المحرر موضوع: مسيحيو الموصل والاحتفال بالأعياد والتذكارات والمواسم السنوية القسم (2)  (زيارة 762 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل بهنام سليم حبابه

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 16
    • مشاهدة الملف الشخصي
مسيحيو الموصل والاحتفال بالأعياد والتذكارات والمواسم السنوية
القسم (2)
بهنام سليم حبابه

أما الأحد التالي وهو الذي يسبق العيد الكبير فهو (عيد السعانين)، وفيه ذكرى  دخول  السيد المسيح إلى (أورشليم) مدينة القدس دخول الملوك محاطا بالجماهير الهاتفة له: "مبارك الآتي باسم الرب".
ينتظر الجميع، خصوصا الأطفال، هذا اليوم الجميل و هذه الذكرى فيرتدي الأولاد، كبارا وصغارا، الملابس الجديدة الزاهية ويسرعون إلى الكنائس لتلاوة الأناشيد والتراتيل الخاصة بالمناسبة، بعضها بالعربية وغيرها بالكلدانية، شعرا و نثرا، تحكي بالتفصيل أخبار تلك الأحداث التاريخية و الكل يصرخون مرنمين: (أوشعنا لابن داؤد). و يلوحون بأغصان الزيتون. أما الأطفال الصغار فسعادتهم كبيرة بالملابس الجديدة و بأيديهم (القرصة الصفراء) علامة الفرح بهذا اليوم، وقد مزجت عجينتها بالكركم لتلوينها باللون الأصفر.
هذا و قد ورد ذكرى هذا العيد عند الشعراء منذ القدم فقد ذكره النابغة الذبياني          بقوله في وصف الغساسنة :
لهمٌ شيمةٌ لم يعطها اللهُ غيرهمْ             منَ الجودِ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ
محلتهمْ ذاتُ الإلهِ ، ودينهمْ                          قويمٌ فما يرجونَ غيرَ العواقبِ
رقاق النعال طَيِّبٌ حُجُـــزاَتـــــهُمْ                 يحيون بالريحان يوم السباسبِ
((يوم السباسب هذا هو يوم السعانين (الشعانين) في المسيحية )).
كما كتب الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، في قصيدته (يا دجلة الخير)، متحسرا فيها على كل جميل افتقده في بغداد، ومنه:
والمُسْمعِ الدهرَ والدنيا وساكنها        قْرعَ النواقيس في عيدِ الشعانينِ
*******
أما الأسبوع الأخير وهو السابق للعيد الكبير، ويسمونه (أسبوع الحاش، من حشا الآرامية وتعني الألم) فيه يوم الفصح (وهو الخميس) ومن معانيه بالآرامية (الفرح) و(العبور) فيه ذكريات أحداث عديدة في الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد. منها قيام السيد المسيح بغسل أقدام تلاميذه تواضعا و خدمة، ويحتفل بتلك الذكرى و الممارسة الفريدة في كل الكنائس إلى الآن.
والجمعة بعده هي الجمعة الحزينة فيها الاحتفال الكبير بذكرى الفداء العظيم الذي حققه السيد المسيح للعالم حسب التعاليم المسيحية ،وقد سبقتها نبوات الأنبياء بإشارات واضحة في العهد القديم.
يقول حسان بن ثابت يمدح آل جفنة، ذاكرا عيد الفصح:
قد دنا الفصــــح فالولائد ينظمـــن       ســـراعا أكلة التيجان
يجتبين الجــــــادي في نقب الريـط      علـيها مجاسد الكتان
ذاك مغنى من آل جفنة في الدهـ ر    وحـــق تعاقب الأزمان

و نهار السبت (ليلة العيد) ينهمك الجميع بتنظيف البيت و ترتيبه و تهيئة لوازم الغداء ليوم العيد و هو (اليخني) الخاصة بعيدي الميلاد و القيامة.
و كالمعتاد في الأعياد يذهب الرجال و الأولاد إلى حمام السوق إذ لا حمام في البيت حينذاك. أما النساء فإلى حمام (الصالحية), وتكون (نجيبة الغسّالة) قد حضرت لأخذ الملابس وأدوات الاستحمام (الطاسة، الليفة والگيل مع الصابون, ولا تنسى المناشف /الدويشم) .
