المحرر موضوع: ذكريات رحلة إلى البصرة.. كم يبعد العراق؟  (زيارة 1171 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31448
    • مشاهدة الملف الشخصي
ذكريات رحلة إلى البصرة.. كم يبعد العراق؟
الحرب الظالمة أنهت حصارا جائرا، وأخضعت العراق لاحتلال أميركي يشرف على حروب طائفية لا تنتهي، وينعش الرغبة في الثأر والانتقام، وتصفية حسابات تاريخية عمرها 1400 عام.

وجه البصرة، كما العراق، بعد حصار واحتلالين
العرب/ عنكاوا كوم
بين زيارتي الأولى للعراق (2000) وزيارتي الثانية (2017) قامت القيامة، وبعثت البلاد من الرماد، ولو مستباحة تغري الطامعين بنسف الحدود والبشر. الحرب الظالمة أنهت حصارا جائرا، وأخضعت العراق لاحتلال أميركي يشرف على حروب طائفية لا تنتهي، وينعش الرغبة في الثأر والانتقام، وتصفية حسابات تاريخية عمرها 1400 عام. بين الزيارتين 17 سنة استهلكت بضعة رؤساء، ومليارات من الدولارات المهربة بمسؤوليها الفارين، وملايين اللاجئين، وآلاف القتلى والمهجّرين، وأغارت على أديان وأعراق. والموت لا يشبع والأرض لا تزهد في الارتواء بالدم.

بعد 17 سنة لا يريد العراق أن يكون قريبا. الدعوة الأولى جاءتني عبر بوابة الهند، والزيارة الثانية مرت بمحل صغير لتصوير المستندات في شارع ضيق بالجيزة. في نهاية أغسطس 1995 تلقيت من قيس محمود موسى، رئيس قسم رعاية مصالح العراق، دعوة لحضور مهرجان المربد الشعري في بغداد. جذب انتباهي غياب العلم العراقي من خطاب تعلوه كلمتا “سفارة الهند”، واعتذرت. وفي نوفمبر 2000 تلقيت دعوة مزينة بالعلم الوطني أسفل “بسم الله الرحمن الرحيم”، وتخلو من “سفارة الهند”، بتوقيع طالب سعدون المستشار الصحافي بشعبة رعاية مصالح العراق، لحضور مهرجان المربد الشعري السادس عشر (نوفمبر 2000)، مع تذكير بأن إدارة المهرجان “بسبب الحصار الظالم المفروض على العراق تتحمل نفقات النقل من عمّان إلى بغداد وبالعكس”، على أن يتحمل الضيف نفقات السفر إلى عمان. تحمست ودفعتُ ثمن تذكرة الطائرة إلى الأردن (712.5 جنيه مصري)، أما بقية الضيوف المصريين فسبقوني بالطريق البري.

في عام 2000 تقدمت إلى السفارة، ورغم الحصار لم يطالبوني بثمن تأشيرة حملت ختم “مجاملة”، ويعلوها اسم العراق بالعربية والإنكليزية. وفي عام 2017 تطالبنا السفارة نفسها بأربعين دولارا ثمنا لتأشيرة أراها بدعا من التأشيرات. راجعت تأشيرات بلاد عربية وأجنبية سافرت إليها، فوجدتها تحمل اسم الدولة مكتوبا بلغة أو اثنتين، أما تأشيرة بلاد الرافدين الجديدة فتحمل اسم العراق بالعربية والكردية والإنكليزية، إضافة إلى ثلاث كلمات تدل على إذن الدخول باللغات الثلاث: “سمة الدخول”، “ڤيزه هتنله ژووره وه”، “Visa”.
البصرة أنشأها عتبة بن غزوان وصارت منصة الانطلاق العربي نحو الشرق، قبل أن يتسلل منها الأعداء والغزاة
تأشيرة في حجم قبضة يد صغيرة تزاحمت سطورها وصغرت حروفها لكي تتسع لكل البيانات باللغات الثلاث: اسم طالب التأشيرة وجنسيته، جهة إصدار جواز السفر، نوع الفيزا، عدد السفرات، تاريخ ورقم الموافقة، وتفاصيل أخرى تنتهي بضابط الإقامة والقنصل الذي اشترط ألا نتقدم بأوراقنا مباشرة إلى القنصيلة، وإنما عبر “المكتبة”.

