المحرر موضوع: أيتها الريح  (زيارة 1094 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
أيتها الريح
« في: 03:53 17/03/2019 »
أيتها الريح
شمعون كوسا

منذ اعوام اعتدت على النوم المخلخل  ، وقد انقلبت خلخلتي ذات يوم  سهادا ، جرّاء ريح لم تتوقف زمجرتها  طوال الليل . كانت تعصف بشدة ، تقترب بأزيز قاسٍ وتبتعد قليلا ثم تعود بقساوة أشدّ ، وفي كل مرة كنت ارفع ذراعيّ ألى العلا كيلا تهتدي الى منفذ يُدخلها البيت . عند الصباح ، كانت قد فقدتِ الريحُ بعض بأسها، ولكنها لم تكن قد افرغت جام غضبها كاملا ، فإنها كانت لم تزل رافعة اصبع التهديد.  جلستُ على حافة السرير أرقب الحالة واتابع حركة الاشجار، وإن كانت الريح قد عصفت ببعض الهزيلة منها. ركّزت انظاري الى شجرة قريبة من الشباك ،  فرأيت الريح قد تولت أمر احد اغصانها الصغيرة وكأنها تعامل عدوّا. تُرغمه على الاستدارة يمينا ، ولا تمهله ولو لحظة ، فتعود مؤنّبة إياه قائلة : ألم اقل لك لا تلتف يُمنة فتصفعه من جديد ، وبعدها  تعود لتغيير اتجاهه ، وهكذا  يتلقّى الغصن مع اوراقه الصفعة تلو الاخرى من كل الجهات ، ودون هوادة وكأنها كانت مكلفة بتأديبه ، أو بالأحرى تعذيبه.
بقيتُ اتابع عملية العنف هذه لاكثر من ربع ساعة ، إلى ان تهاوى الغصن الصغير مستسلما لقوة الريح ، لم يقوَ الغصن على مقاومة الريح التي ، تحت التعذيب، وكأنها كانت تصرّ على انتزاع اعترافاته ، فآثر الانفصال عن الشجرة والسقوط  أرضاً . استمرت الريح بعصفها وافراغ ما في جعبتها إلى ان خفت وطأتها . كانت الحديقة اضحت ساحة معركة سقط فيها الكثير من القتلى. رأيت الريح  تعود بهدوء وكأنها لابسة ثوب الندامة . بدأت تعتذر من الغصن الصريع ، وتهدهد اوراقه بحلم ووداعة. كانت بعض اوراقه الصغيرة تهتز ببطيء ، كالمنازع الذي يحتفظ  ببعض رمقه قبل لفظ أنفاسه الاخيرة. غدتِ الريحُ العاصفة المزمجرة نسيما هادئا منعشا ، غير انها ، بالرغم من ندمها وهدوئها،  لم تفلح في احياء الغصن الذي اختار الموت هربا من الصفعات التي تلقاها  . 
مشهد الريح هذا ، أعادني الى ذكريات طفيفة من طفولتي في شقلاوا ، وما اكثر هذه الذكريات وما اصدقها ، وعندما اقول ذكرياتي هناك فاني ارقى الى ازمنة غابرة، وموقع هذه الذكرى الصغيرة ، كان مبنى فندق خانزاد القديم . كنتُ قد اعتدت على الجلوس احيانا في اوقات الظهيرة ، في غرفة والدي السياحية . إلى يومنا هذا اتذكر صوت الرياح التي كانت تهب على اشجار الصنوبر ذي الاوراق الإبَرية ،  كانت الريح تمر بين الابر فتأتي بازيز غريب ، يهب ويعصف ويخف ، ويشتدّ ويصمت ويتكرر، بنمط موسيقي خاص . لا اقول بانه كان  عذبا ولكنه تأصل في زاوية من ذاكرتي لحد الان. 
لا يمكن ان يمر موسم الشتاء وشهر شباط بالذات ،  بغيومه السوداء وامطاره ورياحه وثلوجه ، دون ان ارفع ألحاظي  ومن نفس المكان ، الى جبل سفين الاشم.  كان الجبل ، ساعة اغتساله ، ينادي الضباب والغيوم أو يكتفي بإيماءة كي تأتي فتسدل الستار على قمته. وفعلا لم يكن يمضي وقت طويل عندما كان يطلّ الجبل من جديد بمنظر جديد موشحا بوشاح ناصع البياض.
 لعل البعض يقولون : ما بال صاحبنا هذا ، يرى سعادته في الضباب والغيوم السوداء والامطار والرياح ، فجوابي على هذا السؤال الذي لم يطرحه احد غيري هو : ان الشمس جميلة جدا ، واشعتها تتيح لأعيننا رؤية العالم الخارجي ، اعني الطبيعة وجمالها ، ولكن الغيوم السوداء والاجواء السريّة والغامضة ، تجعلنا ندخل داخل نفسنا ، لنرى ونكتشف نفسنا وعالمنا الداخلي الواسع الصامت ، الذي في بعض جوانبه لا يقل جمالا عن عالم الاضواء.
وهل بإمكان موضوع الريح ان يمرّ مرور الكرام ، دون أن يجعلني استعيد اجمل قصيدة ، او قطعة نثرية كتبها جبران خليل جبران ، الكاتب والمفكر والفيلسوف والشاعر الذي رسم بخياله الواسع وعالمه الجميل ، اروع لوحة للريح . لقد تغنيتُ عدة مرات مستعينا بكلمات وصفه الرائع. انها قطعة فنية ادبية رائعة ، ويحلو لي ان اسطر بعض مقاطعها .  يقول جبران عن الريح إذن :
 
