المحرر موضوع: مسيحيُّو سوريا والزمن الآخر: شهادة لبنانية من الواقع المسيحي السوري  (زيارة 877 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عنكاوا دوت كوم

  • مشرف
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 37765
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني


tayyar.org/(بقلم أمين الياس)

منذ لحظة وصولك إلى منطقة وادي النصارى في سوريا، هذه المنطقة الفاصلة ما بين الساحل الطرطوسي والداخل الممتد من حمص إلى حماه، لا ينفكّ يراودك شعور ممزوج بالفرح والمرارة والإعجاب والتحسّر في آن.

أكثر من سبع سنين انقطعت فيها عن زيارة هذه المنطقة الجميلة بطبيعتها وأهلها. كان غياب قسري لأسباب مهنيَّة وشخصيَّة وأمنيَّة طبعًا بسبب الأحداث الجارية في سوريا. غير أنَّ أجمل ما يحدث معك هناك أنَّ لا قيمة وقتيَّة لسنين الغياب هذه. فقد كان لقاء الأحبَّة أقوى من فراق سنين سبع. كانت قبلة صادقة ولقاءٌ أخويٌّ وسلامُ أحبة ولقمةُ شوق وكأسُ عرق وكاسة متة ضرورة "اللمَّة الحلوة". وكأنَّنا لم نفترق، وكأنَّنا تودّعنا البارحة والتقينا اليوم. كانت المحبة لا تزال هنا، والشوق كان كفيلًا بتعويض سنين الفراق القسري. أجمل ما يحدث معك هناك أنَّك تعيش توقيتهم. فهناك لا فيسبوك، ولا واتس أب، ولا انترنت، ولا تلفاز. هناك لقاء يتلو اللقاء، وسهرة صغيرة تجمع الاحبَّة كبارًا وصغارًا، هناك دقُّ طبل وترغلة مزمار وكأس عرق وبيت ميجانا وشوية شروقي وبيرة لبنانيَّة فضّلها السوريُّون على بيرتهم لجودتها. هناك ضحكات وأحاديث عن الأرض وتربية المواشي والعمل في الأرض والحياة اليوميَّة والعلاقات بين الناس. صدّقوني عندما تعيشون في هذا الجوّ، تنسون أهميَّة التوقيت العالمي الذي فرضه الإنترنت علينا جميعًا.

 

بين التشدد الديني والدولة

كانت المرَّة ما قبل الأخيرة، التي زرت فيها هذه المنطقة حيث لدي الكثير من الأهل والأقارب والأصدقاء، في صيف العام 2010 أي في بدايات الأزمة السوريَّة. أذكر جيدًا كم كان القلق والتوتر يسودان أهل هذه المنطقة. كانوا، وهم المتمتّعون بحرية دينية وعبادية وعيش مطلقة (كسائر الطوائف في سوريا)، لا يصدّقون أنَّ هذا الأمر يحدث لسورياهم التي قد عاشت الأمن السلم لفترة لا بأس بها من الزمن. صحيح أنَّه كان لديهم ملاحظاتهم على بعض الدوائر الحكوميَّة وعلى أداء بعض المؤسسات، لكنهم كانوا يكنُّون محبَّة وثقة كبيرة بالرئيس السوري الشاب لما كانوا يرون فيه من تواضع ومزيد من الانفتاح والبحبوحة. برأيهم إنَّ المشاكل التي كانت موجودة في سوريا تستحق أنْ يعترض عليها أحدهم، ولكن أنْ يتمّ تدمير سوريا الدولة والمؤسسات والاقتصاد والسياحة الصاعدة والخدمات والتاريخ والجغرافيا فهذا غير مبرّر بالنسبة لهم على الإطلاق. وأكثر ما أقلقهم كان تصاعد العنف والشعور الإسلامي وغليان المساجد وفورة المتشدّدين. من إحدى الروايات التي أخبرتني إياها قريبتي الساكنة في حمص أنَّها أرادت في أحد الأيام (عند بدايات الاحتجاجات في حمص) أنْ تاخذ طفلتها إلى المستوصف لإعطائها اللقاح. فنزلت الشارع وطلبت تاكسي، غير أنَّ سائق التاكسي رفض أنْ يقلّها إلى المستوصف بحجّة أنَّها تلبس أيقونة للعذراء وأنَّها تكشف ذراعيها. وعندما حاولَت أنْ تأخذ سيارة أجرة أخرى آخر، قام سائق التاكسي الأوَّل باعتراض التاكسي الثاني قائلًا له: كيف لك أنْ تخدم كافرة كهذه. فكان أنْ ردّ السائق الثاني: ما همّني ودينها، أنا أقوم بالاسترزاق! أخافت هذه الفورة الدينيَّة التكفيريَّة التي ظهرت منذ بدايات الاحتجاجات في سوريا مسيحيّيها، فكانوا أنْ تمسكوا اكثر فأكثر بالدولة السوريَّة وبرموزها؛ هذه الدولة التي كانت في عيونهم متمثّلة بالرئيس السوري بشار الأسد.

