المحرر موضوع: الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في المجتمع العراقي الحلقة الأولى  (زيارة 747 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كاظم حبيب

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1265
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في المجتمع العراقي
الحلقة الأولى
منذ سنوات، العراق يمّرُ بفترة صعبة ومعقدة ومتشابكة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً من ناحية، وداخلياً وعربياً وإقليميا ودولياً من ناحية ثانية، وتعاني مكوناته القومية وانتماءاته الدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية من مصاعب جمة ومظالم كبيرة وإخفاقات لا حصر لها. إلا أن هذه الفترة، حيث تهيمن قوى وأحزاب إسلامية سياسية طائفية على الدولة والحكم، لا تنفصل عن الفترة السابقة حيث كانت قوى وأحزاب قومية وشوفينية مستبدة تهيمن على السلطة السياسية طيلة أربعة عقود عجاف، كما لا تنفصل عن معاناة شعب وداي الرافدين من نهج الاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز بمختلف صوره وأشكال ظهوره، وكذلك الاستغلال والحرمان والقهر عبر تاريخه السياسي والاجتماعي المديد. إن هذه المعاناة لم تنزل عليه من آلهة السماء، كما إنها ليست من آلهة العالم السفلي، بل كانت وما تزال نتيجة منطقية لجملة من العوامل الفاعلة والمؤثرة على تكوين البنية العقلية والنفسية للفرد والمجتمع، وهي التي تعيد إنتاج نفسها، وتكون السبب في استمرار بروز تلك الظواهر أو حتى تفاقمها، والتي عاش وما يزال يعيش الإنسان العراقي والمجتمع تحت وطأتها. لا شك في أن المسيرة التاريخية الطويلة للعراق قد شهدت تحولات وتغيرات معينة، ولكنها كانت في المحصلة النهائية غير جذرية وولم تكن قادرة على إزالة تلك العوامل أو الأسباب التي كانت وما تزال بروز تلك الظواهر!
ومن بين أبرز تلك الظواهر السلبية نشير هنا إلى ثلاث أساسية هي: 1) الاستبداد في الحكم، و2) القسوة في التعامل وممارسة التعذيب، و3) التمييز في الموقف من المواطن على أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو فكري أو سياسي أو من حيث الجنس.
 وفي هذه الدراسة المكثفة محاولة للولوج إلى صلب هذه المسائل السائدة في المجتمع العراقي بهدف الوصول إلى رؤية موضوعية وعلمية تؤشر الأسس المادية، أي العوامل أو الأسباب الفعلية، التي تكمن وراء بروز هذه الظواهر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العراقية، في حياة الإنسان والمجتمع بالعراق، وفي عملية إعادة إنتاجها.
تشير دراسات وأبحاث وكتب غير قليلة صادرة خلال العقود الخمسة المنصرمة إلى رأي مفاده أن الشعب العراقي عموماً يتميز بالقسوة والشراسة والتطرف والعنف في التعامل فيما بين أفراده ومكوناته ومع الآخرين. وأن هذه الميزة الثابتة فيه منذ القدم، هي التي انتجت وما تزال تنتج المستبدين والنظم الاستبدادية. وأن هذه الخصائص التي ما تزال تميز العراقيين، تتجلى في أفعال الفرد والمجتمع إزاء الأحداث التي يمر بها وردود الأفعال نحوها وطريقة التعامل معها. وهي لا تتجلى في الممارسة اليومية للفرد والمجتمع فحسب، بل تبرز بشكل صارخ في التشريعات التي عرفها العراق القديم حتى يومنا هذا، وخاصة تلك القوانين العقابية التي تنص على أحكام وعقوبات قاسية جداً بحق المخالف أو الجاني التي لا تتناسب مع طبيعة تلك المخالفات أو الجنايات التي ارتكبها الفرد.  