المحرر موضوع: بين الخلق والركود إن لم تلجأ إلى ما وراء الطبيعة لن تكتشف عالما آخر اللجوء إلى الله يجسد مدى الأزمة الروحية كيف نقترب من الفهم الإنساني ؟  (زيارة 806 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عصمت شاهين الدوسكي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 462
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي


بين الخلق والركود
إن لم تلجأ إلى ما وراء الطبيعة لن تكتشف عالما آخر
اللجوء إلى الله يجسد مدى الأزمة الروحية
كيف نقترب من الفهم الإنساني ؟

عصمت شاهين دوسكي
الجزء التاسع

   الأزمة الإنسانية تمر بمراحل عدة إلى أن تصل إلى ذروتها ، وإن لم تعالج وتجد لها حلا تتفاقم أكثر وتحتل مكانة تؤثر في الروح والذات التي هي أصلا تحتاج إلى مؤثر وفعل فالمشاعر الشديدة تميل إلى من يسمعها ينصت إليها وإن لم تجد ستنفر من المكان ومن العالم كله وتدخل في دجنة معتمة بلا قرار وتشعر إن لا حلول ولا خلاص على الأرض ، وتستحيل الرغبة إلى قوة خفية في الأعماق ، وكان هذا الشعور الروحي الذاتي المؤلم يحتاج إلى تدخل المعجزات وخوارق العادات ، فما جدوى المناداة في قصيدة إبراهيم يلدا " من موضع قدمي إلى العلى " فالنداء يستفحل ليكون ألما في القلب المشروخ " وأنا أنادي " النداء بلا جواب كأنك تدق في الماء " لا عين ولا أذن ترى وتسمع " بعد نزيف الجراحات وكثرة الآلام وتورم الآثام وضياع نور الأمة والأحلام في ظل الظلام ، كأن هذا المنادي الصامت وعدم تلقيه الجواب فقير لقيط مجهول بلا أب ولا أم ، وكأنه " يعيش في عظم بلا لحم ودم " فالعظم دليل الركود واللحم والدم دليل الخلق والحركة والنشاط ، هذا الحرمان الكبير يولد ثورة داخلية فكرية حسية فوق تجليات أكون أو لا أكون ، تغدو كارثة إنسانية مدها الوحيد الروح لتجد منافذ أخرى فوق الطبيعة وتتخيل سلما سماويا محاولة للوصول إلى المتلقي في العلى ، فهذه الروح تميل إلى خالقها إلى من يحميها ويؤويها ويداوي ما فيها .
(( من موضع قدمي وحتى العلى وأنا أنادي
   عسى ان يسمع ندائي المطبوع على قلبي
   ومرثيتي يا الهي اكتبها وأكررها
   لا عين ولا إذن ترى وتسمع
   من روح من لا روح له ،
   في كل يوم تولد روح في الإثم
   من غير أب أو أم
   تنمو وتعيش مع الآخرين وهي بلا اسم
   وكأنها تعيش في عظم بلا لحم ودم )) .

الشاعر إبراهيم يلدا لا يكتفي أن يعري الروح التي تنفعل في المجتمع بل المكان الأمة التي تقوم بعملية الدمج بين الوجود واللا وجود وتستند على الخلق " فهي تجوب بين الناس حافية عارية " هذا التجرد والعري يجسد صور من صور الحرمان والفقر والحاجة إلى شيء ما ، فهناك ثلاثة أشياء مهمة يحتاجها الإنسان الزاد والمثوى والكساد فإن نقصد واحدا منها اضطربت الروح ونشط طوفانها وتمردها أو ركودها وخمولها وموتها ، فمن لا يجد بيتا كيف يشعر بالأمان والسلام ؟ ومن لم يشعر بالأمان والسلام كيف سيفرق بين النور والظلام ؟ سيحمل روح التمرد وتمارس صلاحيات بعيدة عن الروح إن لم تلجأ إلى العلى إلى ما وراء الطبيعة ، إلى ما وراء المعرفة الكونية ، إلى ما وراء الروح نفسها والإنسان ليكشف عالما آخر ، مخلصا آخر .
(( تجوب بين الناس حافية وعارية
   لا بيت لها ، ولا من بيت يحويها
   حتى عيناها قد سملت منذ ان فتحتها
   كحيوان بلا عقل يتشبه بسيرته
   إنسان هو لا صديق له ... لا حلم .. أو أمل
   في قوته يكمن ثور وفي فكره طفل
   لا يفرق بين النور والظلام الذي في القبر )) .

اللجوء إلى الله يعكس مدى الأزمة الروحية ، وهذه المناداة يخصها الإنسان لله تعالى سرا بينه وبين نفسه وعلنا ليكتشف الأشياء ، وسؤال الله في طلب الحاجة ليس غريبا ناهيك عن حاجة الإنسان لربه في كل مكان وزمان ، لكن في وقت الأزمات يشتد إيمان الإنسان ليكون المنقذ الروحي الوحيد الله ، فالله قريب من العبد ما دام العبد يحسن الظن بالله ، فحياة الإنسان لا تسير وكيف تسير وهي " بلا قلب أو مخ " الشاعر يرى السعادة والخلاص في المناداة وتوضيح سقوط الأوراق من شجرة الإنسان ورقة تتبعها ورقة لتعري كل شيء ، وحينما يكون مجردا وهيكله وجذعه بلا روح بل أكثر قوة عندما " يحترق كقطعة خشب " هذه الصور الشعرية تمتاز بتجرد الإنسان وخسرانه الروح التي تسمو على الأرض المكان لا أن تهان وتذل وتنكسر وتتساقط أوراقها لضعف الإنسان الذي لا يختاره بل يفرضه الواقع والمكان والزمان ، هذه الدلالات الإيحائية منفتحة على الرغم من خصوصية المضمون والمناداة وهيمنة المناجاة الروحية .
(( سيدي : الحياة بلا ثمرة كيف لها ان تسير
   وهي بلا قلب أو مخ
   فهي تشبه تلك الرياح التي
   تجمع حفنة من الأوراق الساقطة
   من شجرة وحيث جذعها بلا روح
   يحرق ويحترق كقطعة خشب )) .

