ما بعد القومية
بقلم/ سلوان ساكو
في الندوة الأخيرة لملتقى سورايا الثقافي، والذي ينعقد كل شهر مرة في ضمن الفعاليات الثقافية في ولاية ملبورن الأسترالية، هذه المرة تم استضافة الأستاذ صباح ميخائيل برخو، وكانت الندوة تدور حولَ الأنتخابات البرلمانية الأخيرة، ودورّ شعبنا المسيحي، وأحزابنا السياسية بكل فروعها، والقوة الفاعلة في الساحة، وتطرق الأستاذ صباح إلى مآلات وأسباب إخفاقها في عرض شيق وتاريخي مشكوراً عليه وعلى جهوده المبذولة لصالح قضية شعبنا، والحق يُقال أنه أحاط الموضوع من كل جوانبه، من الناحية التاريخية والاجتماعية والسياسية. وهنا تجدر الإشارة بمعنى النقد التقييم للأفكار الكونية الكبيرة التي شغلت الساحة السياسية لعقود، وليس تقيم الندوة فالأستاذ صباح غنيٌ عن التّعريف والتقييم.
في اثناء المحاضرة شردَ ذهني قليلاً، وكعادتي صرتُ أسأل أسئلة جدلية من وحي الآية (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، وأفكر إين باتت القومية برمتها، المحلية، العربية، العالمة، بل إين هو اليسار العربي الذي كان يشغل الدنيا والنَّاس في وقتْ ما، وبعض تجلياته، كالاشتراكية، والناصرية، والبعثية، كيف ذبلت كل تلك الأفكار الكبيرة ولم يعد أحد يذكرها الأن مع انها كانت تستحوذ على الساحة السياسية في فترة الخمسينيات والستنينيات الى مطلع السبعينيات، واؤفُلْ نجمهم مع حرب حزيران 1967، وبدأ بزوغ نجم حركات الأسلام السياسي كرد فعل للنكسة المذلة التي مُنِيَ به العرب، والى اليوم يشربون من مرارة تلك الكأس، وهذا موضح بشكل كبير في كتاب (معنى النّكبة) للمرحوم قسطنطين زريق (1909-2000)، لا بل أن الكثير من المناضلين اليساريين تحولوا الى أقصى اليمين المتطرف، والراديكالية الأصولية، وهذا اشتد اكثر بعد إنهيار الكتلة الاشتراكية الكبرى في الأتحاد السوفيتي أواخر القرن المنصرم، مِمَا شكل هزة قوية لجميع الأفكار والتيارات اليسارية، واعطى أنطباع أن كل الأفكار الماركسية واللينينيه والتروتسكية لم يُعد لها وجود، وطبُعت هذه بمِيسَم النسيان ووضعت على الرفوف. اليوم وفي حديثنا وفي صيغة كلماتنا التعبيرية من يذكر البروليتاريا أو البورجوازية أو الطبقة الكادحة أو نظرية أغتراب العامل أو فائض القيّمة أو نقد رأس المال، كل هذه كانت أفكار مُتداولة وبشكل يومي وممُنهج وعلى كل المستويات والفئات، الطلاب الأساتذة الجامعات الحانات العمال الفلاحين، الكل يسأل ويريد أن يفهم معنى الماركسية ومعنى الحداثة ومعنى البنيوية ومعنى التفكيكية ومعنى الوجودية ومعنى الوضعية، كان هناك عالم متكامل من الأنثروبولوجيا يدرس الإنسان الأجتماعي والإنسان الثقافي وقيْم ومعايير المجتمعات، وتُعقد صالونات وندوات ومحاضرات وجدل ونقاش وتفاعل بين الجماعة الحاضرة، فتفرز من كل هذه النقاشات نظرية فلسفية ديالكتيكية تُوظَّف من أجل الصالح العام مما يؤدي إلى شيوع أفكار بطريقة موضوعية تُحدّد الأهداف لتحقيقها وما تفرزه من عملية توظيف ضمن هذا الإطار في الواقع اليومي المُعاش للتأثير على سياق حركة التاريخ. إين نحن اليوم من كل هذا؟، في ظل المتغيرات الكبيرة التي طرأت على روح العصر، من منا بات يسمع أو يناقش أو حتى يرن في أذنيه قول كارل ماركس حين يقول ( أن اسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحول عملية التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة حتى إلى ذات مستقلة، انها خالق العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهري ُللفكرةُ. اما بالنسبة لي، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الانساني ويترجمه إلى أشكال من الفكر)، أنتهى الاقتباس، أو طنين فريدريك إنجلز ( أن مسألة العلاقة بين التفكير والوجود، العلاقة بين الروح والطبيعة، هي المسألة الكبرى للفلسفة بكاملها، أن الأجوبة التي اعطاها الفلاسفة لهذه المسألة تفصلهم إلى معسكرين عظيمين، اولئك الذين أكدوا على اولوية الروح على الطبيع معسكر المثالية، والآخرون الذين اعتبروا الطبيعة اولية يعودون إلى شتى مدارس المادية)، أنتهى الأقتباس. من يطرح هذه الأفكار العميقة اليوم؟، لا بل من له المقدرة على إستيعابها وبلورتها والخروج منها بنص من الأساس، فاليوم هنالك أفكار كونية تفرض نفسها بقوة في الصدارة، كنظام الصفر واحد، وتيار بعد بعد ما بعد الحداثة الفعّال بقوة الأن في الغرب، ومذهب ما بعد البنيوية، ونظرا للكم الهائل من المعلومات بات الكل يريد المعلومة السهلة المستساغة، الجميع يتجه نحو العم كَوكل، ينقر عليه فيلبي الطلب خلال جزء من الثانية، وبجميع اللغات العربية والأعجمية، مليارات من الإحداثيات مخزنة في هذا النظام الرقمي العجيب كمنصة للمعرفة. هل اليوم تصلح القومية أو الأشتراكية أو الناصرية كتعبير ثقافي عن مكان أو لغة أو شعب أو أرض؟، أَلَيْسَ العالم اليوم قرية صغيرة؟، لا بل أَلَيْسَ الجنس البشري برمته داخل كرة مغلقة من الديجيتال؟ حتى تسوق الفواكه والخُضار يمرّ من خلاله؟، ألسنا أرقام تتحرك في ظل هذه المنظومة الكونية الهائلة؟، حتى من يريد السفر خارج البلاد وهو مشمول بدفعات الضمان الأجتماعي ما أن تقلع الطائرة به حتى يُقطع الراتب!. ضني أن الكثير من البديهيات تغيرت ومعها تغير الوعي بالمفاهيم ذاتها وبات هنالك مصطلحات جديدة وأشكال واساليب لأدوات التفكير أيضا جديدة لا تتماشى مطلقا مع ما كان مطروحا في السابق، فعقارب الساعة لا تعود للوراء ابداً، والماضي هو جزء من الماضي والتغير والتجددْ هو قانون الذي يحكم الطبيعية في مدار إهليليجي.