عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - فرات المحسن

صفحات: [1]
1
مجالس المحافظات صراع الأخوة الأعداء
فرات المحسن
من البديهيات في عالم السياسة والاقتصاد أن تنشأ جراء نظام المحاصصة أو ما سمى تحببا بالشراكة الوطنية، مخرجات تتكئ متبنيات عملها وتشكيلاتها على نهج تقاسم المال والسلطة، أي حصول الشركاء وحسب حجومهم وقوة نفوذهم على مقدار مكافئ من ثروات البلد بالإضافة إلى قوة ساندة ، وهذه الأخيرة تلعب الظروف والوضع السياسي الدور الفاعل في قدرة هذا الطرف أو غيره على امتلاكه لأداة ردع ومجابهة سياسية كانت أم عسكرية.
منذ ماقبل الإطاحة بسلطة حزب البعث في 9 نيسان 2003  وخلال مؤتمر المعارضة العراقية لحكومة البعث والذي عقد في لندن يومي 14 و 15 كانون الأول عام 2002 تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وبحضور اغلب الأحزاب والقوى والشخصيات العراقية المعارضة آنذاك لحكومة صدام. وبحضور زلماي خليل زادة مبعوث الإدارة الأمريكية للتنسيق، وديفيد بيرس عن وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، وممثلون عن بعض السفارات الغربية، وغابت الدول العربية عن المؤتمر باستثناء سفارة الكويت.وامتنع عن الحضور الحزب الشيوعي وحزب الدعوة العراقيين، مع وجود شخصيات قريبة من هذين الحزبين داخل المؤتمر.
 حرصت نتائج المؤتمر على عرض خلاصة لرغبات الشارع العراقي عن طبيعة الحكم القادم الذي يرث العراق بعد سقوط سلطة البعث، وفي ذات الوقت وبيقين وإصرار وضعت اللبنات الأولى وأقر مبدأ ما سمي داخل أروقة المؤتمر وبشكل دبلوماسي ناعم وحضاري، مبدأ الشراكة الوطنية، وهو تقاسم المواقع في إدارة الدولة العراقية وفق الحجوم القومية والطائفية. ولم يخف البعض مطالبهم بالحصص وفق هذا المنظور، بل أعلن صراحة عن ضرورة اعتراف الجميع وبشكل تبادلي عن استحقاقاتهم وقوتهم العددية، وكانت أولى خطوات هذه الاستحقاقات إقرار المؤتمر في ختام أعماله بتشكيل لجنة سميت بلجنة المتابعة والتنسيق تكونت من 65 شخصية، ولإكمال مشهد تقاسم قوة الحضور أضيف إليها عشرة آخرون. 
لم تبتعد الإدارة الأمريكية عن هذا الخيار بل فضلت ترسيخه كنتيجة ومخرج مناسب  يتوافق وأهدافها المستقبلية في المنطقة قبل العراق، وأيضا يتواءم وما تنطوي عليه طبيعة التشكيلة السكانية للعراق قوميا وطائفيا. وسعت منذ عهد تداولها المعلومة ونقاشاتها الأولي مع المعارضة العراقية، على استقراء تلك التشكيلات وتقدير حجوم تلك الأثينيات والطوائف، وطبيعة حراكها ومدى تأثيرها المجتمعي.
 لذا وعلى وفق هذه القناعات عمل المندوب السامي الأمريكي السيد بول بريمر بعيد الاحتلال وحسب نصيحة البنتاغون، لوضع لبنة أولية ممكن لها أن تكون نموذجا مصغرا يلملم كل ذلك الشتات من التلاوين، فأنشأ ما سمي بمجلس الحكم العراقي للإدارة المؤقتة للبلاد ، وفي نفس الوقت تكون مهمته التحضير لإعداد الدستور،لذا تألف المجلس من 25 عضوا، توزعوا بشكل أقر صيغة ما تمخض عن مؤتمر لندن، حيث حوت التشكيلة على12  عضوا من الشيعة العرب، 5 من السنة العرب، 5 من السنة الأكراد، تركماني واحد، وآشوري (مسيحي)واحد، بينهم ثلاث نساء فقط (واحدة تركمانية واثنتان شيعيتان) .
يمكننا القول بأن ذلك النموذج البريمري كان الخطوة العملية الأولى لتثبيت بنود الاتفاق العلني لتقاسم السلطة، أو ما سمى لاحقا خيار المحاصصة الذي دبج شفاها داخل أروقة مؤتمر لندن. ليرحل المصطلح لاحقا وبشكل منظم وعملي في بعضه وبتدافع وتزاحم في أغلبه، ليشمل هيكلة جميع مؤسسات الدولة من أسفلها حتى أعلاها.
 أسفرت ترتيبات التشكيلات الأولية هذه عن بدء صراع حاد وشد وجذب حول السيطرة والنفوذ بين مختلف القوى، لينشأ عن هذا التطاحن العلني منه والمخفي ، دستورا للمكونات وليس دستورا للمواطنة. فقد عملت القوى جميعها على وضع أفكارها ومطالبها ومظلوميتها بالحق أو بغيره، في المقدمة وقبل أي ملمح آخر، وذلك لغرض ترسيخ وتطمين حقوقها، وضمان وجودها وتأثيرها على المدى القريب والبعيد. ولكن الناتج المفزع الذي ولد مع عمق هذا التقاسم غير المعني بمصالح الوطن والمواطن، وجراء منافسة الشركاء للاستحواذ على المغانم، هو ظهور سياسات ربما كانت مخفية أو يغطى عليها خلال فترة الخصومة مع سلطة صدام حسين. وتمثلت هذه السياسات اليومية والصراع على النفوذ والحصص، بعدم الثقة المتبادلة بين الإطراف السياسية،وانهيار الكثير من المشتركات السابقة، وتوجت بمستويات عليا من الطعون والتخوين والنفرة التي وصلت في البعض منها حدود الاقتتال.
شكل دستور المكونات القاعدة التنظيمية لهرم السلطة وبناها الإدارية. فعلى وفق ما اتفق عليه لشرعنة ما جاء في الدستور، نظم قانون انتخاب مجالس المحافظات وشرع برقم 36 بتاريخ 08 / 10 / 2008 وجاء ذلك بناءً على ما أقره مجلس النواب واستنادا للبند خامسا من المادة 138 من الدستور.مستثنيا من التشريع هذا، إقليم كردستان الذي ينأى بعيدا بتشريعاته عن السلطة الاتحادية.
كانت القواعد السياسية المعلنة لمجالس المحافظات بعد انتخابها تتشكل من جملة واسعة من الأهداف الطموحة لبناء قاعدة سياسية رصينة تبعد عن الدولة طبيعتها المركزية الشمولية، وتنال فيها المجالس صلاحيات واسعة بعيدا عن إشراف وسيطرة الوزارات، وتمنح المحافظات تخصيصات مالية مستقلة، ولها حرية إدارة الشؤون المحلية ووضع استراتيجيات وخطط لبناء قواعد عمل لتطوير البنى التحتية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وإعطاء أولويات لتلبية احتياجات الناس، على أن يكون هذا الجهد التنموي ضمن استراتيجيات التنمية لعموم العراق.
في شهر نيسان من عام 2013 أجريت أول انتخابات لمجالس المحافظات وكان عدد الذين يحق لهم التصويت ما يقارب 14 مليون ناخبا وتنافس هؤلاء على مقاعد مجالس 12 محافظة وبجموع 378 مقعدا تتوزع بالأرقام حسب الكثافة السكانية للمحافظة.
ما نتج عن تلك الانتخابات كان عبارة عن مخارج مخيبة لأمال الناس التي كانت تطمح ليكون ظهور تلك المؤسسة المدخل الحقيقي والمناسب للتغيير في وقائع ومجريات حياتهم اليومية. ولكن الذي حدث أفصح عن كون هذا التشكيل الجديد، ليس فقط وجودا فائضا وحلقة زائدة بين ركام المؤسسات الهجينة وغير النافعة للشعب العراقي، وإنما تجلت في أعماله، القدرة على افتعال وصناعة الكوارث دون حياء. فقد ظهر ومنذ البداية  سوء الإدارة والعطب في بنية تشكيلاتها المتخلفة، وطبيعة علاقتها بمواطنيها، وأساليب علاجها لمشاكلهم وتلبية احتياجاتهم، وبالذات في البنية التحتية المتهالكة لعموم المحافظات. وتمثلت الكوارث أيضا  في طبيعة نظام المحاصصة حيث أخذ الجميع وبشكل سريع ومباشر ومن خلال معارك ضارية، العمل للاستحواذ على ميزانية المحافظة وتقاسمها كغنائم، عبر إيجاد طرق وأبواب لمنح امتيازات وتخصيصات ونفقات خاصة لأعضاء المجلس، ولتتحول هذه الممارسة لاحقا إلى عرف دائم تخصص وتستقطع له نسبة كبيرة من الميزانية الممنوحة للمحافظة. وكان الأدهى من كل ذلك عمليات المنافسة غير الشريفة بين أطراف المجلس حيث يتم العمل بمنهجية على إضعاف الأخر عبر عمليات طعون ومؤامرات ومكائد لإفشال أي مقترح يقدمه أي طرف منافس، ويتم إيقاف أي نموذج لنجاح وتفوق اقتصادي اجتماعي يسعى له ذلك الطرف، حيث يسعى المنافسون لتخريب أو إيقاف أي مشروع يتبناه أو جاء من بنات أفكار شريكهم الأخر ،وبسبب هذه المنافسة غير الشريفة والأساليب البعيدة عن رجاحة العقل والمسؤولية الوطنية، شاع الإهمال في الرقابة وعدم محاسبة الجناة عن سوء أعمالهم.وحدث تلكؤ  عام وتوقف للعديد من المشاريع وتم الاستحواذ على مبالغها الهائلة جراء تلك المؤامرات التنافسية الوضيعة.
وبعد أن ظهر أن هذا التشكيل المسمى مجلس المحافظة، بات يدر من الأموال ما لا يعد ويحصى، لذا شكلت القوى والفعاليات المشاركة في تلك المجالس، صناديق ومكاتب اقتصادية، الغرض منها إدارة العمليات الحسابية والصفقات التي تتم عبر الامتيازات والعلاقات والرشى التي أصبحت تمارس على المكشوف بشراكات وكومشنات وابتزاز مع المقاولين والشركات المنفذة للمشاريع.
وأصبحت تلك المؤسسة في نهاية المطاف عبارة عن متواليات من صدمات وفواجع ونكبات ومواجع وضعت ثقل خيباتها على كاهل المواطن. وأثرى فيها ومنها أعضاء المجالس على حساب آلام وأوجاع الناس، دون أن يجدوا من يحاسبهم على هذا الثراء والغنى الفاحش، الذي طرأ فجأة على وضعهم الاقتصادي . و ليشكل أداء المجالس في الأخير ضررا فادحا على حياة المحافظات بشرا وبنيانا،  حيث انعدمت الخدمات وتوقفت المشاريع وتدهورت قطاعات مهمة وملحة مثل التعليم والصحة والبلديات وابتلعت الميزانيات الضخمة وتبعثرت دون أن يظهر لقيمتها أثر مهم وفاعل في حياة الناس.





2
المنبر الحر / بقعة الدم
« في: 08:36 26/09/2023  »
بقعة الدم
هذا ما جاء في رسالة وضعت في مظروف داكن السواد تحت باب احد المفجوعين بولده في صباح يوم لم تشرق فيه الشمس بعد.
يوم تشريني. الشفق الأحمر يغطي الأفق البعيد ودخان كثيف يلف المكان. حسب الإحصاء الرسمي وهو دائما ما يجانب الحقيقة ويخفي قدر المستطاع وقائع الأحداث ونتائجها، ولكن اليوم اضطرت السلطة  في نشرة الأخبار المسائية، الإعلان  وعلى لسان ناطقها الرسمي ، عن عدد الشهداء الذين سماهم بثلاثة  قتلى، وأكمل جملته الصماء اللئيمة بكلمة لا غير.
ولكن ما أعلن رسميا عنه، ما كان ليطابق إحصاء من وقف وشاهد الواقعة عند ذلك المساء الكالح. فجميع من حضر الواقعة تبادل الروايات مع البعض ودون في ذاكرته ، خمسة شهداء دون نقصان.  جميعهم كانوا يتحلقون حول عربة التك تك ذات اللون الأصفر البراق، وتدلت عند مقدمتها قطعة قماش بيضاء صغيرة كانت موضوعة تحت مصباح الإنارة، كتب عليها بخط مرتبك، أريد وطن.
*****
كانوا يتراقصون جذلا ونشوة على أنغام موسيقى أغنية كاظم الساهر " وين أخذك وين أنهزم بيك.. بضلوعي لو بعيوني أخليك " فجأة باغتهم سيل رصاص وقنابل دخان. سقطوا جثثاً هامدة جوار عربة التك تك،كان ذلك في ساعة نحس عند نقطة قريبة من مفترق نفق ساحة التحرير الذاهب نحو شارع الجمهورية .
بقع الدم التي خلفتها أجسادهم الغضة إثر عربدة سيل رصاص ما سمي بالطرف الثالث، راحت تسيح فوق الأرض الإسمنتية .ما كان بمقدور احد أن يحدد اتجاهات انسيابها، ولكن الدم  كان فواراً قانيا أحاط بعربة التك تك من جميع أطرافها، ثم أنحدر  ليتجمع أمامها، فاختلط مع بعضه ليكون بقعة دم كبيرة قانية.
بين هؤلاء الشهداء من جاء العاصمة من قرية قريبة من بلدة الرفاعي في الجنوب، وهناك من أتى تاركاً وراءه محلة الطويسة في البصرة، وثمة آخر يسمي نفسه بالمعيدي كان قادما من مدينة الشعلة،وحده أبن الأعظمية كان الأنيق بين هؤلاء رغم اتساخ ملابسه خلال عشرة أيام مضت دون رغبة تساوره في الذهاب إلى أهله والاغتسال بحمام دافئ. بينهم من هو دون دالة أو هوية، ولكنه كان أكثرهم مرحا وإفراطاً بالهزل، وكان وفي كل مرة يروي شيئا عن قسوة ما كان يلقاه على يد صاحب العمل، ينهي حديثه بضحكة طويلة شبيه بكركرة طفل. أما ذاك الصغير المقصب الشعر صاحب البشرة الداكنة، الضاج بذكر مغامراته العاطفية، وما كان ليتوقف عن سردها حتى وإن تلقى تشويش واستهزاء رفيقه المسمى المعيدي. بينهم من يرفض اليقين بتاريخ ولادته المدونة في الهوية التي يحملها. صاحب الكنزة البنية يقول إن حياته تخلو من أي أهمية يود ذكرها لرفاقه، فقط الشيء المهم الذي ممكن أن يبعث في روحه الفرح هو منظر عربة التك تك التي يمرر عليها صباحا برقة متناهية قطعة القماش المبللة وهو يصفر لها بأغنيه كان يعشقها.
صباح الخير يالوله.
لوله، اسمها الذي أطلقه عليها حين أبتاعها له خاله صاحب بسطة الملابس المستعملة.لم يكن يدري السبب الذي دفعه لإطلاق أسم لوله على عربة التك تك، ولكن الأغنية كانت تستهويه لذا علقت بذهنه ذلك الصباح البلوري المبهج، وحان لها أن تكون أسما لعربته، فاخذ يغني لها مزهوا.
يعز من يبات قانع من الرحمن يتطلب
يذل من يبات طامع يبات الليل يتقلب
على الجنبين يالوله ولا يرتاح يا لوله
صباح الخير يالوله  صباح الخير.
ثم يروح بموجة من التصفيق والقفز راقصا حولها كالهنود الحمر ، يشاطره فرحه  بحمية وصخب بعض أصحابه.

*****
حين أنبلج ضوء الصباح كان شاحبًا رجراجًا مغبرا، وثمة أصوات أنين وبكاء خافت تتسرب من جوف نفق التحرير. في البعيد تختلط نداءات تحذير وتحوط  ترافق أصوات رشق رصاص وانفلاق قنابل الغاز. ثمة ضحكات صاخبة وضجيج مزاح يأتي من الطابق الثاني للمطعم التركي.
عند ذاك الفجر الندي، جلست خمس نسوه مصفوفات متراصات بسوادهن حول بقعة الدم، يحطنها مثل السِوار، نائحات مفجوعات، يغطينها بعباءاتهن الكالحة، كان دمعهن مدرارا يخالط بقعة الدم الخاثر الذي يلتصق بثيابهن فيأخذنه ويهيلنه فوق رؤوسهن.هكذا كان الحدث وسوف يتكرر.
لكم الصبر والسلوان ولأرواحهم السلام والذكر الخالد.




3
تلك الأيام المضنية  ج 4
فرات المحسن
هبطت من خلال سلم العمارة دون استعمال المصعد الكهربائي، وتوجهت نحو باب العمارة الخلفي المفضي إلى الحديقة، وأسرعت نحو حافة الغابة حيث اختفت أمي والطفل الذي لم أدقق في ملامحه، وما عرفت من يكون. كان الممشى طويلاً يتلوى مثل ثعبان ويختصر الغابة ليتجه مباشرة إلى البحيرة، وهناك يتفرع إلى طريق قصير يوصل إلى مركز التسوق. كل ما في المكان هادئ ساكن سوى خشخشات بين الحشائش لحيوان صغير. تقدمت في الشارع الترابي وسط الأشجار العالية الكثيفة الفروع التي تمنع نور الشمس، وتضفي على المكان دكنة شديدة وجواً رطباً خانقاً.. تتبعت الطريق محاولاً اللحاق بأمي. كان هناك رنين يدوّي في رأسي مثل رنة جرس طويلة رتيبة. أسرعت في مشيي، وعند المنعطف رأيت ظلها. كانت ممسكة بيد الطفل تسحبه وهي تتلفت، ثم توقفت ودلفت جهة اليسار عند مجموعة من الشجيرات الصغيرة. وصلت المكان وكنت أتهيأ لمعاتبتها على ما سببته لي من إرهاق. لم أجدها. لم تكن هي، وإنما كان هناك شيخ كبير السنّ بوجه مستطيل شاحب ترتسم فوقه ابتسامة خافتة، وعيناه تفصحان عن ودّ خائف. كان يمسك طرف الحبل المشدود إلى كلب أسود كبير. كان العجوز يسحبه نحو صدره بقوة، محاولاً أن يمنع انفلات الكلب الذي بدا متحفزاً للوثوب. بادرته بالتحية فردّها بصوت متهدج وبقي ساكناً في مكانه يشد بقوة حبل الكلب.
عندها لاحظت أن مرافقي يتبعني رغم انشغاله بهاتفه، وكان صوته يعلو وكأنه في شجار مع الآخر على الطرف الثاني. اقتربت من المخرج المفضي نحو البحيرة، ثم استدرت باتجاه الشارع المؤدي إلى مركز التسوق. بدت الساحة الفسيحة أمامه ضاجّة بالبشر، أطفال يلهون مع بالوناتهم بملابسهم الملونة وعجائز وشيوخ يفترشون المقاعد المحيطة بالمكان، وثمة من يعرض بضاعة فوق مناضد صُفّت قرب موقف العجلات، وسيارة شرطة تقف عند الجهة اليسرى لمركز التسوق.
ـ يبدو أن اليوم يوم احتفال...أين تنوي الذهاب. بادرني البولوني وهو يقترب ليجاورني.
ـ ليس في نيتي شيء محدد..دعني أريحك مني اليوم..لا تهتم ... سوف أشتري كالعادة علبة سجائر وورقة يانصيب ثم أعود... دعني لحالي ولو لدقائق..
ابتسم وسألني أن لا أبتعد كثيراً، وإن احتجت إليه فسيكون قرب المدخل الرئيسي. ولجت  داخل السوق وتفرست في الملصقات على واجهة محل بيع أوراق اليانصيب. في اليومين القادمين سيكون الجوكر في لعبة اللوتري الأسبوعي أكثر من سبعين مليون كرون..واووو.
يا ربي.. أية قدرة على الاحتمال يملكها ذلك القلب وهو يتسلم مثل هذا المبلغ بعد أن دفع نقوداً قليلة لشراء تلك الجائزة.
****
كانت عضلاته المفتولة موشومة بمجموعة صور لثعابين تلتف على بعضها، وتتسلل نحو رقبته منحدرة فوق ظهره. ووجهه المنمش قاني الحمرة، بعينين ذئبيتين راحتا تتفحصان زبائن المحل. ابتسامة رضية باشّة وكف ملوحة، هكذا استقبلني صاحب المحل بيتر بتومكين وهو سويدي من أصل فنلندي، يرحب بالمهاجرين ويقربهم له، ويسميهم بأقاربه الذين تعرف عليهم في السويد. لم يكن بيتر هذا قبل عشر سنوات غير مدمن مخدرات، زار السجون لمرات عديدة وبأزمان متفاوتة، بسبب قضايا عراك واعتداء. فجأة تغير الحال معه، وهو يعزو ذلك لصاحبته المغربية التي يتحدث عنها كالمسحور، ويقول إنها أنقذت حياته وسحبته من الحطام. كان يحكي قصته لجميع المهاجرين دون إهمال الجوانب الثانوية فيها، ويختمها في النهاية بالقول إنكم أهلي وليس هؤلاء السويديون.
حين دخلت متجره رحّب بي بابتسامة عريضة وناداني باسمي:
ـ ها يا صاحبي ما الذي أتى بك اليوم ؟ أراك شاحب الوجه..هل عاودك المرض..أكرر نصيحتي لك. تزوج من موراكو..ثم أطلق ضحكة مجلجلة كان يتلذذ دائماً في إطلاقها بشكلها الهستيري وكأنما يتحدى بها الآخرين.
ـ كيف الحال ؟
ـ شكراً، عساك تكون بخير...كالمعتاد علبة سجائر وورقة تريس أليس كذلك.
ـ نعم كالعادة..ولكني اليوم أريد شيئاً أخر.. سؤال بسيط ؟
ـ تفضل، هاك أولاً ما أردت ..وسل ما شئت.
ـ إن حصل المرء على الثلاث صور لشاشة التلفزيون في ورقة اليانصيب التريس هذه ما عساه يفعل.
زمّ شفتيه أولاً، ثم أطلق ضحكته المعهودة وتلفت حوله وأمسك بيدي بقوة وصرخ:
ـ أراك ربحت يا صاحبي. وجبة غداء دسمة لا تكلفك كثيراً هي حقي الشرعي..أليس كذلك.
أجبت وأنا أفتعل المرح كي لا ينكشف أمري.
ـ كلا أيها العزيز، فقط سؤال أردت منه معرفة أسرار اللعبة.. وإذا حصل المرء على ثلاث صور للديناري؟   
ـ آه يا صاحبي عساك لا تراوغ ..ولكن على أية حال أتمنى لك الحظ السعيد فجميع أبناء عمومتي يستحقون الخير. ألم يمنحوني جليلة التي أنقذتني من موت محقق، وهي جائزتي التي حصلت عليها منهم..انظر أيها الطيب...في الحالتين عليك الذهاب والاستفسار من قناة التلفزيون الرابعة السويدية في مدينة يوتوبوري. هناك سوف يخبروك عن اللعبة وشروطها..صورة شاشة التلفزيون تعني أنك ربحت خمسين ألف كرون بشكل أولي.  وصورة الديناري تعني أنك ربحت عشرة آلاف كرون سويدي شهرياً لمدة عشر سنوات. ولكن، هناك في البرنامج الصباحي للقناة الرابعة سوف يمنحونك حظاً جديداً، تزداد معه المبالغ حيث تسحب عندهم ورقة يانصيب جديدة، ربما تصل الأرباح فيها مع صورة الشاشة التلفزيونية إلى آلاف أخرى، أو تتضاعف إلى ملايين والشيء نفسه مع صورة الديناري حيث يتضاعف المبلغ إلى خمسة عشر أو خمسة وعشرين ألفا كرون تقدم لك كل شهر وتتضاعف المدة إلى خمس وعشرين سنة أيضاً.
صرخت بهستيريا وقفزت ولكني تداركت وضعي فصمتّ، وبادرته بالسؤال.
ـ هل أستطيع أن أحصل على المبلغ دفعة واحدة بدلاً من منحي إياه كل شهر.أريد أن أحصل عليه فمسألة توزيعه على أقساط شهرية أمر متعب.
ـ أيها اللعين، أراك ربحت وتحاول أن تخفي ذلك عني. ها قد أفشيت سرك.
ـ لا ...لا ولكن فقط اسأل لا غير.
ـ أتمنى لك الحظ السعيد،  ربحت أم لم تربح،  فأنتم أقاربي وسعادتكم تهمني..يا صاحبي إنهم سوف ينتظرون موتك. وهو بدوره يأتي بعجالة غريبة.
ـ موتي !!!.
ـ أي نعم موتك وليس شيئاً آخر..هؤلاء الشياطين يحسبونها بدقة..فالرابح كم عليه أن يعيش من السنوات..فقط العجائز والمرضى من يربحون اليانصيب في هذه الدنيا. الأقساط شهرية.. لا يعطون المبلغ جمعاً بكسر. وسوف ينتظرون موت الشخص لتقطع عنه تلك الجائزة.حل بسيط جداً...لم أسمع عن شخص أكمل السنوات العشر وهو يتلقى قسط الجائزة الشهري..هُبّ.. فجأة تنتقل روحه إلى السماء ويسقط اسمه من قائمة الأحياء، عندها تحجب الجائزة لعدم وجود من يتسلمها، فيربح الميت سعة الجنة بدلاً عنها، أو يُشوى بنار جهنم متذكراً أنه كان، يوما ما، غنياً مترفاً.
ـ إذن إنه الموت..الموت ..الموت يا له من قدر سخيف يسحق الفرح ومعه الجائزة.
تركني ليقدم خدمته  لزبون آخر، ثم أدار وجهه نحوي وابتسم قائلاً :
ـ حظا سعيدا مع جائزة كبرى...لا تقلق فالقلق لا يجلب الحظ السعيد.
ـ شكراً..حظا سعيدا لك أيضاً.
عند مخرج مركز التسوق، ظهر من طرف موقف السيارات المجاور جوق كبير من رجال ونساء يرتدون ملابس مزركشة بألوان فاقعة، تتدرج فوق أجسادهم بتناغم بديع.اتجهوا بهيئة فرقة منظمة نحو وسط الساحة الكبيرة وهم ينشدون بفرح أغاني بلهجة لم أكن أفهمها، ربما هي لغة الهنود الحمر أو شعوب أمريكا اللاتينية. توزعت الجوقة إلى حلقات راقصة تتألف من أربعة راقصين، يقابلها حلقات أخرى لفتيات بالعدد ذاته. على رؤوس الرجال قلانس ترتفع منها ريشة طويلة ملونة وملابسهم متشابهة الألوان تغطي النزر اليسير من أجسادهم القوية، وتنسدل تحت الخصر أشرطة ملونة، وينتعلون أحذية طويلة تصل إلى ما تحت الركبة، تلتف حولها أشرطة من الألوان ذاتها أيضاً..على صوت المزامير والصنجات والطبول يتراقصون ثم يتقدمون ليحيطوا حلقات الفتيات الرائعات الجمال اللاتي كن يرتدين صداري صغيرة ضيقة بلون زهري توشحها شرائط دانتيل خضراء، بدت وكأنها حقول ربيع ضاجّة بفوح الزهور والأعشاب، وتهبط من تحت الخصر شرائط أخرى بلونين فاقعين هما الأصفر والأزرق الشذري، شعورهن معقوصة إلى الخلف بحلقات من الدانتيل مختلفة الألوان تتجانس مع ثيابهن، وترتفع فوق الرأس ريشة واحدة بلون كستنائي. وكانت أجسادهن من أعلى الخصر تظهر سحنة بشرتهن السمراء والصديريات الضيقة لا تغطي سوى القليل من النهود النافرة التي تريد أن تهرب من مكامنها التي ضاقت بها مثلما ضاقت عليها. وقع أقدامهن يترافق باتزان مبهر مع أصوات الموسيقى، وكانت دوائر الرجال تضيق ثم تنفرج حول حلقات الفتيات، وكأن ما يحدث هو عملية محاصرة أو نزاع أو اختطاف. فجأة ومن وسط حشد الجمهور الذي أحاط الفرقة من كل جانب متلذذاً بمشهد الحفل الراقص، ظهرت حورية جميلة سمراء خلاسية البشرة، لم تتعد بعد سنواتها العشرين. مشت الأميرة بهدوء وتقدمت بخطى وئيدة وكأنما أقدامها تقرع نقراً خفيفاً فوق طبل. كانت حورية يتوج رأسها إكليل غار، وينسج الثوب بشرائطه الشفافة ملاءة من زخرفة تغطي شيئاً يسيراً من جسدها.سطعت شمس الصيف ببهاء نورها فوق هذا الجسد المشدود والقدّ الميّاس، وتقدمت الفتاة برشاقة وغنج لتقف أمام الفرقة الموسيقية، وإشراقه لابتسامة ملائكية ترتسم فوق محياها.
إنها راشما ..يا ربي إنها هي ..تسمّرت مكاني ووجدتها تطالعني بابتسامة ملائكية، فشعرت بدوري بالرضا وأنا أتفرسها بنهم، حيث تقف وسط الجوق. حين وقفت راشما كانت فرقة الراقصين قد شكلت جدارين متوازيين، الفتيات مقرفصات على الأرض والرجال يقفون خلفهن، وكان الصفان يتمايلان بتناغم مع صخب الموسيقى، والرجال يدقون الأرض بأقدامهم صعوداً وهبوطاً، ويطلقون صوتاً مكتوماً يدل على القوة والتحدي. تقدمت راشما نحو منتصف الساحة، وكان شعرها المزدان بإكليل من الورد ينساب فوق الظهر المكشوف، ويعكس بريق لمعان الشمس، وجسدها أسفل الخصر غطـّي بملاءة من قماش التول الأصفر الشفاف. كانت ترتدي صديرياً بلون أصفر يخفي صدرها الناهض، وحين تقدمت بدأ جسدها يتلوى مثل أفعى. تقدمت فضجّ الجمهور بالصراخ والصفير وتصاعدت معه ضربات الطبول وأصوات المزامير.انحنت الفتيات المقرفصات نحو الأرض فقفز الرجال من فوقهن وهم يصرخون صرخات الحرب، ثم ركضوا ليحيطوا أميرتي بحلقة محكمة فبدأت تتلوى مرتعبة ولكن فجأة تحركت جوقة الفتيات ليتقدمن مهرولات ليولجن أجسادهن من بين جدار الرجال، ويقفن كسدّ منيع يحيط بالملكة لمنع الرجال من اختطافها، وبدأت عند ذلك رقصة جميلة، تتقدم النساء فيتراجع الرجال ثم تدور الدوائر وتتراجع النساء. يشن الرجال غارتهم وتردّ النساء بقوة بغارة تبعد الأعداء. تتوتر الأجساد وتندفع بصبوة وفتوة. كانت رقصة أخاذة أشاعت الفرح وسط جمهور المشاهدين الذي راح يتمايل ويهتف مع حركات الراقصين والراقصات.
 كانت دقات قلبي تتسارع وصداها يعلو ويهبط خوفاً من أن يحدث شيء ما لراشما. كانت الأجساد بملابسها المزركشة الموشّاة بتلك الألوان تختلط بتوليفة حركات كرّ وفرّ ومعها ترتسم على وجه راشما تعابير الخوف والرهبة وتقطيبة غضب حين يتقدم الرجال، ولكنّ ابتسامة عريضة لفرح ملائكي تحل فوق وجهها. جسدها الطري يتمطى ويهتز طرباً حين تكر فتياتها المدافعات والموسيقى تصدح بنغمتين مختلفين بين تارة وأخرى.
فجأة تشتت حلقة الرجال، وراح بعضهم يصطدم ببعض كمن يريد الهروب أو يلوذ بمكان بعيد، ووجوههم يعتريها الخوف، عند تلك اللحظة خرج من وسط الجوقة الموسيقية شابّ فارع الطول جميل المحيّا مفتول العضلات، خصلة من شعره تسقط نحو وسط ظهره وتتطاير أحياناً مع قوة حركاته التي بدت متناسقة.كان يتمنطق بحزام يربط بنطاله الجلدي القصير عند الخصر، وامتد منه غمد عريض يضم غّدارة طويلة، واعتلت رأسه ريشة عريضة بلونين فاقعين، يمسكها رابط أخضر حريري رفيع.ورغم الملامح الغاضبة والعبوس الذي يظهر على وجه الفتى، فقد كانت عيناه تشعّان ببريق طاغ كان يصوبه بدقة نحو راشما التي جلست القرفصاء وسط حلقة وصيفاتها.تقدم الفتى واستلّ غدّارته، ولوّح بها في الهواء، فانسحب الرجال إلى الخلف وشكلوا نصف دائرة، بعدها استوت أجسادهم ثم انحنت، وتقدمت سيقانهم وطُويت إلى الأمام بحركة ركوع. تقدم الفتى نحوهم وهزّ غدّارته عدة مرات فتمايلت معها أجساد الرجال تعبيراً عن خضوع واستكانة وتذلل، فأرجع الفتى غدّارته إلى غمدها وطلب منهم بإشارة واضحة أن يحيطوا به ففعلوا ذلك، وكانوا ينطـّون حوله مثل الأرانب. استدار الشاب نحو الأمام بمواجهة حلقة الصبايا وعروسهنّ، ثم رفع وجهه ويديه نحو السماء وبدا جسده الضخم يبرز عضلاته المتناسقة، ثم تمتم بجمل غير واضحة فتسارعت أصوات الطبول والمزامير.ومع الموسيقى وتراتيل الفتى بدأت راشما ترفع جسدها رويداً رويداً لتستوي منتصبة ووجهها يطفح بالحبور والبهجة، ودارت الفتيات حولها برقصات متوازنة تمايلت بها الأجساد بغنج وخفة،  وكأن هناك موسماً  للربيع قد حلّ، وعليهن استقباله والترحاب به. وفي الوقت عينه كانت مجموعة الرجال تؤدي رقصة جميلة أخرى تصاحبها همهمات لأصوات مكتومة، وكانوا يتحلقون حول الفتى وكأنهم ديوك تتقافز بخفة ورشاقة.تقدمت الحلقتان إحداهما من الأخرى فتلامست الأجساد ودارت دورتين ثم انفرطتا ليختلط الجميع. عندها وقف الفتى بمواجهة راشما ثم ضمها إلى صدره بقوة فصدحت الموسيقى وعلت الأصوات وضج المكان بالتصفيق.  دخل بعض الصغار والفتيات من الجمهور وسط الحشد.
 اندفعت هائجاً نحو المكان وسط الجوق ثم سحبت راشما من يدها ودفعت الفتى من صدره.عزلت عنه راشما بلمح البصر وضممتها إلى صدري. أبعدتني عنها بقوة صارخة في وجهي بصوت أجش، وكان وجهها يكتسي بسحنة من غضب، والشرر يتطاير من عينيها، ووثبت مبتعدة وهي تنظر إليّ شزراً. رفعني الفتى بقوة ودفع بي بعيداً. التف جسدي دورة كاملة وسقطت على الأرض. كان الطنين يملأ رأسي وبدأ جسدي يرتعش. نظرت نحو راشما فوجدتها تبتعد وكانت تمسك يد إحدى صاحباتها. رفعني مرافقي عن الأرض وضمّني إلى صدره. بدأت أجهش بالبكاء وأنادي على راشما.
ـ أيّ راشما أيها المسكين ..يكفي هذا ... لقد أفسدت فرحة الناس.
ـ ولكن راشما...راشما .
ـ أي راشما يا صاح..إنها فتاة الفرقة

4
تلك الأيام المضنية  ج3
فرات المحسن
وقفت أطالع الشارع المتعرج الممتد أمام نافذة الشقة. كان لون الزهور البرية الصفراء يغطي جوانبه ، وثمة عجوز ترعى كلبها الذي راح يقفز مرحاً ويلتف حولها بدورات مشاكسة. تذكرت كوب القهوة الذي وضعته فوق المنضدة منذ حين، وانتبهت إلى أني نسيت أن أغلق جهاز القهوة. جلست أرتشف القهوة بتلذذ. سحبت علبة السجائر فسقطت ورقة اليانصيب أمامي، شعرت ببعض الراحة فتناولتها بهدوء ووضعتها فوق المنضدة، طالعتها وأنا أسحب نفساً عميقاً من سيجارتي. تناولت الملعقة وبدأت أقشط بنهايتها العريضة مواقع الأرقام فوق وجه الورقة.
سرت في جسدي رجفة، وتوقف ذهني كلياً وأنا أشاهد العلامات الثلاث للديناري تظهر على الورقة. لقد جاء الحظ أخيراً. لم أهيئ نفسي لمثل هذا الموقف، وسعادتي عند تلك اللحظة كانت أكبر من أن أحتملها. نفسي أشرقت أيما إشراق، فرحت أصرخ وأضحك وأبكي، أهذي وأنا أحلق فرحاً مثل فراشة، لم تلامس قدماي الأرض. لا لم تلامساها. تأكدت أن العالم يحتجزني في رقعة صغيرة منه، يغلق منافذ الهواء ويسد في وجهي نظـّارة النور. كان جسدي يلتهب حماساً وهياج أعصابي دون حدود. تدحرجت على الأرض ورحت أضربها وأبكي. تبعثرت قواي وشعرت بالإنهاك الشديد وبألم موجع يحرق يدي المتيبسة العليلة. سحبت ورقة وقلماً وحاولت احتساب ما سوف احصل عليه من مبالغ. ذهني المشتت المرتبك لم يستطع السيطرة على الأرقام، وعجزت كلياً حتى عن إدراج ما عرفته من أرقام بسيطة. كانت إشراقة قلبي لا يحتملها صدري وروحي فكانت لحظة تتقافز فيها شرارات من نار وحديد مصهور تحاصر ذهني وتعتصره عصراً، فسقطت وجسدي ينتفض مثل عصفور تتقاذفه الريح دون رحمة. اضطجعت على ظهري ورحت أصفق بيدي. غنيت معها أغنية تذكرتها ولكن وجدتني لم أكملها فصرخت بقوة، لقد أصبحت الآن غنياً، نعم سأكون غنياً مفرط الغنى، سوف أختار مرافقاً أخر وحسب رغبتي وبالمواصفات التي أريدها. سوف أطلب من رشما أن تساعدني وربما أناشدها لتكون بجانبي كمرافقة، سوف أدفع لها ما تريد. أشتري سيارة فارهة، لا..لا أحب ذلك ولا أحبذه..سوف أنجز الكثير من رغباتي دون تقتير. عليَّ الآن أن أدوّن ما أريد بوضوح ودقة. لقد تغير الحال فجأة وعليَّ أن أستعد لذلك. كانت الحياة تحوم حولي مثل ذبابة، تستفزني بأزيزها وطنينها الذي يذكرني دائماً بفقر أهلي وعوزهم.
كانت تتراءى لي صور البيوت المؤثثة ولذة الطعام الفاخر المتنوع كحلم طري، أحلم بساحة فسيحة لبيت فاره يتراقص في باحته إخوتي الصغار وصيحاتهم ترددها جدرانه الرخامية السامقة وأبوابه بزخرفتها المغربية. لم تكن تلك سوى أحلام فتى أرهقه الفقر وبات مقتنعاً بأن اللامحال هو سيرته اليومية، كان ولن يكون حاله غير ما هو عليه. أنا ذلك المسلوب من متع الدنيا والمبهور بمنظر أبناء المترفين لا بل الحاسد لهم، كنت كالمضيّع الذي يبحث عن طريق للهداية. حتى تطوعي في الجيش كان ضرباً من غواية استدرجتني نحو معسكرات البؤس والشقاء، وسارت شؤوني في تلك المعسكرات المهملة المجدبة لا بل القاتلة دون هداية أو قرار. كنا جميعاً مزروعين في متاهة لا حدود لها، مجهول لا متناهٍ. نعلف كالبهائم ونجتر حديث السفاسف المبتورة ونترقب أملاً يقال إنه قادم. جميعنا متشابهون متشابكون بسحنات مصفرة وأرواح كابية. بدأ لغز الحياة ومجونها يتوضحان لي منذ الأيام الأول بالرغم من أننا كنا في وهدة موحشة وكانت هناك جملة واحدة توصفنا دون عناية، عبيد ..عبيد، نهرب من الجحيم والخوف والابتذال إلى الجحيم والخوف والاحتقار. مع كل ذلك فلم أجلب معي حين هروبي وقدومي إلى السويد ندوباً وجروحاً من معارك دفعت إليها عنوة ولم أكن فيها مغواراً، ولم أكن لأسميها معارك، فهي عندي رنين لابتذال يتكرر صداه يومياً وكنت أسمعه بقدر ما بلغته جروح روحي التي كانت تلوكه وتتلمسه أشد وطئاً وأبعد وأقسى وقعا. ولكن هاهي اللحظة قد جاءت.
ولكن الآن ما عساي أن أفعل مع مرافقي البولوني الغدار. إن أخبرته بأمر ورقة اليانصيب فسوف يحاول سرقتها دون شك، أو ربما يسارع لقتلي غدراً. ألم يحاول رميي في البحيرة، أما كان ولازال يتلصص على أشيائي. لو عرف بأمر ورقة سعادتي هذه فالظن كل الظن أنه سيسارع ويدس لي السم أو يقذفني من الشرفة ويدّعي بأني انتحرت. سوف تكون شهادته مقبولة عند الشرطة فقد لفقت لي سابقاً تلك السماجة، وحذرني من تكرارها جميع من قابلتهم عند السلطات المحلية. سوف تكون عملية قتلي سهلة جداً عند مرافقي البولوني وليس هناك من بد منها. لا داعي لإضاعة الوقت، فعليَّ أن أعيد ترتيب الأوراق التي دونت بها حادث البحيرة وكيف أراد مرافقي قتلي عنوة وأمام الناس. ليس هناك من مفرّ للخلاص منه غير تقديم شكواي إلى مجلس البلدية، حيث أثبت لهم بالدليل القاطع أن مرافقي يريد قتلي وهو يسرق الكثير من أشيائي، ويتلصص على حاجياتي وأوراقي. سوف تتعاطف معي السيدة كاترينا.حتماً تتعاطف معي بعد أن أضع بين يديها الدليل الوافي على أساليب مرافقي الخسيسة. بعد أن تطلع وتشاهد صدق ما أقوله، لن تبخل بمساعدتها. حتما سيكون ردها ودوداً مفرحاً، وستقول ياله من بولوني خبيث، لقد أسأنا التقدير، وما حاول فعله جريمة لا تغتفر يستحق عليها العقاب الشديد. وحين أظفر برضاها وتعاطفها سوف أخبرها عن ورقة اليانصيب. كلا ليس في ذلك الوقت. ففي البداية عليَّ أن أتأكد من مسألة الاستغناء عن خدمات المرافق بشكل كامل، عندها أخبر السيدة كاترينا بالأمر وأطلب منها مساعدتي على تهيئة أمر الحصول على المبالغ التي سوف أنالها من ورقتي الذهبية. ولكن العجوز كاترينا كانت عدائية وحادة الطبع في المرة الأخيرة، وقابلتني بجفاء وغلظة، واعتقدت أن خيالي، وحسب ما قالته، قد شط ّ كثيراً وصنع معارك وهمية وتحديات وحقداً وسماجات مع جميع من عمل معي كمرافقين، وأني أرى بخيالي ما لا حقيقة لوجوده، وأني غضوب فزع، تصوراتي شكوك وأوهام غير واقعية لا طائل منها، لا بل ثرثرات ليس إلا. إنها تبغضني خاصة حين تأخذ بإلقاء مواعظها الغاضبة كنمرة مكشرة عن أنيابها تريد افتراسي. كيف أضمن أنها لن تثور بوجهي إن طالبتها بالاستغناء عن خدمة مرافقي البولوني. إنها عجوز، ولكنها صلبة العود مكفهرة الوجه عابسة، تتملق الناس بضحكة شاحبة ملساء مجردة من الطراوة والعاطفة. أفسد بشرتها العمل الطويل بين الملفات والأوراق، وربما دارت بين أروقة مصالح حكومية سويدية عديدة واستقرت أخيراً كمساعدة للمهاجرين في سلطة بلدية منطقة سولونتونا التي أنا واحد من سكانها، وهي الآن في سنواتها الوظيفية الأخيرة، وقد أورثها العمل الطويل تلك السحنة العجفاء واللسان الذرب وعيوناً لا تتكلم دون أن تتحدى ما يقابلها من عيون كسيرة. نعم منذ البداية شعرت بأنها تكرهني، بالرغم من أنها وفي كل مرة تودّعني بابتسامة وتهز يدي بحرارة. وفي رأس السنة الماضية ضمّتني إلى صدرها، وتمنـّت لي سنة جديدة جميلة. لكنها كانت، وفي أغلب المرات، تزجرني على أبسط الأمور وأتفهها، وتحسبني شخصاً مهملاً قلقاً ومقلقاً. لا أشك في كرهها لي وأنا بدوري ما كنت لأستلطفها. وفي أكثر المرات كنت أخرج من عندها مهموماً غاضباً مشتـّت العقل لا أدري أو أعرف ما أريده.
استيقظت فزعاً وأنا أسمع صوت باب الشقة يوارب بقوة. وصوت مرافقي يلقي تحية الصباح بالرغم من أنه لم يشاهدني، فقد كان جسدي ممدداً فوق الأرض بموازاة السرير من الجهة القريبة للنافذة. كنت منهكاً لذا غفوت مكاني. شعرت بتقلصات شديدة في قدمي ويدي المعاقتين وكأن أشهر العلاج الطبيعي وتناول الدواء قد ذهبت أدراج الرياح. حاولت أن أنهض فوجدتني أعجز عن هذا وكانت يدي تضغط بشدة على ورقة اليانصيب فخفت من أن يكون قد أصابها ضرر أو تمزقت فأخسر كل شيء. أمسكتها ومسحت عليها ثم وضعتها بسرعة في حافظة النقود وحاولت أن أخفف عن قدمي رعشة انتابتها وهذا يحدث لي للمرة الأولى وبهذا الشكل.
كرر مرافقي نداءه دون أن أفكر بالإجابة عليه، ورغبت أن أستمر في رقدتي دون أن أدلـّه على مكاني، ولكني وجدته يقف فوق رأسي بابتسامة بلهاء.
ـ ما الذي تفعله تحت السرير يا صديقي ؟
ـ لا شيء ... لا شيء. فقط أردت أن أستريح..لا علاقة لك بشؤوني هذه. دعني لوحدي لا حاجة لي بمساعدة اليوم. تستطيع أن تنصرف، فلا وجود لغسيل وعندي من الطعام ما يكفي.
ـ ولكن واجبي يحتـّم أن ..
ـ أعرف ذلك ولكني أشعر اليوم بتحسن شديد وقد استيقظت مبكراً وتناولت الدواء، وسوف أتناول الفطور والشاي بعد حين.
ـ أي دواء تناولته ؟
ـ لقد حضرت راشما وعملت كل شيء.
ـ أي راشما ومتى جاءت ؟
ـ لقد كانت هنا مع أمي، وسوف تعودان بعد قليل لتأخذاني معهما في رحلة خارج ستوكهولم. هذا قد تقرر قبل عدة أيام مضت. ربما تعتقد أن هذه الرحلة سوف تفقدك وظيفتك، ولكني أعدك بالعودة السريعة وسوف أكلم السيدة كاترينا لتبحث لك عن عمل جديد. لا تفكر كثيرا. لا تهتم، أنا وحدي من يستطيع إيجاد مخرج لمشكلتك. ولكن دعني أقول، إنك تستطيع أن تجد أفضل من هذا العمل. أقصد أنك قادر على العمل في أماكن أخرى مثل شركات ومصانع، وليس من المناسب أن تعمل مثل هذه الأعمال التي تبخس قوتك الجسدية وروحك الفضولية. فالجسد القوي صنع للعمل الجبار، وأنت تبدو مزارعاً قوي البنية، تحب الحديث مع الحيوانات والطيور، وتستطيع أيضاً البحث عن حبيبات في وارشو تقضي معهن وقتاً سعيداً، وربما استطعن إقناعك بالمكوث في وطنك بولونيا، دون الحاجة لوجودك في السويد. وراشما، لا بل حتى أمي، قالت إني لم أعد بحاجة لمساعدتك، وهما ستتكفّلان العناية بي وتسيير أموري. وإن جسدي لم يعد منهكا مثل قبل. تعرف أن راشما تقدر مثل هذا الأمر أكثر من غيرها وقد كانت في المستشفى خير مرافق لي.. ليكن السّر بيني وبينك ولو أني لم أفاتحها بعد، ولكني نويت الزواج منها. قبل ساعة من الآن لمّحت لي، ولو بشكل بسيط، عن إعجابها. والأكثر من هذا كانت تتهامس مع أمي وتتبسمان وهما تطالعانني، وحين سألت أمي عن الأمر قالت إن راشما  تودني  كثيراً وهي معجبة بشخصيتي. لقد غسلت ملابسي وطوتها ورتبتها بعناية. آه لو أنك شاهدت وجه أمي، كان يطفح بابتسامة الرضا والموّدة. أعرف رغباتها وأعرفها حين تكون ضجرة وكدرة، ولكنها كانت اليوم شديدة الفرح مبتهجة مسرورة. ومع كل ذلك كنت أود لو تتركني لبعض الوقت أنفرد براشما لأبثها شجوني وتفصح هي عن رغباتها. قل لي أواجهت مثل هذا الموقف مع إحداهن. لا أعتقد ذلك، فعلاقتي براشما تختلف كلياً عن علاقات الآخرين. سوف نسافر اليوم سوية وأفاجئها بالأمر، سوف تصعق من الفرح وربما ترتبك، ولكن أمي تستطيع أن تكون خير معين. إن أمي تتحدث أحياناً كلاما يثير الإعجاب والقناعة في نفوس الآخرين. أنت واحد من البائسين إذا لم تتعرف على أمي ولم تسمع حديثها. لقد نبهتني لأمرك عدة مرات، وأبدت عدم رضاها عن رفقتك لي، وقالت إني أتعس الناس حظاً لأني قبلت وجودك واستمرارك معي. أعتقد أن أمي على صواب وهذا رأي راشما أيضاً. تستطيع الذهاب الآن فأنا لست بحاجة لك اليوم. وأيضاً فإن عودتهما بعد قليل سوف تثير مشاكل لا أجدني أحتملها. أعترف لك أن أمي وراشما لهما المكانة الأولى في نفسي، وسوف أقف معهما بالضد منك، ويحدث ما لا أريد أن يزعج حبيبتي وأمي، ويعكر صفو فرحي بلقائهما. اذهب وأعتنِ بدجاجاتك في القرية أو سافر إلى وارشو وابحث عمّا يسلي قلبك.لا تدع الوقت يمر ..أرجوك لا تحرجني فأنا لا أحتمل غضب أمي وبكاءها. وإن غضبها وبكاءها سوف يجعلاني أقوم برد فعل لن يرضيك وربما يؤلمك جداً، وهذا ما يجعلني أقول، يجب علينا أن لا ندع هذا الأمر يحدث. لقد تناولت الدواء وراشما من ساعدني على ذلك، في حين كانت أمي تجلس عند حافة السرير تطالعني بفرح وروح منتشية، وهي من قالت إن رقودي بجانب السرير على الأرض سوف يقوي عظامي، فوافقتها الرأي وجلست راشما جواري تمسد شعري فغفوت. اذهب الآن قبل قدومهما. إذهب ولا تظن أني بحاجة إليك بعد الآن.
ـ أعرف ذلك جيداً، لقد اخّبرت به ..رغم كل هذا، ما عليك الآن غير النهوض والذهاب إلى الحمام ثم تناول الدواء. يبدو أنك سهرت البارحة لوقت متأخر ؟
قال ذلك وتقدم نحوي يحاول إنهاضي.أمسك بيدي ورفعني عن الأرض. ما كنت أستطيع تحريك جسدي، وشعرت بثقله مثلما شعر البولوني بذلك. كنت منهكاً وجسدي متيبسا، ولكني طاوعت يديه ورفعت جسدي، وفي الوقت ذاته كنت أحاول جاهداً أن لا يمد يده نحو جيبي، فقد أمسكت جيب بنطالي بشدة. فعليَّ أن آخذ الحذر، وأن لا أترك له فرصة لخطف الورقة مني. لا أحد يعرف ما يدور في ذهن الآخر، وأنا على يقين بأن هذا الشيطان لن يترك الأمر يمر بسلام. آه لو أن راشما وأمي تصلان الآن وتمنعانه من الاستيلاء على ورقتي الحبيبة. لقد تأخرتا كثيراً، وأنا أتهيب اقتراب لحظة اعتدائه عليّ وسلبي ورقتي. إنه قوي بجسد ضخم وعضلات مفتولة، وهو قادر على خنقي ورميي من الشرفة. عليَّ أن أكون لطيفاً مهذباً معه كي أجعله يبعد عن باله فكرة قتلي، أو على الأقل أسايره لحين قدومهما وإبعاد أمر الجريمة بما يكفي من الزمن. ولكن يا ترى ما سبب تأخرهما كل هذا الوقت. لقد أخبرتني راشما أنها تتحرق شوقاً لرؤيتي والعناية بي، وأمي أيضاً كانت كثيرة الدعاء وتطلب من ربها أن يتفضل ويمنحها العمر الطويل كي تعتني بي وترعى أطفالي.أعرف ذلك، فهي سوف تجلس ابني في حضنها وتداعبه.إنها تتشوق لهذا وأنا وعدتها بذلك وأخبرتها بموافقة راشما.
بادرني مرافقي البولوني قائلاً بأني لست في حاجة إلى الإلحاح في الحكاية، واستهلاك نفسي المتعبة بسرد كل تلك التفاصيل، علينا الخروج للتنزه جوار البحيرة لاستنشاق الهواء، والتخلص من الكوابيس المزعجة، وناولني كأس الماء ومسح على رأسي بيده الثقيلة، ثم جلس جواري مطالعاً وجهي بعينيه العصفوريتين. لم تكن لدي رغبة في تلبية طلبه، ولكن خطر في رأسي خاطر، أن أذهب إلى السوق فهناك أستطيع أن أبعد عن نفسي الخطر، وأقضي الوقت لحين قدومهما وفي الوقت ذاته أتأكد من قيمة الجائزة.
حدقت في المرآة، وطالعت وجهي الشاحب ولحيتي التي نمت بإهمال. كان رأسي يرهقه صداع ثقيل وعيناي كانتا كابيتين ناعستين. شعرت بالقرف والاشمئزاز وأنا أشاهد شعر رأسي المشعث. فكرت جيداً، ووجدت أن من الخطر أن لا أرى في نفسي غير المرض، وأن أمحض روحي كل هذا الإهمال بعد أن نلت تلك الورقة الذهبية، مصدر سعادتي القادمة. ولكن يا ويلي فإن ما ترسب في نفسي يبدو أكثر ثقلاً من أن يتركني طليقاً. ولكن ما دام الحال هكذا ولا منفذ للخلاص منه، فليكن ما يكون وسيان إن فرحت أو حزنت؛  فأنا أشعر دائماً بأني لست بقادر على تغيير الأشياء. حتى هذا البولوني أصبح جزءً من كياني، فهو الذي يداري عوقي وعيونه تغلّ فضولها الخبيث في روحي دون توقف، وأنا من الضعف بحيث لا أستطيع أن أبعد أذاه عني. لا أدري ما مبعث كل هذا التشويش. كنت فرحاً طوال ليلة أمس، ولكني الآن أشعر وكأنها امتدت مثل كابوس مقيت. تغير كل شيء بعجالة وبتّ أسير في لحظة قاتمة لا بل شديدة السواد.
بكل تمهّل، ارتديت ملابسي. وحين أراد البولوني مساعدتي على ارتداء القميص دفعت يده بقوة. نوبة من كراهية حادة شعرتها تسيطر على مشاعري، ليس فقط  اتجاهه وإنما تجاه كل ما يحيط بي. واجه خشونتي تلك بابتسامة بلهاء قائلا:
ـ سوف يكون الحال على ما يرام حين نكون وسط الناس..أنت تحتاج إلى هواء منشّط...ربما نلتقي بعض المعارف فيتغير المزاج.
كانت جملته مبطنة ومقلقة بعثت في روحي الكثير من التوجس، ولكني لم أشأ الرد عليه، ورحت أطالع هندامي في المرآة الكبيرة المجاورة لباب الشقة الخارجي، وانتبهت إلى صورته ورائي وكيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة زادت من رعبي.
دفع الباب بهدوء، ووقف ينتظر خروجي. مشيت بتثاقل أخط بقدمي المعلولة فوق بلاط الممر الطويل المؤدي إلى كابينة المصعد.امتدت أمامي فسحة الحديقة الواسعة التي تتوسط العمارات السكنية الثلاث والمغلقة من الجانب الأيسر بأشجار الصنوبر العالية التي تشكل وجه الغابة الأمامي. نظرت نحو نهاية طرف الحديقة عند امتداد الغابة، حيث ينفرج من وسط الأشجار الكثيفة طريق ترابي ضيق. كانت أمي واقفة هناك عند بدايته تنظر نحوي بعينين جاحظتين، وتمسك بيدها طفلاً صغيراً. ناديت عليها ولكنها سحبت الطفل وولجت بين الأشجار عند الطريق الترابي.صرخت بأعلى صوتي، لوّحت بيدي..ناديتها إن تقفِ ..إلى أين تذهبين....انتظريني ...انتظري... ولكنها اختفت..أردت اللحاق بها. كان جسدي مضطرباً يهتز دون أن أستطيع التماسك ..رأيتها تظهر بالقرب من أشجار الصنوبر. كانت ابتسامتها شاحبة وشفتاها متيبستان، وثمة لوم تريد الإفصاح عنه. نعم شاهدتها. لا تريد المجيء اليوم. ربما تركتها راشما وضاع عليها الطريق. ولكنها كانت قريبة وشاهدتني، فما الذي جعلها تبتعد.



5
تلك الأيام المضنية ج2

هذا المرافق البولوني بزغ أمامي فجأة. وجدته بعد أقل من يوم، ممّا جرى مع المرافق الثالث، يطرق بابي ليلقي عليّ تحية الصباح بابتسامة عريضة ويقدم لي نفسه شارحاً مهمته التي كُلّف بها من قبل دائرة البلدية، مظهراً لي ورقة قرار المرافقة الممهور بتوقيع السيدة كاترينا. كانت رائحة دخان السجائر الكريهة العالقة بثيابه تبعث على الغثيان. سمحت له بالدخول ولكن لم يفتني أن ألقي عليه نصيحتي التي أكررها مع الجميع. على المرء أن يحذر من أن تعلق به رائحة السجائر، ولذا عليه أن يقوم بغسل فمه واستعمال الفرشاة أو العلكة لتنظيف أسنانه بعد كل مرة يتناول بها سيجارة، وإلا علق الدخان بملابسه وفمه، فكره الناس صحبته والتقرب منه.
ابتسم وولج نحو الداخل عبر الباب المفتوح، وهو يكيل المديح لنصيحتي هذه، وقال إنه سوف يفعل ذلك في المرات القادمة، لا بل سوف يفكر بخاتمة قريبة لعلاقته بالتدخين. ولكنه حين جلس على الكرسي المجاور لمقعدي نظر نحو الصفيحة التي كنت أستعملها لإطفاء السجائر اكتسى وجهه بملامح دهشة ظاهرة وقال وهو يزم شفتيه، وابتسامة صفراء علقت عليهما، بأني أعفر الشقة بالدخان، ويظهر أني مفرط بالتدخين، وهذا ما يبدو من كثرة أعقاب السجائر المرمية داخل علبة الصفيح الصغيرة. وزاد على ذلك بقوله إن دخان السجائر يعلق حتماً بجدران الشقة والأثاث والملابس، فلم لا ألاحظ  ذلك وما دوافع نصيحتي التي قدمتها له إن كنت أهملها من جانبي. تلك اللحظة شعرت أن هذا الشيطان البولوني بدأ المعركة دون مقدمات، وهو يستفزني، لا بل يحتقر فكرتي عن موضوعة دخان السجائر، ويريد إحراجي ووضعي في الموقف الضعيف و اتهامي بالرياء والكذب. جلب انتباهي حذاؤه العالي الكعب، المدبب، وبمقدمة دقيقة طويلة تبدو كمنقار طائر. دهشت وكتمت ضحكتي. كنت أعرف أن هذا النوع من الأحذية لا ينتعله غير الصبيان وبالذات الوقحون منهم،  وهو يدل على شخصية مستهترة قليلة التهذيب، عندها نبهته إلى أن حذاءه ربما يسبب نوعاً من الإيذاء لأرضية الشقة، فعليه أن يخلعه دائماً جوار الباب الخارجي. وأنبأته بأني تسلمت هذه الشقة قبل سنة مضت وحافظت عليها، ولا أسمح لأي كان تخريبها. ابتسم وهمّ بالوقوف وهو يسألني إن كنت أرغب قهوة أم شاياً. لم ينتظر مني الجواب فقد أعطاني قفاه متوجهاً نحو المطبخ فصرخت: أتعرف أين توجد القهوة... لم تسألني حتى.. فما كان منه أن التفت نحوي ونظر لي شزراً وصرخ بوجهي: ما الذي يجعلك تصرخ هكذا....أيستحق الأمر ذلك.
كإحساس عارم لا يغالَب، سيطر عليَّ خوف غريب وشعرت بمدى ما أنا عليه من عجز أمام هذه النظرة القاسية الوقحة. يؤلمني دائماً أن أتذكر تلك اللحظة. لحظتها كان يتصاعد غضب عارم في أعماقي، ولكني كنت كمن تملكه رعب شديد فأطرقت نحو الأرض ملتزماً  الصمت واستغرق الأمر كله بعض الوقت. ولكنه حين عاد ربّت على كتفي وهو يضع كوب القهوة أمامي وكانت شبه ابتسامة عالقة على طرف شفتيه فبادلته الابتسام على مضض.
حاولت أن أسبر ما تضمره ملامح وجهه لأكتشف ما ينوي عمله بعد لحظة المخاشنة التي صبغت لقاءنا الأول.كانت عيناه صغيرتين مثل عيني عصفور، تحيط بهما هالة رمادية داكنة بعض الشيء. كان من الصعب أن أكتشف ما تنويه تلك العينان المتلصصتان وهما تجوبان دون توقف في محاولة للإحاطة سريعاً بتفاصيل الشقة وهيئتي التي بدت في أقصى حالات رثاثتها.
كان مجرد تفكيري باللقاء الأول مع هذا الأخرق يجرح مشاعري ويؤذيني أيما إيذاء، وهذه المشاعر بدأت تتحول إلى كره بعد مضي الشهر الأول من مرافقته لي، وبدأت أشعر بأني اتخذت قراراً حاسماً بالوقوف في الضفة الأخرى، وهي ضفة أسميتها أخرى لأضع هذا الشيطان بعيداً عنّي بمسافة تعطيني القدرة على رؤية ما أريده بشكل مناسب. وضعته بعيداً عني رغم حضوره اليومي ووجوده جواري وقد قررت مقاطعته واخترت أن أكون وحدي حتى بوجوده.كنت أريد أن أثبت له قوتي وقدرتي على الخصومة. ربما شعر بهذا الشيء وحاول أن يكسر هذا الطوق ليعبر إلى ضفتي، ولكني قررت  ألا أسمح له، لا بل أمنعه بكل ما أوتيت من سبل. بدأت أشاكسه وأناكده. وبدوره لم يكن يعاملني برقة ولطف، ولم أشعر ولو للحظة بغير ذلك، لذا وضعته في خانة الأعداء. فإن كان يحاول إثارتي بفضوله وتلصصه على أشيائي الخاصة فهو أيضاً يستفزني دائماً بعبارات مباغتة خشنة أحسبها أكثر ابتذالاً من وجهه العبوس وضحكته الشيطانية الساخرة.
الساعات الثماني التي يقضيها في مرافقتي بدت ثقيلة عليَّ مثلما هي ثقيلة عليه، وبدأت أحاديثنا شبيهة بألغاز.  نزر من حديث متقطع حول أمور ليست بذات بال. كنت في أغلبها التزم الصمت طيلة الوقت، وكانت أسئلته وجمله الفجائية تغيظني، فأحاول عدم الرد، وأروح أطالع التلفزيون متنقلاً بين قنواته بسرعة دون توقف. ما كان يتذمر من ذلك أو يبدي أي استياء، بل يجلس ويروح يراقب حركاتي مبتسماً بتشفّ. الساعة العاشرة صباحاً يعطيني المجموعة الأولى من أقراص الدواء، ويذهب لغسل ملابسي ومن ثم ينظف ما اتسخ في الشقة، ويحضر لي بعض الأحيان شيئاً من طعام. وقبل نهاية دوامه يعطيني الوجبة الثانية من الدواء ويضع أمامي قرصاً أخر على الطاولة عليّ تناوله في المساء.
كانت أحاديثه تكتسي دائماً طابعاً غريباً يستحيل معه أن أكون فكرة متكاملة عما يريد أن يوصله لي. أعتقد أن لكنته البولونية واللغة السويدية التي يملكها كلانا، لا تنفع في التواصل بشكل ناجز. نحن نمتلك المزايا ذاتها في هذا الجانب، ولذا لا يمكن أن نخوض بشكل معمق في حديث متواصل. وأنا كنت، في أغلب الأحيان، أفضل الصمت وأترك له ما يشاء التحدث فيه. الحديث بهذر واصطناع المرح والخفة كانت أكثر مزاياه ظهوراً، لا بل لا يملك ميزة غيرها. جلّ حديثه عن حياته يدور حول إحدى القرى القريبة من وارشو، وكيف هي الحياة اليومية للفلاح هناك. كان يقلد ثغاء الأغنام وخوار البقر ونقيق الضفادع وزقزقة العصافير، وأصوات الحيوانات الأخرى، ليضفي على وصفه طبيعة الواقع، وكان يفعل هذا بصوت طافح  بالفرح، ووجهه يكتسي حمرة وشغفاً باللحظة. كنت أبتسم في داخلي مستهزئاً بمحاولاته التي لا أدري كيف أفسرها. أحيانا، ومن خلال ثرثرته، أستشف وبشكل أكيد أنه يعتقد أني قدمت إلى السويد من عالم آخر يختلف كلياً عن عالمهم الأوربي. عالمنا لا يحوي غير صحراء جرداء يهيم فيها البشر، بحثاً عمّا يسد الرمق، ولذا لم تسنح لي الفرصة لمشاهدة الريف وسماع أصوات حيواناته، وكان في بعض الأحيان يفصح وبجدّ عن فكرته هذه. وفي أحيان أخرى يراودني ظن بأن ذلك الأمر جزء من الخفة التي تتلبسه دون مقدمات، ولا يمكن له كتمانها. وهذا ما توحيه بعض جمله أثناء الحديث. وحين يريد استفزازي وإثارتي، يروح في وصف الشرق، والعراق منه، بالبلدان الفقيرة غير المتحضرة، فيجدني قد استشطت غضباً، فيبدأ بإسباغ الفكاهة على حديثه ليبعد الجو الملبد بالشر. كان ترددي والحزن والكآبة الحادة التي تتملكني في أغلب الأحيان تجعلني في قلق وشك دائمين ينغصان عليَّ حياتي. حتى الترهات التي يفتعلها مرافقي تتحول في روحي إلى وساوس وأحاسيس غريبة من الخوف والانفعال يمنعانني من أن أستكين وأهدأ، فأشعر بالانقباض لساعات طوال، لا بل تأخذ مني تلك المشاعر أياماً طوالاً دون أن أستطيع إبعادها.
كان يخرج معي لساعة أو ساعتين، نتسوق ونقضي بعض الوقت في مسيرة تمتد جوار حافة البحيرة الواسعة التي تقع غير بعيد عن شقتي والطريق المفضي إلى مركز التسوق. إنه لشيء ممتع أن يصمت المرء وهو يطالع فضاءً من الزرقة يمتد بعيداً دون حوافّ أو حدود في فراغ أزرق رجراج، ويسير دون أن يطلب منه أحد ما، شخص ما، مزعج ما إيضاحاً عن شيء محدد. فسحة الوقت تلك والمسير نصحني بهما طبيبي الخاص قائلا إنهما أفضل من الدواء لاسترجاع عافيتي وقدرة ساقي اليسرى على الحركة. ومع تكرار المسير اليومي، بدأت أشعر بنوع من التحسن، أخذت معه أنقل قدمي بحركة رغم بطئها، فقد كانت تعينني على إنجاز تنقلاتي بشيء من الراحة، وبدأت حاجتي للكرسي المتحرك غير ما كانت عليه سابقاً. وكان ذلك فارقاً كبيراً عن السنة الماضية التي كنت فيها عاجزاً كلياً عن السير لأكثر من عشرين متراً.
في كل مرة أنبهه بأن يبتعد عني بعض الشيء حين نسير جوار البحيرة، وكنت ألقي عليه طلبي ذاك بإيجاز ووضوح تامين، رغبةً مني أن أسير بطمأنينة ووثوق من قدرتي على المشي دون عون، فكان يدعني أقطع شوطاً طويلاً مبتعداً عنه. أما هذا اليوم فقد وافق رغبتي، ولكني كنت أشعر بأنه لم يكن بعيداً عني بما فيه الكفاية، وأحياناً يحاول كسر صمتي بدندنة سخيفة سمجة أو استعمال الهاتف والحديث بصوت مرتفع مع الشخص على الطرف الآخر، أو رمي الحجارة في الماء أمامي أو تحذيري دون مبرر من السير بسرعة أو التقرب من الماء.
ـ لماذا تلطخ ملابسك دائماً عندما تتناول الطعام ؟
كانت جملته هذه مثل صاعقة هطلت على رأسي، ولكني لم أحفل بها بادئ الأمر وبما تستحقه من غضب، وضبطت إيقاع مشيتي مثلما أعصابي التي توترت إلى أقصى حدود التوتر. التزمت الصمت ولكنه اقترب مني وكررها بشيء من الحدة، فالتفتّ نحوه وأنا أغلي غضباً وأجبته وأنا أصرّ على أسناني.
ـ لا شك أني أتصالح مع الجميع في هذا الكون عداك.
وببرود مفتعل وضحكة ضاجة أجابني:
ـ ولكنا لم نكن متخاصمين مطلقاً. وسؤالي يتعلق بوضعك مع كثرة الملابس التي تتسخ دون مبرر.
أجبته وأنا أشيح وجهي عنه.
ـ هذا شأني، وإن كنت تجد نفسك متعباً من تنظيفها فدعني أغسلها لوحدي.
احتواني بيديه الثقيلتين وهو يطلق ضحكة مجلجلة، وحاول أن يهزني مقرباً جسدي نحو حافة البحيرة. كان واضحاً أنه يهم بدفعي نحوها، فارتجّ جسدي وشعرت ببرد وخوف شديدين. تشبثت برقبته بكامل ما أملك من قوة، وبدأت أصرخ طالباً النجدة. ظهر بعض الأشخاص من بين الأشجار القريبة وكان واضحاً أنهم يستطلعون الأمر ليس إلا، فلم يحاول أحد منهم التقرب منا. شاء حسن الحظ أن يظهر هؤلاء في تلك اللحظة، على حين غرة، ولولا ظهورهم لما عرفت كيف يمكن أن ينتهي عليه الأمر مع هذا الوحش البولوني المستهتر. كان مرافقي يطلق ضحكات متقطعة، ويدفعني نحو الأمام وكأنه يمازحني، ولكني كنت على يقين بأنه حاول دفعي عنوة نحو البحيرة. تنحيت جانباً وأنا أنظر بتوسل نحو هؤلاء الناس، شاهدت ابتساماتهم ونظراتهم المتطامنة، والتي تعني في كل الأحوال أنهم غير معنيين بما يحدث. ولكني كنت وقتذاك مضطرباً أشد الاضطراب، فعقدت المفاجأة لساني فكتمت صرختي التي أطلقتها بادئ الأمر.
سجّلت كل ذلك في دفتر ملاحظاتي اليومية. سجلته واصفاً الواقعة بدقة متناهية لم أغفل حتى وصف تلكم الوجوه التي لم تكترث لطلبي النجدة منها. دوّنت ملاحظاتي، بالرغم من أني أهملت عن عمد، ومنذ زمن طويل، أن أسجل فيها أية ملاحظة عن هذا المخلوق البولوني، اعتقاداً مني بأن ذلك يمثل احتقاراً حقيقياً له، وأنه لا يستحق أن يدخل في ملاحظاتي كشخص له أهمية ما، وتلك رغبة سكنتني بالكامل لفترة طويلة.
لقد دوّنت الواقعة بالكامل، دوّنت حركته، وسجًلت حتى عدد صرخاتي حين طلبت النجدة بادئ الأمر، ووضعت وصفاً دقيقاً لوجوه الناس الذين شاهدوا الحادثة، بهيئاتهم وأنواع وألوان ما يرتدون من ملابس. رسمت خارطة لموقع الحدث وساعته. مضى على الحادث أكثر من شهرين، ولكنه وضعني في حالة حذر واستنفار شديدين، ولم أستطع إهماله بالرغم من جميع محاولات البولوني التي أراد فيها أن يوحي لي بأن الأمر ما كان ليعدو غير مزحة أراد منها إخراجي من حالة الكآبة التي تنتابني. رحت، وبحذر شديد، أراقب حركاته وسكناته وهو لا يفعل شيئاً سوى تكرار ابتساماته البلهاء واجترار الحديث عن مغامراته وطبيعة الحياة في قريته البولونية جوار العاصمة وارشو.
في المسير الاعتيادي جوار البحيرة، رحت أبتعد مسافة ليست بالقليلة عن حافة الماء وأتلصص بنظري نحو مرافقي. وبدأت رغبتي في التنزه تقل يوماً بعد آخر، خوفاً من أن يكرر فعلته.
كالأيام السابقة، ولجنا داخل السوق واتجهت إلى الكشك في طرفه الأيسر حيث طلبت علبة سجائر وبطاقة يانصيب تسمى (تريس ) كنت ومنذ قدومي إلى السويد أشتريها مرة كل أسبوع، ولم يفتني ذلك الأمر حتى حين رقدت في المستشفى، حيث كنت أطلب من الممرضة راشما أن تشتريها لي. كنت أستخدم مع تلك البطاقة طقساً خاصاً. أختلي فيه مع الورقة، أتناول الشاي وأنا أقشط ببطء وتلذذ طلاء الأرقام والصور من على الورقة، وأمنّي النفس بجائزة دسمة. لم يخطر على بالي أن أحسب عدد المرات التي اشتريت فيها ورقة اليانصيب، فالسنوات الثماني مضت سراعاً ولم أكسب من تلك اللعبة غير مرتين فقط، الأولى كانت مائة كرون والثانية خمسة وعشرين، ولو أردت جمع ما أنفقته في شرائها لكان الحال أفضل من دون هذه الورقة الساحرة.
مشيت جوار البحيرة مسافة طويلة، فشعرت ببعض الإعياء وكأني سرت على قدمي نهاراً كاملاً. كان قرص الشمس يهبط رويداً خلف المياه التي بدت تتلون بلون الغسق الأحمر. شعرت بشيء من البرد رغم أن الصيف لم يخبُ بعد. عبر الشارع جوار البحيرة، هناك غابة صغيرة كثيفة الأشجار تفضي مداخلها إلى ساحة صغيرة بالقرب من شقتي، أما جانب البحيرة الشمالي  فهناك غابة أخرى كثيفة تفصح عن كامل وحشتها وربما أسرارها حين يهبط المساء. لم أرغب قط الدخول في جوفها بالرغم من الإغراءات والتطمينات التي كانت تقدم لي من قبل أغلب الذين عملوا معي كمرافقين. كنت أشاهد الناس يدخلون إليها ويخرجون منها. ومسيراتهم تلك خطـّت العديد من الطرق الميسمية الظاهرة كمخارج ومداخل لتلك الغابة. كنت أتهيب حتى التفكير بالوصول إلى مسافة قريبة منها أو تصور ما يحتويه جوفها من غرائب. أحياناً يشط ذهني فأجدني أفكر بتلك الغابة وكأنها تبدو مثل مصيدة  للبشر تسكنها السعالي التي تصنع من رؤوسهم المسلوخة تعاويذ تعلقها فوق أعالي الأشجار. راودني هذا الإحساس طيلة المرات التي اقتربت فيها من تلك الغابة اللعينة. حدسي هذا قارب الحقيقة لمرات عديدة حين لمحت عيوناً تتلصص من بين كثافة الأغصان، وسمعت أيضاً  أصواتاً  لحشرجات كائن يذبح أو يعذب. لذا كنت أتحاشى أن أكمل المسير وأختصر الطريق مبتعداً عنها. فالرعب الذي يسيطر عليَّ لا يوازيه خوف سوى رعب أيامي القاسية الموحشة التي قضيتها عند السواتر في معركة الشوش.
استدرت متوجهاً نحو الشقة، فتبعني مرافقي الذي كان يثرثر مع أحدهم عبر الهاتف النقال. فتحت باب الشقة وقلت له: لم يبق من الوقت غير نصف ساعة، تستطيع الذهاب، فأجابني إنه سوف يضع الأغراض في مكانها وينصرف. فعل ذلك بعجالة وأغلق الباب خلفه. شعرت بالارتياح، فتحت جهاز التلفزيون وأخذت أبحث في القنوات العربية. لا أذكر بالتحديد المدة التي انقضت على شرائي لجهاز اللاقط  للقنوات الفضائية العربية، ولكن التأريخ ذلك ليس ببعيد، فجاري المصري الطيب صاحب الوجه القريب الشبه بوجه فأرة، والذي يحمل قلبا طيباً محباً ويتودد للآخرين بفرح ومسكنة، تصل أحياناً حد الإزعاج والضجر، هو من نبهني لأهمية حصولي على لاقط  القنوات. وقال بلهجته المحببة، إن القنوات العربية سوف تذهب عني وحشة الشعور بالوحدة، وإن الإنسان يحتاج التواصل مع خلفيته حسب التعبير السويدي، لكي يعيد أواصر روابطه بشعبه وبلغته. عندها  اقتنعت  بفكرته وتكفل هو ومرافقي نصب الجهاز اللاقط  كاملاً. ولكن فكرة الإمتاع تبددت تدريجياً وبدأت أسأم تلك البرامج التي أغلبها سياسية أو تتحدث عن كوارث ومصائب وخيبات، أو أخبار مؤذية لا بل سخيفة جداً. حتى برامج المنوعات ما عادت تستهويني، فأصبحت مهووساً بالتنقل بعجالة دون التوقف لفترات طويلة عند قناة تلفزيونية بعينها، ولكن ما كان يهمني هو أن أستمع لأصوات عربية تتردد في داخل شقتي، دون أن أعير اهتماماً بالموضوعة التي يدور الحديث حولها. أصبح ذلك عادة مألوفة عندي.لم تكن نصيحة جاري المصري بالذات ما رست عليه قناعتي أو فضّله خياري، بالقدر الذي عنيته من وجود رطانة قريبة مني. هذه الرطانة العربية، بالرغم من إحساسي بسخافتها وعدم اهتمامي بمواضيعها، فأنها كانت تبعد عني بعض الشيء  مشاعر الوحدة وتضفي على محتوى غرفتي المتجهم الرتيب شيئاً من حياة. ما أكثر ما تستطيع فعله تلك الأصوات في النفس، بالرغم من أني ميال للعزلة، ولكني أدرك أيضاً مقدار ما تكتنزه روحي من الفضول، وهذا لوحده صار المبرر المقنع لكسر وحدتي ووجود لاقط الفضائيات.