وتدخل ضمن تلك العقوبات مختلف الإهانات والإساءات أو أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وتنوع وتعدد أساليب القتل والتمثيل بجسم القتيل واضطهاد أفراد عائلته. وتشير أيضاً إلى جرائم القتل التي ارتكبت على مدى تاريخ العراق القديم والإسلامي والحديث، ومنها المذابح التي نظمها القادة العسكريون أثناء الفتح الإسلامي الأول ومن ثم الأمويون والعباسيون والمغول والدويلات التي نشأت بعد المغول حتى الاحتلال العثماني للعراق، ثم العثمانيون والفرس والمماليك وقوات الاحتلال البريطانية والحكم الملكي والحكم الجمهوري، بما فيها وقائع سحل بعض المسؤولين التي حصلت في بغداد في أعقاب ثورة تموز عام 1958، أو أحداث الموصل وكركوك، إضافة إلى ما جرى ويجري في العراق منذ عدة عقود من اعتقال وسجن وتعذيب وتهجير قسري وتعريب وقتل وتذبيح للسكان الأبرياء في كردستان العراق، وبشكل خاص مذابح عمليات الأنفال واستخدام الأسلحة الكيميائية في حلبچة وغيرها، أو عمليات الإعدام الواسعة والجماعية لقوى المعارضة العراقية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية في السجون والمعتقلات العراقية خلال السنوات التي أعقبت انقلاب شباط/فبراير عام 1963 حتى سقوط النظام الاستبدادي، أو القتل الواسع النطاق الذي قامت به أجهزة الحكم الأمنية والقوات الخاصة لحزب وحكم البعث ضد المنتفضين في الوسط والجنوب وفي كردستان العراق في ربيع عام 1991، وإجبار مئات الآلاف من المواطنين الكرد، ومن قوميات أخرى على المسيرة المليونية إلى تركيا وإيران هرباً من بطش النظام الصدّامي ودمويته، أو ملاحقته للآلاف من الهاربين بعد الانتفاضة من الوسط والجنوب إلى إيران والسعودية، يضاف إلى ذلك جرائم القتل والتعذيب أثناء عمليات التطهير العنصري ضد الكرد الفيلية وعرب وسط وجنوب العراق، باعتبارهم من أصل إيراني أو تبعية إيرانية. أو ما جرى في أعقاب سقوط النظام في عام 2003 وبروز مجموعات إرهابية همها إثارة الفوضى وعدم الاستقرار وقتل الأبرياء أو إشعال الحرائق والتخريب والنهب والسلب وما إلى ذلك. كما تشير هذه الموضوعة إلى واقع أن القسم الأعظم من ملوك وحكام وادي الرافدين قد قتلوا بصيغ شتى، ونادراً من مات منهم موتاً طبيعياً.  ثم جرائم الإبادة الجماعية الجديدة التي ارتكبت بالموصل وبقية مدن وأرياف وقرى محافظة نينوى وفي مدن عراقية أخرى في أعقاب هروب القوات المسلحة العراقية وقوات الپيشمرگة أمام عصابات داعش الإرهابية والتكفيرية وعمليات القتل والسبي والاغتصاب على أيدي عراقية وقوى إسلامية سياسية من شذاذ الآفاق منذ 2014 حتى نهاية العام 2017 بحق الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، ومجزرة قاعدة سپايكر الجوية على أيدي عصابات داعش.       
تتضمن هذه الرؤية على جملة الوقاع الفعلية. إذ أنها تستعرض وقائع تاريخية ثابتة جرت في العراق ولا خلاف عليها. وهي بطبيعة الحال تعبر عن ممارسات تتسم بالقسوة البالغة والعنف المتطرف لا يمكن ولا يجوز نكرانها أو التخفيف منها ومن آثارها. ولكنها تضع العربة قبل الحصان، إذ تضع النتائج كأسباب، وبالتالي تعجز عن وضع اليد على العوامل الفعلية. والمطلوب هنا هو التحري عن العوامل التي تسببت في بروز تلك الظواهر وفي استمرار إعادة إنتاجها.
