من أشخاص أثروا في حياتي المرحوم بويا قاقوس أوغنا
كانت ولادتي في 1/12/ 1944 حسب ما تذكر أختي الكبيرة مرغنيثا (89) , في غرفة مستأجرة في بيت ميناس غريب ( التركماني الكاورأوغلوا, من أكبر أثرياء القلعة) في قلعة كركوك بينما كانت ولادة أخواني جورج ( كوركيس 90) والمرحوم دنحا و أخي حبيب وأختي أليشوا الأكبر مني سنا , كانت في عنكاوة , وأنتقلت العائلة الى كركوك بعد أن تم تعيين المرحوم والدي عيسى مروكي (بيو) بشركة نفط العراق كعامل بسيط ( مساعد كهربائي) . وكنا ننتقل الى عنكاوة وخاصة في أشهر الصيف وبدأت ذكرياتي عن عنكاوة في سن الطفولة ( 3 أو 4 سنوات) , وكان بيت المرحوم جدي مروكي عيسى في بداية زقاق ضيق يؤدي الى بيت أبن أعمامي من عائلة أوغنا , بويا قاقوس , وكان نفس الزقاق أيضا يؤدي الى بين أبن أعمامي آخر من عائلة أوغنا هو شمعون مرقس ( معلم الأجيال المتقاعد) , وأيضا كانت تسكن في الزقاق أرملة فقيرة , لها توأم تقريبا في عمري وأخت أصغر منهم , كانوا معروفين في عنكاوة ( عقلوا زورا = مخابيل) ونظرا لفقرهم كان التوأم كثير التردد على المزبلة ( السولتا) وهي حفرة كبيرة كانت مرمى للنفايات في الجانب الأيمن للطريق المؤدي الى قرية عنكاوة , وفي سنة 1997 عندما تزوجت من زوجتي الثانبة فائزة بنيامين عيسى جاجيلا في عنكاوة , رأيت أحد التوأمين كعامل نظافة ( كناس) وتعرفت عليه من بعيد وأعاد لي ذكريات قديمة أكرمته بمبلغ من المال وفرحت بفرحته دون أن يعرف من أنا ولم يذكر شيءا من تلك الأيام , وعلى الأقل أصبحت له وظيفة يكسب منها عيشه .
ولنرجع الى بيت عمي بويا ( كما كنا نسميه بأحترام ومحبة) , وأول ذكرى لي مطبوعة في ذاكرتي في ذلك العمر هو رؤيته على حصان مزين بالأقمشة والأشرطة المنسوجة بلألوان ترفرف في الهواء وهو بكامل
أقرب صورة لذاكرتي , وأن عمي بويا في شبابه كان أكثر وسامة من هذا الفارس
لباسه العنكاوي/ الكردي وبيده بندقية صيد و يجري أمامه عدد من كلاب الصيد ( السروكي) , ونحن الصغار نهرع الى مدخل البيوت ونحن في هلع من الحصان و الكلاب أيضا . كان الأبن الوحيد (عزيزا) لوالده قاقوس , الذي كان أكبر ملاك للأراضي الزراعية في عنكاوة , ربما يمكن أعتباره من النبلاء , بالرغم من أن هذا الوصف لم يكن دقيقا لأن العنكاويين كانوا في الأصل من عدد صغير من الأفراد الذين سكنوا عنكاوة منذ مئات السنين , ولكن كان بينهم الفقير( كعائلة الأرملة المشار أليها) والغني / الزنجين . لذا تربى تربية مدللة وخاصة , وكانت لديهم خادمة عجوزة سبق وأن قامت بخدمة والده في سن الطفولة , لذا بالرغم من غرائب أطوارها ( كنا نسميها سريلد دانو) تعتبر فرد من أفراد العائلة , وربما كان فيها مس من الجنون , بحيث كان يتم ذكرها كشبيهة لأية أمرأة غريبة الأطوار ( يتم تسميتها مخبلة / ديوانيثا كسريلد الدنو) ربما كانت لقيطة بدون نسب , تم تربيتها كخادمة في تربية الأطفال وبضمنهم الأبن الوحيد لعمي بويا ( المرحوم أنور) وكان أيضا عزيزا مدللا بين عدد 4 