"أًفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى ...؟"
(سفر يونان ٤، ١١)
الأب ريبوار عوديش باسه
المقدمة: نحن أهل العراق عموماً وأهل نينوى خصوصاً عندما نقرأ سفر يونان النبي تنتابنا مشاعر جياشة وجميلة ومختلفة عمن ليس لديه انتماءٌ مباشر لأرض العراق الطيبة. شخصياً عشت في نينوى لمدة تسع سنوات، وكلما أقرأ هذا السفر وكأني أحد هؤلاء الناس الذين يحذرهم يونان من الدمار، ويدعوهم الله للتوبة، ويغفر لهم ويفرح بخلاصهم.
سفر يونان هو من الأسفار القصيرة (٤٨ آية فقط) ولا تستغرق قراءته أكثر من عشرة دقائق، إلا أنه غنيٌ بمعانيه الروحية وأسراره اللاهوتية وجماليته الأدبية. وربما أقصر طريقة لتفسيره هي بالبدء من نهايته، وبالتحديد بالسؤال الذي يطرحه الرب على يونان النبي في نهاية سفره:
"أَفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِن آثنَتَي عَشرَة رِبْوَةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم مِن شِمَالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان ٤، ١١). هذا السؤال يطرحه الرب على كل واحدٍ منا، وخصوصاً في هذه الأيام المباركة التي نصوم فيها صوم الباعوثا التي تذكرنا بتوبة وخلاص أهل نينوى بفضل نبوءة يونان النبي ورحمة الله. كما تذكرنا بأحداث تاريخية أخرى وقعت في نينوى وحدياب وكركوك، منها الخلاص من وباء الطاعون وذلك في القرن السادس الميلادي، وكذلك قصة خلاص عذارى دير بقرب نينوى من ظلم أمير، وكل ذلك بفضل التوبة والصوم والصلاة لنيل رحمة الله (قارن كتاب: رتبة باعوثا، للبطريك لويس روفائيل ساكو، بغداد ٢٠١٤، ص ١).
نينوى رمزٌ لكل الأمم والأوطان: نينوى التي هي في مركز رسالة سفر يونان لها معاني ودلالات روحية تتجاوز جغرافية هذه المدينة العراقية العريقة وأهلها لتشمل كل من هو مختلف عنا بالدين والعرق واللغة والجنسية والشخصية، وما إلى ذلك. فهذا الإنسان المختلف نحتاجه ويحتاجنا، وينتظر منا أن ننقل له نبوءة الله التي تدعو في جوهرها للمحبة والتوبة والغفران والرحمة والخلاص. فنينوى في سفر يونان ترمز لكل إنسان مهما كان، حتى لو كان خصماً وعدواً، حيث يدعونا الله لنحبه ونحمل الرسالة الإلهية إليه كي يتوب ولا يهلك. ظن يونان بأنه كان عليه فقط أن ينقل رسالة مفادها أن:
"بَعدَ أَربَعينَ يَوماً تنقَلِبُ نينَوى" (يونان ٣، ٤). ولهذا لم يدعو أهلها للتوبة. إلا أنهم رغم قساوة كلمات النبي فهموا فحوى رسالته التي كانت عبارة عن جملة واحدة، مكونة من خمس كلمات فقط.