يشير البعض من الكُتّابِ والباحثين إلى أن العراق قد عرف في تاريخه الطويل أنظمة سياسية استبدادية ودموية مارست كل الظاهر السلبية، سواء أكانت تلك النظم ملكية أم جمهورية، وسواء أكان الحكام ملوكاً أم خلفاء إسلاميين، أم قادة عسكريين، أم رؤساء قبائل وعشائر أم قوات احتلال أجنبية. أي إن السبب يكمن في هذه النظم. وهذا الأمر صحيح نسبياً أيضاً، ولكنه، هو الآخر نتيجة لعوامل أساسية كانت وراء نشوء أو إقامة مثل هذه النظم السياسية المستبدة. كما إن هذه الموضوعة تتضمن في الوقت نفسه أحكاماً قاطعةً موجهة إزاء شعب بأكمله، لا يمكن قبولها كما هي، بل يفترض مناقشتها والتحري عن العوامل الكامنة وراء ظهورها أو الأسباب المحركة أو الدافعة لها. وتشير الكثير من الوقائع الحياتية إلى أن الغالبية العظمى من الناس في العراق أصبحت تؤمن بهذه الأحكام وكأنها حقيقة ثابتة وترددها دون انقطاع وتنعكس في كتاباتها ونقاشاتها، سواء تم ذلك عن وعي أم عن دون وعي منها، بما تنطوي عليه هذه الأحكام وما تحمله من مضامين وعواقب. وهي تحرم المجتمع من فرصة التحري عن الأسباب من جهة، وعن سبل معالجتها من جهة أخرى، إذ أن جمهرة غير قليلة لا تعتقد بإمكانية معالجة هذه الظواهر أصلاً، باعتبارها جزءاً من طباع العراقيين الثابتة. ويبدو أن هذه الجمهرة قررت سلفاً، أو تعطي الانطباع على الأقل، وكأن العراقيين، نساءً ورجالا، حالما يولدون يحملون معهم "وراثياً" جينات الاستبداد والقسوة والسادية والرغبة الجامحة في التعذيب، والشراسة والتطرف والعنف، وأنهم بسبب ذلك غير قادرين على الخلاص منها واستبدالها بجينات الرحمة والهدوء والاعتدال والدفء وعدم التطرف في التعامل فيما بينهم أو مع الآخرين. فهو بهذا المعنى قدر العراقيين الحتمي الذي لا فكاك ولا خلاص منه.
ولكن العراق، وكما أرى، بحاجة ماسة ودون أدنى ريب إلى خوض نقاش علمي وجاد ومتواصل حول هذا الواقع وتلك الظواهر الفعلية السائدة كالاستبداد والقسوة والقمع والعنف في السلوك العام في حياتنا نحن بنات وأبناء العراق، إذ بدون ذلك يصعب علينا التخلص من هذه الظواهر ومن الأساس المادي الذي نمت فيه وتطورت عليه، وأصبحت وكأنها جزءٌ من السلوكية والشخصية العراقية. كما يمكن أن يشارك إلى جانب الباحثين العراقيين في إنجاز أبحاث متخصصة علماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والطب من بلدان عربية وغير عربية لمساعدتنا في فهم هذه الظواهر ومعالجتها.
أصدر بعض الكتاب العراقيين ومن دول أخرى، وفي فترات مختلفة، عدداً من الكتب المهمة والقيمة التي تبحث في موضوع الاستبداد والقسوة والتعذيب والعنف في العراق أو في المجتمع الإسلامي عموماً والعراق خصوصاً. وإذا كان بعضهم استعرض بشكل موسع ومتعدد الجوانب مختلف أنواع القسوة والتعذيب والاستبداد ومعاناة الإنسان، وبذل جهداً كبيراً في جمع وتصنيف وتدقيق الكثير من المعلومات المتناثرة في عدد كبير من الكتب خلال القرون المنصرمة، كما في الكتاب الطليعي المتميز الذي أصدره الباحث والمحامي عبود الشالجي الموسوم "موسوعة العذاب" بأجزائه السبعة،  فأن كتاباً آخرين سعوا ضمن محاولة جادة إلى استعرض (أو) وتحليل العوامل الكامنة وراء بروز ظاهرة القسوة والتعذيب والاغتيال في الإسلام، كما في كتاب عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"[ii]، وفي أبحاث الكاتب