المحرر موضوع: البروفسور الراحل افرام يوسف: متابعة لفصول مترجمة من كتابه (عطور الصبا في سناط) 2-3  (زيارة 1611 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل الأب نويل فرمان السناطي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 169
    • مشاهدة الملف الشخصي
البروفسور الراحل افرام يوسف
متابعة لفصول مترجمة من كتابه (عطور الصبا في سناط) 2-3
 
ترجمة الأب نويل فرمان  السناطي
______________________
 
مقالات نشرت في جريدة الأديب البغدادية (2004)
 
في هذا الجزء الثاني عن البروفسور الراحل افرام يوسف، فصلان لاحقان (الرابع والخامس) من الفصول التي سبق وأن ترجمتها لجريدة الأديب البغدادية، فنشرتها لحين توقفها عن الصدور.
ويتزامن الأن نشر هذين الفصلين، مع غداة تشييعه، المناسبة التي يلتئم فيها الأقارب والأصدقاء المحبون للمشاركة بمشاعر العزاء والمحبة، واسترجاع الذكريات المشتركة مع الفقيد. ولما كانت مثل هذه المجالس لا تخلو من الظل الخفيف، خصوصا في زمن أحد ظرفاء سناط، المرحوم مرقس وردا، يستحثـونّه لبثّ البسمة وإشاعة سلام القلب، هكذا بنفس النسق، نجد الظل الخفيف لمن يعتبر عند روّاد مجلس العزاء، الاخ والصديق وابن العم والمعلم ورفيق الدرب، إذ تبثـّنا روحه في هذه المناسبة، ما كتبه في الفصلين أدناه من كتابه بالفرنسي (Parfums d'enfance à Sanat عطور الصبا في سناط)، عن طرائف طفولته (4) وعن أولى فرحاته (5). وأترك القارئ الكريم مع نفحات مما كتبه الغائب الحاضر د. أفرام الراقد تحت جفون الذاكرة، وبرعاية العناية الربانية.

الفصل الرابع
طرائف طفولتي
_________________

تعود إليّ  سنوات طفولتي الأولى لتقودني من يدي إلى جبال كردستان، ما بين ذويّ وأقاربي. وذلك، في يوم من الأيام، وكنت بين الثالثة او الرابعة من العمر، عندما اشتد نقاش حارٍ داخل العائلة، والتفتت إلى أن ثمة قلقًا كبيرًا، بدون أن يتهيأ لي أن أحزر ما هو السبب.
بقي والديّ في حيرة أمام أمر عليهما أن يحسمانه. وأخيرًا وبعد المزيد من التداول، توصلا إلى القرار بالتحرّك الفوري.
في الواقع، كانت تدور وشوشات، منذ أسابيع.
-      هناك قراصنة قادمون من تركيا لخطف بغالنا وغنمنا وحميرنا.
ما هو الدفاع الذي ينبغي القيام به؟ كانت العائلة تسكن في الطابق الأول من البيت.
في الطابق الأرضي، كان يقيم البغل كيندو والثور بزو، وفي حجرة أخرى من الطابق عينه  كانت تسكن معزاتنا. ولم نكن بعد قد اقتنينا البغل فيردو (الذي تحدثت عن في فصل سابق). هكذا كنا مثل أنكيدو في ملحمة كلكامش نعيش برفقة الحيوانات.
-      وكان لا بد من انقاذ الحمار، إذ يشكل ثروة ثمينة لنا. فقررنا أن نستضيفه في طابقنا الأول، ليقيم فيما بيننا.
فكانت لنا، فوق، غرفة معيشة وغرفة نوم حيث كنا نضع حوائجنا، إلى جانب حجرة  فارغة كنا نودع فيها الخضراوات ومؤونة الشتاء.
ولم أزل أتذكر والداي والقلق يخيم على وجهيهما، وهما يتساءلان:
-      كيف يا ترى سنستطيع أن نجعل الحمار يصعد إلى هذا الطابق.
