المحرر موضوع: الرسالة السابعة من تحت الأنقاض  (زيارة 1206 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Abdullah Hirmiz JAJO

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 604
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الرسالة السابعة من تحت الأنقاض
أخي العزيز:
اليوم أحدثك عن أمور بديهية كانت فيما بين البشر في عراقنا العزيز، فأينما كنا نذهب كنا نلقي بالتحايا وعند الجلوس كان جميع الجالسين يكررون كلمتي (الله بالخير) الجميلة والتي كانت تميزنا نحن في العراق عن غيرنا من الأشقاء أو الأصدقاء، وكنا ونحن صغارا نستفهم عن معنى الكلمتين وأخذنا وقتا لكي نعرف أنها مختصر لجملة صبحكم الله بالخير إن كان الوقت صباحا ومساكم الله بالخير إن كان الوقت مساءا.
وإن حوارنا كما تتذكر كان بهذ الصدد يتركز على أن سلام الله الواجب ألقاؤه على جميع خلائقه، هذا السلام ما هو إلا تحية تقربك من الآخر ومفتاحا للدخول وأياه بحوار إنساني أو علاقة طيبة أو إزالة لسوء فهم معين طرأ على العلاقة بين الإثنين، وإن كان هذا السلام يذهب لمن لا يستحقه فإنه سيعود إلى صاحبه ولا يلحق ضررا بمن ألقاه!!! على العكس إن من يلقي السلام فله أجر أما من أعاده بأحسن منه فله أجر مضاف هكذا وضعت الشرائع السماوية قواعدا لكل شيء وحقَ كل واحد حتى في هذه البادرة الجميلة فيما بين البشر.
وكما تعرف أيها العزيز أن للسلام استخدامات أخرى ككلمة، فالسلام ككلمة تدل على عدم الاقتتال وعكس كلمة الحرب غاية في الأهمية والروعة، فهي ما ينشده الجميع وتتذكر كيف عندما كنا في زيارة لحديقة الحيوان أنها  تتراكض يمينا وشمالا عندما تحسّ بوجود خطر ما، وبعكس الحالة نجدها تعيش مستقرة وتلتفت لأمورها الخاصة عندما تشعر أنها بأمان.
واليوم أصبح هذا السلام الشغل الشاغل للعراقيين لكنه ليس مشكلة للناس المؤمنين الصادقين الذين عاهدوا ربهم أنهم باقون على العهد ويقولون الحق ولا تأخذهم بقوله لومة لائم أو هجمة حاقد أو سهام شرّير، إنها مسألة مبدأ أن يتقدم الإنسان إلى أمام دون رهبة المواقف القاسية خاصة ونحن نعيش أياما صعبة فقدنا فيها هذا السلام كما لم يعُد السلام الذي يعني التحية بين الأشخاص يُعطي المعنى الحقيقي لأن القلوب أصابها ضرر والضمائر تبدلت والأشخاص الذين تعيش وأياهم كأنهم غرباء عليك، وكم أتذكر عندما كنا نلتقي مع أشخاص لا نعرفهم ولكنهم يصرّون على ضيافتنا ويتبادلون وأيانا الأحاديث وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد.
لكن يا عزيزي إن عراقيي اليوم لا تحس وجود ألفة في تعاملاتهم معك، فجاري بدأت أتحسب منه كثيرا ولا أحاول مدّ! الجسور إليه مغبة أن يكون من العناصر التي تلحق الأذى بالآخرين خاصة وأنت لا تعرف من هو جارك لمجيئه إلى جانب بيتك حديثا، وكنا نتعلم من الأحاديث أن رسول الإسلام قد أوصى بالجار الى الحد الذي يعتقد البعض أنه أراد أن يكون لك أقرب من أخيك أو أن يكون وارثا معك، وكذلك كنا نقرأ الأقوال المأثورة أختار الجار قبل الدار، وأيضا الجار القريب أفضل من الأخ البعيد، والنبي أوصى بسابع جار إلى غيره من الكلام الذي كان كله يؤطر العلاقة فيما بين الإنسان في موقع سكناه والمحيطين به وصولا إلى العلاقة المتداخلة بحيث لا يستغني أحدهم عن الآخر.
وللسلام أصول عندنا إن كنت ما زلت تتذكر عادات أهلنا وتقاليدهم فقديما كان أهل الدار لا يسألون ضيفهم عن حاجته إلا بعد أن يستضيفونه ثلاثة أيام ويردون على سلامه بسلام أفضل منه ويحرصون جدا على أن لا يشعر بأية ضيقة من خلال حله ضيفا عليهم، وكان لسان حالهم يقول يا ضيفنا إن زرتنا أنت رب البيت ونحن الضيوف، ولكن أين نحن من كل هذا الذي وررثناه وعشناه بل طبقناه في مراحل من عمرنا وقبل أن ندخل الأنفاق المظلمة التي تم أجبارنا للدخول فيها ونحن لا حول لنا ولا قوة، ومن أبى الدخول وكان له الجرأة هرب بعيدا كما فعلت أنت أيها العزيز وبقيتَ تراقب الأحداث من موقعك وكنت محظوظا نوعا ما رغم ما عانيت وأنت في طريقك إلى الأرض التي كنت تقول عنها أرض الأحلام.
