المحرر موضوع: سعد سلوم: رؤى متفائلة حول التنوع الديني في العراق  (زيارة 1064 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عنكاوا دوت كوم

  • مشرف
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 37766
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني


عنكاوا كوم / الفنار للاعلام
سعد سلوم*


في شهر حزيران الماضي، رافقت قساً بلجيكياً يعيش في العراق منذ أكثر من أربعة عقود في رحلة لزيارة كنيسة تاريخية في جنوب بغداد تدعى “كوخي” نظراً لوجود أكواخ للعمال حولها في الماضي. كان القس، الذي اتخذ إسماً محلياً هو”منصور المخلصي”وأسس مركزاً للدراسات المشرقية في كنيسة الروم الكاثوليك ببغداد، مرتبكاً من فكرة اصطحاب زائرين إلى تلك البقعة التي لم يجرؤ أحد على زيارتها طوال الخمس عشر سنة الماضية.

وعلى الرغم من تعرض مناطق آثارية كثيرة للنهب أو التدمير على يد تنظيم داعش في محافظة نينوى، فإن هذه المنطقة البعيدة بقيت بعيدة عن العمليات العسكرية. في الوقت نفسه، تعاني هذه المنطقة – كغيرها من المناطق الأثرية في العراق -من الإهمال الرسمي رغم وقوعها في منطقة غاية في الجمال على ضفاف  نهر دجلة الأسطوري.

مضت السيارات بموازاة “سورساليق” الذي يعود للقرن الأول الميلادي وسط ثكنات عسكرية للجيش، الذي كثف من نقاط الحراسة لضبط العنف في هذه المنطقة الخارجة عن السيطرة.عندما وصلت السيارات إلى تل كبير يحتوي على مدرجات طينية، تلى الأب منصور الصلاة على أرواح الشهداء من المؤمنين الأوائل بالمسيحية من الذين ترتسم قبورهم في هذا التل الذي يطلق عليه تسمية “تل عمر”. تكلمت مع جنود تموضعوا فوق التل وكانوا مندهشين من كون المكان يشكل أهمية دينية استثنائية، إذ اعتقدوا أنه مجرد تل بناه القرويون لصد الفيضان.

انتهى مسار الرحلة بزيارة موقع كنيسة كوخي في تل قصر بنت القاضي، وكان قد تم اكتشافها من قبل بعثة آثارية ألمانية نحو سنة 1929، ما تزال آثار عملية تنقيبهم بادية للعيان، وفي المكان نفسه، وعلى مستوى أعمق توجد آثار كنيسة أخرى أصغر وأعمق مبنية على النمط نفسه.

خلال الرحلة، تحدث الأب منصور عن مدائن اخرى لا تقل أهمية، بنيت على ضفة نهر دجلة قبل أن يغير النهر مجراه أكثر من مرة ويفصلها عن موقعها القديم أو يجعلها على يمينه تارة وعلى يساره تارة أخرى. من بين هذه المدن : المدينة المدورة (بهرسير)، وقبلها ساليق اليونانية (300 ق.م) التي بنيت على جهة دجلة اليسرى وكانت منفصلة عن قطيسفون. والأخيرة (قيطسفون) أسست تحت أسم “ساليق الجديدة” 39-47 ق. م، وكانت تقع على الجانب الأيمن من نهر دجلة.

بعد وصولنا، دعانا سكان من قبيلة الجبور المسلمة لتناول سمك المسكوف على الطريقة العراقية. في الحقيقة، كانت الدعوة هي الجانب الأكثر إشراقاً في زيارة كوخي. إذ أن استعدادات السكان المسلمين في المنطقة لإستقبال الزوار المسيحيين لـكوخي تكشف رغبة حقيقية في التخلص من الصور النمطية السائدة عن عداوات دينية وطائفية بين مسلمي ومسيحيي العراق.

الكاتب مع سكان من قبيلة الجبور المسلمة يتناولون سمك المسكوف على الطريقة العراقية. (الصورة: سعد سلوم)
كان من السهل رؤية رغبة هولاء الناس في إستعادة حياتهم، وأن يتوقف الآخرون عن تنميطهم بكونهم “إرهابيين” أو على الأقل متعاونين مع “داعش”. وهو ما دفعني للتفكير في أهمية التركيز على إحياء هذه المنطقة وغيرها من المناطق الأثرية في البلاد والاستثمار فيها كمزارات للسياحة الدينية والأثرية أيضاً. سيعود هذا الاستثمار بفوائد اقتصادية أكيدة على سكان هذه المناطق المهمشة والمعزولة بفعل الحرب عبر توفير فرص عمل لسكانها، وسيشكل خطوة حقيقية للتخلص من صور العنف والنزاع والانقسام في الذاكرة فضلاً عن إظهار الصورة الحقيقية التعايش الإسلامي المسيحي في العراق وإعادة بناء الثقة بين السكان في فترة مابعد داعش. أعتقد أن هذا النوع من الإستثمار سيكون عامل وحدة وقوة في مقابل سياسات الإنقسام. كما أنه سيشجع السكان على الحفاظ على هذا التراث الغني باعتباره مورداً هاماً لمعيشتهم.

