ردة ثقافية.. الرواية العربية رهينة السياسة
برهان الخطيبلاحظ كثيرون ثمة اهتمام بالرواية العربية في الإعلام، لا لاستيعابها متغيرات النفس العربية وهي في شقين، صحوة على واقع عربي مرير ورغبة لتجاوزه إلى واقع أرقى، يتناغم والتغير الكبير في الوضع الإقليمي والعالمي.
والثاني غفوة بترانيم إعلام يعزفه الخارج، كلاهما متواشج بعالم السياسات العربية المشقوقة أيضا في هذين الاتجاهين، حالمة وتستطيع أو لا تستطيع بث الحيوية في نفسها، لأنها جريئة هنا، مغلولة يد هناك، بينما لا يجد كائن الوسط ما يفكر فيه ويكتب عنه، فعلى صعيد فردي يومي، وآخر عام تاريخي، يمر كل العرب والمنطقة حولهم، في أخطر مرحلة من كل تأريخهم، مرحلة يكونون أو لا يكونون، وهم قادرون على الكينونة برؤية عامة وجرأة، وكلاهما متوفر لطليعة مثقفيهم، إلاّ تلاحم المعارضة والسلطة.
كما في العراق المشقوق اليوم افتعالا من غافلين وطامعين في حرب أخوة بين رافضي المصالحة ومضطرين للدفاع عن النفس والبلد، ليأتي بعد التلاحم تنظيم الديناميكية في الاتجاه الخلاق للطرفين، للمنطقة عامة. إنه شق إذا لم يرتق مزق الأمة كليا، فمن شكوى الانتخابات البرلمانية إلى شكوى انتخابات الأدباء، إلى شكوى الثقافة من التيبس والضياع.
لقد رأينا الرواية اتجهت من الإبداع والإحاطة بالهم الاجتماعي إلى الاكتفاء بالإمتاع، والدوران حول الذات، لغلبة الديناميكية الخارجية المتناقصة بالأخطاء على الداخلية المتزايدة بالإدراك. كما إن ذلك الاهتمام بالرواية ليس إشارة كما هو واضح لحالة نضج واستقرار ما نعمت فيها الرواية والمنطقة، فهذه ما زالت مضطربة اقتصاديا وفكريا وسياسيا بسبب صراعات داخلية وعدم تشغيل الثروات لصالح الجميع، ما ينعكس سلبا على الوضع الثقافي ومنه حال الرواية.
مع اعتبار إن الاستقرار يرافقه عادة نزوع إلى ثقة، إلى حكي واستماع واستمتاع، أي ما تقوم عليه الرواية في أفضل نماذجها، بمؤلف نيابة عن آخرين. ولا انعطف ذلك الاهتمام نحوها لمستويات فنية عالية ما وصلت إليها إلاّ فرادى نُدرى، فالمحايدون الدارسون لها حصلوا على القليل منها استحق البحث والإعجاب، رغم فورة الجوائز، رغم تطور السرد العربي عموما إلى الأفضل أشرت سابقا.
فالسرد جزء من آليات الرواية، لا كلها، وذلك دلالة من مرحلة متقدمة لها على سابقة، لارتقاء التفكير فالتعبير، لكن دون تكامل لاحظت مع باقي متطلبات الرواية الناجحة فنيا، مع تعدد الأشكال، إذ تعوزها رؤية شاملة لرواية وطنية بنيتها الجمالية قائمة على هدف استقرار المنطقة وازدهارها.
السرد تكنيك، الشكل استراتيجيا، وهما مترابطان طبعا، ولذلك التقصير علاقة بالحالة السياسية الراهنة العامة للمنطقة، أم الصياغات، حالة تقترب إلى واقعية الهدف عند الخاصة دون تحديد صيغة سياسية تصب فيها طموحات العامة أشرت، إلاّ القدر اليسير، كما في تعاون بعض أطراف منطقتنا مع بيئتها، جيرانها، في نجاح عبر عنه فنيا وأدبيا وسياسيا نجاح المسلسلات التركية والسورية والتعاون الاستراتيجي بينهما. لبس قصدي هنا تسييس الأدب والفن، لأنهما مسيّسان، خفية أو علنا، شئتُ أم أبيت، بالضرورة والقسر، حتى الصمت مُسيّس، حتى القمل، وإلاّ لماذا تجده في بلدان تركبها السياسة، ولا تجده في بلدان تركب السياسة للوصول إلى أهدافها!
