الحركة القومية الأشورية...
تيري بطرس
نشرت في الآونة الأخيرة مقالات عديدة لكتاب مختلفين، ولكنها تتفق في الغالب في مسار واحد. إلا وهو تقسيم شعبنا (الكلداني السرياني الأشوري) وشرذمته وإزالة أي اثر للوحدة فيه، رغم كل علامات وحدة التاريخ واللغة والثقافة والمستقبل.
بدأت حركة الوعي القومي لشعبنا منذ منتصف القرن التاسع عشر، بفعل عوامل عديدة شرحناها نحن وغيرنا من الكتاب مرارا. وكانت حركة الوعي القومي هي الرد العملي لحالة الشرذمة التي كان أبناء شعبنا يعانونها. ومنها الانقسام العشائري والمذهبي والمناطقي. ولقد كان الرواد القوميون، باعتقادي منصفون ومحقون في اختيار التسمية الأشورية (ܐܬܘܪܝܐ) كإطار موحد لكل العشائر والمذاهب. بالرغم من إن التسمية الأخرى والموازية وهي السورايي لا تقل عنها صحة واحقيه إلا إن إلصاق التسمية بكنائس معينة كان يمكن أن يجعل بعض الأطراف حساسة منها. ولكن التسمية الأشورية ذات التاريخ الطويل والمجيد والتي تمكنت خلال عمرها الذي امتدت لما يقارب الألف عام، من تأطير هذه التسمية لتطلق على أبناء المنطقة التي حكمتها كلها وخصوصا بين النهرين وما جاورها وخصوصا في الشمال الشرقي والشمال الغربي من بيت نهرين.
بداء الإنتاج القومي الموحد، بشكل المقالات الدافعة لخلق الحماس والتآزر والتألف وتجاوز عوامل الانقسام التي فتت شعبنا. فكانت الصحف مثل ناقوشا وغيرها تعزز هذا التوجه. وبداء الشعراء في نشر قصائد والأغاني الحماسية لدفع الشباب ليكون مشاعل نشر الوعي وتحقيق الآمال والطموحات. وكانت الآمال والطموحات تتمحور كبقية الامم في تحقيق الاستقلال والحكم الذاتي وبناء حالة قومية تحافظ على أبناء الامة وتبني مستقبلهم الامن والقوي ولكل أبناء شعبنا ولاي كنيسة انتمى. كان أمام رواد حركة العمل القومي ما كان يحدث لأبناء شعبنا من المذابح ومنها مذابح بدرخان بك التي شملت مناطق واسعة ابتداء من بوتان وباتجاه الشرق، ولحقتها مذابح أمير راوندوز محمد كورا متجها نحو مناطق شعبنا في حكارى وجنوبا نحو مناطق زاخو وسهل نينوى ومارا إلي مناطق طور عابدين. وقد تم استغلال الانقسامات الطائفية والعشائرية في شعبنا في تحييد بعض أطرافة ومن ثم اكتساحه بعد التخلص من الأطراف الأخرى. وهكذا تم قهر شعبنا وتدمير وسلب ممتلكاته وسبي بناته وقتل واسر الكثير من أبناءه. كانت غاية القوميين تجاوز هذه الانقسامات وخلق حالة موحدة، ولم تكن غايتهم صهر طرف في أخر، بل وحدة، لأنه أساسا لم تكن هناك أطراف تختلف في التكوين لكي تنصهر، بل كانت الغاية تجاوز حالة إلى حالة اكثر تقدما وقوة ووحدة. وكان خيار التسمية الأشورية (ܐܬܘܪܝܐ) هو الخيار الملائم حسب اعتقادهم. ولان هذا الخيار وبعد أن تم إعادة تعميده بالمقومات القائمة من اللغة المحكية والعادات والتقاليد المتوارثة والتاريخ بما فيه تاريخنا المسيحي المجيد، فانه لم يعد فقط يشمل الفترة الممتدة من 1800 ق م إلى 612 ق م، بل شمل كل الحقبة من الفترة السومرية إلى المرحلة الراهنة.
