاعر قالها وهو تحت وطأة غيبوبة خالية من صحو الوعي، وألا لجاءت مفتعلة. وهذه سمة بارزة في شعره، اقصد العفوية والطبع وعدم التكلف.
وكقوله من قصيدة نثر بعنوان (يا سجدة العمر النبيل):
إليك يا سيدتي
يا من تنوئين بحمل اشتياقي
يا سجدة العشق النبيل
في محراب دنياي
يا لوعة عاشرتني سنين
تملأ قلبي حنين
فيلاحظ أن الشاعر يستحضر سمة موسيقية هي (القافية) فضلا عن التقطيع، وانسجام الكلمات، وتآلف حروف الكلمة الواحدة نفسها، كل هذا يصنع موسيقى فاعلة في النص والنفس، تعوّض الوزن الخارجي الذي هو طفيف الموسيقية، كما تشي بذلك قصائد الشعر التعليمي التي تكتب على بحر الرجز وغيره ولا يحس القارئ بأي موسيقى فيها .
صالح الطائي شاعر.. نعم شاعر جيد، ليس شاعراً كبيراً وليس شاعراً خاملا في نتاجه إذا قيس بجمهور الشعراء الموجودين في المشهد الواسطي أو العراقي.. في اختيار اللفظة الشاعرة، والأسلوب الشاعري، والأساليب والأدوات وطرح الأفكار والصور والفذلكات والقفشات.. الخ في كل ذلك هو لا يتخلف عن الشعراء، بل واحد منهم. نعم في بعض القصائد يظهر تعب المخاض، وألفاظ هاجرة، وصور لم تكتمل، وهذا أمر طبيعي يحصل لدى الكبار. أما الطائي فله العذر فإنه قام باستيلاد جديد لشاعر قديم في أغوار نفسه أخفته السنين والظروف، حيث أخذته الحياة. وعندما ظهر باحثاً ومفكراً، ظلَّ يلح عليه الشاعر الأمسي البعيد ليخرجه.. ثمّة شواغل عطلته.. إلا أن صدق الشاعرية هو الذي نجح أخيراً في إخراج هذا الشاعر المكبوت أو الامسي في نفسه... فكان ظهوراً يستحق العناء.
هو شاعر إذن، وله تاريخ قديم، وثمة قصائد قديمة تجاوزت المحاولات التجريبية. وهو شاعر جيد مؤثر ويمتلك الفعل الشعري، وإذا لم يكن في المقدمة فالأمر راجع إليه؛ فالشعر يختلف عن التأليف والتفكير العقلي، الشعر يعطي قياده للمتفرغ له.. فإذا أراد التفرغ له فليس عسيراً عليه مع امتلاكه الموهبة والأدوات أن يتقدم متخطياً الرقاب إلى الصفوف الأولى، وقد سئل الشاعر خليل مطران عن سبب تقدم احمد شوقي على شعراء جيله فقال: (لقد أعطى شوقي نفسه للشعر، فأعطاه الشعر ما لم يعط غيره). وشاعرنا مفكر وبحاثة وعلامة من الطراز الأول، فهل سيوازن بين العاطفة والعقل، أم سيضحي بالتفكير لصالح التشعير.. معادلة صعبة.. فنحن نعرف أن أبا العلاء المعري حين أصرَّ على أن يكون شاعراً وفيلسوفاً دون التضحية بأي منهما أصيب بخيبة أمل شعرية في أن يكون ثاني المتنبي، وقصرت يده عن اللحاق بالقمة، إلا انه وجد في أشعاره الفلسفية الراحة والرضا والعوض.
نبارك لواسط وللعراق خروج الشاعر من جوانح الباحث الكبير صالح الطائي، بمجموعة شعرية رائعة طافحة بالشعرية والصور الجميلة، في موضوعات وطنية وعاطفية اسماها الشاعر (نوبات شعرية) لتأكيد أن هذا الشاعر كان يفاجئ الباحث فيدق عليه قلبه وعاطفته ومشاعره، وهذه النوبات هي الخروج الميمون والظافر للشاعر أخيراً. فمبارك للشاعر صالح الطائي خروجه في هذا المخاض الشعري الجميل.