المحرر موضوع: مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق 4 - 4 استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة بالعراق  (زيارة 589 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كاظم حبيب

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1265
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
كاظم حبيب
مستلزمات الخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بالعراق
4 - 4
استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة بالعراق
حين يقرأ المواطن والمواطنة، سواء أكان بالعراق أم خارجه، من الملمين بالشؤون الاقتصادية، تفاصيل الموازنة المالية العراقية لعام 2018 ويطلع على ملاحظات العديد من الكتاب الاقتصاديين والماليين يدرك بأن النظام السياسي القائم، الدولة وسلطتها التنفيذي (الحكومة) والتشريعية (مجلس النواب)، بعيدة كل البعد عن متطلبات الاقتصاد والمجتمع بالعراق. وهو أمر غير مستغرب لنظام سياسي طائفي يعتمد المحاصصة الطائفية والأثنية في توزيع المسؤوليات في السلطات الثلاث، وتقوده مجموعة من أحزاب الإسلام السياسي الطائفية التي لم ولا يهمها المجتمع وتقدمه وازدهاره، بل يتركز همها الأول والأخير على الاستمرار بالسلطة والنفوذ والهيمنة على المال العام والتصرف به على وفق الأغراض التي تسعى لها، ومنها زيادة ما لديها من أموال السحت الحرام في حساباتها في البنوك الأجنبية. إذ يغيب عن هذه الميزانية أي رؤية استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، للتنمية الصناعية والزراعية والسياحة والخدمات الإنتاجية، ولاسيما الطاقة الكهربائية والماء والنقل والاتصالات، ولا لمصالح الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب الفقراء والكادحين وذوي الدخل المحدود. فهي ميزانية تقليدية تقوم على باب الواردات وباب المصروفات، واعتمادها بنسبة عالية جداً تصل إلى حدود أو أكثر من 90% من إيراداتها على الأموال المتأتية من صادرات النفط الخام، فهي ميزانية تكرس الريعية في الاقتصاد، ويغيب عنها ما يطرح في الوقت ذاته الميزانية الاستثمارية التي يفترض ان يرد فيها الاستثمار الحكومي الفعلي في القطاعات الإنتاجية، وما ترسمه من احتمال توظيفات في القطاع الخاص والتي سوف لن تتحقق، إذ سوف تتوجه استثمارات القطاع الخاص للتوظيف في قطاعات التجارة والعقار والسمسرة والمضاربات المالية وتهريب الأموال والأرباح. ونسبة عالية من استثمارات الحكومة ستذهب لقطاع النفط لتزيد من حالة التشوه والقطيعة بين الاقتصاد النفطي العراقي وبقية القطاعات الاقتصادية العراقية. وستعاني الجماهير الواسعة من شظف العيش والتقشف الحكومي على حساب الفقراء والمعوزين وأصحاب الرواتب المحدودة، وستزداد نسبة مدفوعات العراق عن ديونه الخارجية والفوائد السنوية المترتبة عليها، وهو خضوع صارخ لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على وفق الاتفاقية السيئة المعقودة مع هاتين المؤسستين الدوليتين في غير صالح العراق، والتي لم تكن شروطها يوماً في صالح الفئات الكادحة والمنتجة للخيرات المادية، بل لصالح الأغنياء ومصالح الرأسمال الأجنبي ووجهة التطور التي يسعون فرضها على العراق والدول المماثلة له، كما ستتعرض موارد العراق المالية إلى النهب من الباطن والخارج وعلى نفس الوتيرة السابقة، لأن القوى والأحزاب الحاكمة ذاتها لم تتغير، ومازال الفاسدون يجلسون في الصفوف الأمامية من مواقع الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها الأخرى.