الراحل الأستاذ هادي العلوي[iii]، أو كتاب السيد باقر ياسين الموسوم "تاريخ العنف الدموي في العراق"[iv]، أو كتاب "ثقافة العنف في العراق" للكاتب سلام عبود[v]، أو كراس "تشريح الاستبداد: النظام العراقي نموذجاً" للكاتب إسماعيل شاكر الرفاعي[vi]، أو في كتابي السيد كنعان مكية الموسومين "القسوة والصمت"[vii]، و"جمهورية الرعب"[viii]، إضافة إلى أبحاث الأستاذ الدكتور علي الوردي الخاصة بالمجتمع العراقي، ومنها دراسته لـ "شخصية الفرد العراقي"، وكتب "وعاظ السلاطين"[ix]، والمجلدات الستة مع الملحق الغزير بالمعلومات والتحليلات والموسوم "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"
  • ، وكذلك كتابين للدكتور كاظم حبيب، الأول بعنوان "الاستبداد والقسوة في العراق"[xi]، والثاني "الفاشية التابعة في العراق"[xii]، كما صدرت مجموعة أخرى من الكتب المهمة الأخرى التي سجلت ممارسات الإرهاب والقمع في العراق قبل وبعد ثورة تموز عام 1958، التي في مقدورها إنارة الطريق للبحث في هذا الموضوع المهم. منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب "العبودية الاختيارية"، للكاتب الفرنسي إيتيان دو لا بويسي، حول الحرية والعبودية، أو كتابي الدكتور فالح مهدي المهمين ، وهما "الإحباط الشيعي والخضوع السني"،[xiii]و "البحث عن جذور الإله الواحد"[xiv]، التي ترتبط بدور الدين في التأثير على سلوك الفرد والمجتمع والعلاقات بين البشر.

يعتبر كتاب السيد باقر ياسين محاولة جادة وجهداً طيباً لاستعراض واقع الاستبداد والقسوة وعمليات التعذيب على امتداد فترة زمنية طويلة من تاريخ العراق من جهة، ودراسة العوامل الكامنة وراء بروز هذه الظاهرة في العراق من جهة أخرى، وأجرى مقارنة للتناقض القائم أو للمفارقة الفعلية بين شدة وسعة وعمق وشراسة العنف وديمويته في العراق من جانب، والحضارة الشامخة التي بناها شعب العراق على مر العصور، وخاصة في العصر البابلي، من جانب آخر، فكتب يقول: "إننا لا نريد ولا نرضى الإساءة لبلادنا العريقة - وادي الرافدين الخالد - لكننا نسعى بالتأكيد للتفتيش عن مجموع الدوافع الغريبة التي تقف وراء الأنماط من السلوك المتصف بالعنف الفائق والقسوة البالغة والتطرف والشدة والقهر والميل شبه الدائم نحو سفك الدماء والأعمال اللاإنسانية والنزوع العدواني في فرض الموت القسري على الإنسان في هذه البلاد منذ أكثر من خمسة آلاف سنة والذي ما زالت فصوله المخزية تدور دون توقف حتى يومنا هذا…"[xv]. ثم يواصل قوله مؤكداً ما يلي: "إننا لا نريد أن نبرهن هنا على وجود العنف الدموي والقسوة في حياة العراق ومسيرته التاريخية فحسب، بل نريد البرهنة إضافة إلى ذلك على وجود التطرف والمبالغة في تنفيذ العنف والقسوة والدموية، وسنحاول أن نثبت ذلك بالشواهد والوقائع والأحداث المستمدة من التاريخ العراقي لتسليط الضوء على هذا الموضوع وتشخيص بعض الجوانب المتميزة في طبيعة السلوك الاجتماعي لسكان هذه البلاد /الحكام والرعية/ ورصد مظاهر العنف والدموية كنزعة سيكولوجية ثابتة في حياة المجتمع العراقي"[xvi]. ثم أورد الكاتب سلسلة مرعبة من أحداث العنف والقسوة التي عاشها العراق على امتداد أكثر من خمسة ألاف سنة، إلى جانب العلوم والتقنيات التي اكتشفها أو اخترعها وساهم بها العراق في بناء حضارة الإنسان. ويورد كثرة من الشواهد على ذلك. ثم يكتب