ألكلدان في فكر جبران خليل جبران
د. صباح قيّاتعود معرفتي بالكاتب والشاعر والرسام والفيلسوف جبران خليل جبران إلى السنة الأولى من مرحلة دراستي الثانوية بعد ان أوعز مدرس اللغة العربية أن يقدم كل طالب موضوعاً أدبياً مختاراً من أي من الكتب بشرط أن يكون له مغزى حياتي وأبعاد إنسانية . سقط نظري وأنا أبحث في مكتبة المرحوم والدي المتواضعة جداً , علّني أعثر على ضالّتي ’ على كتاب " دمعة وابتسامة " من تأليف جليسي الجديد . وبالفعل اخترت قصة " المجرم " والتي تحكي عن شاب فقير استغاث الملأ بعطف وتوسل كي يسدّ رمٌقه فلم يجد مجيباً , فاختار أن يحصل على ما يرغب بالقوة , وبالفعل تمّ له ما اراد بعد أن ارعب الملوك والامراء جراء شنيعة أفعاله ....
وشاءت الصدف أن أستشهد بمقولة لجبران عند مداخلتي على الموضوع الثقافي الذي قدمه أحد الزملاء الجامعيين في أخوية الشباب الجامعي المسيحي التي كنت أحد أعضائها خلال المرحلة الجامعية .... زجرني مرشد الاخوية المطران الراحل ( الأب آنذاك ) موسيس الملقب بقس عنتر بشدة بقوله أنه لا ولن يسمح بالإستشهاد بجبران أو ميخائيل نعيمة كونهما من الهراطقة ضمن قائمة تضم اكثر من سبعين آديباً حسب تصنيف الكنيسة الكاثوليكية . بصراحة لم يسبق لي سماع كلمة " هراطقة " ولم أعي معناها في حينه , فزاد غضباً عندما استرسلت ببراءة مدافعاً عن ما ذكرت , ولم يهدأ إلا بعد أن أومأ لي البعض من الحضور بالاعتذار والسكوت .... ما يفرح النفس اليوم انحسار المفاهيم التي أملتها الظروف الكنسية زماناً ما , فأصبح الحوار البناء الهادف وقبول الرأي المقابل هو السائد عند غالبية الرعاة في المؤسسة الكنسية وبالأخص في العالم الغربي الذي أوجد بنفسه تهمة الهرطقة ....
من يطالع ما كَتَبَ جبران وما كُتِبَ عنه يلمس الموسوعة الهائلة من الثقافة المعرفية التي يتميز بها والتي يشير بدقة واقتدار إلى حيثياتها في الأسطر التي يخطها قلمه الفني الرشيق , سواء ما يتعلق بالأدباء أو الفلاسفة أو الفنانين العظام المعاصرين منهم أو الغابرين , أو ما يخص الحضارات التي ظهرت منذ بدء الخليقة , أو الأديان باختلافها السماوية منها أو الأرضية أو المصطنعة ....
ورغم إعجابه بمنجزات الحضارات على مر العصور إلا انه لا يخفي شغفه وميله لكل ما هو كلداني وحلمه بالحصول على قطعة اثرية كلدانية . فما جاء في رسالته إلى " مي زيادة " المؤرخة " نيويورك 11 حزيران 1919 " يعزز ما كان يجول في فكره حيث كتب : " ولكن في مكتبي هذا أشياء كثيرة أحبها وأحافظ عليها , أنا مولع بالآثار الفنية القديمة , وفي زوايا هذا المكتب مجموعة صغيرة من طرائف الأجيال وبعض نفائسها كتماثيل وألواح مصرية ويونانية ورومانية وزجاج فينيقي وخزف فارسي وكتب قديمة العهد ورسوم إيطالية وإفرنسية وآلات موسيقية تتكلم وهي صامتة .
ولا بد من الحصول يوماً ما على تمثال كلداني , من الحجر الأسود . إني أميل بكليتي إلى كل شيء كلداني , فأساطير هذا الشعب وشعره وصلواته وهندسته بل وأصغر أثر أبقاه الدهر من فنونه وصنائعه ينبه في داخلي تذكارات غامضة ويعود بي إلى الماضي الغابر ويجعلني ارى الحاضر من نافذة المستقبل " ....
ويؤكد رغبته تلك في رسالة أخرى إلى " مي زيادة " والمؤرخة " نيويورك 3 تشرين الثاني 1920 " مضيفاً :
" لم أحصل بعد على التمثال الكلداني من الحجر الاسود , ولكن في الربيع الغابر كتب إليّ صديق إنكليزي موجود في العراق مع الحملة البريطانية وقال " إذا وجدت شيئاً فهو لك " .
وعزز جبران التصاقه بالحضارة الكلدانية البابلية في كتابه : يسوع إبن الإنسان المنشور عام 1928 " حيث
قص معجزات المسيح بلسان شخصية بابلية أسماها " ملاخي الفلكي البابلي " , وما نطق به : " في يسوع اجتمعت كل عناصر أجسادنا وأحلامنا طبقا للناموس , وكل ما كان كن قبله سابقاً لأوانه وجد فيه أوانه " .
وقد عالج " د. متري سليم بولس " في كتابيه " ألغاز جبرانية , وجبران ومي بين الخيال والواقع " مسالة إعتناق جبران نظرية التقمص
التي تجعله يؤمن بأنه من أصل كلداني , عاش ستة أعمار أو سبعة في بلاد الكلدان , وهو بذلك عمل على إعلاء شأن الحضارة الكلدانية وجعلها أعرق من حضارة اليونان , فكتب : إن جالب النار الأصلي هو كلداني وليس إغريقياً . وكما قال جبران لصديقته " ماري هاسكل " التي أوردتها في مذكراتها : أنه عاش مرتين في سوريا , لكن لفترة قصيرة , ومرة في إيطاليا إلى سن الخامسة والعشرين , وفي اليونان حتى الثانية والعشرين , وفي مصر حتى الشيخوخة ,
وعدة مرات ست مرات أو سبعاً ربما في بلاد الكلدان , وواحدة في كل من الهند وفارس .
إنطفات شمعة جبران عام 1931 , ولكن لم تنطفئ شعلته الزرقاء الوهاجة فهي خالدة إلى الأبد .... ولا أعتقد انه استطاع أن يحقق حلمه بالحصول على التمثال الكلداني من الحجر الأسود ...والأمل أن لا يحصل لكلدان اليوم ما حصل لجبران ويضيع الامل بالحصول على الكرسي الرخامي داخل قبة البرلمان الزرقاء ....