وعندما حلّ المساء، سعينا لأن نجعله يصعد درجات الطابق. فرفض التقدم خطوة. عرضنا له طعاما دسما. وفي الآخر، حسم أمره، وإذا به يقفز من درجة إلى أخرى، حتى وصل إلى فوق، اجتاز غرفة المعيشة، ثم غرفة النوم حتى وصل إلى غرفة المؤونة التي كانت قد أفرغت من المواد.
وكم كانت سعادتي وأنا لي مثل هذا الجار. وجعلت أشيد بثوبه ذي اللون الترابي. ورأيت أننا مزمعون ان نغدو صديقين.
ولكن في فجر اليوم التالي، جاء صوت جعلني اقفز من السرير: نهيق الحمار الجائع. فهم لم يكن يتردد إذن من إيقاظي. فهرعت أمي إلى إطعامه ليسكت ويدعني أنام.
وطوال ذلك الشتاء، كان علينا أن نكرر هذا المشهد الطريف ونتحمل في كل صباح نهيق كيندو.
كان والداي، من جهتهما راضيين لكونهما أنقذا الحمار.
وكانت لنا معزة، تدعى بالي، وأكثر من خمسين جديا.
في نهاية الخريف، كان قطيع العائلة يرعى بسلام تحت حراسة راعيين شجاعين، أخذا على عاتقهما الاهتمام بغنم المنطقة.
كان الجبل جميلا، في هذا الصيف، وكانت المعزات تدر الحليب الوفير. وإذا بمجموعة ذئاب تهاجم القطيع، فتمزق حوالي 15 من الحيوانات.
وعبثا حاول الراعيان الدفاع بالهراوات، إذ كانت الذئاب كثيرة وشرسة. فجاء أحدهما نحو القرية وهو ينادي بصوت عالٍ
-      النجدة، النجدة.  فتسلح المزارعون ببنادقهم لكي يقضوا على الذئاب وينقذوا الخراف.
وحال وصولهم إلى موقع الحادثة، جمعوا حوالي ثلاثين من الغنم والماعز بين ميتة وجريحة، وبضمنها معزتنا بالي المجروحة جروحا بالغا.
وذهبت كل عائلة لتستعيد غنمها. فأخذ والدي المعزة (بالي) إلى البيت، ولكنه عرف أنها موشكة على الموت لا محالة. فلم يكن منه إلا ذبحها، فتوفّر لنا قدر من اللحم لبضعة أيام.
كنا سعداء في ذلك المساء، برغم نحس الحالة التي أصابت الغنم، بأن نتذوق شواء لحم الماعز. فهيأ والدي "اشياش تكة" تفوح منها رائحة الشواء المكتمل. 
لكن الجدة أجهشت في البكاء.
-      ما لك تبكين؟
-      أبكي على موت المعزة التي كنت أحبها كثيرًا. لن أستطيع البتة هضم  لحمها. كلا، كلا، لن آكل منها. يحرم عليّ أكلها.
عبثًا حاولنا كل السبل لإقناع الجدة، إذ رفضت بإصرار أن تتناول لحم حيوانها المحبّب، إذ كانت ترتبط معها بعاطفة طيبة.
وبقيت طوال السهرة تعطينا الأذن "الطرشة"، بينما كنا نستسيغ ذلك الشواء، بملء شهيتنا.

سنة ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين. عبير خاص من هذه السنة يعطر فكري وذاكرتي.
كان أبي ينتج لنفسه خمره الأحمر (حوالي عشرين لترًا).
كان يملك كرما يدر له العنب بسخاء مما كان يفيض عن حاجتنا.
ففي إحدى الأمسيات طلب مني أن أجلب طاسة خمر يشربها مع بضع أصدقاء.
كنت ألحظ ان متناولي هذا الشراب، سرعان ما يغدون مرحين، غريبي الأطوار وغير واعين. أما أنا فما كنت قد ذقت طعم الخمر.
ذهبت إذن لأغرف الخمرة من بتلك الطاسة الكبيرة، من الجرّة وكان فيها ما يقل عن اللتر.
فراودتني تجربة أن أتناول من الشراب للمرة الأولى. فشربت جرعة، ثم أخرى، أعجبتني نكهته ولئن كانت ممزوجة ببعض المرارة.