محللا ظاهرة العنف والقسوة على النحو الآتي: "إن التحليل المنطقي لهذه الظاهرة والأكثر انطباقاً على الواقع هو ما ينسجم مع منهج بحثنا ووجهة نظرنا عن شيوع العنف الدموي في العراق والتصاقه بتاريخ هذه البلاد على نحو استثنائي غير طبيعي، وإن مناخ العنف السائد في العراق باعتباره الميزة المستديمة لطبائع الأقوام والقبائل والناس إضافة إلى شيوع السلوك المتسم بالقسوة والشراسة والنفور والطباع الحادة وسيادة الأعراف البدوية والتقاليد القبلية الصارمة ذات النزوع الدائم للتمرد والثأر والعنف والتحدي الدموي والذاتية وقوة الشكيمة والعناد لدى سكان البلاد ربما كانت هي العوامل والأسباب التي دفعت خالد[xvii] لتلك التصرفات الدموية الشرسة والتشدد البالغ في العنف والإجراءات المتصفة بالقسوة والصرامة مع أهل العراق كي يستطيع فرض سيطرته على الموقف"[xviii]. ثم يقارن بين ما جرى في العراق وما جرى في بلاد الشام فيقول: "بينما كان غياب تلك العوامل والأسباب وانتفاء وجودها في الشام ربما هو السبب الذي أضفى على شخصية خالد الصارمة تلك الأبعاد الإنسانية من الليونة والمرونة والتسامح والصبغة السلمية التفاوضية التي اتسم بها سلوكه ومواقفه وتصرفاته خلال تنفيذ مهماته العسكرية في بلاد الشام"[xix]. ومن الجدير بالملاحظة أن الكاتب باقر ياسين، وهو عضو قيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي، جناح سوريا، حين أنجز هذا الكتاب، تجاوز بشكل كامل مجازر حزب وحكم البعث والقوميين في أعقاب انقلاب شباط الدموي المشؤوم بالعراق في العام 1963، وكانت أبشع الجرائم السياسية التي شهدها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية حتى ذلك الحين. ثم يواصل باقر ياسين قوله مستنتجاً ما يلي: "أما إذا لم تكن تلك الأسباب هي الباعث لهذه الظاهرة فإن التفسير الوحيد لذلك التباين في حجم المعارك واتساعها ودمويتها بين العراق والشام هو أن يكون العنف الدموي القدر الإلزامي الذي يتوجب أن يلازم بلاد الرافدين وسكانها في كل الحقب والعصور"[xx]. وفي فقرة "تطبع المجتمع العراقي بالجدية والتذمر والحزن الدائم" يخلص باقر ياسين إلى القول: "كان من نتائج وانعكاسات تطبيق منهج العنف الدموي لفترات زمنية طويلة في تاريخ العراق، شيوع وانتشار بعض الطباع والعادات والسجايا الأخلاقية والسلوكية التي أصبحت، بمرور الزمن، جزءً من معالم وسمات المجتمع العراقي بعد أن طبعت بطابعها سلوك الفرد العراقي وحددت بدرجة كبيرة تصرفاته وميوله الشخصية بصورة عامة"[xxi]. والطباع هنا لا تعني التقاليد والعادات، إذ أنه يشير إلى العادات بعد الطباع مباشرة. فهل يعني في ذلك أنها غريزة من غرائز الإنسان أي أنها جزء من البنية البيولوجية للإنسان العراقي؟ وهل العنف هو حقاً من طبيعة الإنسان عموماً والعراقي خصوصاً، أم أن العنف والقسوة من جهة، والسلم والرحمة أو الرأفة من جهة أخرى، هما من السلوكيات المكتسبة عند الإنسان؟ ومما رفع من درجة الشك في هذا التصور محاولة السيد باقر ياسين اعتبار تلك النزعة وكأنها سيكولوجية ثابتة وموروثة وغير متغيرة في حياة المجتمع العراقي. وفي مكان آخر من الكتاب يقول السيد باقر ياسين، في معرض مناقشته لفكرة التبدل السريع في السلوكية والمزاج لدى الناس في العراق، ما يلي: "لقد أورد الباحث ستيفن لونگريگ أن سبب هذا التغيير الحاد والسريع في موقف الأهالي في بغداد من قاسم باشا هو "العنف الخالي من الحكمة الذي أبداه قاسم.. وسوء سلوك أحلافه الشمريين العقيل"[xxii]. غير أن ذلك السبب لا يبدو كافياً لإحداث مثل هذا التبدل الحاسم والمصيري في موقف الناس في بغداد بعد بضعة أيام من استقبالهم لقاسم باشا.. ذلك الاستقبال البهيج الحافل بمظاهر الفرح والتأييد والإجلال. إن السبب الذي يورده الباحث لونگريگ لا يمكنه أن ينفي شكوك الباحث المتتبع أو يبعد تفكيره عن الأسباب والمعاني المتعلقة بالجانب السلوكي والنفسي (السيكولوجي) للفرد العراقي ونزوعه الفطري في هذا المسلك خصوصاً إذا وضع في الاعتبار الأرضية التاريخية الغنية بالشواهد والأمثلة والدلائل والأحداث المماثلة التي يحفل بها التاريخ العراقي منذ قرون عديدة"[xxiii]. إن مجرى البحث والمقطع الأخير بشكل خاص، حيث يشير باقر ياسين إلى الجانب الفطري في السلوك العراقي، يؤكد للمتتبع مسألتين في آن، فهي مرة ظاهرة ملازمة لا باعتبارها مكتسبة بل فطرية، ومرة أخرى باعتبارها ظاهرة مكتسبة عبر السلوكية العامة للحكام والمجتمع العراقي في آن. وفي موقع آخر من الكتاب يذكر الكاتب في الفقرة الأولى من الفصل الأول وتحت عنوان: بلاد الرافدين: تاريخ عريق يبدأ بالعنف التصادمي، يقول الباحث ما يلي: "ليس غريباً أن يبدو التاريخ العراقي أمامنا غارقاً بأحداث العنف الدموي عندما نكتشف أن بدايات هذا التاريخ تتحدث للبشرية منذ بدء الخليقة عن قصص الصراع المتواصل القائم على العنف التصادمي بين الإرادات المتناقضة للآلهة المتعددة الأسماء التي عبدتها وخضعت لها الأقوام والحضارات التي قامت في وادي الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد، تلك القصص التي أبدعتها وصاغتها التجربة الأولى للعقل البشري والمتمثلة بالأساطير الملحمية لشعوب سومر وبابل وآشور"[xxiv]. ولكن علينا ألا ننسى بأن تاريخ العراق، أو وجود الإنسان في العراق، قد سبق هذا التاريخ بآلاف كثيرة أخرى من السنين، إذ لم يكن الوضع فيه على شاكلة العهد السومري أو حتى على شاكلة سكان تل العبيد قبل ذاك. إذ أن هاتين الحضارتين متقدمتان كثيراً بالقياس إلى حضارات أخرى في العراق سبقت حضارة تل العبيد وحضارة سومر. فالتنقيبات في المناطق المجاورة أو تلك التي أجريت في كردستان وشمال العراق عموماً تؤكد وجود الإنسان منذ ألاف السنين كما تشير إلى حياة وعلاقات تختلف عن حياة وعلاقات العهد السومري، وبالتالي فأن تاريخ سكان وادي الرافدين هو أقدم بكثير من العهد السومري، أي أنه لم يبدأ بالعنف الذي تميزت به عهود سومر وبابل وآشور، وهي تعبر عن حضارة جديدة تحققت في الثورة الثانية عملياً، أي حضارة دويلات المدن التي تختلف إلى حدود كبيرة عن حضارة عهد الصيد وجمع الثمار وحضارة الرعي والزراعة. إذ أن الحضارة الأولى وجزء مهماً من الحضارة الثانية، رغم تشابك الأخيرة مع حضارة دويلات المدن والدولة المركزية فيما بعد، تميزتا بعلاقات وسلوكية وسمات اجتماعية تختلف عن العلاقات والسلوكية الاجتماعية التي تشكلت في المدن ودويلات المدن في الحضارة السومرية والبابلية والآشورية والكلدية، باعتبارها حضارة ارتبطت بوجود دولة وتقسيم عمل اجتماعي وتملك خاص وفائض إنتاج وتنامي دور الدين والحياة المؤسسية للمجتمع والتي اعتمدت على وضع وتنفيذ القوانين والشرائع المختلفة. ومع ذلك تبين الشرائع الأساسية الأربع التي وضعت في العهود السومرية والبابلية والأشورية إلى أن الشريعتين الأولى والثانية لم تكونا تتضمنان عقوبات جسدية بحق من ارتكب مخالفات أو جرائم، بل كانت غرامات بدفع المذنب.[xxv]