ولان الوعي القومي هو دعوة وكل دعوة تبتدأ في زمن ومكان معين، وقد تنبت نتائجها في مكان اخز، هكذا كانت حركة الدعوة القومية الأشورية التي ابتدأت في ارمي ومناطق جنوب شرق تركيا الحالية وسهول العراق الحالي. إلا إن أول تحرك سياسي تحت إطار الدعوة القومية، كان في أورميا بتأسيس شوشاطا اومتنايا عام 1895 ومن ثم ما قام بتنظيمه البطريرك مار بنيامين شمعون، سليل البطاركة الشمعونين من عائلة أبونا الالقوشية العريقة. بعد ذلك في اورميا ايضا، وتلته في عام 1917 تأسيس أول حزب أشوري تحت تسمية الحزب الاشتراكي الأشوري، بقيادة الدكتور فريدون اتورايا. ومنذ ذاك توالت التحركات القومية لشعبنا تحت التسمية الأشورية أو الكلدواشورية، أو السريان الاشوريين، ومحاولة طرح قضية شعبنا أمام المحافل الدولية ولعل من اوائل هذه التحركات، التحالف مع الحلفاء في الحرب العالمية الاولى والجلسة المنعقدة في اورمي بحضور قناصل روسيا وفرنسا وموفد انكليزي، وتلتها مشروع اغا بطرس في مؤتمر السلام في عام 1919 وما طالب به مؤتمر راس عمادية (ܪܫܐ ܕܐܡܝܕܝܐ) لعام 1932.ورغم المذابح والقتل والتنكيل والإرهاب مثل مذبحة سميل فان الحركة القومية لشعبنا ، لم تخمد، بل استمر وتلونت باشكال مختلفة، اي بصورة نشاط ثقافي أو إنساني أو رياضي ، وكانت اغلبها تحت التسمية الأشورية وفي مختلف مناطق تواجد أبناء شعبنا. ففي إيران ابتدأـ حركة تحديثية قادتها اللجنة الثقافية للشباب الأشوري وقامت بإصدار مجلة كلكامش واصدرت كتب ومؤلفات باللغة السريانية الحديثة المحكية. وهكذا في العراق وسوريا ولبنان وحتى في روسيا لم تتوقف التحركات في إذكاء العمل القومي. في العراق ومنذ الأربعينيات تم تأسيس أحزاب سياسية أشورية مثل حزب الاتحاد والحرية الأشورية (ܚ ܚ ܐ) وتلته في الستينيات ما عرف باسم الصيعتا وفي نهاية الستينات 1968 انبثق الاتحاد الأشوري العالمي، الذي احدث انبثاقه صدى قوي على مستوى المنطقة، ومن ثم الأحزاب المتواجدة حاليا مثل الحزب الوطني الأشوري وبيت نهرين والحركة الديمقراطية الأشورية و المتغيرون زمنيا وغيرها من الأحزاب الأشورية التي انبثقت في السبعينيات، ومنذ ذاك، كانت هذه الأحزاب تضم مختلف أبناء شعبنا ومن مختلف الطوائف. وفي نهاية الستينيات حدث انقلاب 17 تموز والذي كان بحاجة إلي خطوات وممارسات جديدة لكي تمحي أو تزيل من الذاكرة السجل الأسود لحزب البعث وممارساته في عام 1963، فحدث الانفتاح السياسي وحاولت القيادة السياسية اتباع اسلوب اخر للحوار الوطني مع مختلف الأطراف. وكان عليها أن تتحاور مع شعبنا ولذا فأنها اختارت لذلك أولا قداسة مار ايشاي شمعون، ومن ثم حاورت الاتحاد الأشوري العالمي، ومع وفده برئاسة المرحوم مالك ياقو مالك اسماعيل. ومن هنا خرج البيان الخاص بمنح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية وتم تقديم مطالب شعبنا للقيادة السياسية وبشكل رسمي. وكل هذه الممارسات حدثت باسم الاشوريين بالاضافة الى تحركات جماهيرية وشعبية عملت تحت اليافطة الأشورية ومنها الاندية وحركة الطلبة الجامعيين الاشوريين، التي دخلت حوارات ونقاشات من خلال أعضاءها مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق والاتحاد العام لطلبة العراق بصفتها تحرك يمثل الطلبة الاشوريين وكانت تضم من ذاك الحين من مختلف أبناء شعبنا. أو لجان الشبيبة الكنسية التابعة لكنيسة المشرق. كما شاركت احزاب شعبنا تحت التسمية الأشورية في الكفاح المسلح ضد النظام بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ومنها بيت نهرين و الحركة الديمقراطية الأشورية والتجمع الديمقراطي الأشوري ومن ثم الاتحاد الديمقراطي الأشوري. ومن الطبيعي ان يكون لهذا الحضور والنشاط السياسي تأثيره على الساحة الوطنية والاقليمة، ولذا فانتشار واتساع دائرة المعرفة بقضية شعبنا تحت التسمية الاشورية اتسعت تبعا لهذه النشاطات، التي كان ولابد ان تكون مؤطرة بتسمية ما ولم يكن امام الرواد الا تسميات محددة للخيار بينها وهي السريانية (سوراي) والكلدانية (كلدايي) او الاشورية (اتورايي). وكل هذه التسميات تعبر عن حالة واحدة ومضمون واحد.