و كانت جدتي مجودة (وقد عمّرت 90 سنة) تجلس على الباب بانتظار عمتي نعيمة لترافقها إلى الحمام و تقوم بخدمتها ثم تعود بها إلى البيت مساءً كان ذالك قرابة سنة 1935!
و ما أجمل انتظار فجر الأحد نهار العيد الكبير يحضر الجميع إلى الكنائس لسماع إعلان نبأ قيامة السيد المسيح من القبر كما وردت في الإنجيل, فنصفق بفرح و حبور و تعلو التهاليل مع صوت الناقوس معلنا بشارة القيامة. وفي نهاية الاحتفال والصلوات يتبادل الجميع التهاني بعبارة معروفة (قام المسيح.....حقا صحيح.....عيدكم مبارك).
أما الصغار ففرحتهم كبيرة في تبادل البيض المسلوق الملون بالألوان الزاهية, تلك عادة قديمة و إشارة تاريخية جميلة ذات معنى يشير إلى الحياة داخل البيضة رمزا للسيد المسيح المائت الحي.
 قد يقوم البعض بتوزيع بعض الحلويات – من بقلاوة و غيرها –على باب الكنيسة عن أرواح موتاهم الأعزاء بمناسبة العيد ليذكروهم بالترحم عليهم.
و هذا وإن حضور النساء للصلاة في العيد و في سائر الأعياد و الآحاد و المناسبات واجب أيضا. والنسوة كنّ يرتدين (الإزار) الذي يستر الجسم كله، (وهو قطعتان بألوان زاهية مختلفة لها أسماء معروفة كانت تستورد من الهند أو من حلب)، أما العجائز وكبيرات السن والأرامل فالإزار أسود اللون مع أغطية للرأس، والبنات الصغيرات والصبايا فالغطاء هو منديل أبيض كبير للرأس أو (فوطة)!
وكان الخمار وأنواع الحجاب للوجه سائدا بين معظم النساء في البلد لاسيما المسلمات واليهوديات، لكن هذه العادة انقرضت لاحقا وبدأ السفور أو ارتداء العباءة السوداء فقط، واليوم سادت الملابس العصرية وأوشكت العباءة أيضا أن تنقرض.. وما عاد لأزياء أيام زمان من مكان سوى (الصندوق الأحمر) الذي يضم الذكريات الفلكلورية القديمة: إزارات ملونة، سراويل، أغطية الرأس، (الفيس/ الطربوش المحاط بالليرات).
وقد انقرض الإزار واستعماله انتهى في الموصل (وفي بغداد أيضا) منذ العام 1930أو قبله بقليل، وانتشر استعمال العباءة السوداء التي كانت تستورد من حلب بواسطة التجار(فتاجر حلب مشهور وذكرته الأغاني الشعبية)، وربما يضع بعض النساء سلاسل ذهبية على العباءة (بساكل) للزينة وعلامة على الغنى، أما مشط الذهب وحزام الذهب (الهميان) والمقلد والجدائل الذهبية (الكذلات) لزينة الشعر، وقبلها غطاء الرأس المرصوف بالليرات فضلا عن الأقراط (المغاود) والگردانة والأساور المختلفة كسوار الليرات وخلخال الرجل (الحجل)، فهذه لا تظهر أبدا إلا داخل البيوت فقط، ورحم الله أيام زمان! فقد كانت النساء الميسورات يملكن هذه (المخشلات الذهبية)، أما الفقيرات فكانت مخشلاتهن من الفضة وربما لاشيء... فقد كان سعر مثقال الذهب في قبل أواسط القرن المنصرم  (750 فلسا) ما يعادل عشر روبيات..أما الفضة فرخيصة الثمن.
وفي العودة إلى أيام العيد الكبير، فقد كانت في سالف الأيام أسبوعا كاملا ثم اختصروها إلى ثلاثة أيام لدى معظم المسيحيين، وكان بعض المسيحيين،  والميسورون خاصة، يقصدون القدس الشريف بمناسبة الاحتفالات بالعيد الكبير وما يسبقه من طقوس ومناسبات دينية معروفة وبعد العودة يُستَقبَل (المقدسي) استقبالا خاصا ويكون الاحتفال به في الكنيسة ويحمل لقب المقدسي فيصبح اسمه (المقدسي فلان)، وربما طغت التسمية على الأسرة كلها (بيت المقدسي).
