المحرر موضوع: شاركتُ البلبلَ في ترتيلِ مزمورٍ حزين  (زيارة 1433 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 200
    • مشاهدة الملف الشخصي
شاركتُ البلبلَ في ترتيلِ مزمورٍ حزين
شمعون كوسا

في نزهتي اليومية ، التي لا بدّ لي القيام بها كراهب مُلزم بأداء صلاته وصيامه، لاسيما في الذكرى السنوية لعيد ميلاد الطبيعة وموسمها البهيّ ، قادني شدوُ بلبلٍ لقطع مسافة طويلة قبل الجلوس تحت شجرة وارفة الضلال تطلُ على نهر الايردر، وهو فرع من نهر اللوّار الفرنسي.  كان هذا البلبل، الطيرَ الخفر الوحيد الذي يغني دون انقطاع. اندهشت لمواكبته لي ، إلى اللحظة التي افترشتُ الارض في بقعة مُعشوشبة تحت تلك الشجرة. أمهلني البلبل بالجلوس بالصمت لوهلة، ومن ثَمّ بدأ بمقطع صغير من شدوه وتوقف ، واستأنف من جديد وتوقف . عرفتُ بانه يخاطبني .  نظرتُ اليه ودخلت عالمه بسهولة ، فتيقّنت من انه يدعوني الى مشاركته في ترتيله . بدأتُ ادندن معه بعد كل مقطع ، بعض أنغام الـ (يا ليل) .أحسست هنا وكأنه عثر على ضالته ، ووجد الطرف الذي سيعينه ويشاركه في تلاوة فرضه الصباحي.  وبالضبط  كما يحدث في المزامير ، كان يطيل الجملة أحيانا ، ثم يأتي بفقرة اقصر،  وانا كنت اجاريه في كافة المقاطع ، إلى أن تحولتْ فيها دندنتي الى غناء وانطراب ، فاصبحنا في سجال لم ينقطع إلا بعد نصف ساعةٍ ، كاملةِ الثواني .
بعد توقفنا ، سألتُ البلبل  عن رقم هذا المزمور فحرك منقاره اربع مرات، استنتجت منها بانها ليست كمزاميرنا لان الرقم يتعدى الالف !!! انتقل البلبل الى غصن قريب مني ، وكأنه يريد أن يكلمني مباشرة . وبما اني كنت قد ولجت  عالمَه ، سمعته يقول لي : لقد رافقتَ بجدارة المزمور الذي شدوتُه أنا ، وكانت ردودك جميلة جدا ، ولكن لماذا هذا الصوت الحزين؟
قلت له : يا اخي البلبل ، ابتداءً اقول،  لقد اطربتَني بمزمورك وازلتَ قليلا من كربي ، غير أنك بسؤالك هذا ، تفتح بابا لن اقوى على اغلاقه ببساطة، لان قصتي طويلة . قال لي : يدعوني الفضول الى سماعها ، قل اذن واسترسل ولا تبالِ.  قلت له : انا لست من هذا البلد ، انا قادم من بقعة جميلة في بلد آخر ، بقعة رائعة الجمال بجبالها ،  ووديانها،  ووهادها ، وتلولها وآكامها  ومياهها العذبة ، وأيضا بنسيمها العليل. منذ سنوات طويلة ، اقتادتني ظروف أوجدها الاشرار ، لترك هذا المرتع الجميل الذي لم تفارق  ذكرياته الجميلة خيالي يوما.
لقد بلغني بان ضيعتي التي احلم بها والتي كنت أصبو العودةَ إليها، قد تغيرت معالمها وأمّحت ملامحها . فالجبل فقد هيبته ، والوديان تغيرت ، والمياه نضبت ،  والجو فقد صفاءه ، والاشجار ذُبحت كالشياه ، وهَجَرَتها الطيور ، بضمنها بعض أجدادك البلابل الذين كانوا يطربوننا كلّ صباح . لقد ازيلت الطبيعة الجميلة لتحلّ محلها المباني بأحجارها  وحديدها وخرسانتها الصلبة، وبلغني أيضا بان اغلب القاطنين فيها سلكوا نفس طريقي ، هرباً من نفس هذه الايدي الشريرة. واحيانا عندما اتذكر واقارن بما قيل لي ، أبكي على الاطلال ، لان الاطلال ليست مبان متهدمة فحسب ، ولكن روحا انكسرت ، جوهراً إمّحى  وجمالية تشوهت ، وأيضا اخلاقا تغيرت.