جاء في مقال للسيدة شذى خليل نقلاً عن الأستاذ الدكتور مظهر محمد صالح ما يلي:" وأكَدَ المستشار الاقتصادي لرئاسة الوزراء مظهر محمد صالح ان موازنة 2018، تحمل إرثا منذ عشر سنوات وليومنا هذا، فهي “ريعية نفطية”، حيث تبلغ صادرات النفط للعراق الاتحادي 3.888 مليون برميل يوميا. وتوقع صالح ان تصل الايرادات النفطية الى حوالي 74 تريليون دينار عراقي والإيرادات غير النفطية ، 12 تريليون دينار عراقي، شاملة الضرائب والرسوم والايرادات الرأسمالية ، والايرادات التحويلية ، اي ما تحصل علية الموازنة يقد بـ86 تريليون دينار عراقي مضافا اليه الاقتراض الداخلي والخارجي بحدود 10 تريليونات بحيث تصبح قيمة الموازنة الاجمالية 96 تريليون دينار عراقي ، عدا الديون التي سوف تسدد، وخدمات تلك الديون ( قسط + فائدة ) التي تبلغ نحو10 تريليونات."1) وأشارت في مكان آخر لموضوع مهم أيضاً قولها" "كما اكد صالح إن الخطر في الموازنة يعود الى انه كلما كانت تحقق فائضا بالإيرادات كانت تتوسع بالوظائف والرواتب مما شكل اعباء بمرور الوقت على الموازنة مشيرا الى صعوبة التخلي عن هذا التوسع، فعندما تتعرض لازمة مالية، المشكلة هنا كيف توفر استدامة مالية صحيحة، فعندما هبطت اسعار النفط حوالي 67%  عن معدلاتها التاريخية ، حاول العراق جاهدا زيادة كمية المنتج النفطي حوالي 30% لتعويض ذلك الهبوط الكبير في الاسعار، لكن دون جدوى، اذ كانت الفجوة كبيرة، فتحول العجز الافتراضي الى عجز حقيقي، فعندما تسعر الموازنة على 80 دولارا، كان العراق يبيع 103 دولارات ، وحين تسعر او تبنى الموازنة على سعر برميل النفط 53 دولارا، ونبيع ب43 دولارا."2) كما تشير شذى خليل إلى ذلك حين كتبت ما يلي: "وبيَّنَ صالح إن من النقاط المهمة في الموازنة التي يجب الإشارة إليها، هي الموازنة الاستثمارية ، التي لا تقر الا في الشهر السابع من السنة ، فمنذ 10 سنوات لم تنفذ المشاريع الاستثمارية، لكونها تقدم دون دراسة جدوى ، او تكون مستعجلة ، او تقدم بأسعار مبالغ فيها، او غير معروفة بشكل صحيح ، وتمس الحياة الاقتصادية بشكل عام ، لكنها مشكلتها انه لا يوجد فيها ترابطات بالاقتصادات اي ضعيفة، وهذا النمط من التنمية افرزته الفوائض بالإيرادات."3) وهي كما يرى القارئ والقارئة تشخيصات مهمة وصائبة وصريحة كعادة الدكتور مظهر محمد صالح. ومن هنا يمكن القول أيضاً بأن العراق ما يزال وسيبقى بعيداً عن وضع استراتيجية تنموية مستدامة ما دامت القوى الحاكمة طائفية محاصصية وكنظام سياسي فاسد ولا يعود لحضارة القرن الحادي والعشرين.       
إن وضع استراتيجية تنموية للاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والبيئة بالعراق تنسجم مع متطلبات تنظيف وحماية البيئة العراقية يتطلب:
أولاً: وجود حكومة عراقية وطنية، لا ترطن على حسب قول شعلان أبو الچون، حكومة تلتزم بمبدأ الوطن والمواطنة الواحدة والمتساوية ولا تخضع للهويات الفرعية، التي إن أخذ بها ستكون قاتلة، كما هو عليه الوضع بالعراق حالياً، حكومة ديمقراطية تلتزم بدستور ديمقراطي حضاري يفصل بين الدين والدولة وبين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، دولة ديمقراطية علمانية حديثة، وذات قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية مستقلة وواعية لمبدأ السيادة الوطنية. وهي مستلزمات وشروط غائبة عن العراق منذ عقود.
ثانياً: وجود أحزاب سياسية تتميز بالديمقراطية والحداثة وبعيداً عن الطائفية السياسية والشوفينية والتعصب الديني إزاء الآخر. وهو العنصر الغائب عن أغلب الأحزاب التي يؤلف ممثلوها المجلس النيابي والحكومة والهيئات المستقلة والقضاء العراقي.
ثالثاً: أن تساهم النقابات ومنظمات المجتمع المدني والرقابة الشعبية والإعلام والشعب عموماً دورها الرقابي على الدولة وسلطاتها الثلاث، وهي ليست غائبة فحسب، بل ومقموعة عملياً ومحاربة بالرزق وفرص القيام بالمهمات التي يفترض أن تكون مناطة بها.