إذن سبب الاهتمام ذاك آخر، قد نجده في عدد الجوائز المرتفع منذ وقت قريب، مخصصة لهذا الأدب الصعب، الخطير أيضا، على ساحة صراع أو تفاعل ثقافي عالمي، لحرص على تقديم الكل بحُلة قشيبة، في مسيرة مطلوبة مُصيبة، لا معيبة، ضد تفتيته حكايات غريبة، كأنما في مكيدة مريبة، جوائز يبدو بعضها ذا مصادر ومصائر مثار سؤال، ينال منها ناشر كسلان، وكذا مؤلف جوعان، قد يفسر ذلك أيضا بعض الاهتمام الجديد بكتابتها ونشرها بين آن وآن، مع ردود فعل لا كالمنتظر على صعيد الإبداع والنشر والإعلان، آخرها حملة على "البوكر" من نقاد وأدباء ضعاف وسمان.
بل هجمة على مصداقية تلك الجائزة جعلتها في خبر كان، عويس نجت من حملات التشهير حتى الآن، هي باعتراف كثيرين محترمة، منصفة، قياسا بأسمائها الكبيرة ذات الوقع الرنان، اتهمت نعم بكونها شيوعية، بكلام نقضان، وربما نالت حملات التشهير غيرهما في منافسة تقرب الهذيان، وعلى وقع استقطاب الأسماء الأدبية لهذا الشان، أو غيره مما في حياة ثقافية مرتبطة وثيقا بحياة سياسية، ارتباط ملائكة قيل ببعض الجان، والعياذ بالرئيس من السجان، في معركة ظاهرة حينا، خافية بعض أحيان، قد يمسكها مَن بيده المنطقة ومَن يقيم البنيان.
والقارئ لا يعلم ما دور النقد في ذلك وهو حيران، يتفرج على أفلام تحاك وراء كواليس وأفنان، يأمل إن النقد مازال يحمل مشعل إنارة يبدد ظلمات المكان، في حلم كالقارئ لفهم المحيط والأكوان. ولكي لا يكون المقال ثرثرة أو طرح أشجان، أعترف في هذا السياق بأن اختياري لكتاب أقدمه لقارئ يعتمد في بعضه على المصادفة، على ما يصل من ناشر ومعارف، لكن المهم يبقى قيمة الكتاب الفنية وعقد صلة بين طرحه والمواضيع العامة خارجه، حسب قدرة غير متفرغ للنقد، بغية تفعيل الحياة العامة بالثقافة وبالعكس.
رواية "غرفة العناية المركزة" لكاتبها عز الدين شكري رشحت لجائزة، وضعها الناشر في يدي متأكدا سوف يكون لها شأن، لم يكن، الخيبة لا تصيب الناقد وحده. أحمد كمال الراوية الأول لها كشف خطة قتل لمتزمتين تستهدف الصحافي أشرف فهمي، الراوية الثاني للرواية، يتكلمان عنه وحوله داخل أطار، حتى ليغدو ذلك حشوا عميقا أحيانا مغترفا من قاع نفس متعبة من ذاتها.
الرواية نُشرت مع روايات عديدة أخرى منذ عامين ونيف لجهات مانحة جوائز أكثر مما لقراء. غرفة الإنعاش هي الرواية نفسها بين يدينا، حيث يستحضر مؤلفها شخصياته المختلفة في الظاهر على المسرح الروائي وفي عمقه تكمل الواحدة منها الأخرى، بمعنى هي وجوه شخص واحد قد يكون المؤلف نفسه، لتشابه سيرة المؤلف وبطله، معبرة عن حواره الداخلي، ولتشابه سيرة المؤلف وبطليه الأساسيين، أحمد "أو المحمود من رؤسائه يدل الاسم" العامل في المخابرات حين يرلقب أشرف فهمي "الشريف كما يدل الأسم" وهو نبيل بتطلعاته، نقيض أو الوجه الآخر للمرتبط بالشريرة "سارة" أحمد، بل وجهان ربما أرادهما المؤلف للإنسان المصري المعاصر وربما الإنسان عموما.
