المحرر موضوع: عفيف حنا القس بقلم آرا سوفاليان  (زيارة 690 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Sound of Soul

  • الاداري الذهبي
  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 13100
  • الجنس: أنثى
  • اردت العيش كما تريد نفسي فعاشت نفسي كما يريد زماني
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • http://www.ankawa.com/forum/index.php/board,53.0.html







عفيف حنا القس بقلم آرا  سوفاليان




كل إنسان مقومات تلازمه منذ صرخة الحياة، وهي بديهية وتتجلى في الاسم وهو من اختيار الوالدين أحدهما أو كلاهما، والنسبة وهي اسم الشهرة أو الكنية، واسم الوالد واسم الوالدة.

 

وينشئ قيد للمولود وتمهر فيه هذه المعلومات وترافقه ويرافقها ويطلق عليه الخانة وتأخذ الخانة رقم و يتوضح تحته اسم المحلّة، وهناك قيد مماثل في الكنيسة التي يعود إليها صاحب القيد ويتم القيد بعد المعمودية واختيار العرّاب ويأخذ المعمد اسم أحد القديسين، ويكبر ويتزوج فيسجل زواجه في القيد الحكومي وفي سجل الكنيسة، وهكذا دواليك عندما ينجب حيث يتم تسجيل أولاده لينسبوا إليه، ويتم تعميدهم ويتزوجوا، ويكبر الأب ويشيخ وينتظر  حتى يقدر الله ما يشاء فيتم ترقين القيد بعد الوفاة، وتستمر الحياة على نفس الوتيرة.

 

ولكن ماذا سيحدث لو أنه تم نسف المعطيات أعلاه ... ستحدث كارثة لا تبقي ولا تنذر وستحدث معاناة هائلة لن تتوقف إلاّ بعد أن ينهال التراب على نعش حامل المأساة وتنتهي بذلك هذه القصة لتبدأ بوقع أقل وطأة مع الأولاد والأحفاد.

 

ماذا سيحدث لو أن اسمك عفيف واسمك ليس عفيف، واسم والدك حنا واسم والدك ليس حنا ونسبتك القس ونسبتك ليست القس واسم والدتك بهية الناشف واسم والدتك ليس بهية الناشف، وخالك شمعون الراهب أو أنه لا خال لك على الإطلاق، وأنك سريان أرثوذكس وأنت لست سريان أرثوذكس، ماذا سيحدث لو أن هذا اللغز  في جانبه الثاني حقيقة ساطعة كضوء الشمس ولا ريب فيها وأنت مرغم على تصديق الجانب الأول، ستتجاذبك تيارات من الأوهام والأماني والأحلام تفقدك الاتزان وتحولك إلى إنسان شقي لأنك ضحية لمخيلة عتاة المجرمين جماعة الاتحاد والترقي طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا السفاح وصمة العار على جبين الإنسانية.

 

فكيف حدث لعفيف حنا القس ما حدث وكيف يمكننا أن ننفي تهمة جماح المخيلة لكاتب هذه القصة وهو حفيد عفيف حنا القس لجهة والدته جانيت عفيف حنا القس الخوري، وهي تهمة تؤيدها المقدمة الهيروغليفية العصية على ابسط قواعد الفهم والعقل والمنطق؟؟؟.

 

تعتبر هذه القصة فصل صغير من الملحمة المسماة في ظلال الإبادة والملحمة هذه هي مادة أطروحة الدكتوراه في التاريخ قسم معاملة الاثنيات والأقليات القومية في الدولة العثمانية وهو مشروع بدأت فيه منذ العام 1982 وتعثر كثيراً بسبب ندرة المعلومات المتعلقة بالإبادة وتضاربها الهائل والتدقيق والتمحيص ورمي كل ما يتعلق بمجهودات سنين سابقة، لظهور حقائق لم تكن معروفة من قبل وبالتالي ضياع الوقت والجهد والعمل ... وليست هناك أية مشكلة لطالما أن العمل في أهدافه وغاياته يندرج تحت كل المسميات النبيلة وأهمها كشف الحقيقة وكشف الحقيقة هو صلاة جنائزية يتم فيها التضرع إلى الخالق ليتغمد ضحايا الإبادة الأرمنية بالرحمة ويلهم أرواحهم المعذبة، بأن تجد الاستقرار وترقد بسلام وتترك المحاسبة إلى الديان الأعظم خالق السماء والأرض وأن ينجّي أبناء هذا الشعب من تجربة مماثلة للتجربة السابقة عـــ1915ـــام والتي كادت تؤدي إلى انقراض هذا الشعب لولا لطف الله.

 

ولا بد من أن نسلك الطريق الآتي لنتوصل إلى حل لغز عفيف حنا القس ذلك اللغز الذي قضّ مضجع صاحبه طيلة السبعٌ وخمسون عاماً وهي فترة الاستضافة التي مكث فيها في هذه الدار الفانية.

 

ماردين قبل العام 1915

 

ماردين ... البلدة الوادعة، عروس بلاد الشام، الواقعة إلى شمال شرق سوريا (على الجانب التركي من الحدود السورية التركية الآن)  تتربع على قمة جبل ماردين حكمها العرب منذ الفتوحات وشهدت ازدهاراً واسعاً، تعلو المدينة قلعة ماردين وهي ماسة تشرف على المدينة من الأعلى، وسوقها يدل على عراقتها فلقد تم نحت حوانيتها في الصخر واشتهرت بهوائها العليل الذي يشفي من الأمراض الصدرية واعتبرت مصحاً لهذا النوع من الأمراض وماؤها عذب زلال يتفجر من أعالي الجبال نقي كمصادره ومصادره الثلج الذائب النقي.

 

ويحيط بالمدينة سور أثري قديم كان يسمى البدن، وفيه ثلاثة أبواب للدخول والخروج الأول باب صور والثاني باب المشكية والثالث باب الحديد أو باب نصيبين، ولباب نصيبين نوادر منها أن هناك حفرة صغيرة تحت الباب تيسر الدخول إلى المدينة والخروج منها للقادمين والمغادرين الذين وصلوا قبل أو بعد إغلاق الأبواب .

 

ويحكى أن هناك سيدة بدينة جداً اسمها ترزو أخذت زوادتها قاصدة بيت ابنها الذي تزوج من خارج ماردين وسكن وزوجته حيث تزوجا، هرباً من أمه القوية والمتسلطة والمغفّلة في آن معاً... ووصلت ترزو باكراً جداً إلى الباب لتضمن الوصول باكراً إلى منزل ابنها ولتضمن الاستغلال الأمثل للوقت الذي ستمضيه في إزعاج كنّتها  فكان الباب موصداً فنزلت من تحت الباب وعلقت  من جهة مؤخرتها، فما كان من شيخ كردي لا يعرف العربية إلاَّ أن قدم نصيحة للحضور تتجلى في كلمتين كرديتين هما على التوالي (بيجدسنا بيدبسينا) ومعناهما اضغطوا إلى الأسفل ادفعوا إلى الأمام ... ولم تنفع هذه النصيحة وظلت ترزو عالقة إلى أن جاء الحرس وافتضح أمرها وتم تحريرها لتتابع سفرتها المشهورة التي دعيت بسفرة ترزو.