المثير هو انه في بداية السبعينيات وبعد ان تم تثبيت حق شعبنا التعلم بلغته من خلال بيان مجلس قيادة الثورة حول الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية، تدخلت اطراف اخرى ممن لم يكن لها اي اهتمام بالنشر وبتوسيع التعلم بلغة الام بل كانت تشجع صراحة التعريب. تدخلت لكي تفرض رؤياها في التعليم باللغة الادبية والتي لم تكن مستعملة في الحياة اليومية، رغم انه كان يمكن البدء باللغة المحكية والتي تكونت من مختلف لهجات شعبنا، ومن ثم يتم التطوير لتشمل اللغة الادبية او المصطلح تسميتها القديمة. ومن خلال هذا الصراع وصراع الخط وغيره تم وأد التجربة قبل ان تبدأ.
اذا ان الحركة القومية الاشورية ليست وليدة تحرك حزب معين، وليست ابنة 2003 كما يحلو للبعض، بل تمتد جذورها مع انتشار الوعي القومي في المنطقة متأثرا باوربا حال شعبنا كحال الكورد والارمن والترك والفرس. ولكن هذه الحركة مرت بمراحل مختلفة وقدمت التضحيات الكثيرة لكي تتمكن من ان تنموا وتبقى وتحاول ان تثبت شعبنا حرا في ارضه التاريخية. وهذه الحركة لم تولد لتضم ابناء كنيسة معينة وما كان بامكانها ان تنتظر مائة سنة او اكثر لكي تستفي ابناء هذا العصر عن اي تسمية يفضلون لكي تؤطر العمل القومي لكل شعبنا. اذا الاشوريين في مفهوم الحركة القومية الاشورية ليسوا اثنية مختلفة عن من يتسمى بالكلدان او السريان اليوم، الاشوريون هم كل هؤلاء. وان كان لاحد ملاحظات على التسمية فعليه ان يحترم جهد شعبه والتضحيات التي قدمت والمخاطر التي يتعرض لها من خلال كل من يريد ان يزيله من الوجود. لكي يرث ارضه ومكانته وتاريخه.
ان محاولة البعض اللعب على كلمات ومصطلحات لكي يحاولوا تمرير، ان هناك حقيقة اثنيات مختلفة تقسم هذا الشعب وتحوله الى اقسام متصارعة، هي في الحقيقة المشاركة الفعلية في وأد حلم امتنا او شعبنا في ان يكون حرا وسيد نفسه. وبعد ان ادرك الجميع ان اللغة الواحدة تلمنا وتشملنا، ولا يمكن المجادلة في وحدة تاريخ شعبنا، يحاولون التسويق للتعدد الاثني بحجة ان وحدة اللغة والتاريخ والجغرافية لا تعني بالضرورة وحدة قومية او اثنية.
