ايام الخوف لاخر المغادرين من تللسقف ليلة 6 اب 2014
عنكاواكوم – تللسقف – لؤي عزبو قصة صحفية
كانت تعابير وجهها توحي بحزن عميق وهي تروي قصة ايام الخوف التي سبقت اللحظات الاخيرة لمغاردتها "تللسقف " مرغمة يوم 6 اب 2014 .
الاخت الراهبة الدومنيكية السبعينية (لم ترغب بذكر اسمها ) تستذكر تلك الاحداث لتوصفها بانها كانت مليئة بالخوف والرعب فقالت وهي تنظر الى الاعلى " كان لي ايمان بأن الرب ينقذني عندما اقع في الضيقات ." وركزت الاخت الراهبة في معظم حديثها على الايام ( الثالث الى السادس من اب 2014)لانها حسب قولها تتضمن " احداث العمر " ولم تشهد مثيلها خلال عمرها المديد وكان ختامها مغادرة بلدة تللسقف (30 كم شمال غرب الموصل ) مجبرة في حدود الساعة الحادية عشرة من ليله السادس من اب 2014 بعد توارد الاخبار عن دخول مسلحي "داعش " الى تلكيف وتوجههم الى باطنايا وباقوفة ثم الى تللسقف حيث تعيش هي في دير الراهبات الدومنيكيات .
ايام الخوف لم تمنعها من تدوين ملاحظاتها عن تلك الايام فكتبت يوم 3 اب (الاحد ) تصف الاوضاع " من جديد حصلت ضجة في تللسقف حيث اسرعت العوائل في ركوب السيارات مغادرين القرية نحو جهات متعددة باتجاه القوش ..دهوك ..زاخو, بعد ورود دعايات بقرب دخول مسلحي داعش .اما نحن "الكلام للراهبة " فاستشرنا الاخت ماريا ثم كاهن الخورنة وبقينا في الدير ولم يبقى في القرية الا الحراسات ونفر قليل وبعض العجزة اللذين لا حول لهم ولا قوة .ولا من يعينهم .اخذنا نبحث عنهم في اماكن سكناهم في البلدة لنساعدهم قدر المستطاع وخصوصا بماء الشرب كوننا في شهر اب الحار ,حيث انعدمت الخدمات بسبب الحرب فلا ماء ولا كهرباء ولا حتى مولدة ."
وتضيف في سردها عن ذكرياتها لذلك اليوم " اتصلت بنا الاخت الرئيسة العامة للرهبنة وقالت : في حال مغادرتكم بامكانكم الذهاب الى دير قرية "التلا " القريبة من قضاء الشيخان (كمكان بديل ).
الرهبنة الدومنيكية هي رهبنة أسسها القديس دومينيك (عبد الاحد ) عام 1215 م. بدأت نشاطها، في مدينة طولوز بفرنسا،وتضم اليوم (3000) راهبة تأملية في 2019دير واكثر من (6000) راهب في 602 دير.وبدأت نشاطها في الموصل منتصف القرن الثامن عشر .
يوم الثالث من اب كان يحمل حدثا اخر وهو ترأس الاب كرم نجيب قاشا القداس الاخير حيث سيغادر الى ايطاليا للالتحاق بالدراسة . وكان قد خدم في كنيسة مار كوركيس في تللسقف منذ ان اصبح كاهنا .
بعد سقوط الموصل في 10 حزيران فأن بعض العوائل التلسقفية وخصوصا التي تضم اطفال صغار كانت قد تركت تللسقف خلال شهري حزيران وتموز وذهبت الى مناطق امنة في دهوك واربيل فيما بقيت تلك العوائل على اتصال مع القرية فكان اصحاب المنازل يأتون لتفقدها بين فترة واخرى ,بعد ان اصبحت قريتهم بدون ماء فتوقف مشروع "خواجة خليل الرئيسي " الذي يزود معظم قرى المنطقة بالماء ولم تستكمل محاولات لحفر ابار ارتوازية بسبب الظروف الصعبة ,فيما انقطع التيار الكهربائي نهائيا بعد فترة كما توقفت المولدات عن التشغيل فيما توفي مشغل مولدة حي السلام في تللسقف (عامر رزوقي شيبو ) على اثر حادث مؤلم سبب له حروق عميقة ادت الى الوفاة ....