 

وفي عهد السلاجقة كانت هناك جامعات في ماردين تعلم الفقه والحقوق والطب، وفي ماردين أديرة قديمة أهمها دير الزعفران ودير القديسة شمونة وكنيسة السيدة العذراء وكان أغلب سكانها من النصارى من السريان اليعاقبة والأرمن الكاثوليك وكانت هناك أقلية من الأكراد والأتراك.

 

يتصف أهل ماردين بالنقاء والطيبة وتتصف بنات ماردين بالشرف والطهر والعفاف قبل الزواج وبعده وكان مسيحيوا المنطقة ينصحون أبنائهم بالزواج من الماردلليات للأسباب التي سبق ذكرها ولأسباب أخرى أهمها غنى أهل ماردين.

 

ومن أجمل عادات أهل ماردين طرق الاحتفال بالأعراس وعادات الخطوبة والزواج وعادات الاحتفال برأس السنة وهو ما يعرف بالدام... والدام هو أب العيد أو ما يعرف بالببابانويل لدى الغرب، وهناك دام حقيقي ودام غير حقيقي، أما الحقيقي فهو من يمنح الهدايا للأطفال، والغير حقيقي غالباً ما يكون عابر طريق من الأكراد أو المشكوية، يأتي ويدخل عبر الباب بلا استئذان  ومعه ابنه ويطلق عليهما اسم الكردي و الكريدي و يرقص كلاهما ويعرضون بعض الألعاب ويحملون معهم ما لذ وطاب والبعض ينقدهم المال على سبيل المعايدة.

 

والدام الغير حقيقي يفتتح العرض بالطرق على الباب الخارجي لغرفة القاعة، وهي أكبر غرف البيت ويمكن الوصول إليها عبر الباب الرئيس للدار المردود رداً أيام الأعياد ثم ولوج الحوش والاتجاه إلى الأمام حتى نهايته.

 

وسرد العبارة (دامي دامي  كججيتو آخد دامي، وأن ما عطيتوني دامي تخلع الباب قددامي) وغالباً ما يحضر بعض الأقرباء أو الأصدقاء متنكرين لينالوا ما ينالونه من الأطعمة والهدايا والفاكهة والحلويات، في ليلة رأس السنة والثلوج تغلق الطرقات،يبدأ الاحتفال في المساء، إكراماً للأطفال خاصة وأن الأطفال ينامون باكراً وتفتتح طاولات للصغار وأخرى للكبار تحوي ما لذ وطاب من الطعام الخفيف وتجلب الخمور المعتقة من الأقبية ويبدأ الحفل بصلاة قصيرة، ليبدأ بعدها هرج ومرج الأطفال، ويأتي الدام الحقيقي وهو شيخ يرتدي ملابس حمراء ويحمل كيس الهدايا ويستند إلى عصا غليظة يجلس ثم ينفض حبات الثلج عن وجهه وذقنه وملابسه ويطلب من الأطفال أن يؤدوا له بعض الأغاني أو يلقون بعض القصائد في مقابل منحهم كل الهدايا التي أحضرها معه في الكيس، وهو غالباً الخال أو العم أو صهر العائلة الأصغر متنكراً بمساعدة النساء، يؤدي دوره بإتقان بعد أن يبدل صوته ويغادر إلى إحدى الغرف القريبة فيرتدي ملابسه التي جاء بها لحضور الحفل، ويستغني عن الذقن المستعارة والأشياء المشابهة ليعود إلى القاعة الرئيسية من جديد.

 

ويشارك كضيف عادي في الحديث والغناء والرقص.

 

ويجلس بعض الكبار لإظهار مهاراتهم وفنونهم فهناك من يصور صورة جمل باستعمال بعض الأعواد وحبات التمر والبندق وبعض الخيطان، وآخر يفرغ ثمرة برتقال ويحول قشرتها إلى بيت له باب ونوافذ ومدخنة ويضع فيه شمعة صغيرة ترسل ضوء سحرياً يأخذ بعقول الأطفال.

 

ويتم إحضار آنية الطعام الكبيرة من المطبخ و يكون الطبق الرئيسي غالباً خروف مكتف محشي بالرز والصنوبر يتوسط أواني المطبخ المارديني الشهية المترعة بما لذ وطاب من المشاوي و التشوقات والكبيبات والكبب بأنواعها  والمحاشي والكتل والقبراغايات والسندليلويات والشريدينات ومناسف الرز المجلل بالمكسرات وأهمها الفستق الحلبي والجوز واللوز وتسبح كلها بقطع اللحم الكبيرة والسمن العربي المبخّر، وفي منتصف الليل تتحول الموائد المجاورة لشجرة الميلاد الحقيقية وهي شجرة صنوبر تم قطعها وإحضارها من الأحراج ليصار إلى تزيينها بالشرائط الملونة بعد أن يتم تنصيبها فوق مغارة تحوي شخوص السيد المسيح المولود في مزود والى جواره أمه ومار يوسف البار والمجوس وبيدهم الهدايا، والخراف  والآتان والبقرة والكل يحيط بالمزود ، وفي أعلى الشجرة يتم تثبيت نجمة الصبح وهي النجمة التي أرشدت المجوس إلى المغارة.

 

تتحول إلى مصابيح سحرية ففوق كل صحن تنتصب شمعة ملونة مشتعلة ترشد إلى مكونات الصحن الذي تحتها، والصحون لا تُعدْ ويختلط فيها النقل بالمشموم ومن أطيب أنواع المكسرات كالفستق الحلبي والجوز واللوز والبندق والفستق العبيد وجوز الهند المحلّى والتين والمشمش المجففين والزبيب والأشلميش والبستيق والملبن،  والمربيات كمعقود زهر الورد ومعقود المشمش ومعقود الكبّاد ومعقود النانرج والحلويات وأهمها الغريبة بالقشطة والغريبة بالفستق والبرازق والكنافة الخشنة المصنوعة في صواني النحاس على شكل طبقتين تتوسطهما حشوة من الجوز البلدي المتبّلة بالسكر والقرفة وماء الزهر، والمعمول بأنواعه مزين بالنقوش ومجلل بدقيق السكر الناصع البياض وشراب التمر وشراب ماء الورد والقهوة العربية الأصيلة.

 

في منتصف الليل تطفئ الشموع ويعايد الحاضرين بعضهم بعضاً فالأب يقبل الأم والأم تقبل أولادها والجميع يقبلون الجد والجدة والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأولاد والأحفاد، ويتم استقبال العام الجديد بالأهازيج والغناء والفرح والهرج والمرج والرقص والدبكات وتبادل الهدايا والتمنيات بأن يديم الله هذه النعمة وهذه الأفراح وأن يحفظ البلد و العائلة من كل شر.

