المحرر موضوع: متى يكون الإنسان سيّد نفسه ؟!  (زيارة 921 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يعقوب أفرام منصور

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
متى يكون الإنسان سيّد نفسه ؟!

يغقوب أفرام منصور
    ثمة بون شاسع بين أن يكون الفرد الإنساني سيّد نفسه وبالتالي سيّد مصيره، وبين أن يكون مسودًا عليه من آخَر أو آخرين يقررون ويحددون مصيره الوجودي. وخير قيلس على مدى رقي المجتمعات البشرية في ركب الحضارة هو النسبة العالية المتوفّرة في سكّان ذلك المجتمع، الذين يعتنقون هذا المبدأ أو الإرادة عن سليقة أو وعي تربوي، ثقافي أو معرفي، فيتصرّفون في مناهج حياتهم بهديٍ من هذه العقيدة الجوهرية تلقائيًا وبسلاسة وقناعة، بدون حاجة إلى الإقصاح عنها، أو بكونهم سادة أنفسهم، ومتحكّمين في مجال تقرير مصيرهم كما يرومون في عالم يكون فيه العمل المجدي  شاملاً ومؤهِلاً لبلوغ الكفاف والسعادة النائية عن الأنانية المفرطة، والغلوّ في الإستملاك والطمع.
     وفي حالة انخفاض وجود هذه النسبة في المجتمعات البشرية، تكون غالبية أي مجتمع كبير أو صغير ـ في المدينة وشعب القطر وشعوب القارّة والقارات وشعوب العالم قاطبة ـ أي عندما لا تملك هذه المجتمعات والشعوب زمام أمورها، لأن غالبية أفرادها ليسوا سادة أنفسهم، وبالتالي ليسوا سادة مصيرهمم الوجودي ـ تغدو هذه الغالبية المجتمعية مسيّرة ومقودة بإرادات وأهواء ومطامع وانحرافات وشرور ونزوات الأخرين من بيئتهم نفسها، أو من خارجها وبعيدة عنها، ومن أفراد وأحزاب وزُمَر خفيّة أو منظورة، ومن ذوي نزعات إستعمارية، إستغلالية، وبعضًا مجرّدة من أقل درجة من درجات الإنسانية الشاملة، ومن يقظة الضمير، ومن نهج سواء السبيل.
     ولمّا كانت أبرز عيوب ونقائص البشرية هي الأنانية المفرطة القاتلة، والطمع  إلى حد الجشع بكل أنواعه : في السلطة والرئاسة والشهرة والتملّك والجنس، كما ومن مثالبها الغطرسة والكبرياء  والحسد، كان من الطبيعي أن يكون تاريخ البشرية زاخرًا بالحروب الفاتكة الهدّامة الدمويّة.
     في الحربين العالميتين كانت بواعث إشتعالهما جملة من هذه العيوب الكبرى في تاريخ البشرية، فقد أوحى سياسيون  "دُهاة" إلى الشعوب الغافية والمتحفّزة والمغلوب على أمرها، والمتطلّعة إلى الإنعتاق والإستقلال، وذوي الأماني القومية، بوعود خلاّبة لتحقيق أمانيهم وتطلّعاتهم هذه، وإذا بهذه الوعود المعسولة المغرية ـ بعد أمد قصير من  إبرام معاهدات الصلح ـ تتحوّل إلى اقتسام تلك الكيانات وتفتيتها من قبَل الدول "الكبرى" بأشكال من الإستعمار والإسترقاق والوصايات والحمايات.وقد رافق وعود هؤلاء الساسة الدهاة دعمٌ وترويج مُعلن وخقي من رأسماليين كبار، وعاملين في الظلام والسراديب ومُنتجي ضروب الأسلحة. هذه النتائج المُخيّبة لأماني وتطلّعات الشعوب النامية والمستضعفة، حصلت كلها في أعقاب الحربين العالميتين، إضافة إلى كساد  في أواخر العشرينات و اوائل الثلاثينات من القرن الماضي في أوربا، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين في أمريكا، والأخطر من كل ذلك هو أن مستقبل البشرية غدا عند مفترق الطرق وعلى شفير الهاوية والفناء الشامل ـ غِبّ فاجعة جريمة هيروشيما وناغازاكي/1945، وأحداث  جريمتي 11 أيلول /2001وحربي أفغانستان/2002 والعراق بعد عام ـ بدليل التهديدات والتوعّدات المتبادلة التي يطلقها كبار أقطاب الساسة من شهور خلت بإشعال فتيل حرب نووية وهيدروجينية، ومن إطلاق "أم القنابل" وتتحدّاها قنبلة "أبي القنابل"" !، وكأن الشعوب جرذان أو صراصر وحطب هذه الحرائق الهوجاء، وهذا الإفناء الآثم!
