الدكتور عبد الحسين شعبان :
ما زال الفكر العربي يعاني من الركود وعدم الحيوية
حاوره : د.خالد شوكات1- اشتغلت لعقود على نقد الفكر العربي المعاصر بمدارسه المتعددة، في سياق نزعتك النقدية والتجديدية، فكيف تقيّمون حال هذا الفكر الآن؟
ج1 - للأسف ما يزال ما نطلق عليه " الفكر العربي" بمدارسه المختلفة يعاني من الركود وعدم الحيوية، بل إنه غالباً ما يلجأ إلى الماضي لاجترار بعض الأحكام، تلك التي حتى لو كانت صالحة لزمانها، فإنها لا تصلح لزماننا، "والأحكام تتغيّر بتغيّر الأزمان" وتلك قاعدة فقهية معروفة. وحسب الإمام علي بن أبي طالب " لا تعلمّوا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، وهكذا فإن للضرورة أحكام.
الإتكالية والتعويلية وعدم القدرة على الخلق والتجديد جعلت التيارات الفكرية المعاصرة في العالم العربي بكل تفريعاتها ومدارسها، سواءً أكانت قومية أم ماركسية أم إسلامية، أسيرة للماضي وتعيش عليه، وذلك ما زاد من تخلّفها وعدم مواكبتها روح العصر.
والماضوية تعطّل الحوار وتلجم المتحاورين، خصوصاً حين يستعينون باقتباسات تعود إلى قرون من السنين، فما بالك إذا كانت من القرآن أو السنّة النبوية أو من أقوال ميشيل عفلق أو جمال عبد الناصر أو من ماركس أو لينين، عندها يتوقّف النقاش، طالما وصل إلى المناطق المحرّمة، وكأن ما قيل في السابق أصبح " مقدّساً"، وهكذا يتغالب المتحاورون بعضهم على بعض أو يتشاطرون باختيار الاقتباسات ليستدلوا على قربهم من "النظرية" أو "الفكرة" أو "الآيديولوجيا" أو " التعاليم" التي ينتسبون إليها ويزعمون أنهم يحافظون على نقاوتها ضد تشويهات الأعداء أو الخصوم حتى وإن كانوا من الفريق الواحد.
الفكر العربي المعاصر بحاجة إلى التخلّص من ثقل الماضي دون القطيعة مع التراث، بل استلهامه، ولكن دون الغرق فيه، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكن استعادته، في حين يمكن الاستفادة من دروسه وعبره، مثلما يحتاج إلى قراءة الواقع في ضوء التقدّم العلمي والتكنولوجي، لاسيّما في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية "الديجيتل"، ولا بدّ من نفض غبار الزمن وفتح النوافذ والأبواب لاستقبال هواء الحريّة، بمعنى "التحرّر" من عقد الماضي وإشكالاته الذي يتم استعادته في الكثير من الأحيان في عودة "سلفية" ضد منطق الحياة ذاتها، وضد منطق التطور والتغيير الذي لا غنى عنها.
2- أطروحاتك في نقد "الماركسية" والماركسيين ، خصوصاً كتابك "تحطيم المرايا"، كانت من الناحية الفكرية والعلمية في غاية الأهمية، فهل تلمسون لذلك أثراً في أداء اليسار العربي الراهن؟
ج 2- أثار كتاب "تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف" الذي صدر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) ، بيروت، 2009 ، اهتماماً غير اعتيادي، فقد نظّمت له ندوة كبرى في بيروت وندوتان في القاهرة (في حزب التجمع - مجلة نقد وأدب) وفي مركز آفاق للدراسات الاشتراكية،(صلاح عدلي- الحزب الشيوعي المصري لاحقاً) وفي بغداد التأمت ندوة كبيرة في جامعة النهرين- مركز الدراسات الاستراتيجية، ساهم فيها سبعة من أساتذة الجامعة، وأخرى في مدينة العمارة، وفي تونس بادر "مركز الجاحظ" بتنظيم ندوة مهمة عنه، وكان من المؤمل أن تنعقد حوله مائدة مستديرة في دمشق وحلقة نقاشية في صنعاء، لكن بعض التطورات السياسية حالت دون ذلك، وكُتب عنه عدداً من الدراسات والأبحاث وغطّت الصحافة المكتوبة والمقروءة والمسموعة أخباراً ونقاشات عنه، وقام مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية بجمع نحو 40 مساهمة عنه تضمنت أسئلة وحوارات وآراء نقدية وطلب مني كتابة مقدمة لها، وضمّها في كتاب مع مقدّمة مطوّلة، وصدر بعنوان "الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية " الذي أثار هو الآخر جدالات كثيرة.