6

تلك الأيام المضنية 1
سئمت من تدوين ما يصادفني من حوادث يومية، اعتدت تسطيرها، بترهاتها و جدّيتها، في دفتري ذي الغلاف البني الداكن المرقط بندب كثيرة سببتها أعقاب السجائر التي أسهو أحياناً فأضعها فوقه، ولقد وجدت أن تغير شكل غلاف الدفتر، جعله يبدو مناسباً جداً لذوقي. اليوم اتخذت قراراً بالتوقف عن التدوين، والقرار له أسباب عديدة، ولكن واحداً من أهم دوافعه، هو نظرة الفضول السخيفة السمجة التي يرمقني بها مرافقي البولوني الشرير. اليوم زادت نظراته وقاحة وتطفلاً، فهو يرنو نحوي بعينيه بين لحظة وأخرى، ويبتسم ابتسامة شاحبة أشعر أنها تخفي لؤماً مبيتاً، ومع هذا كنت أحاول إهمال ذلك قدر المستطاع، لذا رحت أقلب قنوات التلفزيون بسرعة ودون عناية، محاولاً إبعاد اهتمامي عنه، ولكني أعرف جيداً نظراته المتلصصة الخبيثة وما يخفي وراءها أو ما يريد بها تحديداً. إنه يحاول استفزازي ويعاند في ذلك، لذا طويت الدفتر ولم أعد أعطي له مجالاً  لتلقف ما سطرته من كلمات. أُدرك أنه لا يعرف اللغة التي أكتب بها، ولكنه يفعل هذا من باب المناكدة التي أبغضها وأمقتها، إنه يحاول إثارتي ليس إلا.
فضوله يثير شفقتي، ولكنني أمقت ذلك، بقدر ما أحمل له من كره كشخص أشعر أنه فـُرض علي فرضاً من قبل مسؤولة  البلدية في منطقة السكن، العجوز كاترينا. لم أستطع حينها رفضه فثمة موانع كثيرة كانت تقف في مواجهة هذا الأمر، ليس أقلها أني وللمرة الثالثة أتشاجر مع المرافق الذي خصصته البلدية لمساعدتي. المرة الأخيرة كان المرافق هو من طلب إعفاءه من مهمة مرافقتي بحجة تكرار عراكي وخصوماتي غير المبررة. والأكثر من هذا ادعى أني حاولت شتمه والطعن بشرفه دون وجود مبرر معقول لذلك، وتمادى في نهاية الأمر، وقال وعلى مسمع مني بأنه لا يحتمل بعد الآن التعامل مع معتوه مجنون ووحش مثلي، فردت عليه المسوؤلة  بشيء من الغضب، وطلبت منه أن يترك مفتاح الشقة وبطاقة المرافقة، ففعل ذلك بسرعة وكأنه يحاول التخلص من حمل ثقيل.
 لم أغضب حينها وشعرت بشيء من الراحة، ولم أحاول إنكار الأمر أمام كاترينا العجوز المسؤولة عن ملفـّي الشخصي في سلطة البلدية. ولم تكن لي حينها رغبة للرد على اتهاماته، أو الأحرى وبالوصف الدقيق، كنت منتشياً، وانتابتني حالة من السعادة وأنا أراه يتحدث بصوت مهشم ومتعب وبوجه شاحب، شارحاً علاقته المتوترة معي وأسلوبي الفظ وغير العقلاني بالتعامل، وامتناعي المستمر ولساعات عن الحديث معه.
ذاك اليوم واجهتني كاترينا، وللمرة الأولى، بشيء من الحنق والغضب والنظرات غير المريحة، وبنوع من الاشمئزاز وكأنها تعني ما تقول بشكل جازم لا لبس فيه.
ـ هذا ثالث مرافق يشتكيك ويهرب منك، إذا أستمر هذا الحال سوف نضطر لإرجاعك إلى دار العناية بكبار السن.هل ترغب بذلك..لماذا لا تريد أن تكون طبيعياً..؟
انتابتني قشعريرة وشعرت بمرارة تتصاعد في أحشائي ونطق لساني بصوت خافت أقرب للهمس.
ـ لا، أرجوك..لا أريد العودة إلى دار العجزة..أرجوك، سيكون حالي أفضل..سأغير من وضعي..أعدك بذلك...سوف أجعل حالي أفضل بكل تأكيد..ليس دار العجزة أرجوك..سوف يتحسن الحال...
أملك مشاعر متضاربة حول هذه السيدة العجوز. ففي بعض الأحيان أشعر بميل مناسب نحوها، وأغبط نفسي كونها تعتني بي  وتراقب وضعي وتعطيني  الحلول لبعض مشاكلي، لا بل تساعدني في الكثير مما أنشده من مساعدة، وهي تشرف على علاقتي بالمرافق  ونوعية الخدمات التي يقدمها لي. ولكني في ذات الوقت أكره فيها صرامتها ومزاجها المتقلب وتأنيبها المستمر لي.
في ذلك الوقت شعرت بمقدار الحزن الكثيف الذي سيطر عليّ، وانتابتني حالة من الفزع وأنا أتذكر دار العناية بالكبار الذي هددتني بإرجاعي إليه. ذلك المشفى الذي يبعث في الروح قتامة وسوداوية مفزعتين. برائحة ممراته العطنة وبهوائه المشبع بروائح الموت، وعجائزه من النساء والرجال حين يروحون ويغدون في ممراته مثل أشباح متهالكة  تنتظر أن تغلق عليها التوابيت، وليله الطويل المعتم وأصوات التأوهات المكتومة. لقد قضيت هناك ما يقارب السنة رغم كوني بعمر الأربعين، كنت أظن أن لا مخرج لي  بعدها لحياة سوية. نقلوني إلى تلك الدار بعد أن رقدت في المستشفى لفترة ثلاثة أشهر إثر سقوطي من شرفة الشقة التي كنت أسكنها لوحدي في منطقة تنستا في العاصمة ستوكهولم. سُجل الحادث عند الشرطة كحالة انتحار، وفسرت اللجنة الطبية في سلطة البلدية الحادث بالمعنى ذاته، الذي استقر عليه تقرير الشرطة، بالرغم من أني أخبرتهم بأني قفزت من الشرفة بدواعي محاولتي إنقاذ صديقي فؤاد المضرج بالدم، والذي كان يلوح لي بيده، وصوته يذوي ويختفي مع التأوه والتوجع. لقد مزقته الشظايا، والثقوب ظاهرة فوق بذلته الخاكية وكان الدم  ينز منها بقوة. وأردت أيضاً منع أمي من تمزيق صورة كانت تلوح بها في الهواء وتهددني بتمزيقها، وما كنت لأعرف صاحب الصورة، ولكنه بدا بشكله الخارجي قريب الشبه  مني. وكان طفلا صغيرا يشبهني أيضاً يسحب ثوبها ويتوسلها أن تعطيه الصورة، بينما كان يغرق في مياه البحيرة. أردت الاقتراب منهم، حاولت الوصول إليهم، لم يكونوا بعيدين عني. لقد حزمت أمري فلم أكن مستعداً لمنع نفسي من إنقاذ صديقي، والحصول على رضا أمي وإيقاف الغضب التي سيطر عليها دون مبرر. استطعت أن أمسك بيديَّ وبقوة سياج الشرفة وأترك جسدي يتدلى نحوهم. كان صوت فؤاد يختلط بصراخ الطفل، وهواء كثيف يندفع ليرفعني نحو الأعلى. لامست أصابع الطفل، سحبتها ولكنها تمطّت، وبقي الطفل عالقاً وسط الماء. كنت أنا أتمدد أيضاً وأجرجر قدميّ  بتثاقل لكي أصل إلى ما بعد الساتر حيث يرقد فؤاد. شاهدت دموعه وشعرت مقدار الوهن الذي كان عليه جسده. لقد كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيّ. أصغيت له جيداً. شعرت ببرد  قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة، تشع من خلالها ألوان تومض مثل البرق. انزلق جسدي وهويت، اقتربت منهم أكثر وأكثر. لم أفق بعد تلك اللحظة، وأظن أني بقيت مغشياً عليَّ لفترة طويلة. وحين أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي أرقد في مستشفى  داندريد غرب العاصمة ستوكهولم، مسجّى فوق سرير قريب من النافذة. تحسست جسدي فوجدتني لا أستطيع تحريك يديّ وقدميّ من الجانب الأيسر، وأن رأسي تغطـّيه لفافة ثقيلة. قال لي الطبيب إن غيبوبتي استمرت لأكثر من أسبوعين، وراودهم اعتقاد بأن المدة سوف تطول بسبب إصابة الرأس، ولكن يبدو أن جسدي يمتلك القوة الكافية للتماثل على الشفاء. هذا ما قاله وهو يسلط ضوء الكشاف داخل عيني. 
  دوّن في تقرير الشرطة أن ليس هناك شخص باسم فؤاد يسكن بالقرب من شقتي، أو يمت لي بصلة في مدينة ستوكهولم أو خارجها، وأن البحيرة ليست جوار شقتي بالضبط، وأن أمي ما زالت تسكن العراق. وأكـّد التقرير على أن الحادثة كانت محاولة انتحار، ربما سبقها تناول بعض حبوب الهلوسة أو بعض الحبوب المهدئة التي وجدوها قرب سريري. اعترضت على تقرير الشرطة وحاولت أن أفهمهم بأن ما حدث كان صحيحاً كل الصحة، وأني لست مختل العقل، ولم أتناول طيلة حياتي أي نوع من الممنوعات أو الشراب المسكر. وكنت بكامل وعيي حين شاهدت ولمست ما حدث، ولم يكن حلماً  أو خدعة أو هلوسة. لم يصغ لي أحد  ولم يرغبوا الاستماع للوقائع التي عشتها وشاهدتها لا بل لمستها. لم يصدق قصتي سوى الممرضة السمراء الهندية الأصل راشما. كانت تواسيني وتضمد جرحي كأم رؤوم، وتجلس في الكثير من الوقت  جوار سريري تحكي لي حكايات عن عالم السحر والأرواح، وكانت تعتني بجراحي التي سببت لي بالنتيجة إعاقة في أطرافي اليسرى وشلتني عن الحركة.
أتأمل وجه راشما وهي تناولني الدواء، وتحاول مساعدتي على ابتلاع  أقراصه العديدة الكريهة الطعم والرائحة، وكنت أنظر يديها الناعمتين وهما تجددان لفافة الرأس الذي شُجّ بجرح غائر مثلما أخبرتني، وكانت تقول كل مرة وهي تداعبني بابتسامتها الرقيقة الخجولة إن الإله كرشنا حماني كثيراً، وهي في كل يوم تصلي له ليكون حارسي الأمين.
 قضيت الأشهر الثلاثة في المستشفى وأنا أتقلب بشكل يومي بين يدي الأطباء. قضيت معظم وقتي أراقب مرآب السيارات وحركة الناس أمام نافذتي، وأتناول الطعام في السرير وأشاهد برامج التلفزيون المعلق في زاوية الغرفة التي يشاركني فيها رجل مسن يئنّ طوال الليل، وقد اختفى بعد فترة زمنية دون أن أعرف إلى أين ذهبوا به، ولم أرغب في السؤال عنه. وبعد يومين حل محله شيخ آخر أكثر توجعاً وأنيناً. كنت طيلة الوقت أحاول تذكر الحادث وإعادة تصويره في ذهني المرتبك والمشوش. كنت على يقين تام بأن ما حدث معي لم يكن هذياناً  أو أضغاث أحلام  أو حتى تهويمة. صحيح أني مرتبك في نومي، وأعاني من قلق وفزع وكوابيس دائمة، وأتناول عند الحاجة بعض الحبوب دفعاً للأرق، ولكني كنت أنظر للأمر بوضوح شديد ويقينية. ولكني كنت دائماً، حين أتذكر كل تلك الأشياء، أجد نفسي بين حالتي الغضب الذي يخالطه الحزن فتسيطر عليَّ مشاعر من كآبة شديدة، شخّصها الأطباء بكآبة مرضية متواترة  ورهاب، ولم أفهم لحد الآن معنى الكآبة المتواترة ولا حتى الرهاب.
في أيامي الأخيرة في المستشفى، حققت معي شرطية جميلة كانت تفغر فمها بسذاجة مفرطة وبمسحة أسف ظاهرة، تنصت لحديثي وكأنها مسحورة وتدون في دفترها بعض الملاحظات، وقد خرجت وهي تودعني بابتسامة باهته شعرت بأنها كانت تجبر نفسها على افتعالها بكياسة شديدة، ولم أرها بعد هذه المرة. كانت أيامي تمر ببطء شديد، وتكتسي بملل ممض، وبين فترة وأخرى أستدعى للفحص من قبل مجموعة أطباء وتلتقط لرأسي صور بالأشعة. وقد تحسن وضعي الصحي بشكل سريع بعد أن تقدمت بالعلاج الطبيعي وبدأت السير ببطء وتحريك يدي اليسرى بعض الشيء. في أسبوعي الأخير في مستشفى داندريد، كنت كمن مسّه الجنون، فطيلة الوقت أشعر بأن الجميع يسيئون معاملتي وسيطرت عليَّ رغبة بالهروب، ولكني كنت أشعر بأني لم أسترد بعد عافيتي، وقوتي الحقيقية التي تمكنني من العيش دون اعتماد على الآخرين. كنت أعرف مقدار عجزي، فتنتابني مشاعر خوف وفزع لا أعرف كيف أسيطر عليهما. كنت أحس بين فترة وأخرى بالاختناق، وأحاول أن أسبر وجوه من أواجههم كي أكتشف ما يخبئونه لي. ربما هي مشاعر مريض واهن القوى، ولكنه كان إحساساً يرقد في قلبي بشكل ثقيل دون فكاك. حين ذهبت إلى الطبيب النفساني قادتني راشما إليه. عند باب الطبيب ركنت مقعدي المتحرك، وتوسلتها بنظراتي أن لا تتركني وحدي، كنت أشعر بضعفي، وأن ما يتملكني من مشاعر مهزوزة  لم تكن  لتساعدني للإجابة على جميع الأسئلة التي سوف يطرحها هذا المخبول الذي مللت من بحثه المضني، عن سلوك غير سوي ينتاب تصرفاتي جراء إصابة الرأس، مثلما كاشفني هو بذلك. لكن راشما تركتني وودعتني بابتسامة لذيذة بعثت في روحي بعضاً من الطمأنينة.
بداية، لم يلتفت لي، بل كانت نظراته تتسقط ما هو مدون على ورقة في يده، وبعد لحظات وقف وسط الغرفة ومد لي يده مصافحا وذكر كالعادة اسمه ثم طلب مني الجلوس.
ومثل كلّ المرات السابقة، كررّ علي الأسئلة ذاتها، عدد الإخوة والأخوات، الحالة الاجتماعية، هل أجيد السباحة أو أية رياضة أخرى، علاقاتي بجيراني، نوعية الأفلام التي أرغب مشاهدتها، هل لي علاقات جنسية، نوع المشروبات الكحولية التي أفضلها. أجبته عن كل ذلك، ثم طلب مني أن أوضح العلاقة التي تربطني بفؤاد الذي ذُكر في التقرير، فشرحت له تلك العلاقة وصداقتنا التي صنعتها ظروف المعارك في جبهات القتال.وسألني عن صلة القرابة التي تربطني بفؤاد، فأخبرته بأن لا علاقة قرابة تربطنا، ولكنه كان أقرب لي من الجميع في تلك المحنة. لقد أصيب أثناء الهجوم في منطقة الشوش الإيرانية، كان ينزف دماً قرب الساتر، كان القصف كثيفاً، وكان فؤاد يناديني، ولكني لم أستطع التقدم نحوه، لقد تركته ينزف هناك وهربت، نعم هربت. عندما تحدثت بذلك كانت عواطفي تنفجر انفجاراً عنيفاً، فوجدت جسدي يرتعش، ورحت في نوبة حادة من البكاء. لم يحرك الطبيب ساكناً، وتركني على حالي وراح يطالع ما مدون على جهاز الكومبيوتر الذي أمامه. عندما هدأت بعض الشيء، اختلس الطبيب النظر نحوي ومد يده نحو ساقي مربتاً  دون أن يبدي عاطفة محددة. شعرت في تلك اللحظات بمقدار حاجتي لمواساة، مواساة تمحضني شيئاً من عاطفة  تواسيني بقدر الألم الذي يعتصر صدري، ربما راشما هي من كنت أرغب أن تكون جواري هذه اللحظة.
في تلك اللحظات دخلت فتاة بثياب الممرضات، وسلمت الطبيب ورقة وحدثته في أمر لم أنتبه له. كنت حينها أمسح دموعي وأشعر بتكسر الحسرات في صدري. كانت هناك مشاعر لا أعرف كنهها تنتابني بحدة، تختلط مع عجزي الذي شعرته كاملاً. تلك المشاعر التي سببت لي تشنجات وألماً رهيباً وكأن شيئاً ما يريد الإفلات من رأسي. لم يكن وجه الطبيب ذي السحنة البيضاء الباردة بنظرته الجامدة ليساعدني على احتمال كل ذلك الألم، أو إبعاد ما يساورني من أحاسيس مضطربة. تأكدت بأنه لن يكون أكثر من شخص فظ ّ بارد العواطف، يريد أن يصل إلى نتيجة ترضي أنانيته. بعد هذا طلب منّي مثل المرات السابقة أن أروي له قصة هروبي من الخدمة العسكرية، ثم كيف تسنى لي الوصول إلى السويد. أعدت عليه القصة كاملة، ولكنه أوقفني عن الحديث عند جملة بعينها. وبعد أن وصلت في وصف رحلتي عند دخولي مدينة موسكو، سألني عن معالم المدينة وإن كنت زرت قبر لينين في العاصمة فقلت له بأني عشت في مدينة بطرسبورغ وليس في موسكو. ثم سألني هل سبق أن انتميت لحزب سياسي أيام دراستي الجامعية، وما هي عدد سنوات عملي الحزبي وهل تعرضت للاعتقال أو التعذيب في العراق.
صَمتُّ ولم أستطع التعبير عن غضبي، ولكن دارت في رأسي جملة من شتائم، عبارات ماجنة قبيحة، شعرت بأن هذا الطبيب يستحقها. فبعد أن كنت أحاول السيطرة على نفسي والتصالح مع عالمي الذي أعيشه، أشعر الآن بأن هذا الطبيب يحاول رميي خارج ذلك العالم. أنا المريض الخائر القوى المشتت البال عليَّ الآن أن أحزر ما يخبئه لي هذا الدكتور الجاسوس، ما يريد أن يصل إليه. هذا الأمر أغاظني أيما إغاظة، وبدأ يجرح مشاعري، وتذكرت حكاية صاحبي الذي أخبرني عن فضيحة تناولتها الصحف السويدية  في يوم ما حول علاقة مدير شرطة العاصمة السويدية بالسفارة العراقية، وكيف كان يزودها بأسماء طالبي اللجوء والتحقيقات التي تجريها السلطات السويدية معهم.
بعد أن جاش في صدري الضيق والضجر والفزع، شعرت بعواصف تلف رأسي لم أعد أحتملها، وأيقنت بشكل كامل بأنه يبغضني بشكل واضح، ويريد أن يستدرجني ليوقع بي، وهذا ما يبدو من هيئته المتعجرفة وأسئلته ألمباغته الحقودة. انفجرت أخيراً على حين بغتة وصرخت بأعلى صوتي.
ـ لا لم تكن لي علاقة بأي حزب، والموت وحده من دفعني للهروب من العراق. وإن أردت أن تدون ما ترغب في إيصاله إلى السفارة العراقية فسجل عندك بأني أكره الحكومة وأمقتها كل المقت.
كان جوابي المباغت من الوضوح والحدة بحيث رفع جسده سريعاً عن المقعد ليقترب مني ويربّت بيده على كتفي، وبتهذيب شديد طلب مني أن أطمئنّ وأريح نفسي، وأن لا أفكر الآن بالإجابة. ولكني لم أنتظر فدفعت يده جانباً ورفعت قامتي بصعوبة بالغة، وفتحت الباب وحملت قدميّ على المسير في الممر الطويل ناسياً استخدام مقعدي المتحرك الراقد جوار الباب.
في اليوم الثاني كنت أجلس مهموماً ساهماً حين سألتني الممرضة راشما عن رأيي بالإله كرشنا وهل حلمت به أو رأيته في وقت ما يجلس جواري، فضحكت وقلت لها مازحا: أكيد، ولكنه لم يكن لوحده فقد جلس معه إمامان من آل البيت، فدهشت أيما دهشة وتساءلت عمن يكون آل البيت، وطلبت مني أن أحدثها عنهم فوعدتها، ولكني، ولحد الآن، لم أف بوعدي، فقد غادرت المستشفى حيث تم نقلي إلى دار العجزة في منطقة سولنتونا في شمال العاصمة ستوكهولم.
ـ أين أنت يا راشما ؟...أين أنت ؟
في ذلك الوقت طالعتني العجوز كاترينا باستغراب ودهشة وهي تسألني عمن تكون هذه الراشما.
ـ لا شيء، تذكرت ممرضتي اللطيفة التي ساعدتني في المستشفى.
ـ لا شيء جديداً إذن.. سوف نجد لك مرافقاً آخر يساعدك في قضاء بعض حاجاتك، ولكن عدني بأن تكون لطيفا كيسا معه، وتترك عاداتك السيئة.
ـ أعدك سيدتي ..ولكن..
ـ ليس هناك لكن بعد الذي حدث.
شكرتها وخرجت تحيطني غمامة من ضجر، وشيء من خوف يغلّ في صدري. أعرف أني لم أكن أملك الكياسة التي يترقبها مني الناس، ولكن على شدة ما عانيته في مجمل حياتي أشعر بأن شفائي من جروح النفس لا يمكن أن يكون سهلاً وطبيعياً  أو ما يعادل شفائي من علة الجسد. فمشاعر الخوف والتوجس باتت تهد طاقتي، وأصبحت اندفاعاتي مقلقة لي بالذات، فمثل الهذيان تفلت مني تصرفات لا أجد لها تفسيراً، وأسرف في سلوكي الخائف والمشكك ولا أستطيع السيطرة على مشاعر الغضب من غير أن أحبس نفسي داخل قوقعتها، وأترك العالم الخارجي يدور حولي مثل غمامة لا علاقة لها بما يجري في روحي، وما يعتمل في ذهني. وبتّ أشعر بأن الأماكن مسكونة بأرواح لا هم لها سوى مراقبتي وإثارتي.


7
قانون تنظيم العمل الحزبي عماد الديمقراطية
فرات المحسن
دعا أكاديميون وناشطون عراقيون إلى ضرورة تطبيق قانون تنظيم الأحزاب السياسية قبيل إجراء انتخابات مجالس المحافظات نهاية العام الحالي،وأشاروا لأهمية تأطير عمل النظام الديمقراطي من خلال تفعيل تطبيق قانون الأحزاب، الذي يحدد آلية عملها وحدود صلاحياتها وطرق تمويلها، فيما حذروا من آثار ومخاطر خروقات الأحزاب المتنفذه على الاستقرار السياسي والمجتمعي. فعدم تطبيق القانون على تلك الأحزاب يتيح لها هامشا كبيرا من الحركة في ارتكاب المزيد من الخروقات لبنود الدستور واطر العمل الديمقراطي.
لا معنى لانتخاب وعملية اقتراع دون أن تكون هناك ضوابط وآليات شفافة وديمقراطية ترافق مثل هذه الإجراءات. والانتخابات الحرة والنزيهة مستحيلة إذا كانت عملية حشد المصوتين تجري بناءً على رغبة من يملكون السلطة والمال، وتتشكل وفق استراتيجيات تكون حكرا لهم ولمؤازريهم، وتبعد كليا أو جزئيا قوانين وتشريعات هي من صلب العملية الديمقراطية. وأن أفضل سبيل للحفاظ على سير العملية الانتخابية هو وضعها في أطرها القانونية، استنادا للدستور وأعراف العملية الديمقراطية وقوانينها، وكذلك اعتماد النماذج العالمية المثلى لإدارتها.
إن الإخلال بطبيعة العملية الانتخابية وحرفها لا يشكل سوى مظاهر زائفة لمجمل الوقائع والتشكيلات الإدارية والسياسية التي تسفر عنها.ودائما ما تتحمل الهيئات التشريعية المسؤولية المباشرة عن وضع الأطر الكافلة لجعل عملية الانتخاب بعيدة عن توصيف التزوير أو مخالفة القوانين. وعلى أن تكون الضوابط التي تضعها السلطة التشريعية ضامنة لتحاشي عمليات الغبن والإجحاف بحق الناخب وأيضا بحق الأحزاب أو القوائم المشاركة.
أظهرت الانتخابات السابقة للبرلمان ومجالس المحافظات جزرا واضحا في أعداد الناخبين، وهذا الأمر يختلف قطعا عن ما يماثله في الأنظمة الديمقراطية الثابتة المعايير وسنن القوانين. ومثل هذا يؤشر لما هو سلوك غير طبيعي إن حدث في بلد يقدم للجميع كافة الضمانات القانونية، ويفتح أمامهم مختلف الخيارات ومنها الحق في المشاركة بعملية التصويت من عدمها. ولكنه في حال العراق وبعد الخروج من الحكم الشمولي والتوجه لتأسيس الدولة على وفق شروط الديمقراطية والرغبة في المشاركة الجماعية مثلما يعلن، فأن الأمر يبدو وكأنه عزوف مقرر سلفا، ويؤشر لنقص حاد في الشعور بالواجب المدني والاجتماعي الوطني، وعدم اكتراث الناس بالنتائج المتحققة، وهذا ناجم عن الاعتقاد بأن النتائج المتأتية من الانتخابات سوف لا تغير شيئا في مجرى حياتهم اليومية، بل العكس سوف تجلب لهم ما هو أسوأ مما هم عليه.وإن كان هناك ما يؤكد مسؤولية الكثير من الناخبين في عدم المشاركة، عبر عدم ذهابهم لتجديد سجلاتهم والتأكد من مراكز التصويت. فقد شاركت مفوضية الانتخابات (المستقلة ؟!) وآليات الاقتراع التي اعتمدتها في إحداث ذلك القصور والجزر في أعداد المقترعين. حيث لم تأخذ إجراءاتها الاهتمام الجدي للوقائع والمتغيرات التي أحدثتها العمليات الإرهابية والتطهير العرقي والطائفي والانتقال داخل مخيمات النازحين والمهجرين والهجرة من الريف إلى المدن، وأيضا ما كان من الأفعال السياسية التي خدشت وقائعها العملية برمتها وطعنت بمآلاتها. وما كانت عمليات تسجيل الأسماء وتوزيعها على مراكز التصويت لتكون تصويب للأخطاء بل كانت سببا  في حرمان الآلاف من حق المشاركة.
 ومع اقتراب عمليات انتخابات مجالس المحافظات المقررة نهاية هذا العام. فقد دعت المفوضية العليا للانتخابات، جميع الناخبين إلى تسجيل بياناتهم وتحديثها بأسرع وقت ممكن، وأشارت لعدد الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات الخاصة بمجالس المحافظات وهم 27 مليون ناخب. وعلى أن تكون طريقة الاقتراع بايومترية مع وجود مليون و500 ألف بطاقة بايومترية متبقية من انتخابات عام 2021 مع استمرار عمليات النقل والتغيير والإضافة والحذف في هذا المجال . 
عملية فرز الأصوات وإعادة الفرز وكذلك دراسة الاعتراضات التي قدمتها بعض القوائم والأحزاب في الانتخابات الماضية إن كانت برلمانية أو خاصة بمجالس المحافظات،قد ساعدت على تقويض ليس فقط ثقة الناس بنزاهة الانتخابات كوقائع ونتائج، وإنما أكدت للبعض من الأحزاب والقوائم التي شاركت في العملية ، إن ما جرى كان يتناقض بحدة مع أطر الديمقراطية ومحاولات بناء الدولة الحديثة ذات طبيعة الحكم المبني على أسس العدالة وسلطة القانون. وإن مفوضية الانتخابات رغم الادعاء باستقلاليتها لازالت الشكوك تطاردها وتوسمها بالتبعية للأحزاب المتنفذة بالسلطة.وكانت آليات الإجراءات التي اتخذتها قد سببت لبعض القوائم خسارات ليست بالهينة، وحجبت عنها حسب نظام التصويت والفرز أصوات ناخبيها، بعد أن دفعت الطعون السلطة التشريعية ومن ثم المفوضية نحو خيار سانت ليغو، وجاء ذلك ضمن معايير وضعت بعجالة وأساءت للعملية الديمقراطية برمتها.
في جميع عمليات الانتخابات التي جرت في العراق بعد سقوط البعث كانت الإجراءات تخضع للتجريب والمقاربات مع انعدام الخبرة المترافقة بالصراع المتواتر للرغبات والأطماع. فكانت السمة الغالبة فيها بناء آليات وإجراءات التهيئة للانتخابات وفي كل مرة، تأتي وفق محاكاة لذات الطرق المعتمدة والتي تكرس التسلط لمجموعة من الأحزاب النافذة . فبين خيار القائمة المغلقة والقائمة المفتوحة أو المزاوجة بينهما،أو الأخذ بقواعد نظام التصويت والفرز على طريقة سانت ليغو. ترتفع وتيرة المقارنات والتفاضل في البحث عن الامتيازات وكسب السباق مع تلك الطريقة أو غيرها، دون النظر لأهمية إنجاح العملية الديمقراطية ذاتها بالآليات والأطر الحضارية المعتمدة في بلدان العالم الديمقراطي. لنجد أنفسنا أمام ابتكارات معقدة وبعيدة عن الدراية والحكمة ولتقتصر على صراع الإرادات والغلبة لكسب القوة العددية لكسر شوكة الأخر.
في كل مرة تحاول المفوضية تجاوز العقبات التي تظهر فجأة أثناء وبعد الانتخابات ولكننا نجدها في النهاية ترضخ لاشتراطات مراكز القوى أو ما يسمى بالقادة الكبار. ومع إن مثل هذه الأمور كانت ومازالت تمس حقوق الناس وتوضع في دائرة الطعون والتخوين. فأن الأحزاب المتنفذة تبدو غير معنية بتغير قواعد سلوكها و إكساب العملية الانتخابية نموذجها الديمقراطي الأمثل والذي يستحقه الإنسان العراقي بعد كل الذي جرى له.
ما من أحد يدعي أن العمليات الانتخابية التي تجري في أنحاء مختلفة في العالم تبلغ حال الكمال. فبعض وقائعها يمكن أن يشوه أو يحور إرضاءً لقوى حزبية بذاتها أو جراء عوارض سياسية أو اقتصادية. ورغم ذلك ولكثير من الأسباب فأن الانتخابات الحرة والنزيهة لها قواعد واشتراطات لا يمكن التخلي عنها أو إهمالها ولا حتى  تحويرها، وهي
في مجملها ترتكز على وجود نظام سياسي مستقر، لا تتعرض فيه القيم الديمقراطية في أغلب الاحتمالات لخيارات شخصية أو حزبية خاصة.وأن أهم تلك القيم والمصالح هي حق المنافسة الشريفة التي تضمن العدالة وتكافؤ الفرص بين الجميع، وبذلك يتحقق الهدف الذي صممت من أجله الانتخابات. ولا يمكن اعتبارها نزيهة وحرة دون أن يوضع في الاعتبار تشريع يعالج مشاركة الأحزاب فيها، وقبل هذا يحدد وضعها القانوني، وكيف يتسنى ضمان حقوق الجميع في المنافسة ومن ثم في إدارة السلطة.
ادعت المفوضية المشرفة على إدارة انتخابات مجالس المحافظات القادمة على أن هناك أكثر من 269 حزبا وقائمة قدمت ولحد منتصف الشهر السابع من هذا العام، طلباتها للمشاركة وبلغ عدد طلبات تسجيل الأحزاب قيد التأسيس 77 طلباً. وعدد طلبات تسجيل الأحزاب المرفوضة بقرار مجلس المفوضين 151 طلباً، وبلغ عدد طلبات تسجيل الأحزاب التي تقدمت بسحب طلبها 18 حزباً، بينما بلغ عدد الأحزاب التي حلت نفسها 3 أحزاب. وعند بداية الشهر الحالي 8/ 2023 تم تسجيل 30 تحالفا سياسيا 20 منها جديدة ويزداد العدد قبل نهاية موعد الإغلاق. وأضيف ما يقارب المليوني ناخب من المواليد الجدد. وهنا يطرح السؤال الأكثر حيرة ودهشة، عن طبيعة برامج تلك الأحزاب وأهدافها وكيف يتسنى للجمهور معرفة تلك البرامج مع هذه الوفرة الغرائبية والمقصودة لتشتيت وإضاعة الأصوات.
 يمثل تشريع قانون تسجيل وتنظيم العمل الحزبي الثقل الفعلي في إنجاح العملية الانتخابية ووضعها في مسارها الصحيح، ومن دون هذا التشريع فأن أي عملية انتخابية تعد مبعثا للشك والريبة في أعراف الديمقراطية. وفي النهاية تكون محاولة يفُضلَ فيها خيار تحوير العملية برمتها لصالح أحزاب ذات أغراض خاصة، تسعى لإبعاد ما يفرض عليها لتكون ضمن تنافس حقيقي ديمقراطي. فقانون عمل الأحزاب يتطلب الكشف عن مصادر التمويل وكذلك الصرف. وهو يعني أيضا كشف حساب عن آليات عمل الأحزاب ومقدار قربها أو بعدها عن الديمقراطية في الوسط الحزبي وخارجه، وكذلك طبيعة التشكيل والهياكل الحزبية وعدد الأعضاء المسجلين فعليا، وطريقة إجراء الانتخابات الداخلية ومددها، وآليات صعود القيادات وطبيعة النظام الداخلي وتوصيفه للديمقراطية، ورغبة الحزب وإقراره بالسلم الاجتماعي والسياسي،وعدم امتلاكه لفصيل مسلح وابتعاده قطعا وضمن أدبياته المعلنة عن أساليب الصراع المسلح، وقبوله بالتداول السلمي للسلطة.وهذا التشريع الذي يوصف به الحزب وضعه التنظيمي والفكري هو المحك والمدخل والقانون الذي يسمح للحزب المعني بالمشاركة في العملية الانتخابية من عدمه.
لحد الآن فأن الكثير من الأحزاب المتنفذة في الحكومة العراقية حرصت قدر الإمكان على النأي بعيدا عن الخوض في تشريع وإقرار قانون تنظيم العمل الحزبي، وعدته إشكالا متنازعا عليه لا يمكن ربطه بالعملية الانتخابية الحالية وماسبقها، بالرغم من كونه مؤشرا يؤسس لبناء حقيقي للدولة الديمقراطية. ودائما ما اعتبرته ووفق رؤاها السياسية، ترفا غير مستساغ وليس من المستحسن النظر فيه أو تشريعه، وحاله حال الديمقراطية ذاتها التي تنظر لها تلك الأحزاب، على إنها وسيلة للوصول إلى الحكم وليس غاية لبناء دولة المواطنة.وفي مسعاها هذا تبتعد كليا عن إجراءات انتخابية واقعية وديمقراطية. فمع عدم وجود هذا القانون لن يكون هناك أي نوع من الصلة بين ما يجري من عملية انتخابات في العراق و السلوك الديمقراطي الصحيح والشفاف. وعندها تترافق العملية الانتخابية  وبشكل ناجز بعمليات تزوير وتزييف، مع خلوها من عدالة وتكافء للفرص. وتبعا لذلك فليس من المجدي إجراء الانتخابات مع وجود مثل هذا الخلل الفاضح في المنهجية والآليات. ودائما ما سيكون هناك غبن وإجحاف بحق المواطن قبل الأحزاب.في النهاية يمكن القول إن الدولة الساعية لتشكيل أطر مؤسساتها القانونية والدستورية وبما يبعدها عن طبيعة الحكم الشمولي، يجب أن تضع في المقدمة ما يضمن شفافية الفعل ودستوريته. وسن قانون عمل الأحزاب واحدا من أعمدة بناء الدولة الديمقراطية.






8
يوم أخر من مدونات الوجع/ج الأخير


شعر بضوء الصباح يتسلل من فتحة الشباك الصغير أعلى جدار الغرفة، ويتسرب معه غبار ناعم يتماوج بالتماع مع مساقط الضوء.عند الساعة الثامنة صباحا. بعد أن سمح لهم الذهاب إلى المرافق الصحية، قدمت لهم قطعة جبن صغيرة ورغيف خبز وكوب شاي، قضم قطعة من الرغيف وشرب الشاي وعاف الباقي.عند الظهر نودي عليه، وكان صوت الشرطي الأجش يتردد صداه في الممر الطويل، وكأنه يخرج من بئر عميق، فخرج ليقتاده شرطي عابس يطالع تلفونه النقال دون اهتمام بما يجري حوله، ولم ينظر لوجه سجينه حتى.ولكنه سحبه من يده، ليسلمه إلى الشرطي الواقف أمام غرفة الضابط. تلقفه هذا الشرطي الذي دفعه بدوره بغلظة نحو وسط الغرفة وقدمه للضابط برفقة تحية عسكرية، وخرج وأغلق الباب وراءه.
كان ضابطا برتبة عقيد، قصير القامة بدينا بعض الشيء، حاسر الرأس أشيبه، وكانت عيناه نافذتان بلونهما الأصفر، تسقطته بحدة أولا ثم  أخذتا تتمليان ورقة وضعت فوق المنضدة. رفع رأسه وطالعه بصمت لبعض وقت، ثم أشار نحو الكرسي الموضوع جوار المنضدة قائلا  وهو يسحب من الدرج بعض أوراق.
ــ تفضل أجلس.
ــ شكرا أستاذ فلا رغبة لي بالجلوس.
ــ اسمع ما أقوله لك، اعتبرني صديقا، فلا وقت للعناد، فأنت في ورطة، وأنا أقدم لك النصيحة بان تقبل ما سوف اعرضه عليك.هذا كل ما في الأمر لتذهب بعدها لحال سبيلك.
ــ أنت تريد أن تكلمني في شان ملء أوراق، أليس كذلك؟
ــ نعم فهذه الأوراق تغنيك عن الكثير من المشاكل.
ــ حتما هذه الأوراق خطرة، وضع فيها ما يقصم الظهر.
ــ ما الذي يجعلك تظن هذا، كيف يخطر لك ذلك.
ــ لأنك تبقيني حبيسا عندكم دون تهمة حقيقية، غير تلك التهم، وهي شتائم، روجت لها عصابة اختطفتني من الشارع، وسلمتني لكم دون أمر استدعاء، أو أمر إلقاء قبض صادر عن محاكم. ذات الحدث عرفته على العهد الماضي ويتجدد الآن.
ــ أجل مثلما تقول، وأنا أقترح عليك صفقة تذهب بعدها إلى عائلتك مكرما.
توقف ثم قال وكأنه يزدرد طعاما، وكان يدفع إلى الأمام فوق المنضدة ثلاث أوراق إحداهن بيضاء.
ــ وأنا بالذات من يوصلك إلى عائلتك.
ــ لقد مرت علي الكثير من مثل هذه الأوراق، ورفضتها جميعا، ولا أملك سوى الرفض التام لها، ولن أقبل أن أضع نفسي تحت طائلة القانون، بسبب ممارسة الغباء.
ــ أخي العزيز إنه ليس غباء، وإنما تبعد عنك شر هؤلاء.
ــ ولكنها تضعني تحت رحمتهم وسطوتهم، لا أتنازل عن أي شيء، ولن أقبل منحهم صك وضاعتي، وحين أخرج من هنا، سأعاود وجودي وأرابط في ساحة التحرير. ابعد أوراقك، فلن يكون لها وجود في حياتي.
ــ أخي العزيز ، أنت رجل كبير السن ولست شابا، وحتما لك عائلة فما دوافع عنادك هذا؟
ــ ليس عنادا، وإنما لا أريد أن أضع نفسي في ورطة، وكمين يصنعه لي هؤلاء.
ــ  إنهم قساة ولا يخشون أحدا، حتى نحن نقع في أغلب الأوقات تحت سطوتهم.
ــ لا أجدني أتوافق مع كل هذا الذي يدفعون الناس إليه، وأنا أدين فعلهم ووحشيتهم ونواياهم السوداء الشريرة.
ــ اسمعني جيدا، هؤلاء سوف يلاحقونك ويؤذون عائلتك، وأعتقد أن توقيعك على ورقة تخليك عن الالتحاق بالتظاهر والاعتصام سينجيك، ويوقفهم عند حدهم.
ــ هؤلاء لن يتوقفوا أبدا عن نواياهم الشريرة، وسوف تجد غيري يحضر هنا ليقف مثلما أقف أمامك الآن، جراء ما يفعله هؤلاء من عمليات اختطاف، ربما كانوا يفكرون بقتلي فقد قتلوا الكثيرين دون رحمه. يملكون شهوة القتل بدوافع كرههم لبلدهم.
رن جرس الهاتف فرفع العقيد السماعة وراح في سيل من الترحاب والسلام، ثم صمت مستمعا للطرف الأخر، وبدت على وجهه تقطيبه جادة ولمعت عيناه بومضة غريبة جعلتهما يضيقان قائلا .
ــ لا، يرفض التوقيع على التعهد، وقد عرضته عليه وهو أمامي الآن.نعم أوضحت له الأمر، وهو مصر على الرفض.لو تعطوني وقتا ربما استطيع الخروج معه بنتيجة.
 بصوت مرتفع وكأنه يحاول إسماع رأيه وقراره للطرف الثاني الذي يحاور العقيد عبر الهاتف قال:
ــ أي نتيجة ، أخبرهم بأني أرفض توقيع ورقة إذلالي القذرة، التي يتصيدون بها الناس.
شحب وجه العقيد وهو يستمع للغط الصادر عن جهاز الهاتف، وأطرق برأسه نحو الأرض، ورفع غطاء الرأس عن المنضدة بعصبية ثم أعاد رميه بقوة. كان يتوقع نهاية لهذا الحديث الذي ما عاد يسمع فيه غير كلمات التهديد والوعيد لذا استدار قائلا.
ــ خذ الهاتف وتكلم معهم، أنه يريد الحديث معك.
ــ لا أود الحديث مع خاطفين آذوني وحاولوا قتلي، فهم جزء من شريعة غاب. ولا يستحقون مني حتى الكلام، وأنا لست بخائف وهم المرعوبون وليس نحن.
ــ تكلم معهم عسى تستطيعون الوصول إلى اتفاق.
ــ عن أي اتفاق تتحدث، هل ارتكبت أنا جرما، هل أنت تؤيد مثل هذه الأفعال.هل هذا الذي قام به هؤلاء كان عملا قانونيا.
بعد حديث قصير، صمت الصوت الصادر عن الهاتف، ليعيد العقيد السماعة إلى مكانها، ويطلب من الشرطي الواقف عند فتحة الباب الدخول وأخذه لاعادته إلى الحبس.
ــ هل هو قرارك أم قرارهم؟ من هم هؤلاء ولأي جهة ينتمون؟
ــ لا أملك معلومة عنهم،فهم سلطة حكومية،على أي حال سوف نعرف النتيجة بعد وقت ليس بالطويل. اذهب وسوف أبذل جهدي لصالحك. لا تقلق يمكن إصلاح الكثير دون عناء، فهم بشر مثلنا.
ــ أشك بذلك.
 قالها ورافق الشرطي عائدا إلى غرفة الحبس وجلس عند الزاوية بين الجدارين ليسند ظهره بينهما، وسرح في تفكير عميق، كان بحاجة للنوم حتى ولو لدقائق معدودات، فليل البارحة كان طويلا مزعجا مقلقا، سهد فيه والتاعت روحه مع الذكريات الكثيرة الموجعة، ولكن الساعة حصر تفكيره في ما دار بينه وبين العقيد ضابط الشرطة. لم يكن الحديث مريحا على الإطلاق، رغم نبرة التعاطف التي أبداها العقيد. ود الآن لو يطلب من الضابط الموافقة على الاتصال بأهله أو أقاربه ليأتوا لمقابلته ليس أكثر ولن يطلب منهم غير معرفة الجهة التي اعتقلته بعد أن امتنع العقيد الإفصاح عنها.
*****
أقترب النهار من ظهيرته، فبدأت أصوات الآذان تصدح من مكبرات الصوت العديدة المبثوثة في المدينة. كان صداها يتردد بين جدران قاعة السجن.دائما ما كان يرقب هذه الأصوات ويستمع لها بشغف ويشعر معها بشيء من راحة، وكان عاشقا لألحان وتراتيل مقرئيها. تلك الأصوات التي تعطي مدينته قدسيتها وشفاعتها. فتندفع جموع الناس نحو محراب صلواتهم، تاركين وراءهم ساعات ثقالا من مشاق عمل وكد، مستسلمين لقدرهم بقنوط ودعة حين يقفون بين يدي ذاك الشفيع. يرجون منه كما تظن أرواحهم، مغفرة وعطفا، وليهب لهم من لدنه رحمة، تتلطف وتمسح بعطفها على قلوب ما كانت عرفت الراحة والطمأنينة.
فجاة سمع صوت الشرطي ينادي عليه فنهض وتقدم نحو باب الحبس. فتح الشرطي الباب قائلا إن ضابط المخفر يريد حضورك الآن.تقدم يسبقه الشرطي الذي مد يده وضغط على كتفه بشدة ودفعه إلى وسط الغرفة.
ــ أهلا أستاذ حتما كان يوما طويلا عليك .
ــ أعتدت على ذلك منذ زمن مضى فما اختلفت عندي وجوه القوم.
ــ أستاذنا الكريم لك حرية الذهاب إلى أهلك الآن، فقد كلموني وطلبوا مني إطلاق سراحك هذا هو كل شيء.فتفضل اذهب حيث تشاء مع السلامة.
ــ شكرا لك، أليس هناك تبعات لمثل هذا الموقف، اعتقال دون سبب وسجن دون ورقة شكوى أو حكم.ألا استطيع معرفة الجهة التي اعتقلتني.
ــ ليس لنا في ذلك يد،ولن تجد مني جوابا لسؤالك، تفضل لك كامل حريتك واذهب حيث تشاء.
ـــ شكرا جزيلا.
وقف عند المدخل الرئيسي لمركز الشرطة وطالع الباحة الأمامية، بضع أفراد بالزي العسكري وثمة رجال ونساء يحملون أوراقا راح شرطي حاسر الرأس يحمل رزمة أوراق يهش بها ويصرخ ليأمرهم بالتجمع عند زاوية قريبة من الباب. تلكأ في الخروج أول الأمر وأخذ ينظر بتفرس لأول وجه من أهل مدينته خطر أمام مركز الشرطة بعجالة دون أن يلتفت إليه. سار باتجاه الباب الخارجي وطالع الشارع الممتد بتعرج والذاهب نحو وسط المدينة. كان فارغا من حركة الناس بسبب الحر الشديد، وثمة عربات قليلة بهدير محركاتها المتهالك تمر تاركة وراءها سحبا من غبار كثيف، وكانت السيارات تبطئ الحركة لتتفادى الوقوع في الحفر التي ترصع وجه الشارع. كان هناك صبية يلهون في البعيد مع كلب صغير، وشيخ مسن يفترش الرصيف عند الجهة المقابلة لمركز الشرطة و يضع كوفية مبللة فوق رأسه.
قبل سنين مضت، سبق له ووقف ذات الوقفة وبنفس المكان الذي يقف فيه الآن، فتساءل دون يقين هل تغير الحال أم انه بالذات بات خارج سياقات الحاضر، فذات الصور ما عافت مخيلته وحشرت بقوة وإكراه في ذاكرته وتكرر ورودها عنوة. شعر بألم في الرأس وفي الجنب عند الخاصرة، وقف قليلا ضاغطا على خاصرته وأحنى جسده إلى الأمام، ولكن الألم بدا يزداد لذا  قرر السير باتجاه نهاية الزقاق المفضي لمدخل الشارع الرئيسي حيث يستطيع الحصول من هناك على سيارة أجرة تقله إلى البيت.شعر ببعض الإعياء وان قدميه متعبتان، ولكنه تحامل على نفسه وسار بخطى ثقيلة نحو الجهة الأخرى.
عند الاستدارة الحادة لتقاطع الشارعين دخل متجرا بواجهة زجاجة كبيرة،طاف بنظره في أحشاء المتجر وتأمل البضاعة المرصوفة بعناية فوق الرفوف، أخرج من البراد قنينة ماء صغيرة فتح غطاءها وأخذ يرتشف منها بنهم، وسمح لبعض قطرات بان تتسرب من فمه لتسقط وتبلل صدره، فكر بأن ذلك يساعده على إبعاد الكآبة التي رافقته منذ الأمس، ولكنه لحد الآن لم يجد منفذا للهروب منها، فقد تلبسته وفقد معها النوم لحين طلوع الفجر حيث غلبه النعاس، ولكن أصوات الآذان التي تردد صداها فجأة في جوف غرفة السجن أبعدت مرة أخرى النوم عن عينيه.
دفع حساب قنينة الماء ومعها قطعتي شكولاته ابتاعهما لحفيديه، بعد أن شعر بشوق شديد لتقبيلهما وضمهما إلى صدره. اجتاز باب المتجر وتابع السير فوق رصيف الشارع المترب. وقف عند الناصية القريبة من تقاطع الإشارة الضوئية العاطل. كان غارقا في تفكيره حول الذي جرى معه بالأمس، يعيد شريط الأحداث ويضغط على أسنانه بقوة. تمهل بانتظار أن تسمح له حركة السيارات بالعبور. كان يبدو عليه الإنهاك وهو يخط بقدميه وبحذر وبطء فوق إسفلت الشارع. طابور من السيارات تتسابق بسرعة جنونية، لوح بيده محاولا تحاشيها، لم تكد تخرج من فمه كلمة واحدة، ولكن ندت عنه صرخة فزع وتدحرج جسده بعيدا لبضعة أمتار. فتح عينيه وكانتا غائمتين وطالع الوجوه التي اقتربت منه وأحاطته،كانت مجموعة وجوه لرجال دون ملامح تقترب من وجهه واستطاع بالكاد أن يسمع بعض كلمات.
ــ هل تشعر بشيء.لقد تهشم رأسه، أنه يلفظ أنفاسه.
أحس بدوار ثقيل وأزيز قوي يخترق الرأس وأضواء تتزاحم متوهجة أمام عينيه، وبنفس ذابل ولسان يابس لعق قطرات الدم المحيطة بشفتيه. قرب احدهم أذنه من فمه فسمعه يتمتم بصوت جاف واهن.
 ــ أيمكنكم مساعدتي وإعطاء حفيدي قطعتي الشوكلاته.
فتح عينيه على سعتهما وتغضن جبينه وكأنه يكابد ألم شديد، ثم ساد الظلام بعدها كل شيء.



9
   يوم أخر من مدونات الوجع ج2


تقدم ضابط برتبة نقيب تعلو وجهه ابتسامة متخابثة، تبادل التحية مع الخاطفين، بعدها أمر شرطيا بأخذ صيدهم مثلما سموه، إلى داخل بناية المركز، فسحبه الشرطي من ساعده ودفعه أمامه، حينها سمع الضابط يوجه كلامه لمن في السيارة.
ــ تحياتي لأبي رحيم، ليكن كل شيء عند حسن ظنه، وليأمر بما يرغب، فليس لنا غيره، له التحية القلبية والسلام والاحترام، ولكم وافر الشكر والممنونية، جهودكم طيبة ومخلصة، تسلمون.
بعد ذهاب سيارة الخاطفين أمر الضابط شرطيه برفع الغطاء عن رأس سجينهم.عندها طالع السجين باب البناية،تفرس بالواجهة جيدا، وأطلق حسرة كان يختزنها في صدره ثم عب من الهواء ملء رئتيه. تذكر واجهة البناية هذه حين دخلها للمرة الخامسة، وكانت الأخيرة له ،عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعون ،على عهد حكم حزب البعث، وكان دخوله إليها يتكرر عهد ذاك، كلما حل ضابط جديد لإدارتها ، وها هو يعود ليجد نفسه فيها وبتهمة جديدة رغم جهله بطبيعتها، ولكن  مثلما اخبره خاطفوه فهي معارضة السلطة أيضا.
اليوم هو الخامس من الشهر الثاني من العام ألفين وعشرين . كم مضى من الزمن في تأريخ هذا البلد، ورغم جميع التغيرات والتحولات، فقد بقي يحمل ذات السمات من القسوة والقهر، ولم تهجر الكثير من العقد النفسية والسياسية صدور الكثيرين، ولذا تلح في خاطره الآن فكرة، أن هناك فكرا جمعيا أو مرضا متوارثا وحتى أواصر قربى بين مرتزقة ذلك العهد وما قبله وما يأتي بعده فالنفس البشرية الخائفة الغبية دائما ما تلجأ لكبح جماح الأخر وتطلعاته للحرية والعدالة بالكثير من القسوة والعنف.
نظر إلى جدران البناية ولاحظ طلاءها الأزرق الغامق.غير هذا الطلاء الجديد، لم تحدث تغييرات تذكر في مدخلها، ولا حتى في الممر الطويل المفضي إلى غرفة ضابط الخفر، وهي الغرفة المقابلة للممر الأخر الطويل الذاهب حيث زنزانة السجن، التي سبق له أن كان جزءً من محتواها وكان نزيلها لمرات عديدة.
 كانت اللوحة المعلقة فوق باب غرفة الضابط قد أبدلت عن سابقتها،  فهي الآن مؤطرة بإطار ألمنيوم، وبخط كوفي ذهبي جميل، وبخلفية بنية خافتة اللون، وخط عليها بخط أنيق بارز، ضابط الخفر. يتذكرها على ذلك العهد، حين كانت قطعة خشبية بطلاء اسود غامق، وخط مرتبك بلون ابيض.ربما هذا الذي تغير وليس غيره. ابتسم وسحب جسده بتثاقل، عندها لكزه الشرطي بقوة،  ثم دفع به نحو وسط الغرفة. واجهه الضابط بسيل من كلمات جوفاء سمجة، كان يلف ويدور بها حول موضوعة، لم يجد بدوره فيها ما ينفع للسماع، فخرج بأفكاره بعيدا نحو مدينته التي تبعد عن بناية هذا المركز المشؤوم عشرة أمتار لا غير، وهو نفس امتداد الممر الخارجي حتى الشارع المجاور. كان الضابط يشرح مهام الشرطة وواجباتهم تجاه الوطن والمواطن والأمن والسلم الاجتماعي،وأطرى بالمديح لمهامهم في كشف الجرائم وإعادة هيبة الدولة، ثم ختمها بالقول:
ــ ألا تخجل من ممارسة الدعارة والقمار وأنت في هذا العمر.
شعر بفمه جافا ولسانه يابسا كخشبة، فلم يستطع ابتلاع لعابه ومن ثم هضم هذه الشتيمة والكلام البذيء، ولم يكن مستعدا للتغاضي عنها وإهمالها.
ــ من المناسب أن تعرف أني من سكان هذه المنطقة التي تخضع لسلطتكم، وحسب ظني بأجهزتكم الأمنية، فأنتم تملكون المعلومة والمعرفة الكاملة عن جميع سكانها، وتحصون جيدا بيوت الجميع. أنا ولدت هنا، وعشت حياتي بطولها وعرضها هنا أيضا، واعتقلت في عهد الحكم الماضي لعدة مرات، وقبعت لأيام طوال في زنزانة مركز شرطتكم هذا، قبل أن أرحل للمحاكم بتهمة معارضة السلطة،وسجنت لسنين عديدة، وفي كل مرة من تلك الاعتقالات والتحقيقات والسجون، نلت من التعذيب الكثير، ولكن لم توجه لي مثل هذه التهم القذرة السخيفة، التي استمع إليها الآن، لذا أعتقد بأن من وجه لي تلك الشتائم ومن أخبرك بها ، حتما هو بالذات من مارس ويمارس الدعارة والرذيلة وليس أنا.هذا كل ما لدي لأقوله.
ــ أنا لا أوجه هذه التهمة لك وإنما هم من أخبرني بها.
ــ وهم بالذات من يمارس الرذيلة والعهر وليس غيرهم، هل جلبوني إليكم بكتاب اعتقال رسمي ؟
ــ كلا، لا يوجد مثل هذا .
ــ إذا كيف ترتضي مهنيتك بالذي يحدث، وما الذي يجعلك تعتقلني دون سند قانوني؟
ــ على أي حال لنرَ ما الذي يكون بعد ذلك.
ــ وما هو ذلك ليكون بعده؟
ــ أخي لست مسؤولا عن الذي حدث وانتظر الأوامر التي تأتي.
ــ ومن أين تأتي هذه الأوامر؟
ــ أنت متهم وتضعني الآن في موضع الاتهام.
ــ لست متهما بل أنا مختطف من قبل عصابة، وأنت تشارك في عملية الاختطاف.

وكأنه لدغ من عقرب، صرخ الضابط بأعلى صوته طالبا من الشرطي الذي كان يتنصت خلف الباب، أن يأتي ويسحبه إلى غرفة الحبس. بلمح البصر قفز الشرطي وسط الغرفة، وسحبه بقوة من ساعده وقاده عبر الممر، ليقفا أمام الباب الحديدي الذي كان نصفه العلوي شباكا بقضبان حديدية، وتظهر خلفه قاعة الحبس. أدار الشرطي قفل الباب الثقيل، وطلب إليه الدخول ليغلق الباب وراءه. كان هناك مجموعة من معتقلين،بعضهم يغط بنوم ثقيل. أربعة اتخذوا الزاوية الشمالية للقاعة، كانوا يتهامسون، دون أن يثير حضوره اهتمامهم. آخرون يجلسون متكئين إلى الحائط المواجه لباب الزنزانة، راح البعض ينظر نحوه ببرود، وبدت على وجوههم ملامح تجهم. سجينان يغطان بنوم عميق قرب بعضهما في طرف القاعة القريب من الباب. بدت قاعة الحبس مهملة لم تنظف منذ فترة، فالأرض متربة، وهناك بعض قصاصات جرائد مرمية وسطها، وثمة قطعة قماش تبدو وكأنها بقايا غطاء مطروح في الزاوية القصوى، وقميص أسود معلق على الحائط.
جال بنظره زوايا الغرفة وتذكر دخوله المتكرر إليها في المرات السابقة، وكيف كانوا يحشرون فيها بأعداد كبيرة، تكتظ بهم أمتارها القليلة، فيسهدون لأيام، يتداولون بينهم الأماكن ، للحصول على حصة نوم ولو لساعات قليلة. وتحل بهم لحظات فرح، حين ينادى عليهم للترحيل إلى المحاكم، حيث يصدر هناك قرار الحكم بالسجن، فيساقون بعدها مباشرة، إلى أحد السجون، حيث القاعات أوسع وأرحم من زحمة هذه القاعة.
توجه نحو الزاوية التي سبق واتخذها مكانا تنافس عليه سابقا مع آخرين. ابتسم وهو يتذكر كيف كان يستحوذ على المكان بشق الأنفس، عندها تكون تلك الزاوية وكأنها مخصصة له دون غيره. وضع ظهره في الزاوية عند تلاقي الجدارين وراح يتلمس جسده. كان الألم يغطي مساحات كثيرة منه، وبالذات ظهره وعند مكان الخاصرة والساقين.
 في هذا المكان وفي المرة الأخيرة لاعتقاله، حفر على الجدار اسمه وتاريخ اعتقاله. نبهه أحد السجناء بشيء من الطرافة على ضرورة تأبيد حضوره في المكان، وهذا ما جعله يحفر اسمه وساعة اعتقاله وتاريخ اليوم والعام بملعقة الطعام وبأناة وجد. تلمس الجدار، وكأنه يبحث فيه عن تلك الذكرى، ود لو يستطيع أن يزيح الطلاء الثقيل عنه، لم يجد لديه آلة تزيح  تلك الصبغة الغامقة التي تراكمت عليه بمرور الزمن ولكثرة تكرار طلائها، وكأن هناك أمرا مقصودا لمحو ذكريات من العذاب والوجع دائما ما كان يتردد صداه بين هذه الجدران، وما كان مناسبا استخدام أظافره لانجاز هذا العمل، ولكن وجوده وإنفراده في ذات المكان وفي هذا الوقت دون مزاحمة الآخرين، شعر وكأن حالة من الرضا وشيء من سكون تنتاب جسده المنهك.
جميع الاعتقالات والسجون وحتى التعذيب والبذاءات التي واجهها على ذلك العهد، لم تكن لتستطيع تدجين عناد روح. فلم يكن فريسة سهلة لنوايا الجلاد الشريرة الخبيثة، وكان لذلك سحرا خاصا يقترن بعزيمته وقوة إرادته وقدرته على الصمود.ولكن كثيرا من الأشياء قد تغيرت وتبدل إيقاع الحياة ومثلها شخوص السلطة، ولكن بقيت ذكرى تلك القسوة والآلام راسخة في النفوس، وما عاف الوجع قلوب الناس،ويجدها اليوم وقد أعيدت بذات العنف مسربلة بخدعة الديمقراطية المنتقاة، وعاد الخوف يسربل حياة العراقيين، بعد أن ظنوا خيرا بالتغيير.
 كان الليل طويلا جدا لم يغمض له جفن، فراح يحدث نفسه ويعيد سيرة حياته ، منذ أول يوم دخوله مدرسة القدوة الابتدائية، ولحين إحالته إلى التقاعد. تتسلل الأفكار تباعا، مشبعة بالوحشة. تتقافز الصور أمامه  بعجالة، فيجد نفسه مسكونا بالبحث عن منافذ للهروب بعيدا عن الكدر والغم،ولكن هيهات فكل الذي حدث ويحدث وما مضى كان يلاحقه ويركد راسخا في تلافيف رأسه.
 بعد هذا النهار الذي عانى فيه ما عانى مع هؤلاء الأوباش. وكاد الغضب والألم يأكلان روحه. وهو يفتح عينيه على سعتهما رافضا الإغفاء. يا ترى هل اصطفاني القدر لمسيرة عذاب طويلة،هكذا تساءل، ويكاد يتلمس الآن بيقين كيف أضحت أماله هباءً منثورا، وذهبت نشوته وأفراحه سدى.