 

ولا يخلوا الموقف من نوادر وطرف تضيء تلك الليالي التي كانت وأصحابها تتمتع بخصوصية وجمالية رائعة وحياة هادئة وهانئة إلى أن حكم القضاء بما حكم فتهدمت اللذات وتفرقت الجماعات.

 

وفي عادات الزواج تكون عادة التعارف هي نقطة البداية ... حيث يعجب الشاب بالفتاة عن طريق الأخوات والخالات والعمّات الذين ييسرون فرصة التلاقي ويسمحون للشاب أن يتعرف على الفتاة ويراها عن قرب

يتلوها ربط الكلام

 

وهي عادة تعود في أصولها للأرمن ولأن الأرمن في ماردين كثر فلقد انسحبت هذه العادة على بعض أهل ماردين وخصوصاً إذا كان أحد المتحابين أرمنياً الشاب أو الفتاة، مع الإشارة إلى أن هناك وضع في ماردين فرض نفسه وهو بُعد الأرمن الموجودون في ماردين عن أقرانهم الأرمن الموجودون في الولايات الأخرى و طبيعة ماردين الجبلية واستقلالها وانعزالها، وهذا ما سبب ذوبان الأرمن في النسيج المحلي واضطرارهم للتحدث بالعربية، واضطرار بعضهم للتخلي عن كنياتهم الأرمنية واستبدالها بكنى عربية وأحياناً كردية لتضليل الجهة المُضطَهِدة، مما أدى ببعض الأُسر لهجر التحدث بالأرمنية إلاَّ في الحدود الدنيا فتحولوا إلى ماردلليين في التحدث والعادات والتقاليد وكان القسم الأكبر منهم من الكاثوليك مما اضطر الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية إلى إجراء تعديل على طقوس القداديس وتلاوتها في الكنائس فتم إدخال القداديس التي تتلى بالعربية إلى جانب الأرمنية، لأن الأمر وصل بالبعض إلى هجر الكنائس التي تقدم القداديس بالأرمنية، لأن هذا البعض يجلس دون أن يتمكن من المشاركة في القداس بسبب جهله باللغة التي يقدم القداس بها.

 

وهؤلاء جرت تسميتهم بالأرمن العرب وهي تسمية عجائبية تناسب وضع الناس المشار إليهم، وهم موجودون للآن، لم تعد لهم علاقة بأصلهم وقوميتهم إلاَّ من خلال مذهبهم في قيودهم حيث يكتب فلان أرمن كاثوليك وهو لا يعرف من الأرمنية أكثر من باريف Parev ومعناهاً مرحباً بالإضافة إلى تمسكهم ببعض العادات الأرمنية ومنها عادة ربط الكلام (الخوسكاب) في الخطوبة والزواج.

 

والخوسكاب هو حفلة مسائية يتم فيها التمهيد للخطبة ويقدم العريس فيها خاتم ثمين وثقيل ويجب أن تعلوه حجرة كريمة ملونة وهناك رمز يقابل كل لون  ويسعى العريس أن يكون الخاتم غالي الثمن، وتصر العروس على التمسك به مدى الحياة ولا تتخلى عنه، وتلبسه دوماً لتذكّر العريس بتعهداته بأن يسعى لتأمين حياة رغيدة وكريمة للعروس ولبيت الزوجية، ويؤدي قبول هذا الخاتم إلى إقرار ضمني من العروس وأهلها بأنه قد حدث ربط كلام (خوسك ـ كاب) وهو كلام شرف بأن تكون هذه الفتاة لهذا الشاب، وجرت العادة بأن تفاخر المرأة بخاتم خوسكابها مدى الحياة وتريه لأولادها ولكنائنها المستقبلين. ويكون حفل الخوسكاب عادياً يتم فيه تقديم ضيافة عادية، ويقتصر على أهل الخطيبين لا غير، ليعلن الخبر في اليوم التالي على الملأ.

 

الخطبة:

 

ويتم فيها فتح طاولة في دارة العروس يعزم والد العروس إليها أهل العريس ويحضرون بحسب تسلسل  رفعة الجاه والشأن والقيمة ويتم طلب البنت من يد والدها وعندما يتم الاتفاق تعلوا الزغاريد ويجلس الجميع إلى المائدة للاحتفال وتتم الخطبة بمعية رجل دين يستقدمه والد الخطيبة من الكنيسة التي تعود إليها أسرة الخطيب اعترافاً منه بكنيسة الخطيب ومذهبه وبتحول ابنته إلي هذا المذهب الملحق بخانة الخطيب، وقد يستقدم والد الفتاة كاهن أو كاهنين أو المطران ومعه بعض الكهنة، وعندها يتولى رجل الدين الأعلى رتبة إقامة صلاة الخطبة وتتم مباركة المحبسين الذهبيين ومصوغات ذهب الخطبة  ويشارك الجميع وقوفاً ويطلب رجل الدين من العريس أن يلبس العروس محبس الخطوبة، ومن العروس أن تفعل نفس الشيء، وتعلوا الزغاريد وتتولى والدة العريس تتمة مهمة تلبيس العروس بقية الهدايا الذهبية.

 

وتستمر الخطوبة فترة من الزمن تطول أو تقصر بتوافق الطرفين ويعتبر النكول من قبل العريس ذنباً لا يغتفر يؤدي إلى تحميله كل النفقات ويخسر هداياه وخوسكابه وكل ذهبه ليصبح حقاً مشروعاً للفتاة، وإذا نكلت العروس فعلى أهلها أن يعوضوا على الشاب ويعيدون إليه كل هداياه ... وقد يلجأ أهل العروس إلى المماطلة أو إلى وضع شروط تعجيزية مستجدة، وعند ذلك هناك حل استثنائي كان في ذلك الزمان يوصف على أنه حدث معيب وهو الخطيفة وهو معيب إن هو حدث باتفاق إرادتي الشاب والفتاة والإشبين والإشبينة، ولكنه يتحول إلى عمل مشروع وجليل إن هو تم بمعرفة أشقاء العروس الذكور بحيث يباشرون بإتمام هذا الزفاف بدءاً من خطف أختهم من دار أهلها وإيصالها بالحصان إلى حيث ينتظر عريسها ومصاحبة الإشبين والإشبينة والعروسين إلى الكنيسة التي ستتمم الزواج.

 

وكانت الخطيفة حدث نادر الوقوع يقطع المسار الطبيعي لمسيرة العرس ... فإن سارت الأمور بالشكل الطبيعي فإنه يتم بين الأهل تحديد يوم العرس فتتحدد ذاتياً ليلة الحنة.

