صلاحيات البطريرك في كنيسة المشرق وآلية اختيار الاساقفة.
الشماس جورج ايشو
سألني بعض الاخوة الاحبة حول موضوع السلطة الكنسية وصلاحياتها في كنيسة المشرق وبالاخص في ما يخص اختيار الاشخاص لنوال درجة الاسقفية. في الحقيقة، الموضوع ليس عسر الفهم ولا يحتاج الى جهد كبير لتوضيح ماهيته، اذ ان القوانين الكنسية واضحة ولا تحتاج الى تفاسير لفهمها.
على العموم، قبل الدخول في موضوع صلاحيات البطريرك في كنيسة المشرق يجب علينا ان نتعرج حول آلية اختيار الاشخاص لنوال درجة الاسقفية، بعدها نناقش فكرة قانونية الانفراد في القرارات الكنسية من قبل البطريرك. لكن...يجب ان ننوه باننا نتحدث عن القوانين الكنسية التي تخص كنيسة المشرق وليس اي كنيسة او فرع اخر.
يبين لنا التاريخ الكنسي بان اختيار الاساقفة، منذ القرن الخامس للميلادي، ارتبط بشكل مباشر بالحياة الرهبانية، اي ان الاشخاص كان يتم اختيارهم لنوال نعمة الاسقفية من السلك الرهباني. لكن قبل ذلك الوقت كان يتم اختيار علمانيين وفي بعض الاحيان متزوجين لنوال الرسامة، غير ان ذلك كان له شروط صارمة لم يكن باستطاعة اي كنيسة تجاهلها.
على سبيل المثال، ينبه الرسول بولس مار تيموثاوس ان لا يتهاون في اختيار الاشخاص المناسبين لدرجة الاسقفية: " فيجب أن يكون الأسقف
بلا لوم، بعل امرأة واحدة، صاحيا، عاقلا،
محتشما، مضيفا للغرباء، صالحا للتعليم، غير مدمن الخمر، ولا ضراب، ولا طامع بالربح القبيح، بل حليما، غير مخاصم، ولا محب للمال، يدبر بيته حسنا، له أولاد في الخضوع بكل وقار. وإنما إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته، فكيف يعتني بكنيسة الله؟ غير حديث الإيمان لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس.
ويجب أيضا أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، لئلا يسقط في تعيير وفخ إبليس"
اما في كتاب تعاليم الرسل يقول الكاتب بان الاشخاص الراغبين في نوال الاسقفية
يجب يكونون طاهرين وبلا علة.
ومتصفين بكل الصفات الحسنة. لا يكون عمرهم دون الخمسون. أن وجد واحد ينقص عن هذا الحد وحسنت سيرته يرسم. معتدلي القامة. مملوئين من كل تعليم. دربي اللسان. محبين للسلام بين الناس. لا يكونون سكيرين. ولا محبين للعالم. ولا مستجدى الدخول إلى الإيمان. ولا غضوبين. يحسن أن يكونوا غير متزوجين. وإلا فليكن بعلًا لامرأة واحدة. ويكونون قد ربوا أولادهم بخوف الله.
وجوب الرضى عند رسامتهم من كل الشعب والكهنة.
وفي قوانين كنيسة المشرق، تتردد باستمرار الشروط السلوكية والايمانية والعقائدية التي يجب ان تتوفر في الشخص الراغب بنوال الاسقفية. على سبيل المثال، مجمع مار اسحق 410م، والذي هو عبارة عن مرآة عاكسة للقوانين الغربية، يشترط ان " يجتمع الاساقفة الى المدينة وسألون بروية باحثين عن رجل يعين المساكين يستضيف الغرباء، يريح المتضايقين، يشبع اليتامى والارامل، لا يعكي فضة بالربا ولا يقبل رشوة، لا يحابي في القضاء، يبعد عن نفسه الكبرياء والشراهة، يلهج بالكلام الحيد والحكمة وعلم الكتب المقدسة ليلا ونهارًا، وله دراية وتميز لاصلاح كل الواجبات الكنسية الضرورية للخدمة .