ضاقت صدورنا بطلب آخر، شهادة بالخلوّ من مرض كذا وكذا. وأبلغت الدكتور سلمان كاصد رئيس اللجنة التحضرية لمهرجان المربد اعتذاري، وأن هذا أيضا قرار محمود قرني وجمال القصاص الذي انفعل في السفارة، وتساءل: ألا يفترض التأمين على حياتنا؟ لأننا نغامر بالذهاب إلى بلد غير آمن، ولسنا ذاهبين لعمل أو سياحة، وإنما مدعوّون إلى مهرجان شعري، لمدة أربعة أيام. بحثنا عن قهوة قريبة وهو مطلب عزيز في ضحى القاهرة، فلم نجد إلا “نَصْبة شاي” بجوار سور نادي الصيد، ولدى صاحبها كرسيان من البلاستيك، واتصل بي نزار الحكيم مسؤول الشؤون السياسية والإعلامية بسفارة العراق، وأبلغني أنهم سيتجاوزون عن شرط الشهادة الصحية. انتهينا من الشاي، وسألنا عن الطريق إلى “المكتبة”. كان علينا أن نعبر شارع عبدالمنعم رياض وميدان الثورة حيث مقر السفارة، ونمشي في شارع سليمان أباطة، ثم نميل يمينا إلى شارع الشهيد توفيق دبوس الشهير بشارع النخيل، ومنه يسارا إلى شارع الفواكه، ونسأل عن “المكتبة”، فيشير أحدهم إلى ما بعد صيدلية د. مايكل فكري وكافيه “شيشتي”.

لا تحمل “المكتبة” اسما، وهي ليست مكتبة، فلا توجد كتب أو أدوات مكتبية. شاب يجلس إلى ما يمكن أن يسمى مكتبا يشغل مساحته كمبيوتر متصل بطابعة صغيرة، ولا يتعامل إلا مع زبائن السفارة. في سفارة الهند بالقاهرة غرفة صغيرة يتولى فيها موظف إدخال بيانات طالبي التأشيرة، لقاء مبلغ مالي لصالح السفارة، وتستطيع من بيتك الدخول إلى الموقع الإلكتروني للسفارة، وتعبئة البيانات دون تحمل أعباء. وقدرت أن “المكتبة” مجرد غرفة تتبع السفارة، محمية عراقية ابتعدت عن حرم السفارة مسافة ميدان وبضعة شوارع وسوبر ماركت وصيدلية ومقهى. ونسيت أن أسأل الشاب عن طبيعة تلك العلاقة، لضيق الوقت ونفاد الصبر؛ فالمكان ضيق لا يوجد به إلا مقعد بلاستيكي، وإذا هبطت سلما قصيرا ستجد مقعدا جلديا آخر ممزقا ومتربا لا يصلح لشيء.

انتهى الشاب من إدخال البيانات، وطبع الاستمارات، وأرفق مع كل استمارة صورة لصاحبها وصورة من جواز السفر، وأخذ 55 جنيها من كل زبون، في إجراء يستغرق بضع دقائق ولا يستحق أكثر من عشرة جنيهات، واضطررنا إليه لأن الوقت لا يسمح بالمناهدة، ولا بسؤال أي موظف بالسفارة عن انتهاك الخصوصية، وبقاء بياناتنا في كمبيوتر شاب يدير “مكتبة” ليست مكتبة، ويحتفظ بأدق المعلومات، الأسماء والعناوين في مصر، والزيارات السابقة للعراق، وأماكن الإقامة، والجهة الداعية، والهدف من الزيارة، وتفاصيل أخرى أنسانيها الغضب.