 

ليلة الحنة في ماردين تبدأ منذ الصباح وتكون يوم السبت، حيث تتولى والدة العروس عزيمة كل نساء وأولاد عائلتي العروس والعريس فيجتمعوا في دار العروس وتدخل قريبة العروس وبيدها إناء الحنة لتحنن العروس في احتفال يدعى بالتحنية أو بالتخضيب في وسط الرقص بصواني الشمع والدبكات والأهازيج والزغاريد والزلاغيط نساء بنساء، والرجال في ساحة الدار وتنتهي التحنية أو التخضيب في الظهيرة ويقدم طعام الغذاء.

 

ويعود الناس للرقص والدبكات وتناول الفاكهة والحلوى والمربيات والعصائر ويقدم النقل والمشموم ومن أطيب أنواع المكسرات كالفستق الحلبي والجوز واللوز والتين والمشمش المجففين  ومعقود زهر الورد وشراب التمر وشراب ماء الورد والقهوة العربية الأصيلة.

 

ويفترق الناس في جماعتين وخلف فرسين الفرس الأولى وتحمل العروس بكامل زينتها وجدائل شعرها وكل جدلة تنتهي بقطعة ذهبية وخلفها كل النسوة ويتحول هذا الحدث إلى قصة تبقى في الذاكرة إن هو ترافق مع مظاهر البذخ ورمي القطع الذهبية باتجاه المعوزين والفقراء الذين يرافقون مثل هذه المواكب.

 

وحدثتني والدتي نقلاً عن أمها ماري حنا كعيب التي تحدثت عن أمها فريدة ملّوح زوجة حنا بوغوص بغا عندما كانت تذهب إلى الحمام فقالت أنه في الأيام العادية ومنذ فترة طويلة سابقة لزواجها عندما كانت بنت بيت وبعد زواجها أيضا ولفترة طويلة مشابهةً، كانت تذهب إلى الحمّام وهي تركب أصيلة بيضاء، وفي شعرها بطة صغيرة من الذهب الخالص وحولها ستة فراخ من جهة اليمين وستة من جهة اليسار ومعها مربياتها ومربيات أولادها ومرضعاتها ومرضعات أولادها وخدمها وحشمها فتخرج الناس لتتفرج على موكب فريدة ملّوح الطفلة ثم الشابة ثم المتزوجة وهي تذهب إلى الحمام.

 

والجماعة الثانية خلف الفرس الثانية التي تحمل العريس وخلفه كل أصدقاءه وناسه وأحبابه ورفاقه ... والجهة المقصودة هي حمامات الزنار وهي منطقة خارج السور وقريبة وتشتهر بمائها وجمالها وشجرها وينابيعها ... ويتم استئجار حمامين اثنين من قبل العريس واحد للعروس ومن معها من النسوة والآخر للعريس ومن معه وتسمع من جنبات الحمّام الأغاني الشعبية والرقصات والدبكات ودقّوا ملاي وشعر مغنى ونثر وأهازيج وتصل صواني العشاء إلى الحمّام ويغادر الموكبان الحمّام إلى دار أهل العروس والعروس على الفرس وشقيق العريس ممسك باللجام وهو الإشبين والعريس على فرسه وتتقدمهم المشاعل والمصابيح فيما يشبه العراضة ويلعب أصدقاء العريس بالسيف ويتبارزون ضمن قواعد اللعبة إلاّ في النهايات عندما يصفح المنتصر عن المنهزم كرمى لعينا العريس، وتنتهي المبارزة  فيشعلون النار في الساحة ويرقصون ويغنون ملاي :

 

وملاي هي سلسلة من النظم الشعري الشعبي المغنى ضمن وتيرة واحدة لتسهل المشاركة في الأداء من قبل جميع الحضور لأن النغمة هي نغمة واحدة ورتيبة وعلى نمط واحد، أما النظم الشعري الشعبي فهو مختلف وعفوي ويضاف إليه أبيات جديدة في كل مرة ، ويتولى المؤدي غناء البيت الأول ويردد خلفه المرددون نفس البيت مرة ثانية، أما الملاي الشهيرة فهي الآتية:

 

مالاي يو مالاي يو ماليّا يوماليّا

مالاي يو مالاي يو ماليّا يوماليّا

فتتو على الباب وأريتو صف صبايا قعود

فتتو على الباب وأريتو صف صبايا قعود

 

منن بنات البكر ومنن بنات البيوت

منن بنات البكر ومنن بنات البيوت

 

منن قالوا لي تعا ومنن قالو لي فوت

منن قالوا لي تعا ومنن قالو لي فوت

 

بقيتُ قايم كما راس الغنم مشدود

بقيتُ قايم كما راس الغنم مشدود

 

دخانُ قلبي طلعْ دي للسما عامود

دخانُ قلبي طلعْ دي للسما عامود

 

ليلة و ليلية يما ليّا يما ليّا

ليلة و ليلية يما ليّا يما ليّا

 

طلعتُ درجة و درجة تشتكي لله

طلعتُ درجة و درجة تشتكي لله

 

أرايتُ القمر متتكي وحولو نجوم الله

أرايتُ القمر متتكي وحولو نجوم الله

 

كل عقدة المشكلة هو رب السما تيحللا

كل عقدة المشكلة هو رب السما تيحللا

 

ليلة و ليلية يما ليّا يما ليّا

ليلة و ليلية يما ليّا يما ليّا

فتتُ على الباب وأريتُ تنقش الهندي

فتتُ على الباب وأريتُ تنقش الهندي

 

راس ابرتها من دهب وبريزها مال وردي

راس ابرتها من دهب وبريزها مال وردي

 

أدعي لرب السما ليلة غدي عندي

أدعي لرب السما ليلة غدي عندي

 

لفرش فراش الهنا و مخدتها زندي

لفرش فراش الهنا و مخدتها زندي

 

مالاي يو مالاي يو ماليّا يوماليّا

مالاي يو مالاي يو ماليّا يوماليّا

 

وكانت هناك أبيات جديدة، تضاف في كل مرة، فكان يتدخل شاب جديد أو فتاة جديدة يستلم أو تستلم الغناء عن المغني أو المغنية الذي تعثر أو التي تعثرت، بعد أن انتهى مخزونه أو مخزونها من الأبيات ذات الصلة.

 

فتبدأ دقوا مالاي وهي ملاي جديدة على نفس الوزن ورتابة اللحن ولكن بكلمات مختلفة، فيها بعض الهرج والتشويش لإخافة العروس وأهل العريس عن طريق اختلاق قصة كاذبة ... على أمل أن تؤدي إلى فتنه.

 

دقوا ملاي دقوا والناس فـ لزيارة والعريس هربلو عروس وأمه خبر ما لا

دقوا ملاي دقوا والناس فـ لزيارة والعريس هربلو عروس وأمه خبر ما لا

 

دقوا ملاي دقوا والناس فـ لزيارة والعريس هربلو عروس وضلاله خبر ما لا

دقوا ملاي دقوا والناس فـ لزيارة والعريس هربلو عروس وضلاله خبر ما لا

 

ويفشل مسعى الفتنة ويدرك الحاضرون أن الهدف هو إضفاء جو من المرح على الحفلة،  ويتوقف الجميع عن الغناء ويعلو الصياح والضحك والهرج والمرج وتعود الزلاغيط لتمزق سكون الليل وينشد الجميع أغنية الليلة هل ليلة.