ان المؤمنين بالاشورية كتسمية تؤطر العمل القومي لشعبنا، لا يمكنهم في اي حال من الاحوال، التمييز بين المنتمين الى الحركة القومية على اساس طائفي او كنسي، لان اي تمييز على اساس ذلك يعني التسليم للطائفيين بالاحقية او مشروعية ما ينادون به. ولكن الطائفيين يمكن ان يقعوا في شر اعمالهم وسيذهب شعبنا ضحية مثل هذا الشر، حينما يتم تجريده من كل فعل قومي حقيقي وخصوصا انهم سيصدمون في تعريف ذاتهم للعالم وللمنتمين الى تحركهم، حينما لا يمكن التمييز بين الناس على اساس الانتماء الطائفي في الحياة اليومية، بل فقط حينما يتجه الى الكنيسة.
لقد قدمت الحركة القومية الاشورية مخارج متعددة لتحقيق وتأطير العمل القومي لشعبنا، وذلك لكي يتمكن من ان يحصل عليها ويجسدها قانونيا وفعليا. وذلك من خلال القبول بالتسمية الثلاثية القانونية، اي (الكلداني السرياني الاشوري) وهذه التسمية هي تسمية تسري في اروقة الدوائر الرسمية وما يخرج منها من الوثائق، ولكنها ليست ملزمة الاستعمال كلما سئل الفرد عن قوميته. فيمكن وبكل بساطة ان يقول كلداني او سرياني او اشوري حسبما يشاء ولكن قانونيا سيتم ادخاله في خانة الكلداني السرياني الاشوري. ان تقسيم شعبنا، سيعني ان امكانية تجسيد حقوقه ايضا سيتعرض لخطر عدم التحقق، لان القانون في الغالب يشترط توافر نسبة معينة من ابناء شعبنا لكي يتم تجسديد المقررات القانونية. او لكي يتم تفعيل بعض الحقوق، مثلا التعليم والتعلم بلغة الام. كما ان تقسيم شعبنا وقد يلحقة تقسيم اسم اللغة وبالتالي امكانية عدم تنفيذ حق التعليم والتعلم. كامثلة لما يمكن ان يحدث في حالة تقسيم شعبنا.
ان البعض لا يزال يعيش في وهم انه الاكثرية، معتمدا على الواقع الكنسي، متناسيا انه حتى هذا الواقع قد تغيير بعد موجات الهجرات المختلفة التي عانى منها شعبنا، وبعد عملية انتشار الوعي القومي بوحدة الكل. واذا كان هذا البعض قد تمكن من حصر ابناء الطائفة في الكنيسة وانها الوحيدة التي تمثلهم، ومع الاسف ان بعض الكنائس لم يكن لها اي مانع في ان يعرف المنتمين اليها على انهم عرب او كورد ليس الا. ان هذا البعض وفي ادعاء كاذب بمحاولة صهر او التهميش، لم يعد حقا يدرك معنى الكلمات او المصطلحات، فهو يقبل ان يكون كورديا او عربيا، بما يعنيه ذلك من احتمالية كبيرة لتغيير اللغة والعادات والتقاليد والانسلاخ من تاريخه واحتمال ذوبانه في هذه التسميات. ولكنه لا يقبل التسمية المشتركة والتي تعني الحفاظ على كل ما يدعية من مميزات اثنية خاصة به. لا بل ان تاريخ الكنيسة التي تمثلهم حسب اعتقاد البعض لا يبرز لنا اي مطالب للحفاظ على اللغة والعادات والحقوق. ولعل موقف الكنائس ابان ازالة اكثر من مائتي قرية لابناء شعبنا ابان الانفال وصمتها المريب، بما كانت تضمه هذه القرى من الاديرة والكنائس التاريخية ويعتبر بحق ارث انساني، يظهر ان الدفاع عن التمايز الاثني بين مكونات شعبنا الغير الموجود الا في المخيلة، ادعاء كاذب حقا. اليوم وفي الحالة التي يعيشها شعبنا من التشتت ، بات من الضروري الانتباه للمحافظة على لغته وتراثه وتواصله، فابناء شعبنا ان لم يتواصلوا مع بعضهم البعض بمختلف انتماءاتهم الكنسية، فسينصهرون في الشعوب التي يعيشون بينها. وحينها لن تفيدنا الحروب المفتعلة الحالية.