المحرر موضوع: بين يونادم برقيقي، ومرقس برقيقي  (زيارة 8328 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل موفـق نيـسكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 362
  • الحقيقة هي بنت البحث وضرَّة العاطفة
    • مشاهدة الملف الشخصي
بين يونادم برقيقي، ومرقس برقيقي

إن مقالي ليس سياسياً، ومعروف للإخوة القَّراء جميعاً إني لا اكتب في السياسة لأنها ليست من اهتماماتي، بل اهتمامي هو في التاريخ والتراث فقط، والتاريخ هو تجارب الأمم، وأحياناً قد تنطبق مقولة، التاريخ يُعيد نفسه، فيفرض التاريخ نفسه في حدث معين، ويُجبر الكاتب أو المؤرخ نقله للحاضر ليُستفاد منه، خاصةً إذا كانت القصة طريفة، كقصتنا.

وما يهمنا هو يونادم كنا، وهو شخصية عراقية نائب عن المكون المسيحي، وبعد أن بدأ يخسر سياسيا وتاريخياً ومسيحياً، فكر بترشيح أحد أقربائه وهو السيد سركون لازار ضمن قائمة حزب الدعوة الإسلامي، وقطعاً إن هذا الترشيح ليس لأهداف وطنية نبيلة، أو حباً بحزب الدعوة أو العراق، وأكيد إن السادة في حزب الدعوة يعلمون ذلك، خاصةً أن يونادم ليس بشخص جديد على الساحة، فهو طالما أدعى زوراً أنه يمثل المسيحيين، وربما يعلم أو لا يعلم السادة في حزب الدعوة أن ليونادم نشيد وطني خاص بدولة آشور المفترضة في الحلم، وعَلَمهُ هو علم إنكليزي، وصيغة اسم آشور في دستور العراق هي عبرية، وليست عربية التي هي (أثور).

والمهم، وما يهم موضوعنا التاريخي، هو أن هذا الشخص يونادم، يجب تلقيبه (يونادم برقيقي) أي ابن قيقي، (بر، بالسرياني معناها، ابن)، أسوةً بالمفريان السرياني برقيقي (ابن قيقي)، لأن قصتهما متشابهتان تاريخياً، فمن هو ابن قيقي وما هي قصته؟. 

هو مرقس برقيقي البغدادي، من عشيرة آل قيقي، أصبح مفريان (جاثليق) السريان الأرثوذكس في تكريت سنة 991م، وكان عالماً وأديباً، وشاعراً فاق كل معاصريه، تميز ببراعة البيان، وبلاغة اللسان، فياض القريحة، شائق الألفاظ، رشيق المعنى، مُقدَّراً ومحترماً من جميع علماء المسلمين والمسيحيين النساطرة على حدٍ سواء، وكان يُستقبل بالهدايا من الجميع، لدرجة أن يوحنا الخامس +1012م جاثليق النساطرة انزعج من كُتَّاب ومثقفي النساطرة لاهتمامهم به وزيارتهم له حاملين الهدايا، فمنعهم من ذلك، ولمكانته الأدبية والعلمية كان مُكرَّماً لدى الخليفة المقتدر بالله (991- 1031م) وذو مكانة مرموقة عنده فاقت جاثليق النساطرة رغم امتلاك الأخير مرسوماً من الخليفة، وكان ابن قيقي دائماً يُستقبل من الخليفة بوقار وإكرام متى أراد.

بدأ الغرور يسيطر على ابن قيقي، ففكر، إذا كان  وهو مسيحي بهذه المكانة، فماذا لو اعتنق الإسلام وأصبح مسلماً؟، فالمؤكد أن مكانته سترتفع أكثر، وربما سيخلف الخليفة، ثم دخل الشيطان قلبه فبدأ يعاشر امرأة، واستولى على أموال الكنيسة، فانفضح أمره بين سريان تكريت، واغتاضوا جداً منه، وطردوا الزانية، لكنه لم يتركها، فطردوه من الكنيسة.

ولما كان برقيقي محترماً عند الخليفة وعلى موعد معه، وكان له أحد أقاربه يعمل كاتباً لدى الخليفة ويسانده، فنزل ابن قيقي سنة 1016م إلى بغداد ليشتكي لدى الخليفة على السريان التكارتة، فاجتمع  200 شخصاً من سريان تكريت وتبعوه إلى بغداد، وعندما وصل برقيقي إلى بغداد، فوجئ بقريبه الكاتب الذي اتكل عليه، أنه يُشيَّع (توفي)، ويقول البطريرك ميخائيل ليتم به قول إرميا النبي 17: 5 (ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبه)، ولما علم ابن قيقي بوصول التكارتة، خاب أمله، ودخل إلى الخليفة وأشهر إسلامه، انتقاماً من التكارتة ولغروره ورغباته الشيطانية، وكان الخليفة يعلم أنه اعتنق الإسلام عن مصلحة وغايات خاصة، (فما زاد برقيقي في الإسلام خردلةً، ولا التكارتة حزانى على برقيقي)، فقال الخليفة له: إن كان أحد من جماعتك قد ضايقك، فسننظر في الأمر، فخاف أن يقول الحقيقة، فقال إني اعتنقت الإسلام بعدما وجدت المسيحية ضلالة.