 

الليلة هل ليلة وما أحلى هل ليلة

الليلة هل ليلة وما أحلى هل ليلة

 

وشميع ببيت العريس مو تنطفي الليلة

وشميع ببيت العريس مو تنطفي الليلة

 

لا نام الصايغ لا نام  لا نام فـ هل الليلة

لا نام الصايغ لا نام  لا نام فـ هل الليلة

 

يشتغل سوارة للعروس تا  تلبس الليلة

يشتغل سوارة للعروس تا  تلبس الليلة

 

وتنخفض الأصوات وتبقى الهمسات والتمنيات بأن يكون التمام على البركة والخير ويهنئ الضيوف أهل البيتين، وتنادي الأم على بناتها وأولادها، فيرتد الصدى ويختلط بحفيف الأشجار وشذى الورود وعبقها، ويجتمع أفراد الأسرة التي جاءت لتبارك، فتعود أدراجها من حيث أتت بصحبة أفرادها الذين أمضوا سهرة رائعة يتقدمهم رب الأسرة، تتلوها أسرة ثانية فثالثة حتى يفرغ المكان من الناس وتبقى الفرحة.

 

ويعود الموكب في صباح اليوم التالي وهو يوم الأحد فيأخذون العروس وأهلها إلى الكنيسة بعربة تجرها الخيل، وغالباً يكون العرس في فترة ما بعد القداس الصباحي، إلاَّ إذا تم اختيار توقيت العرس ساعة العصر، ويحضر العريس إلى باحة الكنيسة ويقف مع أهله لاستقبال العروس ويتم نهيه عن التقدم ناحية العروس عند وصولها ووالدها إليه إلاَّ في خطوة واحدة، فيخالف العريس هذا النهي بعدد من الخطى تزيد أو تنقص بما يتناسب مع حجم محبته لعروسه وانصياعه لأوامر أهله وينخزه أصدقائه بالإبر وعروسه تتأبط ذراعه أثناء الدخول إلى الكنيسة فلا يجرؤ على الاعتراض وتراه يخبئ في يده إبرة ينخز بها من يقترب منه تحسباً لنخزة غادرة بنخزة استباقية.

 

النقوط

 

بعد توقيع عقد الزواج من قبل العريس ثم العروس ثم الإشبين الشاهد ثم الإشبينة الشاهدة يقف العريس وعروسه وأهل العروسين كلٌ في الطرف الذي يخصه أمام الهيكل فتبدأ المباركة وتفتتحها والدة العريس التي تنقط العروس بالذهب وبعدها يتقدم الأقرباء الأقربون الأشقاء وزوجاتهم ثم العموم وأبناء العمومة وزوجاتهم ثم الأخوال وزوجاتهم  وأبناؤهم... وتتولى سيدة مهمة التعريف فتقول عم العريس السيد فلان وزوجته السيدة فلانة... وتتقدم زوجة عم العريس لتلبس العروس قطعة الذهب موضع الهدية.

 

وتأتي عائلة العروس ثانية فتنقط بدءاً من أم العروس والى نهاية العائلة.

 

وتجري استراحة صغيرة في صالون الكنيسة يبارك المطران فيها العروسين ويتمنى لهم حياة سعيدة ملؤها الرفاه والبنون.

 

وبعد العرس يصطحب العريس عروسه إلى داره أو دار أهله ويحتفل أهل العريس بفتح مائدة يدعى إليها كل من حضر العرس وتكون مائدة غذاء أو مائدة عشاء يتم على جنباتها شواء الحملان والأكلات الماردينية الشهيرة كالتشوقات والكبيبات والمحاشي والكتل والقبرغايات والسندليلويات والشريدينات ومناسف الرز المجلل بالمكسرات وأهمها الفستق الحلبي والجوز واللوز ويعتبر لوز ماردين من أطيب أنواع اللوز في العالم.

 

وفي صباح اليوم التالي يسافر البعض لقضاء شهر العسل في المصايف وكان مصيف ويران شهر من أهمها على الإطلاق ويصيّف فيه كبار أهل ماردين وأثريائها حيث كانت لهم بيوت تشابه بيوتهم التي في ماردين إن لم تكن أجمل.

 

ماردين بعد العام 1915

 

وظلت ماردين تسير على هذا النهج إلى أن قرعت طبول الحرب العالمية الأولى واستطاع يهود الدونما توريط إمبراطورية الرجل المريض فزجّوها في آتون الحرب وهي لا تتقن من أساليب الجيوش الحديثة شيء فغرقت وأغرقت معها أهلها وناسها وضاعت الأقليات في الخبط الجنوني لجماعة الاتحاد والترقي الذين اخترعوا  أعداء وهميين في الداخل من الأقليات وهم الأرمن والسريان اليعاقبة والآشوريين والكلدان فجرت حفلة إبادة مروعة أفرغت ماردين وما حولها والأناضول وكيليكيا من أصحابها الأصليين فتمت إبادة الجميع واستطاعت القلة النجاة والهرب باتجاه الشام.

 

ولأن أوامر الإبادة أثناء التهجير لم تكن مختمرة في رؤوس قادة الاتحاد والترقي فلقد بدأت المسألة كتهجير وكان الأرمن هم ضحية هذا التهجير منذ البدايات، وتلت هذه الأوامر أوامر أخرى ضمت السريان اليعاقبة والكلدان والآشوريين إلى دائرة التهجير ثم اختمرت فكرة جديدة مؤداها أن الأموات وحدهم هم الناس الذين لا يعودون فتحولت المسألة برمتها إلي الإبادة في ظل التهجير فذاق أهل ماردين ما ذاقوه ولكن قبل ذلك وفدت إليهم من الشمال ومن جهة الشرق الكثير من السوقيات. والسوقية هي جماعة من الناس يسيرون على غير هدى ولا يعرفون وجهتهم ويحيط بهم بعض الخيالة أو المشاة المدججين بالسلاح ويتم إطلاق النار على المتهاون في المسير أما المريض فيسمح له بالتخلف عن السوقية ومعه حارس وبعد أن تتقدم السوقية إلى مسافة مناسبة، والمتخلف في الأرض، يُسمع صوت طلق ناري وتمضي فترة قصيرة كافية لتفتيش ثياب المتخلف ثم تعريته وتفتيش أمعائه وجهازه الهضمي من البداية إلى النهاية لأن المساقين إلى قدرهم كانوا يبتلعون بعض الليرات الذهبية لتعينهم على الخلاص إن كان هناك بارقة أمل في مكان ما أو في منعطفٍ ما، ويعود الحارس ليلتحق بالسوقية ويبقى المتخلف غارقاً بدمائه حيث تخلف فتلتهمه الوحوش.