تمرّين آناً مترنّحة فرحة ، وآونة متأوّهة نادبة. 
فنسمعك ، ولا نشاهدك ، ونشعر بك ، ولا نراك .
تتصاعدين مع الروابي ، وتنخفضين مع الاودية
وتنبسطين مع السهول والمروج. ففي تصاعدك عزم ،
 و في انخفاضك رقّة ، وفي انبساطك رشاقة .
في الخريف تنوحين في الاودية ، فتبكي لنواحك الاشجارُ ،
وفي الشتاء تثورين بشدة، فتثورُ معك الطبيعة بأسرها،
من الجنوب تأتين حارة كالمحبة ومن الشمال باردة كالموت
ومن المشرق لطيفة كملامس الارواح ، ومن المغرب شديدة كالبغضاء ،
أمتقلبة انت كهذا الدهر ، ام انت رسول الجهات تبلّغين الينا ما تأتمنك عليه ؟
ومقطع أخير يعجبني كثيرا ، يقول :
إلى أين تتسارعين بأرواحنا وتنهداتنا وانفاسنا ؟
الى اين تحملين رسومَ ابتساماتنا؟
هل تذهبين بها الى ما وراء الشفق البعيد ، ما وراء هذه الحياة ؟
ام تجرّينها فريسة الى المغاور البعيدة والكهوف المخيفة ،
وهناك تقذفينها يمينا وشمالا، حتى تضمحلّ وتختفي.

القصيدة طويلة، ولكني اكتفي بهذه الاسطر وكلماتها المثقلة بالمعاني. انا شخصيا انظر الى هذه الكلمات بشئ من القدسية ، لأني ، وهذا رأيي الخاص، لم أرَ كاتبا او شاعرا وصف الريح بهذه الصورة الجذابة جدا . فالوصف يتمّ عادة بالخيال الخصب والتشبيه، وكلاهما رائعان هنا . لقد  ارتأيتُ الكتابة عن الريح لجبران ، لإطلاع من لا يعرفها  ، وإمتاع من سبق وان عرفها ، لانه حتى  الذي قرأها واعجب بها ، يحلو له زيارة متحف الشعر والجمال من جديد.  ألا يأتي الناس من اقاصي الارض الى متحف اللوفر مثلا ، للوقوف مطوّلا  أمام لوحة موناليزا وإبداء اعجابهم بها ؟!!


غير متصل سامي ديشو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 941
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: أيتها الريح
« رد #1 في: 14:47 17/03/2019 »
الاخ شمعون كوسا المحترم

لقد أطلقتَ العنان لخيالك الواسع والخصب، لتصف لنا وصفاً رائعاً، صديقنا الريح المدوّية أحياناً، لكنها غير مرئية، نتحسّسها وتكلّمنا، لكنها مجهولة الهوية.

نعم، وبالرغم من انها خرساء نُطقاً، الا انها أرجعتْنا الى الوراء عشرات السنين، الى ذكريات الماضي. تلك الذكريات، التي لا يمكن محوها من الذاكرة، لتمتزج بالوصف الجميل والمحمّل بالمعاني المتشعّبة في كل الاتجاهات لشاعرنا واديبنا جبران. تقبل تحياتي ...

سامي ديشو - استراليا

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: أيتها الريح
« رد #2 في: 15:42 17/03/2019 »
اخي سامي
اشكر مداخلتك ، ارجو ان تكون بخير هناك في سيدني . الرياح تؤثر على كافة معالم الحياة ، وقصيدة جبران مثل حي لذلك. حفظك الله وتحياتي لكم جميعا.