ونحن يونان اليوم هل لدينا الاستعداد لننقل رسالة الله وبشارته الخلاصية حتى لأعدائنا؟ هل فعلاً نريد أن يخلص أعدائنا، أم نريد دمارهم وهلاكهم؟! وهل خلاصهم يغضبنا، فنقول خير لنا أن نموت من أن نحيا! (قارن يونان ٤، ١. ٨ ـ ٩). ومن جانب آخر، نتسأل: هذا المختلف عنا، حليفاً كان أم خصماً، صديقاً كان أم عدواً، هل مستعدٌ أن يقتدي بأهل نينوى الذين آمنوا وتابوا وقبلوا رسالة نبي غريب ورجعوا عن طريق الشر والعنف (قارن يونان٣، ٥ ـ ٩)؟! ولكن ينبغي ان نكون حذرين من طرفنا، ونسأل أنفسنا: هل نحن أيضاً نعترف بخطايانا ونتوب عنها ونطلب الرحمة والغفران من ربّ الأكوان؟ ففي سفر يونان، مثلما كان أهل نينوى محتاجون للتوبة، كذلك يونان كان بحاجة لذلك وكان عليه تغيير مساره والتوجه إليهم، وليس بالهرب من وجه الله ومن وجوههم (أنظر يونان ١، ١ ـ ٣؛ ٣، ١ ـ ٤). إذن جميعنا خطأة (قارن رسالة بولس الرسول إلى الرومانيين، الاصحاح الثالث)، وجميعنا بحاجة للتوبة، ولرحمة الله وحنانه ورأفته ونعمته وغفرانه!
يونان ورسالته لكل إنسان: إن رسالة سفر يونان مسكونية حيث تتجاوز الزمان والمكان وتدعو للانفتاح والشمولية وبالتالي هي موجهة لي ولك الآن ولكل إنسان. كل واحد منا مدعوٌ لكي يكون يونان! مدعوٌ ليقتدي بالرب الذي هو
"إلهٌ رَؤُوفٌ رَحيمٌ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَةِ ونادِمٌ على الشَّرّ" (يونان ٤، ٢). الله رحم نينوى وندم ولم يدمر المدينة وأهلها! أما يونان فلم يريد أن تنزل رحمة الله على تلك المدينة. فنبوءته المباشرة لأهل نينوى كانت تشير فقط للدمار الذي كان مزمع أن يحلّ بها بعد أربعين يوماً (يونان ٣، ٤). وكما نوهنا أعلاه بأن نهاية هذا السفر هي نهاية مفتوحة، وتشكل بذلك نقطة الانطلاق بالنسبة للقارئ. وتطرح علينا السؤال التالي: هل فعلاً نحن نريد من الله أن يشفق على نينوى المدينة العظيمة؟ هل نحن فعلاً نريد أن يشفق الله على من هو مختلف عنا بالدين والقومية والعرق والجنس والمواهب؟ هل نحن فعلاً نريد أن نكون رسل المحبة والمصالحة والتوبة والرحمة والغفران؟! أما أننا نغضب، لأن ما نقلناه في رسالتنا التحذيرية لم يتحقق، بسبب توبة الآخر ورحمة الله تجاهه!
يونان يصلي من بطن الحوت ويستغيث الله من جوف مثوى الأموات (قارن يونان ٢، ١ ـ ٩)، والله يسمع صوته (يونان ٢، ٢) ويخلصه (يونان ٢، ٩ ـ ١٠)، لا بل حتى يظلله فيما بعد بنبتة الخروعة لكي ينقذه من الضرر (يونان ٤، ٦). فيفرح يونان فرحاً عظيماً لذلك، إلا أنه لا يفرح بتوبة وصوم وصلاة أهل نينوى، وبالخلاص الذي تحقق لهم بفضل رحمة الله وحنانه، لا بل يغضب ويفضل الموت من أن يرى هذا الخلاص لأعدائه! تتميز شخصية يونان بالغضب، حيث أنه يغضب لأن الخروعة التي لم يتعب بها ولم يربها يبست (يونان ٤، ٥ ـ ٩)، ويغضب لأن الله رحم نينوى وأهلها وخلصهم. ومن الملاحظ بأن كلمة "غضب" ترد في هذا السفر خمس مرات، مرة واحدة فقط تشير لغضب الله
"لَعَلَّ الله يَرجعُ ويَندَمُ ويَرجعُ عنِ آضطِرامِ غَضَبِه، فلا نَهِلك" (يونان ٣، ٩؛ لكن لاحظ بالمقابل صفة
"طَويلُ الأَناةِ" لله؛ يونان ٤، ٢)، أما بقية الحالات الأربعة فكلها تشير لغضب يونان (يونان ٤، ١. ٤. ٩).