وما أجمل ما تغنى به أمير الشعراء في وصف بيت المقدس إذ قال:
يا فاتِحَ القُدسِ خَلِّ السَيفَ ناحِيَةً   لَيسَ الصَليبُ حَديداً كانَ بَل خَشَبا
إِذا نَظَرتَ إِلى أَينَ اِنتَهَت يَدُهُ      وَكَيفَ جاوَزَ في سُلطانِهِ القُطُبا
عَلِمتَ أَنَّ وَراءَ الضَعفِ مَقدِرَةً           وَأَنَّ لِلحَقِّ لا لِلقُوَّةِ الغَلَبا
*******
وبعد مناسبات العيد واحتفالاته تبدأ الاستعدادات لمناسبات التناول الاحتفالي لأولاد وبنات المدارس، فينهمك الأهل بتحضير الحلويات لتقديمها للمهنئين، فيما ينهمك الأولاد في دروس التعليم الإستعدادية.
ثم يأتي عيد الصعود وهو ذكرى صعود السيد المسيح إلى السماء وقد ورد تفصيل ذلك في الكتاب المقدس، وفي هذا العيد يتراشق المسيحيون المشرقيون بالماء، وربما كان لعادة التراشق بالماء ذكريات دينية؟ ولا ضير في ذلك فالصيف على الأبواب وعلاماته بادية، والنوم ليلا فوق السطح أمر معروف لدى أهل هذه البلاد نظرا لشدة الحرارة في زمن لم تعرف فيه بعد المبردات والمكيفات بأنواعها، لكن النهر قريب لمن يهوى السباحة في فصل الصيف اللاهب. وكان أحد الآباء الرهبان الدومنكان قد غرق في نهر دجلة سنة 1933 قرب دير مار ميخائيل شمال الموصل، هذا الراهب أسباني اسمه (كبرييل بيرناج)، غرق بعد مجيئه بشهر واحد وراح ضحية حر الصيف اللاهب، رحمه الله.
***
و في مواصلة الحديث عن تلك الذكريات’ يبدأ في أواخر الصيف التفكير بتحضير المونة (المؤونة) للسنة القادمة وبخاصة لأيام الشتاء فيقوم البعض بحجز (دست السليقة) و هو قدر ضخم واسع، و أجرة حجزه خمسون فلسا يسلقون به الحنطة مقدار مئة كيلو أو أكثر لتتحول بعدئذ إلى (حبيّة) و منها يعملون أنواع البرغل الخشن و الناعم. و تتم عملية السلق في (العوجي/ الزقاق) أمام باب البيت في شبه مهرجان يحضره أولاد المحلة من الجيران ليأخذ بعضهم حفنة أو أكثر من السليقة يلتهمونها متلذذين. و يهتم رجال البيت بحمل هذه السليقة إلى السطح لكي تبرد مدة يومين أو ثلاثة يلتقط العصافير و الطيور طعامهم منها.
يستدعي أبو البيت عمال الجرش وهم غالبا من الجبليين (أهل سناط) مع ماكينتهم الضخمة يضعونها في الحوش للقيام بجرش السليقة و تحويلها إلى برغل (خشن وناعم) و تكون ام البيت جاهزة مع الغربال فتجلس أمام المجرشة لتصفية هذا المنتوج إلى خشن وناعم و (سندارة) حسب الحاجة. ثم يرسلون قسما من السليقة لدرسها (في المدار تحت الرحى) في بيت سقّا الحصير أو بيت أسوفي... و بعد هذه العملية يعيدها صاحب المدار إلى الزبائن على دابته.
و هناك اختصاصيون آخرون بعمل (الرشتة -الغشتة) وهي الشعرية، بماكينتهم الخاصة فتقوم أم البيت بتحضير العجينة و يضعها العامل (المتخصص) في ماكينته لتخرج بعد قليل (رشتة/شعرية) تلتقطها المرأة و تلوثها بالطحين ثم يحملونها (الجافوف) لتحميصها فتصبح جاهزة للطبخ و الفرصة الذهبية للصغار الذين يرافقون أمهم إلى (الجافوف) و يلتهمون (السويق) و هو الطحين المحمص الناتج مع تحميص الرشتة.
