المحرر موضوع: مفهوم الفضاء في الخطاب النقدي  (زيارة 843 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل برهان الخطيب

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 40
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
مفهوم الفضاء في الخطاب النقدي
04/10/2018
آراء وأفكار
مروج حسين عبدالله*
* كاتبة من العراق.

للفضاء دور مهم في تشكيل العمل الروائي ، فهو بنية اساسية من بنياته الفنية، لكن على الرغم من أهميته إلا أنه لم يظهر كمصطلح واضح في حقول الدراسات الأدبية إلا حديثا، ولعل ذلك يعود الى انصراف النقاد والباحثين الى الاهتمام والتركيز على المكونات السردية الأخرى مثل الزمن، والشخصيات، والأحداث،...الخ.  وقد تنبه د. حسن نجمي في كتابه "شعرية الفضاء" إلى هامشية هذا المكون في الخطابات النقدية المعاصرة، على الرغم من بعض الإشارات الخفيفة والعابرة إليه حيث يقول "لقد ظل الفضاء مكونا هامشيا في الخطابات النقدية المعاصرة وذلك للطبيعة غير المضمرة للفضاء". وكما أن للزمان والمكان والأحداث حظوة في العمل الروائي، فكذلك للفضاء حظوة فيه، إذ يعد مكونا أساسيا من مكونات الرواية الجديدة إلى جانب المكونات الأخرى. وهذ استنادا لقول د. حسن بحراوي معتبرا الفضاء "مكونا أساسيا في الآلة الحكائية" فالفضاء يمثل ذلك العالم الفسيح الذي تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال، وبقدر مايتفاعل الإنسان مع الزمن يتفاعل مع الفضاء، بل يمكن القول: إن تاريخ الإنسان هو تاريخ تفاعله مع الفضاء أساسا. لذا فهو البنية التي تعبر عن الوجود الإنساني واهتمام الإنسان به نابع من حاجته إلى إدراك العلاقات الحيوية في بيئته، كما يشكل الفضاء الروائي الحيز الزماني الذي تظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعا لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب أو الروائي.
الفضاء ضروري للسرد الذي يحتاج لكي ينمو كعالم مغلق ومكثف بذاته إلى عناصر زمانية ومكانية، فكل قصة تقتضي نقطة انطلاق في الزمن ونقطة اندماج في المكان. وكما يرتبط الفضاء الروائي بزمن القصة، فإنه يقيم صلات وثيقة مع باقي المكونات في النص، وتأتي في مقدمتها علاقته بالحدث الروائي والشخصيات التخييلية. وعليه فإن بناء الفضاء الروائي يبدو مرتبطا بخطية الأحداث السردية ، بل يمكن القول إن الفضاء الروائي هو مجموع الأمكنة والأزمنة في الرواية، هو الزمكان بكلمة أخرى، هو المدى الذي تتحرك نحوه الرواية عبر حركة الشخصيات والأحداث.
يتم تقديم الفضاء الروائي مع الحدث دفعة واحدة، كأنهما ينقذفان انقذافا في وجه المشاهد، من دون أن تكون به حاجة إلى خطاب خاص مواز لتوالي الأحداث، يقدم له معلومات عن المكان الذي تجري فيه متوالية اللقطات، أو عن الأشياء التي تحيط بالبطل، أو عن الخلفية التي تنحل فوقها العقدة.
ويمكن أن نشير هنا إلى الاشكالات التي يطرحها مفهوم الفضاء، ومدى تعالقه الشديد مع مصطلح المكان الذي ظل على الدوام لصيقا به .
يشيع مصطلح الفضاء عند النقاد الغربيين كثيرا، إذ يعنونون به كتبهم ومقالاتهم، أما العرب فلا يصطنعون مصطلح الفضاء في كتاباتهم النقدية بخاصة، وإنما يحتل مصطلح المكان عندهم مقاما أكبر. إن أهمية المكان لا تخفى على أحد، لما يقوم به من دور رئيس في حياة الإنسان، فمنه ينطلق وإليه يعود، أو ليست حياتنا ككل رحلة مكانية تبدأ برحم الأم وتنتهي بالقبر. نقرأ ذلك عند نجيب محفوظ في صيغة "جئنا من ظلام نعود إلى الظلام". وعلى سبيل المثال فالكاتب العراقي برهان الخطيب ينقل تلك الرحلة الوجودية شبه المحدودة للإنسان عبر الحياة في روايته "الجسور الزجاجية" إلى صعيد الرمز الواقعي، من ظلام إلى ظلام نعم، لكن من سجن حيث تبدأ الرواية إلى سجن آخر، حيث ينتهي أيضا بطل تلك الرواية. نرى في بدايتها "ولادة روحية" له ثم بعد رحلة ألم قصيرة بين المدن والتحديات والذوات يعود إلى ظلام مرغما محبطا، مع حصيلة تجربة حياتية تلخص مسيرة وجود، يكسبها المرء عادة بعد ممارسات عديدة خلال عمر طويل. كما يعيد الخطيب تلك الدورة الحياتية من ظلام إلى ظلام، لكن في صيغة أخرى من عراك إلى عراك. وتبدأ روايته "ليلة بغدادية" وتنتهي بمطاردة سياسية تبدو أنها لا تنتهي، ملخصا بذلك نمط العيش في منطقتنا نتيجة تغليب الانفعالات على العقل، السهو على اليقظة، المحدودية على الانفتاح.
