المحرر موضوع: الإدمان، وراء اللذة بناء شاهق من الألم  (زيارة 771 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المطران مار يوسف توما

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 86
    • مشاهدة الملف الشخصي
الإدمان، وراء اللذة بناء شاهق من الألم
+ المطران د. يوسف توما
الإدمان، بمعناه السلبي، نوع من البرمجة النفسية والجسدية والعاطفية، ما يسيطر علينا، فندخل في دورة مغلقة يصعب كسرها والخروج منها إلى أسلوب حياة أكثر توازنا وحرية. فالمدمن يقوم بأمور كثيرة لمجرد كونه يعتقد أنه أمر عادي وأن الجميع يفعل ذلك. بالحقيقة وإن كان المصابون بمشاكل الإدمان أقلية في المجتمع إلا أن وجود مدمن في مكان ما يسمم حياة من هم حوله. فالمدمن يبرّر نفسه وينكر أنه يسيء التصرف بل يشعر بالراحة مع هذا "الانكار"، فيهرب من التصرفات السوية والاتجاهات الصحيحة والصحيّة. من الواضح أن التعاطي المدمن قد يظهر بكل أشكال ما يسيطر عليه، سواء أكان الإدمان واضحا كالمخدرات أو الكحول أو التدخين، أو كان معنويا خفيا كالإدمان على القمار والألعاب وكل ما يجعله تابعا لتصرف متكرر لا يعود قادرا أن يتخلص منه.
وإذا ما حاولت إعطاء تعريف أكثر دقة للإدمان، أقول إنه بمثابة "مرض" قد يواجه – بشكل ما أي شخص لدى تعرضه وخضوعه للتصورات والأوهام. يحكى عن الملا نصر الدين (المسمى شعبيا جحا)، أنه كان يقف على ضفة نهر، فلاحظ كلبا اقترب يريد أن يشرب. وعندما رأى الكلب صورته في الماء بدأ ينبح. وصار ينبح طوال الوقت منذ الصباح وحتى الظهر، بحيث صار يرغو من فمه، وأخيرًا، إذ كاد يموت من العطش، وقع في النهر، وهكذا روى عطشه، فخرج سعيدا. قال جحا: "أدركت أنني مثله طوال حياتي أقع بنفسي ضحية أوهامي وتصوراتي".
المدمن في الواقع هو من تسوقه الأوهام، يعتقد أنه بإدمانه سيصل إلى نتيجة، فلا يشبع مثل عشاق المسلسلات والأفلام يقضون أمامها الساعات، أو مثل لاعب القمار، ينزل إلى الهاوية ولا يعرف أن يقول لنفسه "كفى"، والنتيجة هي نفسها، ضعف إرادة وخضوع لما يسيره، فلا يستطيع أن يجد مخرجا ولا أن يبتعد عن حالته، ولا يراجع نفسه ليرى مأساته وعقم ما يعمل ويركض وراءه، بحيث يضيع عمره وشبابه في بحث عن مال غير موجود أو معنى في النهاية. لهذا السبب أقترح أن يكون التأمل بالعواقب خير علاج.
التأمل، علينا الانتباه أن هناك فرقا بين تأمل وآخر، إذ لدى العراقيين نوع من التأمل يسمونه "دالغة" (ولها عندهم معاني عديدة) أو "صفنَة"، وهما بعيدتان عن التأمل المقصود. فالشخص الذي يقع في "دالغة" أو "صفنَة"، تكون خلال ساعات يقظته، بلا هدف لديه ولا يصل بهما إلى شيء، بل يدور في حلقة مفرغة من الأفكار. لكن التأمل الحقيقي يختلف، لأنه يساعد المرء على الخروج من قوقعته فليصبح أكثر حنانا ومحبة، مسالما، قنوعا، سخيا بماله ووقته وخصوصا قادرا على التجاوز والغفران، هذا يمكن أن نطلق عليه إسم "المحب الواعي" وليس المدمِن المتطلِب التابع والخانع لميوله.