محاسن يونان: أهل نينوى تابوا، ويونان أدى رسالته لكن السفر ينتهي قبل أن يجيب يونان على السؤال الذي طرحه الله عليه:
"أَفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِن آثنَتَي عَشرَة رِبْوَةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم مِن شِمَالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان ٤، ١١). لمعرفة جواب يونان على سؤال الله ينبغي إعادة قراءة سفره على ضوء هذا السؤال. فيونان يسرد قصته وقصة خلاص نينوى بتواضع ويذكر سيئاته وضعفه وتمرده على مخطط الله. ومن خلال ذلك يعبر عن توبته أيضاً ويضع رحمة الله في المقدمة ويقدم نفسه كعبد بطّال عمل ما كان يجب عليه (قارن لوقا ١٧: ١٠). أما نحن فجوابنا على سؤال الله يعتمد على مدى تجاوبنا مع دعوته لنا، وعلى جديّة توبتنا وصدق محبتنا لأعدائنا، وعلى مدى استعدادنا لنرحم الآخرين مثلما يرحمنا الله، وأن نعمل على خلاص الآخرين مثلما يخلصنا، وأن نغفر للأخرين مثلما يغفر لنا ذنوبنا.
بالرغم من تمرد يونان وموقفه المتعصب، وكبريائه وغضبه لعدم تحقيق كلمات نبوءته بانقلاب نينوى، نجد في سفره تعابيراً ونصوصاً تشير إلى أنه كان رجلاً يخاف الله (قارن يونان ١، ٩) ويرفع صلاته له (قارن يونان ٢، ١ ـ ٩؛ ٤، ٢ ـ ٣) ويحاوره كصديق وبكل صدق (قارن يونان ٤، ٩). وما يمكننا استنتاجه من سفره هو تواضعه وتوبته على مواقفه السابقة وسرده لنا لخبرته الصعبة وبالوقت عينه ممتعة وناجحة لكي ننتفع منها ونبدأ مغامرتنا مثله بالتوجه نحو الأخر المختلف عنا أو خصمنا من دون خوف، لا لكي ندمره وإنما لكي ينال الخلاص من الله مثلما نلناه نحن، واثقون بأن الله معنا ويصنع العجائب لتحقيق رسالته من خلالنا.
يونان وأبن الإنسان: إن سفر يونان له مكانة مميزة عندنا نحن المسيحيين، لأن ربنا يسوع المسيح بلسانه يشير إليه، وبصريح العبارة يذكر مدينة نينوى وأهلها ونبيها يونان، قائلاً:
"٣٩جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآية، ولَن يُعْطى سِوى آيةِ النَّبِي يونان. ٤٠فكما بَقِيَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وثَلاثَ لَيال، فكذلك يَبقى ابنُ الإِنسانِ في جَوفِ الأَرضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال. ٤١رِجالُ نِينَوى يَقومونَ يَومَ الدَّينونةِ معَ هذا الجيلِ ويَحكُمونَ عليه، لِأَنَّهم تابوا بإِنذارِ يُونان، وههُنا أَعظَمُ مِن يُونان" (متى ١٢، ٣٩ ـ ٤١؛ قارن متى ١٦، ٤؛ لوقا ١١، ٢٩ ـ ٣٠. ٣٢؛ يونان ١، ١٧؛ ٣، ٣ ـ ١٠).
كما هنالك نصوص كتابية أخرى في العهد الجديد تشير بطريقة غير مباشرة لأحداث هذا السفر النبوي مثل أعجوبة تسكين يسوع للعاصفة، والتي يُشَبَه بها يسوع بيونان حيث كان نائماً مثله في السفينة التي كانت تتعرض لأمواج وعواصف (متى ٨، ٢٣ ـ ٢٧؛ مرقس ٤، ٣٥ ـ ٤١؛ لوقا ٨، ٢٢ ـ ٢٥؛ قارن يونان ١، ٤ ـ ٦).