*****


10
     
  يوم أخر من مدونات الوجع ــ ج1

كان يوما قائظا. انتابه إحساس بضيق صدر وشيء من كدر. لهاثه كان مسموعا. راح يغذ السير نحو أقرب منطقة يستطيع الحصول فيها على واسطة نقل توصله إلى البيت، حين حوصر بمجموعة رجال، عند الطرف الجنوبي لشارع حيفا القريب من الزقاق الذاهب نحو جسر الشهداء وسط بغداد. رفعوا جسده الناحل بخفة وسرعة فائقتين، ودفعوا به نحو حوض سيارة مظللة رباعية الدفع. كانوا غلاظا فجين، تصدر عنهم رائحة غريبة،كأنها خليط من عفن ورائحة مقززة لبخور عتيق رخيص. منذ اللحظة الأولى وجهوا له سيلا هادرا من شتائم . كان قد عرف دوافعها مسبقا، لذا لم ينبس بكلمة للرد.
تخيل ما سوف يحدث قبل قدومهم المباغت هذا. فليس من المناسب أن يستسلم لهم طواعية،لذا وضع في تفكيره سيناريو للمواجهة المحتملة،استحكامات يجب عليه اتخاذها. ممكن أن يكون هناك اشتباك وصراع بالأيدي،ومن الجائز أن يترافق بإشهار أسلحة، عندها سيدافع عن نفسه بأقصى ما يستطيع، ولن ينقاد لهم بسهولة، تلك كانت نواياه وهو يجهز نفسه لمغامرة ترك ساحة الاعتصام في ساحة التحرير.
كان اختطافه متوقعا،لذا كان يتوجس خيفة أن يؤخذ غدرا، دون حدوث مواجهة حقيقية مع الخاطفين. فقد وجهت له العديد من رسائل التهديد التي اتخم بها هاتفه، ولكن دائما ما استخف بمحتواها،واعتقد أنها لا تعدو غير لعبة صبيان ليس إلا.ولذا لم تراوده رغبة مسحها ورميها بعيدا رغم مشاعر الضيق والحنق التي تنتابه في كل مرة تعلن رنة هاتفه ورودها،لحين ساعة اختطاف زميله المعلم محمد خيون خريبط العرادي، والذي وجد بعد يومين مرميا في منطقة مهجورة خارج العاصمة، بجسد مشطب بالسكاكين.عند تلك الحادثة أضطر لمعاودة قراءتها بحثا عما تخفيه وتضمره من تهديد حقيقي لحياته.
 قبل خروجه من الخيمة المنصوبة وسط الساحة ،وكان ذلك قراره الذي اتخذه مساء البارحة، في ساعة ضجر وبعجالة ودون تروٍ. فقد أخذت صور زوجته وأبنائه وحفيديه تراوده بإلحاح، وتضعف إرادته على المطاولة. ستة أيام من الابتعاد عن الأهل والأحفاد، بدت جد طويلة ومؤذية، ويحتاج أيضا لحمام دافئ وملابس نظيفة.
نبهه بعض أصدقاء، لضرورة أخذ الحيطة والحذر، إن رغب الابتعاد عن الساحة،فتلك مسألة تحتاج للكثير من الفطنة والحصافة والحذر الشديد، وبالذات هذه الأيام، لمن أتخذ قرار الخروج بمفرده. فحوادث اختطاف المنتفضين باتت شبه يومية وعلنية أيضا،وما عادت بذات أهمية تذكر عند السلطات، وشاطرها هذا التغافل اللئيم الكثير من وسائل الإعلام.  فهناك من يتعقب المنتفضين منذ لحظة مغادرتهم مكان الاعتصام، ويصطادهم مثل طرائد. تكرر ذلك في الأيام الأخيرة بشكل مفزع . فوقائع عمليات القنص ومثلها الاختطاف، شارك فيها العديد من الأطراف ذوي الملامح المجهولة والدوافع الظاهرة أو المخفية، لذا أشار عليه شركاؤه في الخيمة،بضرورة اتخاذ الأزقة المتداخلة والبعيدة ممرات للابتعاد عن الساحة.
 توقف وقد اعتراه بعض قلق، سار مسافة ليست بالقصيرة، وكان يتلفت بحذر شديد، ثم هرول. توغل في أزقة ملتوية،أضاع فيها وقتا طويلا،فلم يسبق له أن درج في تلافيفها، وما كان يملك اليقين والدراية بمداخلها و مخارجها. بعدها اجتاز جسرا تمهل وهو يسير فوقه، متأملا ضجة لطيور النورس وهي تقترب من سياجه الحديدي الأخضر، لتلتقط نثار خبز عافه أحدهم. شعر كأن هناك فوهات بنادق موجهة نحو ظهره من نوافذ البنايات المجاورة للجسر،وكانت أكثر الفوهات وأشدها تماسا وبأسا تخرج من فتحات تلك القبة الزرقاء الصامتة والصامدة منذ دهر طويل، مثلما عرف عنها، حيث روى المحدثون، كونها شاهدا دائما على انتفاضات ومسيرات حاشدة، ولازال جوف قبتها يحتفظ بصدى لعلعة رصاص،كان قد وجه لصدور وظهور رجال كانوا يرتشفون دمهم ببسالة، وتتشقق حناجرهم بحرقة هتافاتهم عن الحرية والعدالة التي أضمرت طويلا في الصدور.
هبط من الجسر وأخذ يجاور جدران الدكاكين المرصوفة على طول الشارع،ثم اختار التوغل في الأزقة الضيقة، محاولا الوصول إلى الشارع المفضي لقلب منطقة علاوي الحلة. لم يتبق غير الشيء اليسير ليكون الطريق سالكا بعدها نحو وسط المنطقة حيث المرآب الكبير للسيارات.  فجأة توقفت جواره سيارة رباعية الدفع مظللة، وبسرعة فائقة ترجل منها خمسة رجال بملابس مدنية ولحى مشذبة وابتسامات متشفية. بمرافقة سيل كلمات بذيئة، أحاطوه. تسمر مكانه، فلم تمنحه المباغتة فرصة التفكير بالهروب، واختفى لحظتها عن ذهنه، رهان ذلك السيناريو الذي سهد وهو يجسده في مسرحية ضج بها رأسه في ليال أشتد سوادها وهو يطالع سقف الخيمة الحاجب لضوء القمر.
كان المكان ضيقا لا يسمح بحرية الحركة والإفلات، لذا سهل عليهم مهمة محاصرته واعتقاله. كانوا وكأنهم قد دربوا على إتقان مهامهم، مثلما عليه رجال الصاعقة في الجيوش النظامية.دون عسر ومقاومة،  قيدوا يديه إلى الخلف بإنشوطة بلاستك، كانت تضغط على ساعديه، فشعر وكأنها حد سكين، ثم وضعوا كيس قماش كالح اللون، غطوا به رأسه، كانت رائحته عطنة مثل براز حيوان، أحس بالاختناق ورغبة بالتقيؤ. رفعوه بخفة، وألقوا جسده بقوة وسط الحوض الخلفي لسيارتهم.لم تستغرق عملية اختطافه غير دقائق معدودات، فقد كانوا مهيأين لها بشكل جيد وإتقان احترافي.
 حركة السيارة المسرعة تشي باختراقها لشوارع عريضة، وكان سيرها بطيئا بداية الأمر، واهتزازها جعله يشعر بألم عظام شديد. ورغم سيرها الحثيث لوقت ليس بالقصير، فقد عرف بأنها لم تغادر وسط المدينة، وما كان اللف والدوران طيلة الوقت، غير جزء من عملية تمويه. لمرتين توقفت السيارة فسمع فيهما صوت ينادي من الخارج، تفضل سيدي.
 شعر وكأن السيارة سارت ببطء شديد ولمسافة ليست بالقصيرة، داخل أزقة ضيقة مكتظة بالسكان. وبوجود بيوت قريبة، كان يصدر عنها صراخ أطفال وأصوات نسوة ، بل كان بالإمكان سماع مقاطع من حوارات قريبة، فعرف أنهم في حي مليء بالبشر.بعد فترة اختفت الأصوات كليا، وبدأت تزداد اهتزازات السيارة، وكأنها تسير عبر شارع ترابي مرصع بالحفر، ثم توقفت السيارة،سمع بعدها صوت صرير ثقيل لباب حديدي يفتح.
كانوا بعجالة من أمرهم،لذا سحبوه من حوض السيارة الخلفي ورموه أرضا فسقط  مثل كيس رمل ثقيل.انكفأ على وجهه فوق أرض ترابية ، ليجلس أحدهم بجسده الثقيل فوق ظهره، ومع رائحة العطن المنبعث من غطاء الرأس شعر بالاختناق وضيق وألم شديد في الصدر.
ــ لا تتحرك إلا حين تؤمر .
كان الصوت ناعما صافيا قريبا لصوت أنثوي، ولكن نبرته واضحة وحازمة.
ــ إنهض .
أعانه أحدهم على الوقوف. أصوات تئز في رأسه. وشعر بتشنج ربلة قدمه اليسرى، فأضطر للقفز الخفيف محاولا إرخاء وفك حالة التشنج، فسمع ضحكاتهم. ولكن الصوت الناعم صرخ بشدة مرة أخرى.
ــ توقف أرعن، معتاد على الرقص ،توقف وإلا..
سمع صوت سحب أقسام سلاح. وفجأة وجهت له ضربة كف قوية ترنح إثرها والتف بجسده دورة كاملة. حاول أن يتماسك كي لا يقع . لم يكن يعرف أي اتجاه يتخذه جسده، ثم سقط على ركبتيه.
ــ قف
تقدم أحدهم وسحبه من ساعده ليساعده على النهوض. شعر بغثيان ثقيل يداهمه.
ــ تقدم إلى الأمام ثم أستدر يمينا، خطوتين إلى الأمام، استمر بالتقدم لحين أطلب منك التوقف. اجلس على ركبتيك.
كان سيل الأوامر يتقاطع بحدة مع قهقهات قوية تتردد من المجموعة. شعر بمقدار ما يحمله هذا الصوت الأنثوي البغيض، من خبث وغل، وهو يلهو بتعذيبه. فجأة انتابته قوة وإيحاء روحي للمقاومة والصمود، ورغبة عارمة في إهمال ما يصدر عن هذا الصبي النزق، وقرر تحدي هذا الأرعن الخبيث. لذا توقف وتجاهل الأوامر.فقد راوده شعور بالقدرة على تقبل جميع الاحتمالات، بما فيها الموت، واستعداده لمواجهة هذه الطرق الصبيانية، الساعية لتحطيم معنوياته وإذلاله.
 الخبث الداعر يحتسبه هؤلاء الأوباش انتصارا وشجاعة ما بعدها شجاعة،حدث نفسه وانتابته مشاعر ازدراء وكره شديدين. حاول الاسترخاء نفسيا وجسديا، وأحس بعدم المبالاة تجاه ما يجري حوله. تيقن بقدرته على مقارعة هذه اللعبة القذرة التي تمارس معه . ترقب غريب وشعور بلحظة أكثر غرابة، لم تراوده مشاعر خوف ورهبة. كل هذه المخاوف أحس وكأنها غادرت روحه ورميت بعيدا وغُلف جسده بحالة استقرار وطمأنينة ، فلم يعد يخيفه ما يحدث أو ما سوف يفعله هؤلاء للتنفيس عن ساديتهم وجبنهم، فليس هناك في خاطره الآن غير احتمال تهور هؤلاء الجبناء واندفاعهم لقتله.
ــ من الذي دفعك لمثل هذا الموقف المعارض للحكومة، إلى أي جهة حزبية تنتمي ؟ اخبرنا وإلا سوف يحدث ما لا تتوقعه، ولن يكون في صالحك وصالح عائلتك.
كان صوتا أخر لرجل أقترب منه وضغط بأصابع يابسة كأنها أقلام حديد عند الحفرة الرخوة بين الكتف والرقبة،يبدو بحركته هذه وكأنه يتقن طرق التعذيب. أحس بفحيح يلامس رقبته. شعر وكأن سبق له وسمع هذا الصوت. سمعه يتحدث في أحد أماكن ساحة التحرير، في خيمتهم أو بالقرب منها، كان صوتا خشنا أجشا جافا. جال بتفكيره داخل الخيمة وجوارها، ولكنه لم يستطع بكامل اليقين استحضار وجه صاحب الصوت. فضل الصمت، ووقف دون حراك، وكأن الكلام لم يكن موجها إليه، والأمر برمته لا يعنيه.
 عند تكرار حالات الاعتقال، تدور في مخيلة المرء الكثير من الأسئلة،ويستحضر العديد من المواقف، أسباب الاعتقال رغم معرفته المسبقة واليقينية بها، ثم يبدأ التفكير بما سوف يكون عليه القادم، أو كيف تكون المواجهة ،ولكن بعد مضي وقت قصير، تقصي بعيدا جميع الرغبات بالبحث عن أجوبة،وعندها يشعر المرء بأن لا حاجة للحديث وإنما الصمت يحمل الكثير من البلاغة.
ــ ما الذي جعلك تذهب وأنت في هذا العمر وتحرض الشباب على التظاهر والانتفاض ضد الحكومة، أنتم مجموعة الجوكرية سيكون حسابكم عسيرا.
تلك اللحظة ود أن يرى وجه هذا الرجل الخبيث، ليتيقن جيدا من صورته التي وجدها تنط فجأة أمامه بكامل تجلياتها القبيحة. فكر بضرورة الامتناع عن الإفصاح بمعرفته لهذا الشخص، فذلك سوف يكون دافعا لقتله. طلب منهم رفع الغطاء عن رأسه. فرد أحدهم عليه بضربة كف قوية، ترنح إثرها ووقع على الأرض، فبدأت ركلاتهم تتوالى بقوة وسرعة. أخذ جسده يتلوى ألما.كان يحاول تحاشي الضرب، ولكن مع غطاء الرأس ما كان ليستطيع معرفة من أي مكان تهوي عليه الركلات. استمروا لعدة دقائق ثم أمرهم الصوت الأنثوي بالتوقف.
ــ تطلب وتريد، لا بل تأمر يا ابن الزنا،هذه المرة الأولى ولتتذكرها جيدا، في المرة القادمة إن كررت وجودك مع المتظاهرين وتحريضك لهم، فسوف يكون عقابك نهاية وجودك في هذه الدنيا.
ــ وماذا فعلت لتعاملوني هكذا؟ ومن تكونون أنتم؟
بسرعة وقسوة أعيد استخدام الركلات مرة أخرى جوابا على تساؤله. احدهم استخدم حزاما جلديا راح يسوطه به ، أخذ يتلوى وجعا وبذل جهدا فائقا لأجل كتم توجعه. كان أحدهم يوجه ضربات مقدمة حذائه الثقيل نحو وسط جسده وكأنه يريد أن يغرزه عند الخاصرة، ليصل إلى حيث الكلى، ومهما حاول التحرك والتخلص من الضربات، يجده يعاود الركل الشديد بذات المكان. كان وكأنه يعرف الهدف الساعي إليه، وبهذا الشكل الاحترافي، وسبق وأن مارسه مع العديد من الناس سيئي الحظ،من الذين وقعوا بذات الفخ الخبيث. فهذا اللعين يملك اليقين بكون ما يفعله، إذا لم يسبب انفجار الكلية فهو يعطبها، استمر الركل والضرب لما يقارب العشر دقائق.
ــ دعوه الآن فيكفي مع أبن العاهرة هذا، ما تلقاه هذه المرة من أحذية وضرب.لعله يرعوي.
ــ فعل جبناء، تنفردون بنا واحد إثر الأخر ..
ــ أخرس وإلا فجرت رأسك .
ــ وماذا تنتظر .
ــ أرسلوه إلى مركز الشرطة في منطقته ليقبع هناك، وأخبروا الضابط أبو أنس بأن هذا الملعون يمارس الدعارة والقمار، ويحتاج لعقوبة قاسية بما يستحق.
ــ أبا رحيم،  هذا عنيد ولسانه سليط، ولم ينل اليوم ما يستحقه من تأديب.
ــ أعرف هذا، لعله يتأدب بعد هذا الدرس..خذوه .
رفعوه بخفة ورموه ليتكور جسده في حوض السيارة التي انطلقت نحو مركز الشرطة مخترقة الشوارع دون توقف.
*****



11
محنة العراقيين بين فيتو أمريكا وعطوة طهران
فرات المحسن
بعد سقوط سلطة دكتاتورية البعث في 2003 كان المؤمل أن يجد المواطن العراقي نفسه بعيدا عن غوائل كانت تهدد صحته وأمنه وسلامته، وأن لا يتعرض لسوء تغذية وأمراض وأوبئة وبطالة وحروب، وعجز أمام كوارث الطبيعة مثل الجفاف والحرائق، ولكن ومع مرور الزمن وجد أن قيمته المقدسة كبشر في أقصى حالات البخس والتردي، حيث تفقد إنسانيته قيمتها فيتحول إلى شخص يعيش حالات أسر واستلاب واغتراب عديدة، يفقد معها ابسط شروط الراحة النفسية والجسدية، ويعيش تحت ظروف عنف تقسو عليه وتخيفه فيها الطبيعة والسلطة معا، دون أن يجد وسيلة لحمايته، فيتضخم أمام هذه القسوة والعنف المفرط عجزه وضعفه . وخلال العشرين عاما الماضية، كانت ومازالت الكهرباء وانقطاعها المتكرر واليومي، عقوبة قاسية وبشعة يتعرض لها الإنسان العراقي بسبب القصور والتخلف وسوء إدارة السلطة لهذا الملف، لتصبح الكهرباء واحدة من أساليب العنف الممنهج حين تكون التكنولوجيا ومن يديرها سببا في تعذيب الناس واستلابهم. فمع توقفها وانقطاعها المتكرر وشحها تتعرض حياتهم لانتكاسات عديدة نفسيا وجسديا، أولها شعورهم بهدر القدرات وتعطيل المصالح. ومع توقف الأجهزة الالكترونية والكهربائية في البيت وفي دوائر ومرافق الدولة الأخرى ومثلها باقي المهن الخاصة، عندها تعدم الكثير من الفرص وتعطل العديد من الوظائف. وبشكل غير طبيعي ترتفع كلف الحصول على الكهرباء من المولدات، وتتصاعد معها وتيرة استنزاف الأموال للحصول على مواد بديله لتفادي الحر، وأيضا بسبب عطل الأجهزة المنزلية الموجب تصليحها أو أبدالها بالجديد، وبسبب قطع الكهرباء المتكرر تتعطل الكثير من الأعمال في المصانع والورش وتتلف المحاصيل الزراعية وباقي الخزين الذي يتطلب الحفاظ عليه بعمليات التبريد، ولن يتوقف تعداد تلك الأضرار التي تصيب حياة الناس جراء انقطاع التيار الكهربائي، والذي يجعل الناس تفقد  كامل الثقة بإجراءات السلطة وتجعلهم بعيدين جدا عن حياة الطمأنينة والاستقرار.
   يذرف السيد الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء العراقية الدموع ويستجدي عطوة من جارتنا الحنون الجمهورية الإسلامية لتزويد العراق المسلم بالغاز المساعد على تشغيل محطات كهربائه التي توقفت، ويعدد بصوت مجروح ومتهدج ما يقارب التسع محطات أصبحت مثلما يصفها، عبارة عن طابوق ليس إلا، بعد أن توقفت عن العمل كليا إثر امتناع جمهورية إيران الإسلامية عن فتح صنبور غازها لتزويد العراق الجار البائس الذي يمتنع عن تسديد ديونه دون مبرر معقول بل يتعمد ذلك وخاصة مع قدوم الصيف، حسب توصيف طهران للقضية.
وتتهم بعض الأوساط السياسية المشاركة في السلطة والقريبة من جمهورية إيران المسلمة، الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على الحكومة العراقية للامتناع عن دفع مستحقات الجانب الإيراني الشقيق المسلم ، ويأتي ذلك من خلال هيمنة البنك الفدرالي الأمريكي وتحكمه بعائدات مبيعات النفط العراقي المودعة لديه، وتوقيت صرفها وطبيعة خروجها من بنوك العراق،وبهذا تختار أمريكا التوقيت المناسب أي أشهر الحر اللاهب لرفع وتيرة تذمر الشعب العراقي بالضد من حكومته المسلمة البريئة ولتطعن بعلاقتها بالجانب الإيراني أيضا، وهو المهم في هذه المعادلة التي يقع ضحيتها الشعب العراقي وليس غيره.
معادلة غريبة في بلد العجائب والمفاجآت، فلو بدأ دعاة الإصلاح والدين أحفاد آل بيت النبوة مثلما يدعون، ببناء غرفة واحدة من غرف محطات الكهرباء في كل عام لاكتملت لدينا العشرين وجهزت مع معداتها خلال فترة حكمهم. ولو تم التعاقد مع شركة حقيقية لاستغلال الغاز المصاحب للنفط بعيدا عن السرقات والتهديدات والعطوات وضياع التخصيصات، لوفر ذلك لنا خلال العشرين عاما ملايين المقامق، والأقدام المكعبة من الغاز، ولأصبح لدينا ما يحرك معدات محطات عديدة للكهرباء. ولكن مقمق السحت الحرام تخثر في العقول وما عاد يهمها غير سرقة ما يقع تحت أنظارها.
قطعا هناك من لا يستحي من مثل هذه المهزلة المقمقية. فبلد يحرق الغاز منذ أول ظهور للنفط على أرضه في عام 1927 من القرن الماضي،أي منذ ما يقارب 96  عاما دون أن تظهر معه ولحد الآن حكومة تمتلك الحكمة والرشاد والدراية لاستغلال هذه النعمة التي وهبتها الطبيعة للشعب العراقي  بسخاء مفرط، ولم تتعظ أي سلطة حكمت العراق أو تشعر بالخجل والغيرة من نظيراتها جاراتها التي بات الغاز المصاحب يشكل ثروة وطنية تدر على خزائن الدولة أرباحا طائلة.
فمصر المحروسة ذات الموارد التي لن تنافس العراق بالوفرة، فهي بلد لا يمتلك الخزين النفطي الهائل ولا الغاز المصاحب والمدفون تحت الأرض مثلما عليه العراق ولكن حكمة وإخلاص ونظافة يد وإرادة المسؤول الوطني المصري، جعلها وخلال خمس سنوات تعمل جاهدة على التعاقد دون خوف أو تردد مع شركة كهرباء رصينة من مثل شركة سيمينس لبناء أربع محطات وفرت لمصر تغطية كاملة وفائضا يسمح لها بتصدير الكهرباء.
 عشرون عام مضت واليوم نسمع رئيس الوزراء يعلن بأنهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية لأزمة الكهرباء، المهم أنهم وبعد العشرين اكتشفوا، والباقي له رب يعالجه. وقبل هذا وعدنا صاحبهم بتصدير الفائض منها وذهب حيث وعد بجنة عرضها السماوات. وتتكرر مع الظهور الأول لجميع وزراء الكهرباء الذين تداولوا شؤون الوزارة، مقولة الوعد الذي يفقأ العيون ويدمي القلب، انتظروني ليكون صيفكم طافحا بالكهرباء وإنارتكم علينا مثل فطوركم، ويأتي الأخر ليتهم كيزرات حمامات المواطن بالذي يحدث من قطع وشح الكهرباء. فبات العراقي يجد نفسه اليوم بعد أن ضاع من حياته الكثير وخسر سنوات عمره منتظرا الفرج يأتي مع كلمة سوف ذات الرنة الذهبية والصادرة عن المسؤول. فأصبح مع هذا الوعد مولعا بأغنية أم كلثوم عن فلسطين التي غنتها قبل أكثر من خمسين عاما ومازالت  تصدح في قوانة العالم العربي دون ملل وكلل، حيث تقول الأغنية، عشرون عاما وأنا أبحث عن أرضِ وعن هوية، أبحث عن بيتي الذي هناك، عن وطني ،عن طفولتي .ليضيف لها العراقي عن كهربائي الوطنية. قولوا.. قولوا لمن يسأل عن قضيتي.. قضيتي صارت الكهرباء الوطنية.
هكذا تكون عقدة الخوف ومشاعر الذل والرخص سببا في هذا الوجع الذي يتحمله الشعب العراقي وليس سكان المثلث الأخضر، فالارتهان للغير أصبح طبعا يحتل ويهيمن على روح المسؤول العراقي ويطوقه بالأغلال، فيبحث عن إرضاء الأمريكان بعد أن ارهبوه بعقوباتهم، ويستجدي عطوة الأخوة في الجمهورية الإسلامية ، التي يرزح تحت رحمة غازها الذي يمثل له مظهرا من مظاهر الاعتزاز والهيبة الوطنية التي تساعده على الوقوف شامخا بوجه الامبريالية العالمية وصامدا بمعاندة الاحتلال الأمريكي.


12
العراق وسباق المسافات الأمريكي
فرات المحسن
دائما ما سببت المواقف الأمريكية تجاه الوضع في العراق حالات من الفوضى والإرباك والقلق بين أوساط الشعب العراقي.فهي وفي العموم  تتفاوت بين الشدة واللين، بين الجد والإهمال، بين التغاضي والتضييق،بين التهديد والوعيد مقابل الرضا والقبول. ومع هذه الربكة في التعامل تنهار العقلانية عند الكثير من الناس وتحجب الرؤية الواقعية لديهم وتشل القدرات وتضطرب معها الحياة اليومية بجميع تفاصيلها، ويفقد الناس حياة الطمأنينة ويعيشون القلق والتوتر بانتظار تلك اللحظات المرتقبة الممزوجة بالخوف المشروع من ما تضمره طبيعتها ومآلاتها.
 فالعراقي يتلقى يوميا كما هائلا من الأخبار المتضاربة، ومشاكله ومشاغله اليومية تجعله يفقد القدرة على تدقيقها والوقوف على حقيقتها، لتتحول لديهم لوظيفة نفسية اجتماعية ذات قدرة على تنشيط وإثارة التفاعل والاضطراب، وفي نفس الوقت تشيع الفزع والريبة والشكوك، وتنتعش معها قريحة البعض من السياسيين صناع الخوف وزعزعة القناعات ومروجي الشرور، وتبدأ مرحلة حياكة الروايات والسيناريوهات على طريقة ضاربات الودع وقراء الطالع، ومثال على ذلك  الأخبار المتداولة والمتكررة في جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، عن تغيير قادم لا يبقي ولايذر، يكتسح أمامه كل شيء، ولا تقدر على مقاومته أية قوة. جبروت مدمر لا تستطيع صده أي متاريس وموانع .
ولكون الإنسان العراقي يعاني من أزمات حادة ومزمنة سببتها له السلطات الحاكمة على مر عقود طويلة من عمر الدولة العراقية ولحد الآن، فان هذه الأنباء تجعله يعيش بتوتر انفعالي دائم، لذا نراه يدخل في هوس التحليل وتفاصيل سياسية شائكة ومرهقة وبالذات ما يتعلق بالموقف الأمريكي وسباق التصريحات المربكة التي يتلقاها والتي لا يجد فيها ما يساعده على الاستقرار وضبط إيقاع حياته اليومية.
نهاية عام 2022 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن إنهاء الولايات المتحدة لمهامها القتالية في العراق ، وأشار في ذات المرسوم الرئاسي لاستمرار بقاء عدد من القوات الأمريكية بمهام تدريب الجيش العراقي. ولكننا فوجئنا لاحقا وفي هذه السنة 2023، بمرسوم آخر مدد الرئيس بايدن بموجبه حالة الطوارئ الوطنية، المتعلقة بالأوضاع في العراق، وجاء في المرسوم الجديد: لا تزال هناك عقبات تعترض إعادة الأعمار المنظم للعراق، ولضرورة استعادة السلام والأمن في البلاد والحفاظ عليهما، يحتاج العراق تطوير مؤسساته السياسية والإدارية والاقتصادية ، لذا تمدد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق. مع التأكيد على أن هذه العقبات تشكل أيضا تهديدا غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للعراق للولايات المتحدة الأميركية.
عندها أثيرت تساؤلات جادة وحيوية تتعلق بطبيعة وتوقيت هذا الإعلان، وما انطوت عليه هذه الرسالة التحذيرية المقلقة. فما هي غايات الرئيس بايدن مما جاء بمرسومه هذا، هل يعني وضع نوع من الوصاية على العراق،  يتقدمها حفظ وحماية الأصول المالية العراقية الموجودة في الخارج، أم اتخاذ تدابير محددة تفرض من خلالها قيود على تحركات الحكومة العراقية لإعادة ترتيب تشكيلاتها الإدارية ونسق عملها، بما يوائم مصالح العراق وقبلها المصالح الدولية تتقدمها المصالح الأمريكية، أو أن الغرض من حالة الطوارئ إعلان عقوبات صارمة وصادمة ضد شخصيات أو قوى وجهات سياسية بعينها تعدها الولايات المتحدة عقبات تعترض تطوير مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والاقتصادية، وتقف بالضد من استعادة وصون السلام والأمن، وبات وجودها يشكل تهديدا غير عاديا للأمن
القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، وأصبح العراق جراء أعمال وتحركات هذه الأطراف، منطقة غير آمنة وخطرة على المصالح الأمريكية وهذا يستدعي إعادة وضع العراق تحت نوع من أنوع الوصاية أو الحماية القسرية.
دائما ما مثلت سياسة وزارة الخزانة الأمريكية تجاه السلطة في العراق نوعا من أنواع التهديد العلني والصريح بإمكانية غلق العديد من المنافذ التي تتنفس عبرها مؤسسات الدولة العراقية وبالذات الاقتصادية منها. حيث من المعروف قدرة وزارة الخزانة على فرض قيود مالية تشمل مراقبة صارمة لتداول العملة في البنوك العراقية، وفرض قيود تعارض تعاملات البنك الدولي وباقي المؤسسات المالية الدولية مع العراق. وتستطيع أيضا مخاطبة وزارات ومديريات عديدة في أمريكا لتقييد التعامل مع العراق، من مثل وزارات الخارجية والأمن القومي والعدل والطاقة والدفاع والتجارة، ومديرية مراقبة التجارة ومكتب مراقبة الأصول المالية الأجنبية وهيئات الكمارك، وإعطائها الإشارة بتقييد التعامل وفرض جزاءات على المؤسسات العراقية والبعض من السياسيين، ومراقبة حركة الممتلكات العامة ولأشخاص محدودين وشركات ومؤسسات بعينها، ومن ثم التهديد بتجميد كافة الأصول المالية للحكومة العراقية الموجودة في الولايات المتحدة، وهذه التهديدات لوحت بها الإدارة الأمريكية خلال بداية أزمة الدولار في العراق، ولكنها وعند منتصف الطريق خففت من حدة تهديداتها وتغاضت عن الكثير من السياسات الاقتصادية المعطوبة للحكومة والبنك المركزي العراقي.
 في جميع الاحتمالات فان مستقبل العراق مهم ، ليس فقط للعراقيين بل للمنطقة والمجتمع الدولي بأجمعه، وما تقوم به الولايات المتحدة أو لا تقوم به، سيكون له تأثير كبير على مستقبل المنطقة.وهذا ما دفع المتحدث باسم مجلس الأمن القومي السيد ادم هودج للقول بأنهم يؤيدون سيادة واستقلال العراق بشكل كامل، ورحب بزيارة أمير قطر للعراق، وهذا الترحيب تلميح لأهمية ومحورية علاقة العراق بمحيطه العربي بعيدا عن المحاور الأخرى.ومثلت زيارات السفيرة الأمريكية السيدة  آلينا رومانوسكي وتطوير علاقتها ببعض أطراف العملية السياسية وبالذات ممن لهم علاقة وطيدة بالجانب الإيراني وسبق لهم أن أدلوا ولمرات عديدة بتصريحات متشنجة عن امتناعهم إجراء أي لقاء أو مقابلات مع الجانب الأمريكي، والإصرار باعتبارها أي أمريكا بلدا محتلا للعراق وعليها الخروج منه. وكان تصريح السفيرة بالقول إن الإدارة الأمريكية لن تعود إلى لعبة تغيير أنظمة الحكم،مثال حيوي لحسن نوايا وعملية تطمين قدمت كعربون للأصدقاء الجدد.
بعد انقضاء كل تلك السنوات ومنذ خروج العساكر الأمريكان عام 2011 ومن ثم إعادة تواجدهم وفق تخريجه دبلوماسية ـ عسكرية، سميت بقوة التحالف الدولي للحرب ضد الإرهاب، وانتشار عسكري تحت مسمى تدريب الجيش العراقي.عادت للتفكير بلعب دور جديد وحيوي يختلف عن سابقته. يبدو السبب في هذه العودة القوية والاهتمام الجدي وكذلك تفعيل الدبلوماسية النشطة من خلال التحركات الدؤوبة والمحورية للسفيرة السيدة آلينا رومانوسكي،التي قالت وهي تخرج من اجتماع ضمها وبعض رجال عشائر، بأن العراقيين لايرغبون بوجود مليشيات.كل هذه التخريجات والتحركات جاءت بعد أن أدركت الولايات المتحدة الفجوة الكبيرة التي أحدثها تضارب الأفعال والرؤية القاصرة التي شابت الأداء العسكري والدبلوماسي غير المقنع، للطاقم الذي كلف بإدارة العمل في العراق خلال السنوات العشر الماضية.وكذلك ما تمخضت عنه الوقائع على الأرض قبل وبعد انتهاء سيطرة داعش على المدن العراقية. وليترافق كل هذا مع احتدام التجاذبات والمشاحنات غير العقلانية والتشوهات السياسية والاقتصادية وعدم الثقة التي تشوب علاقات وسلوك الكثير من السياسيين العراقيين، مما سبب ويسبب خللا كبيرا في إدارة المؤسسات وإضاعة أموال الدولة. لذا باتت الأوضاع في العراق تحتاج العودة إلى مشروع يعزز وجود الولايات المتحدة قبل أي شيء أخر، ويعطي انطباعا حيويا لطبيعة مهامها وحتمية بقائها كفاعل محوري، يتقدمه بالأهمية  الحفاظ على مصالحها الحيوية، ولذا عليها استحداث أطر عمل جديدة لطبيعة العلاقة مع العراق، وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية بالعودة لقراءة الحدث العراقي بتفاصيل جديدة قديمة يجعلها أكثر مكنة ودراية وفهما للمشكلة العراقية. مما اضطر الرئيس لإعلان مرسومه الأخير استنادا للأمر التنفيذي المرقم 13303 الصادر عام 2003 أي بعد أيام من احتلال العراق وعلى عهد الرئيس جورج بوش الابن.ويقضي هذا المرسوم بحضر تصدير بعض السلع الخاصة بالإضافة لمعاقبة شخصيات وكيانات تضع العراقيل وتعترض تطوير مؤسسات الدولة وتمارس أعمالا تهدد السلام والأمن.
تجزم الإدارة الأمريكية أن العراق لازال يواجه معضلات جمة ليس من الممكن حلها على المدى القريب دون تقديم تضحيات على المستوى السياسي والعام، وهذا يجعله يحتاج إلى شريك فعال ومتعاون وقوي. ولكن ولحد الآن فالكثير من الساسة العراقيين يجدون أن إيران لازالت تمثل وعلى أرض الواقع، الشريك الأقرب اقتصاديا وسياسيا، وليست للعراق القدرة على فك الارتباط بهذا الشريك دون مواجهة تبعات كبرى لا طائل منها. كذلك فالوجود الأمريكي يجد أمامه عقبات كأداء تبعد حسم الأمور لصالحه، ربما أولها يتمثل بهشاشة إجراءات الحكومة العراقية و ترددها أمام سلطة الأحزاب والكتل السياسية ذات العلاقة بإيران،وعدم قدرتها على فرض القانون،والوقوف بحزم أمام النزاعات العشائرية وانتشار السلاح وتحركات البعض من الفصائل المسلحة خارج سيطرة الدولة. يضاف لذلك انتشار جنوني وعميق للفساد الإداري وسرقة المال العام في عموم مؤسسات الدولة وبأشكال عديدة ومرعبة طال آذاه  شرائح واسعة من المجتمع العراقي وأنهك الاقتصاد وأعاق عمليات التنمية والبناء وأشاع الجريمة وقوض سلطة القانون.
من الجائز أن البعض من الساسة في الولايات المتحدة أدركوا بأن هناك حاجة فعلية لإعادة ترتيب علاقة ذات طابع خاص تستطيع الولايات المتحدة عبرها إمساك ما تستطيع إمساكه واكتشاف التعرجات المربكة داخل العملية السياسية الجارية في العراق والإقدام على معالجتها. لذا وجدت ما كانت تنتظره لحسم خيار تمديد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق لوضع قواعد عمل لكسر حلقات سلسلة الروابط السياسية والاقتصادية للعراق مع الجانب الإيراني عبر زج الخليج ومصر والأردن في صلب معركة إعادة البناء وعودة العراق لحضنه العربي. لذا حددت لهذا اتجاهات ذات طابع تكاملي سياسيا واقتصاديا، لا يشمل تأثيرها الجانب العراقي فقط ، وإنما معني بعموم الإقليم. وكذلك الوقوف بوجه جميع من يحاول الإخلال بأمن العراق وقبله بطبيعة العلاقة بين الطرفين الأمريكي والعراقي.
وفي سياق العمل هذا وضعت الإدارة الأمريكية أولويات بعينها لبنية السلطة العراقية وتركيبتها، والتي تكفل من خلالها تشكيل ائتلاف واسع يعمل على ضمان المصالح الوطنية للجميع، وهذا الأمر وحسب اعتقاد الأمريكان هو الخيار الأفضل في الوقت الراهن والذي تشجع على ديمومته، فهذا الموديل يقدم تسهيلات جمة بعد أن يطمئن الاستقرار المجتمعي والسياسي عبر شراكة الأضداد، ويكون شرط رسوخ عملية المحاصصة في تقاسم السلطة. على أن يكون الهدف هذا مقرون بتعزيز المصالح الأمريكية ليصبح لها الأثر الفاعل في مسيرة توطين العملية كطريق لمستقبل العراق.
 وأهم ما تؤكد عليه النقلة الجديدة، حقل العلاقات الاقتصادية حيث  يضمن العمل سهولة وانسيابية تصدير النفط العراقي الذي يقع ضمن أولويات الولايات المتحدة وبرامجها وأنشطتها الدولية، ويبقى واحدا من أهم العوامل المحركة للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي.


13
عسكرة الطفولة لن تبني وطن
فرات المحسن
دائما ما يتداول بين أوساط مقاتلي تنظيم داعش شعار ( دولة الإسلام باقية وتتمدد ) حيث يعتقد هؤلاء بأن الغلبة لا محالة، سوف تكون لدولتهم،  وأن عليهم واجب الإعداد بشكل متقن وناجز لفتوحات قادمة تتوسع فيها دولتهم وتمتد حسب ما عرضته خارطتهم التي سربوها إلى الإعلام عند نجاحهم في احتلال مدينة الموصل عام 2014. حيث ضمت في حدودها السوداء، ليس فقط الدول العربية والإسلامية، وإنما أجزاء من أوربا.
 هوس انتشار وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية وبقائها ورسوخ كيانها بحدود معترف بها دوليا،يشكل الطابع الغالب على تفكير قادة التنظيم، لذا استعاروا بعضا من سيرة الدولة العثمانية، لتتماثل معها صيرورة دولتهم المستقبلية. وكانت واحدة من تلك الاستعارات تجنيد الأطفال .
فالدولة العثمانية وعلى عهد الخليفة أورخان الأول 1324 م اختارت هذا الأسلوب لبناء جيش قوي جبار. وبني ذلك الجيش على أسس عقائدية ووفق الطريقة الصوفية الإسلامية البكتاشية، وكان ملهمهم بداية الأمر، في العزم والقوة والشجاعة الأمام علي بن أبي طالب. وبالتماثل مع شجاعته سحق هذا الجيش الذي سمي بالانكشاري من وقف بالضد من الدولة العليه.
كان هذا الجيش العرمرم يتألف من أسرى الحروب أو من يختطفهم جيش الدولة العثمانية من أطفال وصبيان العوائل المسيحية في البلقان. حيث تجرى لهم عمليات غسل دماغ لقطع صلتهم السابقة بأهلهم، ويربون في معسكرات خاصة على وفق التعاليم الإسلامية، ويغدق عليهم بالعطايا والرتب، وتكون حياتهم بنسق عسكري ومهنتهم الوحيدة هي الحرب.
مع مرور الوقت تغولت قوتهم وسطوتهم وباتوا قوة كاسحة يحسب لها ألف حساب داخل الدولة العثمانية ، وراحوا يتدخلون في شؤون السلطة ويزجون أنفسهم في السياسة العليا لها، مما ارهب الخليفة العثماني، فقرر السلطان محمود الثاني في حزيران من عام 1826 القضاء على تمردهم والتخلص منهم، فأبيدوا بمعركة سميت بواقعة الخيرية، ألغي إثرها نظام تجنيد الانكشارية.
قامت فكرة تجنيد الأطفال على مبدأ تنشئة أجيال تتوارث ثقافة العنف وتتشرب بنمط من التعامل الاجتماعي المشحون بالقسوة والسلوك الإجرامي. فعملية اختطاف الأطفال من قبل تنظيم داعش و تدريبهم و زجهم في عمليات القتل وخوض المعارك. ما كانت لتعني عند قادة التنظيم ولا يجدون فيها ما يخدش الحياء أو الضمير الإنساني، وهم غير معنيين بالمواثيق والعهود وأطر القوانين والأعراف الدولية الخاصة بحماية الأطفال، و ضرورة إبعادهم عن مناطق النزاع. بل كان التنظيم يجهد لخلق جيل من المقاتلين قساة لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم، تعدم لديهم المشاعر والعواطف الإنسانية لكثرة ما يشاهدونه من فضائع قتل وسفك دماء، لترسخ في أذهانهم  بعد كل تلك الوقائع المرعبة، مشاعر العدوانية والرغبة الدائمة بارتكاب الجريمة، والتلذذ برؤية الدم لطمأنة النفس بوجودها وبقائها وتعاليها على الآخرين، وفي الوقت نفسه طمأنة عوامل الخوف الكامنة بالنفس من الأخر الذي يشكل تهديدا دائما، لتكون النتائج المستقبلية نشوء جيل من وحوش كاسرة لا هم لها أو لا علاقة لها بالبشر الأسوياء سوى تركيبة الجسد الخارجية.
احتسبت داعش عند الكثيرين بناءً على طبيعة مناهجها الفكرية أو أيدلوجيتها الدينية على بعض المذاهب الإسلامية السنية، وبدورها دائما ما كانت ولازالت تروج إعلاميا عن
علاقة وطيدة تربطها بالسنة النبوية المحمدية، لا بل يصر قادتها على أن فكرهم يتماثل بجميع حيثياته مع السنن التي جاء بها القرآن والنبي محمد، حتى وإن أنكر الآخرون عليها ذلك.
دائما ما راودت فكرة استغلال الأطفال وزجهم في النازعات والحروب عقول البعض من الأحزاب والسياسيين والحكام الدكتاتوريين وشاهدنا ذلك بأسطع صوره على عهد الزعيم الايطالي الفاشي بينيتو آندريا موسليني وحليفه الزعيم النازي أدولف هتلر. ولم تكن الرؤية في بناء جيل من القساة والقتلة لزجهم في المعارك السياسية، لبعيدة عن مناهج وأفكار حزب البعث،فعلى نمط هذه التعاليم ولأجل أن يعتاد الطفل على سلوك القسوة والقوة والجرأة وينزع عن فؤاده الخوف، وضعت سلطة الدكتاتور صدام حسين لمجاميع الأطفال من الذين أطلقت عليهم تسمية طلائع البعث، قواعد تدريب تشمل تعلم فنون القتال واستخدام السلاح. ثم طبق إثر ذلك نهجٌ جديدٌ في جميع مدارس العراق أثناء وبعد حرب الخليج الأولى، حيث يرافق رفع العلم في اليوم الدراسي الأول من كل أسبوع إطلاق رصاص من بندقية كلاشنكوف، والغرض من ذلك، وحسب فهم قيادة الحزب ، جعل الطلاب يعتادون سماع دوي الإطلاقات النارية وعندها تقوى عزائمهم وتذهب عن قلوبهم الرهبة، ويكونون دائما على استعداد لمواجهة أعداء الثورة والحزب. أما الطفولة والسلام والأمن فليس لها في الحسبان مكان، ولن تكون كوابح أمام هذا الهوس المجنون، وغير معنية بالخسارات القادمة في مستقبل تلك الأجيال، لابل تتقدم في أهميتها لتكون حاضرة  في خيال صناع القرار حول ضرورة الاستعداد لمواجهة العدو المفترض .
للوقوف بالضد من هذا العمل المشين الذي ارتكبته داعش وقبلها سلطة حزب البعث بتوظيف الأطفال وزجهم في النزاعات، أقامت الحكومة العراقية على عهد رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي يوم 15 من شهر حزيران في العام 2015 في بغداد مؤتمرا تحت شعار مناهضة تجنيد الأطفال وزجهم في العمليات العسكرية، وقد ألقى السيد العبادي كلمة في ذلك المؤتمر، أعتبر فيها ما تقوم به داعش بحق الأطفال، جرائم ضد الإنسانية، ولم تراع في عملها هذا القيم والأعراف الدولية بعدم استغلال الأطفال في العمليات العسكرية. وبدوره حذر وزير العمل والشؤون الاجتماعية السيد محمد شياع السوداني ( رئيس الوزراء الحالي) من مخاطر وانعكاس تجنيد الأطفال وانخراطهم في المعارك، على مستقبل الأجيال في المنطقة والعراق بالذات، مؤكدا على أن هذه الأعمال خارج الأطر القانونية الإنسانية، ومنافية للمعاهدات الدولية. وصدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات من ضمنها اعتبار ما تقوم به داعش ضربا من عمليات وجرائم إبادة ضد الإنسانية، ودعت التوصيات أيضا إلى وضع مزيد من التدابير التي تسهم في حماية الأطفال والحد من استغلالهم من قبل العناصر الإرهابية وضرورة تبني نهج التثقيف والتعليم في إطار التعايش السلمي ونشر قيم المحبة والسلام.
جاء المؤتمر وقتذاك التفاته نبيلة وشجاعة من الحكومة العراقية لكشف خطر وجريمة إشراك الأطفال في النزاعات وزجهم في مواقف مشحونة بالعنف والقسوة ومناظر الدم . وقدم المؤتمر توصيات للسلطة التشريعية بإصدار قانون يحد أو يمنع مثل هذه الممارسات المضرة بحياة الطفل. وكان من المؤمل أن تنفذ توصيات المؤتمر بإيجاد أرضية جادة لوضع أسس تشريعات قانونية لتعامل حقيقي يضمن الحفاظ على حياة الأطفال ويبعدهم كليا عن عوامل ومواقع الصراع ويبعد عنهم جميع أنواع العنف والقسوة، ويتم إرساء اطر
عامة بتدابير علمية عقلانية، تمكن الطفل من العيش بحياة سوية، يتمتع فيها بحماية خاصة
تتيح نموه البدني والعقلي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما، وأن تكون مصلحته في مقدمة الاعتبارات في سن القوانين والتشريعات. ومنحه فرصة ضبط الانفعالات وتنمية مواهبه وقدراته وميوله واتجاهاته السلمية الحضرية بعيدا عن الغل والكراهية.
 ولكن ما حدث منذ عهد المؤتمر ولحد الآن جاء عكس هذا، لا بل بالضد من ما أعلن في المؤتمر، حين ظهرت في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي أفلام يظهر فيها رجال دين وقادة فصائل وحتى تربويون، يشرفون على تدريب مجاميع من الأطفال على السلاح، استعدادا لزجهم وتهيئتهم لمعارك ربما تندلع مستقبلا مع خصوم للطائفة أو بسبب صراع سياسي. وأخذت تنتشر وفي العديد من مدن العراق ، تجمعات  منظمة كانت أم عشوائية، يزج فيها الصبيان دون السن القانوني للتدريب على حمل السلاح، دون اعتبارات أخلاقية وإنسانية،وبعيدا عن أي علاقة بالعهود والمواثيق المناهضة لتجنيد الأطفال وزجهم في الحروب.
وفي مشهد أخر أكثر إيلاما وبشاعة، نشاهد الأطفال والصبيان يشاركون بالترغيب كان أو بالإكراه في عمليات تبكيت للذات وتكفير عن ذنوب لاعلاقة لهم فيها، جرت وقائعها في التاريخ البعيد. حيث نشاهد صبيانا وبأعمار متدنية يقومون بممارسة التعذيب الجسدي والنفسي في عمليات جلد وشطب للجسد بالآلات الحادة. وترافق تلك الطقوس إثارة للغرائز العدوانية عبر إخضاع الطفل لعملية إلغاء العقل والذات، والمشاركة في حشد جماهيري يستسيغ مناظر الدم ويألف معها العنف والقسوة. وقد تجاوزت تلك الطقوس في البعض منها حدود العنف المنفلت والوحشية لتشمل تعذيب للأطفال بأعمار لا تتجاوز سنوات الرضاعة، يظهر فيها الأب أو الأم بوجوه باشة وروح رضية وهم يحتضنون أو يرفعون طفلهم المضرج بالدماء دون خوف من رادع أو مساءلة .
 في تلك المشاهد المؤلمة لا بل المفزعة يتعرض الطفل إلى عملية ممنهجة لتنشئته وفق سياقات ذات طابع خاص يتم فيها تطويعه نفسيا وجسديا، ليكون جزءا من مجموع غاضب منفعل متوتر ومتطوع دائم للهجوم والوقوف كخصم وند لعدو افتراضي أو حقيقي للطائفة أو الجماعة. وكل ذلك يجري كنشاط مدروس ومعد بعيدا عن مساءلة أو منع من أي جهة سلطوية كانت أم دينية أو مجتمعية.ولم نشاهد أي اهتمام حكومي أو مجتمعي فاعل، يقف بوجه تلك الهمجية التي تغولت ممارساتها اجتماعيا ودينيا، مع شح ظاهر لا بل معدوم في مناهج وتعاليم وسلوك تشاركي مجتمعي يحاول إبعاد هؤلاء الأطفال عن مثل تلك التجمعات الانفعالية المضرة والمسيئة للطفولة ومنع مستغليهم من ممارسة تلك الافعال البعيدة عن روح الإنسانية ومفاهيم التحضر والعقلانية.
ومن الواجب على السلطة وصناع القرار السياسي والديني والمجتمعي والتربوي خلق فرص تبعد الأطفال كليا عن العنف واستخدام الألفاظ القاسية والتطير وروح القسوة، وتعمل على  تغذيتهم بثقافة السلم المجتمعي وزجهم في التعليم النافع وتدريبهم على الثقة بالنفس والقدرة على فعل الخير والحرية في أبداء الرأي ومنحهم مشاعر الأمان والطمأنينة وتدريبهم  على المشاركة الفاعلة بالحياة الحضارية والقبول بالخلاف الفكري.لتكون تراتيبية المجتمع ناجحة في وضع سليم ومعافى يحبذ روح التفاهم وحرية الرأي ويبحث بشكل دائم عن خيارات السلام ويستنكر أساليب العنف والقسوة في حل المشاكل والعقد المجتمعية والسياسية. 

   



14
  " هارب من الإعدام "
ذاكرة شيوعي بين الموصل وموسكو
فرات المحسن
من ضمن إصدارات مكتبة النهضة العربية  صدر في بغداد كتاب بعنوان " هارب من الإعدام "  بالقطع الكبير وبعدد صفحات بلغت 437 وزعت على خمسة فصول  ومجموعة من الصور التوثيقية.  قدم للكتاب بمقدمة وشرح مسهب المرحوم الدكتور كاظم حبيب.
الكتاب بفصوله الخمسة، سفر مفعم بالحيوية والغنى المعرفي والمعلومة القيمة.
يحتوي الكتاب على سيرة ذاتية للدكتور خليل عبد العزيز، ومن خلال هذه السيرة، يوثق الدكتور خليل بذاكرته الحية اليقظة الكثير من الأحداث. حيث نشأ في الموصل وعاصر منذ طفولته الكثير من وقائع جرت على أديم أرض تلك المدينة المعطاء. وقادته مشاركاته في تلك الأحداث إلى حافة الإعدام بعد أن كان واحدا من قادة  الحركة المضادة لمؤامرة العقيد الشواف،مما اضطر الحزب الشيوعي لاتخاذ قرار بتهريبه إلى موسكو ، لتبدأ برحلته تلك فصول مرحلة جديدة بالغة الأهمية مليئة بالأحداث والصراعات والتقاطعات، حيث ابتدأت بتوتر العلاقة مع حزبه بسبب عناده وعصاميته ورغبته بالدراسة في موقع غير ما اختاره الحزب له.
خلال وجوده في الاتحاد السوفيتي عاصر الدكتور خليل أغلب قيادات الحزب الشيوعي العراقي ورافقهم في الكثير من مراحل وجودهم هناك على عهد الشهيد سلام عادل ومن ثم الرفيق عزيز محمد وباقي قيادة وكوادر ح ش ع.
أكمل الدراسة في كلية الصحافة وعمل خلال تلك الفترة في الصحافة السوفيتية مثل صحيفة برافدا ووكالة أنباء نوفوستي وغيرهما. ومن ثم توجه إلى القاهرة للإعداد لشهادة الدكتوراه في أطروحة عن الصحافة المصرية. وخلال تلك الفترة أقام علاقات كثيرة سمحت له بالاطلاع على وقائع الأحداث والخلافات التي شابت علاقات القوى السياسية هناك ومن بعضها الضغوط التي تعرض لها الحزب الشيوعي المصري خلال فترة تشكيل الاتحاد الاشتراكي، ليعود بعدها إلى موسكو  .
نيله الدكتوراه أهله ليكون موظفا في واحد من أهم مراكز البحث والقرار في موسكو. فقد نال إعجاب بابا جان غفوروف الرئيس التنفيذي لمعهد الاستشراق، الذي  وجد في الدكتور عبد العزيز  سمات جيدة وتفكير سليم إضافة للنشاط والجدية ،والتي تؤهله ليكون موظفا في المعهد. ويعد هذا المعهد على عهد السوفيتات أحد أهم مراكز الاستشارة والدراسات ذات التأثير الفاعل فيما تتخذه السلطة السوفيتية من قرارات . ومن خلال مركزه في معهد الاستشراق استطاع الدكتور عبد العزيز الحصول على كم هائل من المعلومة والاطلاع على أسرار وخفايا السياسة السوفيتية والعلاقات الدولية.فكان شاهدا حيا على الكثير من الوقائع والمباحثات وشارك بالعديد من النقاشات والبحوث التي كانت تعد أو تطرح في عموم المقابلات واللقاءات والدراسات داخل البعض من أروقة السلطة السوفيتية أو في اللقاءات بين الحزب الشيوعي السوفيتي وباقي الأحزاب العربية وغير العربية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي.
 وبسبب قدراته واجتهاده وحيويته، اقترب كثيرا من شخصيات سياسية سوفيتية ودولية، وسنحت له الفرصة اللقاء بهم ومحاورتهم لغرض التحقيقات الصحفية أو لغرض إجراء حوارات شخصية .ورافق العديد منهم، وبات شاهدا على الكثير من الحوادث والأسرار الخاصة بتلك الشخصيات
وصل الدكتور خليل عبد العزيز إلى موسكو على عهد قيادة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي نيكيتا خروتشوف وعاصر أيضا قيادة ليونيد برجنيف ومن ثم يوري أندروبوف وقسطنطين تشيرينتكو وأخيرا ميخائيل غرباتشوف. ولم تنقطع علاقته بموسكو حتى بعد خروجه منها وذهابه إلى اليمن الديمقراطي كمستشار للأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل، ثم خروجه من اليمن بعد الأحداث الكبيرة التي حدثت هناك وسفره إلى ألمانيا الديمقراطية ثم وصوله إلى السويد.
كان عهد السوفيتات عهدا له طابعه وسماته الخاصة. فكان ذلك الكيان القوي  باشراقاته وجاذبيته يتمتع بمكانة كبيرة عند الملايين من البشر في جميع أنحاء الكون، وكان تأثيره شديدا لدرجة استحوذ على العقول والأفئدة، وصل في بعضها حد القدسية،  وبات ينظر له كقوة ولدت لتكون المنقذ والمخلص للبشرية من لوثات لطخت وجه العالم جراء ما أحدثته حروب الرأسمالية من بشاعات. وبات الطريق الاشتراكي الذي سلكه الاتحاد السوفيتي يستهوي شعوبا بكاملها، وعممت صور باذخة عن حياة الرخاء والسعادة والطمأنينة التي تغمر حياة شعوبه ودوله، الممتدة على رقعة كانت تستحوذ على ما يقارب سدس المساحة الإجمالية للكرة الأرضية. وكانت رسالته إلى العالم تحث على تحولات عظيمة في الحياة الروحية والاجتماعية والاقتصادية لعموم البشرية، رسالة الاشتراكية بتطبيق النموذج اللينيني للماركسية . استمر هذا الكيان العظيم يرفد البشرية بالعديد من الابتكارات والأفكار والتقنيات، ويقدم الدعم والتأييد للكثير من الدول وحركات التحرر الوطني وقواها السياسية.
ولم يفت الدكتور خليل عبد العزيز أن يؤشر ويكشف في كتابه ( هارب من الإعدام ) العديد من الظواهر التي واجهها خلال وجوده هناك، فتطرق لطبيعة الدراسة في الجامعات وما حوت من وقائع بعضها كان يبدو سلبيا وغير منطقي. أيضا تحدث عن مجريات ودراسات وبحوث ووقائع عمل في معهد الاستشراق. وتناول أيضا الإعلام والصحافة السوفيتية ،كذلك سياسة ح ش سوفيتي وعلاقته بالأحزاب الشيوعية العربية ، ومآل شعار الصداقة بين الشعوب الذي طرحه لينين بداية الثورة البلشفية،وعن  الإنتاج الصناعي والزراعي ومشاكله، والانهيار الذي تعرض له اقتصاد الاتحاد جراء التلاعب والسرقات والتمويه والبيروقراطية، وأبدى رأيه في أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي وسلط الضوء على الكثير من الوقائع السياسية فاضحا اسبابها وأيضا من خلالها العديد من المواقف والسياسات الخاطئة التي كانت تنخر في عمق الاتحاد وتدفع به نحو الهاوية.
أشر الدكتور عبد العزيز في كتابه بصدق وقوة ما كان يعتري الاتحاد السوفيتي من علل ومشاكل منها البيروقراطية والفساد والانتهازية والصراع داخل القيادات على المناصب والاستحواذ على المال العام وغيرها من الخطايا والموبقات. ومثل هذه المساوئ جرفت بعيدا نحو الخلف القيم الخلاقة لروح الشيوعية والمبادئ التي سبق وتبناها الحزب الشيوعي ورسختها الدولة في بداية النشوء، ومن خلال دستور ومواثيق الاتحاد.
تلك التشوهات أدت في النهاية إلى سيطرة امن الدولة    KGB   على مقدرات الاتحاد  وبات هذا الجهاز السياسي والأمني، الحاكم والقائد الفعلي لمفاصل الدولة، بل أصبح يتدخل بشكل سافر في أدق تفاصيل الحياة العامة والخاصة لأفراد الشعوب الاتحادية. ومع كل هذه التحولات أصبح نظام الحكم قمعيا كابحا للحريات. ووفق  راية وشعار دكتاتورية البروليتاريا حسم أمر الحياة السياسية بغلق جميع المنافذ بوجه أي معارضة أو ترويج لأفكار. وأبعد وغيب الكثير من المعترضين أصحاب الأصوات التي كانت تفصح عن آرائها أو تطالب بالإصلاح وتنتقد بعض السياسات.
كل تلك العيوب والإخفاقات قادت في النهاية إلى الزلزال الذي هز العالم وليس فقط الاتحاد السوفيتي، حيث انهار البناء وانفرطت تلك الكتلة التي شيدت على أسس الفكر والروابط الاشتراكية الشيوعية .ومع انهياره تبدلت الكثير من قواعد وعقد السياسة في العلاقات الدولية  .
كتاب هارب من الإعدام  سجل حي لذاكرة الشيوعي المخضرم الدكتور خليل عبد العزيز، يمثل إضافة نوعية مهمة ورائدة للمكتبة العربية، و سفر مشوق يوثق واحدة من أهم مفاصل تاريخ ليس فقط الاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية وإنما يلج ويغربل البعض من العلاقات الدولية ومجرياتها بأبعادها الغريبة والحيوية والصادمة أيضا.
 

15
موديل أمريكا اللاتينية مازال خيار البنتاغون المفضل.
فرات المحسن
البرازيل ذات الأمجاد الكروية والعمارات الشاهقة والتمثال الضخم للسيد المسيح الشامخ فوق أعلى ربوة تطل على العاصمة ريو دي جانيرو. البرازيل الجمال الخلاب في التنوع الجغرافي والمظاهر السياحية، واحتفالات البهرجة الجسدية واللونية بمختلف تجلياتها وألوانها. البرازيل تتفوق على الكثير من دول العالم في وفرة السماسرة لكل شيء ولأجل أي شيء، مثلما هي الأكثر في تنوع الحريات والصخب والشجار الضاج في الحارات والشوارع، وكذلك في وسائل الإعلام من صحف ومحطات تلفزيون، ومن أكثر شوارع العالم تنوعا في نماذج الدعارة والبغاء والمخدرات وجرائم القتل.هذا هو الوجه المليء بالمساحيق والألوان الفاقعة والهادئة، الذي يمثل صراع الأضداد في أكبر وأغنى بلد في أمريكا اللاتينية.
ولكن الأهم من كل ذلك، البلد يملك كومة كبيرة من الأغنياء ذوي الثراء المفرط، وفي ذات الوقت متخوم بوفرة عالية من الفقراء والمعوزين، أو الذين يعيشون على هامش الحياة، ويسكنون في مدن الصفيح الراقدة على مرمى حجر من أرقى الأحياء وأغناها.هذا المشهد لا يختلف بتفاصيله عن وقائع الحياة اليومية التي تعيشها شعوب عديدة أخرى في أمريكا الجنوبية. ومثلما البرازيل فأن تلك البلدان قد مرت بذات الدورة التي أرادتها لها الإدارة الأمريكية، حين قررت تنفيذ موديل خاص  لتلك الشعوب.
جهد عساكر انقلاب عام 1964 في البرازيل وحلفائهم من إداريي الشركات الأمريكية ومرتزقتها الوطنيين، على صناعة الموديل الذي يستطيع أن يقود السلطة ببراعة وقناعة ثابتة، توحي بالاستقرار الظاهر وفي ذات الوقت تقدم ما يطمئن مصالح الشركات وعصابات المافيا والمرتزقة الملتحقين بركبها. لقد كانت عملية البناء مكلفة وصعبة جدا وقدمت لأجلها الكثير من التضحيات المادية والبشرية. ولكن مردوداتها المعنوية والمادية لصالح القوى الرأسمالية أظهرت جدوى ما بذل من أجل بناء مثل هذا الموديل.
ربما ذات العنوان المدون فوق وجه ملف مشروع موديل أمريكا اللاتينية، هو ذات الاسم الذي أطلقته الإدارة الأمريكية على المشروع المخصص لمنطقة الشرق الأوسط، وبذات المواصفات ولكن مع اسم محدد (مشروع دمقرطة المنطقة  ) وبتحويرات تتناسب وخصوصيات الشرق. تشابه عجيب يأتي من جعبة واحدة ربما ترقد فيها مشاريع مستنسخة لمناطق أخرى مختارة من العالم.
 مع مرور الوقت والاكتشافات المشجعة للمصالح والتي صاحبت تطبيقاته، جعل الخيار يستقر على تسمية( موديل أمريكا اللاتينية ) كونه نفذ ونجح نجاحا باهرا في الكثير من بلدان قارة أمريكا الجنوبية، بدأً من البرازيل وشيلي وليس انتهاءً ببيرو وبوليفيا وكولومبيا والأكوادور وغيرها. وكانت دوافع تسريع إجراءات تنفيذ الموديل على أرض الواقع
حينذاك، هي الخوف من انتشار ما سمي بجرثومة الشيوعية .حيث انتابت الولايات المتحدة والشركات الكبرى الساندة لسياساتها، جراءها هستريا تحولت مع الوقت إلى عصاب وهوس مجنون،باعتبار أمريكا اللاتينية ذات أهمية حاسمة ومنطقة ذات بعد استراتيجي حيوي لا يمكن التفريط بها، لذا فقد وضعت وفق ذلك خطط وبرامج لمحاصرة المد الشيوعي من خلال الهجوم لتدمير ليس فقط مناطق وبؤر الحركات اليسارية وإنما محاصرة شعوب أمريكا اللاتينية والضغط عليها بالقدر الذي يجعلها أكثر طواعية لمصالح الولايات المتحدة ومن ضمنها مصالح الشركات.
استغلت الروابط الاقتصادية كأفضل نهج يتخذ لخنق أي انحراف عن الطريق، واستخدمت لذلك الهدف جميع وسائل وأسلحة الخسة لدحر التفكير بالاستقلال أو الشروع بالتحرر أو بناء الدولة الوطنية.وبفضل العملاء والمرتزقة من العسكر عمت بلدان أمريكا اللاتينية موجة متعاقبة من انقلابات عسكرية دموية.ولكي تكتمل المهمة فأن طرق الإعداد كانت توجب الاعتماد على إجراءات حاسمة ودقيقة تبدأ أولا بوضع العربة على سكة طريق التنمية الرأسمالية وفق توجيهات صندوق النقد الدولي، الذي يضع في مقدمة شروطه غير القابلة للنقاش، وجوب نهج سياسة إصلاح هياكل الاقتصاد لتتوافق وخطط الصندوق الدولية وحرية التجارة. وهذا لوحده لا يكفي، وإنما البرامج التي ظهرت بعد كل تلك الانقلابات كانت تؤكد على رغبة جامحة لدى الإدارة الأمريكية وحلفائها الوطنيين لوضع الدولة ومؤسساتها بين فكي كماشة القوة المتمثلة بالعسكر والنفوذ المالي المتمثل بالشركات المسيطرة على الاقتصاد الوطني، لذا فقد كان برنامج الإدارة الأمريكية متشابهاً في جميع بلدان أمريكا الجنوبية وبذات الخطوات ، وأتي مباشرة بعد كل انقلاب قام به العسكر في تلك البلدان، ولم يراعِ في التطبيق أي اختلاف في الخصوصيات الوطنية لشعوب المنطقة بالقدر الذي روعي نمط الإجراءات ونسق الأفعال وتدقيق النتائج المرتقبة ومن ثم تطويرها أو تشديدها لتكون أكثر فاعلية وايجابية لمصالح الولايات المتحدة.
نص المشروع أو الموديل على عدة محاور تتفرع عنها العديد من النقاط الحاسمة التي تنتهي إلى ذات الغاية وهي السيطرة الكاملة على البلد وجعله ضمن خارطة البلدان المنخرطة في خدمة الرأسمالية.  وتمثل الجزء الأعظم للموديل بما يلي
ـ دمج الاقتصاد الوطني بالرأسمال العالمي عبر تصحيح هياكله من خلال إرشادات وشروط تقنية ومعونات مشروطة تأتي من صندوق النقد الدولي، ومن ثم يتم وضع الاقتصاد تحت رحمة الشركات الكبيرة العابرة للقارات.وهذا التوجه سوف يفرز وبشكل ناجز زيادة هائلة بأسعار المواد ـ بطالة واسعة ـ ـ تقليص حجم صادرات البلد ـ تفشي الرشوة والمحسوبية وسرقة المال العام والفساد الإداري واستغلال الموقع الوظيفي كوسيلة للنهب والإثراء.وتكون نتائج كل تلك المساوئ خراب هياكل مؤسسات الدولة وصراعات اجتماعية اقتصادية كبيرة.
 
ـ إعادة هيكلة الجيوش وربط مؤسساتها بالجيش الأمريكي حيث يشمل ذلك التحكم بإمدادات السلاح ومهام التدريب والخطط العسكرية ومن ثم وضع الجيش كمعادل مهم وأداة في السياسة والاقتصاد واليد الساندة لسياسة الشركات الاحتكارية.
ـ السماح بتشكيل مليشيات تنشأ من رحمها عصابات (مافيات ) سياسية اقتصادية عسكرية تكون مهامها قيادة مؤسسات الدولة وتسيير الشؤون العامة للمجتمع وحركاته السياسية والاجتماعية. ومن خلال تلك العصابات تتحول حتى عمليات التسول والسرقات والتصفيات الجسدية وبيع المخدرات والأدوية وتجارة الرقيق والدعارة، وجميع الأعمال غير القانونية وغيرها إلى مهن ينخرط للعمل فيها الآلاف من البشر ومن ثم تصبح مصدر الرزق الوحيد لهم. ليصبح الفساد والعصابات بمختلف أنواعها جزء من بنية المجتمع.
تتخذ السلطات إجراءات ظاهرها يطمئن المواطن ويخفف من حدة وغلواء معارضته.وأولى تلك الخطوات تتمثل في فوضى الحرية أو حرية الفوضى (الفوضى الخلاقة حسب التعبير الرامسفيلدي ) حيث يسمح للناس بممارسة مختلف الأفعال التي كانت السلطات السابقة تمنعهم من ممارستها، من مثل الحرية المطلقة للصحافة وإصدار النشرات وتشكيل الجمعيات والفعاليات بمختلف اتجاهاتها وتنوعها، الخروج بالتظاهرات والاعتراض على أي شيء. فتح محطات إذاعة و تلفزيون دون شروط أو رقابة، حرية السوق والمنافسة الاقتصادية، تخفيف إجراءات القضاء والأحكام ضد الجرائم بمختلف أنواعها وطبيعتها، تشجيع الحوارات والنقاشات بشتى المواضيع.
تعد الإدارة الأمريكية تلك الإجراءات والحريات وغيرها، الباب المفضي لخلق قاعدة اجتماعية سياسية اقتصادية تدين في الأخير بالولاء المطلق لمشروعها، حيث تفرز وتنتقى خلال تلك الإجراءات، مجاميع من المرتهنين والمتورطين الذين يشكلون في النهاية عصب الإدارة التي تأخذ على عاتقها حماية المنجزات والمكتسبات التي نفذت لصالح المشروع الأمريكي.وبالرغم مما يرافق تلك الإجراءات من فوضى وخروقات فجة لحقوق الإنسان وقسوة وجرائم، فإن الإدارة الأمريكية تصر على رفض التدخل الحكومي للحد من تلك الحريات وضبط المنفلت منها ولجم المساوئ التي ترافقها. لا بل تكون تلك الخروقات والتعديات في أخر السلم من اهتمامات الإدارة الأمريكية.
وبالرغم من جميع مظاهر الديمقراطية المتمثلة بحرية الصحافة والتظاهر وغيرها من الحريات، فان حصاد الفساد الذي خلفته وولدته طبيعة الموديل الذي أرادته الإدارة الأمريكية لشعوب أمريكا الجنوبية،ووضعت له ميكانيزم خاص، يبدو مفزعا وغير قابل للتصحيح ،لا بل يحتاج إلى قفزات واسعة وكبيرة وفاعلة في النشاط الوطني، ويحتاج تضحيات هائلة لتجاوز الواقع المتردي والمرير.
في المحصلة النهائية وضعت الإدارة الأمريكية ما يكفي من الألغام في الطريق ولذا فإنها أطمئنت لمستقبل الإحداث القادمة حتى وإن أسفرت الانتخابات عن مجيء شخصيات وطنية معادية لنهج الشركات والإدارة الأمريكية. فكومة المشاكل الداخلية سياسية كانت أم اقتصادية سوف تجعل تلك الشخصيات المنتخبة تتخبط في طرق إدارتها ومعالجاتها للمشاكل وتجد نفسها في نهاية المطاف محاصرة من قبل عتاة الشيطنة السياسية من المرتزقة، ووسط هياكل مؤسسات حكومية فاسدة ومافيات تدير شؤون البلاد والعباد، وفي النهاية ففترة رئاسة تلك الشخصيات الوطنية سوف تكون صراعا لا ينجز فيه غير الشحيح الذي لا يلبي أبسط الطموحات للشعب.
 