عبر الأردن هذه المرة أيضا كان الطريق إلى العراق. بدخولي السفارة العراقية في عمان عام 2000 تنفست رائحة الحرب، في صحيفة “القادسية” رفع جندي عراقي العلم بيسراه، وباليمنى أمسك البندقية، وشعار الصحيفة الذي يعلو اسمها “القلم والبندقية فوهة واحدة” بتوقيع “الرئيس القائد صدام حسين”. وبعد مغادرة الأردن، وعبور منطقة الأعراف وصولا إلى الحدود العراقية، قرأت في منفذ “القادسية” شيئا من ملامح العراق: في استقبال الداخل صورة كبيرة لصدام، وأقوال من مبادئ ثورة تموز 1968، وفي الاستراحة صور أخرى للرئيس. أما الطريق إلى بغداد فحال الليل دون مشاهدة تفاصيله، وعلى بوابة بغداد لافتة “بناها المنصور وأعزها صدام حسين”. لم يكن فضاء العراق آنذاك يتسع إلا لمأثورات الرئيس وصوره وتماثيله، تأكد لي ذلك منذ لحظة وصولي إلى فندق “المنصور ميليا”، بوجود لافتة كُتب عليها بخط الرقعة “العراق صدام وصدام العراق”. كان عهدا خاليا من وطأة كربلائيات لا تُستدعى لوجه الله وحده، ولا يرضى عنها الإمامان علي والحسين عليهما السلام. بعد 17 عاما من رحلتي الأولى، تجاوزت الخمسين. بلغت سن الحكمة التي تروّضني، وتجنبني شيئا من الاندفاع والسباب، أما العراق فعاد إلى الطفولة، وأعاد الشعر إلى نبع يتغذى على روح الثأر، ويحث على الانتقام من أحفاد غير موجودين؛ لانقطاع نسل آبائهم قبل ألف وثلاثمئة عام، ولكن أجواء البصرة توهمنا بكثرتهم، وأنهم يتربصون بنسل الحسين وورثته.

تحريم يغزو العراق
نصل إلى البصرة في حماية البرد والندى، المطار هادئ، تتناثر بضع طائرات، وصمت أول النهار لا يمزقه محرك طائرة أو حركة حافلة. لا صورة لمسؤول، ذهب زمن القائد الضرورة، فمن هو أجدر بالتكريم قد اصطفاه التاريخ، إنه ابن البصرة ورمزها بدر شاكر السياب، هنا يطل الشاعر النحيل من شاشة المطار، بجوار “قاعة السياب”. في صالة المطار يفاجئني العراق الجديد، تكفي دلالة هذا الإعلان الملصق على صندوق: "الأمانتان العامتان للعتبتين المقدستين الحسينية والعباسية”.  “صندوق تبرعات الحشد الشعبي المقدس”.

من المطار إلى فندق البصرة الدولي “شيراتون” يحتشد جانبا الطريق بعمائم أغلبها سوداء، وعبارات وعيد وتحريض، لا أستطيع قراءتها كاملة، وإن أمكن قراءة بداية جملة هنا واستكمال بقيتها بعد مسافة، إعلانات ثابتة، ولافتات قماشية اهترأت من طول مقاومتها لعصف الريح، “لبيك يا حسين”، “سيد الوجع يا حسين”، “نور عيني يا حسين”، “المقاومة الإسلامية- حزب الله”، صور لشهداء مصحوبة بأسمائهم “لكي لا ننسى، قتلهم بعثي”، ولافتات أخرى تكتفي بكلمتي “الفاتحة للشهداء”.

أترحم على البصرة، الحاضرة التي في خيالي. قرأت عن حلم الشيخ زايد وهو يتحمس لإغراء الإمارات السبع بالانضمام في دولة اتحادية، بتشييد مدن على غرار البصرة، المدينة التي أنشأها عتبة بن غزوان بأمر من عمر بن الخطاب، وصارت منصة الانطلاق العربي نحو الشرق، جنة تجري فيها الأنهار وينمو النخيل، وتصبو إليها القلوب وعلماء اللغة والكلام والمتصوفة والمارقون والشعراء والغاوون، قبل أن يتسلل منها الأعداء والغزاة، وينطبق عليها المثل “بعد خراب بصرة”، رغم كفاية نفطها لإنعاش العراق، ولكن لا أمارة على النعمة، وإنما ملامح تشي بالحزن، وربما تستعذبه.