رابعاً: أن تتوفر لدى واضعي استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية معرفة دقيقة وشاملة بإمكانيات العراق المادية وطاقاته البشرية والقدرة على الاستفادة منها فعلياً من جهة، والمشكلات التي يعاني منها العراق في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والبيئية والنفسية، وعلى المستويات الداخلية والإقليمية والدولية من جهة ثانية، ومتطلبات وحاجات الاقتصاد والمجتمع ذات المدى القريب والمتوسط والبعيد، من جهة ثالثة، وأدوات وسبل الوصول إلى تحقيق مثل هذه الاستراتيجية بصورتها العامة والتفصيلية من جهة رابعة، كما يفترض أن يعي العراق بأنه جزء من هذا العالم المعولم لكي يتوقع الكثير من الإشكاليات على المستويين الإقليمي والدولي وأن يتحرى عن إمكانيات وسبل وأدوات الاستفادة من العلاقات الاقتصادية الدولية وفهم دورها وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع بالعراق والاستفادة من جوانبها الإيجابية وتدارك جوانبها السلبية.
فهل مثل هذه المستلزمات أو الشروط متوفرة بالعراق؟ لا شك بوجود عناصر مدركة لكل هذه المستلزمات وغيرها، ولها القدرة على وضع استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، ولكنها ليست في تلك الأحزاب السياسية الحاكمة ولا في النخب الحاكمة التي تمثل تلك الأحزاب، بل هي في الغالب الأعم مغيبة قصداً، كما ليست من غاية الماسكين بزمام الحكم وأحزابهم الإسلامية السياسية تحقيق التنمية الفعلية، وهو ما برهنت عليه القوى الحاكمة منذ العام 2004 حتى الوقت الحاضر.
إن أهداف استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظروف العراق الملموسة تتلخص في التلاحم الديالكتيكي بين السياسة والاقتصاد على وفق المنظور التالي:
1.   إجراء تعديلات جوهرية على الدستور العراقي بما يبعد عنه خمس مسائل جوهرية: أ. العقلية الطائفية والشوفينية التي وضعته وحددت معالمه البارزة، ب. أجراء تغيير مناسب بحيث يُبعد عن الدستور تلك المواد التي تعتبر حمالة أوجه من أجل تكريس مبادئ الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وحقوق الإنسان، وحقوق القوميات، والمساواة في حقوق أتباع الديانات والمذاهب، وعلمانية الدولة، والفصل التام بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والهيئات المستقلة والإعلام، ورفض وجود أحزاب على أسس دينية وطائفية وعنصرية، والنص على وضع قانون ديمقراطي للانتخابات العامة والمحلية والنزاهة في إجرائها، إضافة إلى تنظيم استفتاءات شعبية لقضايا جوهرية تمس أمن وسلامة البلاد، ج. النص على المساواة التامة بين الإناث والذكور ورفض أي تمييز أو تهميش أو إقصاء لها في جميع وظائف الدولة دون استثناء، د. إرساء الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث على أسس الدولة الاتحادية واللامركزية والفيدرالية الكردستانية وتنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية بقوانين ديمقراطية حديثة، هـ. رفض استخدام القوة والعنف في حل المنازعات الداخلية ومعالجتها على أساس التفاوض الديمقراطي والسلام، وتأكيد رفض ومحاربة الإرهاب والفساد السائد بالبلاد.
2.   سبل معالجة مشكلات النزوح والهجرة المستمرة من العراق لا للناس الاعتياديين فحسب، بل وللكفاءات العلمية والفنية والمهنية والخسارة الهائلة لقدرات العراق وطاقاته الفكرية والعلمية بسبب الصراعات الطائفية والتمييز الديني والمذهبي، وبسبب ما حل بالناس من علل نفسية وعصبية واجتماعية وبيئية متفاقمة، وسبل إعادة إعمار العراق، ولاسيما المناطق التي سقطت تحت حكم تنظيم الدواعش المجرم.       
3.   التخلص من الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، حيث يشكل اقتصاد النفط الخام المصدر ما يتراوح بين 90-95% من إجمالي إيرادات العراق السنوية.
4.   التخلص من القطيعة الفعلية القائمة بين اقتصاد النفط العراقي وبقية القطاعات الاقتصادية العراقية كالصناعة التحويلية والزراعة والصناعات الصغيرة المحلية والتجارة الداخلية والخارجية والتربية والتعليم والبحث العلمي.