إن الاهتمام الكبير بالمكان يعود لحضوره الكثيف في كل مناحي حياتنا "ولعله ما من قرين للترجمة البشرية مثله، فهو عمادها ومصطلحها وهو مغذيها وهو منطلقها ومصبها وترجمتها أيضا". إن المكان يؤثر حتى على تركيب الأشخاص، ابن البادية غير ابن المدينة، بل أبناء المدن يختلفون بعضهم عن بعض اختلاف المدن بعضها عن بعض، تغير المكان يؤثر مباشرة بعد حين حتى على أفكار الشخصيات  ذاتها ومصائرها، لنأخذ مثلا شخصية إحسان في رواية برهان الخطيب "أخبار آخر العشاق" كيف يتغير بعد انتقاله من العراق إلى المهجر، بل ويمسح المهجر الفروق بين أبناء البلد الواحد، وحسب تعبير إحسان تتساوى القرعة وأم شَعْر: "لكن بصراحة.. وبعيد عنك حياتي شباب.. تبهدلنا في الغربة، القَرعة وأم شعر منا فيها سواء، لا يتركوننا نعمر بلدنا يحركون غرور زعماء، أطماع أتباع، يثيرون الحروب نتشرد، نقع في شباك".  ص 222 .
كذلك نرى تحولا كبيرا يصيب عائلة يوسف بعد انتقالها إلى المهجر من العراق في روايته "أخبار آخر الهجرات".
تنبغي الاشارة في هذا الصدد إلى الجهد الذي بذله الناقد المغربي حميد الحمداني في التمييز والتدقيق بخصوص الفواصل القائمة بين كل من مفهوم "الفضاء" ومفهوم "المكان" . إذ يذكر في كتابه"  بنية الشكل الروائي بأن " ضوابط المكان في الروايات متصلة عادة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطعة تتناوب في الظهور مع السرد أو مقاطع الحوار، ثم إن تغيير الأحداث وتطورها يفترض تعددية الأمكنة واتساعها أو تقلصها ، حسب طبيعة موضوع الرواية، فالرواية مهما قلّص الكاتب مكانها تفتح الطريق دائما لخلق أمكنة أخرى، وإن مجموع هذه الأمكنة هو مايبدو منطقيا أن نطلق عليه اسم : فضاء الرواية، لأن الفضاء أشمل وأوسع من معنى المكان. والمكان بهذا المعنى هو مكون الفضاء.
وما دامت الأمكنة في الروايات غالبا ماتكون متعددة، ومتفاوتة، فإن فضاء الرواية هو الذي يلفها جميعا . إنه العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث الروائية، فالمقهى أو المنزل، أو الشارع، أو الساحة كل واحد منها يعتبر مكانا محددا: إن الفضاء وفق هذا التحديد شمولي. إنه يشير إلى المسرح الروائي بكامله. والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء الروائي.غير أن المكان شديد الأهمية كمكون للفضاء الروائي، لأن " الأمكنة بالإضافة إلى إختلافها من حيث طابعها ونوعية الأشياء التي توجد فيها تخضع في تشكلاتها أيضا إلى مقياس آخر مرتبط بالإتساع والضيق أو الإنفتاح والإنغلاق، فالمنزل ليس هو الميدان، والزنزانة ليست هي الغرفة، لأن الزنزانة ليست مفتوحة دائما على العالم الخارجي بخلاف الغرفة، فهي دائما مفتوحة على المنزل، والمنزل على الشارع، وكل هذه الأشياء تقدم مادة أساسية للروائي لصياغة عالمه الحكائي، حتى أن هندسة المكان تساهم أحيانا في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم".
( الصورة المنشورة للروائي برهان الخطيب).