 

أما عند العبور في المدن فإن الأمر يختلف حيث يبحث آمر السوقية عن رؤساء العشائر الكردية وتتم مفاوضتهم فيشترون السوقية ويتم الاتفاق على الالتقاء خارج المدينة وفي نقطة معينة حيث تقع السوقية في كمين فيهرب حراسها وقائدهم، ويتركون أفرادها كلقمة سائغة في حلوق الهمج والرعاع فتختفي الجميلات وتسرق الفتيات الصغيرات وتذبح الأمهات والنسوة الكبار وكذلك يتم إطلاق النار أو الإجهاز بالسلاح الأبيض على الكهول وتتم حفلة تشريح مرعبة بحثاً عن الذهب وتترك الساحة للطيور الجارحة والوحوش الضارية من بعدها ويعود المنتصرون إلى نقاط البداية لسوق سوقية أخرى.

 

وجاءت سوقية جديدة إلى ماردين فيها طفل عمره أربع سنين يمسك يد والدته التي تحمل رضيع ظل يبكي طول الوقت فيحرض شقيقه على البكاء وكان المطلب كأس من الماء، والى جوار الأم رجل كهل يمشي بتثاقل ويمسك يد حفيده وعمره ست سنوات، ويمشي الشقيقين تارة متلاصقين وتارة متباعدين، أربع سنين وست سنين والله أرحم الراحمين، شقيقين صغيرين لم يألفوا الحياة ولا هي ألفتهم، ولم يعرفوا الرحمة ولا هي عرفتهم، فلقد زج بهم في آتون الحرب والإبادة والتهجير وتم اعتبارهما عدوين للسلطنة خططوا لإفنائها وذوبانها وتلاشيها، ولقد قال فيهم طلعت وبأهلهم وعمم كلامه على كامل ملّتهم وشاكلتهم ومن يشابه ملّتهم، أنهما كلاهما كلبين أحدهم أسود والآخر أبيض ولا فرق بين الكلاب،وتلك كانت نظرة طلعت باشا فيما يتعلق برعايا السلطنة من القوميات الأخرى، في حين كان يعتبر نفسه ظل الله الجديد على الأرض باعتباره خلع السلطان وجلس مكانه على عرش السلطنة.

 

أما الرضيع وهو أصغر الأشقاء فلقد كان يبكي متنقلاً تارة على ذراع أمه اليسار وطوراً على اليمين ، أما الأم فكانت تعصب رأسها بشال أسود يلتف بطريقة متميزة، ويذكر هذا الطفل أنه كان مع السوقية يجتاز الحارات وقد خرجت حشود للتفرج عليهم ولضربهم والتفُّ في وجوههم، وكان هناك بعض العجي من الأتراك والأكراد يركلون الكبار ويضربون الصغار بالعصي و يصيحون في وجوههم أيها الأرمن أيها الكاوور أي الكفار اذهبوا إلى جهنم، وكانت هناك بعض النسوة من الأكراد يحملون جرار الماء وينادون شربة الماء بليرة ذهب.

 

ونظرت الأم إلى يمينها فرأت باب كبير وعتبة من الرخام فعرفت أن صاحب الدار مقتدر ومليء فقالت لابنها صاحب الأربعة سنوات ... إبقى هنا سأعود لاصطحابك ومعي الماء... وجلس الصبي ومشت الأم تسير إلى الأمام ووجهها إلى الوراء ولعلها كانت تحفظ البيت وتفكر بطريقة للهرب ومن ثم استعادة ابنها أو أنها رأت ما رأته من قبل وعرفت أنها ميته لا محالة فعملت على أن تعطي ابنها بعض الأمل في البقاء على قيد الحياة.

 

وكان هذا البيت الفخم الذي يختبئ خلف هذه البوابة الكبيرة والعتبة الرخام، كان بيت قائم مقام ماردين حنا القس وكانت زوجته بهية الناشف تنظر من نافذتها وهي تتعافى من حمى النفاس بعد ولادة شاقة أدت إلى وفاة وليدها بعد أيام معدودة... ورأت بهية الناشف الأم الأرمنية وعرفت من ردائها والعصبة السوداء التي تلف رأسها بها أنها من صاصون، ورأتها تحمل الولد وتضعه على عتبة الدار... فنزلت متحاملة على آلامها وفتحت الباب فلم تجد الولد فتعثرت في مشيتها وذهبت إلى ميمنة الدار ثم إلى الميسرة، فرأت أربعة من الفرسان الترك يتقاذفون الولد كالكرة ويرسمون دائرة بسنابك الخيل، فطلبت منهم التوقف وطلبوا منها الابتعاد لكي لا يصدمها أحد الخيول فتجرأت ودخلت بينهم فتوقفوا ... فذهبت تحتضن الولد وهو معلق بين يد الفارس والأرض... وصرخت بهم: هذا ابني وستقتلونه بعبثكم السخيف، فأجابها أحدهم وكان يعرف أنها زوجة القائم مقام ويعرف اسمها فقال: هذا الولد أرمني يا بهية خانوم ومصيره الموت، فقالت: هذا ليس إلاَّ مجرد طفل والموتى لا ينفعون في شيء ... ما رأيكم أن اشتريه منكم... أجاب أحدهم ... نحن أربع فرسان نريد عصمليتين  لكل واحد منا ونعطيك إياه، فقالت: قبلت وسأذهب لإحضار النقود، فقاطعها آخر وقال لا بل نريد أربع عصمليات لكل واحد منا. فقالت: قبلت وسأدفع ست عشر عصملية، ولكن أعطوني إياه وليتبعنا أحدكم لأعطيه المال، فقالوا نتبعك كلنا لنأخذ المال.

 

ودخل الصغير دار القس وأحضروا له الماء والطعام وتولت المربية تحميمه وأعطته بدلة جديدة وجلس مع الأولاد مستغرباً لا يعرف لغتهم ولا يعرفون لغته يحدثونه بالإشارة فلا يجيب ويحدثهم بلغته فلا يجيبون وبكى كثيراً ثم نام.

 

وجاء القائم مقام فرأى الولد بين الأولاد فسأل زوجته: لمن هذا الولد؟  فقالت: لنا فقال: ومن أين جئت به؟ قالت: من سوقيات الأرمن، قال: أنت تحرجيني يا بهية أمام الحكومة ألم تسمعي أن عقوبة الموت تنتظر من يؤوي الأرمن؟ فقالت: اتفقت مع أمه أن تعود لاصطحابه   فقال لها: وهل تعتقدين بأنها ستعود قالت: إن لم تعد فإن الله قد أخذ عفيف ومنحنا عفيف آخر فهل رقّنت قيد ابننا المتوفى في النفوس خانة؟

 

قال: لا ليس بعد، قالت: إذاً اترك القيد على حاله وهذا عفيفنا الجديد عفيف حنا القس.