وعندما عدت إلى الوالد بالخمر، وكنت قد شربت منه جزءًا لا بأس به.
-      لما لم تملأ الطاسة؟
ترددت  في الإجابة، ولمح يوسف اضطراب عينيّ وتثاقل رأسي، فسألني:
-      ماذا فعلت؟ فتمتت:
- لا أعرف. فألح في السؤال:
- هل شربت شيئا من الخمر؟ فاعترفت له:
- أجل ذقته.
وبدأ رأسي يدور، وجاءت أمي لتأخذني إلى السرير وأمرتني أن أنام. كانت الساعة العاشرة ليلا. فاستغرقت في نوم عميق...
في اليوم التالي، استيقظت منتعشا، نشطا برغم هذه الخبرة الأولى. لقد كنت قد خلطت بين هذا السائل الأحمر وبين ما كنت أشربه من حليب وماء، تعوّدت على ارتشافه بدون أن يؤثر فيّ بشيء.


وجاءت طريفة أخرى لتفقدني توازني وتغرقني في في خضم واقع غير مألوف.
كنت قد تعوّدت على انتظار يوسف في عودته من زاخو.
وكنت أعرف على وجه التقريب، ساعة وصوله. وكان يتهيأ أني لست أترقّب والدي  بل هارون الرشيد المتنكر بثياب تاجر.
فكنت أحتل مكانا في مدخل القرية لأستقبله بما يليق من حفاوة. وكان الوالد سعيدا جدا برؤية ابنه القادم لاستقباله ويُنسيه تعب الرحلة ومخاطرها.
فلا يكف في غمرة فرحه يعانقني ويهدهدني على كتفه، أو يحملني على ظهر دابته، على هذا النحو كنا نقطع بضعة الأمتار التي تفصلنا عن البيت، حيث كان يقدّم لي عندئذ، الحلوى والملابس القشيبة.
وفي إحدى المناسبات المماثلة، وعندما كان أبي يحملني إلى الدار، بقيت أنتظر بفارغ الصبر مفاجأة الرحلة، سواء كانت من الحلوى أو النستلة أو أي ملبس.
ويا لخيبة الأمل، لم يكن لوالدي أي شيء لي. بقيت تحت هول الصدمة. ثم هجمت على "يشماغه" (غطاء رأسه) الكردي الملفوف، ورميته أرضًا.
فهم الوالد رد فعلي العنيف. ومنذئذ، كنت كل مرة ينسى فيها الوالد أن يجلب لي شيئا، انتقم من غطاء رأسه الملفوف كقبعة، فأحلها وأرميها ارضًا.
وتبنّى أخي هذه العادة أيضًا وبقي يثور بالطريقة عينها، عندما يعود الوالد فارغ اليدين.
...
تلك المرحلة من العمر بقيت تحفظ لي ذكريات أخرى.
كنت آنذاك صبيا صغيرًا جدًا، عندما ربت وارينة غنمة كـ "ربيطة" للشتاء. ذبحها يوسف، ثم دعا أصدقاءنا ليحتفلوا معنا في هذه المناسبة.
وعندما طبخت اللحوم وضعتها في جرار كبيرة مركونة في الحجرة الداخلية لرطوبتها المناسبة. بعد أيام خرجت الوالدة من تلك الحجرة، وأعلنت أن لحم "القليا" كاد أن ينفد.
من هو يا ترى الذي التهم كل تلك الكمية من اللحم؟ كان الوالدان حائرين قلقين، ينبشان في رأسهما. وخلصا إلى أن السارق، لا يمكن أن يكون إلا القط. وانه استمكن مكان اللحم من رائحته الشهية. فقرر والدي ووالدتي ومعهما الجدة أن يحسما الأمر بسرعة.
من أين كان يأتي هذا الحيوان؟ فكلفوني أن أنصب الكمين لمقدمه. أكان سيمرّ من تحت الباب ام من غرفة الاستقبال: ومنذ الساعة الثامنة، كانت كل العائلة في حالة إنذار مترقبة "البزّون"، كل واحد منا في موقع مراقبته.
