المحرر موضوع: وظـائـف المكــان في الرواية العراقية: برهان الخطيب نموذجا  (زيارة 1518 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل برهان الخطيب

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 40
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي

وظـائـف المكــان في الرواية العراقية: برهان الخطيب نموذجا

مروج حسين محمد عبدالله*


إنَّ تنوع المكان في العمل الروائي يؤدي بالنتيجة إلى تعدد وظائفه وإلى توسيع رقعة السرد وبالتالي فإنَّ امتداد الحدث الروائي في أبعاد جديدة يتيح تقليب الأفكار والاحتمالات وإظهار جوانبها الخفية، في تنوع وتعاقب ظهور الشخصيات، ما يسمح تدفق تفاصيل إضافية ضرورية لتكامل الصورة العامة التي تقدمها الروايَّة، وشحن الروايَّة عموماً بطاقة جديدة، فالبقاء في مكان واحد يؤدي إلى تلف الأشياء، كالماء حين يركد، كالبدن حين لا يتحرك، فتغير المكان له وظائف عديدة تكتشف غالباً أثناء السرد، فالمكان جزء عضوي أساس من البناء الروائي لا يُقحم عليه من خارج سياقه العام وأولى هذه الوظائف هي:

ــ الوظيفة الإيهاميَّة: من أهم الوظائف وأخطرها، حيث تقاس درجة الإبداع والخلق من خلال مدى نجاح الروائي في إقناع المتلقي بواقعيَّة ما يوصف له فيشعر القارىء أنَّه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً بالواقع .  من مثل ما يُطالعنا في روايَّة برهان الخطيب (ليالي الأنس في أبي نؤاس) فهو  يأخذ القارئ إلى عالم وهمي تماماً عبر خيال الفنان (سامي)، إلى أعماق  نهر دجلة حيث نجد غرقى من كل العصور، طيف ابنه المفقود يلوح بينهم يسيرون ويستعرضون رزاياهم  في محاولة من الفنان لفهم واقعه عبر الحلم،  "غرقى من كل العصور، أصيح دون صوت هل نبيل بينكم؟ أطفال يلعبون بالماء وسط الماء، موكب حافل، مخلوقات لا تخطر في بال، معمرة، لحاها لم تحلق آلاف السنين، لا نوافذ، لا أبواب هنا ..."،   ذلك  يحدث لكثيرين منا حين نستعيد بعض ما يحدث لنا في الواقع في حلم بـل ونجـد حلاً وإلاّ لا يظهر عـلم تفسير الأحلام، ويقنع القـارئ بذلك، تلك اللعبة الفنية التي يستخدمها الروائي في مهارة نجدها تنتقل أو تُنقل إلى  عالم الواقع مؤخرا في تأسيس متحف تحت سطح الماء للضحايا الغرقى من المهاجرين.

ــ الوظيفة التعبيريَّة: إنَّ اهتمام هذه الوظيفة يُصب فيما تتركه من أثر في متلقيها، لأنَّها "تعتمد أساساً على وقع الأشياء والإحساس بها وما تثيره من إحساس لدى المتلقي وذلك من خلال الإيحاء والرمز والدلالة التي يتم في ضوئها بناء المكان وتحديد خصائصه وميزاته وإيجاد الحلول الجماليَّة في ضوء ذلك". فالمؤلف في الروايَّة السابقة لا ينتقي نوعاً معيناً من المكان العراقي بل يطعمه غالباً بأنواع مختلفة وصولاً إلى صورة عراقيَّة إلى بانوراما أو مشهد عراقي كامل، فهو ينتقل من الجنوب إلى الشمال في متابعة مصائر أبطاله لنرى مصير العراق كله "في قريتها، لا يحل تشرين كما في بغداد، وجلا، عجلا، هناك يفرش ألوانه قبل مجيئه وبعده بوقت طويل، متمهلا، كسولا، حديثها عن قرية الجبل مليء بحنين، ذكرت ما معناه .. يتفتق من الأرض والأشجار ربيع ثان، لذلك سميت أم الربيعين، أسوة بالمدينة الكبيرة قربها، تخرج بواكير البراعم من بين اللحاء كما تخرج صغار قطة

رؤوسها من أحضان الأم، في صباح شتوي مشمس، يُمد على الأرض أسفل السفح بساط أخضر مطرز بأزهار صغيرة ذات لون أصفر بهيج كالزعفران ...".

يقدم لنا الروائي البيئة الجبليَّة بكل ما تثيره من أحاسيس جديدة لدى ساكن الجنوب عازفاً بذلك على كل أوتار روح القارئ المتابع له.

 

- الوظيفة التفسيريَّة: تقوم هذه الوظيفة بدور التمهيد للشخصيَّة التي ستخترق المكان من خلال الكشف عن الطبيعة النفسيَّة للشخصيَّة الروائيَّة، فهي من الوظائف المهمة لأنَّ الروائي ينفذ من خلالها إلى حياة البشر الذين يصنعون الأحداث، فيُظهر من

خلال ذلك مدى التفاعل بين الشريحة الاجتماعيَّة وطبيعة المكان .ففي مشهد ظهور القابلة التي سوف تقوم بعمليَّة إجهاض لشخصيَّة (نعيمة)، معها انعطاف كبير في مجرى حدث الروايَّة كذلك الأحداث العامة في الشارع، الانقلاب الحاصل في نهاية عام 1963،  البناء النفسي لشخصيَّة القابلة غير المرخصة يتضح منذ أول كلمة لها في حوار سريع قصير على السلم، امرأة متسلطة، قوية، ذلك من اعتيادها على مشهد الدم، على ولادة أو قمع حياة. بل حتى ظهورها في المكان شبه المظلم يحمل دلالة، رأس السلم يتبعها مستأجرها ذليلا، كأن المؤلف يفسر طبيعة القمع التعسفية في تلك الصورة الموحية.

ويضاف إلى ذلك الوظيفة الرمزيَّة للمكان، والتي تتشكل بصورة مباشرة أحياناً، أو قد تحتاج إلى جهد تأويلي وقراءة متماسكة لها قدرتها على متابعة حركة التنظيم المشهدي للأحداث. ثمة تقابل بين أفعال ومصائر شخصيات الروايَّة المذكورة قيد الدرس والحركة خارج الشقة في الشارع، هنا يتحول الشارع إلى مرآة لما يحدث في الشقة، أو العكس.. ما يحدث في الشقة انعكاس لأحداث الشارع الدمويَّة، يصير كل منهما رمزاً للآخر، على هدى الرمز يعيدنا المؤلف إلى نفوسنا لنتبيّن موقفنا من كل ما يجري، نرتقي بإنسانيتنا درجة حين نتعاطف مع الخير، نتراجع إلى حيونة حين نقرر البقاء غير مبالين لما يحدث للناس، للبلد برمته .

وقد يعرض الروائي أمكنة ليس لها وظيفة روائيَّة محدَّدة، ولكنها تعمل على خلق الامتداد المكاني للنَّص في ذهن المتلقي. مثل مكان الشجرة المتوحدة مقابل شقة شارع أبي نؤاس. "سقطت أوراق شجرة المشمش المتوحدة في الساحة الخلفية الموحشة للكنيسة القريبة من الشقة خلال يومين أو ثلاثة، الأغصان عارية  عجفاء"، فهذه الشجرة المتوحدة  تمثل في النهاية توحد الشخصيَّة الروائيَّة بعد ارتكابها الإثم.

* كاتبة من بغداد