تعابير أخرى وردت في العهد الجديد قد تكون لها علاقة بما ورد في سفر يونان، مثل:
"بالمِسحِ والرَّمادِ" كعلامة للتوبة (متى ١١، ٢١؛ لوقا ١٠، ١٣؛ يونان ٣، ٥ ـ ٦)؛
"نَفسي حَزينَةٌ حتَّى المَوْت" (متى ٢٦، ٣٨؛ مرقس ١٤، ٣٤؛ يونان ٤، ٩ من الملاحظ أن النص العبري هنا يستخدم كلمة تشير للغضب، بينما الترجمة السبعينية اليونانية تستخدم كلمة تشير للحزن)؛
"فَرِحوا فَرحاً عَظيماً جداً" (متى ٢، ١٠؛ يونان ٤، ٦).
فلتكن توبتنا
"بالمِسحِ والرَّمادِ" طريقاً لخلاصنا،
فينقلب حزننا حتى الموت إلى فرحٍ عظيمٍ جداً. فإذا كان يونان قد فرح فرحاً عظيماً بنبتة الخروعة التي لم يتعب بها ولم يربها، فكم ستكون الفرحة أعظم في السماء بتوبة إنسان خاطئ!
الخاتمة: ونحن نحيي صوم أهل نينوى ونتأمل برسالة سفر يونان التي تدعونا للتوبة والرحمة والشفقة، لنصلي من أجل السلام والأمان في نينوى، ونطلب من الرب أن يعزي قلوب كل ضحايا الصراعات والحروب وبشكل خاص الناس الأبرياء وأبناء الأقليات الذين لا تزال معاناتهم مستمرة بسب العنف والاضطهاد. ونستذكر شهداء العراق عامة وشهداء نينوى وبالأخص رئيس أساقفتها شيخ الشهداء المطران بولس فرج رحّو الذي كرس حياته وضحى بها في سبيل خدمة الرب وكنيسته في مدينة نينوى. وبما يخص موضوع الرحمة والشفقة، نستذكر ما قاله في سياق إحدى مواعظه الخالدة في كنيسة مار بولس يوم ٧ كانون الثاني ٢٠٠٨، وذلك بعد يوم من تفجيرها، معلناً بصوته الجهور وبلهجته المصلاوية الرقيقة وبثقة وحماس هذه الكلمات النبوية:
"... فأنا دِعِتُوكم اليوم حتى نصلي من أجل الذين يعتبرونا أعدائهم، وجو فجروا كنائسنا، أدعوكم اليوم أن نصلي من أجلهم، حتى الله يعطي الرحمة في قلبهم، يشفقون على هذا الشعب العراقي المتألم والجريح. كفى، كفى من هذه الشرور في هذا البلد، لأن نحن بقى نريد أن نرى الحب، نريد ان نرى السلام، نريد أن نرى الأخوة، نريد أن نرى التضامن في هذا البلد، ونريد أن نبني هذا البلد...". دعوة شيخ الشهداء المطران بولس فرج رحّو هي من صلب رسالة سفر يونان. فالله أشفق على مدينة نينوى وسكانها وقَبِل توبتهم ورحمهم. فهل نحن مستعدون أن نتوب مثلهم؟! هل نحن مستعدون أن نرحم بعضنا البعض، ولو بعدما دمرت مدينة نينوى، وبعد خراب البصرة، وبعد كل ما لحق ببلدنا العريق العراق بكل أعراقه وأطيافه وأديانه وثقافاته وقومياته؟ هل يا ترى سنتعلم من ماضينا، ومن ضمنه أيضاً قصة النبي يونان مع أهل نينوى، لنتوب عن خطايانا ونغفر لمن أخطأ إلينا، ونحب بعضنا البعض، ونرحم بعضنا البعض، ونشفق على نينوى وعلى بعضنا البعض مثلما أشفق الرب عليها وعلينا؟
مارَن إثرَحَم علَين؛ مارَن قَبيِّلْ باعوثَن؛ مارَن إثرَّعا لعَودَيك.
يا ربنا أرحمنا؛ يا ربنا اقبل طلبتنا؛ يا ربنا ارضَ على عبيدك.