والآن، كيف نفهم مضمون مثل هذه الموضوعات والآراء وبعض الأحكام التي تتضمنها إزاء الفرد في العراق، وبالتالي إزاء المجتمع أو الشعب في العراق؟ وما مقدار الحقيقة التي تحملها هذه الآراء والأحكام؟ وكيف يفترض أن نتعامل مع الحكم الرئيسي الشائع والقائل: الفرد العراقي عنيف ومتطرف بالطبع، أو أنه يحمل جرثومة العنف منذ الولادة؟ وما هي العوامل التي تسببت في انتشار مثل هذه المقولات؟ وكيف يمكن تجاوز هذا الأحكام؟ أو كيف يمكن التعامل معها؟ وكيف يمكن الخلاص منها؟
من أجل أن تكون الإجابة واضحة وموضوعية لا بد لنا من متابعة بعض النتائج الأساسية التي توصلت إليها الدراسات التي أنجزت في مجال الأنثروبولوجيا حول الكثير من الجماعات البشرية التي تسمى بدائية لمعرفة مدى وجود جملة من ظواهر العنف والقسوة والعدوانية في السلوك الإنساني عند تلك الجماعات، وتلك الدراسات الاجتماعية التي استفادت منها لطرح استنتاجها بهذا الصدد.
 
عبود الشالجي، موسوعة العذاب، مؤلف في سبعة أجزاء، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لندن، بدون تاريخ. 
[ii] عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهر، مصر.
[iii] العلوي، هادي. فصول من تاريخ الإسلام السياسي. دفاتر النهج. مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي. نيقوسيا. قبرص. 1995.   
[iv]باقر ياسين، تاريخ العنف الدموي في العراق، دار الكنوز الأدبية، بيروت ط 1، 1999.
تشكل دراسة السيد باقر ياسين محاولة جادة للبحث في أصل العنف الدموي في العراق، وهي تثير الكثير من الأسئلة التي يفترض فينا التحري عن إجابات لها. ولدي ثلاث ملاحظات أساسية حول الكتاب، والتي سأتناول بعضها في متن البحث مباشرة، وهي: 1) إن البحث تاريخي ومعاصر في آن واحد، فهو إلى جانب بحثه في تاريخ العنف، يتحرى عن الوقائع والدوافع والحلول أيضاً، كما جاء في عنوان الكتاب. ومع أن الكتاب مكون من 435 صفحة، فأن ما منح للفترة الواقعة بين 1958-1968 لا يزيد عن عشر صفحات فقط لا تتضمن التجربة التي سعى الباحث إلى تجسيدها في دراسته لتاريخ العنف في العراق، كما لم يتطرق إلى جوهر الإشكالية في هذا الصدد؛ 2) تجنب الباحث، علماً بأن البحث قد أنجر في عام 1999 أن يدرس الفترة التي أعقبت انقلاب 1968 حتى الوقت الحاضر، وهي من أكثر فترات العراق ظلامية وظلماً وعدوانية بحق الشعب العراقي؛ 3) ويدا لي أن الباحث حاول أن يعزي تلك الظواهر إلى طبيعة الشعب العراقي، وهي إشكالية سنحاول معالجتها في متن البحث مباشرة. ويمكن أن يكون النقص في معالجة الفترة 1958 وما بعدها ناشئ عن جانب منهجي، أي أن البحث يعالج تاريخ العنف في العراق، ولا يبحث في الحاضر. وإذا كان الأمر هكذا، فمن المفيد أن يواصل هذا البحث ويعالج الفترة التي أعقبت ثورة تموز عام 1958 مروراً بانقلاب شباط عام 1963 وتشرين الثاني عام 1963 وانقلاب عام 1968 حتى الوقت الحاضر. خاصة وأن الكاتب على علم بخبايا الفترة الواقعة بين 158-1968 بشكل خاص وما بعدها بشكل عام (ك. حبيب)   
[v] عبود، سلام. ثقافة العنف في العراق. منشورات الجمل. كولون. ألمانيا. 2002.