وعاش عفيف في دار حنا القس... وأحبه اخوته وعاملوه أفضل معاملة و اعتبروه أخاهم الأصغر عدا الكبار الذين كانوا يظهرون إلى العلن عكس ما كانوا يخفونه في الباطن إكراماً لأمهم، وكانت بهية الناشف متعلقة به إلى أقصى درجة، وكان والده يحبه باعتدال، وفي ذلك الكثير من الحكمة وخاصة في مواجهة أولاده الكبار.

 

كانت أسماء اخوته الذكور وحسب تدرجهم من الأكبر إلى الأصغر على التوالي يعقوب وفرج وعزيز، والبنات ريجو (ريجينا)، وجميلة وهي أصغر بنات حنا القس.

 

وعاش في كنف آل القس عيشة مرفهة فلقد كان والده بالتبني حنا القس مليئاً ومتنفذاً ويملك أراضٍ و إقطاعيات ويبدوا أن هذه العائلة لم تتأثر بالفظاعات التي ارتكبت في ماردين بعد العام 1915 ربما بسبب غناها الفاحش من جهة وبسبب صداقات الأب فلقد كان يشغل منصب الآغا وكان يصادق عليّة القوم من الأتراك والأكراد وكان يولم كل يوم وداره دار ضيافة ونار وشواء وموائد.

 

فلقد استطاع الآغا حنا القس تأمين الحماية للعائلة ولعوائل أخرى واستطاع بدهائه وبالتعاون مع لجنة الكنيسة والمجلس الملّي والبطريرك الأعلى لطائفة السريان الأرثوذكس، استطاع استصدار عفو عن طائفة السريان اليعاقبة فتوقفت حفلات التنكيل والإبادة فيما يتعلق بالماردينيين السريان واستمرت بشكل أقوى وأعنف تجاه الماردينيين من أصل أرمني من الأرمن الأرثوذكس والأرمن الكاثوليك والأرمن البروتستانت، حتى تم إفنائهم عن آخرهم بحيث لم يبق أرمني واحد في ماردين.

 

وبقي بعض السريان في ماردين وشعروا بأنهم أغراب في مسقط رأسهم يحيط بهم الأكراد والأتراك  من كل حدب وصوب  يزاحمونهم على نسمة الهواء ويخنقوهم  وهم أحياء ويحاولون الاعتداء على بناتهم فأدركوا أن عليهم تنفيذ إرادة جلاد يهم طواعية بعد أن نجحوا في تجنب تنفيذها قسراً عن طريق بذل الذهب والمال، فلقد أفرغ الوحوش الأرض من ناسها وحولوا الأرض إلى خراب ويباب وكان لا بد من هجر المكان ومتابعة النزف بعد أن أتم المجرمون قطع كل الشرايين فماتت ماردين بعد أن أمات الرعاع أغلبية أهلها.

 

ولخّصت السيدة فريدة الملّوح الموقفْ، بالمقولة العامّية الآتية:

الحية مو تحب الننحة .......... والننحة تطلع في قدحا

 

وقد شبهت السيدة فريدة الملّوح مغتصبي الأرض الجدد بالأفاعي، وأصحاب الأرض الأصليين بأنثى القنفذ، وستحدث مشكلة لطالما أن أنثى القنفذ تخرج لتصبح في خط مرمى نظر الأفعى.

 

وتحولت أغاني الفرح إلى أغاني شؤم وموت يندب فيها الناس قتلاهم ويترحمون على الأيام الماضية فكانت كل دقيقة تمضي، تحمل في كنفها حادث مفجع، فلا يؤتمن على ولد في الدار ولا على ابنة في الطريق، ولا على أبٍ في المتجر ولا على شاب يخدم مع العسكر، بعد أن تمت استباحة دماء النصارى إثر وباء من الجنون تمخض عن بحر من المجون، وبقي لأهل ماردين بعض الذكريات وأغاني الحزن فهذه امرأة تنعي زوجها وهذا زوج ينعي امرأته وأطفال تشردوا وشعب ينعي ضمير العالمْ، واشتهرت أغنية ضلال كمرثية شعبية فيها ألم الظلم والمظالم والظلام والضرر بالبلاد وإزهاق أرواح العباد والمرثية هي الآتية:

 

تحبون الله لا تقولون

ضلالي مو ينحب ضلالي ضلال

ضلالي مو ينحب ضلالي ضلال

 

ينحب أو ينحب ضلال

ويصير مرهم لجروح القلب ضلالي ضلال

ويصير مرهم لجروح القلب ضلالي ضلال

 

تحبّون الله لا تقلون

سعاد كلـ ماتت ضلالي ضلال

سعاد كلـ ماتت ضلالي ضلال

 

 ومبارح العصريات

تحت بيتنا كل فاتت ضلالي ضلال

تحت بيتنا كل فاتت ضلالي ضلال

 

لا تاخدين الصبي

جاهل عقل مالو ضلالي ضلال

جاهل عقل مالو ضلالي ضلال

 

والله أريد آخدو

وستّر حواله ضلالي ضلال

وستّر حواله ضلالي ضلال

 

وأدفع من مال بيت أبي

وأحط على مالو ضلالي ضلال

وأحط على مالو ضلالي ضلال

 

ويتذكر الحبيب أيام الهناء، تلك الأيام التي ذهبت بلا رجعة فيقول:

 

في هاك راس الجبل

تفاح حلو حشنا ضلالي ضلال

تفاح حلو حشنا ضلالي ضلال

 

في هاك راس الجبل

خدود حمر بسنا ضلال ضلال

خدود حمر بسنا ضلال ضلال

 

في هاك راس الجبل

خدود الحلوين بسنا ضلالي ضلال

خدود الحلوين بسنا ضلالي ضلال

 

أما الملاي أو الماليّه فلقد تحولت قوافيها إلى ما يلي:

 

1 ـ أتراك لا تعادونا                       الأكراد من أين جاونا

ـ الشرح: لم يدر في خلد الشعب البسيط أن الحكومة فوضت الأكراد بتنفيذ الإبادة

 

2 ـ كل الحسبة حسبنا                      في الذبح ما افتكرنا

ـ الشرح: لم نتوقع أن نذبح كالخراف

 

3 ـ جانا خبر العدم                        اليوم على غفلة

ـ الشرح: العدم هو العقوبة الجماعية التي نفذت بالجميع دون استثناء وهي الإعدام

 

4 ـ مصطرمة حكومة ماردين             تودي قفلة بقفلة

ـ الشرح: مهلهلة حكومة ماردين التي سمحت بتهجير أبنائها قافلة بعد أخرى

 

5 ـ في عصر عيد الجسد                 رشيد بعث ممدوح

ـ الشرح: الأول والي تركي والثاني قوميسير أو ضابط شرطة

 

