المحرر موضوع: قطع الرؤوس ثقافة ليست غريبة علينا  (زيارة 818 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صالح الطائي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 138
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
قطع الرؤوس ثقافة ليست غريبة علينا
صالح الطائي

اهتم الإسلام بالوراثة والتناقل الوراثي بشكل يفوق ما جاء عنها في الديانات والحضارات الأخرى، وكان القرآن قد اهتم بموضوع الجينات لأنها تمثل الجزء الأساس من خلق وتصوير ذرية آدم في الأصلاب، وهناك في الكتاب الكريم آيات كثيرة عن خلق الإنسان والأمشاج والماء والسلالة والطين وباقي التفاصيل.
وما تحريم الزواج بالمحارم، كما في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23]، إلا دليلا واضحا على اهتمام الإسلام بتناقل العادات من خلال الجينات، وهو ما أكد عليه شاعرهم، بقوله:

تجاوزتُ بنتَ العمِّ وهْي حبيبةٌ       مخافةَ أن يضوى عليَّ سليلي

ولرسول الله(صلى الله عليه وآله) أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وفي معنى التناقل الوراثي والجيني، منها على سبيل المثال لا الحصر قصة الرجل الأبيض الذي وُلد له طفل أسود على خلاف باقي إخوته، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فشكى له الأمر،:
فسأله النبي: "هل لك من إبل؟
قال: نعم،
قال: فما ألوانها؟
قال: حمر،
قال: فهل فيها من أورق(*)؟
قال: نعم.
قال له: فأنى ذلك؟
قال الرجل: لعله نزعه عرق
فقال النبي(صلى الله عليه وآله: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق!"
أما في المأثور العربي فهناك الكثير من الأحاديث والقصص عن مواريث عربية متداولة، منها قولهم: "من شابه أباه فما ظلم"؛ يقصدون أن ذلك كالحتم في شديد التعصب، وقولهم: "حتى الكَسر يشك فيه"، يقصدون أن الوراثة تصل إلى حد الشك بأن الكسر الذي يصيب شخصا ما قد يكون إرثا من آبائه!.
معنى هذا أن علم الوراثة Genetics ليس من العلوم حديثة النشأة، وأن ما قام به الراهب النمساوي "مندل" كان مجرد ابتكار لأسس وقوانين هذا العلم القديم، الذي تطور فيما بعد على يد "دي فريرز" و"باتيسون" و"مروجان" وآخرين غيرهم، فبدا وكأنه من العلوم الحديثة التي لم تكن معروفة من قبل!.
أما الصحيح فبدايات هذا العلم على مستوى جغرافيتنا تعود إلى العصر الجاهلي؛ الذي اهتم بتحسين نسل الخيول وتأصيلها، عن طريق التهجين، إيمانا منه بالوراثة وأثرها، والصفات التي تكتسب عن طريقها، كما اهتم ذلك المجتمع بنوع من أنواع الزواج، يعرف بنكاح (الاستبضاع)، وهو أن يرسل الرجل زوجه بعد طهرها من طمثها إلى  رجل مشهور من رجال ذلك المجتمع، عرف عنه النجابة والشجاعة والسؤدد، كي تستبضع منه، أي كي يلقحها فتحمل منه، وعندما تعود المرأة إلى منزلها، يعتزلها زوجها ولا يصيبها حتى يتبين حملها، رغبة منه في ولد نجيب تكون له الصفات التي يتمتع بها السيد.
وكانت عندهم القيافة، كما في قول القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات": "القيافة على ضربين: قيافة البشر، وقيافة الأثر: أما قيافة البشر فالاستدلال بهيئات الأعضاء على الإنسان، وأما قيافة الأثر فالاستدلال بآثار الأقدام والخفاف والحوافر". وهذا يعني أنهم كانوا يعتمدون على الصفات الموروثة لمعرفة الأنساب.
من هنا تجد الكثير من الإشارات إلى هذا العلم حتى مع كونه لم يكن مقننا، تجدها في كتب التراث العربي الإسلامي ولاسيما لكتاب مشهورين كالقزويني والجاحظ وشريف الدين الدمياطي وابن قيِّم الجوزية وابن الجزار القيرواني وغيرهم.
ومن الحقائق الدامغة أنهم كانوا يؤمنون يقينا خلال عصرهم الجاهلي وعصرهم الإسلامي وعصر دولهم الأموية والعباسية وما تلاها من حكومات بأثر الوراثة، ليس على هيئة وشكل المرء أو الحيوان فحسب، بل وعلى سلوكه وأخلاقه وسيرته وطباعه وشيمه، ولهم في ذلك الكثير من الروايات والقصص يطول شرحها، ويبعدنا عن جوهر مقالنا، لكن ما أريد الإشارة إليه كنوع من التواصلية الإرثية، ما ورد في معلقة عمرو بن كلثوم في قوله يفتخر بقومه:

يُدَهدونَ الرؤوسَ كما تُدهدي         حَزَاورةٌ بأبطَحِهَا الكُرِينا

وفي كتابه "شرح المعلقات السبع" قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، في الصفحة 321 والرقم 93، في شرحه لمعلقة عمرو بن كلثوم:
الحزور: الغلام الغليظ الشديد.
ومعنى البيت: يدحرجون رؤوس أقرانهم وأعدائهم كما يدحرج الغلمان الغلاظ الشداد الكرات في مكان مطمئن من الأرض!.
إن قطع الرؤوس بحد ذاته كان أمرا فاشيا في ذلك المجتمع وبشكل مقزز، والحديث عنه يملأ كتب الحديث والغزوات والتاريخ والأحكام وغيرها، وقد اخترت رواية من كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي، ج ٦/ ٣٣٦، لغرضين الأول: التأكيد على فشو هذه الظاهرة. والثاني: اعتقادهم الشديد بكافة أنواع التوارث! والرواية عن الشعبي، إنه كان جالسا في مجلس عبد الملك بن مروان حينما دخل الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين! ما رأيت شيئا هو أعجب من هذه الأمور، قال عبد الملك بن مروان:
وما ذاك يا شعبي؟
قال: دخلت هذا القصر فرأيت عبيد الله بن زياد في موضعك هذا قاعدا، ورأس الحسين بن علي بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك، فرأيت المختار بن أبي عبيد قاعدا في موضعك هذا، ورأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك فرأيت مصعب بن الزبير قاعدا في موضعك هذا، ورأس المختار بن أبي عبيد بين يديه، وقد دخلت الآن، فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك!
 فقال عبد الملك بن مروان: صدقت يا شعبي! ولله عز وجل في أمره تدبير.
قال: ثم وثب عبد الملك بن مروان قائما ودعا بدابته، فركب، وخرج من القصر، حتى صار إلى الموضع يقال له النخيلة فنزلها، وعرضت عليه قبائل العرب هنالك، ففرض لكل قوم من المال على أقدارهم.
فتصرف الخليفة بهذا الشكل المملوء بالخوف، وهزيمته إلى خارج الكوفة بحد ذاتها تدل على أنهم كانوا يؤمنون بالتوارث بأنواعه بما فيه توارث المواقف والأحداث.
انتقل هذا الموروث عبر الأجيال، وتوارثه العرب ومارسوه ليس مع أعدائهم الحقيقيين فحسب، بل حتى مع أعدائهم المحتملين، وقد شاءت الأقدار لنا أن نعيش فصلا من فصول مسرحيته الدموية بكل جزئياتها، أي ليس من خلال عمليات الذبح التي عرضت على قنوات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل وطريقة التعامل مع تلك الرؤوس التي استعادت من ذاكرتها التاريخية لعب حَزَاورة عمرو بن كلثوم بالرؤوس، فلعبوا بها هم، ولعب بها أطفالهم مثلما يلعب الناس بالكرة، حيث تداولوا الرؤوس بأقدامهم وهم يتضاحكون، وأعطوا لأطفالهم رؤوسا بشرية ليلعبوا بها كرة قدم(**) تماما مثلما فعل أجدادهم من قبل.
النكاية كل النكاية، والأسف كل الأسف أن الكثير من أجدادنا كانوا علماء في أغلب مجالات العلم، وقدموا للإنسانية فضائل وجمائل لا زالت تتغنى بها الأمم، ولكننا ـ خلافا لقاعدة التوارث ـ لم نرث منهم شيئا في هذه المجالات، ولكننا ورثنا عنهم ـ وبامتياز كبيرـ اللعب بالرؤوس البشرية مثلما يُلعب بكرة القدم، ومارس المتطرفون منا هذه اللعبة في القرن الحادي والعشرين، قرن التحضر والتقدم والعلوم! بمعنى أن الجاهلية لا زالت قريبة منا نستدعيها ونستدعي سننها متى شئنا، ومن هنا يصعب علينا التأقلم مع الشعوب الحرة واتباع المناهج الإنسانية في التعامل مع الآخر المخالف بالرغم من دعوة ديننا إلى وجوب المحبة والتعايش والسلام بين الأمم.


(*) الأورق من الناس: الأَسمرُ، ومن الحيوان: ما لَونه لَون الرماد.
(**) ارهابيين يذبحون مدير إحدى المصارف بليبيا ويلعبون كرة قدم برأسه (فيديو)
https://www.youtube.com/watch?v=cj7iOADYC9c