أعتقد أن اليسار العربي بشكل عام واليسار في كل أنحاء العالم أدرك أنه ليس بإمكانه اليوم الاستمرار في نفس أطروحاته السابقة، وما عليه إلّا إجراء مراجعة جادة ومسؤولة، وقراءة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية ذات الخصوصية، ليس عبر مسطرة الآيديولوجيا، بل انطلاقاً من الواقع بكل تشابكاته وتعقيداته، والسعي لتغييره وتطويره بما يستجيب لسمة العصر، خصوصاً وقد فشلت جميع التجارب الاشتراكية بقضّها وقضيضها، وقادت إلى أنظمة تسلطية وبيروقراطية حزبية أوصلت البلاد إلى طريق مسدود، ناهيك عن انسداد آفاق التنمية، وشهدت التجربة الاشتراكية المطبّقة في عدد من البلدان التي حكمتها شحّ الحرّيات وتجاهل التنوّع وعدم الإقرار بالتعدّدية، إضافة إلى اختناقات اقتصادية ، والأهم من ذلك معارضة واسعة من السكان وبشكل خاص من العمال في الكثير من الأحيان، والتي زعمت تلك التجارب أنها تمثلهم باعتبار الحزب هو "الطليعة" أو يعبّر عنهم.
وكان فشل "تجارب الأصل" قاد إلى إخفاق "تجارب الفرع" التي حاولت تقليد التجربة الاشتراكية، باقتباس النموذج ذاته: حزب واحد تدور حوله جبهة وطنية شكلية وأجهزة مخابرات تكاد تكون مطلقة الصلاحية وإعلام ديماغوجي وبيروقراطية حزبية متعالية يقف على رأسها اللجنة المركزية فالمكتب السياسي فالأمين العام الذي تنسب إليه جميع الفضائل : البطل، المفكّر، الفيلسوف، الأديب، القائد، الزعيم.
ومع ذلك فإن هذه القراءة لم تكن واحدة، فبعض أجنحة اليسار انكفأت على نفسها، والأخرى تخلّت عن منطلقاتها بزعم التغيير، وهناك توجه ثالث حاول الاجتهاد من خلال النقد مع التمسك بقيم العدالة الاجتماعية التي انطلق منها، ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار الواقع الجديد والتغييرات الكبيرة في ميزان القوى على المستوى الدولي.
ويمكن القول إن اليسار العربي تتجاذبه ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول - "المتجمّد" الانعزالي والذي اتّسم بالجمود العقائدي ورفض قراءة التحوّلات الجارية على النطاق العالمي، بما فيها من تأثيرات للعولمة واعتبر كل ذلك مجرد انحرافات وتشويهات، ولذلك ظلّ متمسّكاً بالماضي ويعيش على الذكرى، فانكمش وتقلّص إلى حدّ التجمّد والتكلّس، وظلّ يردّد بعض المقولات التي عفا عليها الزمن ولم يقدّم أي مساهمة جدّية لفهم التغييرات الجديدة والسبيل لمواجهة التحديّات.
الاتجاه الثاني - "السائل" المعولم، الذي وجد في انهيار جدار برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 وسقوط الأنظمة الاشتراكية وتحلل الاتحاد السوفييتي، فرصة لاستبدال ولائه من موسكو إلى واشنطن، خصوصاً وبعضه كان الأكثر "تبعية" للسوفييت لدرجة أنه لم يتورّع من إخضاع مصائر حزبه وشعبه لمصلحة "الأممية" كما كان يبرّر، وإذا به ينقلب رأساً على عقب، فتحت عنوان " المتغيرات الدولية" و" العامل الدولي" يستدير نحو " معسكر العدو" ويصطف مع الولايات المتحدة، بل ويبرر مشاريعها العدوانية وخططها الحربية.
وشارك بعض "المتمركسين" في المشروع الأمريكي الذي أطلق عليه "مشروع تحرير العراق" بزعم وجود أسلحة دمار شامل وعلاقة نظامه الدكتاتوري بالإرهاب الدولي، والسعي لاستبداله بنظام ديمقراطي، واتّضح عقم تلك المزاعم وخطلها وتحمّل الشعب العراقي تبعات الحصار الدولي، ونتائج " الفوضى الخلاقة" فيما بعد، فضلاً عن تفشي ظواهر العنف والإرهاب في المجتمع العراقي على نحو لم يسبق له مثيل.