مناجاة ومناداة الرب منذ بداية الخليقة تفاعلت على الأرض ومع الإنسان والشواهد كثيرة مع الأنبياء والرسل وإلى أن يشاء الله بصور مختلفة ما دام الإنسان على الأرض ، يجد نفسه ضعيفا لعدم قدرته على فعل أثر يبقى خالدا سيهون عليه كل شيء شيئا فشيئا حينها إن شملت تضيع البلاد والعباد فيتخذ من مناداة الله فضاء رحبا لإيحاء الروح وتجديد المطروح وترميم الشروخ وبعث الأمل في الحياة ليهب الأمة الخلاص فالرجاء ليس ضعفا فالله كريم والتوسل ليس ذنبا فالله رحيم ، أصبحت الرؤى الفضائية والتناقضات كثيرة لشعب يهتم بالآثار والتماثيل والأحجار ويفتخرون بوجودها والإنسان منهك متعب  فقير وحائر في إيجاد لقمة العيش بين القمامة ، يكون بلا راع ، بلا صوت ، وآلامه بلا أنين وهمسه بين شك ويقين .
(( انه ملاك في العلى يطير ويهبط
   يصيح في وجهي: يا غراب بلا راع
   كل رأس أوجعتها فلا صوتك يصبو
   ابك على نفسك كي لا تذبل آخر أوراقك
   وبصوت أكثر جهوري يصرخ في وجهه
   إن كان محبوك في كل جهة من يديك يفلتوا )) .

الشاعر إبراهيم يلدا بين أزمة المكان والوجود وأزمة إنسان وأمة تتمحور أساسا في طريقة التكوين والتوجيه والتحذير والتنبيه وتصوير إمكانيات خلق حياة جديدة " لماذا لا تنفخ مثل سيدك " يكشف طاقة جوهرية تتدخل فوق الطبيعة البشرية والوجودية فالنفخ ليس خلق روح بل تجديد روح وتفعيلها وتنشيطها لروح إنسان " طريح تحت الأرجل " في رمق أخير يتجلى الذبول والتوقف ومن خلالهما وآثارهما تتكون الوحدة لكن من يتمكن أن يعيش ويحيى وحيدا طول الحياة ؟ فالوحدة الإجبارية المؤلمة لا تحتاج إلى ورقة للحياة بل ورقة نعي وعزاء وإن وجدت أمة فهي لا ترثي أحدا لأنها تحتاج إلى من يرثيها .
(( لماذا لا تنفخ مثل سيدك
   روحا في الإنسان الطريح تحت الأرجل
   إن كانت آخر الأوراق من شجرة بلا جذع
   قد ذبلت بلا توقف من قطيع بعد آخر
   وان كانت حياتي تحيى لوحدها فلا تستحق
   تلك الورقة الأخيرة
   فليس من أم لا تسأل عن مرثيتي )) .

من الفضائل تكرار التاريخ نفسه لكن بصورة عصرية ليعي كل مخلوق ما دامت الأمة السياسية والاجتماعية والدينية لا تطمئن لنبيها وتطرده " يطرد منها النبي " فهل يعقل امة تعيش وتتطور وتتقدم وتبدع بدون نبي ، بدون نور العقل والوعي والحكمة ، يقول العلامة " دستوفسكي " : أشرق ذات يوم نور العقل على ذلك العدم " ماذا يفيد الندم بعد طرد النبي ؟ ماذا يفيد لو أقاموا له رمزا تمثالا تذكارا ؟ .
(( أيها السيد
   أغنيها في كل الأوقات
   وان قال عني كل مخلوق انه يشبه المجنون
   سأقول : في القرية التي يطرد منها النبي
   ترى أهلها يندمون
   ومن ثم يعودون ليقيموا له التذكار )) .

الشاعر إبراهيم يلدا بأسلوبه الفكري الفلسفي يحاول بطرق شتى خلق بنائية روحية تجديدية منفردة من خلال استحداث أطر تأويلية عصرية يسعى منها إلى تفعيل خلق طاقة حيوية نشطة وتحقيق رؤية تصور الشعر كرؤية بناءة تمس روح الإنسان وفكره وإحساسه وكيانه ومناداته والكون الذي يحيى فيه بكل موضوعاته وتناقضاته التي تتلون بألوان مشرقة تتناغم مع حالاته وبصيرته الفلسفية والرؤية التي ترتبط بالإنسان والمكان والكون ونواميسه بتجربة ووعي ناضج يعرف ماذا يرسل بدقة للآخر لأنه قريب من القارئ خاصة كلماته تنساب بشوق ولوعة وروح خلاقة تقترب من سر التوحد بالكون والإنسان عابر القواميس والاصطلاحات ليلبسها ثوبا جديدا آخر يقترب من الفهم الإنساني المحرك لكل المعطيات والرؤى الوجودية والمكانية الجديدة في العالم .
***************************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء التاسع – طبع في أمريكا وفي مدينة Des Plaines دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة Press Teck .. بريس تيك . 2018 م