حلاوة الرواية المصرية هنا تتذوقها بكشفها عن تفاصيل الواقع والعلاقات بأسلوب رشيق وهي بهذا تتفوق على بعض زميلاتها الروايات العربية الأخرى.
تبدأ الرواية بحدث ديناميكي، إنفجار بوجه القنصل يضعه تحت الأنقاض، يتبع ذلك تداعي خواطره وذكرياته لمعرفة ماذا حدث بالضبط، ذلك يشكل هيكلا روائيا شائعا تقريبا يمزج فيه المؤلف الحاضر والماضي بتوليفة تعرض مشهدا واسعا لشخصياته وخلفياتها المتنوعة، المفهرسة فنيا وفكريا بوضوح يخدم عرضها، الواحدة مقابل الأخرى سارة تجسد الممنوع والمستحيل والمجنون لدرجة مخجلة ولكنها لم تكن بذيئة، وأشرف مناهض للجماعات الإسلامية والبعض يرشحه لوزارة الإعلام. لاحظ قوة جمع الخاص بالعام بالكلمات القليلة الأخيرة تقديما لصورة داخلية للشخصية وخارجية للنظام حوله وعلاقة الإثنين بعضهما ببعض.
التناظر والتنافر يخدم الرواية
من سيرة المؤلف نرى إنه مؤهل لكتابة رواية وما تحتاجه من سعة اطلاع، هو مصري من مواليد الكويت 1966 حصلا على البكالوريوس .. إلخ من الناحية الفنية وفق المؤلف في اختيار بطله الأول، سارد الحدث، من وسط مخابراتي حيث تصبح الرواية أحيانا أشبه بكتابة تقرير عن آخرين، يمثلون حالة اجتماعية مثلما يمثلون أنفسهم. الروائي شغيل مباحث إبداعية، يهمه عرض الحقيقة لا التورط عاطفيا مع أشخاصه، مع واقعه. وطبيعة السرد هنا تنم عن التواصل مع الموضوع بعقلية غير نمطية، بمعنى متفتحة، أي ما يطلبه السرد الروائي كمفتاح قادر على فتح وسبر الواقع بإنصاف.
الفتاتان في الرواية أيضا نقيضتين بعضهما لبعض، هكذا يقيم المؤلف حالة تقابل، لموازنة عمله، سارة متحررة تماما، الشناوي محجبة، نزيهة، مستقيمة، قلبا وقالبا، بالمهنة وخارجها، محامية تدافع عن الآخرين، وتلك صحافية تعتاش على الفضائح.
"بطل" القصة أحمد، السارد لها، "ضابط مخابرات حقيقي، وليس ضابط من ورق، لكن لم تواته الشجاعة أو القسوة اللازمة للإنقضاض" ص 43 إذن هو إنسان من لحم ودم، ليس مجرد جيمس بوند ومن هنا واقعية وحيوية هذه القصة.
وبعد القلق الأول من الرواية يبدأ السرد لا يتقدم إلى أمام، نحو الكشف عن غرضه المتصارع في داخله، بل يدور حول نفسه مماطلا في السعي نحو نهاية، لتطويل العمل؟ ربما. ثم أن التفاصيل إذا لم تكن لها صلة بالسياق العام، التفجير هنا، يصبح استطرادا فائضا يمكن حذفه. في ذلك خاصية مهمة، لنوع الروايات المتوترة المشوقة. هل يخل حذف تفصيل بالسياق دون أن ينتبه القارئ؟ إذا كان ممكنا حذفه يجب حذفه، غالبا ما تسير الرواية هنا على خط متصاعد ليس بالضرورة مستقيما لكن يجب البقاء على ما سبق ليكون المعمار متوازنا ممكنا.