حوالي الساعة العاشرة رأيت هرًا كبيرًا أسود يعبر من فجوة في حائط غرفة الاستقبال.
فصرختُ إلى والدي: ها هو الهر.
فأخذ الوالد العصا. أما الهر فاندس إلى الحجرة إياها، وهناك رطب منخريه برائحة اللحم الطيب، تركناه يقترب إلى الجرّة، وتقدّم والدي على رؤوس الأصابع…
فأحس الهر أن أمره قد افتضح. فأخذه الرعب، والقى بنفسه في وجه الوالد الذي وجّه إليه ضربة عصا. فانحرفت العصا إلى الجرة، فانسكبت قطع اللحم على الأرض. كان الباب محجوزا بحراسة أمي وجدّتي، فلم يكن بوسع الحيوان الهروب، وأخذت نار الغضب تقدح من والدي الذي وجّه إلى الحيوان البائس ضربة ثانية فأرداه قتيلا.
كل هذه الضجة، أثارت شكوك الجيران وتساؤلاتهم إزاء هذه الجلبة وهذه الأصوات، متسائلين بقلق:
ترى هل طرأ حادث ما؟
فقرروا المجيء للاستفسار عما جرى. كل ما حسبوه، أن والدي أخذته نوبة غضب لسبب ما، وانهال على أمي ضربًا. لكنهم وجدوا هذه الأخيرة جالسة على العتبة تضحك. فطمأنهم الوالد أنه لم يحدث شيء. وأقفلوا راجعين بدون أن يفهموا من الموقف شيئًا.

مغامرة أخرى عجيبة تؤشر لي في الذاكرة من بعيد.
كان أبي قد اعتاد على زراعة التبغ في بستانه، مما كان يوفر عليه شراء علب السجائر.
كانت الأرض مرتوية من الماء، وجيدة الفلاحة، وكان التبغ ينمو ويرتفع، ومن نوعية جيدة. ولكن في ذلك الوقت، كان الناس يحتاجون إلى موافقة رسمية، خاصة بالمزارعين الذين كانوا ينتجون هذه المزروعات لمختلف معامل التبغ.
وإذا بالخبر يتسرب في القرية أن مفتشا حكوميا كان في طريقه إلى سناط. فإذا كان سيكتشف نباتات التبغ، كان سيفتح لا محالة تحقيقًا ضد المزارعين الذين يتجاوزون القانون.
كان الوقت حوالي الساعة الخامسة عصرًا، وكان سكان القرية من شدة المفاجأة في حيرة من أمرهم، فلا يعرفون ماذا يفعلون. وكان أبي غائبًا، وجميعنا، أمي وجدتي وأنا، نعاين الجيران يتراكضون إلى حقولهم ليقتلعوا     نباتات التبغ.
عندئذ قررت وارينة أن نمضي نحن أيضًا لنقتلع شتلاتنا، تحاشيًا للغرامة الضخمة. وبيديّ الصغيرتين طفقت أقلع النبتات الأصغر.
وكنا نراقب الغرباء القادمين شيئا فشيئا نحو القرية، والمفتش ممتطيا حصانه مع ثلاث حراس يرتدون الملابس المدنية.
واذا بالخبر الجديد يطير بسرعة، مفاده أن ذلك لم يكن مفتشًا حكوميًا بل إنه الخوري بيكوما. كان قادما من زاخو لزيارة سناط وتفقد المؤمنين. وما كان أعضاء جماعتنا قد رأوا من قبل كاهنًا بلباس مدني، فكيف لهم ان يتصوروا بأن هذا الفارس هو قسيس. فكان الجميع مخذولين: الخوري إذ علم بأنه تسبب بمثل هذا الرعب والمأساة، والقرويون لأنهم فقدوا تبغهم.
وعندما جاء أبي، عائدًا من مهمته، عرف أننا اقتلعنا التبغ بدون استشارته، فركبه غضب عارم. ورفض اللقاء بالخوري المسكين (المقيم حاليا في أمريكا) لتسببه بمثل هذه الاضطرابات في العوائل.