 


16
هل التدمير الذاتي المهمة الأنسب لشعوب الشرق؟

فرات المحسن
في حديث لجوزيب بوريل الممثل السامي للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوربي يذكر "إن أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال، لذا فمن الضرورة أن يقوم أصحاب الحديقة بحمايتها من زحف الأدغال".
رغم التجاذبات والخلافات التي حدثت داخل أوساط القادة السياسيين في الولايات المتحدة حول طبيعة الثورة الإيرانية وما رافقتها من أحداث قبل وبعد وقوعها، وعن الكيفيات الموجبة للتعامل معها كمنجز أربك بوصلة الكثير من قواعد العمل والتراكيب السياسية والاقتصادية، ليس فقط على مستوى بلد مهم ومحوري مثل إيران، وإنما في عموم الشرق، إن لم يكن العالم.
تلك الثورة ببرنامجها المذهبي ومعاييرها الدينية، قدمت صورة كانت تناسب مزاج ورغبات بعض الساسة الأمريكان، حيث اعتبرت في أيامها الأولى، جزءاً مهما يتواءم ونظرية القوس أو الحزام الإسلامي الذي يجب أن يُفعل ليحيط الاتحاد السوفيتي من الجنوب، وعندها يصبح عاملا رئيسيا في تسريع تفكك أو سقوط الاتحاد السوفيتي. تلك الرؤية أو النظرية السياسية كان قد وضع رؤاها البروفيسور زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي على عهد الرئيس جيمي كارتر.وقد بنى رؤيته هذه على قاعدة وجود الاختلافات الثقافية والعرقية، ولكن الأهم ويتقدم كل ذلك استخدام الدين كمحرض في مواجهة الشيوعية وسلطة السوفياتات. فهناك وحسب المعلومات الاستخباراتية، توجد أرضية مناسبة للتحريض الديني بين أوساط شعوب الحزام الإسلامي الممتد جنوبي الاتحاد السوفيتي والمتكون من الجمهوريات الآسيوية ذات الغالبية الإسلامية وهي أذربيجان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان وقيرغيزستان. وهذا العامل التحريضي كان مقدرا له في حينه، أن يلعب الدور الأكثر إيلاما لسلطة الاتحاد السوفيتي.
ما حدث في إيران بعد سيطرة الأمام الخميني على مقاليد السلطة غير من طبيعة التخندقات وضرب عمق الرؤية الأمريكية للأحداث. فتغيرات دراماتيكية حدثت مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وتصاعدت معها نبرة الخطاب الديني المتشدد عند رجال الثورة، وظهرت فكرة جادة تدعو لتصديرها بمفاهيمها المذهبية إلى باقي شعوب المنطقة، ورافق كل ذلك ارتفاع وتيرة التحريض ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين. وبات معه رجال الدين في إيران يشكلون خطرا حقيقيا على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط والخليج منه، لذا دفعت تلك البلدان حليفها صدام حسين ليقوم بهجومه العسكري انتقاما من موقف إيران العدائي للغرب وسياساتها العدوانية ضد إسرائيل، وسميت تلك الحرب المجنونة التي دامت أكثر من ثماني سنوات بحرب الخليج الأولى، خسر فيها الجانبان ما يقارب المليونين من البشر بين قتيل وجريح ومعوق ومفقود.
وقائع حرب الخليج الأولى بمجمل تداعياتها، أثارت مواقف ملتبسة وخلقت نعرات وتخندقات خطيرة في المنطقة، تصاعدت معها حدة الخلافات المذهبية وظهرت بمواجهة التطرف الإيراني ومحاولات تصدير مفاهيم الثورة وأفكار الأمام الخميني، ما يقابلها من ردود فعل موازية ومقابلة لها، تمثلت بتصاعد نبرة التيارات السلفية وتنامي مظاهر التدين السني، وارتفاع أنجم الأخوان المسلمين وأتباع المذهب الوهابي، ورافق ردة الفعل هذه رفع شعار الإسلام هو الحل، أي الرجوع إلى فطرة الدين وسيرة السلف الأول من الخلفاء الراشدين والصحابة، والسير وفق تعاليم الفقهاء من مثل ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب وحسن البنا وغيرهم.
دائما ما شكل الصراع المذهبي أحد أكثر العوامل تعقيدا ولبساً في الشرق الأوسط، ولا ينحصر هذا الصراع بين أوساط المذاهب والملل الإسلامية، بل يمتد ليشمل باقي الديانات الأخرى، ونجد هذا الخلاف والخصومة والطعون وحتى قتل الآخر المخالف للعقيدة، موجود أيضا بين أوساط الطائفة الواحدة.
ففي المجتمعات الشرقية يقحم الدين في كل شيء ومن أجل أي شيء. فالدين يمثل العامل الحاسم في الكثير من الحراك المجتمعي. وبقدر ما يحمل من تناقضات ويخضع للتأويل والاجتهاد، نجده يدخل بضراوة في باب القدرة على شحن الخصومات وتغذية الفرقة والاختلاف، بما تفرضه طبيعة التزمت والتخندق والمغالاة، الذي تولده رؤية الطائفة لمذهبها، كحقيقة وحيدة مسلم بها وغير قابلة للنقاش، وان ما حولها من مذاهب وفرق، يشكلون بالأساس مجاميع مختلقة ومختلفة، تعمل بالضد منها، وتسعى لتدميرها ومعتقدها. وتشارك في تلك الجهود لتصعيد الشحن الطائفي، وسائل إعلام ومؤسسات سلطوية وسياسية ودينية، عبر التحريض والحض على مواجهة وتخوين الفكر الآخر، والدفع بكراهيته وتسفيه مفاهيمه ورؤاه مهما كانت طبيعتها.
وسائل تخوين الآخر واستعداء الطوائف على بعضها والدعوة للكراهية وقتل أو عزل مخالفي الرأي، تمتد جذورها عميقا في تأريخ المنطقة، وتستقر في وعي الكثير من الجماعات، وتكون عند بعض المجاميع من المتطرفين، بديهيات ومسلمات لا مبرر في الغالب لمناقشتها أو التمويه عليها أو الخجل منها، ومن الصعوبة بمكان أن تخرج هذه الجماعات عن هذه القوالب والقواعد والأعراف. فالعديد من ثقافة الإفتاء والاجتهاد تقدم وبشكل ناجز ما تحتاج له تلك المجتمعات من ذرائع لرفع حدة الحقد المذهبي والخصومة مع الآخرين من غير أبناء الملة، والجميع يتخندقون بطائفتهم وعائدية مقولة الفرقة الناجية الوحيدة، والباقون ذاهبون إلى جهنم، ليصبح الخطاب الطائفي خطابا شعبويا تعبويا يتغلغل في روح ووجدان الكثير من بؤساء الطوائف المتناحرة.
تلك الحقائق على الأرض لم تكن لتغيب عن بال العاملين في حقول الدراسات الستراتيجية لبعض الأقطاب من الرأسماليين والصهيونية العالمية، ودائما ما كانت محورا لبحوث مطولة، وخلال فترات زمنية مختلفة، وظهرت للعلن الكثير من تلك الرؤى والبحوث، وبالذات فيما يخص طبيعة الصراع المذهبي في عموم الشرق، والكيفيات التي تدير المؤسسات الدينية صراعاتها بالضد من خصومها المفترضين. كذلك اجتهدت تلك الدراسات في البحث عن سير الشخصيات التي تستطيع لعب الأدوار الحاسمة في رفع حدة الصراع وتغذيته، أو العكس، كبحه ووأده، ووضعت في هذا المجال دراسات كثيرة، حول حراك المجتمعات بهيكليتها وتخندقاتها المذهبية وردود فعلها تجاه مجاوريها، خصوما كانوا أو مناصرين، هذه الدراسات قدمت خدمة كبيرة للسياسيين والعسكريين في المعسكر الرأسمالي ساعدتهم على وضع قواعد عمل محددة، تستطيع التأثير وبقوة في مفاصل الحراك المجتمعي، وتلعب وبشكل ناجز أدوار حاسمة لحرف الصراع نحو مواقع مختارة تصب في النهاية لصالح الأهداف العليا ومطامع الدول الرأسمالية والصهيونية.
فالصراع المذهبي دائما ما كان مقدمة مهمة وعاملا حاسما في مشروع تفكيك المنطقة وإعادة تركيب هياكلها السياسية وحتى الجغرافية. ولأهمية وطبيعة المشروع الستراتيجية، كان من الموجب لمعاهد الدراسات الغربية التعمق في تحليل العوامل التي تتحكم بحركة الطوائف والملل، والعمل على استغلال الفطرة الدينية والصراع المذهبي لبناء خططها، اعتمادا على مقولة الاستشراق الغربية، أن شعوبا تمارس العزل الذاتي وتدور دون فكاك في فلك الخصومات المذهبية، وثقافتها تستمد شرعيتها من مقولات رجال الدين، وتعشق التعلق بالماضي والتعكز على ما فعله السلف، وتستطيب لغة التقية والتملق وقلب الحقائق دون تفاعل مع المستقبل، فهي وفي كل الأحوال غير مؤهلة تربويا وفكريا لتكون مجتمعات متحضرة أو حتى تسعى للتحضر، ومأزقها الثقافي والحضاري يجعلها غير قادرة على التكييف مع مستحقات العصر وثقافة التسامح والديمقراطية والحريات المدنية، لذا فمن المناسب أن تخضع لنمط من الإجراءات التي تفسح المجال للرأسمال العالمي لاستغلال وتسخير موارد بلدانها الطبيعية، وقبل هذا فرض نظم وهياكل سياسية تستند في إدارة دولها على تغليب خطاب ديني يحفز ويصعد الصراعات المذهبية داخليا وخارجيا.
ومن هذا وعلى وفق رؤية فاحصة للوقائع على الأرض، عملت الدوائر المخابراتية والعسكرية الغربية على تقديم يد العون والمساعدة في إبعاد الموديل القديم الذي مثلته الدكتاتوريات لإحلال بديل آخر يعتمد تغذية صراعات مجتمعية وخصومات مذهبية وقومية بين مكونات الشعب الواحد أو بين دول الإقليم. وهذا ما أفرزته مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي، حين قلبت الطاولة على صناع الانتفاضة الحقيقيين ووضعت لتلك البلدان والمنطقة خارطة طريق أعدت لبناء شرق أوسط جديد، يكون المشهد فيه صعود قوى جل ثقافتها تتمثل في تذكية الصراع المذهبي مع الآخرين.عندها يكون الصراع الديني والمذهبي العامل المناسب والقوة الأساسية لتدمير شعوب المنطقة لنفسها بنفسها ووضعها في دوامة لا تستطيع الانعتاق منها، وفي الأخير تنحدر نحو التفتت والتشظي إلى كانتونات يمكن إخضاعها والسيطرة عليها كليا.


17


رهانات مشروع الشرق للديمقراطية والتحديث.

فرات المحسن
تعريف لابد منه  " العولمة  ظاهرة عالميّة تسعى إلى تعزيز التكامل بين مجموعة من الأبعاد والمجالات. وهي البعد الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والبيئي. مع بعد خامس أيدلوجي، وهو الذي يخترق الأبعاد الأخرى ويعطيها الصبغة النفعية. وتساهم العولمة في الربط بين القطاعات المحليّة والعالميّة، من خلال تعزيز انتقال الخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال، وتهدف المنظمات والشركات من خلال هذا الانتقال، توسيع عملها ونفوذها ليتحول من محلي إلى عالمي، ومن ثم تحقيق نفوذها الدولي"
مهما بدت ذرائع الإدارة الأمريكية مقنعة في توجهاتها السياسية والاقتصادية الحديثة الموجهة لمنطقة الشرق وبالذات العربي منه، فأن النماذج الناتجة عن سوء التقدير والتوقيت  الخاطئ وازدواجية المعايير وأولويات المصالح الرأسمالية والعنت والإجبار، جميعها  تنمو مسببة الكثير من العوائق في وجه مشروع المستقبل الذي تريد الإدارة الأمريكية أن يكون حربا مدنية وبأسلحة معرفية واقتصادية،  تخرج المنطقة من تخلفها وتزج بها في شبكة العولمة والنظام الرأسمالي المستحدث.
في هذا المنحى فأن الخطر الفادح الذي يواجه المشروع هو الخلط غير المبرر أو التغاضي المتعمد عن الاختلافات الجوهرية والكبيرة بين ما يعنيه (رفض العولمة نفسها أو مقاومة آثارها) بين أوساط المجتمعات الغربية وقريناتها المجتمعات الشرقية .
ففي الوقت الذي تناضل قطاعات وشرائح واسعة من الشعوب الأوربية ضد آثار العولمة وبعض مخرجاتها المتمثلة باللبرالية الجديدة والتي بنيت وفق ديناميات ممنهجة ومتصاعدة أدت لتغيرات كبيرة في البنى الاقتصادية، وبحسب ما تستحدثه من تشريعات  لإزالة القيود والضوابط على التجارة وانتقال رؤوس الأموال . وطالت بتعدياتها الحريات الشخصية والنقابية، والأجور وظروف العمل.
 ولمواجهة كل هذا وبشكل متصاعد تظهر  وبأساليب سلمية حقوقية حركات مقاومة للبرالية الجديدة التي تشرع أحكامها لصالح الشركات، وما ينتج عن ذلك من تداعيات تسعى لتخريب الاقتصاد الوطني. مما دفع الشغيلة  للسعي بجهادية عالية للنضال والعمل لأجل الحفاظ على فرص العمل والضمان الاجتماعي والصحي، وتوفير الدعم المالي الحكومي للضرورات المعيشية، واستمرار المحافظة على إنفاق عالٍ لتأمين بيئة طبيعية نظيفة وصحية ، ومنع الطرد الكيفي من الوظائف، والوقوف بوجه السياسات التدميرية التي تقوم بها البنوك المرتبطة بالمصالح الدولية للشركات عابرة القارات.
ومازالت هذه الاحتجاجات تتصاعد بحدة في العالم الغربي وخاصة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا  من أجل الحفاظ على المكاسب التي نالتها تلك الشعوب عبر نضال تأريخي طويل ، في نفس الوقت الذي تسعى للاستفادة من العولمة باعتبارها عملية موضوعية لا مناص منها، تشمل كافة مناحي الحياة وتفرعاتها العلمية والسياسية والثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وليس هنالك من بين هؤلاء من يدعو لمقاومة العولمة ورفضها بالكامل.
أما في الشرق فالمسألة تأخذ بعدا أخر. فمع المستوى المتدني لمعيشة الشغيلة بتنوع مهنهم ووظائفهم، وشيوع الاستغلال وتفشي البطالة والجهل، والصراعات العرقية والطائفية وتخلف وسائل الإنتاج وسؤ الخدمات، والتوزيع غير العادل للثروات، والثقافة الدينية المغلقة وموروث العادات والتقاليد،  وتشابك وتداخل مفاهيم الدولة بالقبيلة والطائفة والأسرة  وغيرها من المتعلقات القرطوسية .كل ذلك يدفع بشرائح كبيرة في المجتمعات الشرقية نحو رفض العولمة جملة وتفصيلا، والتحصن بواقع يرفض التحديث والاندماج بالعالم الجديد ويصر على محاربتها بالعديد من الوسائل ومنها العنف . وخير دليل على ذلك ظهور الحركات السلفية وعلى رأسها حركة طالبان ومجموعة القاعدة وأبو سياف وداعش والجولاني والخرساني وأمراء المسلمين في الجزائر ومصر وغيرها من الحركات الدينية التي تصر على  إرجاع المجتمع إلى عصور السلف الذي عاش الظهور الأول للإسلام ، وترفع شعار (الدين هو الحل) و (الحاكمية لله ) وفق شروط وضعها الدعاة والملالي، ويتم ذلك عبر الترويج لهذه المفاهيم  وفرضها بالقسر والقوة الغاشمة، ورفض حياة العصر الحديث وأدواته العملية العلمية والمعرفية . وهذا البعد يعتمد نظرية متداولة تحاول تكييف حياة البشر في الشرق المعدم والمتخلف، مع نمط الوضع القائم وإشكالاته، وفي ظل انعدام الموارد وشيوع الفقر وتخلف التعليم والثقافة. ومن هذا ينشأ الاختلاف في النظرة إلى العولمة واللبرالية والمعرفة والثقافة بعمومها بين العالم الغربي والعالم الشرق أوسطي.
نظر البعض من السياسيين الغربيين ،  للمبادرة الأمريكية القائلة بتحديث الشرق،بعين الرضا وقدموا التأييد الفاعل لها، فقد أشاروا وأشادوا بها حين ظهورها وعدوها واجهة مهمة من الموجب الأخذ بها لتحديث منطقة الشرق الأوسط، وحينها تحدث السيد شرودر المستشار الألماني السابق بقوة عن ((ضرورة وضع عمليات التحديث والدمقرطة وإرساء الاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط  موضع التطبيق بالتعاون مع الشركاء أنفسهم في المنطقة) .ودعا إلى عدم تجاهل حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني خلال تطبيق عمليات التحديث معلنا ((أن من غير المسموح أن يمنع أو يعيق هذا النزاع تحقيق آفاق أخرى من مثل المجال الاقتصادي )) .
لو أبعدنا مؤقتا مُسَلمة ضرورة حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني، وهو ما يشكل عصب التشويش والقلق على مستقبل المنطقة وعمليات التغيير الموجه إليها ،فأن التعبير الوارد عن التعاون مع الشركاء يثير الكثير من التساؤل عن المعنيين ( بالشركاء). ولكن في مجمل حديث السيد شرودر وقبله وزير خارجيته ومن ثم الكثير غيرهم من السياسيين، وقت ظهور المبادرة. تم التأكيد على أن الأنظمة الحاكمة الشرق أوسطية هي المعنية (بشركاء) محتملين في عمليات التحديث والدمقرطة المنوي طرحها كمشروع مستقبلي للسلطات والمجتمعات هناك . ولكن نظرة إحاطة للمشهد السياسي تؤشر وبشكل ناجز إلى كون العديد من الأنظمة الحاكمة، تشكل بالذات العقبة الكأداء في وجه الدمقرطة والتحديث، وإن مشاركتها وفق النمط اللبرالي المفترض يعد لوحده إن حدث معجزة،لا بل من المستحيلات في المنطقة.
وأن أريد فعلا تحقيق تلك المعجزات الديمقراطية، فالأولى البدء بتأشير بشاعات تلك الأنظمة الاستبدادية والحث على تغيير سلوكها اليومي، وطبيعة عمل مؤسساتها السلطوية، وكذلك قطع الدعم المعنوي المقدم لها من قبل الإدارة الأمريكية والعالم الغربي، ليتم بعد ذلك البحث الجدي عن المشاركة العامة في التغيير، ومن ثمة القناعة بحقيقة وصواب مشاريع الإصلاحات الغربية.
إذن فمشروع الشرق للديمقراطية والتحديث، إن أريد له السير في الطريق الذي ( لا ) تملي تعابيره (رغبة) الإدارة الأمريكية،  سيواجه طريقين لا ثالث لهما، وهما خياران صعبان ومكلفان للغرب بشكل عام. الأول يتمثل بإزاحة تلك الأنظمة الحاكمة أو في الأقل إجبارها على تنفيذ برامج التحديث والتخلي عن الأساليب القسرية القمعية للسلطة، والثاني يتمثل بخيار إثارة المشاكل الداخلية عبر تصعيد التناحر أو الخصومة بين السلطات ومناهضيها، من التنظيمات والتجمعات والشرائح الاجتماعية، وحشد الحلفاء وتصعيد الضغط لتشتيت وشل قوى السلطة وقدراتها على الحركة.
ولكن الرغبة الأمريكية تختلف بعض الشيء في رؤيتها لمثل هذا لأمر عن بعض الشركاء من السياسيين الغربيين، رغم مقاربة بعض تصوراتها ونواياها من نمط تلك الخطط والمشاريع.ولحد الآن فان جميع تلك الخيارات تبدو مطروحة بحدة للنقاش والرغبة في التطبيق داخل أجنحة السياسيين الأمريكيين، ولكن أوجه الاعتراض تجعل القوى الراغبة بالتنفيذ تتوخى الحذر من انفلات الأمور نحو أجواء لا يمكن السيطرة عليها، أو تسبب الحرج والتشويش عند صناع القرار في الإدارة الأمريكية. ومازال درس احتلال العراق يعد المثال النموذجي للتخبط السياسي والتوقعات غير المرتقبة. لذا فأن رغبة البعض داخل الإدارة الأمريكية   بمثل هذه السيناريوهات، يلاقي بعض الاعتراض والممانعة خوفا من التداعيات .ولحد الآن يفضل اعتماد الحكام المجودين كمنفذين للمشروع، وأن يكونوا عصب التغيير من خلال صفقة تراضي تدفعهم  للاندماج والتعامل مع المشروع، ويتم خلالها التغاضي عن مساويء علاقتهم بشعوبهم. وهذا ما يجعل المشاكل تدور في ذات الحلقة المفرغة، ولن تكون نتائجها غير وبال يفاقم التردي الحاصل في جميع مفاصل العلاقة بين الشرق  والغرب وأيضا داخل المجتمعات الشرقية.



18
أمريكا خيار المصالح  أم تعزيز البنى الديمقراطية ؟!
فرات المحسن
في نص تعريفي تقدمه دوائر السياسة الأمريكية عن طبيعة  الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID  وهي وكالة تابعة لحكومة الولايات المتحدة الفيدرالية ومسؤولة في المقام الأول عن إدارة المساعدات الخارجية المقدمة ( للمدنيين ). حيث تصف الوكالة عملها بالسعي لمساعدة الشعوب التي تعاني من عديد المشاكل وفي المقدمة منها الاقتصادية ، لتحسين ظروف معيشتها وللتعافي من الكوارث،وتكافح للعيش في أوضاع حرة وديمقراطية. وحددت الوكالة أهدافها والتي تتضمن توفير المساعدة الاقتصادية والتنموية والإنسانية حول العالم "لدعم تنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة".
 الجملة الأخيرة من التعريف بوكالة التنمية، تبدو في نهاية المطاف دالة كاشفة  لعمق الأهداف وأبعادها الإستراتيجية، وظهرت في الكثير من المنعطفات التاريخية كونها الغاية والدافع لمجمل تلك المساعدات السخية المقدمة بحجة دفع الشعوب المكافحة لنيل حرياتها ودمقرطة حياتها السياسية والاجتماعية. أي دون مواربة وفذلكة،وعلى المدى القريب والبعيد، تنفيذ أهداف الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية .
 لم تبخل الولايات المتحدة ومنذ آماد بعيدة بتقديم تلك المساعدات التي تسبقها دائما سياقات عمل وبرامج معدة لترتيب الخطط ووضعها في سياقات ممنهجة للتعامل مع أوضاع مناطق وبلدان ذات طبيعة محددة، تدخل ضمن اهتمامات الإدارة الأمريكية وتعطي بعدا حيويا للمشاركة و دعم وتنفيذ سياساتها
ففي عام 2004 أشيع بأن الإدارة الأمريكية سوف تعلن في حزيران منه، عن برنامج واسع حول الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تشمل العالم العربي وتمتد لتحتوي محيطه الواسع أيضا. البرنامج أو المشروع الذي عرض، يحدد توجهات الإدارة الأمريكية للتعامل مع المنطقة  وفق أسس ورؤية سبق أن أعلن عنها في مناسبات عديدة. وتتركز جلها في ثلاثة محاور. الأول دمقرطة المنطقة !! والثاني ربطها بالاقتصاد الدولي وبالذات الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والمحور الثالث يتمثل بتخليصها من مفاهيم العداء المتوارث للسياسة الأمريكية، وإشراكها في الجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب.
تضمن مشروع الإدارة الأمريكية للتنمية،  طيفا واسعا من المفاهيم المعرفية  ومبادرات للشراكة المصممة خصيصا لتقديم المساعدة، لقيام البلدان المعنية، بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويشمل المسعى هذا تقديم العون المادي والمعنوي  الدبلوماسي وغير الدبلوماسي للنشاطات المهنية والاجتماعية، للذين يرغبون في المشاركة بقيادة المجتمع والدولة، من خلال خلق مبادرات ايجابية لإنجاح مهام منظمات المجتمع المدني وحركات التنوير، وتعزيز البرامج الحيوية لمعالجة مشاكل حقوق الإنسان.على أن تدرس المبادرة وتعالج  مشاكل وتشوهات تعاني منها مجتمعات الشرق أوسط في محاولة لإماطة اللثام عن طبيعة ونوع العوائق ومن ثم وضع الحلول لها ليتم معالجتها.
صبت المبادرة أعلاه وموضوعاتها على جهد المشاركة في التغيير، من خلال التأثير بأسلوب الصدمة، وأيضا تغذية المبادرات الداخلية المرنة والممنهجة والمنتقاة بعناية التي ستشارك فيها النخب السياسية. ومع كل تلك الاستعدادات لزج القدرات في عمليات الشراكة نجد أن المبادرة خلت من توضيح أو بيان أو دراسة التأثير السلبي  في فرض الخيارات القسرية من الخارج، و إقصاء التحولات أو التغييرات التي تقدم وفق المبادرات الوطنية، مما جعل المشروع يظهر ناقصا و هشا تجاه رغبات الطرف الأخر، الموجب تفعيل مشاركته والسماح لخياراته بالتفاعل والنجاح.
من خلال جميع الوثائق الصادرة عن الإدارة الأمريكية وأيضا الدراسات التي قدمها الباحثون المقربون منها وكذلك المقالات التي كتبها محررو الصحف من المؤازرين لتوجهاتها،يشار إلى أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي دائما ما كان يشكل تهديدا متزايدا لاستقرار العالم ومصالح الدول الصناعية الكبرى، لأسباب تتعلق أكثرها باحتواء ذلك العالم على خزين هائل من منظومات  التفكير الطارد، وأنماط من مجتمعات تضمر العداء الديني والقومي (غير المبرر!!) للولايات المتحدة وحلفائها.
أغلب هذه الدراسات والبحوث دائما ما تغاضت عن أخطاء وخطايا الإدارة الأمريكية، ولم تصنفها ضمن العوامل الطاردة أو المسببة لذلك العداء والنفرة، و تهمل الطريقة البرغماتية في تعامل الغرب مع تلك الشعوب، والتعديات والقسر والجرائم التي يرتكبها الرأسمال العالمي في مواجهة طموح وتطلعات تلك الشعوب نحو الحرية وامتلاك خيراتها الاقتصادية  والحفاظ على استقلالها وخصوصياتها الوطنية.
ليس غريبا أن تثير سياسات الوكالة الدولية للتنمية  أعجابا شديدا لدى صانعيها، ولكنها في نهاية المطاف وبسبب محتواها العام وأساليبها القسرية، تقوي من عزيمة المضادين والرافضين لنظريات الإملاء وفرض الحلول، بعد أن يشعروا  بكمية الإقصاء الذي تحويه تلك المشاريع والبرامج الموجهة لهم بالذات، مما يعني بقاءهم مهمشين وغير مرغوب فيهم، ويعاملون كفئران تجارب.رغم تأكيد البرنامج على الشراكة ووجود الآخرين كأدوات منفذة وواجب مشاركتهم  الفعلية في تنفيذ جزئياته .
ففي الوقت الذي تعلن الإدارة الأمريكية سعيها لنشر مفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية، نشاهدها تقدم العون للكثير من حكومات البلدان المعنية بالمبادرة، وبالذات من الذين يمثلون النوع الأكثر قدرة على انتهاك تلك الحقوق وخنقها. وتبدو مشاركة الإدارة الأمريكية  فاعلة وذات تأثير صادم في إسناد ودعم هؤلاء الحكام في مواجهة شعوبهم.تلك الازدواجية في المعايير والتفاضل، جعلت بعض مجتمعات مشرقية تتبنى خيار العداء لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة حتى في الحالات الإيجابية. وهي محقة في هذا. فمسألة حقوق الإنسان والعدل الدولي والسلام والحريات والديمقراطية، لا يمكن أن تخضع للانتقائية أو خيار المصالح ، إن أريد لها أن تنمو بشكل طبيعي ومقنع.
عند هذه الإشكالية الحقيقية تواجهنا الكثير من الإجابات المقنعة عن ازدواجية المعايير لدى الإدارة الأمريكية، وخير دليل على ذلك الدعم المطلق الذي تقدمه لأصدقائها في منطقتنا وشرق وغرب آسيا وبالذات لحليفتها إسرائيل بالضد من حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني. وتلاقي التعديات اليومية الوحشية للسلطات الإسرائيلية الكثير من الدعم والتعتيم من قبل السياسيين في الإدارة الأمريكية ، وهناك الكثير من الأمثلة العيانية التي تبدو حقيقية ومقنعة، لتأشير ذلك الخلل الأخلاقي السياسي، الذي يدفع لطرح التحفظات الكثيرة تجاه المشروع الأمريكي حتى بين أصدقائها في المنطقة .
 فالاعتقاد الغالب بان ثقافة الغرب وأمريكا ليست بقيم عالمية لكي تفرض، فهناك ثقافات أخرى يجب الاعتراف بها واحترامها، وبدلا من إعطاء محاضرات إرشادية في الأخلاق والثقافة، على الغرب وأمريكا احترام عادات وتقاليد تلك الشعوب الشرقية، التي ترفع الصوت دائما بالقول، لماذا تنظرون لنا كحقول تجارب وشعوب طارئة على التاريخ، رغم أن التاريخ بدأ من وجودنا على هذه الأرض قبل أن تتكون حضاراتكم.  ودائما ما فسرت نوايا الغرب، بالعملية القسرية لفرض مفاهيم غربية وغريبة على المجتمعات الشرقية، التي بدورها تشير لامتلاكها خصوصياتها الثقافية، وأيضا لديها مفهومها الاجتماعي والسياسي والديني عن نوعية (محلية) للديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحاجج هذه السلطات ومعها المنظمات والجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية، بأنها لم تعط الوقت أو الفرصة لتطبيق معاييرها الخاصة بالديمقراطية والحريات المدنية، والإجابة على  تلك الأسئلة والانشغالات الكبيرة. وتتبادل تلك الأطراف مع الغرب وكذلك مع خصومها المحليين الاتهامات بتعطيل وتفكيك أسس العمل لإظهار تلك المعايير بخصوصيتها الوطنية.
فالتنظيمات والقوى السياسية والاجتماعية المحلية  تتحصن بحجج تعتقد أنها تمتلك ثقافة وتقاليد تغنيها عن المفاهيم الغربية حول الحريات والديمقراطية والمجتمع المدني ، وإنها ترتكن إلى خاصياتها الثقافية وموروثها الاجتماعي.ولكن في البحث والاستقصاء عن تلك الخصوصيات، نشاهدها تقدم مشاريعها بقصور بائن،وبالمجمل تكون في الغالب أفعال ورؤى مهلهلة تحد من تطور المجتمعات، وتنحو  لخلق بؤر تشيع فكرة الوصاية والقسر. ومع  اقتناعها بامتلاكها اليقين ( البعيد عن الحكمة)  بامتلاك الحقيقة المطلقة، فإنها تغذي خروقات  تعدم بسببها حرية الرأي والعدالة الاجتماعية والتطلعات نحو الديمقراطية .وأيضا فأن تلك المؤسسات تتحرك في ظل فقدان قواعد ونصوص متكاملة يحتكم إليها كمرجعيات تمتلك حلولا منطقية لمشاكل  عديدة تتراوح بين البسيط وصولا للمركب والمعقد منها.
في نفس الوقت  فالسلطات الحاكمة وعبر مؤسساتها تحاول إدامة أو إشاعة المعايير القاصرة عن المفاهيم الحقوقية للحريات، باذلة جهودا وأموالا طائلة لكبح جماح القوى والأشخاص الساعين والمناشدين لتعميم معايير الحريات والديمقراطية في مجتمعاتهم.وتأتي تلك الإجراءات رغبة في وضع القيود ومنع أي تغيير يمكن له خلق أوضاع يتاح من خلالها إجراء تعديلات في هياكل السلطة والتشريعات القائمة .ويهيمن هذا الأداء على مسيرة الأنظمة الحاكمة التي باتت اليوم تستشعر القلق وتتوجس خيفة من المشاريع الوافدة وبالذات الأمريكية والغربية الخاصة بمنطقتها، وتعيش تحت هاجس ووطأة مشاعر الخوف من المثل العراقي والمآل الذي ذهب إليه العراق جراء الاحتلال الأمريكي.
وإذا كان لتلك السلطات عذر في مشاعر الخوف التي تتلبسها، فأمر رفض المشاريع الأمريكية لا يقتصر على السلطات المحلية والتجمعات والتنظيمات الدينية والطائفية، وإنما يشمل أيضا تنظيمات لبرالية يسارية، وتأتي اعتراضات هؤلاء على أسس خصام  تأريخي غذته نفرة وشحن أيدلوجي، والقناعة التامة  بان جميع ما يأتي من الإدارة الأمريكية ما هو إلا مسعى  لتفضيل مصالح الرأسمالية على مصالح الشعوب. ويدفع هذا الاعتقاد  بالكثير من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحركات التنوير، وفي أغلب بلدان الشرق للإحجام عن التعاون مع مساعي الولايات المتحدة لتعميم مفاهيمها في هذا الشأن،  لأسباب وطنية ومشاعر متصاعدة من الشكوك، وتطرح في هذا الشأن الكثير من الأمثلة  عن سؤ نية الإدارة الأمريكية وما تبييته مشاريعها من مخاطر للمنطقة.  حيث توضع  الخيارات الوطنية للشعوب وبالمجمل، لصالح السير في ركب مصالحها الأمنية والاقتصادية ذات الطبيعة الامبريالية،وقد اختصر بول برايمر رئيس سلطة الائتلاف المؤقت عند احتلال العراق كل ذلك في مقابلة إعلامية بالقول، إن مصالح الولايات المتحدة تتقدم على واجباتها في القانون الدولي.   





19
العلمانية واليسار وخيار الديمقراطية
فرات المحسن
تبدو الديمقراطية واحدة من المبادئ الحاسمة في اختبار السلوك وتوصيف الأحكام عن طبيعة السلطة وحراكها واستحكاماتها، وتعد الديمقراطية بمبادئها العامة، الثغرة النافدة التي تعطي المبرر المنطقي لمنظمات وهيئات ذات مصالح متشابكة ومترابطة، لتأشير الإخفاق وإثارة التساؤلات ورصد الظواهر والخصائص الأساسية الكلية لطبيعة نظام الحكم،أي نظام حكم كان. ومن ثم توصيف طبيعة تعامله مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلاقته بأفراد المجتمع، وطابع ردود أفعاله تجاه حاجاتهم الآنية والمستقبلية ، وهل هناك علاقة تكافؤ بين السلطة والجماهير، لخلق توازن مرن لتامين السلم المجتمعي. ومن خلال حيثيات هذا المدخل والمراقبة، تكون الديمقراطية بابا للضغط على السلطات لأجل بناء قواعد للسلوك والقيادة، بالرغم من كون هذا المدخل دائما ما يكون واجهة لما هو أبعد من ظاهره.
مع التطور التاريخي المتسارع، يبدو أن معادلة الديمقراطية أصبحت أكثر تنوعا وتشابكا وتأثيرا، فقد خرجت لما وراء حدود الدولة القومية،وتم ثلم الكثير من الخصوصيات الوطنية،لصالح شراكات دولية، إثر ظهور نماذج لروابط بعيدة ومؤثرة، تتمثل بصيغ العولمة الاقتصادية والتقنيات والمعلوماتية، وتشابك مشتركات المصالح  الدولية والهيئات والمنظمات الدولية، التي باتت العامل الأقوى في التأثير على سير الأحداث وقلب المعادلات،والضاغط  الأكثر قوة لتغيير أنماط السلوك والتفكير المحلي، ودفعه لمواكبة متطلبات الشراكة الدولية، ومن ثم صناعة التوجهات وأساليب وسياقات العمل والعلاقات حتى اليومي منها، بما يتناسب وتلك المشتركات العالمية.
 تعرف الديمقراطية بمبادئها وقيمها الأساسية، وتلك القيم والمبادئ هي التي تقدم الدليل الحيوي على فاعلية ونشاط وحقيقة علاقة المؤسسات والأفراد بنموذجها الأمثل، ونوع الترتيبات والطرق المتخذة لصيانتها وتطويرها.وفي عموم مظاهرها تبرز القواعد والقيم من مثل، مشاركة المجموع في صناعة القرار العام، وتأثيرهم على صناع القرار، وكذلك المساواة الفاعلة بينهم في الموقف، والتمثيل والمسؤولية والشفافية والتفويض، والقدرة على التأثير والسيطرة على اتخاذ القرار، وإزالة احتكار النخبة له، والمكاسب الناتجة عنه،وكذلك مدى فعالية وشفافية النظم التي تتحكم بعمل المؤسسات المدنية ( السياسية ـ المهنية ـ الاجتماعية ) والى أي مدى تتخطى تلك الفعاليات التشوهات والتعديات والتقسيمات الجنسية والدينية والعرقية ،وما هي الحصانة الفاعلة لنظام المؤسسة المالي والإداري، ضد اشتراطات المصالح الخاصة .كل ذلك يمكن من خلاله تعريف الديمقراطية وتقييم علاقة تلك الفعاليات والمؤسسات بقواعدها .
في محاولة لتقييم وضع الحكومات التي تدير وقائع الحدث اليومي في العالم الثالث، وضمن البحث في تأثير هذا المضمار الواسع من العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة المتعددة الأوجه،  ولكون العديد من تلك السلطات تفتقد حقول السياسة والإدارة فيها، لأي نوع من أنواع الحريات والسلوك الديمقراطي. فقد باتت تتعرض لضغوطات وجرعات حث مستمرة ، لزجها في حومة الحراك الدولي ودفعها نحو خيار النهج الديمقراطي كسلوك عمل،  ولذا ما عادت معزولة أو محصنة في بعدها الوطني.
إن مثل هذا التوصيف يضعنا في خانة الطعن في بعض القوى دون غيرها،وبالذات القوى الحاكمة، ويقودنا لتغافل الحقائق حول موقف الآخرين وقيمهم ، وعليه يتوجب للوصول إلى الفكرة الأعم، بافتراض تقصي جميع ذلك الخليط غير المتجانس، والتداخل المربك بين الطبقات والشرائح الاجتماعية في هذا العالم المترامي الأبعاد، ونتاج مؤسساته المدينية على مستوى الأداء والفاعلية والمشاركة والشفافية المبدئية.
لذا وفي محاولة تقصي المسيرة الديمقراطية في الحياة العامة، فإن مثل هذا المبحث يسترعي الإشارة أيضا للكثير من القوى العلمانية في هذا الجزء من العالم، والتي سنحت لها الظروف، امتلاك شيء من السطوة وبناء قواعدها الجماهيرية. وهنا لا حاجة لنا للتكرار والاستعانة بقائمة الخروقات اليومية لحقوق الإنسان والديمقراطية، التي ترتكب من قبل تلك القوى العلمانية ، والذي يفرض علينا الواقع وضعها في خانة القوى التي لا تتمتع بعلاقة سوية مع الطبيعة والسلوك الديمقراطي، وفي المحصلة النهائية نجبر على تصنيفها ضمن القوى المضادة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وما أكثر هذه النماذج والكتل والشرائح وما أوسعها وبالذات في العالم العربي، والشرقي أيضا. لذا لا يمكننا حصر واختزال إشكال الديمقراطية عند حدود نموذج بعينه، وضمن نمط قيمي أيدلوجي، والافتراض عنوة أن العلمانية أو اليسار قلعة حصينة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
في نظرة فاحصة لتشكيلة قوى العلمانية واليسارية ، نجد أن هناك الكثير من الجفوة بينها ومفهوم الديمقراطية، وكذلك وجود تمويه ملتبس لمفهوم العلمانية، وهذا أيضا من عيوب الكثير من القوى  بمختلف أشكالها ونماذجها القومية والمحلية ( اليسارية والمحافظة ) . ولا يمكن قصر الإشكال عند هذه الحدود أو تقنينه بآليات وملكات تختص بها تلك القوى دون غيرها، وإنما الواجب يفترض النظر بموضوعية، لهوامش أخرى تتحكم في المسار العام للعلاقة بين الوعي الديمقراطي والوعي الاجتماعي، ومن ثم تأثير القيم والعادات والتقاليد، في تركيبة ونشوء تلك الفعاليات. يضاف لذلك العلاقة الملتبسة والمشوهة، التي تنتظم وفقها نماذج الأداء السلطوي وآليات القوانين والدساتير المشرعة، وتأثيرها في طبيعة التكوينات والمؤسسات السياسية والاجتماعية، ومدى القسوة والعنت الذي يمارس لتعميم وفرض خيارات متخلفة محبطة وباعثة على الخيبة، في ظل غياب سلطة القانون والتشريعات التي تحمي المواطن وتكفل حقوقه وتعطي لمؤسساته المدنية حرية الخيار والحركة والتطور.
مجمل قوى اليسار والعلمانية العربية نشأت وفق خيار استيراد الأيدلوجية من الخارج أو محاولة خلق توليفة بين المستورد والمحلي (قومي ـ تراث وطني )باستعارات  للخروج بنموذج، اعتقدت تلك القوى بأنه الخيار الأكثر حضارية وعقلانية، وأنه الأقرب لنبض الشارع، والأكثر قدرة على مواكبة التطور. وكان ولا زال التجريب والاستعارة وردود الفعل الآنية، الصفة الغالبة على الخطاب الأيدلوجي، لجميع تلك القوى السياسية ، مما جعلها تتخبط في الرؤى والأفعال، وأصبح من العسير عليها إكمال مشوار نهضتها وعدتها المعرفية وقدراتها التنويرية، وهذا ما جعل الوضع السياسي بمجمله يعيش أزمة حقيقية، تتمثل بقصور بائن في مواكبة التطور الحضاري ومعطيات العصر، وتخلف البنية التنظيمية لتلك القوى، بالرغم من اعترافنا بطليعيتها وتقدمها على باقي تشكيلات المجتمع. فصفة اللاثبات لا زالت تميز فكرها وفعلها السياسي .
سجلت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات نزوعا حقيقيا لكثير من القوى القومية العربية نحو اليسار، وتبني الفلسفة الماركسية كخيار تاريخي. وكان الظن، أنه يعيد بعث الهوية القومية علميا، وفي ذات الوقت يقوم بخلق ثقافة تهمش العواطف القومية وتقضم أضرارها. وكانت ساحات انتصار ذلك التوجه، واضحة للعيان بين أوساط حركات الكفاح المسلح الفلسطينية والخليجية وفي اليمن وشمال أفريقيا وغيرها من أماكن وحضور للحركات العلمانية القومية في الوطن العربي. وساهمت الحركات الفكرية الماركسية في إنضاج توجهات تلك المشاريع، ليصبح المد اليساري الواجهة الأكثر حضورا والأشد مكنة في الشارع السياسي العربي.
ولكن المؤسف أن تلك التحولات اقتصرت على استعارات مشوهة وهجينه للرطانة (السوفيتية ) ، من مثل تبجيل خيار حكم النظام الحزبي الشمولي البعيد كليا عن المفهوم الماركسي للطليعة. واستمر العمل الحزبي بذات التوجهات السابقة كناتج ملتبس للعمل السري الخالي من الانفتاح والنقد، والخانق للمبادرات والتعبير الفردي بحجة الديمقراطية المركزية والشرعية الثورية. وقد فرض الأداء السلطوي العدائي الكابح للحريات والعلنية، على تلك الأحزاب والفعاليات خيار الإيغال في الإجراءات السرية والتشبث بالمركزية، واتخاذها كمتاريس للحصانة في مواجهة الأساليب العدوانية للسلطات الحاكمة، وعمم ذلك في النظم والعلاقات الحزبية الداخلية، ومع هذا بات من العسير على المبادرات الفردية اختراق التبريرات والحجج القاضمة للديمقراطية دون التعرض لتهمة الخيانة والتحريف .
إن أي رصد للواقع السياسي العربي وقواه الناشطة، يؤشر اليوم لهول التردي الذي وصل إليه وحجم التحديات المفروضة عليه.ولو أردنا المقاربة، فأن أول ما يواجهنا هو الحقيقة المرة في انعدام الديمقراطية والحريات والشرعية القانونية، ليس فقط للهياكل الرسمية لمؤسسات الدولة، وإنما داخل مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأس قائمتها التيارات الفكرية والسياسية ، التي لم تكن الديمقراطية لتحتل مكانة متقدمة في جدول أعمالها . وليس من العصي التدليل على حجم ذلك التردي، لو أطلعنا على الآليات والنظم والعلاقات الداخلية التي تسير عمل تلك الفعاليات والتيارات.فنجد فيها هياكل تنظيمية تتعاطى العمل السري وتداول المحظور، وتشيع في أوساطها (ازدواجية المعايير ،الخطاب الفكري المتحيز ، السلطة الكهنوتية الأبوية ،الإقصاء والتخوين والطعون ،تقبل المساعدات المالية المشروطة ،الضغوط على الأعضاء لتغيير المواقف ،التكتل والشللية والإقصاء ،التطير من النقد ،الانغلاق على الذات وعدم القبول بالرأي الأخر والحفاظ على روح الوجاهة والقرابة واللحمة، والنزعة الطائفية والمناطقية والعشائرية وتقديس الأفراد) .كل تلك العيوب هي منجز جماعي، ساهمت فيه القوى الفكرية والسياسية العربية، بما فيهم صناع الثقافة ومنتجوها ومبدعوها ومؤسسات المجتمع المدني، ومن الإجحاف اختزال مسببات ذلك الخراب فقط عند أروقة السلطة الحاكمة وشخوصها ومؤسساتها، رغم أن ثقل الإشكال يقع بالدرجة الأولى على عاتقها.
إن هذا المشهد المتناقض والشديد الالتباس، يؤشر لازمة فكرية شاملة تلف الكثير من الفعاليات والقوى الثقافية والسياسية العربية، ويؤكد هشاشة وتصدع هويتها الفكرية وفقدانها لقناعاتها بقدراتها الذاتية في مواجهة المحن والأزمات، ويشخص الخلل الكبير في منهجية واستراتجيات تلك القوى والأثر الضار والمدمر الذي تركه ويتركه العمل السري والتغييب القسري للديمقراطية .


20


ما تخفيه أروقة لجان التحقيق لكبير
فرات المحسن
منذ التأسيس الأول للدولة الوطنية العراقية عام  1921 ،شكلت ظاهرة عدم الثقة بين المواطن والسلطة اللوحة الأكثر حضورا ورواجا، لتكون لوحدها المعلم الأخطر ليس فقط على المستوى السياسي وإنما تمتد لتشوه بصبغتها باقي مناحي الحياة بعمومها وتشكيلاتها، ويعزى السبب في ذلك لسياسات مؤسسات السلطة نفسها، ويتوافق وطبيعة المجتمع العراقي بموروثاته الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
على عهد البعث أسس لنمط جديد من علاقات الريبة والخوف وانعدام الثقة، ليس فقط بين المؤسسات السلطوية وأبناء الشعب، وإنما استفحلت مظاهر التخوين والظنون والتشكيك والوشايات بين أوساط الناس، ووضع الجميع في ريبة من أمورهم حتى البسيطة منها، خوفا من أن تؤول في غير محلها، وبات المواطن مع ما يسمع عن مخرجاتها، يخشى حتى أقرب الناس إليه.وجراء ما أقترف بسبب ذلك من جرائم،فككت الكثير من أواصر ولحمة العلاقات المجتمعية وبالذات منها الأسرية.
ما بعد عام الاحتلال 2003،وفي الراهن من الوقت وبعد سيطرة قوى سياسية جديدة على الشارع العراقي، وانتشار وسائل الإعلام، راجت بضاعة بمهام مستحدثة وبطبيعة سياسية، تخطت بأشواط بعيدة سابقاتها بالقدرة على الإيذاء، وراحت ترفع من حدة سوء النوايا وعدم الثقة بين الأفراد والقوى السياسية، وكذلك بين الشرائح المجتمعية، وما عاد المواطن يدرك معها أين يضع قدميه وأي طريق يتوجب عليه سلوكه.
فقد راج استعمال أسلوب الإشاعة السياسية والاجتماعية، لتصبح الوسيلة المثلى ليس فقط للتسقيط السياسي أو الاجتماعي، وإنما طريقة فائقة التأثير والقسوة في الابتزاز وتكميم الأفواه.ولم يكن هذا الأسلوب بالمستحدث في الشارع العراقي، ولكنه يعد اليوم من الأسلحة الفتاكة وذات الأثر المدمر، بعدما أصبحت وسائل الإعلام ملعبا وفضاءً واسعا ومباحا لها. وقدمت القوى السياسية وبالذات الحاكمة منها العون الكثير لترويج أسلوب الطعون والتخوين والظنون والعدوانية، عندما ابتدعت ما سمي بالمخبر السري، ليصبح واحدا من أكثر مجالات الارتزاق والتكسب عبر وظيفة الوشاية والابتزاز.
ومنحت السلطة نفسها الحق القانوني بإخفاء المعلومة والتستر عليها، وتم توظيف ذلك عبر التشويش وابتداع الفذلكة السياسية ودفع الحقائق إلى الخلف ووراء كواليس مغلقة تماما،وليتم تسريب الأخبار البعيدة عن جوهر الحدث، ورمي الاتهامات على الخصوم، وغلق الأبواب أمام الإعلام بحجة الحفاظ على أسرار الدولة. ووصلت المرحلة لحالة من الإسفاف والتخبط في التغطية على العيوب والعورات، ما عاد هناك معها مجال لجسر حالة انفصام الثقة بين الشعب وحكومته، بعد أن اختارت السلطة الابتعاد كليا عن مكاشفة الشعب بالحقائق، ومحاولة تحصين نفسها بالكبرياء والعنجهية السياسية، وتبني خيار عدم الاكتراث من الموقف النقدي الذي يوجه لها، أو العزوف والتغافل عن رؤية ما يتعرض له الناس من معاناة يومية عديدة وعامة، تسحقهم سحقا دون أن يجدوا من ينتشلهم من هذه الأوضاع المزرية 
واليوم نشاهد بشكل متسارع ومتضارب كيف تتسرب المعلومة إلى الشعب عن سبب انحدار سعر الدينار العراقي تجاه الدولار وعجز الحكومة ومراوغتها في قول الحقيقة وإعلان الأسباب الكامنة وراء هذا التدهور، وكيف باتت العملة العراقية مهددة وبزمن قريب لفقدان الكثير من قيمتها، مما ينذر بعصف مقبل يكبد الدولة والمواطن خسائر فادحة في المداخيل والمدخرات، وتعم الأسواق فوضى أسعار المواد الأساسية وبالذات الغذائية منها. وتتعرض قيم الفائض المالي الذي تراكم خلال السنتين الأخيرتين جراء ارتفاع أسعار النفط، إلى هزة عنيفة تفقده قوته الشرائية وقيمته السلعية.وأصبح الناس مع هذا التخبط والعشوائية في الأداء الحكومي، لا يعرفون حقيقة ما يحدث لوطنهم ولا يصدقون ما يصل لأسماعهم ،ويحملون بلوعة جارحة أسئلتهم الحائرة، أين تذهب كل تلك الأموال، ولماذا يدفع الناس فواتير أخطاء السلطة وأحزابها الحاكمة.
دائما ما تستخدم بعض أطراف السلطة أسلوب تسريب الإشاعة الإعلامية ، إن أرادت تمرير موضوعة ما لصالحها، ومثلها يفعل خصومها، ولذا يجد المواطن حيرة من أمره في محاولة مستحيلة لإمساك ما هو حقيقي من كل تلك التسريبات.
في واحدة من أكثر المساوئ التي تقترفها القوى السياسية الحاكمة لإشاعة الشكوك والظنون كانت وما زالت طبيعة تشكيل اللجان التحقيقية في الحوادث والمصائب السياسية والجرائم الكبرى، التي وقعت وتقع بشكل مستمر. فالمؤسسات الحكومية تقدم في حينها وبشكل متضارب تصريحات عجولة عن طبيعة تلك الأحداث، ثم تخرج في اليوم التالي لتعلن وبشكل بائس، ما يتعارض مع التصريح السابق. أو ان المؤسسات ذاتها، تتنازع وتطعن في تصريحات بعضها.
وحين يعلن عن تشكيل لجنة تحقيقية لاستجلاء واقع الحدث ومسبباته، تختفي بعد وقت وجيز معالم تلك اللجنة وتصبح في خبر كان، وتطمس جميع الوقائع وتختفي معها الوثائق والدلالات الجرمية، وفي الأخير تتبخر نتائج التحقيق وتختفي كليا معالم الجريمة، وتتواتر بعدها التصريحات في شطحات هزيلة متهافتة، رغم ألم المصاب ووجع الخيبة الذي يعتمر قلوب الناس ويخلد في ذاكرتهم. ولحد الآن لم نسمع من السلطات الحاكمة على عدد متوالياتها وأطوارها، والتي أدارت دفة السلطة على مر سنوات ما بعد سقوط البعث، ولو نتف بسيطة وحقيقية عن نتائج التحقيق في الجرائم الكبرى التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء شعبنا في مختلف مناطق العراق. وما عدنا نعرف حقيقة الأمور وكيف وقعت أو دبرت، ومن أدارها وكيف تم معالجتها وإلى أي مرحلة وصلت نتائج التحقيق فيها، مثل جرائم السرقات الفائقة النهب للمؤسسات المالية،والتي فضلت السلطة نفسها إطلاق تسميات رنانة لتوصيفها.
فمازال المواطن في ريبة وشك من وقائع ما يدور وراء الكواليس عن سرقة القرن التي بلغت فيها المليارات من الدولارات من أموال الضرائب للشركات، وهي أموال يجب أن تكون عائداتها لخزينة الدولة، ومن ثم لصالح الشعب. فلأول مرة نسمع عن إطلاق سراح متهم متلبس بالجريمة وباعترافه الضمني وليس الظني، ليساعد السلطة في استرداد ما سرقه، بالرغم من معرفة السلطة والقضاء مقدار ما سرقه وأين وضع المبالغ المسروقة ومن هم شركاؤه في تلك الجريمة. ومع مثل هذه الطرفة الموجعة والغرائبيه، تفضل السلطات التلاعب بأعصاب الجمهور، عبر تسريب بعض أخبار بالصورة والصوت عن استرداد الجزء اليسير من المبالغ، وتتكتم عن مصارحة الناس بما اعترف به وقدمه للعدالة هؤلاء المجرمون الإرهابيون، وتفضل اللجنة التحقيقية حصر كامل القضية في دهاليز تحجب عنها الرؤية خوفا من إظهار الحقيقة التي تفشي علاقة هؤلاء المجرمين بأهل السياسة من الذين يديرون السلطة وبيدهم مكامن الحل والربط. 
ومما يؤلم وجعل الناس في ريبة وانعدام كلي للثقة بالسلطة،  اختفاء وطمس المعلومة  عن نتائج التحقيقات في مخالفات تزوير وسرقات ووقائع جرمية صريحة وواضحة في صفقات أجهزة ومعدات استوردت للعراق طيلة الأعوام العشرين، والتي مرت بكل تلك الكثافة والسعة عبر عمليات نهب مفضوحة ، ودائما ما كانت أصابع الاتهام تشير فيها ومن داخل مؤسسات السلطة نفسها وبشكل ناجز وفاضح عن ضلوع العديد من المسؤولين في جهاز الدولة، وفي أعلى مراكزها في تلك العمليات، وكان صمتهم وتسترهم  لوحده يوحي بوجود مهام موكلة للبعض في التهيئة والتنفيذ والتستر والإخفاء، لذا تراهم يبذلون جهودا كبيرة في تبادل الأدوار لطمس معالم الجريمة ومن ثم رميها في غياهب النسيان.
وبالرغم من معرفتنا بالأداء السيئ والمتهافت للعديد من المشاركين في مسؤولية إدارة الدولة، وانعدام كامل للمهنية عندهم، و جهلهم المطبق في إدارة مؤسسات الدولة، فإن هذا لن يعفيهم من أن يتهموا بالمشاركة الفاعلة وبقصديه في مثل تلك الجرائم،وهم ومهما اختلفت الظروف وتقادم الزمن، يبقون مطلوبين للعدالة. فعدم ظهور نتائج لأي نوع من التحقيقات يعني ضلوع تلك الأجهزة وبشكل مباشر في اقتراف تلك الجرائم. وعند هذا الحال يجب أن لا يتناسى أصحاب القرار بأن تلك الحوادث ليست فقط راسخة في أذهان أهل الضحايا، وإنما هي خزين ألم وخيبة وسوف تبقى دائما في ذاكرة الشعب عن الفترة التي اقترفت فيها ومن كان يدير دفة السلطة حينها.




21

مجالس المحافظات عود على بدء أم ماذا !؟
فرات المحسن
راوحت قضية مجالس المحافظات العراقية لفترة ليست بالقصيرة، امتدت وبعمر إنعاشي لما يقارب الأربع سنوات، وتنازعتها خلال تلك الفترة الماضية،  رغبات الساسة أصحاب القرار، على الاستمرار في عملها من عدمه. فعام 2017  كان عام انتهاء عمرها  الدستوري، دون التجديد لها عبر انتخابات. وبسبب ما اكتنف أعمال أغلب تلك المجالس من عيوب وتشوهات، لذا  تعرضت لانتقادات حادة ومعارضة قوية لاستمرار عملها. وتوجت تلك المعارضة بمطالب جماهيرية واسعة، كانت أحدى أكثر النشاطات فاعلية، والتي أحيتها الانتفاضة الجماهير الشعبية عام 2019 ، حيث استطاعت التأثير على القرار السياسي، مما أضطر البرلمان العراقي تحت تأثير الحراك الشعبي، إلى إنهاء تمديد عمل المجالس وتوابعها في الاقضية والنواحي، ووافق على منح الصلاحيات للمحافظين في إدارة شؤون المحافظات.
اعترض وقتذاك البعض من أعضاء المجالس لدى المحكمة الاتحادية العليا، التي اتخذت بدورها قرارا نص على إن وجود مجالس المحافظات جاء بنص دستوري، ووفق هذا النص لا يمكن إلغاء تشكيلها. ولكن القرار ذاته أشار إلى كون قرار البرلمان كان صحيحا ومناسبا في إلغاء وجودها، لسبب قانوني تشريعي أيضا، وهو انتهاء ولايتها القانونية منذ عام 2017 لذا لا يمكن التجديد لها دون انتخابات.
النص الدستوري الذي وضع هيكل مجالس المحافظات ضمن مؤسسات الدولة العراقية، أريد منه تفتيت قوة المركز وقراراتها الملزمة والمجحفة في بعضها، لصالح تشكيلات إدارية جديدة في مؤسسات الدولة تأخذ طابع اللامركزية الإدارية  في العمل، وهي صيغة مستحدثة تتناسب وطبيعة تنوع تشكيلات الشعب العراقي وأيضا تضع معالجات للخلل الكبير في تعامل الحكومات المركزية السابقة مع بعض المحافظات على حساب الأخريات.
في نظام الحكم اللامركزي الإداري تكون المحافظات ممثلة بمجالسها، ومسؤولة مسؤولية مباشرة عن إدارة شؤونها، ومختلف مشاكلها واحتياجاتها واستراتيجيات برامجها الإنمائية. وتكون مهام مجلس المحافظة تشريع القوانين الداخلية الخاصة بالمحافظة على أن لا تتعارض وأحكام دستور العراق، وكذلك مراقبة عمل رئيس الحكومة المحلية الذي يمثلها المحافظ.
سربت الأنباء من جديد عن موعد لانتخابات مجالس المحافظات، وحدد حسب الاتفاق المبرم بين الكتل السياسية المتوافقة تحت مسمي تحالف إدارة الدولة، وكموعد مفترض،  تاريخ الانتخابات للمجالس، في  الشهر العاشر من عام 2023، على أن يسبقه تغيير في قانون الانتخابات الحالي  وإبداله  بصيغة سانت ليغو، التي تجد الكتل السياسية الحاكمة فيها، ما يضمن حصولها على العدد المطلوب من مقاعد البرلمان القادم ومثله في مجالس المحافظات المنوي انتخابه.
وبسبب هذه التسريبات وغيرها،وبفعل واقع التجارب السابقة على حياة العراقي، والتي  أوغلت في إيجاعه وأخذته لكل هذا الخراب الحاصل، بات التفكير بالمستقبل يقلق المواطن لا بل يفزعه، وقد أخذ  العجز واليأس مأخذه عند الكثيرين،فأصبحت الناس يائسة مغلوبة على أمرها. فكل شيء يسير داخل دوائر مغلقة لا يعرف لها منفذ أو إلى أين تأخذهم  في دوامتها المرعبة.
فجميع مؤسسات السلطة ومثلها بعض مؤسسات المجتمع المدني وأحزاب وقوى سياسية ، تشارك وبوسائل مختلفة ومتعددة بصناعة الإيذاء والقسوة والخراب والخيبات ، وبسببهم أغلق الأفق في وجه شعبنا ، ولم يبق هناك غير بصيص نور خافت من الجائز أن يتم إخماده في القريب القادم، وأخذ يتسرب هذا الخوف إلى عقول الناس، مع ترقب إخفاق وزارة السيد محمد شياع السوداني، بسبب هيكلتها التي بنيت على ذات النهج القديم وهو نظام المحاصصة البغيض.
 فليس هناك في الأفق ما يشير لقبول ورضا سلطة الأحزاب، الانتقال إلى إصلاح البنى والهياكل السياسية والإدارية لمؤسسات الدولة، والتخلي عن نهج المحاصصة السابق. فالجميع يتمسك بفكرة مشاركته الحكم، والتفاوض على نسب الحصص التي ينالها، ومقدار قيمها المالية والمعنوية، وهذا هو الجهد المبذول، والذي يعمل على تركيبته أصحاب الحل والعقد. فهم أعرف من غيرهم بأن التغيير والإصلاح أياً كانت طبيعته، سوف يمس في الأساس تركيبتهم وهياكلهم السياسية، ويعمل على انحسار نفوذهم، لذا يجاهدون لمنعه مهما كانت طبيعته.
أيضا هناك سلسلة حلقات وتوابع جميعها تشارك في صناعة الخراب وإيذاء الناس، لا بل ان سلسلة الحلقات هذه على كثرتها، تبدو مثل حيتان أو تماسيح تلتهم أي شيء يقع في طريقها، وتترقب الحصول على ما يهبه لها حكام المنطقة الخضراء المشرفون على توزيع ميزانية الدولة .فحلقة الوزراء  ورؤساء المؤسسات والمدراء العامون، دائما ما تضمن حصصها من مداخيل المؤسسات والوزارات ذاتها، بعد أن تصبح تلك الدوائر ضياعا يمتلكها هؤلاء دون حساب ورقابة. و العديد من المؤشرات سبق وأثبتت ضلوع بعض الوزراء ورؤساء الدوائر في سرقة أموال الشعب ، ودائما ما كانت أصابع الاتهام ولازالت تشير للكثير من حوادث الاختلاس وسرقة المال العام والتصرف غير المسؤول بأموال الدولة، من قبل لجان في الدوائر القريبة من مجلس الوزراء بالذات، بعد أن تشكلت حلقات نافذة ومتنفذة في مؤسسات الدولة، جلهم من الأقارب والخلان والمريدين. مثلما حدث في السرقة الأخيرة التي سميت سرقة القرن وكبش فدائها نور زهير جاسم.
ولن يتوقف الأمر عند حدود هذه الحلقة التي أسرفت بنهب الأموال تحت أعين وأنظار ورضا من يمتلك خزائن العراق، فهناك وفرة  من التوابع والمتواليات من مؤسسات السرقات والنهب وإضاعة المال العام دون حياء أو خوف، تعمل بالعلن ودون مساءلة، بل تتحدى جوع الناس وعريهم، ومن ضمن جوقة هؤلاء السراق كان هناك العديد من أعضاء مجالس المحافظات، وكانوا هم الأكثر قسوة ولؤما  في هدر وضياع أموال الشعب، وأولها تخصيصات ميزانية المحافظات.
فقد عدت هذه الحلقة العجيبة الهجينة ، الأكثر خطورة وإيذاء على أهلهم في المحافظات من باقي الحلقات، فهؤلاء تفوقوا على الجميع في فنون السرقة والاحتيال، وهم من جعل حياة الناس تذهب إلى الدرك الأسفل، حيث تنعدم الخدمات وتفشل المشاريع وتنهار البنى التحتية، رغم التخصيصات الكبيرة التي كانت تقدم  لتلك المجالس حسب ميزانية الدولة.
فالبعض من أعضاء مجالس المحافظات دائما ما كانوا يضعون نصب أعينهم مقدار الكسب المادي الذي يحصلون عليه، من خلال الكومشنات  وتقاسم تلك الأموال أو محاصصتها مع ما يصرف على المشاريع. فنجد ان الكثير من الأموال التي صرفت على المشاريع المتلكئة، ذهبت  هدرا بسبب التنافس والتقاتل الحزبي لإفشال بعضهم للبعض أولا،أو بسبب ضيق أفقهم التعليمي وتحزبهم وجهلهم بطرق إدارة المؤسسات والمشاريع، وكيفية التصرف بالميزانية وتوزيعها على أبواب صرف مناسبة وعقلانية وذات مردود ايجابي وجدوى اقتصادية. يضاف لذاك الطمع الشخصي والسلوك غير النبيل في استغلال هذه التخصيصات وصرف جلها بما سمي بالامتيازات والمكافآت، التي توزع بينهم منذ اليوم الأول لورود الميزانية  ولحين نفادها. وقد استولى هؤلاء على أموال تقدر بالمليارات دون مساءلة وحساب.
فهل سيختلف الأمر والحال عن سابقاته؟؟ . فمع التخصيصات التي وعدت بها ميزانية العام 2023 للمحافظات ، ومن ثم انتخابات مجالس المحافظات وظهورها للعلن مرة أخرى. فما الذي يحدث بعد ذلك. يا ترى هل يبدأ شوط القتال والتدافع لإيجاد أبواب لابتلاع تلك التخصيصات من خلال إعادة ترتيب مشاريع وهمية وطرق ملتوية، يتم فيها توزيع الأموال وتقاسمها كغنائم من موارد مالية ليس لها مالك، حسب التشريع الشيطاني الدارج.
وهل يعاد ذات المشهد البائس السابق، فنجد الوضع ومهما أريد منه الخير والصلاح، وتوفرت فيه حسن النوايا لتقديم خدمات أو تحسين حال، ووضع أسس لمشاريع تنقذ الناس وتبني لهم ما يسعفهم ويشعرهم بقيمتهم الإنسانية.عندها سنجد مجالس المحافظات وبذات الهمم  والنوايا السابقة التي بنيت عليها المحاصصة الحزبية، تجهد على إغلاق جميع منافذ النجاة، وتعمل على تفتيت وإضاعة أحلام الناس. كون هذه المجالس ومنذ البداية، وضعت كحلقة طفيلية حسب التفسير السياسي السائد، وبموجب ذلك وبناء عليه أسست لها الأحزاب صناديق جباية خاصة، تعتمد ميزانيتها على ما تستحوذ عليه من أموال الدولة، وباقي عمليات الكسب التي تكون في أغلبها غير شرعية. لذا لا تريد هذه الأحزاب بل تمانع وبشدة وتقاتل لغرض أبقاء الحال على ما هو عليه، وعدم الابتعاد عن مبدأ المحاصصة، والدفع لإعادة مجالس المحافظات إلى عهدها السابق، بحجة كونها من ضمن فقرات الدستور العراقي، فالتخلي عن هذه الحلقة المهمة سوف تفقد الأحزاب بسببه الكثير من المنافع، ولن تجد ما يكفي لسد أفواه وجوع المتنفذين فيها للمال الحرام.