تقوم اليوم في كثير من الدول مراكز "تخلص من سموم الإدمان" (désintoxication-Detoxification)، كضرورة علاجية، لكن الخوف هو أن يعقب العلاج انتكاس، كمن يقلع فترة عن التدخين ثم يعود، ذلك لأنه لم يحصّن نفسه باكتساب عادات جديدة وتجنب ما سبّب الإدمان لديه. هذا يعني أن كل إدمان قادر أن يخفي أشكالا أخرى من التبعية عميقة قد تكون أخطر من مجرد ضعف أمام كأس أو سيكارة! فالشخص القوي هو من يستطيع أن "يتجاوز" نفسه بلا مقارنة مع أحد، والسوي هو من يعدّ الأنانية النرجسية عدوّه الأكبر، فلا ينخدع بمن يظهر كشخص لبق وساحر لكنه أناني بطرق مختلفة. مثل هذا يمارس الإدمان كشكل من أشكال الحياة أو "أسلوبا للحياة"، فقط لجذب انتباه الآخرين، وهو بالحقيقة تابع لآرائهم ونظرتهم وإعجابهم، يخاف جدا من انتقادهم أو مقاطعتهم، لا يسير إلا بالدفع ولا يدرس إلا بالتشجيع والمديح، هذه التبعيّة قد تجعله يبدو أفضل من كثيرين فتراه "مدمنا" على الكمال في المواعيد أو في إبراز محاسن نفسه، قد لا يؤجل عمل اليوم إلى الغد، لكنه بتبعيته يؤخر تطوّره الشخصي أو الوظيفي، فلا يتقدّم وهو بلا هدف. إن مثل هذا الشخص واقع في السهولة مع نفسه عندما يستسهل تغلغل "إدمان نمط الحياة كالآخرين" ومحاكاتهم والكلام مثلهم، ويعتبر "الحشر مع الناس عيد" حتى لو كانوا ذاهبين إلى جهنم، فيتعاطى مثلهم ويتكلم مثلهم وينفعل مثلهم بأشكال الانفعالات المزاجية والسلبية في الرؤية، أو يدمن على وعود الشفاه والكذب والافتقار إلى العطف، والبخل في التشجيع والحنان، هذا إلى جانب ممارسته "السفاهة" الدفاعية وهي لديه قوية لأنه يكره أي شكل من النقد، المهم أن تتوجه الأنظار إليه فهو لا يتحمل ذلك...
لا بد لكل كائن بشري أن يتعلم التخلي (منذ يوم فطامه) وهذا يعني بداية رحلة النضوج الجسدية والروحية، إنها مسيرة رحلة الانفصال، وقد أثنت عليها الأديان، في جانبها الصوفي، كعملية تعلّم لا بد منها، فقيل "لا تجلّي بلا تخلّي". لأن جميع مشاكلنا وبؤسنا ناجمة عن التشبّث بالانغلاق على الأشياء وعدم القدرة على إطلاق سراحها. أولاً، يجب أن نقتنع بأن لا جدوى من التشبّث لا بالأشياء المادية ولا بغيرها. هذا لا يعني بالضرورة التخلي عن جميع الممتلكات المادية، لكن المقصود هو هل ننظر إلى الأشياء المادية كتحقيق لسعادة دائمة؟ في العادة، يُنظر إلى مكانتنا في الحياة، عائلتنا، ومكانتنا في المجتمع، على أنها هي مصدر السعادة. من الأفضل عكس هذا المنظور، باتباع جميع الروحانيات في التخلي عن القلق بالقناعة والاكتفاء بالقليل والعبور. من يتدرب على التخلص من هذا التشبث يصير حراً، لأنه كلما ترك شيئاً، تحرر منه وقويت مرونته، قبل أن تجبره الحياة والآخرون على ذلك رغما عنه. سيتذوق معنى تجاوز الحدود فلا يبقى سجينا لها، عنيدا بسخافة فارغة، مدمنا على التكرار وتابعا لشيء آخر غير نفسه.
أخيرا، كل شخص، مع التقدم في العمر، لا بد أن يقوم يوميا بضبط أوتار تصرفاته – كما يعمل عازف العود - وتعديل سلوكه العام من خلال رؤية واضحة لسلبياته، واستبدالها بإيجابيات. هذا لا يعني أن يقوم بمجرد "الالتفاف" عليها واستبدالها بإدمان آخر. لأنه كي يكون حرا عليه أن يتخلى عن السلبي ويفتح قلبه للإيجابي فيكتسب عادات جيدة هي "الفضائل". إنها مثل الطعام، فالنظام الغذائي خاص به لا علاقة له بما يأكل الآخرون، ليس بالأكل فقط، ولكن ما يشاهد ويستمع ويقرأ، ومن يعاشر من أشخاص ويدور في فلكهم. يضع في اعتباره أهمية الأشياء التي يدخلها في جسمه وعاطفته وروحه. فالحرية ستأتي مع فحص الذات وعندما يعي الأنا لديه نفسه بفطنة وتمييز أنه محدود وسريع العطب أكثر مما كان يتصور أيام زمان في الماضي.
كركوك 23 كانون الأول 2018