هناك نوعان رئيسان في فن الرواية في نظري. طبعا في البناء المعماري الهندسي لا حدود لأنواعه، مع بقائه مشترطا بالموقع والمناخ والغاية منه إلخ.. أي توجد شروط تفرض نفسها على البناء في أي مجال، كما في الرواية، إنما حين ألخصها باثنين أقصد: المتماسك والمفتوح، مع تداخلهما، أي التماسك يحتاج التلقائية والشاعرية، والمفتوح يحتاج الرابط الداخلي. توجد سمة تفهرس البناء المعماري، كما لبناء مفتوح أو مغلق، في منطقة حارة أو باردة، وهكذا.
للبناء المفتوح والمتماسك علاقة بكيفية نظرتك إلى المجتمع والعالم والفرد. المفتوح أراه قائما على فكرة لا جدوى من التدخل القسري في صيرورة هذا العالم. عكس الآخر. المفتوح يعوّل على التدخل الجمالي، المرتبط بالفكري. الآخر على مستوى أعلى، على الفكري محتضنا الجمالي. هل الموضوع على هذا التعقيد؟ نعم.
تفكير المؤلف بتحويل روايته إلى فيلم سينمائي طاغ، ينعكس ذلك في أن أغلب شخوصه يرون أنفسهم كممثلين في فيلم خاص لهم، ذلك يضعف واقعيته، قد يقال العكس، للسينما في مصر نفس القدر من الأهمية كما في أمريكا، وهذا ينعكس في حياة أبنائهم أيضا، لا فقط في سياسات عامة. داليا الشناوي ص 134 من الرواية "لماذا أنظر لحياتي كأنها لقطات من فيلم؟"
أحمد كمال منذ الصفحة الثانية ص8 "ظلام وصمت وهذا الصداع، إنه فيلم لجيمس بوند، لماذا أتذكر ذلك الآن؟ " وفي ص 14 "الناس تعتقد إننا بلا أخطاء، وأن كل شئ معمول حسابه، ويبدو إن هذا تأثير الأفلام والمسلسلات" وأيضا يقول أشرف فهمي عن نفسه: ونشأت غالب "أتذكر أني وقتها انتابني هذا الشعور أني أمثل دورا في فيلم ص 178، جالس وسط الخرائب كأنه يشاهد فيلما ص 167 صرت رجلا وصرت أفعل ما يفعله الرجال في الأفلام.. إلخ ص 69 ، كذلك ص 150 ليس أمامنا إلاّ أن نمثل أدوارنا في فيلم الحب المستحيل.
الرواية متابعة تفاصيل حتى الكشف عن حدث كامل أو ناقص لأسباب لا يمكن الخوض لاحقا فيها، والتفاصيل هذه يمكن أن تكون أي شئ إذا كانت ضمن السياق العام، إذا كانت أجزاء حقا من صورة عامة، لا أجزاء مستقلة في ذاتها. حتى القصص القصيرة نعلم في مجموعة واحدة يربطها خيط، وإلاّ تفتت السرد إلى لحظات ملصقة في إفتعال، أي بلا فن، وهذا نلمسه على العديد من صفحات هذه الرواية.
خذ مثلا كلام رسالة داليا ص 137 إنها خطاب محشور في السياق لإكثار عدد الصفحات تكوينا لرواية لا للرواية، خذ ما تقوله هنا من فلسفة: الغرب اللاديني "هكذا الحكم بجرة قلم من المؤلف" مقررا إن هذا أساس رؤية الإنسان لنفسه وللحياة، كأن النفس منفصلة عن الحياة.. إلخ ص 138 أرى غير منصف أن تحدد رواية ما الصواب وما الخطأ، إنما هي تنطلق من ذوق عال حتما.
السرد غير عشوائي
السياق ينبع من موضوع الرواية، عماذا نسرد ولماذا، يجب أن يكون هذا منطقيا وإلاّ أصبح السرد ثرثرة، وحين نسرد ينبغي التأثير في القارئ كأنه السامع، السرد خطاب للآخر قبل كل شيء لا نجوى مع النفس، بما دار وكيف تطور، لا نقله فقط، هكذا ينتقل ويرتقي الفن الروائي على الصحافي.