وأمّا عن الدولة الكبيرة ، فانه بعد سنوات من حروب طاحنه سببتها الانانية والغرور، فان مفهوم القيادة الحقيقة ومبادئها دخل طيّ النسيان ، ليترك المجال لمسؤولين لا همّ لهم سوى استغلال فترة ولايتهم ، لنشر الفساد والتفرغ للنهب والظلم والاستغلال ، مؤمنين بالمبدأ القائل بان فرصتهم سوف لن تتكرر. وإذا قمتُ الان بالتطرق لموضوع الطائفية والاستغلال الديني ، الذي اصابنا نحن في الصميم لأننا نؤمن بان البشر كلهم اخوة ، فانك ستندم على الساعة التي دعوتني فيها للكلام، لان الحديث سوف يبدأ ولا ينتهي !!
بعد ان تركتُ بلدي وصار وراء ظهري ، دخلتُ هذا البلد ضنّا مني باني بلغت بَرّ الامان ، في بلد حرّ ومتحضر من شأنه أن يُنسيَني غربتي ، غير إني لم ارَ من الانفتاح والحرية سوى الفوضى ، فالطالب يُضرب ويتظاهر ويمنع زملاءه من الدخول الى الجامعة ، وهمّه الوحيد هو عدم الدراسة ، والعامل لا يرضى برزقه ، وهذا صحيح على صعيد أغلب مجالات العمل ، فيُضربون جميعهم كل فترة ، ويكسّرون ويُلحقون اضرارا جسيمة بكافة المرافق، وبعضهم يقطع  الشوارع ، والبعض الاخر يسطو على مراكز الوقود لمنع توزيعها. شعب يرفض الاصلاح والتغيير حتى اذا كان لصالحه . انهم لا يرون ابعد من انوفهم ، وكأنّ التغيير او الاصلاح كلمتان تسببان لهم حساسية قوية تلبس كامل بنيتهم .
وبغضّ النظر عن هذا ، بات الكثير من مواطني  هذا البلد  يجنحون الى التطرف ، فاذا رأوا شخصا غريبا مثلي ، لا يحيّونه ولا يردّون تحيته ، ينظرون اليه شزرا وباحتقار،  وكأني بهم يقولون : انت دخيل هنا . ولا يهمّهم  إن كنتُ أنا أحبّ بلدهم بصدق ولربما اكثر منهم ،  لان حضارتهم تسري في عروقي كوني نهلت منها منذ صباي .  فانا يا اخي البلبل ، أمسيت غريبا تماما هنا وهناك ، لقد فقدتُ الامل في العودة الى بلدتي الصغيرة ، وإلى بلادي التي انقسمت على نفسها ، في ديمقراطية زائفة ، قائمة على الطائفية والدين .  ومن جهة اخرى، احسّ هنا بإحراج وانزعاج شديدين  من النظرات المتطرفة المريبة .
كم كنتُ اتمنى لو كنت طائرا مثلك ، أحلق وأتحرك  وأحطّ أينما يحلو لي ، معتبرا الاشجار والسماء والاجواء وطنا لي !!  عند هذا ، نزل البلبل ، ورأيتُه يبذل جهد كبيرا في محاولة رفعي الى حيث كان على الشجرة . فتأثرت تماما ومن اعماقي، ولم اقوَ على حبس دمعة خرجت من عيني . وازداد تأثري عندما رأيت صديقي البلبل يهمّ مسرعا لامتصاص الدمعة قبل سقوطها، وبقي ملتصقا بيّ. بقيتُ معه على هذه الحالة لبعض الوقت ، وكنت احسه يرتعش وقلبه يخفق. فنظرت اليه وامسكت به وقبلته واشرت اليه باني سأعود . طار البلبل  دون شدو، وانصرفت أنا وحيدا مع ذكرياتي وبعض مقاطع من المزمور .

