المحرر موضوع: الشخصيَّة بالزمن فـي الرواية  (زيارة 746 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل برهان الخطيب

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 40
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي

الشخصيَّة بالزمن فـي الرواية
مروج حسين
 إنَّ علاقة الشخصيَّة بالزمن لا تقل أهمية عن علاقتها بالمكان، كل منهما يمكن استخدامه في صورة وسيلة فنيّة للتعبير المباشر أو غير المباشر عن تفاصيل فكريَّة ويومية تقوم الروايَّة عادة في تجميعها وصولاً إلى غرضها الرئيس، أي إعادة
صياغة الواقع في صورة متحركة أكثر عقلانية وعدلاً من التي لنا في الواقع المرئي المعاش، فالشخصيَّة تتأثر بالزمن وتؤثر به، وتتخذ موقفاً منه أحياناً، وتقع فريسة له أحياناً أُخرى، وقد تصل الشخصيَّة إلى رحلة تستطيع فيها إلغاء الزمن وإيقافه لغرض استخدامه وفق مصلحتها المدركة المتأملة له، الزمن، وذلك بالعودة إليه فنياً، بأسلوب الفلاش باك أي الاسترجاع والتقاط لحظات خاصة منه، لتفكيكها وإعادة فهمها تحت ضوء معطيات جديدة من الواقع، من الزمن ذاته، كان الزمن هو الآخر يكبر مع الإنسان، يستدعي مراجعته وفحصه. وقد تحاول بعض الشخصيات الهروب من ماضيها لما يشكله من أثر سلبي على حياتها، أو لعدم قدرتها على المواجهة لخضوعها إلى تربية قمعية أو قد تبحث عن نقطة مضيئة في ماضيها، علها تستطيع الابتعاد قليلاً عن حاضرها. أو العكس الاقتراب إليه مع رؤية جديدة تتيح للشخصيَّة أن تكونَ مؤثرة في الزمن بمعنى إدخال العقلانية إلى مساره، نحو هدف تصيغه الشخصيَّة مثلما هي متأثرة به إذ تخضع لأفكار سائدة في مرحلة منه أو حين يقودها إلى الهرم والموت .
 ويعد الليل من المفردات الزمنيَّة الملازمة للشخصيات، إذ يرمز إلى الحالة الاغترابيَّة السوداويَّة التي تعيشها الشخصيات. ويشكل الحلم كذلك أداة في متناول الشخصيات تستخدمها لتسهل على نفسها التنقل بين الأزمنة كما يحلو لها متخلصة بذلك من معاناتها التي لا تستطيع التخلص منها إلا بهذه الأداة .
من أمثلة ذلك ما جاء في (الجسور الزجاجيَّة) لبرهان الخطيب على لسان الراوي (مزعل):"طويلات هذي الليالي، عذبتني أرمضتني، جربت متاهاتهن مفازة مفازة تسولت اليقين، تسقطت الاحتمالات، ولكن ما مسكت أصابعي غير هارب الريح، الليل ورائحة البرتقال وسماء الصيف العامرة بالنجوم والنسيم الهاب من جهة البساتين، أتذكرينها؟ وكلمات الفرح التي فرت منا كالعصافير وباب المطبخ الموارب والصمت الذي كان يحل فجأة ...أيمضي كل هذا ولا يخلف وراءه غير الفراغ؟" . بين الماضي والحاضر والمستقبل تمتد معاناة (مزعل)، حين يعود بذاكرته إلى الوراء، فيتذكر لياليه مع تلك المخلوقة التي قبلها واحتضنها والتي لم تعطه شيئا سوى لذة بهيمية، حين وهب الحياة للفراغ في أحشائها البليدة. ثم ذلك اليوم الأسود المشؤوم، ليلته كانت آخر ليلة لملم فيها أحاسيسه التي تمزقت وضاعت في متاهات شتى، حتى لم يعرف، بضيق هو، أم بنشوة فرحة أو غثيان، وقلبه يتمزق فيه فيض من حنان وحب، يصحب في عنف وهياج، يود الانطلاق ليغمر فرداً يخيط تلك الجراح، ويمسح الدم المتخثر فوق الشفاه، يغمره حد الطوفان، لكنّه هنا وبعد تلك الليلة يعانق وحدته، وقلبه يهصر حبيسا خلف الضلوع، قلبه يغص بفيض الحنان والحب، ويختنق فينزف هذا السأم الذي يمتزج بماضيه، ويغور في أعماقه فينفذ حتى العظام. ما من أحد يسلخ هذا السأم عنه؛ واحدة فقط. واحدة تغفو فوق صدره، فتهبه موجاً شامخاً من السعادة حتى الغرق.