[vi] الرفاعي، إسماعيل شاكر. تشريح الاستبداد: النظام العراقي نموذجاً. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999. 
[vii] كنعان مكية، جمهورية الخوف، منشورات الجمل، 2009.
[viii] كنعان مكية، القسوة والصمت، منشورات الجمل، 2005.
[ix] علي الوردي، وعاظ السلاطين، دار ومكتبة دجلة والفرات، بغداد، 1954.
  • علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، في ستة أجزاء، طبع في قم، إيران على أساس الطبعة الأولى للكتاب، 1996م.
[xi] كاظم حبيب، الاستبداد والقسوة في العراق، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، السليمانية، كردستان العراق، العراق، 2005.
[xii] كاظم حبيب، الفاشية التابعة في العراق، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر، السليمانية، كردستان العراق، العراق، 2008. 
[xiii] فالح مهدي، الخضوع السني والإحباط الشيعي، نقد العقل الدائري، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة – جمهورية مصر العربية، طبعة أولى 2015 .   
[xiv] فالح مهدي، البحث عن جذور الإله الواحد، في نقد الأيديولوجية الدينية، دار العودة، بيروت-لبنان، 2017.
 [xv] باقر ياسين، تاريخ العنف الدموي في العراق-الوقائع - الدوافع – الحلول، دار الكنوز الأدبية، بيروت ط 1، 1999،
ص 16/17. 
[xvi] المصدر السابق نفسه، ص 19.
[xvii] المقصود هنا القائد العسكري العربي خالد بن الوليد.
[xviii]  باقر ياسين، مصدر سابق، ص 94. يقصد هنا خالد بن الوليد عند فتحه العراق والجازر التي ارتكبت بحق الأسرى من العراقيين والفرس في دفاعهم عن وطنهم ضد الفاتحين الجدد، لأنهم دافعوا عن وطنهم بحرارة ولم يستسلموا بسهولة.
[xix] المصدر السابق نفسه، ص 94.
[xx] المصدر السابق نفسه، ص 94/95.
[xxi] المصدر السابق نفسه، ص 411، المقصود هنا كتاب ستيفن هيمسلي لونگريگ، أربعة قرون من تاريخ العرق الحديث، ترجمة جعفر الخياط، مأخوذ عن الطبعة الرابع’ طبع انتشارات الشريف الرضي، قم-إيران، 1997.
[xxii] لاحظ هنا أن الكاتب لونگريگ يطرح فكرة مفادها أن العنف يمكن أن يكون حكيماً وعنفاً آخر يمكن أن يكون غير حكيم، وهو تعبير عن التفكير الذي يؤيد العنف على أن يستخدم بحكمة، وهي فكرة مرفوضة من جانبي إن أن العنف بكل أشكاله مرفوضاً ويقود إلى اضطهاد وعنف مضاد في حالات غير قليلة. ك. حبيب.     
[xxiii] ياسين، باقر. تاريخ العنف الدموي في العراق، مصدر سابق، ص 242.
[xxiv]  نفس المصدر السابق. ص 29.
[xxv] الشرائع الأربع الأساسية، والتي تعتبر ضمن الشرائع الكبرى في العالم، إضافة الشريعة الرومانية، هي:
شريعة العاهل السومري أورو كارجينا ((2350-2353 قبل الميلاد)، وشريعة أور ظ نمو الثانية في العهد السومري (2113-2006 قبل الميلاد)، وشريعة لبت عشتار (1934-1924 قبل الميلاد) في العهد الآموري أو البابلي القديم، وشريعة حمورابي (1750-1792 قبل الميلاد) في العهد البابلي. يضاف إلى ذلك اللوائح الآشورية. راجع: كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، 11 مجلداً، المجلد الأول، دارا ائاراس، أربيل، كردستان العراق، العراق، 2013، ص 344-368.