6 ـ العسكر كبسو المطران                وقالوا له قوم تنروح

ـ الشرح: كبسو أي اعتقلوا

 

7 ـ لما وصل السراي                    ما عملوا له قيام

ـ الشرح: السراي هو دار الحكومة

 

8 ـ قالوا جا أمر من فوق                 تنعدمك إعدام

 

9 ـ قالوا جيب معك السلاح               وتقدم لقدام

 

10 ـ تناخد افادتك                         ونقتلك مع الأعوام

 

11 ـ نصارى قومو صلّوا                  في هل مساوية

ـ الشرح: في هذا المساء

 

12 ـ ابكو وصلّوا بلكي                     تفك عا  المسيحية

ـ الشرح: تنقشع الغمة

 

13 ـ أمي لخاطر الله                        قومي اعملي لنا حال

ـ الشرح: كرمى لله تعالى، تدبري لنا مخرجاً

 

14 ـ كل شي كنا نحسبه                    القتل ما كان عل بال

 

15 ـ من عصر الخميس بدوا               كلهم يمسكوهم

ـ الشرح: بدؤوا في اعتقال الجميع

 

16 ـ في الحبوس وفي القشلة               كومات كوموهم

 

17 ـ بالحبال والزناجير                     بدو يربطوهم

 

18 ـ بالقضبان وبالقمشات                   صارو يجلدوهم

ـ الشرح: القمشة هي السوط الجلدي

 

19 ـ الساعة ثمانية بالليل                    راحوا يشدّوهم

 

20 ـ كل أربع بأربع سوى                   بزنجير زنجروهم

 

21 ـ لالاتهم في رقبتهم                      نخمات ينخموهم

ـ الشرح: اللالات هي أطواق الحديد، والنخم هو شلّ الحركة

 

22 ـ من القشلة ومن الحبس                  ميسرين طالعوهم

ـ الشرح: ميسرين معناها مقادين كأسرى

 

23 ـ طلقة بطلقة مكتفين                          مشيو بذليّة

ـ الشرح: خطوة بخطوة مشوا مسيرة ذل

 

24 ـ منهم حفاية وكلهم                           قلوبهم هي مكوية

ـ الشرح: لا ينتعلون شيء في أقدامهم لأنهم أخذوا عنوة من دورهم

 

25 ـ طلعتُ تودعهم                             والدنيا حزينة

ـ الشرح: خرجت لكي أودعهم

 

26 ـ يكسركم ترك وألمان                       من أين هل عزيمة

 

27 ـ نصارى قومو اطلعو                       ساقوا الفداوية

ـ الشرح: قتلوا الآباء ظلماً فتحول الأبناء إلى فدائيين ليدفعوا الموت عنهم، فانكشف أمرهم و اعتقلوهم وقادوهم إلى أعواد المشانق، وقد حدث هذا في بلاد الشام أيضاً، في دمشق وفي بيروت، ومحاكم عالي وقوافل الأحرار ومراجيح الأبطال، وشفيق المؤيد العظم وبترو باولي وشكري العسلي ومن معهم.

 

28 ـ صلبانهم على صدرهم               كلهم مسيحية

 

29 ـ منهم شباب محسنين                 كبار النصرانية

 

30 ـ ودموعهم على خدودهم              وقلوبهم محشية

 

31 ـ طلع قدامهم ممدوح                  وكبار الملّية

حولهم عسكر الخمسين                     خلفهم مشكوية

 

32 ـ لحقوهم مستعجلين                  أكراد وداشية

 

33 ـخناجرهم في وسطهم              ومعهم عينلية

ـ الشرح: العينلية هي البندقية باللهجة الماردينية

 

34 ـ عدّوا النصارى بالباب                      وقراوا أساميهم

ـ الشرح: أخرجوا الناس من باب البلد

 

35 ـ أساميهم إيش كانوا                          كانوا أخوية

ـ الشرح: الأخويات هم جمعيات خيرية كجمعية مار افرام السرياني وجمعية مار فرنسيس وجمعية السبحة الوردية المقدسة وجمعية أم يسوع، وجمعية قلب يسوع المقدس، وهي جمعيات تنشأ في الكنيسة  تجمع المال من الميسورين وتنفقه على الفقراء والأيتام والمعدمين، فتتكفلهم وترعاهم، كما يحدث في جمعيات المبرة الإسلامية التي تجمع الهبات والنذور والأضاحي وتقدمها للفقراء.

 

وقد تم كبس الكنائس وتمت مصادرة لوائح المنتسبين إلى الجمعيات فتم إعدام كل أعضاء جمعية القديس فرنسيس، بعد أن تم ترجمة كلمة جمعية إلى حزب، والقديس فرنسيس تم ترجمتها إلى فرنسا التي تحارب مع الحلفاء ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية، وتم قتل الجميع وعددهم بالمئات باعتبارهم أقدموا على الخيانة العظمى، وقتلوا جميعاً بسبب خطأ في الترجمة، وفيهم كبار السن من الرجال ومن السيدات الفاضلات في أواخر العمر.

 

والى هذا يعزى التخلف الذي انتشر في الدول التي كانت تحت الاحتلال العثماني لطالما أن موظفي الدولة وحكامها كانوا بهذا المستوى من الجهل المضاف إليه هذا الجبل المتعمد من القذارة.

 

36 ـ أخوية إش كانوا                            دم اليسوعية

ـ الشرح: يشير الشطر إلى اسم جمعية كانت تدعى بجمعية دم يسوع، وكانت تقوم بنشاطات البرّ التي سبق ذكرها بالإضافة إلى حل النزاعات بين الأسر لتجنب الوصول إلى الطلاق، وكانت هذه الجمعية تدفع نفقات السفر والعلاج للمرضى، وتتولى إيجاد متبنين للّقطاء، وتشتري القبور للغرباء وهم الناس الذين يؤمون ماردين ويموتون فيها وهم لا أهل لهم، ولأن مصروفات هذه الجمعية كبيرة، فلقد كان ينضوي تحت عضويتها كبار أثرياء القوم. 

 

37 ـ كلهم راحوا للقتل                           ونالوا الأكليلية

ـ الشرح: الأكليل هو أكليل الشوك الذي وضع على رأس السيد المسيح قبل الموت على خشبة الصليب

 

38 ـ كان طالع أمر من فوق                     عفا على السريان

ـ الشرح: في هذا الشطر إشارة إلى مرسوم العفو الذي ورد في متن المقالة، دون أن أفهم العلاقة، لأن العلاقة المنطقية هي: وجود جرم ومنح عفو، فكيف تستوي ال

http://www.ankawa.org/vshare/view/10418/god-bless

ما دام هناك في السماء من يحميني ليس هنا في الارض من يكسرني
ربي لا ادري ما تحمله لي الايام لكن ثقتي بانك معي تكفيني
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,603190.0.html
ايميل ادارة منتدى الهجرةsound@ankawa.com