المحرر موضوع: كالرياح بلا استقرار  (زيارة 1592 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل آدم دانيال هومه

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 119
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
كالرياح بلا استقرار
« في: 19:31 16/01/2018 »


كالرياح بلا استقرار
آدم دانيال هومه.

المجد للكلمة المرهفة
زمرّدة الشعر والبيان
وألق الدهور والأزمان
المكللة بهالة النضارة والذهول
تنبض بالوهج
تشعّ بين جوانح الموج
تومض فيها الحروف كيراعات المجرّات
تضيء جنبات الكون
وتصبح ترنيمة طير
أريج زهرة
معجزة.

أيها الوطن المتلألئ في برزخ الأحلام
أنتَ أجمل من انعكاس بزوغ الفجر من بين الأشجار
على صفحات الأنهار والبحار
وأنقى من زلال الندى
وأطهر من حليب الشمس الرقراق
وأجلّ من صوم الكهنة
وصلاة الأولياء
وأسمى من كل سموّ الأمراء
وجلالة الملوك والسلاطين والخلفاء
وأقدس من قدسية كل الأقداس المقدّسة
على هذه الأرض المضرّجة بالدماء.

 كانوا أحراراً كنسائم الصباح
يبنون أعشاش صغارهم في قمم وسفوح الجبال
ينحتون أسماءهم في ذاكرة الضوء
وينقشون أبجديتهم المقدسة على جدران قوس قوس
يحتفلون في أفنية هياكل الآلهة
ويتنزهون بين الينابيع والمروج والرياحين
وبين المراعي الخصيبة
وتحت ظلال الأشجار
وينامون في الهواء الطلق
فوق السطوح 
وفي باحات البيوت
تنقلهم سفن الأحلام إلى جزر النشوة والسكينة
يقطفون أرغفة الخبز من أغصان الأمطار
وينهمر عليهم غيث المسرّات مع طلوع كل فجر
وتغمرهم البهجة مع كل غروب شمس
كالعصافير الطليقة
يصدحون بترانيم العنادل
وتراتيل الحساسين
لم يخطر ببالهم يوما
أن ينفصلوا عن سرّة الوطن
أو تفارق أفواههم أثداء الأرض
ولكن
في ليلة ليلاء
ارتجّت الأرض تحت أقدامهم
فاستفاقوا من نومهم مذعورين
وأوغلوا عميقاً في أدغال الحزن
وهم يسمعون مراثي الموت من خلف الأبواب
مثخنة بالدمع والعذاب
فبدأوا يجرون نعوش آلامهم في غياهب الظلمات
حملتهم قوارب التيه فوق أمواج الموت المتلاطمة
فتناثروا على قوارع الطرقات
وصاروا مثل الرياح بلا استقرار
ضنّت عليهم الإنسانية...  بكرامة الإنسان
وضاقت بهم الأرض على وسعها
تناسوا أمجادهم التليدة
ولم يعودوا يفكروا إلا بملاذ آمن
من شرور الضواري البشرية المنقطعة لعبادة الله
وأكل لحوم البشر.

أطلُّ من شرفة الصباح على مروج بلادي المحترقة
حيث تضطرم النيران في قيعان الوديان
وفوق قمم الهضاب والجبال
وتتراكم أكداس اللحوم البشرية في كل مكان
وتفوح روائح الدماء من الأزقة والطرقات
ولكنني برغم تباريح الموت التي تغمر الأجواء
لا زلت أشم أريج البخور المقدّس من أتون النار والدخان
وأرى أزاهير الأحلام تنمو فوق مدارج الغيوم
وبراعم الآمال تتفتّح فوق سطوح النجوم
وأسمع شهقات الملائكة في القرى اليتيمة
وترانيم القيامة ترفرف فوق القبور
موقظة الأموات من سباتهم
والأحياء من غفواتهم.