على لسان الشناوي يذكر المؤلف ص 143 "الوضع الآن قد أصبح كذا، وإن الموقف قد تطور إلى كذا، وإن الأغلبية قد خلصت إلى كذا، وهكذا، وهكذا، حتى دارت بي الغرفة وسقطت على مقعدي " يجب أن يرى القارئ الموقف بالكلمات، لا يسمع عنه فقط، بالرؤية تحدث المشاركة والمتعة الجمالية، إذا كان السرد منطقيا.
كتاب الروايات الجديدة متعجلون. لا طاقة ولا وقت عندهم ليس فقط لإعادة تركيب الموقف فنيا، بل ولنقل الموقف مكتفين بسرد ذلك ما حدث. كأن المؤلف يقول للقارئ لك أن تصدق أو لا تصدق لا يهمني. نعرف إن الفن هو الإقناع، نقرأ هنا صفحات وصفحات كيف إنه أو إنها فتحت عينيها شيئا فشيئا شعرت بوهن واجف عليها، لم تعد تشعر بذراعها اليمنى محشورة تحت كتلة الإسمنت.. إلخ ص 143 صح إن التصوير الروائي يصبح أحيانا كمن يمسك الكاميرا ويحركها على الحدث بتفاصيله وتعقيده الخفي.
لكن تحت تأثيرات مسلسلات تلفزيونية غثة أصبح كتاب جدد يكتفون بتحريكها على الوجه لرؤية كيف يتحرك الحاجب أو الجفن، كأن ذلك كل الفن. لقد وضع المؤلف هنا إطار التفجير لحشر مقالات في شتى المواضيع، ولو حذف الكثير منه أصبحت هذه الرواية الطويلة قصة قصيرة من ثلاث أو أربع صفحات.
يفرض السرد نفسه بمنطقيته، بتسلسله، على تتبع القارئ، وإلاّ هو غير ملزم على إرغام نفسه لمواصلة القراءة، ذلك في رأيي مختصر فن السرد، أكان روائيا بالصورة أو غيره بنقل خبر. جاهل مَن يقرأ لخاطر عيني مؤلف.
لو أن تداعيات السرد نبعت من حادثة التفجير لكانت منطقية ومشت الرواية حسنا لكنها تداعيات شرقت وغربت، كأن الذي تحت الأنقاض جالس على شرفة أمام بحر، يشرب القهوة ويتذكر ما عن وطن له.
الفن خدعة جميلة نعم، لا تكتشف، حين تكتشفها يسقط الفن، وفيه يكون الشكل الروائي للنثر لا للحشر.
بعض المسائل يبدو صغيرا إذا مررت بسطحه، الزواج المختلط مثلا، لكنه بحجم صدام أو تفاعل حضاري بين ثقافتين، يمكن إعطاء صورة عنها بسيطة بقصة قصيرة، لكن معالجتها، إحاطتها، تحتاج الشكل الروائي، ذلك ما يجعل من نص رواية وآخر قصة قصيرة. حين تضغط المواضيع أو ترميها جزافا على عربة الرواية تتكسر عجلاتها، فنها، تتناثر في الطريق قبل الوصول إلى الغاية، كذلك هو حب نشأت المسيحي وداليا المحجبة هنا.
كان الأفضل لو أن الرواية بدأت منهما وانتهت عندهما أو قريبا، لعرض الحكاية من كل جوانبها، لا المرور بها "لإغناء الرواية" والنتيجة إفقارها، تسطيحها. أكلنا شاورمة لا تهم أحدا، ذلك أسلوب انتهى، استعملته ألف ليلة والسينما المصرية للإمساك بالمتلقي، المهم أكثر ماذا جابهت في تمشيك وكيف تجاوزته. ذلك يفتح أفقا، لذلك نريده.
الكاتب يمزج السياسة بكل شئ ولا يوجد عنده شخص محوري واحد في الرواية، فاستبشرت خيرا وما زلت واثقا إن عز الدين شكري يستطيع أن يقدم عملا ناجحا، لديه رؤية من عدة زوايا نحو الواقع ص 215 جيدة، يعرض حال نشأت من جانبين، وتصوره كيف يكون "هنا" كتجربة لكتابة من خارج الرواية كما من داخلها، ذلك يفسر أيضا ترفع آخر الشخصيات نشأت عن الوضع كله، لا صلة له به ، تنتهي الرواية كما بدأت، هم تحت الأنقاض ولا من ينقذهم، معنى الرمز هنا واضح، الوضع خطير، كما يؤكد السطر الأخير حياة الحلمية القديمة التي انقضت دون رجعة. لكن عدم إعطاء أمل يفند كتابة رواية، أي لماذا نكتب مع انعدام الأمل، ربما يقال عرض اليأس المطلق بداية أمل جديد مهمة كشفه على القارئ.