أما نكتة سرقة الخيار، فقد تركت عندي ذكرى أليمة.
كان أهلي، يزرعون، منذ سنوات، الخيار في بستان آخر لهم يقع بقرب القرية.
وكانوا في كل موسم، يزرعون مختلف الخضراوات، فيما كانوا يخصصون المساحة الأوسع للخيار.
في إحدى السنوات حرث يوسف الأرض وزرعها، بانتظار موسم القطاف. وكانت الخضراوات تنمو بانتظام، وأخيرًا حل وقت الجني. بكرت مع والدي لأخذ الفاكهة، واقضم بملء أسناني أجسادها الغضة.
وعندما وصلنا إلى المكان، وجدنا الخيار بين مسروق ومدمر من قبل صعاليك القرية.  فكانت ردة فعل يوسف قوية، وهو يقتلع المتبقي من الشتلات.
...
وصول الراديو إلى القرية كان حدثًا بحق. عمي حنا كاكو، ذاك الأسمر، الضخم والشجاع والحكيم، كان قد انتخب مختارًا.
وفي سفرة له إلى مدينة الموصل عام 1949، قرر شراء جهاز راديو، جاء به إلى القرية، فوضعه في مكان مناسب في البيت، بعد أن ثبت "الأريل الهوائي" وبعد أن غذّى الجهاز بالبطاريات. وكنا نحن جيرانه.
في مساء أحد الايام، لحظت جمهرة من الرجال والنسوة، تجمعوا عند منـزل عمي، وكنت أصغر من أن أفقه لماذا كل هذا الجمع من الناس يحيطون بأحد أقاربي.
ففكرت بشيء من الحزن أنه ربما طرأ حادث جسيم على الأسرة. فهرعت لأرى ما الذي يحدث. وهيأت لي قامتي الصغيرة أن أندسّ بقرب عمي. فكم كان ذهولي عندما رأيت بقربه صندوقا يتكلم. لا بد وان الصندوق يضم جنّيًا. ولكن أيّ نوع من الجن. هذا هو السرّ الذي شغلني لمدة طويلة.

الفصل الخامس
فرحات أولى
___________________

ترتبط أفراحي الحقيقية بسني طفولتي. هكذا لم يلبث الطفل الرضيع، أن يستيقظ وعيه على ابتسامة أم وأب، وعلى التفاتاتهما الرقيقة.
لله درّه، بأي حماس ينفتح الطفل إلى الحياة والسعادة.
ويرتعش كيانه من النشوة، حتى أنه طوال حياته لا ينفك يسترجع انبهار السنوات الأولى.
ولم أزل احفظ بتأثر ذكرى تلك السعادات البالغة.
مثل أي صبي كانت تشدّني تلك الألعاب التي كنت أرتمي فيها أتحرك وأركض وأعيش ملء أيامي في جو من الحرية.
كان لنا عدة أنواع من المصاريع، نجعلها تدور في حركاتها الدائرية الجميلة، فوق السطوح وفي البساتين المتاخمة.
وكان اللعب يقتضي أن تضرب بما تملك من قوة على مصراع صاحبك في اللعب، والأخف من تلك المصاريع كان ينفلق من شدة الضربة. وهكذا كانت عدوانيتنا تتجلى في تدمير لعباتنا.
كما كانت لعبة الدعابل تحتلّ مساحة كبيرة في حياة صبيان القرية. وعندما كان أبي يذهب إلى المدينة، كان يجلب لي منها بألوان وأشكال متنوعة، ألعب بها مع الأصدقاء. فنرمي مع بعض تلك الدعابل الصغيرة بأشكال الكريستال، الواحدة ضد الأخرى، لنكسرها أو نغنمها.
وكانت للقرية لعبها الخاصة بها:. شاكا، اوبيل كبي وكيلاتا. كنت ارتمي فيها من كل قلبي. لكن ذلك كان يثير الشغب في الأسرة، إذ كنت أتأخر على موعد اقتسام وجبة العشاء مع الأهل.