أمام قاعة “الفراهيدي” بفندق الشيراتون حشدٌ محب للجمال يحتاج إلى قاعة أخرى. لمحت صفاء ذياب ونصير الشيخ وسط أصدقاء لا يجدون مكانا في الداخل، ووفر حبيب السامر لي مقعدا. الفنادق فخمة والمتاحف طاردة للجمهور في كثير من الدول العربية، في مصر تحديدا تجنبا للتعميم، بنايات باذخة، نظيفة وبراقة وسط فضاءات القبح والفقر، في تناقض السياق دعوة الجمهور إلى النفور. أما أمسيات الشعر في العالم العربي، فيحضرها الشعراء المشاركون وأصدقاؤهم، القصائد جمهورها الشعراء ومقاعد خالية، إلا في العراق الذي يهبك قصيدة كلما أزحتَ حجرا، وإن شابت روح الشعر في العراق الجديد أطياف ستأخذ حصتها من الانفعال وتمضي.

المسرح يؤكد أنني في عراق غير الذي رأيته عام 2000، فمن ألقى قصيدة على مسرح الرشيد كان محاصرا بين صورة لصدام ومقولته “الأمة التي ليس فيها فنانون كبار وشعراء كبار ليس فيها سياسيون كبار”، بتوقيع “الرئيس القائد صدام حسين”. أما العراق الجديد فيحفل بكل شيء إلا القبضة المخيفة للرئيس القائد الضرورة. بدأ حفل الافتتاح مساء الأربعاء بقراءة القرآن الكريم، وأرسل الرئيس العراقي فؤاد معصوم إلى المهرجان تحية، فيها عرفان بالدور الحضاري للبصرة وأعلامها؛ الفراهيدي والجاحظ وبشار والأصمعي والحسن البصري وسيبويه، وصولا إلى “رائد التجديد الشعري العربي بدر شاكر السياب وشعراء الأجيال الأحدث، حيث كثير منهم بينكم الآن”، وقال أيضا “دائما كان الشعر صنو الحرية، ودائما يحفظ الشعر للإنسان جوهره العميق، ولا جوهر للإنسان إلا في حريته”.

في أغلب المهرجانات الثقافية العربية، يحظى الافتتاح وحده بالأضواء والزحام والتقاط الصور التذكارية، وفي العراق كل الندوات فرح بالشعر وحفاوة بالشعراء، والقصائد لا تقتصر على الأشكال التقليدية للإلقاء والتلقي، ففي شط العرب قصائد عائمة، ننصت إليها خلال جولة بحرية على يخت صدام حسين. لا نصدق إلا أن تراجيديا كان لا بد وقوعها لكي نطأ هذا اليخت، نتجول في أدواره وقاعاته، ويأتينا الطعام ساخنا. قيل إن اليخت تكلف 25 مليون جنيه إسترليني عام 1981، وإن فيه مخرجا سريا للهروب. كان سطحه الرحيب مفروشا بشمس عزيزة في الشتاء. أشار هيثم جبار إلى بضع فيلات شبه مهجورة ترسو على الشط، وقال إنها قصور شيدت لحسني مبارك وعلي عبدالله صالح والملك حسين عند قيام مجلس التعاون العربي عام 1989.