الرواية توتر
ذكرت إن السرد العربي وأساليبه تطور عاليا في الأعوام أخيرة، تأسيسا على ما سبقه في العملية الأدبية وعلى ما استجد في الحياة، دخل مرحلة النضج الفني ومنافسة السرد الأوربي، خذ قصة "عرق الآلهة" لكاتب من اليمن، وقصة "إذا أردت أن تكون سياسيا" من العراق، ورواية "سوبر ماريو" من مصر، وغيرها، إنها تؤشر لتطور التفكير العربي.
لكن كما ذكرت: بالأسلوب وحده لا يعيش النص، وإن عناصر اكتمال ونجاح العمل فنيا ، وهو أهم العناصر، بفقره يتمزق جلد الكائن الفني، تتعداه إلى التكوين الكلي للموضوع، كالانخراط في السياسة.. لا يعني كمال الرؤية السياسية. النجاح في السياسة والفن يحتاج رؤية شاملة، لحال ومستقبل مجتمع وموقعه في الحضارة، كذا لموضوع الرواية الخاص وعلاقته بالموضوع الكبير، الكيان الإقليمي والدولي، إلى الأداء الراقي لبقية المستلزمات، الحيوية، المبرر العالي للفعل، ضرورته، حصافته، وغير ذلك.
الكاتب يبعث برسائله عبر الرواية مع أشخاصه، خلقها أو أعاد تشكيلها، يؤطر بها حياة، وغالبا يحّمل الكاتب هذه الشخصيات همومه، لكنه أبدا لا يمكن أن يكون مجرد مصور لما يراه. والرواية الحقيقية تكتب عن توتر، نتيجة اصطدام حقائق، به تختصر الدنيا وتكون جديرة بعَرض وقراءة من عقل متفتح. كُتبت بقصد ربح أو وجاهة تأتي محملة بنفاق صعاليك.
أرض الليمبوس لإلياس فركوح، والليمبوس، الكلمة تعني موطن إهمال أو نسيان، أخذت عنوانا ومفهوما أكثر من مرة بأعمال سينمائية خاصة، بهذا العنوان صنع إيطالي فيلما، ثم المخرج السوداني حسن السوداني منتصف السبعينات الماضية، فالإتيان بجديد منه إلى رواية مشكوك فيه، الراوي هنا أيضا صحافي، والرواية حازت ربما جائزة، وأيضا فيها أصداء عن حرب، العراق خاصة، كأن الروايات الفائزة بالبوكر استقت موضوعة تداعيات حرب من مصدر واحد، وزعه على عدة صحافيين وقال لهم أكتبوا هكذا فولدت تلك الروايات كأنما من رحم واحد.
في ليمبوس فركوح ذكريات وانطباعات ذاتية، رابطها ضعيف في سياق روائي طامح لرؤية واسعة إلى حروب المنطقة، الذاتية تكاد تغلق مدار الرواية، وتمنع وصول خطاب كاتبها إلى قارئه، بلغة مسهبة لو حذف منها الزائد فيها ما بقي تقريبا شئ منها، هنا إختيار عشوائي منها، الأقواس مني: أبدأ بماذا؟ "لا موجب لها، أدخل موضوعك مباشرة" رأيتني أدخل أرض الرخاوة "أرض لا ضرورة لها يتبين" منطقة الما بين "تكرار" كما يحلو له وصفها "تكرار" أو هي الأرض الحرام "تكرار" ورأيتني أخرج من بقعة التشكك إلى فراغ "تكرار" هكذا تستمر على نبرة الأغنية المعروفة " آكل.. أعيش، آكل.. أعيش، آ، آ، آ، إلخ".
يعني لو تابعت تفكيك السرد لا أحصل منه حتى على كشمشة من كل تلك الكيكة الباذخة، وهذا من رواية فائزة ببوكر فكيف مع غيرها!