 









22


مسيرة الخراب في العملية التربوية
محنة التعليم في العراق
فرات المحسن

في تقرير للبنك الدولي عن مستوى التعليم في العراق، قدم إحصائيات مفزعة عن مستوى وعي الطالب العراقي وإدراكه لما يملى عليه من معارف. فقد اظهر طلاب العديد من المستويات الدراسية، ومن خلال التقييم أعلاه، ضعفا شديدا في المهارات وعجزا فاضحا عن فهم ما يقومون بقراءته وتعلمه، وأبدى  ما يقارب النصف من الطلاب وبشكل بائس عن عدم قدرتهم الإجابة بشكل صحيح على سؤال واحد ضمن مستواهم العمري والدراسي، ولم يتمكن نصف الخاضعين للاختبار والتقييم، من حل مسالة حسابية واحدة بشكل صحيح. هذا التقرير وغيره من الاستقصاءات والبحوث التي حاولت استعراض حالة وأوضاع العملية التربوية التعليمية في العراق، أشارت وبشكل مفزع لقصور وعجز فاضح في هذا النظام. وحددت الحاجة الفعلية الملحة والمستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتدارك الانهيار التام، بوضع خطط قصيرة ومتوسطة المدى للخروج بالتعليم في العراق من حالة التردي والانحطاط التي وصل إليها.
ولكن يبدو أن النمط الشائع في التصدي للعملية التربوية في العراق، هو التخبط ومحاولات التصحيح الخاطئة والبعيدة عن إدراك مناطق الخطل والخلل ، والتي دائما ما تسحب هذه المعالجات، السيئ نحو الأسوأ، بدلا من تصحيح الأخطاء أو تلافيها،ولذا وعلى مدى تاريخ طويل من عمر الدولة العراقية، تتراكم الخطايا والموبقات، لتزيد من حدة التردي والفساد. وبات من العسير معها ومن غير اليقين القدرة على إصلاح ما وصل الحال فيه لحدود الجريمة المقترفة بحق العملية التربوية برمتها، وانعكس هذا على باقي مناحي الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لا بل لمفردات الحياة اليومية للشعب العراقي بكافة قطاعاته، وليمثل ذلك بكامل مظاهره و تجلياته ذات أهداف الفكر الإرهابي التكفيري.
عام 1958 وتبركا بانتصار ثورة الرابع عشر من تموز أقدمت قيادة الثورة على منح الطلبة العراقيين، ما اعتقدته مكرمة تجلب الفرح والسعادة لقلوبهم، وتجعلهم وأهاليهم يستبشرون خيرا مع قدوم عهد الثورة المباركة الجديد .لذا قررت قيادة الثورة ووزارة التربية آنذاك، عدم اعتبار السنة الدراسية لعام 58 سنة رسوب .أي أن المتخلفين والراسبين من الطلبة في الامتحانات النهائية، رحلوا إلى صفوف متقدمة دون الأخذ بنتائج الاختبار الدراسي النهائي .
وبالرغم من تحذيرات البعض من التربويين والمختصين في مجال العملية التربوية والأكاديمية، حول الأضرار المستقبلية التي سوف تلحق بالعملية التربوية، جراء القرار الذي أطلق عليه حينذاك تسمية (الزحف ) ، فقد نفذت سلطة ثورة 14 تموز تعهدها، وكانت الفرحة كبيرة وشاملة لدى من كان متخلفا عن أقرانه من الطلبة.
لم تمض غير سنوات قليلة حين ظهر خطل ومضار ذلك القرار على مجمل العملية التربوية، وظهرت نتائجه السلبية في الكثير من مجالات التدريس والبحث، وبالذات في المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات العراقية، وبدأ التشكيك برصانة العملية التربوية في العراق يأتي ليس فقط من بين أوساط الباحثين والتربويين العراقيين وإنما بادرت الكثير من الهيئات التعليمية والجامعات في أغلب دول العالم، والتي كانت لها علاقة جيدة بالعملية التدريسية العراقية،بدأت تشكك بقدرات ونتائج الطلبة العراقيين وتحصيلهم الدراسي.
وبالرغم من كون العملية التربوية اتجهت نحو علاقات أكاديمية وتربوية جديدة مع بلدان المنظومة الاشتراكية تعويضا عما أصابها من خسائر جراء العلاقات المتوترة مع الغرب على مختلف الأصعدة، ومنها العلاقات في جانب العملية التربوية والمتعلقة بالمنح والزمالات الدراسية، فأن الأمر أحتاج للعديد من السنوات للتعويض وتجاوز الخسائر والأضرار واستعادة العملية التربوية العراقية عافيتها ومنهجيتها الرصينة.
ما ترتب ونتج من أضرار عن ذلك الأجراء غير الحكيم، كان الواجب أن يكون درسا وإنذارا لتنبيه من يريد للعملية التربوية أن تكون أكثر رصانة وقوة وشفافية وفاعلية، وأن توضع قواعد صارمة توقف أي نوع من القرارات غير المدروسة،والتي ممكن لها المساس بالعملية التربوية، لما لذلك من تأثير على الحياة العلمية والعملية للعراق برمته.
من الجائز القول إن بداية سنوات السبعينات كان باستطاعة المرء وببساطة ملاحظة التحولات النوعية في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.وكانت تلك النقلات النوعية السريعة التي حدثت تضفي جانبا إيجابيا وتدلل على رغبة عارمة لدى المجتمع العراقي لاكتساب المعرفة والحصول على أحدث التقنيات والخبرات.ولكن تلك المكاسب والمنجزات أصيبت بانتكاسة خطيرة، ولم تستمر بذات الوتائر من التسريع لاكتساب المزيد  من المعارف، وإنما قننت لصالح مشروع عسكري سلطوي. فقد تم تحويل تلك المعارف والخبرات والتقنيات لغرض بناء مشروع عسكري وترسانة سلاح هائلة، وترافق ذلك مع عسكرة واسعة للمجتمع، ومن ثم كانت النتيجة النهائية لتلك الإجراءات، حروب داخلية واعتداء على الجيران في غزوات بربرية عممت الخراب والكوارث. وقد وقع العراق من جراء ذلك الاستغلال المشوه للعلوم والتقنيات الحديثة في مطب خطر، قاد في نهاية الأمر نحو تدمير الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية.
لقد وضع المتخلفون من رجال سلطة البعث جميع موارد الدولة ومرافقها وبالذات العلمية منها طوع هوسهم ورغباتهم العدوانية. وكانت في مقدمة أهدافهم الحرص على ربط التغيرات الاقتصادية والعلمية والثقافية، بالتدابير السياسية التي تصب جميعها في الرغبة لإعادة ترتيب البيت العراقي، وفق النموذج الشمولي البعثي وتحت شعار (( كل شيء من أجل المعركة)).وما كانت تمثل تلك النداءات المستمرة عن المعركة الموعودة المفتوحة الاتجاهات والمتعددة الأغراض والأهداف لدى حزب البعث، سوى مفهومين متوازيين، تتمحور داخلهما باقي المهام والتطلعات ويبقيان دائما في طليعة الأهداف التي تؤطر المساعي الأخرى، أو أن المهام الأخرى يجب أن تستنبط من خلالهما، وتصب في خدمتهما في مختلف المراحل. وهذان المفهومان هما إخضاع وترويض أو تدمير مخالفي الرأي ومن ثم عسكرة المجتمع.
إخضاع أو ترويض الخصوم ومخالفي الرأي، أعتبر جزءاً مهما من البناء المرحلي التصاعدي لأسس المعركة التي أريد أن يسخر لها كل شيء.وهذا الجانب إحتاج لتنفيذه طرق واختبارات عديدة.ومن تلك الطرق أسلوب الدوائر المغلقة، أو تنقية المراكز باتجاه الأطراف.حيث تكون بعض مرافق الدولة أو مؤسساتها حكرا على منتسبي حزب البعث، ولا يقبل فيها سواهم، مهما كانت الحاجة أو الضرورات.ولذا اعتبرت المؤسسة العسكرية في مقدمة الدوائر المغلقة، لا يقبل التطوع فيها لغير البعثيين.ومثلها مؤسسات الأمن والشرطة وبعض الدوائر الحكومية القريبة أو التي تصب خدماتها في صالح الجيش وأجهزة الأمن، وكانت تلك المهمة سهلة الإنجاز.ولكن للسيطرة على وإغلاق المؤسسات التربوية فقد إحتاج الأمر لفترة زمنية طويلة بعض الشيء، وبدأ تنفيذه بآليات منهجية محكمة، شملت كامل هياكل مؤسسات الدولة التربوية والأكاديمية، وبالذات منها التعليمية، حيث أقتصر القبول في الكليات والمعاهد التي تخرج المدرسين والمعلمين على غالبية من الطلبة البعثيين، وتطور الأمر مع مرور الوقت، لتقفل تلك المؤسسات الأكاديمية بوجه من لم يحصل على تزكية حزبية، ثم تبعه تأطير كليات ومعاهد محددة، واقتصار القبول فيها على الطلبة من البعثيين، مثل كلية التربية والهندسة وأكاديمية الفنون والجامعة التكنولوجية وكليات أخرى.
مثلت الحرب العراقية الإيرانية منعطفا جديدا أضفى تداعيات خطيرة على العملية التربوية، ليس فقط على مستوى المناهج وإنما تعداه نحو عموم الجو الدراسي وحجم الملاك التدريسي، مما أضطر السلطة لدمج المدارس واختزال التعليم إلى أدنى مستوياته، تلبية لما سمي باحتياجات المعركة. فقد كانت أعداد كبيرة من خريجي الدراسات الجامعية والمعاهد، يستدعون إلى الخدمة العسكرية أو يساقون في فصائل الجيش الشعبي التي تتوجه شهريا نحو جبهات القتال، حيث تذهب منهم أعداد لا يستهان بها كضحايا لتلك الحرب العبثية المجرمة، يضاف لذلك هروب البعض أو تهربه من الخدمة العسكرية،مما سبب شحا فعليا في عدد الكادر التدريسي في عموم العراق.
يمكن القول إن من أكثر مسببات الخراب العام الذي طال العملية التربوية يقع عند وجهين متلازمين، وهما السببان الرئيسيان اللذان نشرا السوس الذي نخر العملية التربوية برمتها، الأول: مشاركة الطلبة في العمل الحزبي وقواطع الجيش الشعبي.فالطالب يمنح درجات أضافية تفوقيه حسب عدد مشاركاته في قواطع الجيش الشعبي أو مقدار النشاط والخدمة الحزبية في منطقته.هذه الدرجات الإضافية تسمح له التفوق على باقي أقرانه ممن لم يؤدوا ذات العمل العسكري والسياسي .ويمكن للطالب الحصول على درجات إضافية إذا كان أحد أقاربه من الدرجة الأولى، قد قتل في جبهات القتال أو نال أحد أنواط الشجاعة.
من خلال هذا الأمر إستطاع الكثير من الطلبة وبالذات طلبة الإعدادات والثانويات الحصول على معدلات تفوق كبيرة، ساعدتهم في الدخول إلى كليات لم تكن معدلاتهم الحقيقية تسمح بأن يجلسوا على مقاعدها الدراسية أو الحلم بمثل هذا الأمر أو حتى الحصول على فرصة الدراسة في المعاهد التأهيلية. فطالب المرحلة الإعدادية بمعدل درجات تخرج واطئة جدا، يحصل على درجات إضافية لمشاركته في الجيش الشعبي وعن مشاركته في جبهات القتال و لحصوله على نوط شجاعة، و درجات أخرى عن مشاركته في الواجبات الحزبية في المقرات، وكذلك درجات إضافية عن تبرع عائلته بالمال لدعم المعركة، وربما نال درجات أخرى لأسباب عديدة يتم تصنيفها وترتيبها في المؤسسة الحزبية والأمنية، التي باتت تشرف على كل شيء في أرض العراق.إذن فأن الطالب هذا قد حصل على معدل يفوق درجة 100 %  ، ولن يستطيع أن ينافسه أي معدل أخر، ومع هذا المعدل أصبح بوسعه الدخول في أي كلية يختارها دون اعتراض أو عوائق.
الوجه الأخر للمصيبة تمثل في قوة وسطوة القرار التسلطي الذي فرض في المدارس والجامعات من قبل الجهاز الحزبي الذي مثله الاتحاد الوطني لطلبة العراق. فتلك المؤسسة الحزبية الأمنية مثلت عند نهاية السبعينات سلطة القرار الفعلي الذي يفرض شروطه وإرادته، ليس فقط على الطلاب وإنما بات يتحكم بالعملية التربوية بالكامل ويملي قراراته على الهيئات التدريسية. ومن خلال التقارير التي ترفع إلى الجهاز الحزبي والمؤسسات الأمنية، يتم التدخل لا بل إدارة العملية التربوية. وكانت تلك التقارير في أغلبها عبارة عن مديح للمتعاونين من الأساتذة، أسهمت في تقدمهم عبر السلم الوظيفي، أو وشايات وأكاذيب يراد بها تطويع من يرفض الوصاية أو يخالف القرارات الحزبية. وراح ضحية تلك التقارير الملفقة الكثير من التدريسيين الذين شملتهم عقوبات شتى، مثل الحبس أو الفصل أو النقل، ووصل في البعض منها إلى حالات التغييب والإعدام .
 ومثلَ السوق لقواطع الجيش الشعبي الذاهبة لجبهات القتال واحدة من أكثر التهديدات والعقوبات شيوعا.وبسبب تلك التهديدات والوضع الاقتصادي السيئ، فقد بدأت هجرة منظمة للتدريسيين إلى خارج العراق.ولذات الأسباب إنصاع الكثير من التربويين وقدموا خدماتهم الطوعية وفق ما تمليه عليهم إرادة الحزب وذراعه الطلابي الاتحاد الوطني. فمنهم من تطوع ليقدم لبعض الطلبة أسئلة الامتحانات أو يتغاضى عن الغش، أو يرفع من الدرجة الممنوحة للطالب. وحدثت تجاوزات مفزعة وصلت في بعضها قيام الأساتذة بكتابة الرسائل والأطاريح، التي يريد الطلاب من المتنفذين في الحزب، تقديمها لنيل شهادتي الماجستير أو الدكتوراه.هذا الأمر ساعد على ضخ أعداد هائلة من التدريسيين الفاشلين بين أروقة وزارة التربية ووزارة التعليم العالي وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وسبب في حدوث كارثة وطنية شاملة، تتمثل في سوء الإدارات لقطاع التعليم وإشاعة مناهج تعليمية ضيقة الأفق حزبية التوجه، ذات معلومات سطحية متخلفة، تقدم وتدرس بأساليب وطرق تدريس بائسة ومملة تعاني من الفقر المعرفي وغياب المنهجية.
إن دمار مؤسسات التعليم ينظر إليه ضمن الكوارث الناجمة عن الحروب، لكنه يشكل أيضا إحدى أسوأ عواقب العقوبات الاقتصادية والفوضى المستمرة.فقد شكلت سنوات العقوبات الاقتصادية القشة التي قصمت ظهر البعير.فعلى امتداد سنوات الحصار التي إستغلها نظام حزب البعث لصالحه بأقصى مديات الاستغلال، وحول الحصار الاقتصادي لتجارة درت عليه الأموال الطائلة، عانت المؤسسات التعليمية والعملية التربوية برمتها من الفوضى والنقص في الموارد المالية والمعرفية، وعاش العراق انقطاعا شبه تام عن العالم، ولم يكن ذلك ليقتصر على شح الموارد المخصصة لقطاع التعليم أو النقص في المصادر المعرفية والكتب ومواد القرطاسية فقط، وإنما أصبح قطاع التدريسيين وكذلك الطلبة عرضة للإفقار والجوع مما أضطرهم للبحث عن مصادر رزق أخرى لهم ولعوائلهم، وصار التدريس والتعلم يمثل الدرجة الدنيا في سلم أولوياتهم،وهجر الكثير منهم مقاعد الدراسة أو الأستاذية، ليبحث عما يسد به الرمق ويبعد غائلة الجوع، الذي بدأ ينهش الجميع دون السلطة الحاكمة.ومن أجل سد العوز باع بعض الأساتذة جهودهم ومعارفهم بأبخس الأثمان، حيث نشأت تجارة بيع وشراء واسعة، تبدأ من المراحل الدراسية الأولى حتى الدراسة الأكاديمية، وبرزت بحدة ظاهرة الدروس الخصوصية التي كانت تقتصر على الطلبة من ميسوري الحال، وفي تلك الدروس الخصوصية كانت تحدث مساومات لبيع الجهود والمعلومة، ويعتمد ذلك على مقدار المبالغ المدفوعة للأستاذ في الحصول على النتائج الإيجابية بالنسبة للطالب. ومنذ أواسط الثمانينات بدأ بتعيين وإشراك الخريجين الجدد في مجال التدريس، وهم أغلبية ممن كانوا قد حصلوا على شهاداتهم الدراسية عن غير جدارة وعبر الشراء بالمال أو مساهمة روابطهم الحزبية بشكل حاسم لمنحهم تلك الشهادة.
لقد تعرضت العملية التربوية في العراق على يد حزب البعث ومرتزقته لعملية تدمير وتخريب منهجي، سعى فيها حزب البعث إلى وضعها في أقصى حالات التردي عبر حصرها في وجهة واحدة تمثل أهدافه السياسية، فكانت حصيلة كل ذلك فقر وتخلف ثقافي ومعرفي لف أغلب الهيئات التدريسية التي تقود العملية التربوية وهذا ما أفصحت عنه الوقائع بشكل جلي بعيد سقوط حكم حزب البعث.



أظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة ، أن 84% من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بداية الاحتلال سنة 2003، إضافة إلى اغتيال ما يقارب الـ 120 أستاذا جامعيا وهناك الكثير من التهديدات اليومية التي توجه إلى العديد من العاملين في قطاع التعليم.
ما يحدث اليوم وما ظهر بعد عام 2003 أي عام سقوط سلطة البعث، يبدو في ظاهره، ليس فقط ناتج عملية تراكمية للأساليب والطرق السيئة وغير الذكية القديمة التي أدت إلى الفشل الذريع في مسيرة التعليم وتفشي كل هذا الخراب الموجع، لا بل هناك مستجدات طرأت على العملية التعليمية وبأساليب مستحدثة، صعدت من حدة هذا الخراب وقادت إلى أرتكاسات وخيبات جديدة، وصيرتها في أوضاع مأساوية فاقت في تخريبها ما سبقها من أخفاق وعثرات. فالعملية التربوية بظواهرها المحسوسة والملموسة تواجه اليوم مشاكل ذات طابع هجين ومستحدث، تبز بها ما تعرضت له من تخريب متعمد على عهد ما قبل عام 2003. ويمكن تأشير ذلك والجزم بأن وقائع اليوم والتغيرات العيانية الجارية،  تبدو أكثر قسوة وضررا وإيلاما من سابقاتها. حيث تفرض أفكار وتستنبط طقوس غيبية غريبة على الوسط التعليمي، وطبيعة المناهج العلمية، وبنماذج وأساليب قسرية لئيمة، ومحاولات مكثفة ومستمرة لتمرير تلك الطقوس والأفكار وجعلها ضمن المناهج الدراسية، بالرغم من بعد هذه الطقوس والرؤى والأفكار عن التحضر والمهنية والعملية التربوية برمتها، ولكنها تنتشر بالقوة وتفرض داخل أروقة المدارس والجامعات وبمختلف المراحل، ولا يقتصر هذا الترويج والتعميم فقط على أوساط الطلبة، وإنما يفرض داخل إدارات العملية التربوية بمختلف مفاصلها. ومن الواضح أن كل هذا يأتي من خلال تدخل أغلب الأحزاب والقوى السياسية والمليشيات والعصابات والمصالح الشخصية. وتترافق هذه الطرق العبثية  مع فساد إداري ومالي يضرب أطنابه بعيدا في جميع المراحل والمرافق التعليمية، مما أحال التعليم لساحة صراع ونهب وسلب ومساومات، وفرض أفكار وطقوس بعيدة كل البعد عن مفاهيم التعليم العلمي الرصين، وبات الوضع معها في حال يرثى له.
لم تكن العملية التربوية على عهود سبقت عام 2003 لتخلو من وجود تزوير في النتائج والشهادات الدراسية، ولكن مع بداية سقوط  الصنم، انتشرت بكثافة بين أروقة المدارس والكليات شبهة الشهادات المزورة، واتهم العديد من المسؤولين في قطاع الدولة ومنها المؤسسات التعليمية بالحصول على شهادات مزورة، وأطلق على حملة هذه الشهادات مسمى خريجي جامعة مريدي، مما يعني حصولهم على تلك الوثائق من خلال دهاليز السوق الشعبي في مدينة الثورة، حيث انتشرت هناك دكاكين خاصة لتزوير الشهادات وباقي الوثائق والمستندات الرسمية لمختلف دوائر الدولة. وبموازاة تلك الكارثة من الشهادات المزورة، انفتح المشهد التعليمي على حصول الآلاف من الطلاب على شهادات تخرج منحت لهم من قبل جامعات غير رصينة وغير مؤهلة أصلا للتدريس، إن كانت داخل أو خارج العراق، بل أن البعض منها ليس له علاقة بالعلوم والتقنيات، وإنما اختصاصها حصرا يصب في الشؤون الدينية البحت، ولكن بعض الإدارات في المؤسسة التعليمية وبسبب الارتباط بأذرع الفساد الإداري، جرى احتساب  مستواها واختصاصها بما يعادل باقي الشهادات الجامعية الرصينة.
 في نفس الوقت سمحت وزارة التربية ومثلها وزارة التعليم العالي بافتتاح مدارس وجامعات أهلية ربحية، ما كان الكثير منها ليلتزم بالمعايير والرصانة التعليمية ، بقدر سعيه للحصول على المكاسب المالية، وما عادت تلك المدارس والجامعات تخضع بشكل دوري للمتابعة والمحاسبة من قبل الوزارتين. وبسبب هذا الأمر دائما ما يوجه الاتهام لموظفين في الوزارتين بالتواطؤ مع أشخاص يسعون للحصول على مكاسب مالية، عبر تأسيس مثل تلك الصروح التعليمية.ومازالت تلك المدارس والجامعات تدار وفق قرارات مؤسسيها ورؤاهم وتشريعاتهم، رغم القصور الفاضح بالكفاءات التدريسية الحقيقية، وخلوها من المعايير العلمية والأدوات التقنية والفنية للتأهيل. لذا  يتخرج سنويا العديد من الطلبة دون مؤهلات علمية حقيقية، وأيضا وبسبب هذا النوع من الجامعات يضخ إلى عالم البطالة والتسكع أعداد هائلة من الشباب .   
ويترافق كل ذلك الخراب بانتشار السلاح وعدم استقرار الوضع الأمني والتجاء الناس لقواها الاجتماعية من عشيرة وطائفة،وهذا لوحده شكل الأثر الأكثر خطورة على الوضع التعليمي. فمع تدخلات الأحزاب والقوى السياسية والمليشيات،وعجز الدولة عن حماية الكثير من قطاعات الدولة ومنها قطاع التعليم، لذا يتعرض الكثير من الأساتذة للابتزاز والتهديد، وبات البعض منهم معرضا وبشكل يومي وسافر للاعتداء والترهيب من قبل العديد من الأشخاص والقوى السياسية والاجتماعية، ويحاصر ويهدد اجتماعيا ووظيفيا ويجبر على اتخاذ مواقف بعيدة كل البعد عن المهنية الحقة والقيم الأخلاقية. ففي بعض الأحيان يرغم على منح الشهادات والوثائق المدرسية حسب الطلب، مما أثر ويؤثر بشكل بالغ الخطورة على مستوى وطبيعة الدراسة وعلى حياة الأساتذة المهنية والاجتماعية أيضا.
 وقد تحولت بعض الجامعات والمدارس بسبب تدخلات الأحزاب والقوى المسلحة لضياع وممالك ومقاطعات خاصة، تمارس فيها جميع أنواع الموبقات والمتع المستهجنة وغير الرصينة بل المدانة اجتماعيا وأخلاقيا، وتشيع وسطها لغة التجهيل والخرافات ويهان فيها التعليم والمعلم.
ودائما ما شكلت العطل الرسمية وغير الرسمية والمناسبات الدينية واحدة من أكثر مجالات القطع والتسرب من الدراسة، ليصبح تأثيرها مجالا تخريبيا  لمجمل العملية التدريسية، وبات وقعها السلبي شديد الوطأة على مستوى أداء الأساتذة والطلبة  ومن ثم النتائج المستقبلية للعملية التربوية.
ومع استمرار تلك المشاكل والمعوقات وبهذه النماذج التي توسم العملية التدريسية  دون أن يتداركها الخيرون، فيمكن القول أن  السنوات القادمة  ستفصح عن مشهد لن تستطيع تغير طبيعته التخريبية جميع الجهود وأخلص النوايا.ويكون تأثيره حاد الإيذاء على جميع مناحي حياة العراقيين ولا يقتصر على العملية التعليمية .
لذا فالمطلوب اليوم هو حماية الجهاز التنفيذي للعملية التربوية أولا، وعبر سن قوانين رادعة لكل من تسول له نفسه ويستسهل خرق القوانين والاعتداء الجسدي أو اللفظي أو تسريب معلومة أو إحداث ضرر معنوي أو مادي في الوسط التعليمي بجهازيه الإداري والتدريسي. وعلى أن تخصص حماية أمنية لجميع كليات ومدارس العراق ولمدد محددة، يمدد وجودها حسب الحاجة،  وقبل كل هذا وضع ضوابط ومناهج تمنح العملية التربوية رصانتها العلمية قبل أي شيء أخر، عبر مراجعة دورية للعلوم والتقنيات المقدمة للتلاميذ وتحديثها وفق المستجدات. ويتم أيضا إعادة هيكلة للقوى التدريسية من خلال مراقبتها وتقديم العون لها، فالكثير من هؤلاء الأساتذة أحوج من غيرهم لإعادة تأهيل كاملة.فمثلما هناك عملية لتغيير المناهج الدراسية، وتحسين مداومة التعليم العالي للانتقال إلى نظام تعليمي ثلاثي المستوى وفق ما يسمى بعملية بولونيا، حسب ما جاء بتصريح وزير التعليم العالي العراقي. وعملية بولونيا هي شراكة تعاون في مجال التعليم العالي بين مجموعة كبيرة من الدول منها 48 دولة أوربية ويترافق بإشراك هيئات حكومية ومنظمات ومؤسسات دولية في الإعداد والتنظيم والمراقبة، مما يجعل الجامعات مشروعا تنافسيا ويسرع في تحديث أنظمة التعليم والتدريب لمواكبة متطلبات سوق العمل.
من كل هذا  يبدو من الضروري الأخذ بعين الاعتبار مهمة مستعجلة وفي غاية الأهمية ترافق ذلك التغيير، ألا وهي إعادة تأهيل جميع التربويين من تدريسيين وإداريين من العاملين في مختلف مجالات العملية التربوية.ويتم ذلك عبر اختبارات منهجية دورية، وإشراكهم في دورات تربوية علمية مركزة، تشرف عليها لجنة عليا مختصة، ترتبط مباشرة برئاسة السلطة التنفيذية، ويشارك فيها خبراء من الأمم المتحدة والجامعة العربية والشركاء في عملية بولونيا، وتكون مهمة اللجنة إعادة تقييم خبرات التدريسيين في مجال الاختصاص، ومن ثم إدخالهم في دورات تأهيلية في ذات اختصاصاتهم، مع إعطائهم دروس في طرق التعامل والتدريس المتجددة، وكيفية البحث عبر التقنيات الحديثة للوصول  إلى مستجدات العلوم والمعارف.
ولتدارك شح المعلمين والأساتذة يمكن زج أعداد العاطلين عن العمل من خريجي جميع الاختصاصات في دورات أعداد للمعلمين والمدرسين وتهيئتهم للعمل في المدارس بجميع مراحلها لملء الشواغر التي تعاني منها المدارس.


23


النهر يكتم أسراره / المشهد الثاني /ج الأخير
فرات المحسن
ذلك اليوم خرجت من الدار، أجاور في سيري جدران البيوت في حي الكسرة. كانت الشمس توشم بخطوطها الحمراء  الحافات العلوية للبيوت مبشّرة بظلال مغيب قادم. وضعت البندقية الرشاش نصف أخمص في صندوق كارتوني صغير للعبة صبيان. جلست في المقهى القريب لسوق الكسرة حيث كان موعدي مع وهاب والزبون الجديد. جلست أطالع الوجوه بحذر. قدم وهاب ومعه شاب صغير ضئيل الجسد نحيله. جلسا عند الطرف الداخلي القصي للمقهى. انتظرت أن يكملا شرب ما طلباه. بعدها تحركت خارج المقهى فتبعني الزبون الذي عافه وهاب وذهب في الاتجاه الأخر.
أغلب المرات كنت أختار لعملياتي الجانب الأيمن من الشاطئ تحت جسر الصرافية الحديدي،حيث هناك مكان قريب ومناسب لفحص السلاح واستعماله.
أسفل الجسر مجموعة من الحفر والتلال الرملية الصغيرة. ومع شحّ الماء في النهر امتدّ لسان رملي طويل يسهل المشي عليه للوصول إلى ما يقارب منتصف النهر. المنطقة القريبة تحيط بها مؤسسات حكومية خالية من الموظفين تماماً. حتى البيوت خلت من ساكنيها، خوفاً من المعارك الطائفية التي تندلع بين وقت وآخر في المنطقة. كل ما في المكان يبدو مناسباً وبعيداً عن أعين المارة. ليس هناك مشاة ولا تخطر السيارات بالقرب منه وبالذات عند غروب الشمس، حتى الشرطة والجيش ماعاد لهما وجود قريب من تلك المنطقة. أصوات الإطلاقات النارية تلعلع بين الحين والآخر على جانبي الجسر. الساعة قاربت الخامسة مساءً وثمة ضوء ينسحب إلى خلف البيوت المغلقة والهامدة في جانب الكرخ من الجسر. دخلت المكان بحذر، عاينته جيداً،  ثم لوحت لزبوني أن يتقدم. رأيت غراباً  أسودا نحيلاً حط على سياج الجسر وصاح بفزع ثم طار. شعرت بشيء من الضيق وخطر في بالي أن هذا نذير شؤم. كانت والدتي تقلق وتتبرم عندما ترى مثل هذا الطائر الأسود يحط فوق سور بيتنا، وتبقى اليوم بطوله وهي في حالة تبرم وتأوه، وبمزاج عكر وخصومة معي ومع غيري. أظنني ورثت عنها هذا الهاجس المرضي. تداركت الأمر لا بل حاولت إهماله كي لا يسبب ليَ قلقاً واضطراباً في هذا الوقت بالذات.
حدق الشاب بوجهي وكانت أساريره تنفرج عن ابتسامة مرتبكة خجولة. ران الصمت بيننا بادئ الأمر ثم راح الصبي يتمعن قطعة السلاح.  كان يبدو صبياً في كل ما تحمله تقاطيع وجهه، ويوحي به جسده الناحل. راح يطلق حديثاً غريباً عن حاجته للسلاح، ومع الحديث كان جسده يتلوّى ويداه تتحركان بسرعة وكأنهما ذراعا آلة. مع استرساله في الحديث أبدى بعض النزق والتعابير التي توحي بطفولة غير سوية، وليس فيها الشيء الكثير من الدعة والسلام. كان يرتدي قميصا لماعاً مهلهلاً مبعثر النقوش، ولكن ألوانه تبدو مريحة ومبهجة، ويرتدي فوقه سترة خفيفة بلون أخضر غامق. تركته يتحدث دون أن أقاطعه، فأنا أعرف أن الاسترسال في الحديث سوف يبعد عنه الخوف الذي شعرت بوطأته عليه، والذي تفسره حركة الأصابع  والجسد غير المستقرة. ورغم نحوله كان يبدو بصحة جيدة، متوسط القامة وجهه طفولي يتسم بالرقة. مع كلامه المتقطع المتوتر، كان يدفع ضحكة متكررة خفيفة، لها رنة طفولية محببة. فجأة شعرت بالحنو عليه، وودت أن أبعده عن هذه اللعبة القذرة والخبيثة. ولكنني عزفت عن هذا وأنا أوجه له استفساراً مباشراً.
ـ زين ... أنته تعرف بالأسلحة؟
لم يتردد وأجاب بسرعة:
ـ أي ..أي...جان أبويه عنده مسدس وجان ينطينياه من نروح للمزرعة.
ـ بس اليوم راح تشوف سلاح جديد.
ـ ميخالف..كلشي حلو..أجربه ..
ـ شنو شغل ابوك ..؟
ـ صاحب معمل حلويات..هو مو هنا.. 
ـ لعد وين أبوك..؟
ـ خطفوه..
سهمت وأنا أطالع وجه الشاب حيث كبت عيناه واختفت الابتسامة عن محياه، واستكانت أصابعه متشابكة تعصر بعضها بعض. لعلّ البعض لم يواجه مثل تلك الحالة، ولا يدرك كنهها ولكني كنت أشعر بما يجول في خاطر هذا الفتى. شاهدت في عينيه مقدار الألم الكامن، رغم حركتهما الفزعة المرتبكة. تلك الالتماعة المعبرة عن مغزى أن تكون لوحدك تواجه كل تلك الآثام والرعب المبثوث من حولك. شعرت برغبة عارمة أن أنجز العمل بسرعة وأترك المكان ليذهب الشاب بعيداً عني.
ـ خلي بالك ... البندقية سريعة الإطلاق ..تحتاج أن تكون قويا وتسيطر عليها...هاي مو مسدس..راح أراويك شلون تفككه وشلون تشدها، وبعدين أنته تسوي مثلي ..خوش
ـ أي ميخالف.
سحبت البندقية من الصندوق ووضعتها في حضني ثم نزعت مخزن الإطلاقات وبدأت التفكيك. كان الشاب يراقبني بنباهة ودهشة. أعدت تركيب البندقية ثم سلمتها إليه ليفكك أجزاءها. ارتبك بادئ الأمر ولكني لاحظت بإعجاب قوة نباهته وقدرته على حفظ العملية بدقة مناسبة. في عملية إعادة التركيب نسي من أين يبدأ وكيف يعيد الترباس إلى مكانه، فأشرت له ببعض الملاحظات فقام بالعملية على أتم وجه. ثم طلبت منه إعادة عملية التفكيك والتركيب لمرة أخرى فأعاد العملية بجدية ودراية جيدتين.قدمت له النصيحة عن  كيفية المحافظة على السلاح باستعمال النفط والزيت بين فترة وأخرى، لكي لا يصيب  البندقية الإهمال ويدبّ فيها الصدأ من الداخل.
ـ هسه راح أنجرب السلاح قبل ما تستلمه وتروح الله وياك..
ـ أني هم أجربه؟
ـ طبعاً... لعد ليش تشتريه ..
أعدت مخزن الإطلاقات إلى مكانه وسحبت الأقسام بخفة ثم أطلقت رشقة سريعةً ترددّ صداها في المكان وطار إثرها جوق عصافير. ناولت الشاب البندقية بعد أن أغلقت عتلة الأمان. أخذها بين يديه وهو يطالعها بانبهار ظاهر. سحب العتلة ولكنها امتنعت عن التقدم، فرفع عينيه نحوي وكأنه يتوسلني لتفسير ما حدث. ضحكت ونبهته  لضرورة التدقيق بمجمل العملية، وضع المخزن أولاً، ثم وضع عتلة الأمان ومهمتها في البندقية، ووجوب بقاء البندقية في حالة الأمان عند عدم الاستعمال، ودفع العتلة إلى الأسفل حين الاستعمال، بعدها يأتي سحب الأقسام، وفي حالة الرمي الضغط على الزناد، ومن الواجب أن تسند البندقية إلى حوض الكتف ومسكها باليد اليسرى  بإحكام، وإلا سوف تقفز البندقية ولا يستطيع المرء السيطرة عليها، وربما يسبب هذا خطأً قاتلاً، وإن لم يسيطر المرء عليها بشدة، فإن عملية ارتدادها سوف تؤذي عظام الكتف وأنسجته. ونبهته لضرورة أن يبدأ بتجربة الرمي المفرد، وشرحت له الفرق بين هذا والرمي بالرشقات السريعة.
لم أشأ أن أسأله عن سبب رغبته بالحصول على السلاح، ولم يكن مثل هذا السؤال ليثقل بالي في المرات السابقة أيضاً، فلكل شخص أسبابه ومبرراته، وإن أردت استجلاء مثل هذا الأمر سيكون من السخف أن أجد ما يبرر اقتناعي من عدمه. الأحداث في الغالب تسير ليس بما يظن المرء وبما يطمئنه، ولكن في كل الأحوال ومثلما يقال فإن للضرورة أحكاماً، ولا جدوى في البحث عن الدوافع أو سبب الاقتناع، ومثل هذا الأمر إن بادرت في البحث عنه، سوف يضعني في دوامة الهموم والمشاكل الشخصية للزبائن. وقناعتي أن الجميع تعرضوا لحوادث خلقتها حالة الانفلات الأمني، وهذا بالذات ما يغني عن السؤال.المهم أن المرء لا يستطيع العمل وهو يفكر بهموم الآخرين ومشاكلهم في وقت واحد.
إنجاز المهمة بوقت قصير يعني الكثير، وفي المقدمة من ذلك أن تخرج وزبونك من هذا المكان سالمين معافيين، ودون أن يكون جسدك ممزقاً ومرمياً عند طرف اللسان الرملي تحت حافة الجسر الحديدي.
وضع الشاب البندقية في حفرة الكتف فطلبت منه تثبيتها بقوة وإمساكها جيداً قبل الضغط على الزناد. اندفعت الإطلاقة، واخترقت الهواء بصفير مسموع متجهة نحو الضفة الأخرى للنهر. علت وجه الفتى ابتسامة فخر، وومض بريق غريب في عينيه. لم ينبس بكلمة ولكنه كمن كان يقول ليَ.
ها شلوني ...مو كَدها..
وضع البندقية مرة أخرى في حجرة كتفه بعد أن سحب عتلة الأمان ووضعها في موضع الرشق وضغط على الزناد بعجالة فانطلقت الرصاصات بحدة. تحرك جسده وتمايل بعنف، ولم تستطع يداه السيطرة على حركة البندقية واتجاه الرمي. قفزت وسحبت البندقية بقوة ووضعت الفوهة باتجاه الأرض.
سمعت الصرخة المفجوعة التي اخترقت السكون وتردد صداها بين ضفتي النهر.نظرت نحو النهر، شاهدت القارب المنساب وئيداً. ترنح جسد الرجل ثم سقط في حوض القارب. تأكدت من أن الرصاصات أصابت صاحب القارب الذي كان يتهادى وسط النهر قادماً من الجهة الشمالية نحو الجسر. سحبت مخزن الرصاص وطويت أخمص البندقية ووضعتهما في العلبة وسحبت الشاب من يده وتركنا المكان.



24
النهر يكتم أسراره / المشهد الأول / ج2

فرات المحسن
حين هاتفهم قبل مجيئه إلى بغداد، كان ذلك قبل شهر من الآن، شعر بثقل الحنين يطغى على روحه مثل سحابة مضمّخة بالعتاب الجارح. سمع صوت والدته المثقل بالحزن، وهي تجهش بالبكاء وتدعو له بالسلامة، وتتمنى أن تراه وولده قبل أن يأخذها الموت. كان ذلك المساء نذيراً بهيجان شوق كُبت كل تلك السنين الخمس عشرة التي حسبها انطوت سراعاً، ليقف في هذه اللحظات مرتعشاً تملأ روحه الموجوعة موجة من غمّ ونكد ، فترك لدموعه الفرصة لتمسح ما تستطيع من هموم. وفجأة وجد نفسه يقرر السفر إلى بغداد.
طالعته سماء بغداد وهو غير مصدق عينيه. كان الغبار يفصح عن دَكانة كئيبة تغطي بناياتها، ولكن نهر دجلة لا زال في مكانه راسخاً يتلوى مثل أفعى. رغم الجزر المغطاة بالحشائش التي رقـّعت وجهه، كان يتمايل هادئاً كسولاً ذاهباً نحو أقصى الجنوب باتجاه الخليج. أصابته الدهشة وهو يرى هذا المنظر المرقّع بألوانه الداكنة المختلطة بغير عناية، عبر نافذة الطائرة. حلقت الطائرة بدوران حلزوني فوق المطار ثم هبطت بحذر شديد فوق المدرج. عند هبوطه سلم الطائرة لفح وجهه هواء حار خالطته ذرات رمل لاسعة، فرفع منديلاً ورقياً ليضعه فوق أنفه، ولكنه وجد أن العملية ليست بالسهولة التي يظنها، ليرفع معها حقيبته وفي الوقت ذاته يحاذر التعثر والتدحرج من أعلى السلم.
 المفاجأة الأولى غير السارّة التي واجهته كانت عملية خروجه من المطار نحو بيت أهله في مدينة الكاظمية. فقد وجد صعوبة في الحصول على سيارة تقلـّه إلى هناك. وقف واجماً أمام الباب الواسع والعالي لمطار بغداد، لعله يجد من ينقله إلى هناك. انتبه لإشارة كان يلوّح بها صاحب سيارة حديثة فاتجه نحوه. حسم الأمر وقبل بالمبلغ الذي طلبه السائق. بعد بضعة كيلو مترات باتجاه المدينة أخبره السائق بأنه سوف يوصله عند نقطة عباس ابن فرناس القريبة، وهناك سيجد سيارات نقل كثيرة تذهب إلى جميع أحياء بغداد. حار بالإجابة، فالمبلغ الذي طلبه السائق ليس بالقليل، والسائق حسب الاتفاق استوفاه عن نقله إلى مدينة الكاظمية، وليس تركه في مكان  تحكمه سيطرة عسكرية، وعليه أن يستقل من هناك واسطة أخرى. لم يتركه السائق في حيرة من أمره، فأوضح له السبب معللاً الأمر بارتباطه بواجب في المطار وعليه العودة بسرعة. وأضاف أن السيطرة الموجودة في موقع عباس بن فرناس سوف تمنعه من العودة مرة أخرى إن خرج إلى المدينة. أراد مناقشة الأمر مع السائق ولكنه سهم وفكر، إن كانت الخسارات لا تتجاوز أكثر من هذه الخدعة، فهي لا تعني شيئاً، وليدع الأمر يسير دون انفعالات وضجيج، فربما يتطور الأمر إن ألح، وفي النهاية إلى مشاحنة وخصومة لا يعرف نتائجها، وسبق له أن سمع عن حوادث راح ضحيتها أشخاص دون وجود ما يبرر حدوثها. وزيارته لأهله  بعد كل تلك السنوات، مع ما يتوقعه من انفعالات الفرح والغبطة التي ترافق مثل هذا اللقاءات تجعله يهمل  ويرمي بعيداً أي تفكير بإثارة مشكلة عابرة، يمكن حلها بواسطة النقود، لذا اقتنع وقبل بما فرضه السائق عليه، واستقل سيارة أخرى من نقطة تفتيش عباس بن فرناس.
استدارت السيارة واقتربت من منعطف الشارع القريب من بيت أهله. طالع البيوت التي رُصّت جوار بعضها البعض، وبدت ألوانها كالحة وجدرانها تعرت وظهرت أحجارها المنداة كبقع كبيرة متباعدة. سار بخطوات متعثرة وقدماه تقودانه داخل الزقاق. شعر بأن الشارع بدا ضيقاً وليس كما عرفه سابقا. تردد بعض الشيء ووقف أمام باب دكان صغير نطت بوابته من أحد جدران البيوت. كانت البيوت واطئة أسدلت ستائر شبابيكها، فبدت وكأنها تغلق نفسها أمامه على صمت مبيّت. شعر وكأنه يسير إلى لا مكان، وحيدا يختم على قلبه بقوة، مانعاً  أكثر ذكرياته نشوة وفرحا من الطفح. حاول تشتيتها في تلك اللحظات المحرجة اللجوجة. اختلطت في رأسه أصوات عراك وقهقهات لصبية يختبئون خلف تلك الأبواب الموصدة. همس قوي رددته البيوت في وحشة تلك الأمسية الكالحة، فأحس بارتجاف جسده. ولكنه شعر ببعض طمأنينة حين أسكره عطر أشجار النارنج ورائحة الحشائش المنداة، ولون السماء بغيومها الرمادية التي تعكس ضوء الشمس الغاربة.
لم يخدع نفسه، فالشعور الذي أنتابه لم يكن إحساساً بعودة إلى وطن، فقد شعر بغربة قاحلة تلف روحه، وكأن قدميه تطآن المكان للمرة الأولى. كان الباب محافظاً على اللون الأخضر الفاقع ذاته، وكأن طلاءه قد جُدد حديثاً. ولكنه استغرب هبوط دكة الباب عن مستوى الشارع حيث بدا وكأن الدار برمتها قد غاصت نحو الأسفل. طرق الباب.
 لفته زحمة ضجيج وتلقفته أياد كثيرة. أقارب ومعارف ووجوه يراها للمرة الأولى. عجائز وشيوخ، شباب وصبية، قبلات واحتضان، عتب وبكاء، شجن وحسرات، وكانت أمه  قد تلقفته  ولم تترك جسده يفلت منها. كانت رغم قصر قامتها وجسدها الناحل الدقيق تتعلق برقبته وتتشبث بها، وكأنها تقاتل الجميع دفاعاً عن حصتها فيه.
لعدة أيام ظل جالساً في صالة الضيوف لا يفعل شيئاً سوى استقبال الأقارب ومجموعة الأصدقاء والجيران، ما كان يفعله غير مطالعة الوجوه التي ضجت بهم أيامه، وهو يبادلهم الابتسامات ويهز رأسه شاكراً حضورهم وحسن وفادتهم وحرارة ترحيبهم وسماع تعليقاتهم. وكانت أمه تتلمس جبينه بين الحين والأخر وكأنها تمسد وجه طفلها حديث الولادة. كانت أصواتهم وحكاياتهم أشبه بصفير مكتوم يثقب رأسه، تتراقص وجوههم أمامه، تتأرجح وهي تروي حكايات عن علاقاتهم به، أو عما كان يحبه أو يكرهه، عن مغامرات وأفعال شعر بسماجتها أو افتعالها. كان يقضم الطعام معهم ويبعث ابتسامات بليدة يرسلها بمشقة نحو عيون تطالعه طيلة الوقت لتفتش في تقاطيع جسده.
لقد هزل الجميع، وبرزت عظام وجوههم وتحددت بتجاعيد دقيقة. جميعهم، حتى الصغار منهم، هؤلاء الصغار الذين شابوا بسرعة مذهلة، ولم يتركوا له ما يستطيع الاستدلال للتعرف عليهم. تلك الفوضى التي سادت البيت، مع حضور كل تلك الأعداد من الناس، ذكـّرته ببريغيتا وكيف كان صوتها يبعث في رأسه صدىً مخنوقاً  لتجعل من المكان بيتاً  لمصح عقلي.
لمرات عديدة أحس بالقشعريرة والخوف وهو يسمع رشقات الرصاص ودويّ الانفجارات، بالرغم من وجودهم حوله. كان في حالة من الذهول الدائم لقرب تلك الأصوات من المنطقة. وكان يراقب بخوف شبابيك الغرفة وهي تهتز بقوة مع كل انفجار، ولعدة مرات وثب من مكانه وهو يتحفز لدرء الخطر المجهول. 
ما زال أمامه خمسة أيام. ومع مضي الأيام السابقات، استعاد بعض صحوته من صدمة ما شاهده وعرفه وسمع عنه، أشياء تبدو أكثر قرباً من الخيال. جاهد في الليالي الماضيات أن ينتزعها من رأسه دون جدوى. كان ينتظر، فمثل تلك الحكايات والأفكار والثرثرات، سوف تزول حتماً حين يجد نفسه قد عادت لتكون بينهم مثلما السابق، أو ليتعرف جيداً على طباعهم وحياتهم الجديدة ليتقبلها راضيا ثم يهضمها. إن مثل هذا الشيء يحتاج إلى وقت، وقبل ذلك إلى قناعة وهدوء وهو يمتلكهما حتماً، هكذا حاور نفسه.
كان يستيقظ كل ليلة ليسترق السمع في ذلك السكون الموبوء بنباح الكلاب وأصوات الصراصر، ورشقات الرصاص، وزعيق سيارات الشرطة والإسعاف ، ليل يسمى ليلاً، ولكنه يخلو من كل علاقة بتلك التسمية، فيدس رأسه في الوسادة المتيبسة مبعداً روحه عن ذلك الجنون، يحاول جرجرتها نحو شقته في مدينته السويدية مولندال وابنه سالم، وحديث الشجر في غابته الجميلة.
البارحة كان ليلاً طويلاً مميزاً، فقد سهرت أمه معه حتى ساعة متأخرة. كانت قبلاتها عطشى وكان حضنها وسادته اللدنة المحببة. للمرة الأولى، يشعر بأنه يستعيد شيئاً من الطمأنينة والحنان ويبعد كلياً الخوف عن روحه. سمع أصوات ضجيج سيارات الشرطة وإلاطلاقات النارية واهتزاز الشبابيك، ولكنه لم يشعر بالرعب مثلما في الأيام السابقة.
 بتلميح ذكي نبهته أمه لزهراء. استدرجته في الحديث وهي تمسد شعره بأصابع يدها اللدنة، وكان هو يشم رائحة طفولته تلفع أنفه، متأتية من شالها الذي كلح لونه. ما زالت زهراء في خاطره، وهي قريبة من أمه بعد أن توفيت أمها. زهراء بنت خالته التي يكبرها بعامين، وكانا يتذاكران سوية أيام الدراسة، وكان قد لاحظ اهتمامها به، وتركيز نظراتها عليه. انتبه لذلك جيدا، وبدوره حفظ لها في قلبه ابتسامة بريئة طرية. ربما تعاد تلك الأيام، ولكن تمناها أن تكون على براءتها، شقاوة ومودة وأخوة بريئة. لا يدري ما تخبئه الأقدار. كان ذلك منذ ما قبل خمسة عشر عاماً مضين وأخذن معهن الكثير. هاهو قد جاوز الأربعين بتسعة أعوام، وهي ترملت مبكراً، عافها زوجها وذهب ضحية حرب لعينة، دون أن يترك لها ما يشيع في قلبها فرحا حتى ولو بسيطاً. أرملة وحيدة، وهي اليوم ذات سحنة سمراء داكنة بعض الشيء، منتفخة الجسد وعروق يدها ناتئة، وتبدو ذات بشرة مترهلة، رغم ما يظهر عليها من حيوية ونشاط، وما زالت تحتفظ ببقية من سحر شباب. ظن ذلك عند موعد الغداء،حين بادلها ابتسامة أوحت لأمه الكثير من الدلالات، فضغطت على ركبته، وتوشح وجهها بالرضا وابتسامة لها أكثر من مغزى. لذا كان حديث الليل طويلاً أقتصر على طباع زهراء وسجاياها.
في تلك الليلة شعر بأنه تعرف على ابنة خالته زهراء مرة أخرى. وجدها قريبة منه، ودودة، تعامله بفرح ومودة. كانت وكأنها عادت لتسأله المساعدة في شرح الدروس فيجيبها بعد مماطلة، ولكنها لم تكن لتيأس، وفي النهاية يقتنع فيشرح لها ما عصي عليها فهمه . كثيراً ما كان يصدق إحساسه، فبمجرد كلمة أو نظرة يجد أن ذلك ينطبع في قلبه وذهنه ليصدق الحال بعد ذلك دون جهد يذكر. زهراء بنظراتها تطلب منه ذلك، والآن فإن أمه تعرض عليه الأمر دون مقدمات. حين حديث أمه عن زهراء تحايل كثيراً وناور كي يغير الحديث الذي شعر بأنه غير مستعد للخوض فيه، أو إعطاء كلمة مناسبة في شأنه. ولكن أمه كانت امرأة صبورة لجوجة لا تتخلى عن هدفها بسهولة. كان يردد في سريرته لو أمكن صرف انتباهها إلى موضوع آخر، لكن إصرار الأم كان لا يتزعزع. لم يحر طويلاً بالأمر فبادرها بالسؤال:
ـ ألا يزال القارب عند الشاطئ.
ـ أي قارب ؟
ـ قارب الصيد الذي كان لوالدي.
ـ أجل، مازال هناك وقد أهمله خالك منذ عام. و أظنه في المكان عينه . ما الذي تريده منه ؟ 
ـ لا شيء .. أتتذكرين تلك الأيام حين كنت أشارك أبي في الصيد ثم أستخدمه في نزهاتي.
ـ أتذكر ذلك جيداً .. ولكن الظروف اختلفت يا ولدي .. حتى الصيد بات صعباً في ظل هذه الأوضاع.
ـ لا أريد أن أصطاد .. فقط أريد أن أعيد النزهة.. هذا الشيء بات غصّة في صدري. ما أجمل ما يعيد لي تلك الأيام.
ـ ولكن يا ولدي ليس من السهولة فعل ذلك..
ـ للمرة الأخيرة .. وليكن ذلك ذكراي العزيزة التي أحتفظ بها في غربتي.
ـ لست متأكدة، ولكن أسأل خالك عنه.. فربما لم يعد القارب صالحاً للاستعمال.


25
النهر يكتم أسراره / المشهد الأول / ج1

فرات المحسن
كان موعد سفره إلى بغداد يقترب ، ومعه تزداد نسب القلق والارتباك.أربع سنوات مضت على سقوط الصنم، وللمرة الأولى يفكر بالسفر إلى هناك بعد غربة جاوزت الخمسة عشر عاما.  جهّز كل شيء بسرعة وعناية شديدين. وضع حاجياته الخاصة في حقيبة جلدية صغيرة سوداء، وفكر أن لا يحمل معه من الملابس الكثير، وما سوف يحتاجه يمكن شراؤه من بغداد.ملابس جديدة وكثيرة انتقاها من مخازن البيع في المدينة وابتاع لها حقيبة كبيرة. دقق كثيراً بنوعية الملابس واختارها بأحجام مختلفة لعلها تناسب جميع من سوف يلتقيهم، صغاراً كانوا أم كباراً. في الأسبوع ما قبل يوم السفر واجهته المشكلة التي اعتاد مواجهتها خلال السنوات الخمس التي مضت منذ انفصاله عن بريغيتا.
 بريغيتا مطلقته الفنلندية التي أذاقته الأمرين لثلاثة أعوام، وما زالت تلاحقه لعنتها لحد الآن. بين الفينة والأخرى يجد في صندوق بريده ورقة استدعاء من سلطة البلدية، وفي النهاية يجد أن الأمر لا يعدو كونه وشاية أو شكوى من بريغيتا.
 ذهب إلى الطابق الثالث من مبنى البلدية عند العجوز روزماري، فأجلسته قبالتها وطالعته بعيون صقرية، ولكن وجهها كان يحمل ابتسامة ظاهرة. دون مقدمات، أخبرته بشكوى طليقته. كونه ولشهر كامل، لم يعتن بطفلهما ولم يصطحبه للتنزّه. شعر بالحرج ولكنه وجد في سفره إلى العاصمة ستوكهولم ضمن إيفاد من دائرته لفترة أسبوعين ماضيين، عذراً مقنعاً، قدمه  للعجوز روزماري ذات العيون الصفراء الجاحظة. شعر بالرضا بعد أن أحس باقتناعها.واضطر لإخبارها بأمر سفره إلى العراق، كي لا يجد ما يحرجه من شكاوى جديدة، من الممكن أن تقدمها طليقته بريغيتا خلال فترة سفره، متحججة بقرارات المحكمة عند انفصالهما.
لا يدري إلى متى سوف تلاحقه سفاهات بريغيتا وتنكد عليه حياته. إلى متى تفتعل هذه الشكاوى والوشايات.ولولا تعلقه بابنه سام، لرحل بعيدا عنها نحو أقاصي الكون. حبه  وتعلقه بسام كان يمنعه من ذلك. كان يلذ له أن يطلق عليه تسمية سالم، ويشعر بأن سام يتقبل اسمه العربي بفرح وسعادة. حتى هذا الشأن كان مصدر خلاف كبير بينه وبين بريغيتا. وهو اليوم متيقن بأن شكوى بريغيتا هذه وادعاءها حول عدم العناية بسالم، جاءت إثر معرفتها بسفره القريب إلى بغداد. فهي تتسقط أخباره من زملائه في العمل.
حين تعرّف عليها، كانت بريغيتا ذات الشعر الكستنائي والعينين العسليتين الواسعتين، شابة جميلة رقيقة ذكية. وأحبها أيما حبّ. ولكنه وبعد مضي الزمن شعر بأنه خـُدع بها أيما خدعة. فبعد العام الأول، ومع ولادة سالم، بدت وكأنها لم تكن على قناعة أبداً بنمط الحياة التي يعيشانها. وبدأ الملل يتسرب لحياتهما والمشاحنات تنغص عليه حياته. أشياء تافهة وبسيطة تتحول إلى معارك لا هوادة فيها. وأبدت في الكثير من الأوقات غروراً وفظاظة عجيبين، ومع الأيام كانت تنفر وتظهر احتقاراً لجميع معارفه وأصدقائه، لا بل راحت وفي أحيان كثيرة توغل في تحقيره والسخرية منه. وكانت تجيد توجيه إلاهانات له وللآخرين. تختفي من البيت حين يدعو أصحابه، وتحسن صنيع العبث كي تجعله وضيوفه ينفرون من الفوضى العارمة التي يجدونها قد عّمت الدار.
 يتذكر ذلك اليوم، كان يوماً شتائياً عاصفاً حين التقاها عند تقاطع الشارع المؤدي للسكن. طالعها بمودّة، وبادلته النظرات، بعد ذلك عرف أنها تسكن الطابق الرابع من البناية المجاورة.عدة لقاءات عابرة كانت كافية للتعبير عن مشاعر متوافقة ورغبة بالحديث الذي بادرت هي به، بسلام صباحي وابتسامة مشرقة. بعدها تعمّد اصطياد أوقات خروجها ليلتقيها وجهاً لوجه عند موقف الحافلة. لم تمض غير أيام قليلة حتى بادرته بالسؤال عن الطقس، وتحدثا عن العواصف الثلجية التي تكررت بشكل غير طبيعي ذلك العام. ثم استقّلا واسطة النقل وجلسا جنباً إلى جنب. ومع الأيام تكرر الأمر وتطور معه الحديث متخذاً طابعاً ودوداً وشيقاً.
لم يكن ليستطيع الغور بعيداً لمعرفة دوافع حب بريغيتا له. ولكنه علل ذلك بأن لا حدود أو عوائق ومصدات إن أراد الأوربيون اجتراح الحب وممارسته. وليس هناك غير القناعة الذاتية والرغبات الحقيقية التي تدفعهم في خياراتهم. وربما رأت فيه غير ما يرى الآخرون. فلم يكن يمتاز بأية صفة تجعل فتاة بجمال بريغيتا تنجذب إليه، سوى طباعه الطيبة السمحة وجديته وكياسته، كما يتحدث عنها الأصدقاء، عدا ذلك لم يكن يتميز بشيء أخر يتفوق به عن حال الآخرين.علاوة على ذلك كان يحمل ندبة عميقة تخترق جبهته بشكل ظاهر. كما أن ثلاثة أصابع من يده اليسرى معطلة ومتيبسة. وتلك كانت آثاراً حملها من مشاركته في الحرب العراقية الإيرانية. وحين كان يحدثها عن تلك الأيام المفزعة التي دارت فيها رحى الحرب المجنونة، ويصف لها كيف كان الموت يحصد الشباب دون رحمة، كان يرى عينيها تغرورقان بالدمع وحشرجة البكاء تنكسر في صدرها.كان يضمها لصدره فيبدوان كمن يتبادلان المواساة.
ما الذي حدث؟ ما الذي غيرها على تلك الصورة المفزعة. بقي يلوك التساؤلات دون الوصول لحل معقول. من الجائز أن يحدث تغيير في طباع النساء مباشرة بعد الولادة، ولكن ما حدث مع بريغيتا كان جد مختلف، ولم يقتصر على فترة ما يسمى بحمى الولادة أو هشاشة الأعصاب التي تتعرض لها المرأة أثناء الولادة وبعدها، ولا يمكنه الاقتناع بأن مثل هذه الحالات تتعدى الثلاثة أشهر في الغالب، هذا ما قرأ عنه في أحد الكتب العلمية. ولكن أن تتحول بريغيتا إلى نمر شرس وطباع فاسدة وإهمال متعمد.هذا ما جعله يظن أن في الأمر سراً كبيراً. وبعد مضي السنة الثالثة ما عاد يطيق وجودها وأصبح كل شيء تقوم به أو تفتعله منفراً ومضجراً وكريها.
 كان ابنه سالم هو الشعرة الوحيدة التي تمسكه وتمنعه من إنهاء علاقتهما. ولكن في أحد الأيام وجدها تطلب منه الطلاق ، وكان الشرر يتطاير من عينيها، ووجهها يكتسي غيظاً وعبوساً. حسم أمره ووافقها بشكل سريع دون تردد أو نقاش، وكأنما كان ينتظر هذه اللحظة واستعد لها زمناً طويلاً. عندها كان يطالع ابنه سالم وهو يخربش رسومه فوق ورقة بيضاء في الزاوية البعيدة من غرفة الضيوف، التي بُعثرت في جميع جوانبها ملابس وأدوات طبخ وكثير من أوراق ومظاريف رسائل ومجلات وجرائد.


26

حكومة الشراكة الوطنية وتفكيك الدولة العراقية

فرات المحسن

الدولة العراقية التي هشمت على يد دكتاتورية نظام حزب البعث وقضي الاحتلال الأمريكي ومندوبه السامي بول برايمر على ما تبقى منها، فاحتسبت وفي فترة زمنية قصيرة وبعد أن اختفت ملامحها لصالح سلطات عديدة ومتعددة، وباتت تدار مؤسساتها كإقطاعيات خاصة وبعشوائية وتضارب أهواء، فعدت واحدة من الدول الفاشلة بجميع المقاييس وبكل ما تعنيه الكلمة من حقائق.
ومن جملة البحوث في ميادين عمل الدولة وتبيان واقعها، ينظر المحللون لمداخيل الأفراد ومستوى معيشتهم وطبيعة الخدمات التي ينتفعون منها، كمعايير تؤشر لحقيقة  النجاح من عدمه لتلك البنية العامة المسماة  دولة.
شكل مستوى الفقر نسبا عالية بين أوساط الشعب العراقي، وأشرت الإحصائيات  لنسبة ربما تجاوزت الـ  20 %   ممن هم تحت خط الفقر، ونسبة عالية أخرى تعيش حالة الكفاف، ويترافق هذا مع تنامي متسارع لذوي الدخول العالية بشكل غير مسبوق. وكان المال العام المتراكم وغير المسيطر عليه والمضاربات والمشاريع الوهمية والرشا والاتجار بالممنوعات والمحرمات وعمليات السطو والابتزاز قد وفرت أبوابا مفتوحة لتصاعد أسهم وثروات هؤلاء ،الذين يعدون اليوم  تجارا في بازار السياسة والدين والأزمات المجتمعية، وليحتلوا الدرجات الأولى في سلم الأثرياء على حساب جوع الملايين من الشعب العراقي.
ما يصاحب الفشل في الميادين السياسية والاقتصادية، يشكل عامل ارتكاس في العديد من مفاصل الحياة اليومية للشعب. فالحقوق الإنسانية  تضمن للأفراد وعموم المجتمع المشاركة السياسية الحقيقية  في بناء الدولة وترتيب هياكلها، ولكن في حالة عراق اليوم  نجد أن اختفاء التركيبة السليمة للدولة العراقية، تؤشره تجليات عديدة وتفضحه تصاعد لغة القهر والخوف والتسلط والتضييق على الحريات المدنية، وتشوه وابتذال مفهوم الديمقراطية، وتجاوزات خطيرة على حقوق الإنسان، ويترافق كل ذلك مع بطالة كبيرة وتصاعد حدة التغرب بين أوساط المجتمع، ومثله التهميش والضياع وغياب كامل لمفهوم ومبادئ المواطنة. ومع انكفاء مفهوم المواطنة بات العراق بحدوده الجغرافية الحالية مهددا بالتشظي والضياع على يد أبنائه قبل غيرهم.
دائما ما كانت فرصة خلق مجتمع مدني عراقي متجانس وموحد فكرة ليست بسهلة المنال، ولم يظهر مثل هذا النموذج على أرض الواقع بشكل يبعث على الاطمئنان منذ ما قبل هزيمة الدولة العثمانية، وأكده دخول أول جندي بريطاني لأرض بغداد عام 1917.  وبالرغم من أن صورة العراق الواحد الموحد، دائما ما كانت حلما يراود الكثيرين من الذين أحبوا العراق كمسمى وطن جامع، رغم تعدد واختلاف نسيج مكوناته، وعشقوه أيضا كعمق تأريخي حضاري دون حدود واضحة ومتماسكة، ولكن ظهر وبمرور الزمن، أن إسقاط تلك الأحلام  على أرض الواقع، لم يكن سهلا، ولم يجد له الأرض الصلبة للوقوف على قدميه،  وبدت تلك الأحلام جد طوباوية مع رسوخ حكم حزب البعث بعد عام 1968 وحروبه وسياساته الداخلية، بالرغم مما كان يدعيه من فكر قومي عروبي وحدوي. كذلك وجهت لهذا الحلم صعقة قوية إثر احتلال العراق من قبل الأمريكان عام 2003 ما جعل محبي العراق الواحد يفيقون على واقع لا يمت بصلة لما كانوا يؤملونه أو يحلموا به، وبدت تطلعاتهم في نهاية المطاف، مهمشة وبعيدة المنال، بعد أن طفح الكثير من الغريب والمستهجن وغير المتوقع اجتماعيا وسياسيا، وتصاعدت حدة الصراع والانقسام في الشارع العراقي.
وفي عودة لتاريخ بناء الدولة الوطنية الحديثة وظهور أول سلطة وطنية حاكمة عام 1921 دائما ما كانت قوة الدولة المركزية ولحد عام 2003 ، تمثل عامل الصهر والإدغام لمكونات العراق المجتمعية بشكل قسري دون النظر لخصوصيات تلك الفروع. وكانت ظاهرة الارتباط الاقتصادي الاجتماعي لأجزاء العراق الأربعة بدول الجوار الشيء الملموس والمتداول، مع غياب السوق الاقتصادية العراقية المشتركة، واختفاء أي نوع من علاقات إنتاج اجتماعية اقتصادية حقيقية مشتركة، وكان هذا الملمح الطابع السائد في الاقتصاد العراقي.وبدوره شكل عوامل طاردة رسخت حالة التشظي بين مكونات الشعب العراقي، وفككت الكثير من الوشائج التي كان من الممكن لها أن تنمو لصالح التراص والوحدة وبناء الهوية الوطنية.
 ودائما ما كانت الفرعيات  القومية والطائفية تنحو دوريا وباستمرار لتثبيت هوياتها الفرعية دون المرور عبر الهوية الوطنية الجامعة، وفي الكثير من تلك المحاولات بدت لغة الخصومة والنفرة  المجال الأرحب لتوكيد الحقوق والهوية الخاصة. وعلى ذات المشهد من التفكك والتباعد، خلت الساحة العراقية من الرموز أو الرمز الوطني الذي يجتمع أو تلتف حوله الغالبية، بل حدث ما هو العكس، فاغلب الرموز العامة التي ظهرت في تاريخ العراق المعاصر، دارت ومازالت حولها خصومات وصراعات،  وبدت تلك الرموز في الغالب وكأنها سبب في تأزم الأوضاع ورفع حدة المناكفات والفرقة.
عام 2003 وهو عام الاحتلال الأمريكي قلب جميع المعادلات ووضع العراق بوجه عواصف عاتية، وأزاح عنه ومن حوله جميع المتاريس والمصدات ليواجه مصيره عاريا، دون مساحيق تجميل أو توريات أو مصدات وطنية، وجعله يقف ممزقا واهنا وكأنه في اليوم الأول من دخول جيوش هولاكو لبغداد . ذاك اليوم من عام 1258 لم تكن بغداد عاصمة الدنيا، بل كانت عليلة ضائعة، تتقاذفها الأزمات مثلما تتلاعب بها أهواء الملوك والأمراء، وتنازعها مطامع أعدائها وتخاذل أبنائها. بغداد في 9 أبريل عام 2003 كان حالها حال بغداد عام 1258 .فقد عاث الدكتاتور صدام وحزبه بمقدرات الشعب العراقي منذ تربعهم على عرش السلطة، وسفحت دماء الآلاف من أبناء العراق في حروب قذرة وزج الآلاف في السجون، وجاع وتشرد مثلهم جراء الحصار الاقتصادي، وأوغل النظام في سياسات القمع والتجويع، وأخيرا وضع الدكتاتور رأسه ورأس الشعب العراقي في سلة واحدة، ليقول للأمريكان إن أردتم رأسي فاقطفوا معه رأس الشعب العراقي ،وهذا ما كانت تسعى له وفعلته الولايات المتحدة الأمريكية بمختلف مسميات إداراتها وشخوصها.
إنهاء سلطة البعث الفاشي وقدوم الاحتلال بفلسفته حول شرق أوسط جديد تبدأ أشواطه إثر لحظة سقوط بغداد، ليظهر المشهد كواحد من أكثر مشاهد التأريخ سوءا واستهتارا بقيم وحضارة وتأريخ المنطقة، ولتدخل المنطقة فلسفة الفوضى الخلاقة لصناعة الديمقراطية!! وها هي نتائجها على أرض الواقع تنبئ بما أريد للعراق كوطن وشعب.
في متتاليات محسوبة جيدا ومنذ مؤتمرات المعارضة العراقية في بيروت وصلاح الدين ولندن، كان هناك سعي جاد من أطراف عديدة  للحصول على مغانم وتوزيع أرث سلطة صدام قبل نفوقها، لذلك وضعت قواعد لمحاصصة سياسية قومية طائفية بمباركة وتزكية من الإدارة الأمريكية، ولم يعترض أحد من جميع هؤلاء الذين شاركوا في تلك المؤتمرات، من التوصيف الذي طرح في المؤتمر على خلفية حالة التشرذم والتقسيم والتوزيع الطائفي والعرقي، وإنما قوبل التوصيف والتوزيع بفرح واستبشار، وتسابق المجتمعون  لتثبيت حجومهم القومية والطائفية حسب المنظور الحزبي، ومن ثم تأكيد حقوقهم ومستحقاتهم في السلطة القادمة، بعيدا عن فكرة إعادة بناء  وطن وتكريس هوية وطنية، خربت وأقصيت على مدى عقود طويلة. كانوا جميعا صدى لرغبات وسياسات الإرادة الأمريكية. وكما هو معلوم فإن الإدارة الأمريكية دققت شخصيات الجميع، ودرست طبيعة الشخصية العراقية، وواقع الحراك المجتمعي ، ونجحت في إحداث وقائع مربكة على الأرض، هيأت لجعل تلك الشخصيات الحزبية في مقدمة المشهد، ليكونوا دعاة بررة للمشروع القديم الجديد الساعي لتمزيق ما تبقى من الهوية الوطنية وتقسيم العراق، وقد أوفى الجميع بتعهداتهم وعمل دون كلل على فصم عرى ووشائج المجتمع على علاتها وضعفها، من خلال تصعيد لغة الخطاب القومي والطائفي المشحون بالعداء والكراهية، والذي بدأ على عهد حزب البعث وتبنته الولايات المتحدة كمشروع يعيد ترتيب الأوراق لمستقبل العراق القادم. وبعد إجراءات تزوير في وقائع العملية السياسية مع غياب كامل للوعي المعرفي للجماهير، وضع هؤلاء على رأس السلطة وبمسمى سلطة شراكة وطنية.
منذ أولى ساعات عمل تلك السلطة ظهر أن واحدة من المهام تتقدم الجميع في جدول الأعمال، ألا وهي تهميش وتفكيك مفهوم الدولة العراقية وبناء تراتيبيات لإدارة السلطة من خلال تقاسم  مؤسساتها ووظائفها والاستحواذ على جميع موارد الدولة ومنافعها وفق المصالح الشخصية والحزبية، وهذا الأمر شكل ومنذ البداية عصب التنازع والعداوة، ليس فقط بين الأوساط الحزبية وإنما كانت المهمة الرئيسية  التي قادتها تلك الشخصيات والأحزاب ولازالت ، هي ترحيل الشحن القومي والطائفي  ليكون سمة للتنازع والتقاتل بين الأوساط الشعبية العراقية، تستعر فيه المشاحنات والجرائم وسط الشارع العراقي وترافقه الدعاوى الكيدية وجرائم نهب المال العام والرشا، لتكون طبيعة لمعارك تمارس بين جميع تلك الأطراف الحزبية والشعبية دون وازع من ضمير وشرف مهني أو وطني، وباتت تلك المهمة أكثر الوسائل المستخدمة في التحريض والطعن بالأخر. ودون حياء تجري جميع تلك المسميات القذرة تحت يافطة حكومة سميت بحكومة الشراكة الوطنية.   