وها أراني استسلم إلى سحر تلك الذكريات السعيدة.
فهذا أول غداء اقتسمته مع والدي، وبأي فرحة غامرة. إذ في قلب تلك الجبال في شمال العراق، كان الرجال، منذ أجيال سحيقة، يأكلون الطعام فيما بينهم. فكانت هناك خدمتان للوجبة الواحدة: الأولى، لرب العائلة، عميد الأسرة، تجري في أجواء الوجاهة والاحترام. الثانية، وجبة النساء والصبيان، تميّزها البساطة والتلقائية. وكنت منذ زمن انتظر بشوق فرصة تناول الطعام مع أبي. اذ كنت قد ضقت ذرعًا بالأكل مع النسوة.
في مساء أحد الأيام، ربما كنت ما بين الخامسة أو السادسة من العمر، قررت الأسرة أني من الآن فصاعدا، سوف أشارك في المائدة الرئيسية الأولى. وكان لي في المائدة، ماعون وقدح وملعقة معدنية مزخرفة ومطلية بالقلاي. وكان يفرش كل هذا على بساط ذا حياكة ملونة بألوان صارخة، وكانت توضع خلف الجالسين وسادات يتكئون عليها. وهابت بي الأم أن أكون متهيئا.
- لماذا؟ سألتها.
- لماذا؟ لأنك ستتناول الطعام مع والدك.
- يا للسعادة!
وبالفعل، دعاني يوسف حال دخوله الحجرة التي كانت دائما قليلة الضوء.
- يا ابني، من الآن فصاعدا، ستشاركني الغداء. ها قد اصبحت صبيا كبيرا، وبامكانك أن تمسك الملعقة بيدك، وان تبتلع اللقمة بشكل مناسب، إذن سوف تأكل معي.
كانت السعادة تغمرني، إذ أخذت على وفق تقاليد القرية، أجلس القرفصاء على الأرض، بجانب بابا، وأمامنا الطبق النحاسي الكبير، فكان لغذائي الأول معه مذاقًا طيبا بنحو خاص.
وإذا كنت في ذلك المساء، على تلك الدرجة من السعادة، فذلك لشعوري بأني أعبر عتبة لأدخل إلى عالم الرجال.
...
وهذه قصة أخرى، قصة قصب السكر، التي لم تزل تسحرني في سن النضج.
في أحد الأيام، خرجت كعادتي لاستقبال والدي العائد من زاخو. كنت أعرف وقت عودته. رأيته من بعيد، وعليه أمارات التعب، يسبقه الحمار وعلى ظهره حمولة المواد.
وما أن لمحني يوسف حتى هرع اليّ ليعانقني. كنت انتبه اليه بنوع من القلق، وكلي تساؤل، ما عساها تكون طبيعة الهدية التي جلبها لي.
ويا للمفاجأة السارة. هذه المرة أيضًا لم يخب أملي. فتح أبي الكيس الكبير الجاثم على ظهر الحمار، وأخرج منه قصبة يقارب طولها المتر: انها قصبة سكر.
عاينتها وأنا أعتقد أنها من الخشب الملون.  وما أن أمسكت بها حتى تبين لي أنها ليست كذلك.
- احترس فهذه القصبة قد تنكسر بسهولة، نبهني بابا، فهي من السكر.
تذوقتها للحال. فتولتني فرحة رقص لها قلبي، إذ كنت في ذلك اليوم قد تلقيت هديتين: قطعة حلوى، وقصبة سكر! التفت إلى أبي فقبّلته بحرارة. واستأنفنا الطريق إلى البيت. وما ان دخلنا الدار حتى ارتميت في أحضان أمي.
- ما أروع بابا، لقد جلب لي قصبة.
- قصبة! ولكن ما عساك تعمل بقصبة وانت في سنك هذه؟ فأجبت:
- ليست قصبة من خشب، بل من سكر.
لم تصدقني أمي. مد لها يوسف القصبة، فأذعنت.
أما أنا فبقيت اسبح في بحبوحة من السعادة، وكان الأهل أيضًا سعداء بفرحتي.