على النقيض من الأسلوب المستأدب، يصف توفيق الناشئ في كتابه "الأرضوملي.. حارة في بغداد" بأسلوب جد واقعي مستلهم من منشورات الحزب الشيوعي، مشاهد من بغداد الخمسينات بطريقة صحافية تجعل قارئ الرواية "لا قارئ المذكرات" غير مبال نحوها، هو لم يضع على غلاف كتابه كلمة رواية، لكنه في مقدمته يقول: تناولت في هذه الرواية مرحلة معينة من تأريخ العراق المعاصر.
كأن التأريخ ما صار إلاّ ليكتب رواية، وليس هو في ذاته رواية تكتب في خفاء. وهكذا دوّن عدد ممن حصلوا على دعم نشر اجتهاداتهم باعتبارها روايات وبحوثا، وربما كتبوا للحصول على الدعم، وفق نظرية: أغمض عينيك واستعد ما حدث تلك الأيام وأضف بهارات، أطلق العنان والصبوات، تجد أمامك رواية، ولا عليك من الكبوات، قارئنا يهضم حتى الحديد، لكن تجربة الأستاذ الناشئ ينبغي احترامها فما سطره عنها بأسلوبه التقريري قصد منه حفظ تلك الأيام من الضياع، لكن المراوحة بين الرواية والمذكرات جعلت العمل لا يندرج في نوع معين، ذلك ضيع عليه فرصة اكتساب هوية ومرجعية، وغير ذك مما يميز كائنا إبداعيا عن غيره، أسوة بالبشر.
المشهد المعتاد بالمبدع يصبح خارقا ومعبرا عن المألوف في آن، والحوادث العادية تبدو بإضافة صغيرة أو بحذف صغير آسرة، ذلك بالفن، أو تفتقد المذاق الخاص حين تُسرد كما عرفناها. الصحافة غير الإبداع، كتابه عمل صحافي لا يخلو من وجاهة لكنه فاقد للمسة العظمة، التي يضفيها المبدع الحقيقي على ما يمر عليه، ببصمته الخاصة.
كتابه وصف يعتمد على الرتيب والمتوقع والخالي من جدة وطرافة. هنا ذكريات متقاعد، مقبولة نعم، يسردها متفحصا منتقدا بعض الأخطاء، صالح لأقارباء لكن الغرباء يبحثون في أي كتاب عن صورتهم لا صورة غيرهم، في عالم أوسع من كل الأحزاب والمؤسسات.
نشر لغير دوافع الثقافة
قيل أن "زهرة الرازقي" أفضل كتابات مؤلفها، منذ الصفحة الأولى تجد إذا كنتَ مررت على زواغير الأدب المعروفة أن شخصها الرئيسي "علوكي" هو إستنساخ غير محسن، من شخصية "بنجي" في رواية وليم فولكنر "الصخب والعنف" والآخر الصغير المتظارف من روايات أخرى، وكما في الصناعة هناك منتجات ذات شأن لمن متطباته عالية، كاليابانية مثلا، لكن حتى هذه أصناف، هناك منها البسيط والمتقدم.
هكذا في الأدب والسينما، ثمة إبداع لذوي عقل متطلب، وهناك المستنسخ أو "الشلالي" يقال عندنا لغيرهم. الرازقي وأخواتها لا تستحق عناء نشرها، يجب أن يقال هذا، لعل فيه مغزى، ولا يزج كل من هب ودب نفسه في مكان غير مؤهل له فتكون النتيجة وخيمة.
محمود سعيد نجح بروايته "بنات يعقوب" في تقديم موضوعة تأريخية قديمة بأسلوب مرن إلى مستوى مقبول.