من أخواته . وكنا كثير التردد على بيت عمي بويا نظرا لقربهم من بيت جدي و أيضا صلات القربى , وكان والدي من أعز أصدقاء عمي بويا طيلة حياته , وكان يذكره والدموع تنهمر من عينه , عندما كان يقوم بزيارته عندما أصابته سكتة دماغية ( الدملة) بحيث أصبح جسمه نصف مشلول على طريح الفراش , ويقول أين هذا من ذاك العملاق والفارس المغوار في عز شبابه و أيام العز و النفوذ والمكانة الأجتماعية المرموقة التي كان يشغلها قبل أن تصيبه تلك الآفة وهو في صحة جيدة لايشكو من مرض أو عاهة طيلة سنواته في ستينات من عمره . وحدث هذا بينما كنت في بعثة دراسية في بريطانيا , وعندما طلب مني كفيل يكفلني لمصاريف البعثة (7 سنوات دراسة) , قام بهذا لواجب بدون تردد , بعد أن طلب منه والدي بذلك , وكان رحمه الله يحبني كابنه أنور الأصغر مني بسنتين , نظرا لتفوقي في الدراسة , التي كان يأمل لأبنه أن يحذو حذوي , ولكن بدون جدوى . وكنت مقربا من العائلة بحيث تم أصطحابي معهم الى شقلاوة عندما كنت في عمر 7 أو 8 أعوام , حيث كانت العائلة تمضي أشهر الصيف الحارة في المصيف المشهور , وكانت هذه أول وآخر زيارة لي لذلك المصيف , وكانت العائلة تستأجر بيت و بستان كبير سنويا من عائلة شقلاوية , ولا أزال أتذكر البساتين والأشجار المثمرة و ربما الغابات ومياه تخرج من منابع في الجبل و تكون جداول تمر بين البيوت و البساتين نقية وباردة كالثلج للشرب و الأغتسال و سقي الأشجار , وأتذكر ذهابي الى أحد تلك الينابيع على سفح الجبل وكان السواح و المصطافين يضعون الرقي ( سيندييا ) في الماء وتتشقق من برودة الماء , هكذا كانت شقلاوة كما أتذكرها
وكما تم ذكره فأن عمي بويا ورث من والده ذلك الجاه والثروة الطائلة وكان آهلا لها وكما يقال كان الشبل من ذلك الأسد , تمكن من أدارة سليمة ويشغل الفراغ الهائل الذي تركه والده بعد وفاته , وحتى في زمن شح الأمطارو ونقص المحاصيل الزراعية , لم يقوم ببيع أي من تلك الأراضي للغير , وانما قام بأعمال تجارية ومنها مهنة بيع الأقمشة المزركشة الفضية و المذهبة التي كانت نساء الطبقة الراقية في أربيل تسارع في شراؤها من مخزن أو دكان في الشارع الرئيسي في أربيل , وكان يتردد على بيتنا في بغداد عندما كان يأتي لشراء تلك الأنسجة و الأقمشة الغالية من تجار في بغداد , وأتذكر رؤيته في أربيل أحد المرات من بعيد وهو بين عدد من النساء الثريات و بريق الحلى الذهبية يتلألأ في أصابعهن و سواعدهن , وأجزم بأن قامتة الطويلة وأناقة ملبسه وحسن صفاته ووجهه البشوش و بلاغته في الحديث كان أغراء لتلك السيدات من عوائل أربيل الأرستقراطية . هكذا أصبح عمي بويا تاجرا ناجحا تمكن من الجمع بين الزراعة و التجارة معا , وكما يقال بأن وراء كل بطل أمرأة , ويا لها من أمرأة جميلة و خاتون بكل معنى الكلمة , كانت له الزوجة المثالية والأم الحنون , ونعم الرفيق و الشريك والتي بقت معه تخدمه لآخر يوم من حياته وخاصة في فترة مرضه , أنها هتي بجى من عائلة معروفة في عنكاوة .