 

وصلت الأزمة السورية إلى أطراف قمم ووديان وادي النصارى دون أنْ تدخل إلى عمقها. كانت أكثر المناطق المتأثرة بهذه الأزمة هي منطقة الحواش ومرمريتا وقلعة الحصن حيث تحصّن إسلاميّون آتون من الشمال اللبناني في القلعة، والتي لم ينسحبوا منها إلَّا بعد معركة القصير. سرعان ما عاد الهدوء والطمأنينة لهذه المنطقة على الرغم من معاناتها من آثار الأزمة السوريَّة ديمغرافيًا واقتصاديًا. اللافت فيها أنَّ العيش ما بين الجماعات الدينيَّة المتنوّعة بقي سليمًا لا سيّما بين المسيحيّين والعلويّين. لم تسجّل تقريبًا ولا أي حالة تنافر، ولا أيَّة حادثة، بل بالعكس بقي التواصل والعيش المشترك سائدًا على حاله كما كان قبل الأزمة.

 

الوجود المسيحي السوري في ظل الأزمة

يمتدّ الوجود المسيحي تقريبًا على كامل الجغرافيا السوريَّة. يمكننا تقسيم هذه الجغرافيا إلى أقسام ثلاثة: سوريا الجزيرة (التي تشمل مناطق ما بين دجلة والفرات وصولًا إلى حلب وريف حمص الشمالي حيث هناك تواجد كبير لطوائف السريان والأشوريّين والموارنة والأرمن والروم الكاثوليك)؛ وسوريا الوسطى، أي تلك الممتدة ما بين حمص وحماه التي تتشكل منها منطقة سهل الغاب (حوض العاصي والامتداد الطبيعي لسهل البقاع) حيث البلدتَين المسيحيّتين محردة والصقيلبية، حيث التواجد الأكبر هو لطائفة الروم الأورثوذكس)؛ والمنطقة الغربيَّة الممتدة من دمشق إلى اللاذقيَّة حيث تتنوَّع الطوائف المسيحيَّة من روم كاثوليك وروم أورثوذكس وموارنة وسريان. في المنطقة الشرقيَّة يكاد الوجود المسيحي أنْ يندثر (ما عدا حلب) بفعل عوامل عديدة بدأت منذ ما قبل الأزمة السوريَّة (من مثل الهجرة الكبيرة للسريان إلى السويد والولايات المتحدة الأميركية، وغياب التنمية، والشعور بهيمنة الأكراد على المشهد الديمغرافي والحياتي والأمني). لا أزال أذكر في حديث لي مع أحد مسيحيّي تلك المنطقة في العام 2004 أنَّ المشهد السكاني في منطقة الجزيرة (القامشلي بالتحديد) ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم مسيحي يهاجر ويبيع أملاكه، وقسم عربي بليد الطابع لا يهتم إلا بالتكاثر وتضييع الوقت بالبلادة والكسل، وقسم كردي ديناميكي له مشروع كامن يعمل على تغيير وجه المنطقة ديمغرافيًّا وجغرافيًا من خلال شراء الأراضي والتنظيم الذاتي. تعزّز هذا المشهد بعد الأزمة السوريَّة، إذ لم يعد يرى المسيحيّون في هذه المنطقة مساحة للتعبير عن ذاتهم وضمانة لمستقبلهم، لا سيما أنَّ خيار الهجرة فُتح أمامهم بشكل كبير.