لكن العيب هنا استعمال التعابير الجاهزة، مثل ليس باليد حيلة وغيره مما ينبغي على الروائي تجنبه، ويتعجل أحيانا ويجانب الدقة، حين يستخدم مثلا قياسات الميل والمتر في زمن يعقوب، وكان الأفضل إستخدام الذراع والشبر والخطوة، ويستخدم القناني بينما كانت الجرار مستعملة، ذلك لا يكسف معرفة الكاتب الحسنة بأجواء وتفاصيل فترة الرواية، عامة اقول الرواية حسنة رغم بعض تشتت فيها، ص 63 مثلا يحدثنا عن حمورابي وسفراته وفجأة ينتقل إلى سبب زيارة "الليمونو" في سياق فضفاض لا يجمع كل الخيوط في بؤرة القص
لكن الرواية تحقق كسبا فنيا بخلق جوها الخاص من تلك الفترة، وتدفق أحداثها قدما إلى أمام، وحصافة رؤيتها السديدة إلى المنطقة من خلال التأكيد على وحدتها جغرافياً وثقافياً بذكر تفاصيل يومية صغيرة، طحينية حلب، دبس بابل، ص 123 لكن فاته ذكر الأحجار المراكمة علامات طريق تسمى الآرام، يتركها قاطعوا المسافات، لرسم معالم طريق، وثمة أخطاء إملائية عديدة تأتي بهوان للغتنا، وحين يتحدث عن الحيوانات المحيطة ببابل ينسى الأسد المنتشر آنذاك حولها وبعيدا حتى أصبح شعارا لها، لكنه يكشف في أماكن أخرى من السرد عن معرفة جيدة بالحياة اليومية والجغرافية للمنطقة.
الفرق بين الأسلوب الصحافي الذي يضع المعلومة على سطحه والروائي المتنكر ليقول أكثر لا يبدو كبيرا على صفحات هذه الرواية، لكنه موجود، يقيم العمل ويقعده، وقد يكون ضئيلا جدا لكنه يرفع أو يخفض إحساس الناقد والقارئ معه، ذلك ليس من تذوق شخصي بل من ميزان يقيس جودة نص بمتطلباته الفنية، يتعثر اللحن تشعر بالفرق. مأخذ آخر على الرواية حجمها الكبير، إختصار نصفها لصالحها. لقد كتبوا عن الرواية في أكثر من موقع ومحمود سعيد يستحق المديح على مثابرته، رغم أني شعرت وأنا أقرأ أنه كان يريد كتابة رواية غير التي انتهى إليها أخرى.
"خلف السدة" لعبدالله صخي مثال لغلبة الصحافة على الرواية، هنا عرض صحفي غير روائي، لقيام وزوال منطقة خلف السدة ببغداد، موضوع يهم شريحة ضيقة من الناس، دع عنك إن تك الطريقة المباشرة للعرض لا تغوي للقراءة كثيرا. المطلوب سرد مركز من غير إضافات بلاغية، تشتت طعمه الجمالي الحريف. وأجد نقيضا لذلك الأسلوب المفتوح من كل الجهات ما قدمه محمود البياتي بأسلوبه المغلق، المتفتح تدريجيا عن محتواه، بكتابه الجديد "كلام" مجموعة نصوص بين النثر والشعر يتراوح حجم القطعة منها بين السطر وعدة أسطر، انطباعات ذاتية في الحب والوجود والثورة كما عنون لها وكما ظلت في إطارها الصغير.
فهي مكتوبة كما هو واضح في صالة صغيرة لقارئ صالة صغيرة، قابلة لدحض بتحليل بسيط، من خارجها، لا من داخلها كما في موسيقى الصالة، التي تدحض الآلة فيها الأخرى، في مجموعة من أربع آلات موسيقية غالبا تتحاور بينها، تتنافر وتتفق، ويتشكل من ذلك اللحن الحيوي، بالنغم، أشبه بحوار مجموعة صغيرة من المثقفين الرصينين، بعيدا عن التأريخ وسيمفونياته الكبيرة الصاخبة وصالاته الواسعة.
هذه نماذج من حصيلة مطابخ، عفوا مطابع، النثر في الأشهر الأخيرة، تبدو غير ذات شأن كبير، وهي هكذا، المقصر في هذه الردة الثقافية للبعض ليس الكاتب المثابر طبعا، بل دور نشر تتحرك بغير دوافع وأهداف الثقافة، إلاّ إذا كانت أرداف هيفاء وهبي منها، وهي منها على صعيد الأدب الأهيف، الرفيع سمن، لم يعد له وجود.