اما في مجمع مار حزقايل 576م يعتبر الجمع الاداة الاولى لاختيار الاسقف، وليس كما يزعم البعض او بالأحرى يتجاهل البعض هذا العنصر المهم في الكنيسة. يحرص المجمع على "
وجوب ان يحرّضوا اهالي المدينة- التي يتواجد فيها الشخص- لكي يختاروا شخصًا مناسبًا يرسمونه (اي ان القرار بيد اهالي المدينة وليس بيد البطريرك او المطران او الاساقفة).
ويقرّ مجمع مار طيمثاوس الثاني 1318م بان لا تتم رسامة اي شخص للاكيريكية
ان لم يتم امتحانه واختُبر في امور كثيرة. ان يكون مزدانًا بالايمان وتعليم ربنا، ومتميز في خشية الله. وبان تواضعه، ومحبته، وتمرسه (الثقافي)، وحكمته. ويتحلى بالخصال الحميدة الثلاث المذكورة في القوانين وهي: العقل المستقيم والسليم، وعلم الكتب المقدسة، والكمال في تعليم الايمان القويم (الارثوذكسي) المتجسد في واقع الاعمال بكل قداسة.
اما عن انفراد البطريرك بقرارات استثنائية، رغم ممانعة الشعب، ليس فيها اي شرعية قانونية كنسية ولا يمت للايمان المسيحي باي صلة. هناك حالة من الخلط لدي البعض بين الانصياع للدرجة البطريركية كأعلى درجة في الكنيسة، وبين هيكلية الكنيسة الاسقفية bishopric Episkopon. ماذا نعني؟ الكنائس الرسولية تعتمد في ادارة الكنيسة وفق مفهوم "الاول بين المتساوين" (The first among Equals) ليس هناك انفراد لاي عضو اسقفي في الكنيسة الا في مفهومها الاداري الجماعي وليس الاداري الانفرادي. بمعنى المجامع الكنسية وضعت لتجنب انفراد البطريرك بالقرارات الكنسية، وان يخضع هو نفسه لم يتم مناقشته بالأجماع في الاجتماع. وهذا ما يؤكده مجمع مار يوسف انه على المطران او البطريرك ان يفعل كل شيء بمشورة الجماعة. وان القضية التي تُعالج، يكون وقعها اعظم ان تمت بامتحان العديد من الاساقفة. وايضا الغضب الذي تأثر به البطريرك مار فافا 322م اثناء الاجتماع السنهدريني خير دليل على القرارات البطريركية الانفرادية لم تكن مسموحًا بها في كنيسة المشرق. لذلك، اكرر بان الانصياع للقوانين التي يصدرها البطريرك تأتي ضمن آلية متعارف عليها ضمن الكنائس الرسولية ولا يمكن اغفالها الا لغاية في نفس يعقوب.
لذلك، الاعتراض على القرارات الانفرادية التي تصدر من البطريرك مسموحٌ بها وليس لها اي دخل بالتجاوز على السلطة الجاثليقية. وهناك قصص كنسية تخبرنا حين قام اباء اساقفة وعلمانيين بالاعتراض على قرارات انفرادية واعمال سلوكية غير مسيحية اتخذها واقترفها بطاركة منهم مار يوسف ومار نرساي ومار اليشاع وغيرهم من اساقفة ومطارنة. ليس هناك احد معصوم، العصمة لله وحده، والاعتراض مسموح به في الكنيسة على اكبر سلطة، لكن يجب ان يقترن بالهيكلية الاسقفية. اي لا يجوز للعلماني التطاول على البطريرك، او الاسقف عدم الانصياع لاوامر البطريرك التي اتخذت في المجمع باجماع الاساقفة، لكن اي قرار فردي يتفرد به البطريرك وبالاخص الذي يمس مصير الكنيسة لا يجب ان ينصاع اليه احد.
ومن له أذنان للسمع فليسمع...