27
سيرة ليست للسرد ج الاخير

وضع السماعة جانباً وتحدث إلى الرجل الآخر، الذي طلب مني الجلوس على الكرسي القريب، ثم بدأت الأسئلة. فرويت لهم ما حدث وسبب هروبي ومجيئي إليهم.
ـ وما اسمك الحقيقي؟. 
ـ زياد عبد الملك عبد الرحمن.
ـ هذا اسمك في قرص الدلالة، ولكن اسمك في الهوية مدون زياد عبد الملك الناصر. ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟
ـ الهوية صادرة عن معهد التكنولوجيا الذي تخرجت منه وهي جهة مدنية، وأنا أحتفظ بها دائماً في ملابسي المدنية التي أرتديها أثناء ذهابي في الإجازات الدورية.
ـ واسمك في القرص غير هذا.
ـ القرص. قرص دلالة في خدمتي العسكرية.
ـ نحن نعرف جيداً أن خريجي المعاهد والكليات يصبحون ضباطاً حين يساقون إلى الخدمة العسكرية في العراق، وأنت تقول الآن أنك جندي عادي. أليس هذا غريباً ؟
ـ رتبتي مثبتة في قرص الدلالة.
ـ أترك قرص الدلالة وأجب على سؤالي.
ـ السبب عيني اليمنى.
ـ ما بها؟
ـ قصر نظر حاد.
ـ لنترك هذا الآن .. أتستطيع أن تخبرنا كم من السنوات عملت في جهاز الاستخبارات العسكرية؟
وقع سؤاله كالصاعقة، وشعرت بأن الدم يصعد نحو راسي، وبدأ صدري يضيق وأنفاسي تتقطع ومرارة وجفاف يملآن فمي.
ـ ماذا ! لا علاقة لي بمثل هذا العمل.أنا جندي هربت من الجيش واحتميت بكم خوفاً من الموت.
ـ ليست تلك هي الحقيقة، اسمك مبعث للشك وكذلك اختلافه، وكيف تسنى لك أن تكون وسط هؤلاء النسوة والرجال المهجرين؟ وكيف فلت من إجراءات وحدتك العسكرية؟ أيضا ملابسك المدنية.
ـ لقد حدثتكم عن هذا..وإذا كنتم تظنون سوءا في الأمر، فهل من المعقول لرجل المخابرات أن يأتيكم طواعية؟
ـ المهام تتنوع والواجبات أيضا... وهل تريدنا أن نعقل تلك الرواية التي لا يصدقها إلا الأغبياء؟ حدثنا بصراحة لتكون بمأمن عندنا.
ـ والله لقد رويت لكم الحقيقة ولم ألفق أي حرف فيها.
ـ حسناً.. كم من المعارك شاركت فيها؟
ـ كثيرة..
ـ وكم قتلت من جنودنا.
انعقد لساني فلم أجد جواباً. وبدأ جبيني يتفصد عرقاً ولكني تداركت الأمر، وأخرجت كلمات فزعة كنت ألوكها تحت أسناني.
ـ الله يحكم يوم الحساب.
فقال المترجم وهو يتضاحك بخبث
ـ وهل ننتظر إلى ذلك اليوم ؟
أخذ العسكري الآخر يتحسس لحيته ويفركها، وهو يطلق سيل كلمات بالفارسية ويوجه نظرات حادة نحوي وكأنه يتوعدني.
تمنيت لحظتها لو رجعت بي الساعات إلى الوراء، لأكون أكثر يقيناً وتروياً في اتخاذ قرار الهروب. فقد تبين لي عند هذه اللحظات أني من النوع الذي لا قدرة له على إكمال الشوط حتى نهايته، وأنّ خياري لم يكن مضموناً.
كان المترجم خلال ذلك يدون في دفتر أمامه بعض الملاحظات، وفي الوقت ذاته يحدث الآخر. وبعد فترة وجيزة نظر نحوي ووجه لي حديثه.
ـ يبدو أنك لا تريد أن تخبرنا بما تعرف، وتراوغ في كلامك.
ـ لا لم أراوغ أو أكذب، أقسم بالله على هذا.
ـ إذن نطلب منك شيئا آخر، مسألة ليست بالعسيرة، ونعتقد أنك لن تخذلنا.
ـ لم لا، إن استطعت ذلك.
استدار إلى الخلف وأصبح وراء المنضدة، ثم أخرج من الجرار غلافاً كبيراً وفتحه فارشاً دفتيه فوق المنضدة، وطلب مني الاقتراب لمحاذاته وأخذ قلماً ناولني إياه قائلاً، مشيراً بإصبعه نحو موقع بارز من الخارطة.
ـ هذه هي فتحة سرتنك بين الجبلين. قلت إنّ وحدتك تقع خلف الفتحة.. حدد لنا على هذه الخارطة أماكن وأعداد القطعات العسكرية ما وراء الجبلين، أعتقد أن المهمة يسيرة عليك، أليس كذلك ؟
شعرت برعدة تكتسح جسدي، وراحت أصابعي ترتعش فسقط القلم منها.
ـ لا معرفة لي بمثل هذا الأمر، فأنا جندي بسيط لا أملك خبرة بذلك.
ـ إذن أنت تمتنع عن التعاون، ما عليك غير تحمل النتائج، ها قد كشفت عن مهمتك، لا نريد إضاعة وقتنا معك. أسم كريه وهويتان مختلفتان وملابس مدنية ورواية هروب غريبة متهاوية لا تعقل في مثل أوضاعكم وأوضاعنا وفي جبهة قتال. وفوق كل ذلك تمتنع عن أن تدلنا على مواقع القطعات العسكرية رغم ادعائك طلب الحماية لدينا.
ـ والله الكريم ما تكلمت إلا الصدق ولا معرفة لي بالقطعات العسكرية هناك.   
شعرت بعد ذلك بالقلق يكتسحني، ورهبة تسيطر عليَّ، تلمست ذلك في السكون الثقيل الذي خيم على الملجأ، وتلك العينين الحادتين وهما تثقبان صدغي مثل إطلاقات بندقية، وتحفران في دماغي مثل مثقب.
بصوت كنت أشعر به يلوك الضغينة وكأنه صادر عن بوق، صرخ بي العسكري الملتحي بقوة وهدير وبرطانة فارسية ما كنت أفقه منها حرفاً، ولكنه كان يكرر خلالها إسمي كاملاً، وكان وجهه محتقناً. كنت أدرك أن جمله التي يقذفها بوجهي تعني بغضاً وتهديداً ووعيداً وليس شيئا آخر. ركزت بصري نحوه وشعرت ببلاهة وتحجر يغطياني بالكامل، وما عدت بحاجة لقول كلمة أخرى حتى لو وجه لي سؤالا. قررت أن أصمت على الأقل الآن.
نودي على الحرس في الخارج، فجاء وسحبني من يدي وعاد بي مرة أخرى حيث الملجأ الأول. لم أجد هناك أحداً، كان الملجأ فارغاً. جال نظري بجدرانه الطينية الصماء. أردت أن أحادث أحداً، أن أشكو له حالي، أن أصرخ أو أبكي ولكني ما فعلت غير الصمت. لم تشغلني أصوات القذائف المتساقطة ودويها الذي يهز الأرض. لم أعد أفكر بالحديث وما جرى في التحقيق. ذهب تفكيري بعيداً جداً حيث الشارع المفضي إلى بيتنا. أسمع ضجيج الناس وأصوات الأطفال وهم يتراكضون خلف بعضهم دون دراية بما يجري في جبهات القتال. أخي الصغير مروان يلاحقني بنظراته من بعيد ثم يصرخ ويأتيني مهرولاً. جاء زياد .. جاء زياد، ثم يقفز متشبثاً برقبتي ويروح يقبلني بفمه الصغير الطري ورائحة الطفولة المخلوطة بالتراب تملأ ثيابه، بعدها ينسل من بين يديَّ راكضاً نحو البيت ليخبرهم بقدومي. شجرة الخروع التي أبغضها وأعدها شجرة شؤم، مازالت تقف صامدة وسط باحة الدار، أي جلد تحمله تلك الشجرة العجفاء لتصمد كل هذا الزمن، اصفرت أوراقها وتيبست أغصانها ولكنها بقيت واقفة تحمل ثمارها الشوكية الكريهة. صورة جدي المعلقة في الإيوان البراني تحدقني بعيون رضية، وتعاتبني على فعلتي، فقد ود أن يراني طياراً وما وجدت بعده من فضاء يضمني لأحلق فيه. تقاربني أمي ببشاشتها وزغرودة خافتة تصدرها حنجرتها المتيبسة. تروح تمسد فوق رأسي بأصابعها المتغضنة وتتشمم رقبتي، واسمي لا يسقط من بين شفتيها. تلهج به وبالدعاء وهي تتملى وجهي وكأنها لم تلتقيني منذ دهور. أسمع صوتها المرتعش يردد: إنها العناية الربانية يا ولدي.. إنها تحرسك وتعيدك لي، سور سليمان بن داوود، سور سليمان أبن داوود.
 دجاجاتي كبرن ورحن يسرحن جوار الشجرة، يقتربن مني كأنهن يرحبن بي. أفتت طرف الرغيف وأرميه فيتشاجرن عليه بقربي. وكانت أمي مستمرة في حديثها..حظك من ذهب، والمصطفى حظك من ذهب.. عندي  لك مفاجأة .. لقد أكملت كل شيء، ما عليك غير أن توافق، هداك الله إلى الطريق يابني، حين يأتي أبوك سنتحدث في ذلك كثيراً، إنها ابنة عمتك نجاة، بنت ولا كل البنات. شاطرة وقوية ومؤدبة، تعرفها جيداً. حسنا قلت وأطرقت رأسي.
شردت بأفكاري وكان رأسي يتضخم ويتضخم وأشعر أن الدم سينط ّ من عروق صدغي. كنت أترنح مع أفكاري وتأملاتي. أتوقف هناك وأعود مرة أخرى إلى هنا. لم أشعر بمقدار ما فات من الزمن وأنا جالس في الملجأ وحيداً تنتابني مشاعر سجين عليه أن يقضي فترة سجنه دون تذمر أو شكوى.
 فجأة سمعت صوتاً يناديني. أخرجت رأسي فوجدت المترجم يقف أمام الباب بقامته النحيلة، ويمد يده لمساعدتي بالخروج من الملجأ. مشيت خلفه دون أن أفهم شيئاً مما يريدونه مني، ولكني شعرت بثقل يعتمر صدري وعقلي وخوف مما ينتظرني، بعد ما جرى في ذلك التحقيق المقيت. حينذاك كانت الشمس بصفرتها الباهتة تختفي وتظهر بين غمامات بيض تسير مسرعة فوق المرتفعات. وفي البعيد بدا سفحا الجبلين مظلمين. طالعت ما حولي حيث أكوام من حجر تتراص فوق بعضها لتغطي أسطح الملاجئ المتناثرة في الساحة الواسعة الممتدة على طول وجوار الساتر الترابي، وارتفعت عن سطح الأرض فتحات أبواب الملاجئ وكأنها شواهد قبور. كان هناك ثمة جنود يتجولون قرب ملاجئهم وعند الربايا المنتشرة فوق الساتر. توقف المترجم عند باب الملجأ حيث حقق معي أول مرة، ونادى بصوت واضح ومسموع خرج إثره ثلاثة عسكريين. أحاطوا بي وقام أحدهم بسحبي من ساعدي بقوة ودفعني أمامه، عند تلك اللحظة خرج الضابط الملتحي وراح يوجه كلامه إلى هؤلاء الثلاثة وفي ذات الوقت كان ينظر نحوي. اقتادوني ثلاثتهم نحو سيارة تيوتا خاكية اللون ملطخة بالطين أخفيت بعناية وراء ساتر ترابي وأكياس مليئة بالتراب. أجلسوني في الحوض الخلفي بين رجلين منهم، وتقدم المترجم مناولاً السائق بعض أوراق، بعده انطلقت السيارة تلهب الأرض بأقصى سرعتها.
لم أسأل عما يحدث وكأن الأمر لا يعنيني. ورحت في صمت دون أن أنبس بكلمة ومثلي فعل الآخرون طيلة الطريق. 
تلك كانت بداية رحلتي مع عذاب الأسر والتي لا أرغب الحديث بتفاصيل ما حدث لي خلالها.




•   الجاش أو الجحوش: هم مرتزقة صدام حسين وعملائه من الأكراد.




28
سيرة ليست للسرد ج 5
فرات المحسن
الفجر يتشبث بأذرعه متسلقاً سفوح المرتفعات. الحمرة الشفيفة تخالطها صفرة ينتعش بها الصباح، فجاءت معها نسائم طرية وأصوات طيور ترف بأجنحتها في السماء الواسعة، وتطلق أصواتها التي راحت تتردد حولنا. سرب كثيف من زرازير اخترق الضباب وانبلج من وسطه مثل غمامة سوداء، راح يدور ويدور، ثم حط ّ  بعيداً، هبط نحو البساط الأخضر وصوت حفيف أجنحته مثل طنين نحل. 
 لحد الآن ليس هناك قصف لمدافع، ولا يسمع سوى إطلاق رصاص متفرق تأتي أصواته من بعيد مع حفيف الهواء، ولكنه غير ذات أهمية أو مبعثا للقلق. صوت أقدامنا وأحذيتنا المحتكة بالحصى، وخرير المياه المنسابة من المرتفعات وحدهما ما يتردد حولنا.  وكانت عيناي ترقبان الأفق الشرقي حيث الجانب الإيراني خوفاً من أن يلتبس عليهم أمرنا، ويبدؤون الرماية اتجاهنا. اتسعت المسافة بيني وبين الآخرين وما كانت عندي تلك اللحظة رغبة في انتظارهم. المسافة التي قطعناها أبعدتنا كثيراً عن سواتر الجيش العراقي وأصبحنا قريباً من الجانب الإيراني. استدرت فوجدت البعض وقد اتجه في سيره نحو أولى القرى الخربة التي صادفناها في طريقنا، واستمر الباقون اللحاق بي. ما أردت أن أصل وحدي إلى هناك، ولكن سيرهم المتثاقل كان يقيدني ويجعلني في حيرة من أمري، فأنا دليلهم ورغبت أن يصلوا دون أن يطالهم مكروه، فأرض السهل ممكن أن يخطأ المرء في منحدراتها، ليجد نفسه وسط حقل ألغام. ولكن وصولي قبلهم وإخبار الجانب الإيرانيّ عنهم، ربما يساعد في إنقاذهم مما هم عليه الآن. تلك الساعة كان فكري مشوشاً، وشعرت بالحيرة في اتخاذ القرار. ولكن في النهاية حسمت أمري، وبدأت أغذ السير لأصل إلى الساتر الإيراني. حصرت تفكيري في إخبار الجنود الإيرانيين عن وضع هؤلاء المهجرين لعلّهم يجدون وسيلة، ويسرعون في تقديم المساعدة.
 بدأ قرص الشمس يرتفع رويداً لتنسكب أشعته الصفراء، وتغطي السهل الأخضر وتبعث حرارتها بعض الدفء. خطواتي الواسعة السريعة صار جسدي معها ينز عرقاً. لم ألتفت ورائي فما عدت بحاجة لمرافقتهم أو حثهم على السير، وأعتقد بأنهم كانوا يشاهدونني جيداً ويسيرون بذات الطريق.
ظهرت لي أولى ملامح السواتر الترابية الإيرانية حيث تبدو فوقها بعض نقاط مراقبة. أخذت أبطأَ في مشيي، وفكرت بحاجتي إلى ما يدفع عني ظنونهم ويجعلهم يعزفون عن توجيه أطلاقات بنادقهم نحوي. عجزت عن إيجاد ما أريده، فأنا لا أرتدي فانيلة بيضاء وقميصي ليس كذلك، وعليَّ أن أجد وسيلة تجعلني أصل إليهم بسلام فرحت ألوّح بالكوفية بالرغم من أنها كانت كحلية مائلة للسواد.أيضا رفع اليدين إلى أعلى ممكن أن يعني لهم رغبة بالاستسلام. صعدت المنحدر نحو أعلى التل، ثم اقتربت من الساتر الترابي رافعاً يدي. كانت هناك فتحة في جهته اليمنى اتجهت نحوها. لم يظهر لي أيّ شخص ولم أسمع صوتاً يدعوني للتوقف. اقتربت محاذياً الساتر، ثم وصلت الفتحة فوجدت هناك مجموعة من جنود يصوبون بنادقهم نحوي. تقدم أحدهم ولفّ ذراعيه حولي بقوة، وتقدم آخر يتفحص جسدي ويستخرج ما في الجيوب، ثم انتزع مني قرص الهوية. تكلم أحدهم بلغة عربية سليمة سائلاً عن سبب قدومي، فأخبرته رغبتي باللجوء إليهم، وحدثته عن وجود مجموعة كبيرة في السهل قريباً من هنا، هم مهجرون من العراق. أخذوني إلى أحد الملاجئ وقدموا لي الماء وبعض الطعام. شعرت ببعض الدفء والطمأنينة، وكان الحارس الواقف أمام باب الملجأ ينظر نحوي بابتسامة ودودة، ويكلمني بلغة فهمت منها أنه يرحب بي. مضى وقت ليس بالقصير دون أن يستدعيني أو يحدثني أحد. وبين فينة وأخرى كنت أحصل على ابتسامة من الحارس. لم أفكر بالخروج كي لا أخرق أوامرهم وأثير التوجس. سمعت أصوات لغط وصراخ في الساحة أمام الملجأ، تقدمت نحو الباب لمشاهدة ما يحدث فوجدت الجنود يهرولون، وكانت هناك قرب الساتر مجموعة من المهاجرين قد وصلت، فراحت الأيادي تتلقفهم وتقدم لهم العون وتدثرهم بالملابس والأغطية. جيء ببعض الرجال ووضعوهم معي في الملجأ. مظهرهم يوحي بأنهم قد تجاوزوا سنوات الستين من العمر، كنت قد شاهدتهم صباح هذا اليوم حينما كانوا يسيرون جواري، ولكني لم ألحظ  وقتها مقدار الهمّ والكدر الذي يوشم وجوههم، وبدو وكأنهم خائفون من وضعهم الجديد. أتوا لهم بوجبة طعام، فراحوا يلتهمونها بشراهة وعجالة. تبادلنا النظرات دون أن ينبس أحدنا بكلمة. كنا جميعاً نحاول إمساك اللحظة، والتيقن من وجودنا في وضع يتوفر لنا فيه شيء من الأمان. بادرني أحدهم بالحديث سائلاً عن سبب مجيئي معهم، فأخبرته السبب بجملة مقتضبة، فلم يعلق بغير كلمة واحده قائلاً: حقك ابني. وكأنه مس في روحي وتراً، شعرت بشيء من الراحة والعرفان،  وكنت في حاجة ماسة للحصول عليها في مثل وضعي هذا، وتمنيت لحظتها لو أني سمعتها من فم أبي. لم يحدثني الآخرون وإنما راحوا يتحدثون بلغتهم الكردية المليئة بالمفردات العربية. عرفت منها أنهم يتساءلون عن مصير أشخاص تركوهم هناك في العراق بعد أن احتجزتهم السلطة العراقية أو ربما هجرتهم من أماكن أخرى. سهمت متأملاً حالهم المزري ولم أستطع استيعاب الذي حدث لهم، أو أن مثل هذا لا طاقة لي عليه في ذلك الوقت، ففضلت عدم زج نفسي وإثارة الموضوع والسؤال حوله، بالرغم من معرفتي أن حديث الشجون ربما يفتح بيننا باباً للألفة والتعارف.
 لم أحسب مقدار الزمن الذي مضى حين دخل أحدهم ليطلب مني مرافقته. تبعته نحو الخارج. كان الوقت على ما يبدو منتصف النهار، والسماء شاحبة تسمح لبعض أشعة الشمس بالتسلل. هناك بضعة جنود يجلسون متحلقين حول صفيحة أوقدت بها النار، وأسلحتهم طرحت جوارهم. الجميع طالعني حين وصلت وسط الفسحة القريبة منهم. إثنان أو ثلاثة منهم لوحوا لي بأياديهم كمن يحييني، فأجبتهم بذات الحركة. اقتربنا ومرافقي من باب ملجأ محصن لا يظهر منه سوى الباب وكوة صغيرة في جهته اليمنى، وثمة ثلاثة مجسات هوائية قصيرة ترتفع عند جهته الخلفية. أدركت أنه أحد مراكز القيادة لهذه الوحدة العسكرية. فالتحصينات حوله جيدة. تلتف أكياس الرمل لتحيط به بارتفاع يقارب المترين، بالرغم من أن الملجأ قد استوى سطحه مع الأرض، ويختفي خلف ساتر ترابي مرتفع. تقدم مرافقي وتبعته، هبطنا سلماً بعدة درجات ووقفنا أمام باب داخلي، طرق مرافقي عليه طرقاً خفيفاً فجاء صوت ضعيف من الداخل، فدفع الباب وانزوى جانباً ليفسح المجال لدخولي. الملجأ واسع ومنظم ومضاء إضاءةً حسنة. كان هناك عسكريان يجلسان قرب منضدة عريضة وضع فوقها جهاز لاسلكي وعدة هواتف وأوراق مبعثرة، وعلى الجدران علّقت عدة خرائط وصورة كبيرة للسيّد الخميني. أحد الرجلان كان ملتحياً يحمل رتبة عسكرية فوق كتفيه لم أشاهد مثلها أو أتعرف عليها سابقاً. كان شاحب الوجه، ذا عينين واسعتين وحاجبين كثين معقودين وكأنهما جناحي غراب محلـّق. والآخر كان يرتدي بزة عسكرية بدا عليها الإهمال، ضعيف البنية تبرز عظام وجنتيه بشكل دقيق، وعيناه تغوران في محجريهما تحيطهما دكنة رمادية.
حييتهم رافعاً يدي بما يشبه التحية العسكرية، فلم تلتقط أذناي أي كلمة، ولم ألحظ سوى عيونهم تنظر نحوي بلا مبالاة. وند ما يشبه التأوه من الرجل العسكري الملتحي، ثم راح يتحدث بالفارسية وكان الآخر يصغي له بانتباه شديد. انبعث صوت وشوشة مخنوق من جهاز اللاسلكي، فمد الملتحي يده وأخذ السماعتين ووضعهما فوق أذنيه، وأخذ يتكلم مع الطرف الآخر، ثم بدأ ينظر نحوي ويجيب باختصار بكلمة واحدة مع حركة خفيفة من الرأس. وضع السماعة جانباً وتحدث إلى الرجل الآخر، الذي طلب مني الجلوس على الكرسي القريب، ثم بدأت الأسئلة. فرويت لهم ما حدث وسبب هروبي ومجيئي إليهم.
ـ وما اسمك الحقيقي؟. 
ـ زياد عبد الملك عبد الرحمن.
ـ هذا اسمك في قرص الدلالة، ولكن اسمك في الهوية مدون زياد عبد الملك الناصر. ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟



29
المنبر الحر / سيرة ليست للسرد ج4
« في: 16:10 08/10/2022  »
سيرة ليست للسرد ج4
فرات المحسن
رفعت صوتي منادياً ثم استدرت متوجهاً صوب المرتفع الذي تقع عنده تلك البنايات الطينية المهدمة. استداروا وتبعوني. كانت الريح العاصف والمطر الكثيف يلهب الأجساد بسياطه، والرعود تصك الأسماع، وتتهشم البروق عند حواف الجبال. نظرت نحوهم، كانوا يجاهدون في سيرهم، ثقال أنهكهم التعب. سقط بعضهم ثم نهض. آخرون مدّوا أجسادهم فوق الأرض الحجرية. لم أحتمل الانتظار ومواصلة النظر إليهم، لذا جرجرت قدميّ، واتجهت أسبقهم إلى أن وصلت الخربة القريبة وهي أولى البنايات فوق حافة المرتفع. كانت مهدمة بالكامل. طرحت جسد الشيخ أمام بابها. انتابني شيء من الغثيان وأنا أشاهد جسده المسجى وتلك الكهولة الجافة المزرقة وضعف البدن المفزع. ولكن ما عليَّ أن أفعله الآن وأنا في ورطة لم تنفرج بعد، وخوفي أكبر من أن يطمئنه وجودي في هذا المكان. لذا عفته هناك و توجهت إلى الخربة الأخرى، فوجدت سقفها وقد هد بالكامل. رحت أبحث في البيوت الأخرى إلى أن عثرت على غرفة واسعة كان سقفها قد تهدلّ نصفه، وأطبق على الأرض تاركاً فراغاً يصلح كستر عن المطر. ناديت على من تقدم منهم وطلبت أن يحتموا هناك. تجمعوا والتصق بعضهم ببعض. ذهب الباقون يبحثون عن أماكن يحتمون بها، ورجعت أنا وجلبت الجثة، ووضعتها فوق السقف المنهار خوفاً من أن تأكلها الحيوانات البرية التي تجوب المكان ليلاً.
ليس بعيداً عن الباب كانت هناك كومة قش طمرت تحت جدار مهدود، أزلت وجهها محاولاً العثور على الجاف منها، في النهاية وجدت الشيء القليل فجلبته إلى الداخل، ثم رجعت أبحث عن حطب أو خشب أستعين به لإشعال موقد من النار ننال منه بعض دفء. جمعت ما وجدته وبدأت العمل. بعد جهد طويل استطعت أن أشاهد وهج النار وهي تلتهم التبن، فرحت أنفخ به ليتسرب إلى باقي الأخشاب. بدأت النار تتصاعد شيئاً فشيئاً، فشعرت بالحرارة تضرب وجهي، والدفء يدب في أصابعي. اقترب بعضهم وتحلقوا حول النار. على ضوئها طالعت وجوههم، فكانت جميع العيون تتجه صوبي تتفحصني. لم ينبس أحدنا بكلمة، كان الصمت يجول مع النظرات الفزعة المتسائلة. أين نحن؟ من أنت؟ إلى أين نحن سائرون؟ متى نخرج من هذا المكان؟ ربما هي تلك الأسئلة لا غيرها تعتمر بها أرواحهم ويريدون مني الإجابة عليها. ولكن بم أجيبهم وكيف أفسر الموقف. أأقص عليهم حكايتي أم الصمت أجدى. لأدعهم في حيرتهم، فربما طمأنهم وجودي بينهم أو اكتفوا بما شاهدوه ونالوه مني.
فجأة سمعت حفيف الهواء وصوت القنبلة وهي تخترقه لتسقط قريبة من المكان. قدرت أنها سقطت خارج البيوت عند نهاية المرتفع، بعيدة بعض الشيء. تيقنت أن الراصد سوف يصحح إحداثيات الهدف ليرشقنا بدفعة جديدة من قذائف المدفعية. انتظرت حدوث هذا. ومثلما توقعت سقطت قنبلة أخرى، ولكنها كانت بعيدة أيضاً مثل سابقتها، ثم مرّت دقائق معدودات دون أن يتكرر الرمي، وطغى هدير المطر وصوت الرعد على كل شيء.
ـ ربما يكون ضوء النار والدخان هو من يدلهم على مكاننا. من المناسب أن نطفئ النار.
قلت ذلك وجلت نظري بين وجوههم الشاحبة اليائسة.
ـ دعهم يفعلون ذلك، فما عاد للحياة من معنى يا ولدي. لقد سلبونا كل شيء وطردونا من بيوتنا، فهل بعد ذلك تستحق الحياة أن تعاش؟
صمت وأنا أنصت لتلك العجوز ذات العيون الكابية وهي تلوك جملتها المفزعة، وتعلن طلاقها التام مع الحياة. وكنت حينها أرهف السمع لأتسقط صوت القنابل إن عاود المدفع وكرر الرمي. ولكن كل شيء بدا وكأنّ الأمر انتهى مع تلك القنبلتين.
 *****
كان السهل يمتد طويلاً أخضراً مقفراً، عدا تلك القرى المهجورة المتناثرة البعيدة. جلت نظري في جميع اتجاهاته، فكانت نهاياته تتلاشى شيئاً فشيئاً وسط ضباب أبيض تدفع به سخونة الأرض بعد أن توقف المطر عن الهطول. كانت الأصوات الباكية مازالت تتردد موجوعة مستفزة تثقب الرأس، وتبعث في الروح كدراً ويأساً مفرطاً. استدرت ناظراً نحو باب الخربة، كانت تقف هناك امرأة صغيرة الحجم متشحة بالسواد تطالعني بفضول وحذر، سألتها إن كانت بحاجة لمساعدة، لكنها أشاحت وجهها  واستدارت لتدخل الغرفة. فكرت بجسد الشيخ المسجى وما عليّ أن أفعله. مهمة شاقة في هذا الوضع المأزوم والجو المكفهّر. أكان عليَّ الاستمرار معهم لحين الوصول إلى سواتر الجيش الإيراني أم من الأفضل وبعد أن بدأ الضياء الأول يكللّ سنام الجبل من الجهة الشرقية، أن أسير وحدي إلى هناك، وأدعهم يستدلون على الطريق بعد أن أعرفهم عليه. من الجائز أن القدر وحده من دفعني لأكون لهؤلاء دليلاً ليل البارحة. فمسيرهم في ظلمة الليل  كان من الجائز  أن يدخلهم وسط  حقول الألغام أو يتجهون نحو فصيل الحجاب، وهناك يقع لهم ما هو محذور. ليس من الأخلاق أن أدعهم  يتخبطون في تلك الوهاد. نظرت نحو جسد العجوز المسجى منذ البارحة فوق سقف الغرفة المائل. أردت أن تحضر الفتاة وأحدثها بالأمر وتلقي عليه نظرة الوداع. دخلت إلى هناك وجدت الجميع متراصين لبعض، فبدوا لي مثل كومة ملابس رثة حائلة الألوان. أشرت نحو الفتاة داعياً إياها للمجيء لأحدثها بما وقع. تقدمت مني ولكنها وقفت بعيداً بعض الشيء، كما لو أن غريزة الخوف قد حددت لها المسافة. كان وجهها حاداً غليظاً ولكن بمسحة جمال ظاهر، شعرها المنفوش الأشيب قد تلطخ بالوحل. عند انكشاف ضوء الصباح الأول رأيت وجهها المكلل بالحزن. قوية صلبة العود، عيناها الداكنتان كانتا تحملقان بي، مستني رعشة حين نظرت بهما. شاهدت وجهها بتلك الطلة البهية رغم كدره وفزعه، وشعرها الأشعث الأشيب. اقتربت مني وشكرتني بصوت خافت ناعم. وددت لحظتها أن أسألها عن اسمها ولكن لساني انعقد خجلاً وعزفت أيضاً عن رغبتي في معرفة علاقتها بالشيخ المتوفى. كانت تعصر كفيها ببعضهما وعيناي مثبتتان عليها، أتملى قوامها المشدود وصدري يصدر زفرة قوية.
ها هي زهرة شبابها تذهب إلى المجهول وربما تذوي هناك.. كم من الأعوام اغتصبت منها عنوة ؟.. ترى أهي متزوجة ؟.. أكان لديها أطفال؟ هل زينت جيدها بالقلائد مثل باقي النساء السعيدات. لم تعافها عيناي وهي تسير أمامي في هذا الصباح. وددت أن أقترب منها لنتجاذب الحديث، ولكنها كانت تسير وسط الجمع بخطوات وئيدة مكدودة محزونة، وكأن أحداً ما يقودها إلى حيث لا تدري. وجهها لا يفارقني، ملامح الفزع في عينيها لا تغادر خاطري. حين أخبرتها بوفاة الشيخ لم تحاول الاقتراب منه للتحقق من الأمر، مرت فترة طويلة كانت فيها جامدة مكانها وعيناها مثبتتان على وجهي، قبل أن تنهار وتروح في نوبة متشنجة من بكاء مر.     
ـ الشيخ توفاه الله منذ ليل البارحة والمسافة إلى موقع الجيش الإيراني طويلة جداً، لذا علينا أو الأحرى عليك أن تقرري ما نحن فاعلوه مع الجسد الراقد فوق السقف.
جالت نظراتها أركان المكان وكأنها تبحث عنه غير مصدقة حديثي. قلت لها صدقيني لقد وضعت جسده هناك. أشرت لها نحو المكان لكنها لم تلتفت، وبحركة سريعة لطمت وجهها، وجلست على الأرض وراحت في نوبة بكاء حاد. خرجت النسوة وتحلقن حولها نائحات لاطمات، لقد سمعن حديثي، كنت متيقناً من ذلك، لذا دخلت الغرفة وطلبت من أحد الشيوخ أن يوافيني لندفن الجثة. تبعني بهدوء وتثاقل ووقف جواري ينظر إلى النساء. كان كهلاً يبدو في السبعين من العمر وقامته الطويلة الضخمة بعض الشيء لا تتوافق وصغر رأسه. ذهبنا سوية نبحث عن مكان مناسب نواري به الجسد. وجدنا خلف الغرفة ما يشبه الملجأ الشقي، وكان حفرة مهملة ممتلئة بالماء غطت الحشائش وجهها. فأشار علي الكهل بأنه المكان المناسب، فسألته كيف يتسنى لنا إخراج الماء، لم يحر جواباً واقترح أن نذهب ونفتش في الخرائب لعلنا نجد ما يساعدنا على ذلك. تركته يذهب نحو مجموعة النساء وأنا اتجهت باحثاً في الغرف الأخرى. عند الطرف الأيسر من المرتفع  وجدت مجموعة قدور، فأخذت أحدها مع غطائه وعدت إلى هناك. حين شاهدني راجعاً قال إنها فكرة جيدة يا ولدي. أخذت أفرّغ الحفرة من الماء، وبعد أن أكملت المهمة دعوته ليجلب الجثة. فامتنع وقال افعل أنت ذلك فلا طاقة لي عليه. ضجت النسوة بالنواح حين رفعت جسد الشيخ المتيبس وحملته متوجهاً به حيث الحفرة. لم تعترض الفتاة طريقي وكنت أنظر نحوها وأنا أرفع جسد الشيخ، وجدتها مطرقة نائحة تضم وجهها بين كفيها.  العجائز وباقي الشيوخ والنساء تجمعوا وساروا ورائي صامتين وكأنهم قد اقتنعوا بما نالهم من فاجعة موت أحد شيوخهم. كان جسدي يرتعش وكأني أصبت تلك اللحظة بالحمى. فللمرة الأولى أدفع بجسد ميت لأواريه التراب، البارحة حدثته طويلاً ولم أكن مقتنعاً بتلك النهاية، حدثته وكنت أرطن خوفي وفجيعتي. أثرثر لأطمئن روحي وروحه، واليوم أسحبه لأولجه في صمته الأبدي. أيّ قدر قادني لهذه الصحبة وتلك الساعات؟
وقفت عند الحفرة، فوجدت الشيخ وقد جمع كومة من حشائش وتبن ووضعها في اللحد، فنظرت إليه بعين الرضا والعرفان. وضعت الجسد هناك وألقيت عليه نظرة الوداع. وقبل أن أهيل التراب فاجأني الشيخ بسؤال أربكني.
ـ أتعرف يا ولدي أين اتجاه القبلة ؟
ـ عذرا يا عمي لا أعرفها.
ـ أين نحن الآن.. في الأراضي الإيرانية أم العراقية ؟
ـ نحن في سهل سربيل زهاب الإيراني.
ـ حسناً.. وفي أي اتجاه يقع العراق ؟
أشرت له نحو جهة الغرب، وأخبرته أن إيران هي جهة الشرق وتلك جهة الشمال من المكان هذا. عند ذلك طلب مني أن أدير الجسد إلى الجهة الأخرى ليستقبل الرأس جهة الجنوب، وهي جهة القبلة مثلما عرفت. ففعلت ذلك. ثم أهلت عليه التراب بواسطة غطاء القدر. أنجزت العملية، وتوجهت نحو الجمع وأخبرتهم بأن علينا التحرك والابتعاد عن المكان.


30
المنبر الحر / سيرة ليست للسرد ج 3
« في: 18:21 06/10/2022  »

سيرة ليست للسرد ج 3
فرات المحسن
الظلام كان مطبقاً ولكني تفحصت كل شيء مع التماع البرق وتهيأت للتحرك. لبرهة ترددت ولكن صرخة قوية وجلبة أصوات فزعة نبهتني، فقد هوت امرأة منهم نحو الأرض، فتكدس بعضهم حولها. كانوا بالقرب مني أقل من مترين. حسمت الأمر وقفزت وسط الجلبة ورفعت المرأة بساعدي. تلفت نحو جميع الجوانب فلم أجد ما يثير الشبهة أو من لاحظ دخولي وسط الحشد، وكذلك لم ألحظ دهشة أو استغراباً أو استنكاراً من المحيطين بي. سرت بضعة أمتار وعندما لاحظت أن المرأة قد استعادت بعض قوتها سحبتها متكئة على كتفي. كانت العجوز تتشبث برقبتي بقوة، وتمسح عن وجهها ماء المطر بين فينة وأخرى.
كانت الريح قوية تدفع بحدة زخات المطر لتلسع الوجوه والأجساد. الطريق الموحل المظلم يربك السير، ويجعل المرء يسير وكأنه مكبل بأغلال. الليل في منتصفه، وكان لابدّ أن نسير ساعاته المتبقيات لنعبر فتحة سرتنك بين الجبلين باتجاه سهل سربيل زهاب، قبل انبلاج نور الصباح. كانت تلك أمنيتي، أن نصل إلى هناك قبل أن ينكشف ضوء الصباح أو يتوقف المطر، فهما ستري الذي أتخفى بهِ عن الأعين.
 نواح العجائز يبعث فيّ رعشة تهز جسدي. وكنت أشعر بسخونة يد العجوز وجسدها، وكأنها مسكونة بحمى مرض مميت. ما أردت أن أتلفت كثيراً لأستطلع ما حولي كي لا أثير الشكوك، وكانت نظرة خاطفة بين حين وآخر تكفي للاطمئنان.
ندت صرخة مكتومة من شخص كان يسير في مقدمة الركب، فقد هوى جسده عند أخدود أحتفره السيل.بطأت حركة الجميع وراح البعض يستطلع الأمر. تقدمت نحو الشيخ فتاة طويلة ضخمة الجثة يفصح جسدها المشدود عن قوة وعزيمة. شدته نحوها وضمته إلى صدرها مثل رضيع وعبرت به إلى الجانب الآخر وألقت به على الأرض، وانحنت تمسح عن وجهه الوحل العالق. شاهدت وجهها مع وهج البرق، فطالعتني بعينين جاحظتين. في تلك اللحظات ارتبك الحشد عند ذلك الأخدود، وشكلنا دون أن ينبس أحدٌ بكلمة، سلاسل مترابطة تسحب بعضها لعبور هذا النهر الصغير بمياهه الجارفة المنحدرة من أعلى الجبل. شعرت بحدة ارتعاش يد العجوز التي أمسكت كفي متشبثة بوهن ظاهر، وكانت عيناها تنطان من محجريهما جاحظتين فزعتين متوسلتين. فتبدوان في هذا السواد الموحش كعيني جؤذر. ارتفع صراخ الجحوش يطلبون من الحشد الإسراع في السير. تقدم أحدهم ولكز ظهر الفتاة. فصرخت بوجهه بحدة، فدفعها بصدر دابّته لتقع فوق جسد الشيخ، ثم ترجّل وأخذ يضربها بعصاه. ساطها عدة مرات ولكنها لم تتوقف عن شتمه، فتقدم نحو الشيخ ورفعه عن الأرض، ثم دفعه إلى الأمام ليسقط على وجهه متهالكاً. اندفعت الفتاة ورفعت الشيخ وتقدمت تسير به بصمت أمام الحشد.
طلب مّنا التوقف عند نهاية فتحة الجبل حيث نقطة المراقبة للجيش. تقدم بضعة جنود كانوا عند نقطة الحراسة. تحادثوا مع الجاش في بعض شأن. طلب الجحوش من الجميع أن يتركوا ما يحملونه من متاع أو حقائب. اندفع بعضهم لتفتيش الجميع. كانوا كالكلاب المسعورة يلتقطون من الأيدي كل مايجدونه. بعضهم راح يوقف النساء ويحاول العبث معهن بحثاً عما يحملن من بقايا حلي أو حقائب يد. إثر ذلك حدثت مشادة كلامية بينهم والجنود، وبعد هرج ومرج وصراخ وعويل تركنا الجحوش وتجمعوا خلفنا ثم طلبوا منا السير نحو الأمام ، وبدورهم نبهنا الجنود لضرورة الابتعاد عن حافتي الطريق حيث زرعت هناك حقول الألغام. انطلقنا بالمسير مرة أخرى. تيقنت عندها أنهم لم يلحظوا وجودي لذا سرت متقدماً الجميع حيث اتجهنا نحو المنحدر المفضي إلى الوادي الفسيح الذي شكل لوحة كالحة الظلام. هذا الوادي الذي ينفتح بسعته أمامنا، كنت قد تعرفت عليه سابقا يوم كنت أذهب إلى المراصد فوق الجبلين. السهل هذا المسمى سهل سربيل زهاب، يمتد نحو العمق الإيراني مثل بساط أخضر. ترقّع وجهه بعض القرى المبثوثة في منحدراته وروابيه، وهي اليوم مهجورة محترقة هرب أهلها مع بداية الحرب.
 ربما لوقت قصير نستطيع بعده الوصول إلى البيوت الطينية المهدمة، وهي أقرب قرية تقع على الجانب القريب من الطريق الذي نسير عليه، ولا نحتاج غير الانتباه لحقول الألغام، فاجتيازها بسلام وهي مساحة لا تعدو غير بضع كيلومترات أو أكثر قليلاً، سنكون بعدها قد وصلنا تلك البيوت التي ربما تحمينا من المطر، ونجد فيها بعض راحة بعد عناء المسير كل تلك المسافة الطويلة. تقدير المسافة والاتجاه في هذا الظلام كان يتوقف على حدسي، والصورة التي رسمتها في ذهني عن السهل عبر المنظار في أبراج الرصد. وكان عليَّ  استغلال لحظة البرق للاستدلال على الأماكن.
بتلك الأجساد الفانية الموهنة القوة والسيقان الناحلة الراجفة، تحركنا مخترقين المنحدر نحو الوادي. كان قلبي يخفق بعنف بين ضلوعي، وأنا أشاهد بغال الجاش واقفة بعيدة ترقبنا من الخلف. صعب عليَّ أن أصدق ما حدث، ولكني تمالكت نفسي ورحت أغذ السير وكأني أهرب من تهديد مازال يتعقبني. موجات المطر تهطل مدراراً، سائطة وجهي بقوة وكأنها حصى أو عصي. سرت بسرعة وليس بهرولة خوفاً من إثارة الشكوك، ولكي أعبر مرحلة الخطر التي بعدها لن يستطيع الجنود أو الجاش اللحاق بيّ. شعرت بلسعات البرد وارتعاش جسدي. كنت أتلفت حولي متخيلاً سماع صوت يناديني باسمي كي أتوقف.  بعد مسير طويل ومجهد تيقنت إثره ابتعاد شبح الموت الذي كان قريباً مني، لا بل كان يحوم حولي طيلة الوقت. اطمأنت نفسي، فجلست على الأرض وانتظرت قدوم الباقين. تمنيت اللحظة أن أقف أمام أبي وأطلب منه العفو والمغفرة، وأن أقبـّل أمي التي بدا وجهها أمامي معاتباً، فغيابي سوف يجعلهم يتخلون عن الاحتفال بعيد ميلادي، ولن تكون هناك قبلات فرح بالمناسبة.
ساروا جواري ثم اجتازوني وكانوا حذرين في مسيرهم  يتلمسون بأقدامهم الأرض الرخوة للاستدلال على الطريق خشية من وجود حفر وترع. لم يلتفت نحوي أو يهتم لوجودي أحدٌ منهم، بل كان كل همّهم السير وليس شيء أخر، وكانوا كمن يحادث نفسه ويواسيها أو يلومها، فيروح في نياح وعويل. مع التماعات البرق كنت أحاول الإمساك والتعرف على تلك الملامح التي تغضنت جلودها وغارت وغامت فيها العيون.
تنبهت لتلك الفتاة الضخمة الجثة وهي مازالت تحمل جسد الشيخ وتسير ببطء خلف الجميع. راقبتها وهي تجتازني. كان رأس الشيخ يتدلى ويميل إلى الخلف وقدماه تتدليان وتتأرجحان. شككت بوضعه، فنهضت وتقدمت نحوها. كانت عيناها ساهمتين تنظران ببلاهة نحو الأمام. أوقفتها وأخذت منها جسد الشيخ. كان جسده متيبساً بارداً وعيناه مفتوحتين مبيضتين. وضعته على الأرض. كان فمه قد اعوج وخرج منه سائل لم أميز لونه. وقفت الفتاة بعيداً ترقبني، وكانت مثل شجرة سدر ضخمة متيبسة، تتهيب الاقتراب خوفاً من أن تفاجأ بالحقيقة. في تلك اللحظة اعتقدت أن تلك الفتاة ليست من المهجرين وربما هي مثلي هاربة من وضع آخر لدوافع خاصة. شعرت بذلك، فقد وجدتها معزولة مهدودة القوة ووحيدة بالمطلق، وكان الجميع يمضي بعيداً وكأنهم يحملون أطناناً من البؤس والعذاب لا تطيق حملها أقوى الأجساد، وأنهم مع كثرة ما تعرضوا له من فواجع وموت يومي لم يبق لهم في أرواحهم عادات الناس الأسوياء حين يفجع أصدقاؤهم أو أقاربهم. أغلقت عيني الرجل وأشرت إلى الفتاة أن تبتعد وتستمر في السير. تلفتت يميناً ويساراً، ثم استدارت وراحت تغذ السير بعد أن قلت لها سوف أعتني به فلا تتعبي تفكيرك. بعد أن تيقنت من موت الرجل حملته على كتفي وسرت به بعجالة، ورفعت صوتي موجهاً الجميع للسير نحو جهة اليسار، هناك حيث توجد البيوت الطينية لعلنا نجد فيها ملاذاً. ثم طلبت منهم أن ينتظروا ويتبعوني لأدلهم على الطريق، وحذرتهم من أن يحيدوا عنه لوجود حقول الألغام على جانبيه. واصلت السير كابتاً رغبة عارمة في الحديث مع أحد ما، لم أكن أرى منهم غير أجساد تتحرك خلفي ببطء. صرخات ألمهم تسمع كدوي طبول، وأشعر بعيونهم ترقبني لا بل تلسع ظهري. أصواتهم ما زالت تدوي. تنعي ملْء الحناجر. وأظل أنصت لها لتترسب في الروح فجيعة تتلوى في داخلي كجمر متقد. فكرت أن أتوقف، وأخبر الفتاة بموت شيخها، ولكن وجدتني أبعد عن ذهني مثل هذا التفكير، وأتركه لحين انبلاج الفجر حيث عليها أن تواجه الحقيقة. وعن أي شيء أحدث الآخرين، وهم على هذه الحال، يسيرون مثل المخدرين يهدهم التعب والجوع، لا يسمع منهم غير زفرة أو عويل. أنا وحدي حامل سري الذي حتى وإن اكتشفوه فهم حتماً غير معنيين به. تقدمت مسرعاً أحمل جسد الشيخ الهزيل الخاوي والبارز العظام من تحت جلده المغضن.
أيه أيها الشيخ، أتراك تحدثني بصمتك. ما الذي تريد قوله بعد أن أُزهقت روحك في هذه البرية. ألا حدثتني عن تلك الليلة التي خطفك بها الذئاب ودفعوك إلى حتفك هذا. لقد وضعك القدر في طريقي ومثل ذلك فعله معي، ووضعني بين حشدكم، أحمل الآن جسدك سوية مع خوفي وأملي. كان جدي مثلك دقيق العود خاويه، يثقل عليه أن يرفعني ويضعني في حضنه وأنا ابن الرابعة، يروح يداعب ويشم شعري، أشعر بحرارة أنفاسه، أنت لا تفعل مثلما كان يفعله جدي. جسدك بارد جداً. كان جدي يفرك أصابعي الطرية أيام البرد. كنت ألثغ بحرف الراء فيلح عليّ أن أكرّر لفظه. لا أدري إن كان يتلذذ ويفرح بسماع ذلك، أم تراه يريد أن يقوّم لساني. أكان لك حفيد مثلي، وكنت أنت جداً له تلاعبه وتواده. ما الذي سوف يقولونه، بعد أن أغمضت عين جدهم في هذه الوحشة بعد مسيرة العذاب. جدي علمني في الخامسة عد الأرقام. يجلس معي وسط الغرفة قرب المدفئة، ويرمي فوق سجادة صلاته قطع الميكانو البلاستيكية ويختار منها الأرقام ثم يأخذ ببعثرتها. ما كنت أترك له أن يعبث بأحجاري البلاستيكية، أعانده ويعاندني. ولكنه يغريني بقطعة حلوى، ويدعوني أن أرتب الأرقام بشكلها الصحيح ليمنحني قطعة أخرى. أكان لأحفادك مثل تلك اللعب، أكانوا يعاندونك، هل منحتهم قطعة حلوى؟ أم أنّ القدر لم يمنحك مثل هذه الفرصة ؟ أكانت قلوبهم المجللة بالفرح والأمل تستهويك لتلعب معهم ؟
كان يصعب عليّ أن أحفظ الرقم ستة، وكان ذلك في سنتي الخامسة، أعد الأرقام وأهمل أو أغفل الرقم ستة. عمري الصغير لا يدعه يلتصق بذهني، وعندما أسهو عن ذكره يطلق جدي ضحكته الخفيضة ويكرر .. أيها الملعون أين رميت رقم ستة؟ متى تتعلم هذا الرقم؟ وقد ذهبت كل جهوده سدى، لحين دخولي المدرسة التي علمني فيها أستاذ جبار الحضري الخوف وعد الأرقام بترتيب دقيق لا شائبة فيه. وكان جدّي حين عودتي يضمني إلى صدره ويطلب مني ذات الشيء ويقول ليّ.. شاطر سبع .. سوف تكبر وتصبح طياراً.
ما الذي دفعني لأحمل جثتك اليوم؟ كل ذلك الذي حدثتك عنه، أم أريد أن أتستر بجسدك.. كان مثلك ساكناً هادئاً، وجدته يحملق بي بعين يابسة. كنت في سنتي الثامنة طلبت منه أن يستيقظ ليصاحبني إلى المدرسة. حركت قدمه وهززتها، دفعت يده ورفعتها فسقطت ثقيلة، همدت جواره. جلده كان بارداً مثلما أنت عليه الآن. كان هناك من يبكيه بدموع حرى، ما عداي، فما كان وعيي يتيح ليّ معرفة معنى الموت مثلما عرفته بعد حين، وبالذات عند جبهات القتال. ولكن أنت، ما بكاك أحد، ولم يهتم بك غيري في تلك الوهدة والظلمة الموحشة. حتى تلك الفتاة كانت مسكونة ً بالرعب، تخاف وتهرب من معرفة حقيقتك الجافة، وتتهيب أبدية إغفاءتك، كي لا توقظ الفزع في صدرها المشحون بكومة من عذاب، يكفيها ذخراً لسنوات قادمة. ما رأيت دموعها بقدر ما شاهدت رعبها ينفجر مع سطوع البرق. سوف نصل وترقد أنت هنا وحيداً مطمئناً تواسيك وتؤنسك أو تفزعك أصوات القنابل ونقرات الطيور، وتنمو فوق مثواك سلال من حشائش البراري. وتمر المواسم وحتى الدهور وتعاود الحياة طبيعتها جوارك. تسمع أصوات قهقهاتهم، بقربك، خلفك أو أمامك تدور صرخاتهم، وهم يلعبون متناسين أنك رقدت غريباً في أرضهم، وقد تفتت جسدك الواهن، ومعك تفتت أعوام لا بل قرون بُذلت فيها وبسخاء مفرط ووحشي أرواح دون حساب.
ـ ما تبقى من الطريق للوصول إلى الجانب الإيراني طويل جداً، دعونا نريح أنفسنا عند تلك الخرائب ثم ننطلق في السير عند انبلاج الصباح.

يتبع ج 4

31
المنبر الحر / سيرة ليست للسرد ج2
« في: 12:25 02/10/2022  »
سيرة ليست للسرد ج2
فرات المحسن

أخذت السماء تمطر مطراً مدرارا ، أرعدت، وشطر البرق بسطوعه حافة الجبل اليمنى. كنت أطالع المنظر من خلال شقوق الباب الخشبي المتهالك، فتلتقط عيني صورة الظلام الذي راحت قطرات المطر الكثيفة المتسارعة، تكسر حدته بالتماعات براقة مرتعشة إثر انعكاس ضوء الفانوس عليها. كنت مستغرقاً في النوم ولكن الرعود وصوت المطر المتساقط فوق الصفيح أيقظني، وجعلني أثب من الفراش. اعتقدت أن هذا المطر الغزير الهادر، يمكنه أن يجعل سقف الغرفة يهوي فوق رأسي. أنتظر الفجر حيث أتسلّم ورقة الأجازة الدورية والعودة إلى مدينتي القريبة من بغداد. ولكن بمثل غزارة هذا المطر، من الممكن أن يُقطع الطريق الترابي المؤدي إلى الشارع الإسفلتي، الذي بدوره ينقلنا إلى مدينة خانقين. كان هذا ما يحدث عادة أثناء مواسم الأمطار. حينها تحفر السيول أخاديد عميقة تخترق السهل، فتبدو وكأنها وديان شقـّها الرب منذ غابر الأزمنة. في هذه الأرض لاشيء يبعث على الاطمئنان بل يبدو المكان، وقد أنبتت فيه حقول أسى وفزع وخذلان. وأنا اليوم ما عليَّ غير انتظار يوم آخر سوف يكون بطول دهر، كي أتسلمّ أجازتي الدورية.
بيت الآغا وهو شيخ المنطقة الذي هرب مع سكان القرية بعد احتلال الجيش العراقي للسهل، اتخذناه مقراً لوحدتنا العسكرية، وهو عبارة عن مجموعة غرف تجاور بعضها وتلتف لتحيط ممراً واسعاً  وتشكل مستطيلاً يمتد لأكثر من عشرين متراً طولاً وعرضا. تقع غرفة الضيوف أو الإيوان عند طرفه الأيسر، وهي باحّة مفتوحة تشرف مباشرة على الشارع المفضي نحو الجبل أو النازل نحو الحدود العراقية، والطريق يتشعب إلى فرعين ميسميين، أوسعهما يتجه مباشرة إلى مضيق يدعى فتحة سرتنك، تلك الفتحة الفاصلة بين جبلين عاليين. الجبل يمين الفتحة يسمى باغ ويسارها جبل سلمانان. السّهل والفتحة ومرتفعات الجبلين باتت تحت سيطرة الجيش العراقي منذ الأيام الأولى للحرب. لم يخطر في بالي ولو لمرة أن أسأل عن معاني أسمي الجبلين، بالرغم من أني تسلقتهما عشرات المرات، كجندي حماية للمؤن المرسلة إلى مراصد كتيبتنا المنتشرة فوقهما.
المهجع الذي أنام فيه كان في يوم ٍ ما مطبخاً لبيت الشيخ، يوحي بذلك الهباب الأسود الذي يغطي الجدران والسقف، وهناك أيضاً بقايا موقد، وقد اضطرنا هذا الوضع لاستعمال ورق الجرائد لتغطية سخام الجدران. صاحبي الذي يشاطرني السكن في هذه الغرفة الصغيرة الوسخة، ذهب منذ يومين بمأمورية إلى معمل تصليح المعدات في بعقوبة. وهذا ما يبعث القرف والوحشة في نفسي.
تنبهت لجلبة أصوات مكتومة كانت الريح تجلبها. كانت مثل رغاء حيوانات أو عويل يحدث صخباً يخالط صوت المطر، فيبعث بالنفس قشعريرة. لم أكن متيقناً لولا أن الصوت بات يقترب أكثر فأكثر وكأنه يخترق الظلام  ويرتطم بجدران البيت وأبوابه. خرجت متحاشياً المطر، واتجهت صوب الحرس الذي وقف متسمراً عند حافة الفناء اليسرى من شرفة الرواق المطل على الشارع. كان يحملق في الفضاء البعيد محاولاً اختراق الظلام بقدر ما يستطيعه نظره. كان وكأنه يترصد عدواً شعر باقترابه. نبهته فنظر بعضنا إلى الآخر وعلامات الاستفهام تملأ وجهينا.
ـ ما الذي يحدث ؟... كأني أسمع حركة في الجوار .. أتسمع مثلي صوت عويل؟
ـ بالضبط .. ولكن الظلمة والمطر يحجبان الرؤية ..
ـ لعلها أصوات صادرة عن مقر مجموعة الجاش* وحيواناتهم.
ـ ولكنها مثل عويل مجموعة بشر.. إذهب وأيقظ ضابط الخفر .. إنها النوبة الليلية لنائب الضابط عبد الرزاق.
ـ ما الفائدة إن لم تتحقق من الأمر جيداً.
ـ لا عليك أيقظه ليكون على اطلاع.
غدت الأصوات أكثر وضوحاً وقرباً. كانت ترتفع عويلاً يضج به الوادي، وعندما عدت بصحبة نائب الضابط عبد الرزاق، التمع البرق بحدة كاشفاً في البعيد عن جمهرة كبيرة تتقدم راجلة ً فوق الطريق. اجتازت الأخدود المجاور للمقبرة جنوب مقـّر وحدتنا، ثم انعطفت متجهة ً صوب الشارع الذي يصل إلينا. مجموعة كبيرة لا يحصى عددها من البعيد، ولا ترى أشكالها غير أجسام تمشي ببطء وتنوخ بأجسادها، وثمة مجموعة من الجاش يمتطون بغالهم ويسيرون أمام وخلف هذا الجمع.
ـ إنهم مهجرون إلى إيران... هكذا أعلمتنا برقية الفرقة عصر اليوم.. راقبوهم جيدا كي لا يتسرب أحد منهم .
هكذا أوجز الموقف نائب الضابط عبد الرزاق، وانسل عائداً نحو غرفته. تسمرت أرقب الحشد القادم من بعيد.
 عند تلك اللحظة خطر الأمر في بالي. مثل ومضة برق، بدا وكأنه حشر في دماغي وتضخم وملأ كل جوانحي. لحظات كانت، قررت بها كل شيء دون تردد. اتجهت نحو المهجع وسحبت حقيبة سفري، وأخرجت بنطالي وقميصي والجاكيت الشتائية التي أحتفظ بها لأرتديها في مدينة خانقين، حين وصولي إليها متجهاً نحو بغداد. خلعت بذلتي العسكرية على عجل، وارتديت ملابسي المدنيّة. لقد اتخذت قراري، ولم أراجع أية احتمالات أو توقعات من الممكن أن تعيقني وتمنعني عنه. احتشدت في قلبي لحظتها عواطف غريبة. الهرب من الموت إلى حافة المجهول هو الأهون أو الأفضل في جميع الاحتمالات. من ساعتها عرفت ما أريد أن أفعله. حسمت أمري وقررت. كل ما يأتي يهون بالمقارنة مع الموت الذي يترقـّبني ليخطفني في أي يوم أو ساعة، وسوف يكون لا مفر منه.
ليس سوى بضعة أيام وسوف أحتفل بعيد ميلادي السادس والعشرين. هاهنّ سنوات عمري الجميلة اهتصرتها الحرب وقتلت أجملهن غيلة. لا ينفع الآن البكاء على ما مضى، فيكفيني ما تعرضت له وأنا أجول مع الموت كل يوم. أعذرني يا أبي فلم تدع الحرب لي خيارا أو فرصة لأكون تحت جناح حنانك، ولا أريد أن تبكيني جسداً مزقته الشظايا. لقد قررت، وإن الوقت يمضي بسرعة وما عليَّ غير اللحاق بهم. فكرتي هذه وحدها من ينتزعني من أتون الحرب. تخيلت وقتها أن أمي تنظر نحوي مشفقة ً دون توسل أو ملامة. طافت صورتها في مخيلتي، فالتصقت عيناي بعينيها. لا تشغلوا بالكم فالعناية الإلهية ستتكفل بكل شيء. قبل أن ينكشف ضوء النهار أكون قد وصلت إلى ما أصبو إليه. صحيح أني مضطرب الآن، والكثير من الخوف يعتمر روحي، ولكني على يقين بأن قراري صائب، ولن أتردّد فيه مهما كانت النتائج. إنها لفرصة لا يجود بها القدر غير مرة.
زيادة في الحيطة اتجهت إلى اليمين وهبطت السلم الصغير، واختفيت تحته أرقب الحرس الآخر الموجود في الباحة الخلفية لمقر الكتيبة. لم أشاهده أو لم يكن موجوداً أصلاً. لذا سارعت أدب وئيداً تحت الدكة العالية للبناية، ثم انعطفت وجلست بالضبط تحت امتداد السقف الظاهر للفناء الخارجي للدار والمشرف على الشارع حيث تجمّع فوقه بعض أفراد الكتيبة يراقبون قدوم أعداد المهجرين. كانت الجلبة القادمة من هناك تقترب شيئاً فشيئاً، وتتصاعد أصوات العويل مع هدير ماء المطر الذي راح يضرب كل شيء، ويحفر في الأرض بقطرات ثقيلة. أرهفت السمع. لم يكونوا قد اقتربوا بعد من مقر الكتيبة. ولكن الصخب والعويل أصبح أكثر قرباً ووضوحاً. سبق جمع المهجرين بضعة بغال يمتطيها المرتزقة الجحوش. كانت المسافة بينهم والمهجرين بعيدة بعض الشيء. بعد عدة خطوات ظهر الجمع وكأنهم غمامة سوداء تتحرك في ذلك الظلام الكالح. المتقدمون منهم كانوا ثلاثة لا يتضح منهم غير كتل بشرية تسير مهدودة منكفئة تجر خطاها بتثاقل، متدلية الأيادي كأنها تحمل أطناناً من أثقال. لم أجد الفرصة سانحة للخروج والولوج بين الصفوف. ولو فعلت ذلك فإن محاولتي سوف تكتشف من قبل جنود الكتيبة الذي تجمعوا فوقي. بضعة أمتار كان عليَّ اجتيازها، ولكن تلك الخطوات ستفضح محاولتي وتفشل مشروعي بالكامل، وربما تذهب بي نحو حتفي. لذا وبسرعة قررت أن أقفز نحو الجهة الأخرى القريبة من فصيل قلم الكتيبة، الذي يبعد عن مكاني بضع خطوات، والواقع عند نهاية الطرف الأيمن لمركز المقر ويحاذي الطريق. وفي هذه الحالة عليَّ أن أحاذر الحرس الآخر عند بناية فصيل القلم. كان الظلام دامساً تخالطه كثافة المطر التي تحجب الرؤية إلى حد ما. ولولا التماعات البرق لما وضحت أي معالم للمكان حتى القريبة مني. تقدمت نحو الجدار الجنوبي أسفل شرفة الفناء، ثم قفزت بخطوات واسعة أصبحت بعدها خلف مقرّ فصيل القلم. لم أجد حرساً هناك. الاحتمال الكبير أنه ترك موقعه وذهب مع جمهرة الجنود في المبنى المجاور. وهم الآن منشغلون في التطلع إلى الجهة الأخرى حيث يقترب حشد المهجرين. جلست متحفزاً للوثوب نحو مجموعة المهجرين حين يقتربون من المنعطف. وضعت الكوفية لأغطي بها رأسي ووجهي حذراً وتمويهاً.
اقترب جمع المهجرين من المنعطف القريب، فشعرت بحرارة تخرج من جسدي وبدأت أعضائي جميعها ترتعش. تملكني خوف حقيقي، فرحت ألعق بعجالة قطرات المطر المتساقط فوق وجهي. لحظة المجازفة لها ثمن ليس بالهيّن. وإن اكتشفني جنود الكتيبة أو الجحوش المرافقون لمجموعة المهجرين، فسوف تحل الكارثة فوق رأسي وتكون نهايتي. شعرت بأن قدميّ تغوصان في الأرض اللزجة. المكان وحشد المهجرين استوليا كلياً على تفكيري، وما عدت أفكر بشيء غير التهيؤ للوثوب وكيفية القيام بالحركة الأولى. كانوا يسيرون مثل موكب جنائزي. العجائز الثكلى تجر أجسادها الخاوية، وبضعة من فتيات مرتعشات يلتصق بعضهن ببعض خائفات مرعوبات، وهناك في الخلف تسير مجموعة من شيوخ تنوء بأجسادها. الجميع وكأنهم أنقذوا توا من غرق. أسمال مبتلة تلتصق على أجسادهم، وطين الأرض كان يثقل خطواتهم. ملابسهم بدت مثل خرق يغطيها الوحل. وكان نواحهم الجنائزي كمن يعاتب الربّ على فعلته في هذا الوقت. تحت التهديد ومن ثم التهجير، ترشقهم السماء دون رحمة بهذا الغضب الذي لا يرحم حتى ضعفهم وما تحملوه من مشاق.
يتبع ج3

32
المنبر الحر / سيرة ليست للسرد ج1
« في: 20:19 25/09/2022  »

سيرة ليست للسرد ج1

فرات المحسن

لست مستعداً للحديث بالتفصيل عمّا دار أو حدث لي في الأسر. الحديث عن كوابيس تلك الأيام يجعلني أعيشها مرة أخرى بكل تفاصيل الأوجاع التي حوتها. لهذا السبب تراني أحاول دائماً انتزاعها من ذهني. أحاول وأكرر المحاولة، أحاول ولكن هل ذلك ممكن، أشك في الأمر مثلما أشك بقدرتي على انتزاعها ورميها بعيداً. لا يقين عندي. فروحي من الهشاشة أجدها بعيدة ً عن التماسك، وواهنة القدرة على استحضار وتركيب الأحداث. أحداث تلتصق في تلافيف عقلي وتنتشر مثل شبكة ثخينة من حبال مفتولة. تنفلت ولكنها تلتفّ في التجاويف، وتثب أمامي كوحوش بمخالب مدببة، تنهش روحي ماسكة بتلابيب ذاكرتي. ورغم الألم المضني الذي ينخر روحي، فإني أظن أن التفكير، وفي آن واحد بكومة من الفواجع والمواجع، يربكني ويضعني في لجة من متاهات لا نهاية لها. ولو فكرت الآن بالأمر ملياً لوجدتني أدرك جيداً أن الإحساس بالألم جراء القسوة المفرطة التي وجهت لجسدي وقبله لروحي، يجعلني أكثر قدرة على الاختيار بين الفصل أو الجمع بين الأحداث. سردها حسب الرغبة أو الظرف، لن يكون عملاً سهلاً. فألم التذكـّر له خصوصية غريبة، يكون العقل فيه، إمّا منفلت مشوّش أو يمتلك ما يمكنه من ضبط إيقاع جميع المشاهد وجعلها طوع الحديث.
الأسر، حاولت دائما أن أجد له تعريفاً دقيقاً، ولكن في كل مرة أجدني عاجزاً عن ذلك. من وقع في الأسر يستطيع أن يفرج عما خبأته ذاكرته لوقائع من فظائع  وآلام واجهها هناك. ومع ما يملكه من إدراك أو إحساس بفرط القسوة التي وجّهت له، يبقى المرء غير قادر على أن يعطي وصفاً دقيقاً ومتكاملاً لوضعه النفسي، أو بناء صورة حقيقية لعالم عاش فيه، اسمه الأسر. فهو عالم متشابك ومبطن ومفزع. ولذا فأنا أعترف بعجزي التام عن توصيفه بدقة. عجزي هذا يدفعني أن أعافه. فإن أردت استحضار عذاباته وجدتني في الأخير أتسربل بالذل، وأحس بمقدار الخذلان والدونية التي واجهتها. نعم دونية تصل حدّ الاعتقاد بأني كنت مثل كلب أجرب، احتشدت جوقة من رجال يمتلكون قدرات فائقةً من السادية، التفوا حوله، وبجهود منفلتة كانوا يحاولون إرساله إلى حتفه اختصاراً للزمن. ولكنه وبمرور الوقت، وفي كل مرة، بين طواعية واستسلام وتخاذل ودونية، يجد نفسه قد توطن بالكامل مع رغباتهم ولذا بقي يقاوم من خلال ذلـّه وخوفه. ولكن كل شيء أرادوه نفذته طواعية.
لا أريد أن أسرد كل ما واجهته في الأسر. ولكني أتذكر الآن وهو ما يعتصر ذهني وقلبي حدّ الوجع. أتذكر بإفراط، الأشياء المحيطة بذلك المعسكر، وأيضا الوجوه التي جاورتني أو رُصت معي في المحاجر، وحتى من ذهب منها دون عودة، بقيت صورته ملتصقة تتأرجح في بالي. ولكن لأبعد اليوم الحديث عن كل تلك الوقائع وتفاصيل الحوادث بالرغم من أنها كانت شبيهة ً بالزلازل. نعم زلازل تهز الكيان، ربما حدوثها بالنسبة لي يفوق بقوته ، أكثر مما يحتمله مقياس رختر ذو الرقم المتيبس عند النقاط العشر.
الأسر هو الأسر، أي سجن دون يقين أو نهايات، وهو اقتلاع حتمي من الحياة الطبيعية السوية. ومنذ البداية يوم ابتلع المرء طعم الذهاب إلى الحرب عنوة أو بخياره، يجد نفسه تحت وطأة التفكير بحلول قاصرة تدور في دائرة مغلقة، تتمحور حول موضوعات الموت أو الأسر أو العوق أو العودة مع ذاكرة مريضة ملتبسة.
في الأسر لا يعدم هناك من يحذر الآخرين وينصحهم بعدم الإفراط بالحديث عن أموره الشخصية، كي لا تكون دليلاً يستغل ضده. ولكني ومنذ البداية بحت بكل ما جادت به قريحتي حين سألوني عن الذي حدث، وسبب قدومي إلى حدود دولتهم طالبا اللجوء.
لم أقبل نصيحة رحيم حميد رجب العافي، وهو من شاركني في قفص الأسر الأول.حين  نبهني أن تكون إجاباتي دائماً مختصرة ً ودقيقة ً وعلى قدر السؤال، ولكني تجاوزت نصائحه، ورحت أثرثر لهم عن أماكن وأحداث كنت أعرف جيداً أنها ستزيد من قساوتهم في تعذيبي. كنت أظن أن ذلك ربما ينهي معاناتي بشكل أو آخر، ولكنهم لم يعطوني مثل هذه الفرصة. كانت حساباتهم بعيدة ً جداً عن حساباتي.
لا أبالغ لو قلت إن الوئام كان مستحيلاً مع نفسي، وهو كذلك مع من شاركتهم أقفاص الأسر العديدة التي تنقلت بينها بتوصيات وسجل آثام يلاحقني مثل الظل، دونتْ فيه الكثير من المساوئ والتهم البشعة الملفقة. لم أتوطن مع الجميع مثلما مع الأماكن. هكذا كانت فترة أسري. كان من المستحيل عليَّ مقاربة جميع الأشياء حتى الأسرى الذين يشبهوني في عذابي.
في الأسر، وفي البداية أوجزت لهم وضعي لمرة واحدة، وبعدها أفضت حوله عشرات المرات. ولكن الثرثرة أو حتى الإجبار على ممارستها، لم يكن لينفع بشيء مع النوايا السيئة التي واجهتها. فقد استغل أسمي وهويتي ليكونا سيف ديموقليس الذي أتلمس شفرته الحادة وهي تقترب من عنقي كل ساعة. في اليوم الواحد  رددت أسمي عشرات المرات. وحين أتلعثم وأنا أعلس الطين مخلوطًا بالأحرف بالدم، كانوا يطلقون ضحكاتهم المجنونة فأصاب بالعته، وأروح أتلوى ليرفع ذلك عقائرهم بالصراخ والشتائم ويندفعون في دحرجتي وركلي وتمريغ وجهي بالماء الآسن. كانوا يعفرون وجهي بتراب الأرض وطينها، وكان الدم يتدفق من جسدي كما ينساب ماء العيون. أمدّ جسدي فوق الأرض ليسحقوا ما يشاؤون سحقه. فما عاد لي رغبة بوجوده. هكذا، لم يكن قد تبقى لي ما أحافظ عليه.
 حطـّموا أسناني، فأصبحت ألثغ حين يطالبونني بإعادة تكرار أسمي وقصة اختلاف هويتي وهروبي من الحرب. روضوني مثل بهيمة، فكنت أطيع إشاراتهم بحرفة العارف بالرموز والإشارات. أصبحت أعرف ما يطلبونه مني عبر إشاراتهم وليس كلامهم. أسبقهم في معرفة ما تعنيه إشارة الإصبع أو الكفّ وحتى الحذاء. ما عادوا يحتاجون غير التلويح لي بالحركة، فتجدني أقعي على ركبتي ثم أضع خدي فوق التراب أو الطين ليدوس أحدهم بحذائه الصلد المتيبس فوق رأسي. يضغط ثم يضغط حتى تكتم أنفاسي، وحين انتفض قافزاً خوفاً من الاختناق والموت، تبدأ حفلة الركل والضرب والشتائم.
حين عدت من الأسر كان كل ما أملكه جسداً ذابلاً منهكاً وروحاً متهاوية متصدعة. كان يقيني يعرض أمامي أشباحاً توقظ أسئلة حيرى.
 النتيجة كانت هي الأسر ؟؟.. لا حتما.. التعذيب هو النتيجة ؟؟.. كلا الأسر هو السبب، أم يا ترى الحرب هي النتيجة والسبب ؟.. بلا شك لو كنت أعرف، لو أني تيقنت ووجدت ما يقنعني بما حدث، لثبت إلى رشدي دون عناء واستعدت قواي الجسدية والعقلية، وامتلكت القدرة على الفتك بكومة الخواطر التي تراودني وتقض مضجعي. نعم أنا من اختار الأسر.

في ليلة ظلماء ممطرة كان الربُّ فيها غاضباً على من بنى أجسادهم من طين، وبثّ فيهم من روحه، ففلتت تلك الأرواح من بين أصابعه، لتصنع لها قدراً دون معرفة كنهه أو لأي مصير سيقودهم هذا القدر. اخترت أسري طواعية. لحد هذا الوقت أتساءل مع نفسي، ما الفرق بين الأسر والموت في الحرب؟ هل هناك تفاضل بينهما؟  من المستحيل أن يكون هناك جوابٌ مقنعا يكسر حدة هذه المعادلة البشعة واللئيمة. ما نوع النتائج في كليهما ؟ هاأنذا لا أملك غير أقل من دزينة أسنان، وبعد وقت قصير سوف يقل هذا العدد. الركلات واللكمات اقتلعت الثلث منها، والباقي نخره السوس والسجائر. أما عاهتي الأخرى فهي اليوم تسكنني ليس كوجع، بقدر ما تعني قربي من العمى الكلي. فالالتهاب أخذ يسري نحو عيني الأخرى وشح الضوء فيها، وأخذت الصور أمامي تفقد تفاصيلها ووضوحها.
لا يغادر المشهد ذاكرتي على الإطلاق. ألوكه بمرارة تمني الموت. أبداً أستحضر تلك اللحظة حين دفع رأسي بحذائه الثقيل، وبكل ما يمتلك من قدرة. غرز رأسي في حفرة من طين لزج. لم يأت لإضاعة وقته في الحديث معي. أشار لي فوضعت وجهي في الطين. شممت رائحة نتانة الطين. دفع براسي فغاص وجهي. شعرت بلسعة حادة تخترق جفن عيني المغمضة. حرقة كأنها لفحة نار كاوية. لا أدري ما الذي حدث بالضبط، ولكني رفعت جسدي بكل ما أوتيت من قدرة وصرخت. كان الدم يختلط بالطين. شعرت بتلك القطعة الخشبية الحادة، وقد اخترقت عيني وغارت داخلها. لم أعد أرى شيئاً وتلقيت بعدها ركلات عديدة مرغت جسدي في الحفرة.
كل شيء اكتمل في الأسر وعدت شبه أدرد، أعور و كليل العين الأخرى بعد أن التهب الجرح وتورم وجهي دون أن ألقي عناية خاصة.
من كان السبب في كل ما حدث ؟ أنا أم هي الحرب أو الأسر الذي جازفت ودفعت نفسي لخياره، أكنت مخيراً بين الموت و النجاة. الحديث عن الأسر موجع ومفزع، وأنا الآن لا أملك القدرة للبوح بكل تفاصيل ما وقع لي فيه. لأدع ذلك ليوم آخر أو لحساب آخر. لا أستطيع احتمال استحضار كل هذا أو حتى الحديث عنه، رغم أن الثرثرة حول العناء والآلام تجلب بعض الراحة مثلما يقال.
أن تختار الأسر يعني أن تختار موتاً دون حدود أو مواقيت. وحكايتي فيه، تصلح فقط للمجانين. فالمجانين وحدهم من يدرك معنى خزين العذاب الذي تعتمر به الروح. ولذا أفكر، أي سبب أو نتيجة أختار.ولذا أحجم عن سرد تفاصيل  قصة الأسر، وأبدأ من لحظة خياري له. نعم أعتقد ذلك. وليس صدفة أن أبتر من حديثي مشاهد معسكرات الأسر التي تنقلت فيها. فرغبتي اليوم أن أختلي بالسبب والنتيجة سوية. أن أشبكهما تحت أضلعي، ثم أفرغهما أمامي. وقبل أن أسرد حكايتي التي لا أعرف إن كانت تستحق التدوين أم لا. فإنني أشعر بالارتباك وعسر في المحاولة. وإن كانت سنواتي المنصرمة قد ذهبت هباءً، فالمهم الآن محاولتي تدوين تلك الخديعة من الرذيلة والقسوة التي وقعت فيهما جراء خيار، حتماً لم يكن أنا من ذهب إليه طواعية، وإنما هناك من دفع بي نحوه.
لا لست صادقاً ولا حتى كاذباً ولست أنا من يروي هذه الهلوسات، ولكن عليَّ أن أدونها قبل أن أجن، فقد كنت شاهداً ومشاركاً فيها،.وأجد من المهم وبعد أن أرويها، علي أن اقطع الشك باليقين وأمسحها من ذاكرتي نهائيا، ولن يكون ذلك حلا دون أن أختفي معها وإلى الأبد.