أسعد بمقابلة حميد قاسم ولقائي الأول بمحمد خضير، ويلاحقني البريد الإلكتروني برسالة من صديق بصراوي ضاقت به البلاد بما وسعت، فيوصيني من مهجره بأكل تمر البصرة، وزيارة جامعتها، ويرسل لي صورا إحداها للمرجع آية الله العظمى كاظم الجابري “يحرّم.. انتخاب العلماني”، الصورة تسبح في سماء زرقاء وتشغل يسار اللافتة المثبتة في سور، أما كلمة “يحرّم” فهي وحدها باللون الأحمر. الصورة الأخرى جدارية على يسار الداخل إلى قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب، للخميني بمطار طهران في فبراير 1979، يهبط سلم طائرة الخطوط الفرنسية، ويستند بيده اليمنى إلى طيار فرنسي أنيق يلبس ربطة عنق، ووراءه ملالي بعمائم. أعلى الصورة آية “وذكرهم بأيام الله”، وأسفلها أبيات شعرية، تنتهي بهذه البشرى "نبارك للأحرار في العالم طلوع فجر الإسلام المحمدي الأصيل في يوم 22 بهمن الموافق 11 شباط 1979 م”.
أسهم الحصار في تدمير الصناعة وعزلة الجمهور عن الأفلام وهجرة السينمائيين تحت وطأة الدكتاتورية والميليشيات
لا أشهد إلقاء للشعر إلا في أمسيات، حتى اقترنت كلمة “أمسية” بالشعر. ولكن العراق وحده يتنفس الشعر فلا يرتبط بتوقيت. هنا في ضحى يوم الجمعة، تقرأ القصائد في “أصبوحة شعرية”، تزدحم بالجمهور في قاعة عرض سينمائية، في “مول سينما تايمز سكوير”، وهو مجمع يضم خمس قاعات عرض تسع 700 مشاهد، وتبدأ به المدينة عهدا من المصالحة مع الخيال، بعد أن أسهم الحصار في تسعينات القرن العشرين في تدمير الصناعة، وعزلة الجمهور عن الأفلام، وهجرة السينمائيين، في سياق غير مشجع تحت وطأة الدكتاتورية والميليشيات الطائفية في ظلال الاحتلال. ويمول أنشطة دور العرض مشروع “ميني بصرة” ذو الطبيعة الاستثمارية الهادفة إلى تعزيز الأنشطة الثقافية في المدينة، ومن طبائع الاستثمار أن تتوارى اللغة العربية في دارها، فلا يجد أصحاب المشروع كلمة عربية بدلا من تنافر ما لا ينسجم، فلا بقي عربيا ولا صار إنكليزيا، ولكنه أصبح “ميني بصرة”.

كانت “الأصبوحة الشعرية” التالية في دار السياب المطلة على نهر بويب بقرية “جيكور”. في الحافلات صورة للإمام الحسين “هل من ناصر ينصرني؟”. أحترم جلال القداسات، ولا أعلق، ويفهم صمتي صديق عاد من منفى أوروبي واستقر في العراق الجديد، ويسألني ساخرا “معترض؟”، فأجيب “لا يليق بالضيف”. كنا قد قطعنا مسافة، وقرأت لافتة “حي الشيخ نمر النمر”، وهو رجل دين شيعي معارض أعدم في الحجاز في يناير 2016 مع 47 متهما بالإرهاب.

على واجهة بيت السياب أقرأ “يا حسين”. البيت مركز ثقافي، باحة تحيط بها غرف، ويعلوها سطح يتسع لمن لم يجد في الطابق الأرضي مقعدا. يسهل أن تقرأ على ظهر الكراسي: “Sheikhy Made in Iran”

أفهم أن تكون ذكرى الإمام دعوة لما وهب حياته له، واستشهد من أجله، فكل مسيح ملهم، ولا إلهام في صيحة مباشرة، موزونة مقفاة، توجه أمرا بما يجب أن يفعله الجيش والحشد “يا جنود العراق جيشا وحشدا”، وترى في الدم “رقة وعذابا”. في هذه الأجواء المشحونة لا يجيد الجمهور استقبال قصائد جمال القصاص وصبا قاسم، والبريطاني آندي كروفت (ترجمها عبدالكريم كاصد).

هل عزل الوجع القديم المتجدد أصواتا في التجربة العراقية عن منجز الشعر العربي؟ ربما يمنح الغد الشعر والشعراء قدرة على إنهاء التلذذ باستعادة الألم، ونسف الخندق، وتحرير الشعر من عقد الماضي وارتهانه بالسياسة والعشيرة والطائفة.

أتأمل المشهد العراقي، وأترحم على روح الإمام الحسين وقضيته الإنسانية التي تستغل استغلالا سياسيا، وأتذكر كتاب “صناعة الهولوكوست.. تأملات في استغلال المعاناة اليهودية”، وفيه يوثق مؤلفه الأميركي نورمان فنكلشتاين أن المسؤولية الأخلاقية لأوروبا إزاء جرائم النازي في حق اليهود أورثتهم عقدة ذنب تاريخية. ولكن “الهولوكوست” كصناعة ابتزازية عاطفية وسياسية صنعت صنعا بعد العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في يونيو 1967، لتسويغ الجريمة الصهيونية في حق الفلسطينيين، وإعفاء إسرائيل من الانتقاد. أما في العراق فالقاتل والقتيل شقيقان، كلاهما يبحث عن الأمان، كلاهما مواطن ينادي مع السياب “يا بلاد المياه، يا بلاد الظمأ”.