موقع المسيحيين من المناصب القيادية
د. صباح قيّابدءً , لا بدّ أن أوضح بأني أكنّ الإحترام لكافة الآراء والمبادئ والافكار , ولن يغيّر موقفي من الإنسان كإنسان سواء آمن بالله الخالق أو أنكره , وسواء كان مع ديني أو مذهبي أو بالنقيض منه . ألمهم أن يحمل المشاعر النبيلة التي يحترم من خلالها معتقدات الغير مهما بلغ مقدار التقاطع أو التوافق .
أذكر جيداً خلال التحاقي للكلية الطبية - جامعة بغداد في ستينات القرن الماضي على نفقة وزارة الدفاع بأن الكثير من ألأقارب ومعارف الأهل اقترح على المرحوم والدي سحب تقديمي للإنخراط في السلك العسكري ’ على عكس العديد من الأصدقاء المسلمين الذين لمست تشجيعهم والإشادة بالمكاسب التي يحصل عليها الطبيب العسكري مقارنة بزميله المدني وخاصة في مجال الإيفاد والتخصص خارج القطر ناهيك عن فرق الراتب والمخصصات الأخرى , وهذا ما حصل بالفعل . لم يسبق لي رغم الصعاب والمعوقات التي لاقيتها لسبب أو آخر , خلال خدمتي الطويلة في الجيش الاصيل , أن أبديت امتعاضي من الخدمة فيه , ولكني سعيت بكل إمكاناتي الذاتية أن أحقق ما اصبو إليه من الطموح المهني المشروع , وهذا ما حصل أيضاً .
لم أصادف خلال السنين الطويلة من خدمتي العسكرية ضابطأً مسيحيأً من السلك الحربي برتبة لواء . ولكن كان هنالك العديد من المهنيين وخاصة الأطباء ممن منح تلك الرتبة , واستمرت الترقية لهذه الشريحة الخدمية لحين الإحتلال الاجنبي للوطن الغالي عام 2003 ... تولدّت لدي القناعة بعد اكتساب الخبرة وتعرفي على بعض الأعراف المتبعة , بالإضافة إلى الحقائق التي ترد على ألسنة الضباط المسلمين عفوياً أحياناً وبقصدِ أحياناً أخرى , باستحالة ترقية الضابط المسيحي من الصنف الحربي إلى رتبة لواء . ترسخت قناعتي هذه بعد مراجعة تاريخ الجيش العراقي منذ تأسيسه عام 1921 , حيث لم يسجل وجود ما اشرت إليه آنفاً . أرجو إرشادي عن أي سهو إن وجد .
لم يكن هذا السياق مقتصراً على المسيحيين فقط ’ بل بالأحرى شمل الأخوة الصابئة أيضاً . أتذكر خلال عملي في كردستان العراق في السنوات المبكرة من خدمتي , ومن خلال مطالعتي لما ينشر في المجلة العسكرية آنذاك , أبديت إعجابي بدراسات أحد الضباط المتقاعدين من المساهمين بالكتابة فيها بانتظام ’ وقد تبين أنه من الصابئة المندائيين ومن الضباط المشهود لهم بالكفاءة وسعة المعرفة , ولكنه أحيل على التقاعد برتبة عقيد أو عميد , ولم يمنح الفرصة للدخول في كلية الأركان أو الترقية إلى رتبة أعلى . مع العلم أن هذه المعلومة نقلها لي أحد الضباط المسلمين ممن سبق له العمل مع المنوه عنه , والذي نوه لي عن الغبن الذي لحق بذلك الضابط اللامع بقوله " لأنه صُبّي " ... قد أكون مخطئاً , ويا ليتني اصحح من قبل الضباط الاقدمين أو المهتمين بالتاريخ العسكري , بأنه لم يسبق لضابط مسيحي أن درس في كلية الأركان منذ تأسيس الجيش ولغاية إنقلاب تموز 1968 ... ويمكن القول بأن الأمر قد تغير بعد الإنقلاب حيث أفلح عدد من الضباط المسيحيين من الصنف الحربي بالدخول إلى كلية الأركان والتخرج منها , وربما ساعد العامل الحزبي والتوجه العلماني المرحلي للدولة على تحقيق بعض الطموح المشروع الذي كان يدغدغ مشاعر ذلك العدد .... ولكن هل تحقق الطموح الكامل لتلك الشريحة من الضباط ؟ ألجواب كلا وكلا .... غالباً ما كنت أدخل في نقاش مع معارفي من ضباط الركن المسيحيين حول مسألة ترقيتهم إلى رتبة لواء . كنت أكرر أمامهم قناعتي باستحالة ترقيتهم إلى تلك الرتبة لسبب بسيط جداً , وهو أن حمل رتبة اللواء الركن يعني الأحقية في تبوء المراكز القيادية ضمن السلم العسكري , وحتمية تقلد منصب قائد فرقة على أقل تقدير , وهذا يعني صلاحيات واسعة من الأمر والنهي والتي تتعارض جذرياً مع الآية 51 من سورة المائدة أدناه , مع تفسير أحد مفسري القران :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( سورة المائدة آية 51 )ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله ، قاتلهم