34
انقلاب القصر الذي أرعب السيد مقتدى الصدر
فرات المحسن  
لم يخرج محتوى ورقة استقالة وزير المالية السيد علي عبد الأمير علاوي عن المألوف والمتعارف عليه بين عموم أوساط الجماهيرية العراقية ، وعن ما تتمتع به الأحزاب الحاكمة ومكاتبها الاقتصادية واذرعها المليشياوية وحلفائهم من المافيات ، من قدرات فائقة على سرقة ونهب خيرات العراق، وبوضح النهار ودون تحفظ.
 فالرجل وفي أوراق استقالته التي تجاوزت العشر، شن هجوما غير عادي على أسس نظام الحكم الذي شارك فيه وأفراد كثر من عائلته، وبمستويات مختلفة منذ ما قبل سقوط حكم حزب البعث عام 2003 .وكان من أوائل رجال الحكم على عهد وزارة أبن عمه أياد علاوي، تلك الوزارة التي وضعت اللبنات الأولى لطرق نهب المال العام برضا الأمريكان وتحت أنظار وسمع الأمم المتحدة.
ففي نظرة عامة لتحليل أوراق استقالة الوزير، نجد أنها لم تأت بالشيء الجديد، والمعلومات التي قدمها  لا تختلف عن سابقاتها التي قدمت على مدى العشرين عاماً الماضية، فهي ضبابية ودون أساس متين، لسبب واحد، هو ابتعادها عن المسميات المباشرة والحقيقية، ورمي التهم على طبيعة عامة تخلط الأوراق وتضع الجرم في سلة الجميع وتترك الأمر لتقدير الشعب وخياراته.
هذا النهب والسرقات هو لب أزمة الحكم الحالية، والتي تتصارع عليها جميع الأطراف دون استثناء.وزاد من حدته وشراسته، الوفرة المالية التي أحدثها ارتفاع أسعار النفط. ولكن مشهد الصراع يختصرُ بصيغ فذلكة وفهلوة سياسية ، بين واجهتين هما الإطار ألتنسيقي،المتمثل بمجموعة أحزاب وقوى كانت فاعلة وعلى مدى العشرين عاما، في إدارة عملية الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أصاب العراق بالشلل والفشل، مع شريكهم الرئيس التيار الصدري بجميع تلاوينه ومستوياته. ودائما ما كان الطرفان هما من يشكل بشخوصهم وأدواتهم محور إدارة العملية السياسية، ومن خلال تحالفهم وتقاسمهم النفوذ والقوة والمنافع، مع باقي القوى والأطراف الكردية والسنية.
أخطاء الإطار ألتنسيقي وضعف أدائه أثناء العملية الانتخابية الأخيرة عام 2021 سببت له إخفاقا ظاهرا وموجعا، توزع على مجمل أحزابه وشخصياته التي ائتلفت لاحقا لأجل الوقوف على قدميها أمام كمية النجاح التي استحوذ عليه التيار الصدري، وبعدد مقاعد برلمانية بلغت الثلاثة والسبعين من غير الحلفاء.
 لم ينجح اعتراض الإطار ألتنسيقي وعبر تظاهرات كبيرة ولعدة أيام، من ثني السلطة ومفوضية الانتخابات ومثلهما المحكمة الدستورية، على تغيير النتائج أو إعادة العملية الانتخابية، ولكن وبشكل ذكي، استطاعت مجموعة الإطار ألتنسيقي استمالة المحكمة الدستورية ودفعها لوضع صيغة مناسبة لتعطيل وتحجيم قوة التحالف الذي أعلنه الصدر مع البرزاني والحلبوسي، بمسمى تحالف إنقاذ وطن، والذي دعا فيه للذهاب وتشكيل الأغلبية السياسية. فكانت الصيغة التي قدمتها المحكمة الدستورية لتفسير الكتلة الأكبر،وهي التي مُنح بموجبها الإطار ألتنسيقي قوة الثلث المعطل، لتكون القوة الكابحة لاندفاع التيار الصدري في مشروعه، ومن ثم تعطيل وتحجيم انتصاره الانتخابي.
لم يكن ليستمر هذا الحال بغير إجراء مناورات يستطيع من خلالها الصدريون كسر شوكة ائتلاف الإطار ألتنسيقي، والعبور بالأزمة لبر ما دعي إليه بأغلبية إنقاذ وطن،لذا قدم اقتراح الذهاب للمعارضة، ومنح خصومه مهلة لتشكيل الوزارة، وفي ذات الوقت كان يهدد بالوقوف بوجه تلك المحاولة، وقصم ظهرها برلمانيا وتعطيلها إن أقدم الإطار على القيام بها. ثم جاءت لحظة الحسم، حين قرر الصدر بورقة صغيرة يطيب له تسميتها بالكصكوصة، التحكم بمصير أعوانه ومعهم مصير البرلمان، ليدعو أعضاء تياره لتقديم استقالاتهم الجماعية الفورية يوم 12/ 06 / 2022 ، وبالظن بان البرلمان سوف يعطل عمله ويذهب للتفكك. ولكن الإطاريين تلقفوها وسارعوا بفرح غامر لاحتلال مقاعد التيار الصدري ، ووفق صيغة أقرتها بنود القانون الذي فُصّل للانتخابات ومخرجاتها، من قبل القوى السياسية المتصارعة ذاتها.
لم يكن خروج السيد مقتدى وتياره من البرلمان، إقرار بالاستسلام وترك الجمل بما حمل لخصومه في الإطار ألتنسيقي، لذا أقدم على تظاهرة كبرى لاستعراض القوة وإعطاء إشارة سياسية واضحة للجميع بمن فيهم الشركاء، بان لا استقرار للوضع دون أن يكون التيار الصدري حاضرا ومشاركا في وقائعه اليومية،فبدأ حملته بصلاة الجمعة المليونية في معقله بمدينة الثورة، ثم أعقب ذلك بدخول التظاهرات وبخليط من التيار الصدري وغيرهم، واكتساحهم المنطقة الخضراء يوم 26 /7  بالتواطؤ مع الحمايات أو جراء خشية الحمايات من الاصطدام بهم، لذا تركتهم يدخلون خوفا من نتائج غير مرتقبة تقود إلى احتراب. ولم تمض غير ساعات ، حين بادر السيد الصدر وعبر وزيره محمد صالح العراقي بالطلب من المتظاهرين الانسحاب من وسط ومحيط البرلمان بشكل عاجل.
كانت التسريبات التي قدمها علي فاضل المعارض المقيم في الولايات المتحدة، لحديث مسجل لرئيس الوزراء الأسبق وأمين عام حزب الدعوة ورئيس كتلة دولة القانون  نوري كامل المالكي ، ثقيلة الوقع على العملية السياسية، وأكثر إيلاما للسيد مقتدى الصدر وأتباعه، لما حوته من شتائم ودعوات للتصعيد والاقتتال. ومع تصاعد حدة التسريبات ووقع وطأتها على الشارع العراقي، وتلبد جو العملية السياسية والعلاقات الحزبية بغيوم سوداء من عدم الثقة ، ومع امتناع القضاء العراقي عن الخوض في ذلك الأمر، واستبعاده النظر بطلب الكثير من المراقبين ومعهم التيار الصدري، للتحقيق من صحة تلك التسريبات، والدفع بمحاكمة المالكي على ما بدر منه من دعوات للاحتراب الداخلي وكيل الشتائم لمقتدى الصدر.فان تلك التسريبات دفعت الصدر وتياره لرفع سقف مطالبه، وتعنته اتجاه خصومه وبالذات المالكي.وفي ذات الوقت كانت الدعوة للتحقُق من صحة التسريبات مدعاةً لتخوف بعض أطراف العملية السياسية من فكرة فقدانها السيطرة على نظام الحكم أو استبعادها عن مكامن المناصب والقوة العسكرية والمالية التي اكتسبتها عبر سنوات تسلطها وإدارتها للدولة العراقية.
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير، وأطاحت بجميع الآمال في إعادة اللحمة بين الشركاء السابقين والجلوس لطاولة الحوار، والركون لما يماثل ما اعتادت عليه تلك القوى والأحزاب سابقا في تقاسم كعكة السلطة، وكانت الدافع الرئيس الذي جعل السيد مقتدى الصدر يصدر أوامره لإتباعه للنزول للشارع والسيطرة على بناية البرلمان العراقي يوم 30 / 07 / 2002 وإعلان الاعتصام المفتوح، وتصعيد المطالبات ابتداءً بمحاسبة الفاسدين وتصحيح مسار العملية السياسية وبتغيير بعض بنود الدستور والرفض القاطع لخيار محمد شياع السوداني وتشبيهه بالظل للمالكي، مما يشير بالمطلق لعدم قبول التيار الصدري لتأليف الوزارة من قبل الإطار ألتنسيقي. 
كل ذلك التعنت ورفض الركون للحوار، جاء إثر ما أظهره تسريب لبعض حوارات من داخل الإطار ألتنسيقي، تذهب وبشكل صارخ وجلي، لإحداث انقلاب قصر كامل الملامح والغايات، ووضع خارطة عمل لما بعد تشكيل الوزارة بقيادة محمد شياع السوداني، وهو حليف المالكي ومن أتباع ولاية الفقيه الخامنئي. حيث يُشير التسجيل المسرب لنيات  مبيته وبتفاصيل دقيقة، لخطة عمل سداها ولحمتها  إقصاء جميع شخصيات التيار الصدري عن مراكز القوى التي حصلوا عليها منذ ما قبل عام 2010 ، وقص أجنحته ووئد تطلعاته، والإجهاز على طموحه بالسلطة.  ومن خلال سلطة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة،  حيث تتم السيطرة على مراكز القوة في إدارة الدولة العراقية والمتمثلة بإحكام رئيس الوزراء على قيادة الجيش والشرطة والحشد الشعبي، والعمل بسرعة ودقة على تغيير قيادات في صلب مؤسسات الدولة الفاعلة والمؤثرة، وهي الأمانة العامة لمجلس الوزراء بشخص الصدري حميد الغزي وتوابعه في الأمانة العامة للمجلس، وإقصاء جميع مستشاري رئيس الوزراء وإحلال بدائل عنهم من أحزاب وقوى الإطار، وتفكيك جهاز مكافحة الإرهاب وتغيير قياداته وبالذات شخص عبد الوهاب الساعدي، ومن ثم السيطرة على مستشارية الأمن القومي وجهاز المخابرات العامة ووزارتي الداخلية والدفاع وسلاح الجو. مما يعني انقلاب قصر كامل الأوجه والغايات، ويأتي وفق  خيار برلماني يُغير قواعد اللعبة السياسية برمتها، لتصبح جميع الخيوط وبالكامل تحت رحمة وسطوة قوى الإطار ألتنسيقي، وعندها يوضع التيار الصدري ومجاميعه تحت سطوة وقوة السلطة وأجهزتها الأمنية، ثم يخير بين الخضوع التام لمشاريع وتوجهات الإطار أو الإقصاء والتفتيت ثم التغييب،ويأتي  في مقدمة هذا الخيار اغتيال معنوي للسيد مقتدى الصدر، بإثارة قضايا قديمة جديدة ضده، ومنها قضية مقتل السيد الخوئي وغيره من الذين يتهم التيار بقتلهم بأوامر من الصدر نفسه، وأيضا الاحتلال غير الشرعي والعبث بمؤسسات الدولة ، أو تقديم خيار التغييب الجسدي للصدر كحل لمعضلة الخصومة على تقاسم كعكة السلطة بمواردها الضخمة.
 وإذا كان هذا هاجسا أو أضغاث أحلام تنتاب التيار الصدري، فأن بعض قوى الإطار ألتنسيقي عملت على انجاز شوط كبير في الإعداد لمقدمات الانقلاب ،تمثل برسالة كتائب حزب الله العراقي الموجه بالتهديد المبطن للسيد مقتدى الصدر وتياره، والتلميح باتخاذ قرارات ميدانية في حال عدم انصياعه للحلول والحوار السلمي، وأيضا من خلال الحشود العسكرية للحرس الثوري الإيراني على حدود إقليم كردستان لترويع حلفاء الصدر، وكذلك بدخول الآلاف من رجال الحرس الثوري الإيراني بمناسبة العاشر من محرم الحرام، وتمركزهم في مقرات بعض قوى الإطار ألتنسيقي في محافظات الوسط والجنوب بحجة انتظار أربعينية الأمام الحسين وانتظار ساعة الحسم.   


35

دور المرجعيات الدينية في حراك قوى الإسلام الشيعي

فرات المحسن
 
   
إثر ما ظهر من نتائج الانتخابات الأخيرة لشهر أكتوبر عام 2021 طفح نحو السطح وبحدة مشهد الصراع الشيعي الشيعي.فقد قدمت كتلة التيار الصدري وهي أحدى أعمدة التحالف الشيعي السابق، رؤيتها عن طبيعة العملية السياسية في العراق ومستقبل السلطة وتركيبتها. وتضمنت تلك الرؤية رغم ضبابيتها، نقاطا يرى التيار أنها بوابة للإصلاحات في عموم الحياة السياسية وداخل البيت الشيعي أيضا، وفي الوقت نفسه يكون قبولها من قبل الآخرين شرطا لرضا التيار الصدري.
ولكن ورقة التيار الصدري عدها البعض ، استفزازا وطعنا بما سمي في التوصيف السياسي الطائفي الحديث بالأغلبية الشيعية، لذا لا يمكن قبولها، لا بل اعتبرت شروطا تعجيزية، على التيار الصدري إبعادها. فمطالبة الصدريين بتصحيح مسار وطبيعة تشكيل الحشد الشعبي، ووضع قائمة بأسماء المفسدين والفاسدين، وهما نقطتان حساستان تستفزان قوى سياسية وشخصيات لها وجودها القيادي الفاعل في العملية السياسية. بل إن البعض من هؤلاء ضمن قادة الصف الأول من الكتلة الشيعية ، ومنهم من يمثل رأس الفساد في العراق، ويتقدم الجميع بسوابق السيطرة على وسرقة المال العام. وهؤلاء يرفضون أي ذكر لوقائع شاركوا فيها وسببت خسائر كبيرة ونهبا للمال العام ، ويقفون بالضد حتى من عمليات الاستجواب في البرلمان، ويمتنعون عن حضور تلك الجلسات، رغم ما يعتريها من طقوس ومخاتلات تخرج الاستجواب في نهاية المطاف عن طبيعته وضروراته ليصبح وكأنه عملية اشتباه وشكوك ليس إلا، وبعدها يتم التراضي وتبويس اللحى وليس أكثر. بل يعتقد هؤلاء بأن حضورهم أمام البرلمان يكفي ليكون حسب تصوراتهم استجوابا سياسيا بل محاولات للتسقيط السياسي، لذا فهم يسعون للوقوف بقوة في وجه أي محاولة من هذا القبيل.
ورغم إصرار أغلب قوى المكون الشيعي على عدم وجود خلاف داخل هذا البيت، لكن المشهد من الداخل وأيضا ما يتسرب عن اجتماعاتهم المتكررة، يؤشر لوجود خصومات ونزاعات كثيرة وكبيرة،وهناك صراع فرقاء على مصالح شخصية ومالية، ومراكز قوى وقيادة، ودائما ما تثار فكرة هيكلية الدولة الدينية التي يرغبون في بنائها، وفق معايير ومنهج ولاية الفقيه أم بعيد عنها. فالمعروف عن المذهب الشيعي تعدد المراجع الدينية، والسماح للأفراد بتقليد المرجع، حسب خيار الفرد وعلاقته بالمذهب.ولكن الحوزة الدينية في إيران تدفع لتكون عراب الجميع وقائدهم.
فمنذ ظهور الحوزة الدينية في قم، احتدم صراع خفي سعى دائما لجعل المرجعية العليا عائدة حصرا، لعلماء المؤسسة الدينية الإيرانية دون سواها .ورغم أن أغلب قادة الحوزة الدينية في العراق هم من أصول إيرانية، منذ هجرة الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من إيران إلى العراق، وتأسيسه لما سمي لاحقا في أعراف ومدونات الطائفة، بالمرجعية الدينية. ولكن ظهر وفي فترات متواترة صراع ديني سياسي، دارت رحاه بين المؤسسة الدينية في العراق ممثلة بالحوزة الدينية في النجف، و نظيرتها الإيرانية في مدينة قم. ودائما ما كانت تثيره حسب الحاجة ولإغراضها السياسية، الحكومة الإيرانية. وغالبا ما كانت الكفة تميل في ذلك الصراع، لصالح الحوزة الدينية في النجف، وبتعضيد ومباركة من سلطة الشاه الإيراني، في محلولة منه لتحجيم خصومه داخل إيران، لحين زمن الثورة الإيرانية عام 1979 وظهور الشيخ الخميني، الذي استمال بقوة الدولة الإيرانية وأموالها،الطائفة الشيعية في العديد من الدول، ومنها مجاميع عديدة داخل الطائفة الشيعية في العراق. وإثرها احتضنت الدولة الإيرانية والحوزة الدينية فيها، رجال المعارضة الشيعية العراقية لنظام صدام، وأغدقت عليهم الكثير من الأموال وقدمت لهم يد العون لبناء ميليشياتهم وتسليحها، وكذلك إيجاد قواعد عسكرية داخل أراضي الدولة الإيرانية لانطلاقها في عمليات الصراع ضد حكم صدام.
مع هذا التأثير لقائد الثورة الإيرانية والمحاولات لتصدير مفاهيمها خارج حدود إيران، تسيد الشيخ الخميني قطاعات كبيرة من الطائفة الشيعة، وبات ليس فقط ينافس رجال الحوزة الدينية في النجف، وإنما استطاع أن يخطف منهم البريق الذي كانوا يتمتعون به لزمن طويل. وجاءت وفاة الشيخ الخوئي لتعزز مكانة الشيخ الخميني. ولم تستطع الحوزة في النجف أن تعيد ذلك البريق والسطوة التي تمتعت بهما على عهدي السيد محسن الطباطبائي الحكيم ( 1889 – 1970 ) أو السيد أبو القاسم الخوئي (1899- 1992) وطغى على المشهد الشيعي في العراق تعدد المرجعيات وبات جلها يتبع مرجعية قم رغم بقاء مرجعية النجف ممثلة بالسيد السيستاني.
في بعض من رؤية التيار الصدري لمثل هذا الأمر تحدث السيد مقتدى الصدر ورجاله عن ( أن يكون هناك غطاء مرجعي عام داخل العراق مقبول من جميع الأطراف ) وعند هذه النقطة دار الخلاف حول طبيعة المرجعية التي يحبذها التيار الصدري. فالمعروف عنه رجوعه حسب اقتراح الشهيد الثاني السيد صادق صادق الصدر قبل استشهاده، إلى مرجعية السيد كاظم الحائري في إيران. وقد حدث على عهد متأخر من عام 2014 شرخ في العلاقة بين التيار الصدري والشيخ الحائري، وباتت مرجعية التيار غير مستقرة أو غير واضحة المعالم، ولكن وفي أكثر الأحيان يرد على لسان السيد مقتدى الصدر قبوله بمرجعية السيد علي السيستاني.، رغم ما أطلق من قبل أتباعه على مرجعية السيد السيستاني تسمية ملتبسة ومشككة ( المرجعية الصامتة) .
عند هذه النقطة أختلف الحلفاء في التكتل الشيعي، على طبيعة المرجعية الدينية، التي يجب عليهم العودة إليها، لتكون الحاسمة في القرار السياسي والديني.فالبعض يرى أن التيار الصدري يريد فتح باب التدخل لجهات دينية (المقصود مرجعية السيد السيستاني)، ربما ليس لديها الرغبة في المشاركة بالعمل السياسي، خاصة وأن هذه المرجعية قد أشارت على لسان الناطق الرسمي باسمها، عن مثل هكذا توجه. وعند تلك النقطة من الشروط، أبدت الكثير من أطراف القوى السياسية الشيعية تحفظها على وضع حوزة النجف ممثلة بالسيد السيستاني، كإطار مرجعي وحيد للمكون، والسبب يعود في ذلك لكون أغلب هؤلاء الشركاء في المكون، ليسوا من مقلدي السيد السيستاني. وهنا يبرز الخلاف في طبيعة التوجه نحو خيار أي المرجعيات التي عليها أن تكون قائدة وموجهة للعمل السياسي والمجتمعي والطائفي للمكون الشيعي، أي لمن العودة في خيار بناء الدولة الدينية العراقية، ومن يكون المرجع في القرارات، هل هي الحوزة الدينية في النجف أم مرجعية قم في إيران. ولكن الساحة السياسية العراقية ومنذ عام 2003 اعتادت على أن تقفز المرجعية الإيرانية إلى الواجهة لحسم الحدث السياسي العراقي بقوة القرار وسطوته. وهي بالذات من أملى أخيرا على السيد مقتدى الصدر خيار النفس القصير وإخلاء الطريق أمام تابعيها من الأحزاب والمليشيات. 
ورغم وجود العديد من نقاط الخلاف، ولكن يعتقد أن الأمر قد حسم لخيار الحوزة الدينية في إيران ممثلة بولاية الفقيه وبمرجعية السيد الخامنئي، إذا ما عرف أن أغلب القوى السياسة الشيعية ومعها غالبية تنظيمات الحشد الشعبي وباقي المليشيات ، تتلقى الدعم المادي وتعود في خياراتها لتحتكم دائما لقرارات ولاية الفقيه، وهو المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، وتتبع تعاليمه وتلقى النصح والعون من حوزة قم، قبل أي طرف أخر.وهذا الخيار في طبيعته لا يعود فقط إلى الراهن من الوقت، بل عائدا أساسا لارتباطات سابقة، كان لإيران الفضل واليد الطولى في بناء هياكل سياسية ودينية للعديد من القوى السياسية الشيعية العراقية الحالية، ومنذ ما قبل مؤتمر شيعة العراق الذي عقد في طهران قبل سقوط سلطة حزب البعث في العراق، والذي أداره المرحوم أحمد الجلبي بمرافقة موفق الربيعي.
من جميع ما تقدم فقد أقرت اغلب القوى السياسية الشيعية وبشكل ناجز لا لبس فيه، واقع أن يكون خيار توزيع المناصب السيادية في الدولة العراقية وقيادات المكون الشيعي ، عائد لقرارات السيد المرشد علي خامنئي وليس لغيره، إن توافق ذلك مع الصدريين أو دونهم، وأقصيت فكرة مرجعية السيد السيستاني، التي سبق أن وضع ما يعرف بقواعد تحييدها، وعدم السماح لها بالتدخل في الشأن السياسي العراقي، وهذا ما أوضحته المرجعية الدينية العراقية نفسها، بإعلانها ذلك في الأشهر الأولى من عام 2019 بإقرار عجزها تجاه ما يقوم به القادة والكثير من السياسيين الشيعة، وفضلت تقديم النصح الديني، الذي ما عاد يعني للساسة الشيعة، ومن جميع أطراف المكون شيئا مؤثرا وفاعلا. وهم عازفون حتى عن الاستماع لخطبة الجمعة، التي بح بها صوت المرجعية الدينية في النجف، دون أن تجد لبحتها صدى يذكر، عند قادة العملية السياسية في العراق. وأن جميع الأطراف السياسية في المكون الشيعي، لم تعد هموم وأوجاع الطائفة الشيعية، تحرك لديها ما يسمى بمشاعر تأنيب الضمير أو مشاعر الوطنية ولا حتى صحوة دينية، بقدر تعلق الأمر بمصالح الأحزاب الطائفية والاقتصادية والانتظار الممل لقرب الاختفاء الجسدي والمعنوي للسيد السيستاني لتكون في النهاية، بحل كامل من عقدة ازدواج المرجعيات لتعلن دون مواربة عن كامل تبعيتها للمؤسسة الدينية الإيرانية ممثلة بولاية الفقيه.


36

من يضمن مقاضاة السلطة أمام القضاء

فرات المحسن
طبيعة التغيير الذي حدث إثر سقوط سلطة حزب البعث في العراق عام 2003. وبالرغم من كونه جاء عبر احتلال أجنبي، ولكن وفي مجمل الأحوال لا يمكن الإنكار، بان ذلك الحدث قد منح العراقيين فرصة مغايرة للتعبير عن أفكارهم، ودفع بهم للتفكير في المشاركة لبناء مستقبل جديد لبلدهم، وفي المقدمة منه، ضمان حاجتهم للسلوك الديمقراطي، ليكون ذلك عبر بوابة توفر حريات اقتصادية وحقوق مدنية، ومشاركة سياسية في الشأن العام. ولم يكن مثل هذا الحلم في أفاقه المرجوة، ببعيد المنال عن التحقيق، لو توفرت للبلد قيادات ، تعالج بصورة أساسية عقلانية الروابط بين الهياكل الجوهرية في السياسة والاقتصاد .
ففي بلد مثل العراق انهارت فيه مؤسسات الدولة جراء سياسة الولايات المتحدة ،الدولة المحتلة، التي عملت بإصرار على تفكيك بنى الدولة ، دون توفر بدائل عقلانية. فالتحول الديمقراطي، الذي تمثل بتشكيل سلطة الشراكة الوطنية، لم يكن ليسير قدما دون مواجهة الفشل، كونه اعتمد ويعتمد بالأساس، على وصفات وأفعال ورؤية من يمتلك القيادة ويدير شؤون الدولة،وعلى وفق مبدأ تقاسم السلطة والثروة. وهؤلاء وعلى مدى السنوات المنصرمة من عمر العراق، مثلوا النماذج الأكثر تخبطا في إدارة مراكزهم الوظيفية، ومنها مؤسسات الحكم العليا. ولم يقدموا لحد الآن أنماطا توحي بتغيير حقيقي، بعيدا عما كانت عليه أفكارهم، في فترة معارضتهم لسلطة البعث، بل أفصحوا عن تضارب غرائبي في مستويات صنع القرار، الذي بدوره حقق النموذج الأسوأ في طرق التنمية والبناء، ومثل شكلا فاضحا في أوجه الإنفاق العام، وبالذات فيما يتعلق بالبرامج الاجتماعية والاقتصادية، وصعد من حدة التفاوت والغبن في توزيع الثروة، وبات أحد أهم العوامل في إثارة النزاعات بين أبناء البلد الواحد.
الملاحظ اليوم في المشهد السياسي السلطوي، اختفاء أي ملمح لبناء ثقافة سياسية تدعم التحولات التي طرأت على حياة العراقيين، وهذا بدوره أثر تأثيرا فاعلا، وظهر جليا في الإخفاق الذي رافق ولازال، قضية بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية رصينة، تقوم بإجراء تعديلات جوهرية على هياكل الدولة، ومثلها المؤسسات الاجتماعية.
مثلت الانتخابات النيابية وبعض الحريات الممنوحة للإعلام، نقلة نوعية في حياة الشعب العراقي. ورغم كونها واحدة من الضرورات على طريق الديمقراطية، لكنها تبقى قاصرة وغير كافية، إن لم تترافق وبشكل مضطرد، مع العديد من فروض الحريات المدنية، ليكون الناس من خلالها ركنا أساسيا في الشراكة الوطنية، وبناء المجتمع الديمقراطي، حيث تسير قرارات البناء اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، تحت نظر ومشاركة أبناء الشعب، ومؤسساته الوطنية، المتمثلة بالإعلام والاتحادات المهنية والجمعيات المدنية. لتصبح تلك المشاركة ترسيخا لمكانة تلك القطاعات، وزيادة في قدراتها على التأثير في قرارات السلطة، وعندها يمكن أن تسير عجلة المجتمع نحو الديمقراطية.
وبالرغم من وجود الكثير من البنود التي احتواها الدستور العراقي، الذي توافقت عليه القوى السياسية العراقية، والتي تؤكد في فحواها على الديمقراطية و الحريات المدنية والمساواة والعدالة الاجتماعية، فإننا نجد أن تلك البنود غالبا ما تتعرض للانتهاك بشكل يومي فج وسافر، من قبل السلطات المتعددة والمليشيات التابعة للأحزاب، وأيضا من قبل الكثير من الأفراد والجماعات. وتلك الإساءات تتطلب تغيرات جوهرية في السياسات العقابية ، قانونيا ومثلها الاقتصادية والاجتماعية،لأجل ضبط إيقاع التحولات المجتمعية و صيانة المسار الديمقراطي، بعيدا عن اعتماد مواد قانونية سنها النظام الشمولي السابق لتكميم الأفواه. وقطعا ليس مناسبا أبدا أن تكون بعض بنود الدستور الحالي بوابة لخنق الحريات وتهديد حياة الأفراد والجماعات بالعقوبات، عبر نصب محاكم تفتيش تحاسب الناس على ضمائرهم ونواياهم ، لا بل على مؤسسات الحكم ايلاء حرية التعبير والدفاع عنه كحق أساسي مصان بقوة القانون ، ويعد الركن الأعظم في قواعد ومنظومة عمل مؤسسات الدولة،
مازال الوضع الأمني يمثل أكثر الضغوط المانعة والحاجبة للحريات. ومافتئت العديد من مؤسسات الدولة، وكذلك بعض الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، تتكئ على هذه الموضوعة، لتجعلها في صلب هواجسها ومخاوفها. لذا تندفع بقوة للممانعة والوقوف بالضد من إطلاق المزيد من الحريات داخل أوساطها، أو بين أوساط المجتمع.
 ومثلت اشتراطات ورؤى المؤسسات الدينية ، بالترافق مع التقاليد والأعراف الاجتماعية، مصدات كابحة، يعول عليها الكثير من الأفراد والجماعات، لكبح الحريات ومحاربة التغييرات، وتصطف معهم في هذا الجانب، بعض من القوى السياسية ، فنراها تعمل جاهدة لوضع موانع وعراقيل في طريق التحديث، ووصل الأمر حد استخدام سلاح التهديد والإرهاب اليومي، بالضد من دعاة الديمقراطية والحريات المدنية. ومثلت المليشيات الدينية والسياسية، الذراع المنفذ لتلك التهديدات، ومورست في هذا السياق ودون رحمة، تصفيات جسدية وإرهاب علني، وكانت انتفاضة أكتوبر ووقائعها، شاهد حي على طبيعة تلك المجازر ومرتكبيها. وتوجد في المحاكم العراقية اليوم آلاف الشكاوى حول تلك الجرائم، ولكن دائما ما سجلت ضد مجهول أو حجبت، جراء التهديدات والمخاطر التي توجه في الأساس للقضاء العراقي. وجميع تلك الشكاوى تقع في باب الإساءة والتعدي وحجز الحقوق، وصولا إلى جريمة القتل العمد.
وعلى ذات المنوال تنتهك كرامة البشر في جميع مناطق النزاعات داخل العراق، ويقع ثقل تلك الجرائم على السكان المدنيين، الذي تمارس بحقهم أشكال متعددة من الإرهاب وسلب الحريات. فالنزاعات المسلحة العشائرية وغيرها، دائما ما تضطر معها، العديد من العوائل في المناطق الساخنة، إلى هجر مساكنها وفقدانها لمصادر العيش، وحرمانها من الخدمات، والتعليم والغذاء والبيئة الصحية وغيرها الكثير.
وكان ومازال تدني مستوى التعليم والمعارف، بموازاة تفشي البطالة وانتشار الفقر، بؤر خصبة للعديد من أنواع المخالفات القانونية وممارسة الإساءة دون محاسبة وردع . وما كانت موضوعة الفساد الإداري وسرقة المال العام، ببعيدة عن أجواء الجرائم المرتكبة بحق الإنسان العراقي، حيث تهدر كرامته وتوقعه في مسالك الهلاك والتعديات والهدر لحقوقه وحرياته الأساسية. ومن باب أولى النظر أيضا في مناهج التعليم وما تقدمه من معارف وعلوم. حيث يحث البعض منها على التعصب والكراهية وإثارة النعرات والتمييز الطائفي والعرقي والأصل الاجتماعي. وهناك ظروف وعوامل متنوعة تجعل المجتمع العراقي ساحة مفتوحة لتنامي التعديات والمقاضاة خارج القانون والخرق الفاضح لحقوق الإنسان.
تلك المشاكل التي يواجهها الفرد العراقي.،تضع على عاتق منظمات المجتمع المدني وزرا كبيرا، يوجب عليها بسببه، الأخذ بجميع ومختلف وقائعه بحذر ودقة،ويستدعي وجود قيادات ومجموعات عمل، ذات خبرة مهنية قادرة على وضع استراتيجيات سياسية اقتصادية اجتماعية، تعطي الأولوية لكبح مصادر الجريمة والإساءة، وتعتمد في عملها على توسيع المجالات الديمقراطية، ومنح الحريات وتحرير الطاقات المدنية، اعتمادا على مساهمات مشرعين قانونيين وتكنوقراط مهنيين، للوقوف بحزم تجاه مختلف أنواع الخروقات. ولذا فالوضع الحالي يحتم وجود منظمة عراقية للدفاع عن حقوق الإنسان، لها هيكلة حقوقية قانونية جامعة، تكون بعيدة جدا عن أي شكل من أشكال العلاقة بالسلطة، وعلى أن تضع نفسها في مسافة بعيدة جدا عن تأثيرات ومغريات السلطة، وأية مؤسسة من مؤسساتها الرسمية. وأن يكون من صلب عملها المراقبة النزيهة والحيادية، لأداء المؤسسات الحكومية وكذلك الأحزاب والمنظمات الوطنية العاملة. ولتكون الخصم الأساسي أمام المحاكم الوطنية والدولية، في إثارة الدعاوى ومقاضاة من يخرق القانون ويعتدي أو يقوم بسلب حقوق الغير.
 فنحن في العراق  ومع التصعيد المستمر للخروقات الدستورية واستخدام مؤسسات الدولة للتضييق على الحريات بحجج وتهم التطاول على الرموز أو الإساءة لمؤسسات وقادة الدولة. نجد الحاجة ماسة لمثل تلك المنظمة من أجل ضبط إيقاع التعامل اليومي لمؤسسات السلطة ومثلها للأفراد والجماعات.وإيجاد السبل القانونية الكافلة والضامنة لنيل الفرد لحقوقه،والتصدي والوقوف بوجه التجاوزات الحاصلة على كرامته، وحقه الإنساني في العيش بسلام وضمان حريته بالتعبير، وفق قواعد وسلوك أخلاقي قانوني معرف وشفاف.










37

يوم آخر  في حفر الباطن
الجزء الأخير
فرات المحسن
سحبت بتثاقل الورقة عند الضوء الشحيح للقنديل المعلق في زاوية الملجأ، بينما كنت أنظر لعيون الجرذ الناطّة من بين لوح السقف والصفيحة الحديدية. كانت أصابعي تهز القلم فوق الورقة هزاً خفيفاً مخدراً، لترسم دوائر متداخلة.راودني الإحساس الغامر نفسه، الذي ينتابني بين الحين والآخر.الخواء المضطرب تحت سماء مفتوحة مليئة بالثقوب الفاغرة. وحيداً، أسير في متاهة لا حدود تلجمها. ورغم عتمة وثقل سقف الملجأ، فقد شعرت بأن جسدي لا زال ممدداً فوق الرمل. تنبلج السماء فوقي مثل كوّة موحشة، ترسل إشارات سحرية عبر نفقٍ بعيدٍ جداً، تأتي منه الأصوات شحيحة لا تستطيع أذناي تمييزها، فينتابني خوف يخالطه استسلام تام مطمئن، وكأنّ بي مساً سحرياً يشلّ كل حواسي. إحساس بالخدر التام والرغبة بالصمت، صمت تام يقتل ما في داخلي.
لا أذكر عدد المرات التي كتبت فيها رسائل. فأنا أمقت كتابة الرسائل. و هذا سبب لي الكثير من الإشكالات في أكثر من مناسبة. فأنا لا أجيد الحديث عن أمنيات وتمنيات وتدبيج تحايا، أو التعبير الدقيق عن المشاعر، وأجد صعوبة في سرد الوقائع ووصف الأماكن. وفي أغلب الأحيان أجدني عاجزاً كلياً عن كتابة ما أردت الحديث عنه، فأرجئه للقاء مباشر واعتذار يكون دائما غير مقبول .
 عندما كتب مدرس اللغة العربية عبد القادر البصام، مواضيع الإنشاء الأربعة، فوق اللوح المدرسي الأسود، وطلب أن يختار كل واحد منا موضوعاً ليكتب عنه، ثم يجلبه بعد انتهاء العطلة الربيعية، طالعني مباشرة  فتسقطت من نظراته رائحة التهديد. ومع هذا لم يترك الأمر يمر بسلام دون أن ينبهني بحدة وأمام الطلاب، بأن هذه فرصتي الأخيرة، وإن لم أحاول اغتنامها، فذنبي على جنبي. كتبت عناوين المواضيع الأربعة في الدفتر، وتركت الاختيار حتى اليوم ما قبل الأخير من انتهاء العطلة، أو الأحرى قلبتها في رأسي دون أن أستطيع الاختيار. ولكني أنجزت ذلك في اليوم الأخير وسلمت دفتري بروح مغموسة بفرح غامر، في أول يوم دراسي نهاية العطلة. أشاح المدرّس وجهه عني وابتسامة مصطنعة ترتسم بتثاقل فوق شفتيه. في اليوم التالي جلس فوق أول مقعد في الصف ثم نادى باسمي. أوقفني أمام الطلاب فشعرت بالارتباك والفزع فأطرقت رأسي. ثم انطلق صوته:
ـ ما الذي يفعله الطالب حين يصف مكاناً ذهب إليه ؟ من يجيب عن ذلك ؟
ارتفعت الأكف تتطاول كي يشير المدرّس لأحدهم بالإجابة، لكنه صرخ بأعلى صوته أن اخرسوا. وكان صوته المجلجل مثل زئير أسد. ارتبكت الأكف الصغيرة، وراحت تنسحب واحدة تلو الأخرى. انكمشت وأحسست أن الجدران تقترب لتطبق علي وتهرسني. إحساس بالرهبة والانسحاق سيطر على روحي، فراح جسدي يرتجف  بتسارع ولم أعد أستطيع السيطرة عليه.
ـ غبي.. ما هذا ؟ أهو وصف لحمّام شعبي يستحم الناس فيه أم هو سرداب موتى ؟
نزّ جبيني عرقاً بارداً غطـّى جبهتي، وراحت ركبتاي ترتخيان. قاومت اندفاع رغوة تصاعدت في أحشائي. ضحكات رفاقي أدخلتني في هلام سائل كثيف،  فسقطت أخيراً  مغشياً  علي .
كان الخوف يسيطر عليَّ حين أفقت وأنا أرى كـّفه الثقيلة تمسد  جبهتي  بالماء البارد  .
ـ دلال صبيان. لا شيء سواه. انهض يا شاطر. رغم أنك لم تكتب عن الموضوع بشكل حسن، ولكن لا بأس. سوف أحتسبها لك هذه المرة.
حين جلست بين دفـّتي مقعد الدراسة، كنت أحبس دمعتي خوفاً ورهبة. وكان خدر تام يسيطر على كامل جسدي. لم أكن بقادر على إسكات ضحكاتهم التي راحت تجلجل في رأسي. وكان جسدي الواهن يتفصد عرقاً بارداً، ويقف المدرّس أمامي وهو يغتصب ابتسامة شاحبة لم تتعدَّ حافـّة شفتيه الغليظتين.
*****
وضعت الورقة جانباً وطالعت مكان الجرذ الفارغ. شعرت بحاجتي الملحّة لمحاورته. من يدري فربما يعرف أكثر مني سبب وجودنا معا في هذا المكان. وربما يخطو  بحذر لاكتشاف حسن نية البشر أو شرورهم تجاه الحيوات الأخرى.
ولكن كم عمره الآن ؟ أنضج أم أن الوقت ما زال مبكراً ليعرف أن قدميه زلتا عن الطريق لتقوداه إلى المكان الخاطئ، بالضبط إلى مكمن القتل. البشر وحدهم بحثوا عنه وقرروا اقتحام خلوته الصحراوية.  عن عمد،  زجّوه في نزاعاتهم وجعلوه يلتهم طعامهم المسموم. هم وليس سواهم من سيقوده لحتفه، إما تخمة أو قتلاً. ولكن أين يا ترى هو الساعة. ألديه أحد غيري يحاوره في هذه المتاهة، أم مل التطلع في وجهي العابس. لِمَ لا يأتي لمناجاتي.
 سمعت خشخشة الورقة فشاهدت وجهه المدّبب الجميل والورقة بين أسنانه يسحبها متراجعاً فوق الفراش المغطى بالرمل. مبتعداً بها نحو الزاوية. تشبث بالورقة أول الأمر حين حاولت أخذها منه، ولكنه فجأة تخلى عنها قاضماً بأسنانه الصغيرة زاويتها ثم هرب مختفياً بين الأكياس عند سقف الملجأ.
 شعرت بشيء من الارتياح والرضا لمثل هذه الدعابة فقد كنت في أمسّ الحاجة لها في هذا الوقت بالذات، لذا أمسكت قلمي وبدأت الكتابة.
أمي الحبيبة
تحية طيبة
أرجو أن تكوني بخير وصحة تامة. أنا لحدّ الآن بصحة جيدة وصاحبي بصحة وعافية أيضاً.
 أشعر بحاجة شديدة لرؤيتك.
                                          قبلاتي
  ابنك المحب     
                        ليل حفر الباطن  في 23  /2 / 1991   

ملاحظة
فجر يوم 24 /2 / 1991 بدا هجوم التحالف الدولي لإخراج الجيش العراقي من الكويت

38

يوم آخر  في حفر الباطن
الجزء الرابع
فرات المحسن
سطع ومض خاطف شق ظلمة السماء ، ثم أعقبته أربعة انفجارات متتالية رج هديرها المزمجر محيط الفوج. تيبست في مكاني، ثم بدأت أزحف بعجالة نحو الملجأ الشقـي القريب، وجسدي ينتفض من الخوف. قفزت داخل الملجأ مستنداً على يديّ، وقعدت مستسلماً خائفاً أنتظر المجهول. أصابني الرعب وبدا أن قلبي سيتوقف، وشعرت بالاختناق حين أغلق فجأة ظل جسد ضخم وجه السماء المفتوح أمامي. للوهلة الأولى حسبته وكأنه فحل جاموس أسطوري قدم لكي يطمرني في حفرتي التي هيأتها بيدي.  تكوم فوقي بثقله. انكمش جسدي وكانت يداي العاريتان تدفعان الجسد الثقيل بآخر مصدات درء يقين الموت .
ـ أنا رياض …
ـ رياض .. ما الذي أتى بك الساعة يا فحل التوث ؟‍‍‍!
ـ كنت قادماً إليك قبل أن يبدأ القصف . رأيتها.. رأيتها سقطت عند موضع الحفار جوار ملجأ حظيرة جابر.
دوت مرة أخرى مجموعة انفجارات متعاقبة هزت الفوج، وكان رمل الملجأ ينثال ليملأ شعري وملابسي. تنبهت إلى أني لم أجلب خوذتي ونسيت سلاحي تحت وسادتي في ملجأ السكن .
ـ أنت أيضاً دون خوذة وسلاح !
ـ قدمت لأحادثك دون أن يخطر لي … أتظنهم سوف يهجمون.. وما ترانا فاعلين ؟
ـ هذه أيام حاسمة. يبدو أنه قصف طائرات على ما أظن. إذ لم تسقط قذائف أخرى فوق الوحدات المجاورة. ولو أرادوا الهجوم الآن لاستمر القصف دون توقف، ولشمل الجبهة جميعها. على أية حال إنه لغز نحن غير قادرين على حله. وإن أرادوا الهجوم فإن عصا موسى الموعودة قد أكلها القطيع في غفلة منه. فلا خوذة تتدارك الأمر وبغير كلاشنكوف يتدبر الناس نجاتهم أحياناً.
ـ أينما أذهب أجد الفلاسفة أمامي. الآن أنت والبارحة هاشم وكأنكما تتعمدان الحديث بكلام لست بقادر على إدراكه. البارحة كنت أدندن بكلمات أغنية  حفظتها منذ صباي دون أن أتملى معانيها، بل فقط أرطن بها لأن لحنها أعجبني . يا ليل الصبّ متى غده ... أقيام الساعة موعده. هز هاشم رأسه بتثاقل وسألني بلهجة لم أرتح لها وكأنها تهديد:
ـ ها رياض، يمكن الوضع ما عاجبك، ماذا تقصد بليل الصبّ متى غده ؟
حدثته عن حبي لتلك الأغنية، ولكني شعرت في النهاية أنه غير معني بتفسيري لنص الأغنية، بقدر إصراره على اعتبار أن الأمر يخفي وراءه قصداً آخراً. وأخذ يرطن بالوطنيات لأكثر من ساعة دون أن أدرك ما يبتغيه. الحقيقة أني خائف منه، فأنت تعرفه جيداً، فسبق وأن فعلها مع غيري. إنه متبرع إيذاء. كفانا الله شره. والله، لم أكن ألمّح بها لشيء آخر غير الأغنية. أتعرف أنت معنى كلمة صبّ ؟
ـ الصبّ يا صاحبي، وبعد أن انتهى القصف الآن، هو الصبابة أي الحب أو العشق،الهيام والوله، دو يو أندر ستاند ؟
ـ أثول. أبو العقد. لو تتفلسف لو تتعيقل. قل الحب وخلص.أخبره عن خوفي من تلميحات هاشم يرطن معي بالأجنبي!
ـ أتعرف أين نحن الآن ؟
ـ ياله من سؤال غريب ؟
ـ لا تخف يا صاحبي فنحن في حفر الباطن. هذه الكثبان ليست لغير البدو وقطعان الإبل. سوف يأتي يوم قريب تطأ الإبل بخفافها  قبورنا جميعاً، وتتبرز ثم تدفع بولها الساخن فوق الرمل، دون أن تدري أن تحت هذه الكثبان، يرقد ركام أجسادنا بكل ذلك الجلال من العاهات النفسية والجسدية.اطمئن فالإبل لن تكتشف خوفك أو خبث هاشم ولا يأسي وعقدي.
ـ أوه، ما الذي أتى بي إليك .. عليّ الذهاب الآن إلى الحظيرة. ربما حدث شيء ما أثناء القصف.على أية حال جئت أخبرك أن عبد الرحمن سوف يذهب غداً إلى بغداد في مأمورية. يمكنك أن تبعث معه رسالة إلى أهلك.هو من أخبرني ذلك. طلب مساعد الفوج منه إيصال رسائل جميع من يسكن أهلهم في بغداد. الوعد بإيصالها جزء من المأمورية الموعودة .
ـ ربما فعلت ذلك .
ـ فكر بالأمر .


يتبع


39

يوم آخر  في حفر الباطن
الجزء الثالث
فرات المحسن
أصرّ صاحبي محمد الذي لجأت إليه و قاسمته غرفته الصغيرة، وهي عبارة عن مخزن صغير ملحق بفرن الصمون الذي يعمل فيه، أصرّ على أن نتخم روحينا تلك الليلة بالعرق الزحلاوي ، ففعلنا ذلك على أتم وجه. التهب رأسي بضجيج متوهج، وشعرت أني أكثر صلابة وجلداً مما كنت عليه حين تركت البيت. ولكن كان هناك شيء هلامي بدأ يرتج في رأسي مع صوت محمد وهو يترنم بأداء أغنيته بكلماتها المحورة، وهو ما اعتاد فعله مع جميع الأغاني الرائجة ليمسخها إلى صور هازلة، ثم أردفها بأخريات، متلذذاً برشفات من كأسه، مطلقاً لسانه السليط للهزء بكل المسميات التي يقودها حظها العاثر لمقاربة ذاكرته تلك الساعة. شعرت براحة تامة وأنا أشارك محمداً سخريته مما حوله، وإصراره الدائم على تحوير الحقائق، أية حقائق، حتى وإن كانت أغنية. أن تتشظى الأحداث ويخرق الزمن بلامبالاة، وباستهزاء وإذلال تامين. أن يتخلص المرء بسخرية فاضحة من كل الهموم والأوجاع. أن يغتصبها بإصرار ووقاحة وعلناً بأعلى صوته، كان ذلك كل ما كنت أحتاجه تلك الليلة.
كنت أنظر إلى محمد دائماً نظرة إعجاب، وأعتقد أنه رجل سحري أخاذ. قدم إلى بغداد دون تأريخ، دون أهل، دون زمن أو متعلقات، سوى دفتر خدمة عسكرية متهرئ، يحتفظ به داخل كيس نايلون كالح اللون، يظهره لمن يريد دون أن يبدي أدنى تذمر. لا يُعرف عنه سوى كونه قدم من إحدى قرى مدينة البصرة، بوجه شديد السمرة ورغبة جامحة بالعمل والجنس واحتساء الخمر، وقلب طيب وأليف، يكتشفه الناس دون عوائق أو عناء. وبشكل ناجز كان قد قرر كتمان سره حتى الموت. فلم يحدّث أحداً عن ماضيه، وكان مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل إبقاء ذلك من خصوصياته غير المباحة، وما عداها وحسب قوله هي سبيل مباح لوجه الله تعالى، ولمن يريد. كان دائماً يناضل دون هوادة ليتحرر من أية ارتباطات، ولا يخشى أن يكون أكثر جيران السوق والقريبين من فرن الصمون، مطلعين على تفاصيل أيامه، حتى وإن كان الأمر يتعلق بممارساته الماجنة. والظاهر أنه لم يرغب أن يحقق  في حياته بعد اشتغاله في فرن الصمون سوى عيشه اليومي، رغم أنها كانت تبدو على درجة ما من السوء. ولكن يبدو أنه كان يمتلك قناعة طاغية بالاكتفاء اليومي.

تأبط محمد صفيحة السمن الصغيرة الفارغة وراح يعزف عليها إيقاعاً لأغنية هندية جميلة، مصاحباً ذلك بأصوات موسيقية مصدرها أنفه الأفطس. كانت حنجرته تولول بكلمات مبهمة متسارعة، شعرت بوقعها الفاجع المليء بالمواجع والألوان الصارخة المختلطة، المتموجة فوق أديم أرض متربة، والغبار المتصاعد يظلل الوجوه الكالحة وهي تذرف جوعها وقهرها. وقفت رافعاً يديّ نحو الأعلى، هازاً جسدي المتثاقل. بدأت  صور الممثلات والممثلين التي تملأ جدران المخزن تتحرك وتقفز من أماكنها، وضجيج أصواتها المتناغم يصم الكون، مختلطاً بإيقاع النغم المدغم الصادر عن الصفيحة، وبات  يلج جمجمتي بتشويش سحري غير مألوف. رحت أسبح في شذا الكلمات السحرية. أدرت جسدي بسرعة حادة، محاولاً تقليد الراقص الهندي ولكني سقطت على الأرض. حاولت النهوض فلم تسعفني قواي .
حين استيقظت طالعني سقف المكان الأسمنتي العالي، فأجلت بنظري جدران الغرفة الجرداء، ثم اصطدمت عيناي بباب الغرفة الحديدي ذي الفتحة الصغيرة المشبكة. أعدت وضع جسدي المتشنج لأتكئ على الجدار القريب، فتنبهت لثيابي الملوثة بالقيء، وكانت هناك وجوه تطالعني بلا مبالاة، فعرفت أني في مكان لا علاقة لـه بمحمد وغرفته. غرقت في لجة أفكار متضاربة عن مغزى وجودي في هذا المكان. هل كنتُ إحدى طرائد الليل لدورية شرطة، بعد أن عبثت وعربدت أكثر من المألوف ؟ أم أن أصواتنا الضاجة بالغناء والبكاء أو شجارنا كان سببا لذلك ؟ ولكن أين محمد؟
 كنت غير مدركٍ لمجمل ما حدث، ولكن في الأخير هدأت وشعرت بأني على غير عجالة من أمري لمعرفة السبب،لا بل سيان أعرفته أم لم أعرفه. ولم أسأل الرجال القريبين مني، وبدورهم كانوا عازفين تماماً عن الحديث معي. سارت الساعات ببطء شديد. عند المساء نادى شرطي باسمي، مشيراً بيده نحوي. تقدمني ونحن نسير في الممر ذي الضوء الخافت الذي يربط قاعة الحبس بالغرف الأخرى، ثم أوقفني عند باب غرفة علقت أعلاها لوحة خشبية مطلية باللون الأسود وخُط ّ عليها بغير اعتناء وباللون الأبيض، ضابط الخفر .
زالت دهشتي عندما شاهدت زوج أمي يتربع أحد الكرسيين الضخمين المجاورين لمنضدة ضابط الخفر الواسعة، وكان يطالعني  بابتسامة شامتة. لم يتفوه بكلمة واحدة، وترك الأمر لضابط الخفر، الذي أشبعني تهديداً وشتائماً، ختمها بجملة لا زلت أدخرها وكأنني مطالب أن أفصح عنها يوماً ما .
ـ ها.. شقي ..تتجرأ لتشتم الحزب!! سوف أجعلك تندم على يوم ولادتك. تتعفن بالحبس إلى ما شاء الله  لتتذكر ولي نعمتك. أرجعوه فلي معه حساب في يوم آخر.
حين أطلق سراحي من الحبس بعد ثمانية أيام، كان كل شيء يبدو لي مشوشاً وعدائياً مما حدا بي للتحوط من تهديد مرتقب، كنت أشعر دائماً معه، أن هناك من يريد أن ينتزع مني وبشكل قسري شيئاً ما. وبإرباك وضياع، كنت أنزوي مع أسباب ومبررات مفتعلة أحياناً لطمأنة هوسي المتصاعد في مقاطعة عائلتي.  ومثلما لم أصدق حديث محمد حين أخبرني بأن أمي ركعت أمام زوجها وكذلك أختي سمية وتوسلتاه من أجل إطلاق سراحي. عندها أفرغت فورة غضبي وألمي المتراكم بوجهه واتهمته بالبغض والغيرة واللؤم، وملأت مأواه الصغير بكل النعوت التي جادت بها روحي الممزقة. اعتبرت تقولاته محاولة إذلال وحشية جديدة لما تبقى من رجولتي. لم أجرؤ على مناقشة الأمر معه. ومع مرور الوقت لم أبحث عمن يكذّب ذلك أو ينفيه، ولم أبادر للتحقق منه، بالرغم من أن الأمر كان يذلني ويسحقني في كل دقيقة من عيشي. ولم أسأل سمية أو كريم عن حقيقة الأمر، حين قابلتهما عرضا بضع مرات. تحدثت معهما، محاولاً لملمة عواطف مبعثرة أو في طريقها للضمور، ولكني كنت فزعاً من أن يتطرق أحدهما لما حدث تلك الليلة أو بعدها. وكنت، وبأسى وسخرية، أحس مقدار الذل الراكد في أعماقهما، وكيف كانا يخشيان أن يبادرا لذكر شيء عن الماضي القريب، في الوقت الذي أشعر مثلهما باستكانتي وضعفي وخيبتي.
 منذ خروجي من الحبس، وعلى امتداد عام كامل، لم أقرب الدار، وحاولت جاهداً الابتعاد عن أفراد عائلتي، بالرغم من أني كنت أعمل غير بعيد عن منطقتهم ، أو الأحرى وبدوافع مغرقة بالعاطفة اخترت وفضلت العمل في ذاك المكان القريب. كنت أكبح لهفتي وشوقي بكثير من المكابرة كي لا أدع مجالاً للشك لإقناع نفسي بأن ما أقوم به هو الفعل المناسب، وأن وجودي بالقرب منهم لا يعني إطلاقاً الرغبة في إعادة العلاقة معهم، بالرغم من أن ذلك كان يكلفني الكثير من الجهد والشجون التي كنت أسربها ليلاً ببكاء مرّ، ومراجعات صبيانية لمواقف مترددة وعواطف تبدو أحياناً لا حدود لها. وبدا، وفي مرات كثيرة، أني ما عدت أستطيع أن أحمي نفسي من عواطفي نحوهم. ولكن يبدو في قرارة  نفسي أني اخترت القطيعة. ومن خلال سيطرة مشاعر الإحباط نمت لديَّ رغبة جامحة وصبيانية لمعاقبتهم. وددت معاقبتهم بقدر إحساسي بالطعم المرّ للخذلان. وكان يفاقم ذلك، الحضور الملحّ وشبه الدائم لوجوههم ورضاهم الصامت عند خروجي الأخير من البيت. والأنكى من ذلك شعوري بأنهم يتجنبون ملاقاتي مما حدا بي للتحصن بمشاعر صبي مقامر، يستند في كسب الجولة على مدى قدرته في المطاولة. ويتوجب عليه مراقبة مشاعره بصرامة، وعلى وجه التحديد حين أجد نفسي وجهاً لوجه مع أحدهم بمصادفات غير محسوبة،  فأعاملهم بجفاء وغلظة. ووجدت في النهاية وكأنما صنعت سوراً لأمنع نفسي من الاقتراب منهم، وحسبت، وبشيء من الغباء والحمق الصبياني، أنني سوف أسترد كرامتي لو أجبرتهم على اختراق السور وطلب المغفرة عما اقترفوه من ذنب اتجاهي.
 كنت أشعر أحياناً أني أغلّ روحي بعيداً في أثر حلم هلامي، أبحث فيه عن مستقر لروحي المعذبة، ولكني كنت وفي كل مرة أتعثر بخطاي وأجد أني ما عدت قادراً على لملمة شتاتي، وقد بدا لي الأمر وكأن قدميّ  تنغرزان  يوماً بعد آخر في مخاضة لم أقدّر حجمها، أو أن حدودها بدأت تهرب مني.
ومع هذا فقد احتفظت بسخطي بكبرياء مفتعلة ولكن عنيدة. وبمرور زمن ليس بالقصير ظننت أني بعدت عنهم بما فيه الكفاية، وبما يجلب الاطمئنان، على أن وشائج كثيرة لم أعد بحاجة إليها، وقد بدأت تختفي من حياتي.
 ولكن كل تلك الاستحكامات المفتعلة، المصدّات والانفعالات السائبة، كل تلك القلاع والأسلاك التي نسجتها وحشرت نفسي وسطها، بدت هشّة واهنة وباهتة . تهاوت فجأة بحدة جارفة، ووجدتني مرمياً وسط الدار أبكي مثل طفل، باحثاً عن وجه سمية الضاحك، عن غمازتيها الباسمتين، عن صوتها الهامس الرقيق وأحاديثها المبهجة وضحكتها الكتوم. بكيت وكأنما كنت أريد أن أغسل ذنباً ثقيلاً طاغياً لفـّني مثل كابوس مفزع.  ولكن صوت بكائي كان وحده من يملأ الدار، فخجلت وكتمت شهقتي، خنقتها بصمت أصم.
 لم يمض على زواجها غير سنة واحدة حين وجدوها تسبح في بركة من دم قاتم ثقيل. لقد عانت الكثير وكتمت الأكثر. ولذا حزت وريدها. اختارت الموت بصمت دون أن تفصح عما يمور في قلبها الطيب الدافئ. لم تحتمل ذاك اليباس الشوكي الذي يلسعها باستمرار سياط مذلة دون أن تُمنح أي خيار في حياة طبيعية وهادئة.
يتبع


40

يوم آخر  في حفر الباطن
الجزء الثاني
تنبهت لصوت خشخشة خافتة مرتبكة، فأدرت نظري صوب مصدرها. كان جرذ متكور مثل كرة صغيرة مصنوعة من خرقة قماش كالحة، يمسك بين يديه الصغيرتين قطعة من بقايا رغيف يابس، يحرك أذنيه وبوزه برشاقة سريعة حذرة. الأصوات البعيدة  للانفجارات  بين الحين والآخر تجفله، فيهرب عن رغيفه نحو جحره عند حافة الملجأ اليسرى تحت أكياس الرمل، ثم يتقدم بتباطؤ حذر متشمماً المكان، مقارباً جدار باب الملجأ حيث ترك قطعة الرغيف، ثم يتوقف رافعاً أذنيه الصغيرتين محاولاً التغلب على الخوف، بيد أن جوعه أنساه وجودي، أو أن وجودنا سوية وتشابه العيش طمأناه، فخرج للبحث عن الطعام، أو ربما كان ذلك نوعاً من التحدي الغريزي.
حركت جسدي، فلم تكن ردة فعله، غير رفع قامته ولحس يديه، وطالعني بعينين واسعتين كانتا تملآن وجهه المدبب الجميل، ثم خطا خطوة مترددة مبتعداً، وعاد يدبّ بحذر مرة أخرى نحو رغيفه دون خشية، مركزاً نظره نحوي طيلة الوقت .
طولـه يقارب العشرة سنتمترات. دقيق الجسد والملامح، ينتهي ذيله بخصلة بيضاء شاحبة تبدو تحت ضوء القمر قطعة صوف منفصلة عن جسده، تلاحقه عند الهروب ثم تجاوره بسكينة. وكما أقدامه الصغيرة تخط وقعها برشاقة، فوق الرمل الرطب، فإن خصلة ذيله تلك، كانت تتحرك خلفه مثل بندول ساعة جدارية. تمحو كل ما خُط ّ أمامها فوق الرمل. كان ذلك يجري وكأنه مسألة معدة سلفاً لإخفاء الآثار عن الآخرين. يتجرأ ويخطو نحو الرغيف بحذر وتوفز شديدين، وبخطوات رشيقة محسوبة، أما الخصلة البيضاء فلا تنسى واجبها.
تـُرى، أي خوف جعله يكتشف فاعلية هذا التمويه؟ أهو الخوف من أن يتعقبه الموت؟ أن يدب أو يسقط الهلاك من زاوية ما مقتفياً أثره ثم يسحقه دون رحمة ؟ ليتنا نمتلك بعضاً من حذره وقدرته تلك. أن نجد العون والقوة على أن نمحو خيبات ثقالاً نجرجرها دائماً وراءنا بإذلال.  نريد نسيانها أو إخفاءها، ولكنها من الحدة والرسوخ تنبثق وتقف أمامنا بضراوة. ومع ذلك ترانا نقاوم كي لا تهرسنا بشيء من الصلافة والمباغتة . فجأة نجدها أمامنا مرة إثر أخرى،  حادة، موجعة، مذلة. لا نملك القدرة على إخفائها أو نسيانها. ولكن أنستطيع فعل ذلك ؟ أنستطيع محو تلك الآثار المريرة ؟ وقبل أن تثار كل تلك الأسئلة، هل نحن على يقين من براءتنا فيما حدث ؟. سؤال صعبٌ جدا كان ذلك بالنسبة لنا جميعاً.
فعلت أمي الشيء عينه. أرادت أن تمحو خطوات الماضي. أن تبعد ذكرى أيام ليست بالطيبة، وأن تجدد حياتها. وّدت فقط، وليس لشيء آخر، نسيان ما فات، وتأكيد كونها ليست من النساء البائرات، بعد أن أحالها القدر عنوة إلى أرملة مع ثلاثة أطفال.
لم أكن وإخوتي قد خطونا بعد بعيداً عن صورة أبي. ولكن، وبشكل قسري رسمت لنا ملامح صبا غريبة. كنا ندرك جميعاً أن محنة أمنا كبيرة . كانت تصارع بضراوة ماضياً مسلطاً تحاول تهشيمه. قدر فـُرض عليها دون خيار. شيء من التجديد، وربما ضربة حظ غير عاثرة، توقظ بقايا النور في الزوايا المعتمة. محاولة لمحو خسائر متكررة رافقتها طويلاً، وتأكيداً لذاتها ووجودها كامرأة . كان حلماً ظنته يستطيع لملمة نثارات الطمأنينة المتشظية، التي حسبت أن الوقت ما عاد يكفي للحصول عليها.
لم يمض وقت طويل حين شيعت من جديد أحلامها المتبقية، صُعقت وخيّم حزن ثقيل فوق روحها.كان انتشاؤها جد قصير، استنزفت معه جل طاقاتها فاختارت في النهاية الصمت. الصمت ولا شيء غيره. صمت راكد ثقيل يفترش زوايا البيت كأنه فطر شيطاني دبق لا فكاك منه. تستوحشها الأمسيات كثكلى، فتنزوي عند التخت متكئة لجدار المطبخ، تجول بنظرة بلهاء فضاء الدار. تجتر الذكريات كلعنات تطأ أيامها دون رحمة لتحيلها رماداً جهنمياً كثيفاً يسد كل المنافذ. خواء لا متناهٍ يشرع الأبواب ويزحف بلزوجته فوق الحيطان.
كنا معها نودع دغدغة أحلام، ونداري ألم الفضيحة بروح صبية تتسارع حولهم الأحداث دون فطنة. وحين أدركنا الأمر اخترنا الصمت أيضاً. بدا لنا مقنعاً جداً دثارنا الكاذب ذاك. ولكن ملامح الأحداث المتعاقبة بدت أكثر تشابكاً وإيلاماً. كانت أقدامنا تنغرز ثم تغور عميقاً في أكذوبة صمتنا، دون أن نستطيع اللحاق ولملمة ما تبقى. كنا فزعين من أن نفقد شيئاً ما، حلماً ما. ظننا دائما أنه قادم وربما يستره الصمت ويحميه لحين.
 من العسير أحياناً اكتشاف الدناءة، ولكنها في النهاية تسفر عن نفسها دون مواربة. فقد بدأ رجل الدار الجديد يختزل الزمن سراعاً،  ليكشف بدفعة واحدة وبصلافة مقيتة عن كامل بذاءاته. كان صمتنا استسلاماً يائساً. وقد أقنعه تيبس التساؤلات في حناجرنا برضانا التام عن كل ما يفعله. أيقن بفطرته الخبيثة أن إرثنا الوحيد هو الصمت، وكان يكفيه ذلك ليفعل ما يشاء.   
لم يحدث أن ناقشنا الأمر. فعلنا ذلك دون أدراك لوجود مبررات مقنعة. كنت متأكداً في اعتقادي  ذلك. وكان الشيء الأكيد بالنسبة لي، أننا جميعا نحمل نفس المشاعر والتبريرات لذاك الصمت. توضّح لي الأمر بشكل أكيد، حين أسرّتني سمية بشيء من الاستحياء أنها لن تقبل الزواج بابن أخته، وبأنها لا تشعر بأدنى عاطفة نحوه أو الأحرى تكرهه. كان صوتها خافتاً متهدجاً. وحين رأت غضبي وسمعت رفضي العلني لهذه الزيجة صمتت بدهشة وفزع، وكانت تنظر نحوي بعيون ضامرة قلقة، وكأنما تتوسلني لأكتم صوتي وسرّها الذي أباحته. كنا سوية نسير وسط السوق المزدحم، متوجهين إلى أستوديو التصوير لالتقاط صورة لسـمية بمناسبة دخولها امتحان البكالوريا. ولجنا باب الأستوديو ثم صعدنا الدرج الحلزوني الضيق، صامتين بحزن منهار. لم ألحظ كم طال صمتنا حين تنبهت لأقدام المصور وهما تصدران ذاك الإيقاع الراكض فوق السلم المتصل بغرفة التصوير. جلست سـمية أمام آلة التصوير، وبخجل ظاهر ألزمت نفسها بابتسامة شاحبة، حين طلب منها المصور ذلك. عندها برزت الغمازتان العميقتان وشعّ وجهها المدور الجميل، وعيناها الواسعتان، ولكنها بقيت تتحاشى النظر نحوي. وصلنا البيت صامتين. طوال الطريق لم نتحدث حول الموضوع أو عن أي شيء آخر، وكأن ستارة حديدية أسدلت بيننا. كنت متأكداً أننا نمارس نفس الحوار الداخلي ، حيث تتقافز الأسئلة في صدرينا متسارعة دون أن نجرؤ الإباحة بها. فتنهمر الحقيقة المفجعة  جوارنا دون أن تهز ركودنا المقيت.
كنت خائفاً أن تصبح سـمية مثل أمي و ندخل طوعاً، واحداً إثر الآخر، قبوراً أسمنتية باستثناء عيوننا. فقط عيون متلصصة تكون دائما لاهثة بالفضول ومصدراً لاستثارة الأسئلة، أما أجسادنا وأرواحنا فتبقى مكبلة خامدة عاجزة ووضيعة.
لم أكن أشعر بأني قادر على إدامة أي حوار معه، وهو بدوره لم يرغب بذلك أبداً. ورغم أني لا أشاهده إلا في المساء، فقد كنت أتحاشى مجالسته وأحاول إيجاد الأعذار لذلك رأفة بأمي.
ولكنه في هذه المرة صعق حين حدثته بصوت مباشر واضح جلي وعال، بأننا جميعاً لا نريد زواج سمـية من ابن أخته. وكمن كان ينتظر تلك اللحظة، طالعني بنظرة وحشية ثم انفجر صارخاً.
ـ لملمتكم من اللاشيء واليوم تجحدونني … أولاد الأرملة.
لم أحتمل جملته تلك فصرخت في وجهه.أطلقت فتوتي من أسرها فصدمت زهوه، سحبته بكلتا يديَّ  نحو الجدار وأطبقت كفي عند حنجرته فكان مستسلماً كلياً وطوع يدي. لم أطالع وجهه سابقاً عن قرب، ولم أنتبه لتلك الأخاديد التي تعج كدراً ولؤماً مثلما هذه المرة. ولكن أخي كريم سارع ليزيحني جانباً.
حين تحررت حنجرته، أختلط صراخه الأجش بعواء مسعور.
ـ اخرج ابن الزانية ،لا مكان لك في هذه الدار.
طالعت وجه أمي فكان صمتها بارداً كئيباً، وعيناها سارحتان معتمتان، تحدقان في السماء كأنهما تريانها للمرة الأولى.كان الصمت يحلـّق فوق الرؤوس مثل الشيطان، صمت كلسي أصفر ثقيل. كل العيون تتفادى نظراته وتطأطئ، تحفر في الأرض لوماً واستغاثة من جرأتي. كذلك سـمية. كان وجهها الشاحب بدون عيون، يبدو وكأنه طلي بالكلس. تائهة تلوذ جوار باب المطبخ وكأن الأمر لا يعنيها. أما كريم فكان يقف بجانبه مرتعداً يتوسله أن يخفف من حدة انفعاله وأن لا يجهد نفسه.
 كان ذلك اليوم آخر عهد لي مع البيت. خرجت صامتاً أجرجر مذلتي مثل حصان هرم. تائهاً تبتلعني الأزقة.  الناس يمعنون النظر بي. لم أشعر بالخجل بالقدر الذي أحسست أن جسدي كان مطلياً بالكامل جبناً ومذلة. عرفت أنهم شموا رائحة ذلي وجبني، فراحوا يتفرسون ذاك الفتى الذليل الخاوي من فتوته والذي هرب عند أول مواجهة. وكنت أسمع همساتهم وكأنها صادرة عن جب عميق.
  كنت مدركاً بأني اتخذت القرار الذي سوف يغير الكثير من الأحداث، ليس بالنسبة لي فقط وإنما للعائلة جميعها. ولكن الشيء الأكيد هو أنني اخترت عدم المواجهة أو لأحددها بمعناها الحقيقي، اخترت الهروب. لم أشعر حينها بأثر من ذلك وتيقنت أن بقائي سيكون مساومة كنت عاجزاً كلياً عن قبولها وممارستها.وفي قرارة  نفسي، ورغم شعوري بتخليهم عني، فقد شعرت بالرضا وبأني استطعت أخيراً أن أزيح غماً ثقيلاً، وددت إزاحته والابتعاد عنه منذ فترة طويلة، كانت أغلب مسبباته مقتي الشخصي لسلوكه، معاملته السيئة لأمي وسمية، آراءه وتبجحاته الخرقاء الكاذبة، مزاجه المجنون المتقلب وكلماته الآمرة المعربدة، ضربات كفه الثقيلة فوق المنضدة أو حافة التخت، صوت شخيره ولهاثه الحاد.
ولكن بعد ساعات من التيه أحسست بالوحدة. وحدة تامة مغلقة، أسير فيها تحت سماء عارية مفتوحة تتدلى منها وجوه سعالٍ مكتنزة بمحاجر وأفواه تعجّ بزحمة من صراخ يصمّ الأذان.
يتبع