     وكيف لا تنطلق هذه التهديدات الرعناء المستهترة بحق البشر في الحياة الآمنة، وقد عمّ سواد الخلائق إنحدار القيَم الأخلاقية، وشيوع الفساد بأنواعه والنفاق الأجتماعي والسياسي، وانتشار الجرائم والإرهاب المنظّم، في حين أن الأوساط الثقافية والفكرية والأخلاقية والمدنية لم ترفع صوتها  بعلوٍ كافٍ  لأيقاف  هذه السيول  الهادرة نحو الهاوية المأساوية الكبرى،  وخصوصًا توجيه الأصوات العالية إلى الساسة الكبار في الشرق والغرب والشمل والجنوب ؟!  كما أن هذه الأوساط  عينها لم  تُلفت نظر الشعوب الغافلة عن دنو الخطر الماحق بسبب عدم الإستفادة من أحداث ومؤامرات ونتائج الحربين العالميتين لتحاشي  ارتكاب  مثيل سيئاتها وجرائمها ومظالمها. ألأوساط  التي أسلفتُ ذكرها أعدّها كربابنة حكماء يحسنون قيادة السفينة البشرية لتبليغها ميناء السلام الدائم الوطيد من خلال المناداة بأن يكون [ الإنسان سيّد نفسه، ولا تسود عليه وبالتالي على مصيره ومستقبله أهواء ومطامع ونزوات وانحرافات تؤدّي به إلى الهلاك والفناء. فالعقل الراجح والتفكير المستقيم السليم يؤكّد أن لا شيء أفضل من العيش النظيف الرغيد الآمن على هذا الكوكب الجميل الحافل بالطيّبات والخيرات والثروات، وأن لا شيء أنفع من تحريم الحرب الجماعية التي تهدم ما بنته الأجيال السالفة بالكد الجهيد والعرق الصبيب والتضحيات الجسام، ولا شيء أسوأ من مجاراة المفسدين في الأرض وذوي المطامع الأشعبية، والخنوع لإرادات أصنام العنصرية والشوفينية والفاشية ودُعاتها.]
