المحرر موضوع: مع المسيح المصلوب حتى الرمق الاخير  (زيارة 1111 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نمير لوسيا

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 47
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

مع المسيح المصلوب حتى الرمق الاخير

كانت الشمس قد بلغت مُنتصف النهار عندما طَرقَتْ مَسامِعُ الكون كله صدى ذلك الصراع العظيم الذي كان يَحْتَدِم في مكان ما ، صِراعُ بين جسد يتهاوى في ظُلمات الموت السحيقة وروح فيّاضة تروم العودة الى نور عالمها السماوي ، فقد وصل أنين ذلك القلب المُحتضر الى اعمق اعماق الكون فهزّ اركانهِ كلها وزلزل نظامهِ . وإذ ذاك توقفت نواميس الطبيعة ، فغابت الشمس عن سماء الارض وخيّم عليها الظلام ولفّ الارض والسماء صَمتُ عميق حتى اعمق من الصمت نفسه ، وفي تلك الأثناء رفع المصلوب رأسه ببطء وتلفت فيما حوله فبدا له وكأن العالم قد أُغمي عليه. فقد كانت جروحه تنزفُ رويداً رويداً ومع كل قطرة دمِ تنسال من تلك الجروح التي حفرتها مسامير خطاينا كانت قِواهُ تنهار اكثر فاكثر ومن ثم بدا يفقدُ وعيه وعندما يستعيده يحاول جاهداً استجماع ما تبقى من قِواهُ فيرفع راسه بجهد ويُحملق في تلك الوجوه البأئسة باحثاً عن امهُ والمريمات وعن التلميذ الحبيب وسط ذلك الظلام الذي اطبق على المكان كله آملاً ان تقع عينيه على والدته للمرة الاخيرة فيوصها بان تبقى مع التلميذ الحبيب بعد رحيله واخيراً طالها والتقت العيون التوّاقة ونظر اليها نظرةً مِلّؤُها الحب للبشرية كلها ولتلك الأمومة الجميلة التي غمرت حياته الانسانية والتي حفرت في روحهِ انهاراً من الحب ، ومن ثم انتقل بعينيهِ الى المجدلية فراى في وجهها المضطرب آلم وشقاء الانسانية المعذبة كلها وفي دموعها المُنهمِرَة نور الله المُشرق على وجه الانسان الجديد المُغتسِل بدموع التوبة ومن المجدلية انتقل بناظريه الى التلميذ الوفي الذي رافقه حتى النهاية والذي كان ينظر الى المسيح بقلب مَسحوق ومُحطّم ولكنه مُتأهب لاستقبال الاشارة كما كان دوماً فأومأ اليه المسيح ان يعتني بوالدته ففهم الاشارة ورد عليه بالقبول بأنحناة من راسه عند ذاك بدات انفاس المسيح تتناقص وبدا يقترب من حافة الموت اكثر فاكثرغير انه لم يكُن حاضراً للرحيل فقد كانت في اعمق اعماقه رغبة عارمة في ان تلتقي عيناه مع ذلك القيرواني الذي حمل عنه عبء الصليب فيقدم له الامتنان بلغة العيون على التضامن الذي اظهره معه في الوقت الذي كان فيه بأشد الحاجة الى نظرة صديق يجد فيها عزاء ومؤاساة او الى مَن يُخفّف عنه ذلك الحمل الثقيل لكنه تُرك وحيداً يواجه لَعَنات الموت على الصليب لذا راى في شهامته وشجاعته ومُرافقته له صورة الانسان الجديد الذي صُلبَ إنسانهُ القديم معه والذي مات معه سيحيا معه ايضاً. واخيراً حاول المسيح جاهداً استجماع اخر ما تبقى فيه من قوة لألقاء نظرة الوداع غير ان انفاسه كانت قد نفذت فحَنى رأسه ولفظ الروح .