...
في عصر أحد الأيام، عندما رجع أبي من زاخو كعادته، أهداني زوج أحذية من البلاستك اللماع. وقال لي: بنبرة راضية: "وهكذا يا ابني لن يصيبك البرد". التمعت عيناي من البهجة، وأنا أعاين الحذاء. وتبين لي كيف أنه يختلف عن الحذاء الجلدي، وكأنه معمول بالحياكة على مادة طرية.
هذه أحذية لا ينفد فيها الماء، فلا يؤثر فيها المطر، كباقي الأحذية. وعندما تمشي في الثلج تبقى قدماك ناشفة، هكذا شرح لي الوالد.
ولما كنا في فصل الشتاء، كنت فرحا جدا. فالمعروف أنه خلال الفصل القاسي،  كانت قريتنا معلقة على ارتفاع 1900 متر، فكنا نعيش تحت الثلوج الساقطة بلا انقطاع طوال اشهر، وكانت الثلوج تغطي الأزقة والطرقات.
وعندما كنا نلبس الحذاء الجلدي، كنا نعود إلى البيت والقدمان مبللتان. وهكذا بفضل حذاء البلاستك، سوف يتيسر أن ألهو ما شئت مع الأقران، وتبقى القدمان في الدفء.
...
 وفي مساء آخر جلب لنا الوالد من البلدة، مصباحًا نفطيًا. احاط به جميع أفراد الأسرة،  وكلهم فضول ونشوة. حاول أن يشرح لنا كيف يشتغل. كنت في البداية، غير مصدّق، فأنظر إليه بعينين حائرتين وكلي تساؤل، كيف يملأ هذا المصباح حتى يضيء. لعله مصباح علاء الدين السحري.
أجل كانت مفاجأتنا كبيرة ونحن نرى نورًا وضاءً يغمر الحجرة. وبقيت مسحورًا امام هذا المصباح في البيت. لقد كان حدثًا مهما دفعنا إلى عتبة جديدة من العصر الحديث.
كان النور بخطوات راقصة يدخل بيتنا. ففي القرية، ومنذ زمن سحيق، بقي الناس يستنيرون بمصابيح زيتية صغيرة او بشمعة أو خيط شمعي (من الفنود)، كلها كانت وسائل غير عملية وقليلة الفاعلية. هكذا فإن هذه المادة الجديدة التي اشتراها الوالد، غمرتني بالفرح.
...
وها إني أراني اغوص في حكايات طفولتي مثل سباح خجول.
مع ابن عمي ميخائيل، قررنا، للضحك، أن نعدّ أحد المقالب. كانت زخّات من الثلوج تنهمر على القرية. وكان السناطيون يكنسون الثلج منها ويدفعونه إلى  الأزقة حيث كانت تتراكم يومًا بعد يوم حتى تصل أحيانا إلى ارتفاع ثلاثة أو أربعة أمتار.
وكان بيتنا يشرف على الزقاق الرئيسي المؤدي إلى الكنيسة والى خارج القرية. فأخذنا، أنا وابن عمي،  نحفر حفرة في ركام الثلج. فتكوّن هناك ثقب كبير في منتصف الزقاق، على طريق الناس، سرعان ما غطيناه بطبقة خفيفة للتمويه.
بعد أن أنهينا العمل، وقفنا جانبًا، لنرصد المارة. كان الوقت الرابعة عصرا حيث كان المؤمنون يتهيأون كي يتوجهوا إلى الكنيسة.
أما نحن، الملعونان الصغيران، فبقينا ننتظر، وعيوننا متيقضة شاخصة إلى ما سيحدث.
فمر شخص مسن، ووضع رجله على تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تغطي الحفرة الثلجية التي سرعان ما سقط فيها حتى عنقه.
أخذ الرجل يصرخ، ويشتم صانعي هذه الحركة الخبيثة...