غير متصل زيد ميشو

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 3447
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الأستاذ المحترم شمعون كوسا
لم أقرأ شيئاً منذ أكثر من اسبوع، حتى عندما افتح أي مقال لا اتمكن من قراءة أكثر من بضع سطور واترك النافذة مفتوحة كي أخدع نفسي بمحاولة عقيمة أخرى.
فقط عندما قرأت أسمك أصريت على القراءة وبتمعن ...وهذه المرة نجحت، كوني بحاجة إلى قراءة مادة فيها بعد أنساني وتوقظ الأحاسيس الباردة.
حقيقة نشفت العيون من البكاء على الأطلال ولم يعد للحجارة قيمة بعد ان خسرنا الأنسان في وطننا
اصبحنا مرعبين، نغدر ونأكل بعضنا البعض حتى في دول المهجر ... وطال التشويه في بلدي الحجر وبالبشر
في أرض المهجر نعاني من غربتين، غربتنا قي ارض ليست أرضنا وهي غربة سهلة كوننا نتأقلم فيها باي شكل من الأشكال، اما الغربة القاسية فهي مع جاليتنا بعد أن غدونا غرباء عن بعضنا البعض.
إسمح لي أن أشاركك مادتي التي نشرتها قبل سبع سنوات
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=537488.0
مشكلة المشاكل بـ ... مسؤول فاسد .. ومدافع عنه
والخلل...كل الخلل يظهر جلياً بطبعة قدم على الظهور المنحنية

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لى اخي زيد

اشكر مداخلتك ، لقد قرأت مقالك والحق يقال لم اكن قد قرأته من قبل، انك تشرح تماما الغربة وتطورها وتتطرق الى مناحي انا لن اعرج عليها والخلاصة التي تنتهي بهل هي افصح تعبير واصدق تصوير لحالتنا عندما تقول : وكأننا نذرنا لنحيا بألم ، ألم الماضي التعيس الذي هربنا منه ، وألم الحاضر الذي التجأنا اليه ، وألم المستقبل الذي يسببه كل ما يحيط بنا. فما أقساها من غربتين ؟ وما أسوأها من آلام.
ومن له اذنان سامعتان فليسمع، بارك الله بك

غير متصل Noel Riskallah

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 81
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
استاذي العزيز شمعون كوسا
تحية قلبية من احد تلاميذ معهد مار يوحنان الحبيب، كنت في السنة الاولى من دخولي الى المعهد وكنت انت في قسم الكبار ، أتذكرك جيدا بالرغم من قصر الفترة التي قضيتها في المعهد آلا وهي سنتان فقط، كنت استاذي في تعلم الألحان الكنسية الجميلة، كنت معجب  جدا ومتأثرا بصوتك الرباني الجميل ، عشقت تلك الألحان ولكن الظروف التي مر بها بلدنا من مآسي وحروب بقيت بعيدا عن التراث الذي ترسخ في ذاكرتي بسبب جهودك التدريسية وصوتك الرباني الرخيم آنذاك،
مقالتك هذه  معبرة حيث كل  حروفها وكلماتها تلتهب كالجمر من حرقة  الغربة القاتلة والحنين لبلداننا الجميلة التي تربينا بهما بعد ان  غادرناهم مكرهين وشوهها الأغراب والأشرار ، انا ايضا مثلك أدندن المزمور الحزين  مثلك ولكن وحيدا لا يشدو معي البلبل.
استاذي العزيز كثيرا ما اتابع التراتيل التراثية التي تنشرها على اليوتوب، ولكن أتمنى منك ان تنشر بصوتك الرباني  ألحان القداس الثمانية مع أوزانها مقطع واحد لكل مقام مع ترتيلة المقام التي نطلق عليها وزن المقام ولَك الشكر الجزيل .بصراحة ألحان القداس في مرحلة الانقراض من كنائسنا بحجة التجديد والتعريب والى اخره
تحياتي لك مرة اخري
نوئيل يعقوب رزق الله

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
اخي نوئيل رزق الله

سررت بلقائك هنا على هذه الصفحة واشكرك على قراءتك للمقال . لا زلتَ تتذكر الازمنة السعيدة والذكريات القديمة التي لا يمكننا ولا يمكن للدهر ان يمحوها. ألا ترى إنك بالغت قليلا بوصفك لي ؟!!
اخي نوئيل ، ان طلبك في ما يخص المقامات التي كنا ننطلق منها للنوشاثان ودحذاذيه ، جميل ولا اقول انه مستحيل ، ولكنه يتطلب تفرغا ، سافكر بالامر. اشكرك ثانية واقول: حفظك الله  وادامك بصحة جيدة