وهذا قطار الليل يمضي سريعاً، فيسحق الهدير تحت عجلاته، والغبار يتوسل الدخول عبر زجاج نوافذه، فيحجب عنه الحقول الواسعة المنداحة في الخلاء، حتى أعمدة الكهرباء تشرئب لتندفع مسرعة إلى الخلف، مثل أفكاره التي باتت تركض للوراء عبر خياله، لتلتقط خواطر صدئه من قاع سنين ماضيه.وفي روايَّة (ليلة بغداديَّة) لبرهان الخطيب أيضا عبَّرت الشخصيَّة عن حركة الزمن التي  يخلقها إحساسها بالوقت، فقد كانت تمر ببطء وبثقل شديدين، يقول الراوي:"أحد الموجودين في البيت سيفقد عقله بالتأكيد.الوالد لا يريد إيقاف ساعته الحائطية ورنينها المصم الداوي في أرجاء المنطقة كلها . إنها شاخصة هناك على الحائط في صدر الهول مثل عين للزمن، مثل مقصلة ومثرمة ومطحنة تمزق في الأوردة والأعصاب بل وفي العظام".    لقد كان الإحساس بوطأة الزمن طاغياً في تلك الليلة عامة، تلك الليلة التي كانت زمناً للحكاية، فالوقت البطيء الذي كان يزحف خلاف أي وقت فوق الكرة الأرضيَّة أخذ يدور بهم، فما يوشك أن يلامسَ موضوعاً حتى يهب عليهم في دوران من جديد. وهذه الساعة اللعينة التي تحاول أن تجعلَ من بيتهم المختبيء تحت الشجيرات، قماطاً يعصرهم بشدة، فلا شيء سوى الضياع في دوامة من هواجس وأحاسيس قاتلة، تظل في رأسهم تصطخب فيما يشبه البركان، لتنفلت فتهز كيانهم، وتتقاذفهم كورقة عجفاء اغتالها الشتاء فأنكرتها الأغصان.
وكذلك يبدو الإحساس بالزمن من خلال الحلم الذي تمنى (صلاح) أن يكون حقيقة عبر به إلى زمن بعيد، حيث يعود به إلى أيام الكلية وزميلته سلوى:"هام صلاح على وجهه في أحلامه وفي يقظته في شوارع المدينة يبحث عما يشعره أنه لا يحلم ولا يهيم وتمنى أن يعطف عليه في ليل طيف يأخذه في رحلة وهم قصيرة أو طويلة إلى مكان بعيد عن هذا الذي هو فيه لكن أحلامه أعادته مجددا إلى مدينته الحلة التي يخافها الآن ..". في غمرة الحلم ولا يدري هل هو حلم المنام أم الواقع المرير الذي هو أشبه ما يكون بكابوس مرعب نام (صلاح) واستيقظ على حلم تمناه واقعاً يعيشه، بأن يجد يداً تمتد إليه وتنتشله من غمرة حزنه القاتل.
لقد استخدم المؤلف الرغبة في الحلم في المقتطف الثالث، الساعة في المقتطف الثاني، الذاكرة والعودة إلى الوراء في المقتطف الأول، رمزا للزمن ككل، والزمن في ذاته كرمز لإخفاقات لها أسباب عديدة تحاول الشخصيات الروائيَّة بالعودة إليها، البحث فيها وتجاوزها إلى مستقبل أفضل، هكذا يصير الماضي عند استخدامه فنياً سماد لمستقبل أفضل، يستجمع المؤلف ملامحه باعتبارها نابعة من الشخصيات الروائيَّة ذاتها وإدراكها المتغير المتطور لا باعتباره أي المستقبل نتيجة تلقائية لمسيرة الزمن دون تأثير من الإنسان.
كما ويتخذ الكاتب من تقنية (المونولوج) وسيلة لعكس الحالة النفسيَّة للشخصيَّة الروائيَّة في تفاعلها مع الزمن، بغية الكشف عن أفكار الشخصيةَّ وإحساسها ومشاعرها، وسنحاول فيما يلي من السطور الكشف عن استخدام الخطيب لهذه الآلية للدخول إلى العوالم الداخليَّة لشخصيَّة أبطال رواياته .في روايَّة (سقوط سبرطة) للروائي الخطيب نفسه تذكرنا الشخصيَّة الرئيسيَّة بأبطال روائيي الحركات الأدبيَّة لما بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة والفرنسيَّة تحديداً (جان بول سارتر) و(ألبير كامو) وهم أبطال مغتربون يعانون من الإحساس باللاجدوى وعبثية الوجود الحياتي وعدم القدرة على أداء فعل حياتي يسهم في تحول الذات والمجتمع. إذ يعاني (خالد) من انفصال عن المجتمع يتبدى ذلك من خلال مونولوج له مع ذاته:"كتب عليك أيها الغريب المغترب التمزق شدا وجذبا بين ماضي فيه لك فياف وعذابات وحاضر له فيافيه وعذاباته وإذا كنت هربت من عذابات ماضيك إلى فيافي حاضرك وقعت في عذاباته فإذا أردت هربا من عذابات حاضرك إلى فيافي ماضيك فلسوف تقع في عذابات ما رأيت حتى الآن فلم يعد لك مكان تلجأ إليه سوى فسحة النفس الصغيرة هذه فإذا قصدتها وجدتها مزدحمة بأخيلة ماضيك الباهتة وآمال حاضرك العصية".
النَّص آنف الذكر يكشف منذ البداية بأننا إزاء شخصيَّة تجد في هذا العالم مبعثا للسأم وعدم إمكانية التفاعل معه بكونه عالماً متهرئ يشكل فراغاً كابوسياً بالنسبة له.