5.   أن يتم التوجه صوب وضع استراتيجيات فرعية ضمن الاستراتيجية العامة للتنمية الصناعية والتنمية الزراعية والتجارة والطاقة والنقل والاتصالات والماء والصحة والسكن ...الخ، كأجزاء مهمة وحيوية ومتشابكة من استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمة والبيئية الشاملة والمستدامة.
6.   أن تجري الموائمة بين التقنيات الحديثة التي يراد إدخالها وبين القدرات الفنية والمهنية لاستخدامها الفعلي والسعي لتطويرها المستمر بما يحقق رفعاً لإنتاجية العمل وتقليصاً للتكاليف وتحسيناً للنوعية.
7.   أن يأخذ قطاع الدولة الاقتصادي في ظروف العراق الملموسة الدور القيادي في عملية التنمية، مع أهمية وضرورة تنشيط وتوفير مستلزمات تطوير دور القطاع الخاص واستثماراته في القطاعات الإنتاجية والخدمات، وكذلك القطاع المختلط ضمن المنظور الاستراتيجي للتنمية المستدامة، إضافة إلى إمكانيات الاستفادة من القطاع الأجنبي ضمن المنظور ذاته ومع الحاجات الفعلية للبلاد.
8.   وضع استراتيجية لخلق فرص عمل ومكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة، بما يسهم على استيعاب الزيادات السنوية في القوى العاملة العراقية، إضافة إلى وضع استراتيجية تسهم في تغيير الوجهة الخاطئة في التعليم والاهتمام بالدراسات الفنية والمهنية بالارتباط مع مهمات التنمية الاقتصادية.
9.   سبل أشراك المرأة في العمليات الاقتصادية والاجتماعية لما لهذا العامل من تأثير متنوع الجوانب على الاقتصاد والمجتمع والمساواة التامة في حقوق وواجبات والموقف من المرأة والرجل. 
10.   استراتيجية تطوير البحث العلمي والعلاقة بين الجامعات والكليات والمعاهد والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. 
11.   كما لا بد من تأمين العلاقة الديالكتيكية بين مهمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها التربوية والتعليمية والثقافية والبيئية من جهة، والسياسات المالية والنقدية، وعلى وجه الخصوص، الموازنة العامة والنظام الضريبي والجمارك، والنظام المصرفي، ونظام التأمين بتنوعاته، من جهة أخرى،4) إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.. الخ. 
12.   ويبقى الهدف البارز والمميز لاستراتيجية التنمية لحكومة وطنية ديمقراطية حكيمة بالعراق هو تحقيق الازدهار والعدالة الاجتماعية لأبناء وبنات الوطن الواحد.
13.   أن تتجلى هذه الاستراتيجية التنموية الشاملة والمستدامة في خطط خمسية وسنوية للتنمية على وفق الجدوى الاقتصادية والاجتماعية في المجالات والمستويات كافة، وتأمين الرقابة المتعددة الجوانب على مستوى التنفيذ، مع اعتماد مبدأ التكريم للمنجزات الجيدة ومحاسبة المقصرين في أداء المهمات.   
14.   وأخيراً وليس أخراً أن يأخذ العراق باقتصاد السوق الاجتماعي والذي نعني به ما يلي:
لا بد للعراق أن يأخذَ، في مرحلة تطوره الراهنة ولمدى طويل لاحق، بنظام اقتصاد السوق. ولكن أي اقتصاد سوق يحتاجه العراق وما هي مواصفاته؟
أقف في هذه المرحلة مع اقتصاد السوق الذي يجمع بين الحرية النسبية والمشاركة الحكومية الواعية والمنظمة والواسعة في التنمية، إضافة إلى تنشيط الرقابة الحكومية والشعبية، وكذلك مع مجموعة من المسائل الاجتماعية التي تحد من الاستغلال الرأسمالي، على وفق المنظور اللبرالي، الذي يمارس من جانب القطاعين الخاص والحكومي، وتلك التي تخفف من التناقضات الطبقية وتسيطر على الصراعات الاجتماعية وما يمكن أن ينجم عنها من صراعات سياسية ولكيلا تتحمل إلى نزاعات تتميز بالعنف واستخدام القوة. وقد أطلق الألمان منذ ستينيات القرن العشرين اسم "اقتصاد السوق الاجتماعي" في فترة حين كان لودفيگ ايرهارد مستشاراً بألمانيا الاتحادية، والذي أطلق عليه أبو "المعجزة الاقتصادية" حينذاك، وهي بخلاف نسبي مهم عن اللبرالية وأكثر اختلافاً عن اللبرالية الجديدة المتوحشة في إطار اقتصاد السوق التي تتسبب في تشديد استغلال الطبقة العاملة بمفهومها الواسع والحديث وعموم الفئات الكادحة.5) لهذا اقترح في ظروف العراق الملموسة والمستقبلية القريبة والمتوسطة أن يؤخذ بمفهوم "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي يستند إلى عدة أركان أساسية، منها بوجه خاص:
أ) إعطاء دور متميز وفعال ورئيسي للقطاع العام والعمل على بلورة دوره الاقتصادي وتطوير إدارته والقوى المنتجة فيه وتشجيعه ودعمه وتوفير مستلزمات نجاحه. كما يفترض أن يلعب دوره المحتكر لقطاع النفط الاستخراجي والتكرير ومشروعات البنية التحتية، بما فيها قطاع الكهرباء والماء، كما يشارك بفعالية وروح تنافسية لإقامة مجموعة من الصناعات التحويلية ذات الأهمية الفائقة للاقتصاد الوطني والمجتمع والتي يصعب على القطاع الخاص النهوض بها وتحمل مسؤولية الاستثمار الكبير فيها مثلاً.  ويتطلب هذا الدور الاقتصادي لقطاع الدولة أن يعمل وفق المعايير الاقتصادية والمحاسبية وآليات السوق الاقتصادي في مجال المنافسة ورفع إنتاجية العمل وتقليص تكاليف الإنتاج وضبط الأسعار وتأمين الحوافز الاقتصادية للمنتجين والعاملين في الإدارة والتسوق.
ب) إعطاء دور مهم ومخطط للقطاع الخاص في مجمل العملية الاقتصادية بحيث يستكمل دور القطاع العام ويدخل في التخطيط الاقتصادي والاجتماعي.
ج) تنشيط دور القطاعين المختلط والتعاوني للمشاركة في عملية تنمية معجلة وناجحة وداعمة لنشاط القطاع العام والخاص والمجتمع، وخاصة في مجال الريف والصناعات الصغيرة وذات التقنيات العالية التي يصعب على القطاع الخاص وحده النهوض بها أو يستوجب تجميع المنتجين الصغار في جمعيات تعاونية إنتاجية واستهلاكية.
د) رسم سياسة مالية ونقدية وتأمينية تنسجم وتساهم في تنشيط وتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتقرر في خطة الدولة ذات المدى البعيد والخطط الخمسية والسنوية.
هـ) حين يتقرر الأخذ باقتصاد السوق الاجتماعي، عندها يتطلب بشكل خاص:
** إصدار تشريعات لمنع الاحتكار وتشديد الاستغلال تتجلى في تنظيم المنافسة والضرائب التي تستند إلى قاعدة الضرائب التصاعدية على الدخل السنوي المباشر للسكان بدلاً من فرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات لا تميز بين الناس على أساس دخولهم السنوية ومستوى معيشتهم.
** وضع حد أدنى للأجور ومساواة بين المرأة والرجل في الأجور للأعمال المماثلة.
**  وضع تشريعات تؤمن الضمان الصحي والاجتماعي وأثناء الشيخوخة أو العجز والرواتب التقاعدية والعطل السنوية وفي حالات المرض أو الحمل...الخ.
**  العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة …الخ، من خلال نظام الضرائب التصاعدية على الدخل المباشر للفرد.
**  تقديم الدعم الحكومي الضروري ولفترة غير قصيرة إلى بعض السلع والخدمات لضمان حصول الفئات الكادحة والفقيرة على احتياجاتها الأساسية مثل الخبز واللحم والخضروات والفاكهة، على سبيل المثال لا الحصر، أو دعم بعض المنتجات الزراعية التي تواجه منافسة حادة في السوق الدولية لضمان الإنتاج في العراق وضرورة توفي الأمن الغذائي.
هـ) أن تلعب النقابات ومنظمات المجتمع المدني دورها الفاعل في المجتمع وفي النضال من أجل حقوق العمال والمستخدمين والعاملين في الإدارة وفي حل الخلافات بين العمل ورأس المال وغير ذلك.