.وتصف في مذكراتها تلك الايام فكتبت يوم 5 اب " اننا نعيش اوقاتا واياما صعبة للغاية ,كلها خوف وقلق وتوتر من الانباء القلقة والاشاعات المخيفة ,لكننا بنعمة الرب وحمايته وعنايته الابدية نصلي كثيرا ويعضدنا القداس والقربان المقدس اليومي مع كاهن الخورنة والقلة القليلة الباقية في القرية واحيانا لاتتعدى اصابع اليد .
تللسقف كانت تسكنها في اب عام 2014 اكثر من 1450 عائلة ويسكن معهم اكثر من 110 عائلة قدمت من الموصل بعد الاحداث الدامية واحداث القتل والخطف بعد نشوب الحرب الطائفية ابتدأ من عام 2006 .
ولحبهم ان يكون لهم نفس المصير فقد التحقت راهبتين من باقوفة ( 2 كم شرق تللسقف ) الى ديرالراهبات في تللسقف للسكن مع اخواتهم ليصبح مجموعهم ست راهبات ,كانت تتناوب في زيارة احدى النساء المسنات "العمة كرستينا " ( التي توفيت عام 2018 ) حيث كانوا يقدمون لها الماء والطعام ويطمئنون على صحتها .وفي نفس الوقت كان هناك رجل مسن اخر يهتم بتلك المراة .
وعن مساء يوم 5 اب دونت الاخت الراهبة ما يلي "اما في رمش ليلة التجلي , فلم يكن في الكنيسة سوى : الاب روني والشماس متي والاختان الهام وسانت اتين و3 عجائز .كان الرمش رائعا وهادئا واحتفاليا رتل في القاعة السفلى من الكنيسة ( كنيسة مار كوركيس ) ."
وبين طيات حديثها ذكرت تواجد احدى العوائل الموصلية التي هربت من الموصل بعد تهديد داعش في تموز 2014 ,تلك العائلة المكونة من ست اشخاص تركت المدينة مجبرة ,لكن في احدى نقاط التفتيش تم سلب كل ما تحمل من نقود وذهب كانت تملكها .وتستذكر كيف ان ابنتهم بكت كثيرا عندما اخذوا منها الموبايل لانه كان يحوي صور ذكريات حياتهم خلال السنين الماضية .
ولان تللسقف خلت من معظم اهلها فوجه كاهن القرية بالذهاب الى منازل الباقين واقامة صلوات الوردية بالتناوب في البيوت وكانت الصلاة الاخيرة قد اقيمت في بيت "شممتا "
وتكمل مذكراتها ضمن يوم 5 اب لتكتب "وردتنا رسالة تقول بان الخطر اقترب من تلكيف حيث سقطت عدة هاونات واصابت احد الشباب واستشهد بالقرب من كنيسة قلب يسوع في مركز تلكيف "
حيث نشرت عدة مواقع خبر الاستشهاد , ومنها موقع عنكاوا كوم – تلكيف بتاريخ 5 اب 2014 "توفي الشاب لجين حكمت .بعد الاصابة التي تعرض لها امس نتيجة لقصف عشوائي بالهاونات على مدينة تلكيف . وفي اتصال هاتفي مع احد الاهالي من تلكيف قال "تقام الان الصلوات في كنيسة القوش حيث سيوارى الثرى في القوش لعدم امكانية اقامة مراسيم التعزية في تلكيف بسبب الاوضاع الامنية المتردية ."