الطيور التي هاجرت مملكة الظلام
لا زالت قابعة في قعر غربتها الماحقة
تتوسّد الأحلام والأمنيات
رنّات آهاتها تصدح في هبوب الرياح
وصهيل حنينها يجلجل في متاهات الغيوم
توقاً لتلك الكروم والحدائق والمروج
التي لازالت تتلألأ في الذاكرة
كحبيبة تلوح في بوّابة المساء.

الغربة أقسى من التيه في مجاهل الغابات
وأشد ظلاما من قتام القبور
وأمرّ من نكهة حنظل الصحراء.

مهما مرّت السنون والأحقاب والدهور
ومهما نسجت العناكب خيوطها على الأبواب المقفلة
ومهما لاحقتهم لعنات السفهاء
وطاردتهم كلاب الصحراء
ولو ترمّلت الشمس
وتيتّم القمر
ستعود أحفاد الطيور المهجّرة
إلى أعشاش جدودها التليدة
وستعود الأرض كما كانت
تصدح بأغاني الجنائن والأنهار
وأناشيد الثلوج والأمطار
وستعود السماء صافية زرقاء
خالية من كل أدران الأنبياء.

غارقون في طحالب ووحول مستنقعات الصحراء
تحملهم عربات الموتى بعيداً إلى أنفاق مجهولة
ولكنهم يجدفون قوارب أحلامهم في بحار المجرّات
ويرتعشون كعجلة النار فوق حشائش الغابات.

هؤلاء المترعون بأفكار الشيطان
العابثون بأسرار الموت
قبل تسلقهم سلالم السماء إلى جنّتهم الموهومة
يضرمون النار في كل مباهج الحياة
ويتطايرون أشلاء كفقاعات النار
ولكن
لا يتلظى بلهيب شظاياهم سوى الأبرياء.

يسوق قطار الماء عبر الصحراء
حاملا الشعلة الإلهية
ليفتح نافذة على الفردوس اليباب
وباباً على جنائن السماء.

طليق كطائر البرق
يسرح بخياله المجنّح في حدائق الآفاق اللامرئية
تتفتح الحروف على شفتيه كزنابق الضوء
تتوهج كلماته إذا احتكت ببعضها
وتلاحقه القصائد كأنين النايات من مهاد الصدى
جرحه السرمدي ليس له تخوم
ويضيء في كفّيه تراب قبور الأحباب
يؤجل موته لإشعار آخر
ليعيد تشكيل ذاته
قبل أن يمضي إلى رحاب التاريخ
تاركاً آثار أقدامه على السحاب
وصورته في مرايا االسراب
وعطر ذكرياته على الأبواب.

يمسح عينيه بمنديل الرؤيا
فتتفتح أمام ناظريه بوابات السموات
يلجها على صهوة شعاع البرق
يدور في أرجائها
من أقصاها إلى أقصاها
فيراها طاهرة مطهّرة
خالية من آثار أقدام كل المنافقين السفهاء
وجميع الرسل والأنبياء.

في رحاب الضوء الأزلي
يدخل رويداً... رويدا
ثملٌ بإنسانية الإنسان
يتعطر بأريج الآلهة
كامرأة متوهّجة بنار العشق
تستحم بحليب اليمام في رونق الفجر
بين مباهج الزهور
ونشيج الناي يترقرق في جوانح الوديان
وخلجات الشطآن.
يمسّد نهود السنابل
فينهمر العبق من سرّة الأقحوان
على شرفات الغروب
وتتبرعم الحروف على أفنان القصائد العصماء
وتتبرّج القوافي بأقراط الياسمين
وعلى وقع أقدام عشتار على الأمواج
يدوّي النشيد القدسيّ في أعماق مناجم الحياة
فتنفجر الينابيع في رمال الصحارى
لتتفتح زهور الأمل في زمهرير اليأس
وتزدان الأرض بأسراب الطواويس
وتصدح النواعير في سكون الليالي
وتنطلق فراشات النور من كهف الديجور
لتذر شآبيب المطر على وجنات الأعشاب
وتُسدل الأقاحي ضفائراً فوق سفوح الجبال
فيستفيق الله على عويل الأموات
ليملأ عنابر الأرض بالغلال والمسرّات.

،،،،،،،