بالطبع، يشكل الاستثمار في إحياء المواقع الدينية ككنيسة “كوخي” أيضاً فرصة لإعادة بناء اقتصاد قائم على التنوع الديني والثقافي كبديل للاقتصاد القائم على النفط.

إن الإستثمار في اقتصاد التنوع الديني للعراق لا يقتصر على الاستفادة من التاريخ الغني للديانة الإسلامية والمسيحية في البلاد، بل يشمل أيضاً الديانة اليهودية خاصة وأن العراق كانت المركز الروحي لليهود قرابة الألف عام فضلاً عن وجود العديد من اضرحة أنبياء العهد القديم في أنحاء مختلفة من البلاد كقبر النبي حسقيل في محافظة بابل، وقبر عزرا هسوفير (العزير) في محافظة ميسان، وقبر النبي دانيال في محافظة كركوك وغيره الكثير من المزارات التي تعد فرصة لا تعوض لإعادة بناء الروابط بين الأجيال الجديدة من اليهود والمسلمين للتحرر من عقود الكراهيات ومخاوف الصراع.

من جهة أخرى، يشكل وجود العديد من المرجعيات الروحية أحد أبرز مصادر القوة الناعمة للبلاد، ففضلا عن وجود آيات الله بما فيهم المرجع الأعلى لشيعة العالم في النجف (فاتيكان الشيعة)، ومراجع كبار أخرون في كربلاء، فإن هناك مرجعيات روحية تتخذ من العراق مركزا لها، مثل المرجعية الدينية العالمية لطائفة الصابئة المندائيين في العاصمة بغداد وسط البلاد، والمرجعية الدينية العالمية للايزيديين في شيخان في محافظة نينوى شمال البلاد، فضلا عن مرجعية الكلدان الكاثوليك في العالم، ومرجعية كنيسة المشرق الآشورية التي عاد كرسيها الى العراق بعد أن ظل منذ سبعينيات القرن الماضي خارج البلاد (في شيكاغو في الولايات المتحدة)، ومرجعيات طوائف إسلامية مثل الطائفة الشيخية في البصرة جنوب البلاد، وهناك اقليات دينية لا يوجد مثيل لها في العالم العربي مثل الكاكائيون في شمال البلاد الذين يمثلون امتدادا لطائفة أهل الحق في ايران، والشبك الذين يعدون أقلية إثنية تستقر في منطقة سهل نينوى، وتتميز بتراث عرفاني  مميز من التصوف.

وهنا لا بد من التأكيد على نقطتين أساسيتين لتحقيق هذا الاستثمار. أولاً: يتوجب على الدولة إصدار تشريعات تحمي التنوع الديني وتكرسه في دستورها وجميع قراراتها التنفيذية. ثانياً: لا بد  من تصميم مناهج دراسية مدرسية وجامعية تعرف الطلاب بالتنوع الديني الذي تتمتع به بلادهم وتسهم في نشر وعي وثقافة تقبل الأخر ونبذ التعصب وخطابات الكراهية، بالإضافة إلى دعم البحوث العلمية التي تعمل على توثيق هذا التراث وتقترح وسائل ممكنة للحفاظ عليه وحمايته لكونه رأس مال لا ينضب وسياج لحماية العراق ووحدة أبناءه.

*سعد سلوم: أكاديمي وصحافي عراقي متخصص في الأقليات العراقية وحقوق الإنسان. يرأس قسم الأبحاث في كلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، وهو أحد الأعضاء المؤسسين للمجلس العراقي للحوار بين الأديان. تركز منشوراته على الأقليات العراقية وتشمل كتب “الأقليات في العراق” (2013) ، “المسيحيون في العراق” (2014) و “السياسات والمجموعات الإثنية في العراق” (2014).


أي نشر، أو إعادة تحرير لهذه المادة، دون الإشارة الى " عنكاوا كوم " يترتب عليه أجراءات قانونية