وموقع خورنة القوش نشر ايضا في نفس اليوم "استشهد الشاب التلكيفي لجين حكمت فرنسي يوم امس الاثنين ليلاً 4 أب 2014، بعد ان اصيب بشظايا نتيجة القصف العشوائي للهاونات على قضاء تلكيف."
من جانب آخر، وجه بطريرك الكنيسة الكلدانية (مار لويس ساكو ) رسالة إلى قداسة البابا فرنسیس وبطاركة الشرق رؤساء المجالس الأسقفیة حذر فیھا من كارثة إنسانیة تواجه المسیحیین في العراق.وقال "إن المسیحیین عّزل وخائفون أمام متغیرات متسارعة، یضعون كل الاحتمالات أمام أعینھم".
يوم السادس من اب بدت القرية كمدينة اشباح فمعظم الناس غادرو .كان هذا اليوم هو احد الاعياد المسيحية "عيد التجلي " وتبدو حيرة الراهبة عندما كتبت "ماذا اكتب في هذا اليوم ؟" (وتستكمل ) "لقد خليت القرية من اهلها عدا الحراسات والاب روني ونحن الاخوات الستة وقلة قليلة ,وتواصل تضرعها للرب "يارب نحن واثقون انك معنا كعادتك ,حنون ,رحيم ,تحمينا ."
وتضيف" داعش الارهابيين على الابواب ." وتحدثنا طويلا حول بقائنا في الدير او مغادرتنا وطلبنا نصيحة من الاب روني كاهن الخورنة وقررنا ان نبقى هذا اليوم ..وهو يوم التجلي "
وبعد عودتنا من القداس جئنا الى البيت ونحن قلقين اتصالات متواصلة واخبار سيئة واشاعات كثيرة لم استطع الجلوس وبقيت اسير في الغرفة جيئة وذهابا ولا اعرف ماذا افعل , في حدود الساعة العاشرة والنصف ليلا اتصل الاب روني وقال "امامكم دقيقتان لمغادرة تللسقف ,ساسبقكم الى دهوك "
وتضيف " كنا في حيرة ,لكن كانت احدى سيارات روضة "بيت الزنابق " الاهلية (الكوستر ) موجودة مع المفتاح التشغيل الخاص بها (السويج ) حيث سلمه سائقها لنا قبل مغادرته منذا ايام سبقت " كنا محتارين ولا يوجد سائق , ذهبت الى العائلة الموصلية التي تسكن في بيتنا القديم ,وسألتهم "هل يوجد احد يمكنه سياقة السيارة ,فاخبرني احد اولادهم انه سبق له سياقة السيارات الصغيرة ,ولكنه سيحاول ان يقود "الكوستر " فكان القرار بالمغادرة بسيارة الكوستر .
عملنا جولة في القرية حيث كان لنا علم باشخاص باقين ومعظمهم من العجزة وتم اصطحابهم معنا واصبح العدد بحدود 20 شخصا , وغادرنا في حدود الساعة الحادية عشرة ليلا ووصلنا الى دهوك بعد رحلة صعبة ومتعبة عبر طريق مزدحم بمئات السيارات , حيث وصلنا الى كنيسة مار ايث الاها في حدود الساعة الثانية فجرا واستقبلنا سيادة المطران ربان وسيادة المطران ميخائيل مقدسي .
واستمرت فترة النزوح لمدة تقرب الثلاث السنوات لتعود الى نفس الدير في تللسقف في يوم 10 تموز 2017 وتكتب من جديد "عدنا اليوم الى ديرنا في تللسقف وكنا انا القادمة من الشيخان والاخت الهام القادمة من بغداد .وتختتم مذكراتها بالكلمات التالية " شكرا يارب لانك رحمتنا كما رحمت اهل نينوى واعدتنا الى ديارنا شكرا لك يا امنا العذراء ...اعد يارب كل اهالينا من كل المناطق ,اننا معهم نحمدك ونحبك شاكرين حمايتك لنا "
الصور من الارشيف