الله , ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) لقد التزم النظام السابق بهذه الحجة بالرغم من إدعائه العلمانية , وبالرغم من الإنتماء الحزبي القسري أو الإختياري لتلك الشريحة الكفوءة والمخلصة والمتفانية في عملها , والأهم أنها لا يمكن أن تتآمر أو تخطط للإضرار بذلك النظام مهما بلغ التعسف وشدة الظلم سواء عليها أو على غيرها ... وما يشاع اليوم عن التعويض عن الغبن الذي لحق بتلك الشريحة ومنح الرتبة المستحقة لمن التحق لخدمة الجيش الحالي منها , ليس سوى محاولة تحسين ماء الوجه لمن هم بالسلطة ولا يعني الكثير , حيث أن الخدمة تحت مظلة الإحتلال ولمنفعة المحتل لا يمكن أن توازي الخدمة ضمن صفوف جيش عريق يدافع عن أرض بلاده بشرف وببسالة بغض النظر عن الجهة الحاكمة .. ويتكرر السؤال المنطقي : هل هنالك اليوم ضابط ركن مسيحي في منصب قيادي ضمن القوات المسلحة الحالية وبرتبة عالية ؟؟؟؟ ألجواب متروك لوزير الدفاع المحترم , وأرجو أن يكون مدعوماً بالشواهد والأدلة , وليس مجرد كلام دعائي ...
من حسن الحظ كنت في بغداد عند اكتساحها من قبل الدبابات الأمريكية المحملة بالعملاء العراقيين من أدعياء الدين ومن شلة الحرامية التي لا تشبع .... لا شك بأن الإخوة الشيعة تنفسوا الصعداء , كما يقال , بعد هذا التغيير القسري , وطالما رددوا قبلا ً " شارون ولا صدام حسين " , وأشك كثيراً عن كونهم ما زالوا متمسكين بتلك المقولة ... ألأهم من ذلك , ما كنت أسمعه حينها من الزملاء الأطباء الشيعة في بادئ المرحلة الجديدة , بأنه لا يهمهم من يحكم حتى ولو يأتي حاكم مسيحي , ولكن المهم أن يكون عادلاً ... إذن الشيعة راضون بالمسيحي الذي حتماً سيعدل بين الجار وأهل الدار ... ولكن ما حصل عملياً بأن الإخوة الشيعة وبطريفة أو أخرى , استحوذوا تدريجياً على معظم المراكز المهمة في الدولة , وكلما شغر كرسي وغادره سني أو مسيحي جلس شيعي بدلاً عنه .. ونظرة ثاقبة لوزارة الصحة , كمجرد مثل , تؤكد مدى صحة ما أكتب . بالأحرى بدل أن تطبق نظرية الحاكم العادل , أصبح نظام المحاصصة السيء الصيت هو المعول عليه . وحتماً الحصة الكبرى تكون للشيعة باعتبارهم الاكثرية , كما أضحت " الكوتا الهزيلة " هي الممثلة الصورية للثقل المسيحي المتميز في عمله وسلوكه .
اقولها , بكل صراحة وبلا تردد , بأن موقع المسيحيين من المناصب القيادية للدولة هو حالياً " صفر " وسيظل صفراً . لا أعتقد أن تطبيق نظرية الحاكم العادل في ظل نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية سيكون العلاج الأمثل للجراح التي يعاني منها الشعب الصامد في وطنه المعذب . ألعلاج الناجح الفعال يكمن في الدعوة بجد لتبني النظام العلماني وتطبيقه بأسرع وقت ممكن . ألعلمانية هي التي تضمن العدالة للجميع وتساهم في منح الحقوق المشروعة لكافة مكونات الشعب العراقي بلا تمييز وتفريق .,, هل من المعقول أن يرضى المسيحي بمنصب تكريمي أو شرفي أو فخري وما شاكل , لا يحقق له غير إشباع الذات المتمثلة بغريزة الانا , ولا يحصل الشعب غير المزيد من المعاناة ؟؟؟ .. أتمنى من البرلماني المسيحي أن يكون من أوائل المبادرين بالدعوة إلى وضع اللبنات الأساسية لإرساء دعائم النظام العلماني الذي من خلاله ستمارس الديمقراطية في أطرها الصحيحة , وعندها سيحصل المسيحي على موقعه الشرعي ضمن المناصب القيادية الأولى في الدولة . كما تقع على الكنائس مهمة دعم هذا الإتجاه ما دامت عند رؤوسائها الروحانيين الرغبة في اقتحام الدهاليز السياسية كما يظهر في الإعلام المرئي والمسموع بوضوح وجلاء . ا