بعد هذه العمليات الفنية تقوم المرأة بحفظ الرشتة و أنواع البرغل في البراميل أو (الكوارة) في السرداب لتكون جاهزة للطبخ و الأكل. و هناك في السرداب أيضا (دَن الخبز) وهو صندوق كبير وواسع يحفظون فيه الخبز الرقيق و ذلك بعد خبزه و تحضيره على أيدي الخبازات المتخصصات و هُنّ غالبا من أهل تلكيف أو قره قوش مقيمات في الموصل للقيام بعملية الخبز. تحجز أم البيت موعدا معهنَّ فيحضرن مساءً و ينهضنَ فجرا للعجن و الشبك، و الخبازة جاهزة أمام التنور لعملية الخبز, ويكون هذا النهار (احتفالا) بالخبز و الخبازات, فهو يوم تاريخي في حياة أهل البيت.
و لا تنسى الخبازات نقل الأخبار من هنا و هناك عن الزواجات و المواليد و عن المخطوبين و المخطوبات و العرسان و الزعلانين و غير ذلك من الأخبار المثيرة (التازة). و بعد الانتهاء من الخبز تقوم أم البيت بحفظه في (الدن) بعد أن يتم طيّه من قبل الخبازة, و هذا الدن (المخزن) يتسع لقرابة مئة كيلو من الخبز لأيام الشتاء الطويلة... و الويل للمرأة إذا تسلطت الفئران على الخبز وجعلته طعاما سائغا!!
 أما المرأة الذكية فلا تنسى تهيئة (البرمة) و هي خليط من العدس والحمص واللحم المكبوس ثم تحكم الخبّازة سدّها و تضعها في  التنور لتصبح في اليوم التالي فطورا لذيذا. هذا و إن حفلة الخبز و الخبّازات تبلغ نفقتها نصف دينار عدا و نقدا.
/////
وهناك مناسبات أخرى تدعى (مواسم) وهي التي يقدم فيها الخطيب (المصلاوي) الهدايا لخطيبته دليلا على أريحيته وكرمه! وهذا واجب وفرض على الخطيب، إذ عليه أن يبعث هدية الموسم في عيدي الميلاد والقيامة (العيد الكبير) وفي صوم الباعوثا وعيد السيدة العذراء (15 آب)  وهدية الموسم (حاجة ذهب: سوار، محبس... ) و صينية بقلاوة أو لوزينا، تحملها (الغسالة ) إلى بيت العروس و تأخذ خلعتها (إكراميتها)  بعد أن تؤدي بعض الأغاني العاطفية مع الزغاريد، إلى أن يحين موعد الاحتفال بالزواج، الذي تسبقه ليلة الحناء ثم (البرّاخ) في اليوم التالي وبعده الصبحية وتقديم الهدايا.
تلك كانت بعض عادات المسيحيين و ذكريات أعيادهم و تقاليدهم و مناسباتهم في أيام السنة أجيالا كثيرة إلى يوم 14حزيران 2014 و ما تبعه إذ هجمت أفواج داعش المجرمة على مدينة الموصل فهرب منها أهلها المسيحيون (النصارى)، كما هرب سكان بلدات سهل نينوى المسيحيون لاحقا، إلى مختلف الأرجاء من شمال الوطن هائمين على وجوههم مكابدين الذل و الهوان حبا بالمسيح، و استمر هذا اللجوء أكثر من ثلاث سنوات عجاف ثم بدأت تباشير انهزام قوات داعش أمام القوات الوطنية الباسلة، فتحررت بلدات سهل نينوى: قره قوش، كرمليس, بعشيقة و كذلك تلتها مدينة الموصل بدءا بالضفة اليسرى ثم اليمنى (بعد أن أمعن الغزاة المجرمون في جميعها هدما و تخريبا و إحراقا و إبادة لكل المعالم و الآثار في كل مكان من كنائس و أديرة و مدارس و بيوت و متاحف و مكتبات.... وهكذا أظهروا للعالم مدنيتهم و أخلاقهم).
و كان الألوف من المسيحيين يقدر عددهم بنحو خمسين ألفا قد تبدّدوا في بلاد الله الواسعة في أرجاء أوربا و استراليا و أمريكا و كندا و بعض الدول العربية, و عاد البعض إلى القرى المحررة ليعيدوا إعمارها و بناءها من جديد و مازال بعض آخر ينتظر العودة إلى الموصل.
 تلك ذكريات المسيحيين (النصارى) في الموصل أنشرها مقرونة بتحيتي و محبتي.


بهنام سليم حبابه
أربيل/عنكاوا