وأهمية القصة تبدأ من هنا:
 بعد أن أعلن ابن قيقي إسلامه، ذهب واختتن، وبعدما ما شُفي من الختان، ذهب لمقابلة الخليفة كالعادة، ظناً منه أنه سيقابله بأكثر احتراماً من السابق، لكنه تفاجئ أن الخليفة رفض مقابلته، فبقي واقفاً طويلاً ثم بدأ يبكي ويضرب على رأسه ويندب حظه، وعندما سأل عن السبب، قال الخليفة:

أيها الغبي، سابقاً وإن كُنتَ كافراً، لكنك نلتَ كرامة عندنا أكثر من الآن عندما أصبحتَ مسلماً، فإننا بإكرامنا لك سابقاً، كنا نُكرِّم الشعب برمته، والرئاسة الممنوحة لك عليهم من الله، أمَّا الآن وقد نَبذتَ رئاستك، وتركت شعبك وجئتنا، فأنت أمامي شأنك شأن أي مسلم من هؤلاء الكثيرين الماثلين أمامي، فانظر إليهم، وقل لي، أنت أفضل ممن فيهم، لكي أُميَّزك بالتكريم عنهم.

 ثم أمر الخليفة بطرده وأن لا يرى وجهه ثانية، فارتفع رأس التكارتة وأخذوا رسالة من الخليفة إلى البطريرك الأنطاكي السرياني يوحنا، لرسم آخر محله، فرسم لهم أثناسيوس، أمَّا برقيقي فخاب وخجل، وذهب وتزوج بعدة نساء، وأصبحت كنيته، أبو مسلم، وبدأ يُعادي أبناء ملته.
 
ولم يطل الوقت بابن قيقي حتى انكشف أمره لدى جميع المسلمين أيضاً، وأنه عن مصلحة، ففي أحد الأيام ذهب ابن قيقي إلى دار الوزير أبي الحسن بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان، وكان الجاثليق النسطوري يوحنا نازوك +1020م أيضاً موجوداً، وبما أن ابن قيقي مسلم، وجبَ عليه أن يدعوا إلى النُصح ويُبشر المسيحيين بالإسلام، فبدأ يدعو الجاثليق يوحنا للإسلام، لكن علماء المسلمين الجالسين بمن فيهم صاحب الدار أنكروا فعلته القبيحة، وكرَّموا ضيفهم الجاثليق باحترام، وأوصلوه إلى الباب.

وأصبح برقيقي محتقراً بين المسيحيين والمسلمين والمثقفين الذين اعتادوا التردد إليه، ولم يعودوا يحيَّوهُ ويردوا السلام عليه، وبعدة مدة نّدمَ ابن قيقي ندامة شديدة وتاب، راثياً نفسهُ، وأنه هوى كما هوى الشيطان من السماء..إلخ، وألَّف قصيدتان في التوبة باللغة السريانية، الأولى طويلة على البحر الاثني عشر السروجي، والثانية على البحر السباعي الأفرامي، وقد سطَّرَ فيها أروع الكلمات والتعابير الرنانة والشجية بكل ما جادت يه قريحته الأدبية، ومشاعره الجياشة، وتعتبر القصيدتان من عيون وروعة الأدب والشعر السرياني، ويقول البطريرك السريان أفرام الأول برصوم، يكاد أسلوبه يُحرِّك حتى الجماد.

بعدها أصبح برقيقي يتسوَّل، وأخذ يزور المسيحيين سراً ويعلم أولادهم الشعر، فيعطفون عليه، ويُقال أنه طلب من المؤمنين أن يُدفن داخل الكنيسة بعد موته، وعند مدخل باب الكنيسة، فرفض المؤمنون، فكان يأتي أيام الآحاد والأعياد، ويتمدد عند باب الكنيسة، واضعاً رأسه على عتبة الباب، طالباً من الناس أن يدوسوا على رأسه في الدخول والخروج. (تاريخ ميخائيل السرياني الكبير، ج3 ص101، وجان فييه الدومنيكي، أحوال النصارى في خلافة بني عباس ص267-268، ابن العبري تاريخ المفارنة،ص66، وغيرهم).

لقد عَلِمَ الخليفة والمسلمون غايات مرقس برقيقي، ويعلم السادة في حزب الدعوة غايات يونادم برقيقي.

لقد تاب مرقس برقيقي، فهل يتوب يونادم برقيقي؟

نظراً لأن القصيدة الأولى طويلة جداً، سأكتفي بذكر القصيدة الثانية، علماً أن الأولى جميلة جداً وبليغة وكلماتها رنانة وقوية جداً، ولذلك سأكتفي بمطلعها وصفحة واحدة، علماً إني احترتُ أية صفحة أذكر، فكل صفحة أجمل من غيرها.


مطلع وجانب من القصيدة الأولى

القصيدة الثانية كاملة

وشكراً/ موفق نيسكو