غالبية أهلنا ومعارفنا اليوم أصبحت لا تحبذ زيارة بعضها البعض بل الركون إلى مخادعها بعيدا عن التزاور وخلق علاقات أجتماعية جديدة سواء بين الأقارب أو بين الأصدقاء، فهذه العلاقات بحاجة للتحرك والخروج والسير في الطرقات والانتقال من حي إلى آخر، وكل هذه محفوفة بالمخاطر وقد يلتحق بمن يرغب القيام بها أذى شخصي جسيم، فيوم أمس ودعنا ابن صديقنا الذي قضى نحبه أثر انفجار كانت الحافلة التي يستقلها هدفا له وكان هو الوحيد الذي أصابته مباشرة، تصور أنه شاب في مقتبل العمر ولم يكن له أية علاقة لا بالمحتل ولا بالمقاومة إنما كان يمضي في سبيل لقمة العيش ولم يكن يعرف أن القدر قد وضع حدا لأحلامه وليس هو فقط بل لكي يعاني ذويه من هول المأساة بعد أن كان الحادث قد وأد هو الآخر أحلام والديه ويضع حدا لطموحاتهم وكل ما كانوا يأملون من ولدهم وهو يرتفع بالقامة!!!!
مآسٍ كثيرة وقصص مختلفة نعيشها في كل دقيقة وساعة، وجميعها مأساوية ورغم كثرتها والحزن الشديد الذي تولده لدى القاريء والسامع لكن التوثيق أمر ضروري فربما أجيالنا القادمة ستكون أكثر حكمة وفطنة منا وترعوي وتنأى بنفسها بعيدا عن الحروب والاقتتال ومخلفاتها الشنيعة وتختار خيار الحب بدل الحرب وتفكر كم أن زقزقة العصافير وهي تطير من غصن إلى آخر وهي مزهوة بحريتها مهمة لكي يحذو البشر حذوها وياليتنا اقتدينا بها كنا نعيش بأمان نحلق عاليا بأمان ونبني أعشاشنا ونصونها لكي تستمر وتيرة الحياة وننعم بصباحات جميلة هادئة وليالٍ مقمرة يناجي فيها الأحبة أحبتهم على أنغام هادئة من الموسيقى، هل تتذكر كيف كنا نقضي أول الليل بالإستماع إلى صوت أغنيات لأم كلثوم وغيرها من بعيد لأننا لم نكن نملك المذياع فهذا كان حال أغلب أهلنا.
وأصبحت المقاهي الشعبية خاوية حيث هجرها مرتادوها فالجلوس فيها مخاطرة كبرى فقد يكون بين الجالسين من يتحزم بحزام ناسف ويرغب بالإسراع لدخول الجنة ويعتبر الجالسين في المقهى من الكفار ومستحقي الموت!!! ونحن كنا نجلس في مقاهٍ سابقا ونتذاكر دروسنا حيث كان المقهى مخصص للدراسة ويحترم الجالسون الطلبة ولا يضايقونهم باللعب والثرثرة، هل تتذكر كيف كنا نلجأ إلى لعبة الشطرنج عندما كان الدرس يتعبنا ويرهقنا ويجعلنا لا نستوعب ما نراجعه، فكنا نلجأ لهذه اللعبة التي ميزتها الهدوء والتفكير كي نستعيد نشاطنا لنعود للدراسة.
اليوم يا عزيزي كل شيء تغير حتى هذه وأنني أشفق على الطلبة عندما أراهم متأبطين كراريسهم ذاهبين إلى مقاعد الدراسة، أراهم متعبون مهمومون فلا كهرباء لكي يذاكرون أو ينامون براحة، ولا أمان بحيث يسيرون في الشارع وهم مطمأنين لأنهم سيصلون إلى المدرسة بأمان ويعودون منها سالمين، كما أن الهيئات التدريسية هي أيضا تعيش ذات الظروف ولا تتمكن من شرح كل شيء للطلبة فأصيبت الدراسة بمرض الدروس الخصوصية كونها تفيد طرفي المعادلة وتحقق موردا ماليا الأساتذة بحاجة إليه والطالب بحاجة للمعدل العالي لكن الخاسر هو رب الأسرة وميزانيته التي تتحمل أعباءا أضافية ترهق كاهل العائلة ويتم صرفها على حساب أمور ضرورية أخرى.
هذا هو حال أهلنا يا عزيزي وحالي منهم طبعا ونؤمل انفسنا ان نقفز إلى غدٍ أفضل تختفي كل هذه لننال حياة كريمة ومستلزمات عيش لائقة كما هو حال كل بشر الدنيا ولسان حالنا إن غدا لناظره لقريب.
عبدالله النوفلي 10 حزيران 2007