وتميزت عائلة قاقوس (قاقوزا) أوغنا بأنها كانت من بين عدد 2 أو 3 في تاريخ عنكاوة لهم ديوانخانة لأستقبال الضيوف و الزائرين , ويخدمهم عدد من الخدم وأتذكر بأن الديوانخانة كانت لاتزال مفتوحة للزائرين لدى عمى بويا وقام ببناء أخرى بالطابوق بدلا من القديمة التي كانت عالية من الأرض ومبنية كباقي البيت من الطين , وأتذكر أكوام الطابوق الأصفر الذي تم أفراغه باليد من لوري من المصنع بحيث أمتلأ الطريق أمام الزقاق الضيق , الى أن تم البدأ بالبناء , وكان المرحوم بطرس (بتي) خزو , في كركوك عندما كانوا يعيشون في محلة بكلار القريبة من بيتنا في شارع ألماس حيث كانت أبنته تعمل في قسم التمريض في المستشفى الرئيسي وأيضا أن أبنه سليم كان صديقي في تلك الفترة , وكان يذكر لنا ذكرياته عن زوار مشاهير كانت الديوانخانة تستضيفهم ويقدم لهم الشاي و البسكويت وما كان متوفرا من الحلويات , وأيضا ذكر لنا عن المرحوم قاقوس بأنه أستضاف في ديوانخانته أحد الباشوات العثمانيين الذين أمتعضوا لوجود تلك القرية المسيحية بأنها لاتزال قائمة , عند مرورهم في الطريق الى الأستانة , ولولا حسن ضيافتهم وتكريمهم حال دون أصابة الأذى بأهل عنكاوة , وتم أنقاذها من شر مسميت !!.. وبعدها صرح لأعوانه لابئس أن أهلها مسالمين . ومن الجدير بالذكر أن أبنه حنا ( حني) قد تزوج من لطيفة أبنة عمي بويا التي وقعت في حبه , والدة الأستاذ نزار , هكذا حصل على مكرمة من السماء وطاربها يرقص فرحا في يوم العرس للمصاهرة مع عائلة بويا قاقوس . (وكما يقول المثل :- جيب نقش عوافي !!..) .
المرحوم بطرس (بتي) خزو و المرحومة زوجته
ولكن أنور المدلل جدا لم يكن الشيل من ذلك الأسد كما أثبت والده , ولم يتصف بصفات الرجولة التامة ولم يملأ الفراغ الهائل الذي تركه عمي بويا ونتيجة مرضه وعجزه في أبداء النصيحة و الأرشاد لوريثه والأحتفاظ والبناء لذلك الأرث بقوة و عزيمة , حتى أنه أخفق في زواجه من أبنة أوسطه غريب ( والد بطرس و بولص) , في وقت قصير من الزواج , ويقال بأنها في يوم عرسها كانت القطع الذهبية ( الليرات) يتم رميها على أرض الدبكة لعدم أمكانية الزورنجي خدر ( الأسطوري) من ألتقاطها كشاباش , والعروسة بزينتها من الحلى الذهبية والألماس والأحجار الكريمة , حتى أن حزامها كان مصنوعا من الليرات الذهبية , وكان العرس من أشهر المناسبات التي شهدتها عنكاوة في البذخ والثراء الفاحش . كل تلك الفرحة لم تدوم طويلا لأن نقصا ما كان السبب في الأنفصال و هجرة العروسة الى كندا مع أخويها بطرس و بولص وزواجها هناك . وفي نهاية تسعينات القرن الماضي , وفي سفرة لي الى عنكاوة , وبينما كنت في بيت أختي مرغنيثا في بيتهم في عنكاوة الجديدة , فتحت الباب لزائر , وأذا به أنور وطبعا تذكرته من أيام الطفولة في عنكاوة و كان ضخم الجسم يلبس نظارات طبية بعوينات صغيرة بأطار أسود لايليق بوجهه الممتلأ , وكان قد تزوج من فتاة من برطلليه , ولايعيش في عنكاوة , وسمعت أخباره المؤسفة , بأنه نظرا لعدم أمكانيته على أدارة ما ورثه من أراضي زراعية شاسعة , تمكن بعض التجار من أربيل من النيل من سذاجته في أمور التجارة والأراضي , بحيث قام ببيعها بثمن بخس , وكانت له نصيب الأسد في الميراث , ويقال أن أربيل نتيجة لتلك العملية الكارثية لعائلة بويا قاقوس , أقتربت عدة كيلومترات من عنكاوة !!.. ولكن قد يحتج البعض ولكنها كانت خطأ أستراتيجي لايغتفر بوجهة نظري الشخصية وهو أبن عمي وكنت أحبه كأخي ( رحمه الله) . وتزوج عمي صليوا ( الأخ الوحيد لوالدي ) من أكبر بنات عمي بويا الأربعة ( ورديه وشكريه و لطيفة وصبيحة) وهي المرحومة ورديه ( كنا نناديها بمحبة وأحترام ددي وردى) ونعتبرها كأخت لنا , وكما كنا ننادي عمي صليوا ( أخوني صليوا ) لقربهم منا و التواصل المستمر معنا في عنكاوة و كركوك و بغداد , وهم والدي آزاد ( صاحب مركز طب الأسنان المشهور في عنكاوة) .
ولي مقالة أخرى عنهم بهذا الصدد .
المعماري أيوب عيسى أوغنا
خبير ومحكم دولي وخليجي معتمد
مسقط / سلطنة عمان