     ألإنسانية ليست مفلسة، ماديًا  ومعنويًا وروحيًا، من التفكير السليم المستقيم، والإرادة الصالحة، وهي قادرة بصوتها الجهير العزوم أن تجعل ساستها وزعماءَها ورؤساءها وشعوبَها يتخلّون عن الأنانية المفرطة، والنفعية الذاتية الموغلة في الطمع والعجرفة. فعندما تمادت ألمانيا النازية في غزواتها واختراقاتها ومحاربة جيرانها شرقًا وغربًا، وصار مصير هذا الككوكب على كفّ عفريت نَزِق يؤدّي إلى الهلاك الشامل، تحالفت القوى الكبرى ( يريطانيا، الولايات المتحدة، ألإتحاد السوفييتي) لوضع حد حاسم لتجاوزات ألمانيا العنصرية العدوانية الوسيعة، واستهتارها وغرورها، فكان ما كان من اندحار ألمانيا في ربيع 1945 أعقبه أستسلام اليابان في صيف 1945. تمّ ذلك الإندحار بالقوة والتدمير الجزئي، لكن بفضل  توحيد الإرادة للحيلولة دون اتساع  مدى الدمار أكثر مما حصل. فماذا كانت نتيجة ألمانيا وغطرستها واستهتارها بحقوق جيرانها في العيش الكريم الآمن؟ كانت النتيجة كارثية مأساوية: رئيسًا وشعبًا وأرضًا. حتى تشرشل نفسه، رئيس حكومة بريطانيا، نطق بعد انتهاء الحرب قائلاً " لم نكسب الحرب، بل كسبنا السلام." لكن من جهة أخرى، إستفاد إنتهازيون كثيرون ـ أسلفتُ ذكرهم ـ من استمرار الحرب 6 سنوات، ونظير هؤلاء برزوا  ثانيةً راقصين هازجين على أشلاء 30 مليونًا من شهداء وضحايا الحرب. فبعد شهور قليلة من انطفاء أوار الحرب، أُسست (منظمة الأمم المتحدة) في سان فرانسيسكو، وكان الهدف الرئيس المعلن من تأسيسها هو منع الحروب، ولما انتقل مقر المنظّمة العالمية إلى نيويورك، تصدّر صدر قاعة الجمعية العامّة ـ وما زال متصدّرًا ـ  هذه العبارة المنقوشة من مطلع ميثاق المنظّمة [ نحن شعوب العالم أنشأنا هذه المنظمة لمنع الحروب في العالم]. لكن ما كاد ينصرم عام واحد على قيام هذه المنظمة حتى كانت الدول الكبرى، المؤسِسة للمنظمة،  أول من خرق نص مطلع الميثاق الدوَلي المنقوش في عام 1946، حين أشعلت فرنسا حرب فيتنام. وفي عام 1948 حرب أمريكا في كوريا التي أدّت ألى تقسيمها : شمالية وجنوبية، ثم حرب العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ، ثم حرب أمريكا في فيتنام خلال الأعوام  67 ـ 75.
     يلاحظ القارئ المطّلع على أحداث الحرب العالمية الثانية أن بداية إشعالها  في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كانت مع ظهور مُشعِلِها (هتلر) زعيمًا للرايخ الألماني، إذ غزا بولندة في أيلول 1939، فدوَل البلطيق وإسكندنافيا ففرنسا، ثم  التحرّش وضرب بريطانيا بحرًا وحوًا على سواحلها الجنوبية والغربية وعاصمتها ليلاً ونهارًا بكثافة، ثم تورًط ألمانيا في غزو روسيا، مرتكبًا بذلك الخطأ المماثل لخطأ  نابوليون في غزو روسيا قبل قرن وربع. وهنا من المناسب طرح هذا التساؤل: هل آلاف الذين أرسلهم نابوليون إلى روسيا ليهلك جلّهم مع خيولهم بثلوجها وبالمجاعة، ثم آلاف الذين أرسلهم هتلر ألى روسيا لينفقوا بثلوجها ونيرانها.. أقول : هل ذهبت هذه الآلاف إلى حتوفها المأساوية بباعث من أنانيتهم وأطماعهم، أم بباعث من أنانية وأطماع  وعجرفة وغرور نابوليون وهتلر ورهطهما وزمرتهما، وببواعث أنانيات وأطماع ونزعات خفية وظاهرة من آخَرين أسلفتُ ذكرهم؟ وهل كانت هذه الآلاف المرسلة إلى ساحات الوغى المهلِكة  مالكة زمام نفوسها، لتكون سيدة أنفسها ومصائرها، ؟ طبعًا، الجواب (لا)، لأن الجنود هم من المجموع الغالب من الشعب الناشئ على الطاعة للرؤساء والقادة في الميدانين العسكري والإداري المدني، إذ خلافًا للطاعة، ثمة عقوبات مفروضة على المتهمين بالخيانة في حالة رفضهم الطاعة ـ مع العلم أن جيش نابوليون المرسل الى روسيا لم يكن مدافعًا عن وطنه فرنسا، ولا جيش هتلر كان مدافعًا عن ألمانيا، بل بالعكس تمامًا. فالشعب الألماني برمّته لم يكن سيّد نفسه ومصيره آنئذٍ، مع انّ ألمانيا لم تكن حينئذٍ مُعتدى عليها أرضًا وسماءً  وشعبًا، بل هي نفسها كانت الغازية والمعتدية  على جيرانها وأبعد من ذلك بكثير(البلقان ـ كريت ـ شمال افريقيا)
     لهذا ارتأت أمريكا الرأسمالية أن تنجد بريطانيا الإستعمارية ونظيرتها فرنسا فبقية دول أوربا، وارتأت روسيا الشيوعيةـالإشتراكية أن تنضمّ إلى التحالف الأمريكي ـ الأوربي في عام 1944 بباعث شبه مقدّس لدحر هذا التمدد الألماني المرعِب بجبروته وشوفينيته وفاشيته، ودحر التمدد الآخر الرديف من إيطاليا، والرديف الأخر من اليابان التي تمددت في الشرق الأقصى. وكان هذا التحالف ، البادئ تنفيذه من ساحل نورماندي الفرنسي في حزيران 1944، مثالاً مصغّرُا على إمكانية درء الخطر الداهم والمصير السيئ من خلال توحيد الإرادة الصادقة الصالحة لمقاومة الشر والعدوان والإهلاك بقوة وعزيمة تفوقان قوة وعزيمة المعتدي والغازي العازم على مزيد من الإختراق والتمدد والإستيلاء. وكان ذلك مثالاً بسيطاً على أن يكون الإنسان ( الذي يرمز إلى الإنسانية.. البشرية) سيّد نفسه وبالتالي سيّد مصيره ، فثمة دلائل ان الإنسانية ومرادفها ( المروءة) غير مفلسة من عناصرها المادية والمعنوية والروحيّة.
     واليوم وقد برز بجلاء ، منذ عقدين، وجود أكثر من (هتلر) واحد على سطح كوكبنا، المُشوّه بالتلوّث، الموبوء بالشرور والآثام والمفاسد، فما هو موقف  إنسان هاا القرن  الحادي  والعشرين؟ فمفردة (إنسان) هنا تعني شعوب العالم قاطبةً، أي الإنسانية، البشريّة جمعاء، وها هي تسمع وتبصر ما يدور ويُنشر، فيتراءى لي ولكثيرين أن أوضاع الحياة على هذا الكوكب باتت توحي أن الجنس البشري أمسى عند مُفترق الطرق، منذرًا بأوخم العواقب،، فالعارف والمتأمّل جيدًا يلاحظ تشابهًا بين أحوال العالم  في أول عامَي الحرب 1939 و 1940 وبين أحوال العالم في عامَي 2017 و2018  وفي ظروف وأجواء  نفسية وإعلاميّة مهياة، مساعدة لإندلاع حرب عالمية ثالثة. فكل (هتلر) جديد غطريس يهدد  نظيره وغريمَه الآخر النائي عنه كثيرًا بأنه سيفني ويمسح كيانه من الوجود والخارطة بكذا  قنبلة وبكذا صاروخ، فلا يُبقي ولا يذر غير الفناء المحتّم، والخراب والرماد والعدم. فهل تظل الشعوب صامتة هامدة كأبي الهول لتغدو حطبًا ووقودًا لسعير قلوب ومطامع ونيران "الهتلريين" الجدد المتغطرسين المغرورين الأنانيين الموغلين في نزعة السحق والهدم!؟
      متى سوف يكون الإنسان الحالي، في رُقيّهِ المادي وتقنيّتِهِ، سيّد نفسه ومصيره السليم الآمن؟ ألم يَحِن الوقت بعدُ ليرتفع صوت  الشعوب عاليًا تجاه الرؤساء والقادة والزعماء والسياسيين والمنظمة العالمية لتحريم الحروب وانتاج أسلحتها، أم تُرى سوف تترك الشعوب حبلها على الغارب، لتهلك كما يروم الطامعون والأشرار والأنانيون وصُنّاع السلاح، وعبَدَة الشيطان، وهم لن يكونوا بمنجى من الإفناء العام؟!
     
.