أما نحن فكنا على بعد عشرة أمتار، نبتهج من نجاح الكمين الذي نصبناه. واستغرقنا في الضحك حتى فضحتنا ضحكاتنا. كان الضحية، أحد الأعمام البعيدين في صلة القرابة. وفي ذلك المساء عينه، نلنا قسطا وافرا من القصاص. وبقيت مع ابن عمي، أحفظ ذكرى هذه المغامرة.
...
واستذكر حماقة طفولية أخرى. أليس في ذلك، علامة حيوية، أن يقوم المرء في صباه ببعض الحماقات!
كانت تسكن بقربنا مع عائلتها، امرأة شديدة بنحو خاص. ما كانت تسمح لنا أن نتنقل باللعب إلى سطحها، الذي ما كان يفصلنا عنه شيء. كانت تطردنا بصياحات كبيرة. فقررنا الانتقام.
وها نحن، في اليوم التالي، فوق السطح إياه حيث كانت فيه كوة بمثابة شباك صغير. وسرعان ما بدا لي ابن عمي، وكأن ثمة شيء ما يلهمه:
- سوف نبول من الفتحة إلى البيت.
- فكرة رائعة! أجبته.
فاتخذنا الوضع ونفذنا... وما كان يمكننا أن نحزر أن تحت تلك الكوة، التي كانت نهاية مدخنة، قدر طعام يطبخ لوجبة الغداء. وهكذا سقط البول في القدر وهو يغلي على النار. ومن المفارقة ان المرأة كانت بقربه، وانتبهت إلى هذا السيل الذي انهمر على قدر طعامها.
ولم نكد ننته من فعلتنا، حتى تصاعد إلينا صراخ معبأ بالشتائم والسباب. وخرجت علينا كتلة بشرية هائجة مسلحة بعصا.
هربنا، كل إلى ناحية. وصعدت من جانبي إلى المنزل. دخلت وأنا أركض. فسألتني والدتي:
- ما الذي جرى؟ هل هناك حادث ما؟
تلعثمت في الإجابة وقلت:
- كلا، كلا. واندفعت إلى الحجرة الداخلية الصغيرة التي كان لنا فيها، إناء كبير مكون من الأغصان المشبوكة. نضعه فوق الأطعمة لحمايتها من الذباب والحشرات، فاختبأت تحته، إذ كان ملجأ الصبية عندما تتهددهم عقوبة.
وسرعان ما دخلت الجارة إلينا، وقد فقدت صوابها من الغضب.
- ما الأمر؟ لماذا تنهرين ابني وتوبخينه؟ سألتها وارينة.
- ابنك وابن عمه، ارتكبا حماقة! اجابتها المرأة وكأنها تزأر في وجه أمي  كلبوة الأسد. إنهما صعلوكان.
وحكت لوالدتي، كيف قمنا بالبول من شباك المدفأة، وكيف أفسدنا لها طعام الغداء.
وعدتها والدتي، لكي تهدئ من روعها، بأنها سوف تقاصصنا.
وبعد مغادرتها، جاءت أمي وكشفت عني في مخبأي.
- أيها الملعون الصغير، ما الذي جاء في خيالكما أنت وابن عمك؟
- أجل نحن بلنا، ولكن ما كنا نعرف أين سيسقط بولنا.
الواقع اني تسلمت بضع صفعات من وارينة. لكني احسست بالرضا لكوننا انتقمنا، برغم من بعض الحزن على ما سببناه من  حرج لأهلنا.
***
لم يكن لديّ بعد، لا أخ ولا أخت. في مساء صيف، كنت عائدًا من البستان بصحبة يوسف، عندما خرجت كترو على عتبة الدار، لتبشرنا بخبر سار للغاية.
- لديك شقيق صغير، قالت لي، اسمه بريخا. وستلعب معه قريبًا.
توجه الوالد بفرح جنوني إلى الحجرة التي كانت ترتاح فيها وارينة ورضيعها.
دلفتُ وراءه فرأيت ماما متمددة… لماذا هي باقية هكذا في السرير، خلافا لعاداتها، ووجهها شاحب؟ ونظرت إلى  المولود الجديد، وهو يغفو في مهدي، رأيته جميلا بشعره الأسود. كان ذلك قد أثلج صدري فرحًا.