إنْ شئتم فانصتوا لهذه المحاورة التي جرت بين مربٍّ فاضل وابنه الوحيد، الذي بذل جهداً كبيراً في تربيته وتعليمه، على أمل أن يضمن له في المستقبل حياة فيها شيء من الكرامة، ولم يهدأ له بال، إلاّ بعد نيله شهادة مرموقة من إحدى الجامعات العريقة، ممّا جعله في حكم المتيقّن من أداء رسالته على أكمل وجه، ولكن وقائع هذه المحاورة تشير إلى عكس ذلك تماماً.
أنصتوا جيداً، فقد يكون أحدكم طرفاً فيها، أو طرفيها..
يا أبي، لو صَحَّت مقاضاة الوالد لَقاضيتك!.
* أنا ؟!
ولَحكمت عليك بالفشل المؤبد ..
* عليَّ ؟
لقد جئتَ بي إلى هذه الدنيا في زمنٍ ليس زمني، وفي عصر ليس عصري، فأنا، ومن هو على شاكلتي من أبناء جيلي، غرباء، لا وجود لنا في هذا العالم التائه، المضلَّل..
أ تذكر يوم غششت _ لأول مرة _ في الامتحان، كيف ضربتني ضرباً موجعاً، ترك آثارَه في أنحاءَ كثيرةٍ من جسمي؟
* أذكر..
تلك كانت آخر مرة أغش فيها، فلم أغش بعدها أبداً..
وهل تذكر يوم كذبت عليك وخدعتك، كيف منعت عني الطعام والشراب لمدة يوم كامل؟
* أذكر ..
لم أكذب بعدها أبداً، ولم أخدع بعدها أحداً..
و تذكر يوم مددت يدي إلى جيبك، فوضعتني في غرفة مظلمة حتى صباح اليوم التالي؟
* أذكر ..
توقفت عن السرقة بعدها، وقطعت عهداً على نفسي، ألّا أمدَّ يدي إلى مالٍ ليس لي..
وهل تذكر يوم كنت تشجعني على القراءة، وعلى البحث عن المعرفة في الكتب، لكي أفهم الحياة أكثر وأعرف حقيقة الأشياء، وأدرك معنى الوجود؟
* أذكر
لم أعِرْ التوافه بالاً منذ ذلك الحين، وسرت في طريق الجد، الذي لا يقبل بغير الاستقامة..
أ تذكر.. وتذكر.. وتذكر .....؟
* وهل هذه رذائل، يا بني؟
رذائل ؟ .. سمّها معوقات، عراقيل ، سمّها ما شئت..
لقد نجح كل الذين غشوا، والذين انحرفوا، والذين اصطادوا في الماء العكر ..
أما أنا وأمثالي، فنجلس كل يوم، نرمي صنّارات أمانينا في الهواء الطلق، فلا نصطاد غير الخيبة والفشل..
أين المفر للصادقين في عالم كاذب، للأمناء في دنيا خؤونة، للأنقياء في زمن المخزيات ؟
أين أضع استقامتي بين هذه الخطوط المتعرجة والملتوية ؟
أين أهرب من الجد، الذي طبع حياتي فصار جزءاً مني ؟
أين أخبِّئ نزاهتي في غابات المراوغة والاحتيال والوصولية، والغدر؟
ما هو محلّي من الإعراب الاجتماعي والإنساني في عصـرٍ تدهور فيه الضمير، واندثرت فيه القيم الإنسانية؟
* اسمع يا بنيَّ ، لن أعطيك جرعةً أخرى من فلسفتي العقيمة، كما تتهمني..
لن أقول لك طوبى للغرباء، للأنقياء، للفقراء .. طوبى لطيّبي القلب والسريرة ..
لن أقول شيئاً من هذا، ولكن سأوجز لك، وأترك لك أن تستشف من الإيجاز ما تستشف ..
مُسهباً، كنت أعدك لبحبوحةٍ في الرزق .. لرغدٍ في العيش .. لغنىً في النفس .. لغنىً في العاطفة، وقلت لك: لا تسرق، لا تكذب، لا تخن، لا تغش، لا تظلم .. وسأظل أقول لك اليوم ما قلته لك بالأمس .. لن أتراجع ولن أندم، ولكن ما باليد حيلة يا ولدي من مواجهة الواقع .. الواقع، يا حبيبي وليس الحقيقة، فالواقع طارئ وزائل، والحقيقة أزلية، أبدية..
كنت موقناً من أمر واحد، هو أنّ الأرض تدور، ولم أدرِ بعد هذه الحفنة من السنين أنّ كلَّ شيءٍ وُضِعَ في حلبة الدوران، وصار يدور، فليست الأرض وحدها هي التي تدور، بل الناس، والأشياء، والأفكار، وحتى القيم والمثل، هي الأخرى أخذت تدور.. كل شيء يدور، يدور، ولكن للأسف الشديد، إلى الوراء!