إننا بذلك نستطيع أن نضمن الكثير من الأسس التي لا تسمح بتشديد الصراع الطبقي أو الصراع بين العمل وراس المال لصالح تعجيل التنمية والاستفادة من كل الطاقات المتوفرة في البلاد. ولتطوير مستمر للعدالة الاجتماعية.
و) لدي القناعة بأن الدول النامية عموماً والعراق على وجه الخصوص لن يكون في مقدوره في المرحلة الراهنة من الناحيتين النظرية والعملية أن يمارس سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد، إذ إنها ستعطل عملياً وفعلياً القدرة على تطوير الاقتصاد الوطني وعملية التصنيع وتحديث الزراعة بسبب المنافسة غير المتكافئة. ولهذا فأن ضمان الوصول إلى عملية تنمية فعلية مستدامة ومتطورة تستوجب في المرحلة الراهنة إخضاع التجارة الخارجية لخمسة عوامل أساسية، وهي:
*  وضعها في خدمة عملية التنمية الصناعية والزراعية والتعليمية والثقافية والبيئية..، أي التنمية الاقتصادية والبشرية ومن أجل تحقيق تراكم عقلاني مستمر للثروة الوطنية.
*  الإشباع المناسب لحاجة السوق المحلية للسلع الاستهلاكية وسلع الاستهلاك الدائم مع الاهتمام بنوعية السلع المستوردة.
*  كما يفترض أن تلعب الدولة دور المنظم والمؤثر إيجاباً على حركة وفعل قانون العرض والطلب لضمان استقرار الأسعار وخلق توزان عقلاني بينها وبين الأجور والمدخولات السنوية للأفراد والعائلات من ذوي الدخل الواطئ والمحدود، وخاصة بالنسبة لأكثر السلع أهمية وضرورية لنسبة كبيرة جداً من السكان.
*  تنويع مصادر الدخل القومي من خلال زيادة دور المنتجات الصناعية والزراعية غير النفط الخام والغاز الطبيعي في إجمالي صادرات العراق.
*  السعي لتحقيق التوازن التدريجي في الميزان التجاري العراقي مع الدول المختلفة وبين الصادرات والاستيرادات، والتي يمكن أن تؤثر إيجاباً على ميزان المدفوعات.
كل هذه الأمور غائبة عن الواقع العراقي قبل وبعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة وإقامة النظام السياسي الطائفي والمحاصصي بالبلاد. إن الأخذ بمثل هذه الاستراتيجية ستسهم في إقامة رأسمالية دولة ضمن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية بالارتباط مع السوق الاجتماعي، الذي لا يماثل بالضرورة وجهة التطور ذاتها في العلاقات الإنتاجية الرأسمالية القائمة بالغرب الرأسمالي ويسمح بدفع البلاد صوب آفاق أكثر التصاقاً بالشعب وحاجاته وطموحاته ومستقبله الزاهر.6)
الهوامس والمصادر
1) راجع: شذى خليل، شرح مفصل لمسودة قانون الموازنة الاتحادية العراقية لسنة 2018، بمنظور اقتصادي..، موقع مركز الروابط للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 05/11/2017.
2) المصدر السابق نفسه.
3) المصدر السابق نفسه.
4) قارن: الدكتور ماجد الصوري، السياسة المالية والسياسة النقدية في العراق، محاضرة ألقيت في مقر الحزب الشيوعي العراقي، نشرت في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 01/05/2013.
5) ملاحظة: تدعي الحكومة الألمانية قبل الوحدة وبعدها بأنها تمارس نظام اقتصاد "السوق الاجتماعي"،. وفي الحقيقة فأن السياسة الاقتصادية والمالية الألمانية بدأت تمارس النهج النيولبرالي منذ سنوات العقد التاسع من القرن العشرين في فترة حكم المستشار هلموت كول حتى الوقت الحاضر، وهو ضمن العوامل المهمة التي أدت إلى خسارة متلاحقة للحزب الاشتراكي الديمقراطي في عدد المصوتين له في الانتخابات العامة وخسارة المزيد من المقاعد في البرلمان الاتحادي خلال السنوات الخمسة عشرة المنصرمة وبسبب تحالفه مع تحالف الحزبين الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي ومشاركته في حكومة تمارس السياسة النيولبرالية فعلياً. ك. حبيب
6) قارن: أوسكار لانگه، الاقتصاد السياسي، تعريب وتقديم الدكتور محمد سلمان حسن، دار الطليعة-بيروت، ط1، أذار (مارس) 1967.