في الوسط لا يزال المسيحيُّون محافظون على شيء من وجودهم لا سيما في بلدتي محردة والصقيلبية على الرغم من بعض الهجرة الداخلية التي قام بها بعض سكان هذه المنطقة باتجاه وادي النصارى. غير أنه يُلاحظ أنه لا يزال لديهم تعلّق كبير بأرضهم وتاريخهم ذلك أنَّهم لا يزالون يرون في هذه الأرض وما ترمز إليه انعكاسًا لهويتهم وتعبيرًا عن وجودهم. وقد نجحت القوات الروسيَّة بالتعاون مع القوى الحكوميَّة السوريَّة بتنظيم عدد كبير من شبان هذه المنطقة في فرق عسكريَّة تقوم بالدفاع عن هذه المنطقة خاصَّة من التهديد الذي لا تزال تمثله جماعة النصرة المتواجدة في بعض الريف الحموي.

 

تحدي بقاء الشباب

ظاهريًا يبدو مسيحيو المنطقة الغربيَّة وكأنَّهم الأقلّ تأثرًا بالأزمة السورية. فهؤلاء بقوا في بيوتهم وحقولهم ومدارسهم وجامعاتهم وحقولهم ومصالحهم. وللوهلة الأولى يبدو هؤلاء أنَّهم لا يزالون يعيشون ضمن التوقيت السوري بما يعنيه هذا التوقيت من تعايش مع الجماعات الدينيَّة الأخرى والولاء للدولة السورية بكل ما تمثله من رئاسة وحكومة وجيش ومؤسسات. غير أنَّ المراقب بعمق للحالة المسيحيَّة هنا يُدرك أنَّ الأمور ليست بالحسن الذي تبدو عليه.

إنَّ التحدي لا يتعلّق بالجيل الخمسيني وما فوق، بل بالجيل الثلاثيني وما تحت الذي يبدو أنَّه يريد أنْ يذهب إلى ما بعد التوقيت السوري السائد حاليًا. هنا الغرابة. فمن يعلم حقًا مدى التعلّق الذي كان لهذه الأجيال الشابة بسوريا يدرك تمامًا الأثر الكبير الذي تركته الازمة السورية على تطلعات هذه الأجيال. فقد فرضت هذه الأزمة تحولات ميدانيَّة ووجدانيَّة أجبرت الشباب المسيحي السوري على أنْ يبحث عن حياته ومستقبله في مكان آخر.

أسئلة كثيرة طُرحت على هؤلاء الشباب من مثل: كيف يمكن أنْ يحصل في سوريا ما لم نكن يومًا نتخيَّله؟ من هو عدوّنا في هذه الحرب، أهو مواطننا السوري الذي كنّا نعيش معه والذي أصبح متطرفًا وتكفيريًا، أم أنهم العرب أم أنه الغرب؟ ما هو مستقبلنا في منطقة يسودها هذا الكمّ من الحقد والدمار والتخلّف والهمجيَّة؟ كلّها أسئلة تسمعها من ألسنة الناس العاديّين. سبع سنين كانت كافية لإقناع حتى هؤلاء الذين كانوا يرفضون فرص الهجرة أنْ يتوجهوا إلى مطار بيروت لركوب طائرات تأخذهم إلى أوروبا وأميركا وكندا وأوستراليا هربًا من الحرب والضيق، والأخطر من انعدام الأفق في سوريا.

 

المسيحيون ملح هذا المشرق

إن كنت قد بدأت مقالتي هذه بنوستالجيا، وأنهيتها بقراءة لن أصفها بالتشاؤمية بقدر ما أراها واقعية، فهذا لأنني أريد التنبيه إلى أننا نخسر كثيرًا في شرقنا هذا. معاناتي الشخصية، وأظنها أيضًا أنها معاناة الكثيرين، هي في كيفية الحفاظ على شيء من روح هذا الشرق، من وجدانه، من عيشه الحلو، من حلمه بالتطور والتغيير والإصلاح والخروج من الإنعزال والتخلّف، من امله بمستقبل للكلّ، يعيشون سويًا في بلاد حرّة، راسخة في تاريخها بقدر ما هي متطلعة إلى المستقبل، عميقة في روحانيتها بقدر ما هي عقلانية في واقعها ومرتجياتها، وأولويتها قيمة الإنسان.

حتى مدى سيستمرّ هذا الشرق بتدمير ذاته؟ حتى متى؟
أي نشر، أو إعادة تحرير لهذه المادة، دون الإشارة الى " عنكاوا كوم " يترتب عليه أجراءات قانونية