41
يوم آخر  في حفر الباطن
الجزء الاول

القمر ينير الساتر الترابي بالتماع حاد مختلج، تبدو معه مواضع الفوج بقعاً قاتمة تتدرج مجاورة قوس الساتر المديد. مركز الفوج عند موضع القيادة وفصيل المخابرة ثم الطبابة. ثلاثة تلال صغيرة داكنة ترقد كالقبور. لا أثر للحياة فوق الرمال سوى عوسجات تتناثر بين طيات كثبان الرمل وملاجئ الفوج. أشواك يابسة كأنهن عجائز متشحات بالسواد يرقدن متبلدات وسط تلك الدكنة الموحشة . الملجآن الشقيان الطويلان يخترقان الفوج من المركز باتجاه سفح الساتر فيبدوان كعقربي ساعة. يسفر ضوء القمر في تلك الوهدة عن خارطة مبهمة لطرق ميسمية خطـّتها الأقدام، تتشابك بفوضى في جميع الاتجاهات.
للمساء معالمه المميزة في حفر الباطن. تبدو السماء الصحراوية أشد وضوحاً حيث تتلألأ نجومها بارتعاش لذيذ، ويبدو الأفق البعيد مثل كوّة هائلة فسيحة سوداء تتناثر الألتماعات داخلها بين الحين والآخر.نسائم الهواء الرطبة الباردة تحمل رائحة ثمار متعفنة تخالطها روائح بارود ومواد أخرى محترقة.
الرمل الأملس يتراصّ مع اشتداد الرطوبة الباردة، فيشكل طبقة منـّداة متماسكة، تتيح لي تكوين خطوط مبعثرة مبهمة بإصبعي اليابسة فوق سطحه، أكتشف دائما أنها ملامح متشابكة لوجوه فزعة وأطراف نافرة. ليس مستغرباً أن يتدبر المرء في تلك الوحشة والمجهول شيئاً يلهو به. طنين الموت يضج في الجوار طوال الوقت فيدفعنا للتوطن معه بدعابات وألعاب ساذجة. لعب تمجّد ضعفنا وقدرتنا للتكيف في آن واحد. فالخوف واليأس خليق بالمرء تجرّعهما دون غضاضة حين تبدو النهايات مؤكدة وقريبة.
بعد نهار طويل لا معالم واضحة لـه سوى السراب الرجراج في الأفق البعيد، ورجع أزيز الطائرات المحلقة في كبد السماء، دوي انفجار القنابل المتساقطة دون سابق إنذار، وصفير الريح المشبعة بروائح البارود، تنفخ في الرمل. كان ذلك هو نهارنا الطويل، نتجرعه بحرقة انتظار أمل. بعد ذاك اليباس يأتي المساء البليل شديد البرودة. ومع هبوط الظلمة يتبدل إيقاع الأرض وكذلك الفوج. الظلام يشي بالمتناقضات. الخوف من أن يكون غطاء لهجوم قادم، ولكن في الوقت نفسه يوحي بالطمأنينة، فتدب الحركة عند الطرق الميسمية والملجأين الشقيين، وتبدأ الزيارات بين أفراد الفوج. تسمع بين الحين والآخر أصوات صراخ عابث وقهقهات منفلتة تجلجل عند أطراف الملاجئ، تختلط بضجة آليات تتحرك في الجوار دون أنوار. الظلام يحفز للتجرؤ وتملـّي الجهة الأخرى المقابلة للساتر، حيث يتحفز المجهول بملامح غائمة، ولكن الأكيد أن هنالك في ذاك الغور الخامد عيوناً ترصدنا وتنتظر مثلنا جزعاً أو خوفاً.
لا قرى، لا مدن، لا ضوء غير ما يجود به الرب وتنيره القنابل. خلفي في الأفق البعيد تنبلج السماء عن كتلة ضوء كابٍ لمدينة تتراءى لي مثل تل سحري. أي مدينة تلك ..؟ البصرة، عبادان أم أنها الكويت ما برحت تضج بأنوارها المبهرة مثلما دخلناها أول مرة. ولكن الأفق يبدو فارغاً موحشاً يخالطه لهاث سائل دبق عتيق يشفط رمل الصحراء الهامد حبة إثر حبة.
أرحت جسدي المتشنج فوق الرمل البارد جوار باب الملجأ. فتحت أزرار البذلة، شممت رائحة عطنة أردت إبعادها بتعريض جسدي للهواء  ففتحت  أزرار القميص الداخلي. شعرت كما لو أن كائناً أخر يشاطرني ملابسي.كائن صحراوي تختلط رائحة عرقه النازّ بروائح براز بهائمه .
تيبست جلودنا في هذه المفازة مع تغير المناخ اليومي. الانتظار الطويل في جوف حفرة رطبة باردة ينثال الرمل من سقفها وجوانبها عند أقل اهتزاز. صهاريج الماء تأتي أسبوعياً عند المساء دون موعد ثابت. فصيل المخابرة يهاتفنا بذلك فنذهب عبر الملجأ الشقي لنملأ الحاويات الحديدية ونستعمل الماء بتقنين مفرط، متناسين الاغتسال خوفاً من العطش، وبانتظار محالفة الحظ للحصول على إجازة والجلوس تحت صنبور ماء دافئ للاستمتاع بصوت خريره السحري منساباً فوق الجسد المسترخي.
كان بيتنا قريباً من حّمام ( الأميـر ) بمائتي خطوة لا أكثر. أبي عامل الصيانة في مرآب "الأمانة"، مغرم بالذهاب إليه كل يوم، حتى أصبح الحّمام وكأنه جزء ملحق للبيت. كنت وأمي نرقب يومياً قدومه لأحمل فوق رأسي صّرة الملابس وأسير خلفه بتثاقل. كنت أتهيب المكان ويتعبني مجرد التفكير فيه. جدرانه العتيقة، ظلمة الممر الضيق، الأنابيب القديمة المنداة، البخار الذي يغطي جميع الملامح، قطرات الماء المتساقطة برتابة من جوف القبة، الرجال العراة وصدى الأحاديث، كأنها صادرة عن جبّ عميق.
كان يتركني بسنواتي الثماني أغتسل وحدي ويرقد هو مسترخياً فوق الدكة المرمرية الساخنة وسط الحّمام. يشبك يديه خلف رأسه ويروح يطالع جوف القبة. أتفرس وجوه الرجال وسط الضباب. تنفجر أصوات غليظة بين الحين والآخر تنادي أسماءً أو أرقاماً لا أفقه كنهها. يغريني سحر المكان وفضول الطفولة أن أكتشف مجاهل الحمام، فأدب حذراً نحو الممر المعتم حيث الغرف الصغيرة بضوء مصابيحها الكابية، مرصوفة على جانبي الممر مثل دكاكين. كانت أرض الغرف مغطاة بطبقة سميكة من كلس أبيض مصفر، تخالطه زرقة فيروزية باهتة. لم أخطُ  أبعد من ذاك الممر خوفاً من أن يبتلعني دهليز آخر، وفي كل مرة أجدني راجعاً مرتعباً  فأجد أبي عند مكانه. ينهض ليفرك جسده بقوة ثم يعود للاسترخاء ثانية.  فجأة ينهض بخفة ويستحم، ثم يأتي دوري فيدعك جسدي بيديه الخشنتين الثقيلتين، ثم يلفني بالمئزر، بعدها نرتدي ملابسنا ونخرج. تلك كانتا ساعتيه الطقوسيتين. أصبح الدرب وطقوس الاستحمام مألوفين عندي بكل تفاصيلهما، ولكني بقيت دائماً أحمل ضغينة ما نحو ذاك المكان.
 كان يوماً شتائياً حين خرجنا. وكون جسدي ما زال يحمل دفء الحمّام، شعرت بالضيق من الملابس الثقيلة. وددت التخلص منها، ولكن أبي كان يسحبني بسرعة للوصول إلى البيت.
عند المنعطف نادوا على أبي باسمه وبصوت حاد كأنه قادم من جوف قبّة الحمّام، توقفنا. ثلاثة رجال ينتظرون في العتمة. التزم أبي الصمت ثم مد يديه ورفعني ضاماً جسدي إلى صدره. شعرت بارتعاش جسده عندما تحركوا نحونا. توقفوا على بعد خطوات، كانوا بملابس غير معتنى بها، يحملون بنادق مصوبة نحونا. بادرنا صاحب النظارة الطبية السميكة.
ـ حمّام العافية .. دع الصبي يذهب إلى البيت .
تشبثت يداي برقبته، ولكني شعرت أن يديه تحاولان إعادتي إلى الأرض. طالعت بفزع وجهه المتحجر. نظرت عميقا في عينيه الكلسيتين. قبـّلني وأنزلني ثم دفعني من كتفي ففهمت.
هرولت خائفاً أتـلفت..أجهشت أمي بنحيب رافقها لليال طوال دون عودة لأبي، بعد أيام جهزت أمي حقيبة وضعت فيها ملابسا وطعاماً، وغادرت الدار بعد أن أوصت أختنا سمية بي وبأخي الصغير كريم. لم يطل غياب أمي، وحين عادت بعد يومين، بكت بحرقة مع نسوة من أقاربنا وكانت تلهج طيلة الوقت بعبارة واحدة، رمضان الأسود عليكم.لم أكن لأفهم كنه عبارتها تلك ولكن بعد حين عرفت أن لا عودة لأبي.
بعدها لم أقارب حمّام الأمير أبداً، ولكن صورة المكان كانت تراودني بإلحاح . الباب العريض العالي ذو الخشب المتهرئ، الممر الداخلي عديم اللون، صوت قرقعة  الطسوت ورائحة المناشف الدبقة  وجسد أبي المسترخي فوق الدكة الساخنة. ذاك الخوف والعواطف الحادة بقيا يسكناني أبدا. رنين أهوج يبسط سطوته وينمو في صدري، يغلّ وحشته في تلافيف ذاكرتي دون شفقة ليشظيها إلى قطع مبتورة حادة ومتنافرة.


42
الإهدار في موارد السياحة الدينية
فرات المحسن
تعد المبالغ التي ينفقها الحجيج في موسمي الحج والعمرة وما بينهما من أيام أخر، واحدة من أهم مصادر تمويل مشاريع تطوير مدينة مكة وضواحيها في المملكة العربية السعودية. وعلى ذات المنوال تحصل المدينة المنورة توأم مكة على مصادر الأموال في ذات المواسم. وفي البعض من الوثائق هناك ما يشير إلى إيرادات حققتها السعودية بلغت 62 مليار ريال سعودي أي ما مقداره 16,5 مليار دولار في عام واحد.وكان عديد الحجاج ذلك العام، من الوافدين وأهل البلد، قد بلغ ما مجموعه 12 مليون حاج على مدار العام. وأشارت المصادر عند تأشير متوسط الإنفاق للحاج الواحد، ما قيمته بين 1900 دولار إلى 4000 دولار . وقالت تقارير السلطات السعودية بأن ما معدله 4,1 مليون حاج يؤدون فريضة الحج سنويا، من ضمنهم 1,7 مليون يأتون من خارج المملكة.هذه إحصائيات قديمة لواردات الحج والعمرة ولعدد الوافدين على المدينتين خلال عام واحد. ومع تصاعد عدد الحجيج ترتفع إيرادات المدينتين لتوضع في خزائن المملكة العربية السعودية، ويصرف جلها على خدمات تقدم للمدينتين للتطوير والتحديث العمراني.
تبدو مدينة مكة عبر نافذة الطائرة متوهجة بالأنوار، وثمة نسق جميل لشوارع عريضة، تلتف داخلها بتنسيق عال ومبهر، وكذلك في محيطها. وروعي على مدى أعوام ومواسم طويلة، على توسعة الحرم المكي وبناء مرافق جديدة تستوعب العدد المليوني المتصاعد للحجاج.
 الخروج للتجوال في المدينة يجبر الزائر على ملاحظة التنوع والتحديث في الأماكن القديمة، خاصة الأسواق الشعبية فيها، والتي تجاورها البنايات الشاهقة للأسواق الحديثة والفنادق والجوامع بواجهاتها الجميلة. حتى البيوت وأماكن العبادة القديمة امتدت لها يد العمران، لتبقيها على طبيعتها الأولى وبملامح تجديد جميلة، لتكون أماكن تزار للتبرك والفرجة. ورغم زخم الأعداد المليونية من الحجاج، فهناك انسيابية جد طبيعية ونظافة تامة، تتمتع بها أزقة وشوارع المدينة، وما يحيط بالحرم المكي، لكي تظهر قدسية المدينة في تجليات عمرانها ونظافتها. وعلى ذات الصورة المريحة تتمتع المدينة المنورة بالجمال ذاته، بما أغدق عليها لأجل تطويرها كمعلم ديني وفي ذات الوقت سياحي، ومصدر يدر الأموال الطائلة على إدارة المدنية، ويقدم آلاف فرص العمل لأبناء المدينتين وباقي مدن المملكة السعودية .
في العراق هناك العديد من المقامات والأضرحة الدينية التي يقارب وضعها وضع مدينتي مكة والمدينة المنورة في القدسية الدينية والمكانة السياحية. ولكن ولحد الآن لم يطرأ على معالمها العمرانية أو الاقتصادية ذاك التغيير الذي يعتد به، وبقيت المشاريع تزحف في التنفيذ مثل سلحفاة،واعتمد أغلبها  على ثلم الأرض بالقرب من الأضرحة وبناء الفنادق والأسواق. وحتى في هذا الشأن فقد شاب العمل  الكثير من التلكؤ وسوء الإدارة والاتهامات بالفشل والسمسرة، وكذلك طال التشويه الطابع العمراني للمدن المقدسة ولم يراعِ الجانب الحضاري والسياحي فيها .

يقال والعهدة على بعض مؤسسات الدولة والمؤسسة الدينية، بأن أيام شهر محرم ومن بينها عشرة عاشوراء، ثم أربعينية الأمام الحسين بن علي، ووفاة النبي محمد والأمام علي والسيدة فاطمة الزهراء والأمام موسى الكاظم والعسكريين ومثلها أيام تولدهم، تدخل تلك المدن حينها حالة الطوارئ ، بسبب زيارة الأعداد المليونية. وبالذات منها أيام عشرة محرم وأربعينية الأمام الحسين،حيث  يؤم مدينة كربلاء المقدسة ما يقارب الستة ملايين زائر من جميع أنحاء العراق وخارجه، حسب ما يصدر عن لجنة المراقبة في المحافظة ذاتها.
وبسبب زخم تلك الأعداد تشوب طقوس وأعمال الزيارة عشوائية وتضاربات بسبب خضوعها لمزاجية مفرطة لأفراد وجهات دينية وحزبية،  وكذلك جهات حكومية محلية. وتبدو حينها جميع مداخل المدينة مفتوحة لقدوم أرتال المشاة، وليس هناك غير المراقبة والخوف من التهديد الإرهابي.
بعد الانتفاضة الآذارية ضد سلطة البعث، وبسبب ما أبدته البيوت والأزقة الواقعة بين ضريحي الإمامين الحسين والعباس، من مقاومة شديدة للهجوم الذي قاده حسين كامل صهر الرئيس صدام، ضد ثوار المدينة، أصدر الدكتاتور أوامره بإزالة الدور والأزقة بين الحضرتين الحسينية والعباسية، وشيد بدلها ساحة بفضاء واسع جميل، ووضعت مسقفات تحمي الناس أثناء الزيارات من المطر والحر، وزرع على جانبيها النخيل ، فكانت رب لفته كريهة عند البعض، نافعة للمدينة وطابعها الجمالي وزوارها. ولم يجد صدام في حينها من يعترض على فعلته، بسبب سطوته وقسوته، ففعل حينها ما يتوافق وذلك الصمت، وقدم تعويضات غير مجزية لمالكي الدور. والغريب في الأمر ما طرأ على وضع الساحة بين الضريحين بعد سقوط البعث، حيث وضعت على جوانب الساحة مجموعة من الكرفانات بدواعي تقديم الخدمات، مما شوه منظرها  وثلم الكثير من مساحتها وجمالها، وباتت هذه الكرفانات تشكل عائقا لمسيرات الحشود المليونية. ومثل هذا الأمر يشي بعشوائية التعامل من قبل السلطات المحلية والمشرفين على خدمة الضريحين، مع طبيعة الزيارة والإهمال الفاضح لجمالية المكان وقدسيته.
جميع الموارد المالية التي تدرها الزيارات الدينية على إدارة المدن والأماكن المقدسة ومن ضمنها واردات المؤسسة الدينية المشرفة على المقامات، لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة المالية للدولة،وتختفي الأطر القانونية المحاسبية التي من مهامها ضبط دخول تلك الأموال وجبايتها، فليس هناك ضوابط قانونية محاسبية تمنع إهدارها بعيدا عن متطلبات المقامات الدينية، ومن ثم لا يتم استغلالها لصالح تطوير بنية وهياكل المنشآت والأحياء في باقي المدينة، وهناك إصرار على الفصل بين الإيرادات التي تحصل عليها المؤسسة الدينية ، وبين ما تحصل عليه خزينة المحافظة، والتي دائما ما أشتكى مسؤولو الأخيرة من العجز في الميزانية الممنوحة لهم من قبل الحكومة الاتحادية.
مثل هذه الأمور تحدث لمدينة النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء و مرقدي الإمام عبد القادر الكيلاني والإمام الأعظم وباقي المقامات الدينية والأضرحة، حيث يعدم وجود لجان خاصة لوضع أسس منهجية وضوابط قانونية للانتفاع من الموارد المالية الضخمة التي تدرها تلك الأضرحة. ولم يعن للمؤسستين الدينية والحكومية استغلال الواردات لتحقيق توظيف للأموال، عبر مشاريع تجارية تدر أرباحا يمكن استغلالها لإعمار وتطوير البنى التحتية لهذه المدن.وإنما العكس يتم صرف مبالغ هائلة من خزينة الدولة لسد العجز أو ما يدعى بالخسارة جراء الاحتفاء بتلك المناسبات.
 الزائر لمدينتي كربلاء والنجف ومثلهما الكاظمية وسامراء والأعظمية يقف حائرا أمام الفوضى العارمة التي تكتنف أحياء جميع هذه المدن. فالمشهد الأول الذي يجلب النظر ويدفع للتأسي هو تلك الخيوط العنكبوتية التي تتسلق الجدران وتتشابك فوق أسطح البنايات والشوارع .أسلاك تمتد على طول وعرض المدينة لا تعرف لمن عائديتها، هل هي أسلاك هاتف أم كهرباء.كذلك يعجب المرء ويصاب بالفزع لكثرة البيوت الآيلة للسقوط. ولا يوجد أي معلم في هذه المدن دون أن يشوه ويخرب بالملصقات الدالة على شخص أو عشيرة أو موكب. وهناك فوضى عارمة لا تخضع لتراتيبية وضوابط لآلاف قطع الدلالة لمحل عطارية أو طبيب أو محامٍ أو صائغ أو محل حلويات ومطعم ومصلح أدوات وقراء وقارئات الطالع ومصلحي مكائن ومعدات ثقيلة. أما ظاهرة البسطات فعشوائية إنتشارها تمثل أقبح منظر يجتاح المدن طولا وعرضا، بغرائبية وبعثرة وتنوع منفر. ويحدث مثل هذا الخراب والتخريب بأبشع صوره أيام المناسبات الدينية، التي تستباح فيها المدن وشوارعها من قبل الجميع، دون تنسيق وعناية، لتكون مصدرا للتلوث والنفايات، وسببا لاستنزاف جهود وأموال دوائر البلديات، حيث تصرف الحكومات المحلية دون المؤسسة الدينية، أموالا طائلة لدعم تلك المواكب والبسطات،وتستنفر كوادرها وموظفيها للمشاركة في إنجاح المناسبة والشعائر الدينية.  وتنتفع المواكب الدينية من هبات الحكومة وتترك لبلدية المدينة آلاف الأطنان من النفايات. ولا يقتصر الإهمال والخراب فقط على تلك الجوانب بقدر ما تجد صعوبة التنقل بين أحياء المدن،فهناك تجد ما يفزع ويجرح الروح والعين من خرائب وأزقة موحلة ودروب تبعث على التأسي والفزع وروائح تبعث على الغثيان. ومثل هذه المناظر القبيحة تشي وكأن هناك إصرار على بقاء تلك المدن بهذه الصورة المقرفة كدالة على مظلوميتها، وتلك لعمري واحدة من حجج صراع السياسات العبثية التي ابتلى بها العديد من مدن العراق .
ودائما ما يقدم البعض نشيد الإنشاد الدائم والعالي النبرة، بأن مدن العراق الدينية تضاهي بقدسيتها الحواضر الدينية في باقي دول العالم، مثل الفاتيكان ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة مشهد الإيرانية. ولكن فيما يخص البنى التحتية والمنشآت والنظافة، فمدننا الدينية رغم غناها، تتفوق في بؤسها وخرابها وقذارة أحيائها وعشوائية حياتها وأحيائها، على جميع ما تتمتع به تلك الحواضر من نعم، وهبها وهيأ لها وشيدها حكامها ورجال دينها وأناسها من العقلاء الأسوياء الحكماء، وقبل هذا وذاك الأصحاء النظيفين عقلا وضميرا وجسدا.



43
الشفق مجلة المبعدين إلى بدرة


من ذاكرة الشيوعي الدكتور خليل عبد العزيز

حررها فرات المحسن

بعد انتهاء فترة اعتقالي لعام واحد،  نقلت مخفورا بداية عام 1957 من سجن بعقوبة إلى مديرية التحقيقات الجنائية في بغداد، والواقعة في شارع النهر. وهناك أجري معي تحقيق روتيني وأخذت لي صورٌ شخصية وطبعات أصابع، وعملوا لي صفحة أعمال جديدة. بت هناك لليلة واحدة أرسلوني بعدها مخفورا إلى مدينة الكوت، ومن هناك رحلت إلى مدينة بدرة القريبة من الحدود الإيرانية. كانت هذه المدينة تعتبر المنفى القسري للعديد من المعارضين للسلطة الملكية، وبالذات الشيوعيين منهم.
مدينة بدرة تقع شرق مدينة الكوت، وهي مدينة صغيرة قريبة من الحدود الإيرانية  تسكنها غالبية كردية. المدينة جميلة بطبيعتها ونقاء هوائها،وتمتد على أطرافها بعض المرتفعات المخضرة. أُسكنت في دار من الدور الحكومية العائدة للموظفين، والتي تمتد متراصة مع بعضها، لأكثر من عشرة بيوت. شاركت السكن مع ما يقارب العشرة أشخاص أغلبهم من المبعدين الشيوعيين، كان من بينهم الشهيد ستار خضير وجعفر فيلي وإبراهيم وهو شيوعي من أهل العمارة. وفي البيوت المجاورة سكن شيوعيون وغيرهم من الوطنيين المبعدين. أذكر منهم كاظم فرهود،وحسن عوينه، كاظم حبيب، عدنان الديو، ماجد عبد الرضا،عادل سليم، عاصم الحيدري وغيرهم، وفي الجهة المقابلة سكنت بعض العوائل منها عائلة كريم أحمد أبو سليم وعبد علوان الطائي أبو بشرى.
كنا في منفى بدرة نتشارك  في أجواء وانشغالات واحدة،  بالرغم من عدم  وجود صلات تنظيمية حزبية للبعض منا. أيضا كان هناك خلاف تنظيمي كان له الأثر الفاعل على الكثير من المبعدين، فقد كان كاظم حبيب ومعه عاصم الحيدري ومسؤولهم المحامي عادل سليم  يمثلون جماعة راية الشغيلة، وهي مجموعة كانت بقيادة عزيز محمد وجمال الحيدري وتضم كثيرا من الكوادر الحزبية، مثل نافع يونس وعامر عبد الله وحمزة سلمان، أما قيادة الحزب أي اللجنة المركزية ، فكانت حينذاك بقيادة بهاء الدين نوري (باسم) وكنت والبعض من المبعدين ومنهم كريم أحمد وعبد علوان نمثل اللجنة المركزية في ذلك المنفى. 
وبالرغم من كون جماعة راية الشغيلة يمثلون كتلة مغايرة لمجموعتنا وعلى خلاف نظري مع الحزب، ولكن ذلك لم يكن عائقا ولم يمنعنا من التعاون في الكثير من مشاغلنا وأعمالنا اليومية في ذلك المنفى القسري،لذا كنا وبشكل طبيعي نقترب من بعضنا البعض، واستطعنا أن نؤلف فريقا واحدا في منفانا البدري،لغرض العمل بروح رفاقية كان يحتاجها وضعنا الاضطراري. حدث ذلك قبل أن تحل راية الشغيله نفسها وتندمج في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكانت مجموعة بدرة لراية الشغيلة أخر من عاد إلى الحزب.
وقتذاك كنت اتهم جماعة راية الشغيلة بالانشقاق، وأوجه لهم اللوم والاتهامات فيما حدث. فأنا دائما ما كنت متوافقا مع نفسي وانتمائي الحزبي، ولذا أطلق علي في مسيرتي الحزبية تسمية تتوافق كليا مع مبادئي وطباعي وقناعتي (خليل الحزب)، وهي تعني لي الكثير. فرغم الكثير من الملاحظات التي أحملها عن الحزب وتدور في ذهني، وأفصح عنها أو أضمرها، لكني لم أفكر يوما بترك الحزب أو الانشقاق عنه، وبرأيي أن أي انشقاق عن الحزب، يعني في تفكيري خيانة لا تغتفر، وهذا المفهوم نابع من صلب أيماني بالفلسفة الماركسية اللينينية.
ظروف الإبعاد القسري ووجودنا سوية بشكل دائم، جعلنا نقر بضرورة العمل مع بعضنا وبأجواء من الرفقة والصداقات الحميمة، فكنا نتبادل الأفكار ونجلس جوار بعضنا لفترات طويلة، ونخوض نقاشات عديدة حول المشاغل والأوضاع السياسية الخاصة والعامة وحتى الحزبية، وبسبب تلك العلاقات ولإنضاج طابعها الرفاقي وتوطيدها، اتخذنا مجتمعين قرارا بتشكيل لجنة أسميناها منظمة المبعدين إلى بدرة. على أن تضم اللجنة الجميع، بمن فيهم أولئك الذين أبعدوا بتهمة الانتماء للشيوعية دون أن تكون لهم صلات حزبية، وإنما اتهامات وجهت لهم بسبب علاقات صداقة ببعض الرفاق الشيوعيين.
في احد الأيام دعينا كمجموعة من الكوادر الحزبية، لاجتماع ليلي في أحد البيوت التي كنا نسكنها كمنفيين، وفي ذلك الاجتماع قررنا تشكيل لجنة قوامها ثلاثة أعضاء وهم كريم أحمد وعبد علوان الطائي وشخص أخر من مدينة الكاظمية لا يحضرني أسمه، وكلفوا بوضع نظام داخلي لمنظمة ديمقراطية عامة، سميت بلجنة المبعدين، تحوي بين عضويتها جميع المبعدين في بدرة،والذين بلغ عددهم وقتذاك ما يقارب المائة والخمسون شخصا، وكانوا بغالبيتهم من الشيوعيين والوطنيين. وأتفق على أن يحتوي ذلك النظام أسس ومنهج التكافل في العمل اليومي وأطر العلاقات بين المبعدين،على أن تنجز اللجنة عملها خلال ثلاثة أيام.
بعد مضي الثلاثة أيام دعينا لعقد اجتماع أخر، الغرض منه كان دراسة ومناقشة ورقة النظام الداخلي التي أعدت. كانت اجتماعاتنا دائما ما تعقد مساءً بسبب منعنا من الحركة ليلا أي بعد الساعة العاشرة، وكان يفرض علينا التوقيع اليومي بالحضور صباحا في مركز شرطة المدينة.
عقد الاجتماع في واحد من تلك البيوت، بحضور مجموعة كبيرة من المبعدين، وطرحت عليهم ورقة النظام الداخلي المتكونة من أربع صفحات بخط اليد، وبثلاث نسخ وزعت على الحضور، وقرأ الرفيق كريم أحمد الورقة على الاجتماع. بعد ذلك دار نقاش حول الورقة،أخذ منا وقتا طويلا، قدمت خلاله اعتراضات جدية بشأن بعض الفقرات، وتواترت حولها ردود الفعل، لتظهر عندها خلافات حادة ،ليس فقط بين المدعوين، وإنما بين لجنة صياغة الورقة ذاتها، وتصاعدت حدة النقاشات لتصل حد الخصومة، كان أشدها بين عضوي اللجنة وهما الرفيق كريم أحمد والرفيق عبد علوان الطائي. عندها قرر المجتمعون أخذ استراحة لمدة نصف ساعة لترطيب الجو وجسر الخلافات، ثم العودة لمناقشة الورقة بهدوء، وفعلا عدنا مرة أخرى للمناقشة وتم تدارك الخلافات بتغيير بعض المحتوى غير الملائم في الورقة، ليتم بعدها التصويت والمصادقة عليها، وكان أهم ما جاء في النظام الداخلي ووقع عليه، التكافل والتعاون الرفاقي والتزام الجميع ببنود الورقة.
كانت تلك اللجنة باكورة عملنا الفكري وحافز مهم وفعال لتناول مواضيع ثقافية اجتماعية بالإضافة للسياسية. إثر ذلك، ومع استمرار نقاشاتنا السياسية والثقافية شعرنا بضرورة إيجاد متنفس ثقافي فكري لمجموعتنا التي ضمت العديد من المثقفين.
كنا نعاني من شح وصعوبة الحصول على المجلات والصحف،ومثلها الكتب التي تكون موئلا ثقافيا وروحيا في منفانا البدري. لذا بادرت واقترحت على الرفاق فكرة الحصول على كتب البحوث والتاريخ وجميع ما يتعلق بالمعارف البحثية الأدبية والعلمية، وقد شخصت منها كتب السيدين عباس العزاوي وعبد الرزاق الحسني لغناها البحثي والمعرفي. وفي أحد لقاءاتنا اليومية وبعد أن عرضت على الرفاق بعض الأفكار للحصول على تلك المصادر،كلفت شخصيا بمخاطبة السيد عبد الرزاق الحسني برسالة مفصلة ترسل له عبر البريد، نطلب فيها مؤلفاته البحثية. بعد كتابة الرسالة، أرسلتها على عنوانه في المجمع العلمي العراقي، وكنت قد وجدت العنوان مطبوعا على أحد الكتب. جلست وبعناية فائقة ودونت رسالة وجهتها له مباشرة، قلت فيها بعد التحية ( نحن مجموعة من المبعدين إلى مدينة بدرة، نود أن نتابع نتاجكم البحثي الفكري، ولكننا نفتقد الكيفية التي تمكننا من الحصول عليه، لذا نحن مستعدين أن ندفع أي مبلغ تطلبه، إن استطعت تزويدنا بمجموعة من كتبك القيمة).
لم يمض غير أسبوع، حين رجع الجواب من السيد الحسني شاكرا اهتمامنا، وأرفق بالرسالة قائمة بالكتب وأسعارها، ومنها كتابه القيم عن ثورة العشرين. كانت فرحتنا كبيرة لحصولنا على هذا الجواب، الذي يدل على تفاعل السيد الحسني مع رغباتنا. مباشرة وافقت مجموعتنا على ما جرى بيني وبين السيد عبد الرزاق الحسني من مراسلات. ولم تمض غير فترة قصيرة حين وصلت من السيد الحسني رزمة تحتوي جميع الكتب التي طلبناها، وأرفق معها قائمة بمبالغها، كانت أقل ثمنا بكثير مما يباع في الأسواق، عندها قمنا بجمع المبلغ وتحويله لصالح السيد الحسني. وللحقيقة كانت ردود السيد عبد الرزاق الحسني على رسائلنا كيسة ولطيفة، وتظهر تعاطفه الشديد معنا، فمثلا عدا كلماته التشجيعية، كان يرسل خمسة كتب ليحتسبها ثلاثة.
لم يتوقف جهدنا عند هذا، بل طلبنا من جميع الرفاق، وعرضنا عليهم مقترح الطلب من أهاليهم حين يأتون للمقابلة، أن يجلبوا معهم كتبا، وما كانت الشرطة لتمانع ذلك، لذا أصبحت لدينا مكتبة عامرة بشتى أنواع الكتب، ويسمح باستعارتها من قبل الجميع.
كانت هذه الكتب نافذة جديدة فتحت لنا عالما ثقافيا غنيا، أمدنا بالكثير من المعرفة في عالم النفي والإبعاد، وكان الإقبال على تلك المجموعة القيمة من الكتب شديدا من قبل الرفاق. في ذات الفترة وثمرة من ثمار العمل التضامني التكافلي للمبعدين، وخلال نقاشنا اليومي، قررنا إصدار نشرة تكتب باليد، وانصبت فكرتنا في البداية على نشرة جدارية، ولكن المقترح لم ينل رضا الغالبية، لذا قررنا أن تكتب باليد وتستنسخ بعدد محدود، وتوزع على المبعدين للتداول،عندها بحثنا عن الذين يمتلكون خطا جميلا وواضحا ليتكفلوا بإعادة كتابة المواد المرسلة إلى المجلة.
باشرنا باستنساخ النشرة بخط اليد وبعدد قليل من النسخ. وظهر العدد الأول منها  وبعنوان يعلو صفحاتها باسم ( الشفق ). كان عددا زاخرا بالمواد والمعلومة. كتب فيه كاظم حبيب وماجد عبد الرضا وكاظم فرهود وأنا وأخرون، وكانت النشرة غنية بمواضيعها الفكرية. وهي أول مطبوع ينشر فيه دكتور كاظم حبيب مقالا باسمه الصريح وكان بعنوان " قراءة في كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" لستيفن همسلي لونكريك. وقد تذكر المرحوم الدكتور كاظم حبيب ذلك قبل وفاته في ألمانيا بفترة، متأثرا بمرضه العضال.وحسب ما جاء في الورقة التي أرفقها مع بعض كتبه التي أصدرها حديثا وأرسلها لي بتاريخ 15/1 / 2012 حيث قال فيها(( إلى الصديق العزيز ورفيق النضال  الطويل، مقرونة بذكريات بدرة وحياة الإبعاد وأول مقال كتبته في حياتي السياسية، نشر في مجلة الإبعاد التي كنت تشرف على انجازها،  ملاحظات { أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث} مع خالص الود والاعتزاز للعزيز د خليل عبد العزيز)).
 أصدرنا من النشرة خمسة إلى ستة أعداد كان يتم تداولها بين الجميع بشغف ولهفة كبيرين،وتطورت لتكون بأكثر من عشر صفحات بورق كبير فلسكوب.لذا كان القراء يحثون بعضهم البعض على الانتهاء من قراءتها، لكي تكون القراءة من حصة شخص أخر. وفي ذلك الوقت اجتمعت هيئة التحرير المكونة مني وكاظم فرهود وماجد عبد الرضا واختارتني مسؤولا عن النشرة.وبعد ورود كتاب عبد الرزاق الحسني عن ثورة العشرين، استعاره كاظم حبيب بلهفة، مؤكدا أهميته وغناه المعرفي، وبعد أن قرأ الكتاب، قدم مقاله الموسوم (نظرات في كتاب ثورة العشرين) لينشر في مجلة الشفق.
 كنا وقتها ننشر أسماء الكتاب المشاركين في النشرة التي بات عددها يحوي أكثر من عشر صفحات زاخرة بالمواضيع الفكرية والبحثية. ونالت النشرة استحسان الكثيرين، ودار حول مواضيعها الكثير من النقاشات الفكرية، ووجهت لنا بعض النقود، ولكنا حافظنا على موقفنا بمنع نشر الردود، التي تصل إلى النشرة من بعض قرائها، ولكوننا في مجتمع محدود، وحرصا على محدودية صفحات وطابع النشرة، لذا اقترحنا على القراء، إن رغبوا، التوجه مباشرة إلى كاتب المقال ومناقشته حول موضوعه المنشور دون الرجوع إلينا.
 في إحدى الأمسيات فوجئنا بغارة من مفرزة رجال الأمن والشرطة، تم فيها كبس أعداد من النشرة وأيضا المكتبة، بعد أن فتشوا الدار قطعة قطعة، ومثلها فعلو مع باقي البيوت، وقبض على البعض، كنت واحدا منهم، وكنا جميعا من الذين وردت أسماؤهم في النشرة،وبعد هذه الغارة دار بيننا التساؤل الحارق، من هو الذي وشى بنا؟
في مركز شرطة بدرة احتجزنا لبضعة أيام ليحقق معنا واحدا إثر الأخر، ثم أحيلت أوراقنا إلى حاكم التحقيق الذي قرر إطلاق سراحنا، لحين موعد إجراء المحاكمة.
وكان وجودنا في بيوت المنفى، يعني كفالة حضورنا اليومي لمركز الشرطة. ثم أرسلت أوراقنا إلى المحاكم. في تلك الأيام انتهت فترة إبعادي لمنفى بدرة، ومعي بعض من المبعدين أيضا، أذكر منهم عبدول سوران وهو كردي من الحزب الديمقراطي الكردستاني، كان مبعدا لمدة ثلاثة أشهر، وكذلك حلمي شريف. ولكون مدة إبعادهم قد انتهت أيضا، لذا رافقاني بالترحيل، حيث أُرسلنا سوية إلى التحقيقات الجنائية في بغداد مرة أخرى. في مديرية التحقيقات الجنائية تعرضنا للشتائم والسباب منذ أول وصولنا، ولم يكتفوا بذلك بالنسبة لعبدول سوران، فقد نادوا عليه وأشبعوه ضربا وتعذيبا، أما نحن فقد وجهت لنا فقط شتائم وكلام قبيح.
في اليوم التالي أرسلت مخفورا إلى مدينة الموصل كونها مسقط رأسي، وهناك حقق معي في مخفر الشرطة، وعذبت تعذيبا قاسيا في محاولة لثنيي عن مبادئي، وأخبروني بفصلي من الدراسة بسبب انتمائي للحزب الشيوعي العراقي، وكان هذا مدونا في دفتر الخدمة العسكرية، الذي أحتفظ به لحد الآن. حيث جاء فيه " يفصل من المدرسة لكونه شيوعيا حسب كتاب مديرية الشعبة الخاصة في مدينة الموصل، ويساق إلى الخدمة العسكرية بعد زوال أعذاره"
وفق هذا القرار سفرت تحت الحراسة إلى مدينة البصرة، وسلمت مخفورا إلى أمرية موقع معسكر الشعيبة، وهناك وجدت العديد من الشيوعيين المساقين إلى الخدمة العسكرية وفق قرارات مديريات الأمن في مدنهم.



     

الدكتور خليل عبد العزيز وفرات المحسن

44
المنبر الحر / الصمت
« في: 18:07 22/03/2022  »
الصمت
فرات المحسن

كنت في الرابعة والعشرين من عمري حين أدخلتني الحرب موقدها . حينها لم أعد أمتلك رغبة لمراجعة دفاتري أو إعادة قراءة ما دونته من قصائد خلال فترة الدراسة، ولا حتى في زمن البطالة التي نخرت روحي. ومثلما خسرت كل ذلك، تركت ورائي أحلامًا كثيرةً وضجة حياة ببريقها الخلاب وكبواتها الموجعات.
الراتب الأول لجندي كان يعني ليَّ الكثير. في جميع الاحتمالات، ومهما قادني تفكيري نحو أشياء رغبت في طفولتي الاستحواذ عليها، أو تولدت عندي فكرة لمقتها، فذلك الذي أمسكته يدي اليوم،  كان راتبا استلمته كأجر عن مهنة حكومية، وظيفة حكومية، يا لها من أصفاد ثقيلة، ومبعث لمزاج عكر.الوظيفة دائما ما عافتها روحي وكرهت ممارستها، وافزع حين ينبهني أحد عليها، فأنا أكره القيود، ولا أود أن يكون هناك مكان تافه يضمني برتابته، لأصبح مثل مناضد تثار خلفها الثرثرة.
ادخرت الراتب لأسلمه لأمي في اليوم الأول من إجازتي. شع من عينيها بريق فرح، وحبست أنفاسها وهي تدس الأوراق الملونة تحت شيلتها الكالحة، دون أن تعدها، فقد أكتفت بسماع الرقم حين خرج من فمي. لم يسبق لشيلتها أن أخفت مثل هذه الأوراق المبهرة، ولا حاجة لها للتفكير بما يعنيه ذلك المبلغ، مثلما كان يعني لي كأجر مدفوع عن منح جسدي كاملا لمحرقة لم أجد مبررًا لها في ذهني. ولكني دون تفكير طويل أو نقاش قبلت تلك المهنة ، كونها المنفذ الوحيد المتبقي أمامي ، ومعها اخترت الصمت.






45

من يكفل للمرأة العراقية حقوقها

فرات المحسن

ردت المحكمة الاتحادية العليا، يوم 19 شباط 2022، طعنا تقدمت به رابطة المرأة العراقية بشأن عدم دستورية المادة 41 من قانون العقوبات العراقي، كونها تتيح استخدام (حق التأديب) من قبل الزوج لزوجته، ومن قبل الآباء والمعلمين للأطفال القاصرين، باعتبار هذه المادة تبيح العنف حسب طعن رابطة المرأة.
ووفقا لرد المحكمة فإنها وجدت من تحليل المادة موضع الطعن، أنها نصت على حق (التأديب) في الحدود المقررة شرعا أو قانونا أو عرفا. و(التأديب) المقصود لا يعني (العنف الأسري)حسب رأي المحكمة، وإنما هو إصلاح وتقويم وهو مقيد. وبناء عليه تكون دعوى المدعي غير مستندة على سبب دستوري. لذا قرر الحكم بردها.
يفتقر قرار الحكم الصادر، التوصيف الكلي لطبيعة التأديب، وهو في المجمل لغويا، معاقبة الأخر المسيء على إساءته لتأديبه،وهذا الافتقار يسمح للرجل (المتعلم وغير المتعلم) بتفسير التأديب حسب رغبته ورؤيته لمعنى الكلمة الواردة في النص الديني والقانوني، وعندها يحيله إلى عنف أسري موجه ضد المرأة والطفل.
وقد فسرت نصوص صدرت عن رجال دين أشارت لأحقية الرجل بمعاقبة زوجته بالضرب بأشكال متعددة منها، دون ازرقاق الجلد أو ظهور كدمات، وأطلق عليه حسب التوصيف، بالتأديب المقيد أو الرمزي. وكأن فكرة الضرب وآثاره الموجعة نفسيا قبل أن تكون جسديا، لاعلاقة لها بكرامة المرأة أو الطفل، وبعيدة كل البعد عن طبيعة المشاركة الحياتية، وروح المودة التي تنطوي عليها فكرة الزواج، وأسس الشراكة ومشاعر الآمان بين البشر. بعد أن سمحت المحكمة للرجل بتأديب شركائه في الحياة، لتبعد كليا فكرة المساواة وحفظ الكرامة الإنسانية للمرأة، وتدخل المجتمع في حالة فقدان الحماية لشريحة كبيرة منه، وتنأى به بعيدا عن حضارة القرن الواحد والعشرين، والتقدم الحاصل الذي عاشته البشرية خلال عقود كثيرة مضت، لتبقيه في دهاليز النصوص البعيدة عن الواقع والمدنية والحداثة و لتعتبر المرأة شخصا قاصرا لا يمكن الاعتماد عليه أومنحه المسؤولية عن العائلة وقبلها عن نفسه.
 
يسجل التاريخ البشري للثورة الفرنسية عام 1789 أول تدوين تشريعي لحقوق الإنسان، ومع انطلاق شرارتها شرعت أولى العهود والمواثيق الخاصة بحرية الفكر ووحدة الطبيعة الإنسانية والمساواة بين البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم، ولم يقتصر شأن الثورة وتوجهاتها عند هذا الحيز، وإنما أعطت للبشرية عمقا فكريا جديدا في السلوك الأخلاقي والنظم السياسية وأعراف وقواعد العمل القانوني، ويسجل لها أيضا الريادة في تسليط الضوء على قضية المرأة وحرياتها ومساواتها بالرجل في مختلف مناحي الحياة.
هذا الطرح الذي جاءت به الثورة الفرنسية، كان إيذانا بتغيرات عميقة اجتاحت العالم في مجال العقائد الفكرية والمذاهب السياسية والاجتماعية ، حيث أصبحت قضية المرأة والمساواة تمثل الجهد الرئيسي للكثير من المنظمات المحلية والدولية، وشاركت في هذا الجهد وبحيوية فعاليات كثيرة، كان للرجال فيها قوة مؤثرة ومهمة، وقدمت دراسات وبحوث، دفعت قدما وطورت الفعل اليومي لتلك المنظمات باتجاه الغايات التي تصبو لها، وفي مقدمتها المساواة بين الجنسين وانعتاق المرأة وحريتها وحقها في العمل والاختيار.
من المعروف، أن ما يحدد المكانة الاجتماعية للإنسان امرأة كانت أم رجلا، هو موقعه في العمل، أي وجوده ودوره في العملية الإنتاجية المجتمعية، والذي يحدد بدوره شكل ونموذج العلاقة الإنسانية بين الجنسين، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي ثم الفكري، وهذه هي صلب الإشكالية التي تتمحور حولها عملية الحقوق والواجبات البشرية لكلا الجنسين، والذي يؤكد على أن العمل وحده يتيح للمرأة الاستقلال المادي الذي يساعدها على الاستقلال الفكري والنفسي، وينمي مداركها ويوسع أفاق وعيها لذاتها وقدراتها.

بقيت المرأة العراقية ولازالت تصارع حزمة واسعة من الاعتراضات والعوائق المصطنعة، والمفاهيم المتشددة التي وضعت في طريق انعتاقها ونيل حقوقها،وباتت معها، أسيرة ضمن نظم وأطر سياسية واجتماعية واقتصادية، جعلتها بعيدة جدا عن الموقع الاجتماعي المناسب لقدراتها الجسدية وكفاءتها الفكرية والمهنية.وتم بشكل منهجي وقسري إبعادها عن المشاركة في العملية الإنتاجية والسياسية، ويعود السبب في ذلك الإقصاء إلى عاملين أساسيين.
الأول يتمثل في النظام الأبوي الصارم، الذي أجبر الغالبية من نساء العراق، على أن يبقين كربات بيوت، يلبين حاجات الرجل والبيت والعناية بالأطفال،أما العامل الثاني وهو الأشد وطأة وقسوة، فتمثله منظومة الأفكار الاجتماعية والدينية التي تضع المرأة دائما في مقام أدنى من مكانة الرجل، وتحجب عنها أي فرصة للحراك الاجتماعي الاقتصادي الذي تنال منه حقوقها الإنسانية.
تلك المسألة كانت دائما وستظل قضية المرأة العراقية الأولى، في نضالها من أجل حرياتها ومشاركتها في قضايا العراق المصيرية، وهي أيضا في صلب مهمات العراقيين جميعا، من التقدميين والديمقراطيين، الساعين لتفكيك المنظومة المشوهة من المتاريس والعقد، التي تقف في وجه حرية المرأة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
إنها مهمة عسيرة وكبيرة ولكنها موجبة وضرورية ليست فقط للمرأة بقدر ما هي تتعلق بالمطلق بقضايا الشعب العراقي، في مجال الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي توجب أن تأتلف من أجلها الكثير من الجهود، لرفع الحيف عن الجميع. ولضمان تشريع متوازن ومنصف، يحتوي مبادئ وقوانين تؤكد حقوق النساء وترفع الإجحاف الكبير الواقع عليهن، بدأ بإعادة النظر بقانون الأحوال الشخصية وما يحويه من تشريعات تتناقض كليا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتشريعات العالمية الخاصة بالمرأة كالاتفاقية الدولية لإزالة جميع أشكال التمييز ضدها.
إن التمعن في التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية المنصوص عليها في القوانين العراقية المعنية بحقوق النساء، سوف يظهر مدى الإجحاف والإيذاء الذي يطال حياتهن ووجودهن المعنوي وكيانهن الإنساني، وتلك التشريعات تشير لاستعصاء قضايا المرأة العراقية، وفي ذات الوقت تكشف المأزق الحضاري السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع العراقي.
فالمهام الملقاة على عاتق القوى الديمقراطية، تبدو عسيرة وصعبة، ولكنها تحتم خوض نضال مستمر لا هوادة فيه، من أجل حقوق النساء العراقيات والحقوق الأخرى لباقي شرائح ومكونات المجتمع، وفي المقدمة من هذه الأهداف يأتي الإصرار على تغيير القوانين والتشريعات المبخسة لحقوقهن، وإبدالها بما يناسب ويتفق مع روح العصر ومعايير الحضارة الإنسانية، التي تكفل للجميع ذات الحقوق وتزيل الغبن والإجحاف الذي طال النساء وألحق الخراب بالمجتمع العراقي في مختلف المجالات.إن النضال يجب أن يتركز من أجل وضع نهاية للتعديات اليومية الواقعة على حقوق المرأة، وفي المقدمة منها تلك التعديات والتشوهات في النص القانوني الذي يعطي الرجل الحق بتأديب المرأة وأيضا غيرها من النصوص المجحفة المتمثلة في.

ـ الولاية أو الوصاية الأبوية والزوجية ( الوكيل والقبول أو الرفض في مسألة الزواج ،الطلاق والنشوز والعصمة ـ الإرث والشهادة في المحاكم ــ تعدد الزوجات ـ الوصاية على الأطفال )
إن مثل هذا المشهد المأساوي يشي بإشكاليات ليست بالهينة تثار فيها الأسئلة عن علاقة المجتمع العراقي بالمتغيرات العالمية في سياقها التاريخي وقضية المرأة فيها، وهل إن التطور المعرفي وتلك التحولات فرضت تأثيراتها عليه، وأحدثت التغييرات المرجوة في منظومة قيمه المجتمعية، بما يوائم المستجدات والطفرات الحضارية التي حدثت في العالم المتحضر.
من المؤسف إن ما حدث هو عكس ذلك بالضبط، بل إن المشهد الحالي يعد ارتدادا وارتكاسا خطيرا جدا، أدى إلى حالة من التردي المفزع على مختلف الأصعدة وخروج غير منطقي عن سياق التطور التاريخي.
وهذا ما تؤكده خارطة المشاركة النسوية في أنشطة المجتمع، والذي ممكن تلمسه بوضوح عبر ما يدور اليوم من تغيرات سلبية في المجتمع العراقي، تكشف بشكل واضح، الانحدار الذي وصلت إليه حالة المرأة، وتصاعد وقائع التعدي والإيذاء الذي يطالها على يد المتشددين من القوى الرجعية.
ــ ففي الحياة السياسية ( العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية وفق قواعد الخوف من السطوة والتهديد الرجولي ..عشيرة ..أب .. أخ .. زوج..أبن.... نظام العرف الاجتماعي أو ما يسمى بالعيب).
ــ شح المساهمة في النشاطات السياسية..حيث يلاحظ الفقر العددي الكبير للمرأة، ليس فقط بين أوساط القيادات الحزبية، وإنما يتعداه إلى العضوية العادية، مع تهميش وحجب ظاهر لدورها وقدراتها، ويشمل ذلك قلة مشاركتها في لجان العمل الحزبية.
ــ الفصل بين الرجال والنساء في بعض الصفوف الدراسية والتحذير من الاختلاط أثناء الدوام والاستراحات و منع الفعاليات المشتركة.
ــ ازدياد حالات الاختطاف والاغتصاب والاعتداء الجسدي والنفسي على النساء دون وجود رادع قانوني أو ضمانات أو تعويض معنوي أو مادي للضحايا.
ــ وجود أعداد هائلة من الأرامل واليتيمات ( من نتائج الحروب والأمراض ) دون معيل أو مصدر رزق، مما جعلهن ضحايا لتهديد يومي يتعرضن فيه للإذلال والمهانة تحت شتى الظروف التي تتراوح بين القسر والتهديد والجوع والانحراف والجريمة.
ــ وجود تجمعات نسوية تعمل بالضد من نيل المرأة لحقوقها، وبالضد من مجمل الحريات الإنسانية، وتروج لعبودية المرأة تحت سطوة الرجال، وبما يكفل تطبيق التشريعات الظالمة التي تنص على عدم أهلية المرأة وعدم رجاحة عقلها.
ــ استشراء حالات تعدد الزوجات رغم المصاعب الاقتصادية، وزواج المتعة والمسيار والعرفي وغيرها من الزيجات غير القانونية، والتي تسبب في أغلب الأحوال اعتداء على إنسانية وكرامة المرأة وهضم لحقوقها.
هذا الارتداد والارتكاس لا يتوقف عند أوضاع المرأة فقط، وإنما هناك تدهور وارتباك غير عقلاني في مجمل الفعاليات والأوضاع السياسية والاجتماعية. ويمكن القول بأن هناك دورة معكوسة لعجلة التأريخ ابتدأت بالدوران مع تصاعد المد الرجعي وانتصار السلفية فيه.وأخذت تعمل وبشكل منظم على ثلم ونحر كافة المنجزات الحضارية التي حصل عليها الشعب العراقي عبر سنوات نضاله التاريخي الطويل والذي قدم من اجلها قرابين كثيرة كانت خيرة وصفوة أبنائه وبناته.

أن أحد أكبر التحديات المطروحة اليوم أمام الأحزاب العلمانية الديمقراطية وحركات المجتمع المدني الأخرى وجمعيات حقوق الإنسان ومناصريها هي تمسكها بالنضال من أجل قضية الحريات العامة وحقوق المواطنة، ومنها تحرر المرأة وانعتاقها، دون مجاملات وتفريط.ويقاس ذلك في مدى جدية تلك الفعاليات وقدرتها على صياغة برامج ومشاريع ومطالب ملموسة وواقعية تناصر وتساند المرأة، وتدفع عنها الضرر والإيذاء، وتشجعها للولوج والمشاركة الفعالة في الشأن العام، وتمنحها القدرة والقوة والكفاءة للتأثير والتغيير في المجتمع نحو الأحسن.


46

   
العراق يستحق الأفضل

فرات المحسن

أغلب ما يأتي من أخبار عن العراق يحتاج لتدقيق وغربلة بحثا عن حقيقة، فقد بات الشارع العراقي وبالذات السياسي منه، ملعبا واسعا لمختلف أنواع الإشاعات، وأصبح العراق بمصائبه وعديد نكباته، مادة دسمه للإعلام، لذا تتقدم الشكوك والريبة حول أي خبر يرد أو يطرح في وسائل الإعلام. وواحدة من تلك المساوئ تضارب التصريحات، حتى داخل أوساط مجموعة أو طرف سياسي واحد تخص حدثا بعينه.
على ذات المنوال ترد أخبار عديدة عن ترشيح الأحزاب والقوائم السياسية للبعض من قيادييها للطاقم الوزاري وقبله رئاسته. ولكن لحد الآن فالجميع بانتظار ما تسفر عنه التحالفات القادمة، وطبيعة التشكيلة السياسية التي تقود المرحلة، هل ستكون كتلة أغلبية أم إعادة لطبيعة الشراكة المحاصصية، بعد أن أسدل الستار على نتائج الانتخابات وعقد البرلمان العراقي وانتخب الرئيس ومساعديه ، لذا فنحن بانتظار ما تفصح عنه الأيام القادمة من خيار ينهي الالتباس والجدل حول طبيعة التشكيلة السياسية القادمة  بعد انجاز صورة رئيس العراق واكتمالها.
ليس من الصعب تقييم منجز أي سياسي وغيره من إداري السلطة في جميع مؤسسات الدولة، وخلال الفترة الممتدة من تاريخ سقوط حزب البعث على يد الأمريكان، ولحد الآن، فالشواهد على أرض الواقع تفصح عن حقيقة الأمور، لا بل تفضح الكثير من العورات والقصور. وإدارة الدولة العراقية لن ولا يمكن اختصارها فقط بالخدمات والإعمار، فهناك مستحقات بأحجام كبيرة لن يكون للسيد فلان أو علان وأمثالهم من القادة خريجي الأحزاب السياسية ،القدرة على  احتواء حتى البعض منها، وهي استحقاقات تتطلب أن يتصدى لها طاقم إداري مهني كفؤ ومتجانس.
 تلك العلة مع قلة الخبرة وضعف الدراية وانعدام المهنية وفروض المحاصصة الحزبية، واختلاط السياسي بالديني بالمهني، مثلت دائما الأسباب الرئيسية في ضعف وفشل الحكومات، على مدى السنوات التي تلت هزيمة الدكتاتورية، رغم امتداد عمرها  لأكثر من تسعة عشر عاما مضن، والذي تكررت فيها ذات المشاهد التي مورست على عهد سلطة صدام حسين ، حين استوزر الجهلة والأميين من الحزبيين ورعاع القوم لإدارة الدولة، من مثل عزة الدوري وطه الجزراوي وعلي حسن المجيد وحسين كامل وحمزة الزبيدي  وأولاده عدي وقصي وغيرهم ، ليقودوا العراق من فشل إلى فشل، ومن خراب إلى خراب، على وقع شعارات عملك شرفك ومن لا يعمل لا شرف له، والرجل المناسب في المكان المناسب، وغيرها من فنتازيا الخراب المضحك المفزع المبكي.
أعتقد أن العراق وشعبه يستحق أفضل الكوادر وانجحها لقيادته وإنقاذه من خرابه المستدام، ولذا فهو بحاجة لشخصيات علمية ومهنية ( تكنوقراط ) لا علاقة لها بتأريخ يتوكأ على نضال حزبي ووشائج شخصية وعشائرية ودينية، وضجيج إعلامي وصراع دعائي، تتغلب فيه شيم وقيم البداوة والعصبية الطائفية. فشعب العراق يستحق وينتظر نخبه الواعية الوطنية، إن كانت تحمل حقيقة حرصا وطنيا، أن تضعه واحتياجاته في مقدمة مشاريعها، لتنجز له خير ما يستحق من خدمات، وأن تقدم له خيرة نسائها ورجالها من أصحاب الخبرة والدراية، لأجل التصدي بقدرات ووعي ومهنية، لما يواجهه من تحديات كبرى، في مقدمتها إعادة الثقة بين أبنائه من طوائف وإثنيات، وقبلها بين قواه السياسية، والوقوف بحزم وحكمة، لمواجهة ما يتعرض له من مخاطر بسبب الإرهاب والمشاريع الإقليمية والدولية الساعية لإفشال محاولاته لاسترداد هويته الوطنية، وعلى أن يتم ذلك بإشاعة سلطة القانون الضامنة لحقوق الإنسان والحافظة للحريات المدنية .
 وأجزم بأن طوائف وشرائح وإثنيات العراق، تحوي الكثير من الشخصيات ذات الخبرة من المخلصين والجديرين بالثقة، يستطيعون أن يقدموا لإدارة مؤسسات الدولة جل معارفهم وتجاربهم وخبراتهم،ولتنتعش معهم وبعملهم وأفكارهم الآمال في إعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها على وفق البناء الحضاري وروح المدنية الحديثة، التي تظهر العراق كوطن يحافظ على كرامة وحرية أبنائه.  ولن يتم هذا دون أن يتخلى ( السياسيون ) عن الضجيج الإعلامي والنفس الحزبي القصير، والابتعاد عن العواطف الشعبوية الطائفية التحريضية، والمناكفات والأحقاد والمصالح الحزبية والشخصية، ولن يتم هذا أبدا دون أن يضعوا العراق والهوية الوطنية في مقدمة مشاريعهم وفي أولوية مناهجهم الفكرية والعملية .


47

فرص الاستثمار في العراق 

فرات المحسن
دائما ما تتداول في الأوساط السياسية وأيضا بين قطاعات شعبية عراقية واسعة، فكرة عن مدن آمنة، دون حذر أو تدقيق بالمعنى العام لمثل هذا التوصيف، وغالبا ما توسم مدن جنوب ووسط العراق بتلك التسمية، ويقرن التوصيف بقدرة تلك المناطق على استقبال مشاريع استثمارية، يؤمل أن يصاحبها تصاعد وتيرة دخول اليد العاملة في سوق العمل، وتطور البنى التحتية لتلك المدن، ووفرة في المردود المالي، ليأتي كل ذلك وفق توفر بيئة مناسبة يتقدمها استقرار الوضع الأمني.
 ولكن يا ترى ما طبيعة الإجراءات المتخذة لجذب الاستثمارات، وما هو وضع الأمن والآمان في تلك المدن. فلمثل هذه الموضوعة حسابات وتماثلات عديدة، لا يمكن إبعاد النظر عنها، ومنح شهادة تزكية لمثل ذلك التوصيف، دون تمليه والكشف عن طبيعة المشهد والحدث اليومي في تلك المدن.
يعد الاستثمار أحد أهم العوامل التي تدخل في تطور قطاعات الاقتصاد العام للدولة وثبات مؤسساتها المدنية. فالاستثمار يخلق فرص عمل، ويزج بالتقنيات الحديثة في مناهج التخطيط والإدارة. ويعد الوجه البارز والمعبر عن النمو والرفاه الاجتماعي أيضا، ويمكن اعتباره أداة تستغلها السلطة لتصحيح مساراتها الاقتصادية وبناء منشآتها واستقرار وثبات سياساتها الاقتصادية، وتوسع وعقلنة ومنهجية مؤسساتها. ويعد من أهم مصادر اكتساب الخبرات لصالح  بناء وإعمار البلد، ويعد ضمانة مستقبلية من خلال الحصول على مكاسب الاستثمار المستقبلية المادية والمعنوية. ولكنه دائما ما يحتاج إلى بيئة مناسبة، ليجد له موطئ قدم، ويشق طريقه بنجاح، وتلك البيئة تعتمد أساسا على عوامل كافلة وضامنة لنجاح الاستثمار، واستقراره وتقدم عملياته.
فتوفر الأمن والاستقرار السياسي، وثبات منهجية التعامل بالقوانين الضامنة لحرية وعمل الاستثمار، تعد عوامل مهمة وفاعلة في جذبه، وضمان حصوله على ما يوازي المال المتدفق والجهود والأرباح المرجوة، أيضا توفر اليد العاملة المناسبة والتسهيلات الإدارية، التي تتلاءم وعمله ، وأن تكون هناك آليات تتوافق وطبيعته والغاية منه، من مثل تخصيص الأراضي ومواقع العمل، وقربها من أماكن توفر الطاقة والمواصلات، ووجود اليد العاملة الرخيصة، وقبل كل هذا الأمن المستدام. وجميع تلك العوامل تهدف إلى تحقيق العوائد المكافئة لرأس المال المستثمر، والذي يترافق مع تنمية ثروات البلد وتأمين حاجات الناس وتوسع سوق العمل.
في مثل حال العراق، فلازالت الكثير من مناطقه، تعد حيزا طاردا للاستثمارات، بسبب العديد من العوامل التي تنتفي وتعدم فيها أغلب الشروط المذكورة أعلاه، مما يقف عائقا في وجه محاولات جذب الاستثمار الأجنبي، واشتغال وتطوير الاستثمار الوطني. فالبديهية المعروفة هي خوف رأس المال من الخسارة وضياع المال، في ساحة يتهدد فيها وجوده، على مدى ساعات اليوم. والمجازفة برأس المال، تعد حينها مغامرة غير محسوبة الخطوات، ودائما ما تكون نتائجها كارثية، لو أقدم أصحابها على عمل استثماري دون حسابات مسبقة، ليس فقط في جانب دراسة الجدوى الاقتصادية وقيم الكسب المادي، بقدر ضرورة المعرفة المسبقة والتامة والإلمام بالبيئة المناسبة للاستثمار .
التوصيف المعني بالمدن الآمنة وفي حساب المشهد الجغرافي ـ السياسي الحالي، يشمل جوانب ومقتربات حوضي دجلة والفرات، الممتد من شمال بغداد ويمكن أن تكون محافظة ديالى ضمن حيزه، حتى الحدود الجنوبية لمحافظة البصرة. وفي هذا التوصيف وحدوده يثار التساؤل عن حقيقة توفر الأمن، في تلك البقعة الواسعة ومدنها الكبيرة والصغيرة، وما طبيعة البيئة المناسبة لجذب وعمل الاستثمار؟.
يمتاز سكان تلك المناطق بعوامل مهمة، تؤثر في تشكيلة الحياة اليومية المعاشة وقيم المرء وحراكه اليومي، وتفرض العلاقات الاجتماعية عليه شروطا جبرية في مجملها، تستنزف قدراته وتبعد عنه فرص الارتقاء والتقدم، وتفقده قدراته الدفاعية. ونرى أن أولى تلك العوامل هي الفقر بسعة رقعته السكانية، وثانيها الأمية المتفشية بنسب كبيرة مع كثافة سكانية ظاهرة، ثم تأتي الانتماءات العشائرية التي تجبر المرء على البقاء تحت سطوة سلسلة من المفاهيم الاجتماعية، تؤدي إلى إجباره على ازدراء قيم الحضارة، وتجعله يشعر بالضعف والتهديد إن ابتعد عن انتمائه العشائري والمجتمعي، وتلك المفاهيم تستغله وفق قاعدة الحماية مقابل الرضوخ لتقاليد العشيرة. ومع عامل الدين الذي يمليه الوعاظ على أتباعهم، تسيطر على الناس أنواع مختلفة من التوترات الدائمة في العلاقات، تفاقمت معها الخلافات والأحقاد وصعدت من عدم الاستقرار الاجتماعي، والأهم من كل ذلك ما سببته من ثلم للمشترك الوطني بين تلك المجتمعات.
تفاقمت تلك الحالات منذ فترة امتدت على مراحل وأشكال مختلفة، منذ ما قبل العهد الملكي ثم الجمهوري، واستشرت وظهرت بأتعس صورها بعد التغيير الذي حدث عام 2003 إثر سقوط الدكتاتورية وتهشم مؤسسات الدولة على يد المحتل الأمريكي، الذي دفع العراق للانهيار مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا، وتعرضت وحدة المناطق حتى الصغيرة منها، للتصدع والاختلال في العلاقات الإنسانية. وبدأت بعض المجتمعات تتحول إلى ساحات صراع واقتتال على مصالح، أو لنسمها على حقيقتها صراع لكسب الغنائم، عبر استغلال الموقع والنفوذ والقوة. والسبب في أغلب تلك الوقائع يأتي جراء افتقاد أو خلل في سلطة القانون، الذي من الموجب أن يضع الحدود للسلوك الفردي والجماعي، وكذلك لمراعاة مصالح المجتمع العليا. ونرى أن مفهوم سلطة القانون بات مبهما ومشوها، ولا يعمل على الأخذ به وتحقيقه في مجالات عديدة. ويفرض في أغلب تلك المناطق، فقط على من يفتقد القوة المادية والمعنوية. فقد باتت العشائر والمليشيات والأحزاب، الحاكم الفعلي وأصحاب القرار الأول، والحيز الذي يلجأ إليه الناس في عرض وحل مشاكلهم. لذا نرى أن تلك المناطق تفتقد للكثير من عوامل الاستقرار المجتمعي وقبله السياسي.
ففي جانب عمل الاستثمار،دائما ما تتعرض الشركات للابتزاز والإجبار على دفع إتاوات، أو تعيين أبناء المناطق للعمل لديها، وبدون ذلك تتعرض لسرقة معداتها أو غلق الطرق بقوة السلاح لمنعها من مزاولة أعمالها. ومثل هذا الابتزاز والتهديد تتعرض له أيضا قطاعات كثيرة من الموظفين الحكوميين الذين يواجهون اعتداءات يومية. وتلك في حقيقتها نذر شر وشؤم تجاوزت جميع المحرمات، وأصبحت تهدد بنية المجتمع. ويترافق كل ذلك مع هزال السلطات المحلية ورعبها من سطوة المليشيات المسلحة وعصابات الجريمة أو ما يأتيها من تهديد من بعض العشائر الحامية لرجال العصابات، ويتزامن هذا مع فضائح مالية وسوء إدارة تقترف وسط مؤسسات الدولة ومن قبل منتسبيها، لتكون جميع تلك الأسباب مقدمات لدخول المجتمع ومؤسساته، حالة رضوخ وإرغام، لتنفجر وسط المجتمع بعدها عدوانية منفلتة وتوترات عامة، وتكون الحلول العنفية فيها السمة الغالبة، لتضمر معها كليا معالم القبول بالتغيرات الكافلة لتحول المجتمع نحو التحسن والرقي الحضاري والمدنية. عندها يصبح ذلك المجتمع مجتمعا طاردا للإصلاح والبناء وتعدم فيه كليا البيئة الجاذبة للاستثمار الوطني والخارجي.
ومع تفشي واستشراء تلك المظاهر، فقد بات من العسير على الحكومة المركزية والحكومات المحلية وضع الحلول المناسبة وطمأنة رأس المال واستقطابه. فالوضع المنفلت يتطلب حلولا جذرية وحاسمة تبدو في مظهرها العام فوق قدرات تلك السلطات. فعلى تلك السلطات الحكومية إن أرادت تقويم الأخطاء والسير بالعراق نحو التقدم وبناء الدولة المدنية وجذب الاستثمار،فعليها البدء أولا بتطهير الجهاز الحكومي من عيوبه، ثم الشروع بحماية السلطة القضائية وتطوير عملها وضمان استقلاليتها وحيادية قراراتها، وجعلها صاحبة القرار الأول في حل النزاعات. وقبل ذلك توفير قوات كافية لردع المليشيات والعصابات، ووقف تدخل العشائر ومنعها من التحكم بحياة الناس وتهديدها للأجهزة الحكومية، وفرض مفاهيمها وقراراتها عليهم. وقبل كل ذلك حصر السلاح بيد السلطة. ولتترافق كل تلك الإجراءات بوضع خطط سليمة ومناهج وقوانين وطرق وتسهيلات ضريبية وخدمية من شأنها جذب رؤوس الأموال وطمأنتها للدخول والاستثمار في الأرض العراقية.


48
المنبر الحر / حوار
« في: 19:49 23/12/2021  »


حوار

فرات المحسن
 في الجنوب البعيد، في قرية نائية. هناك حيث يغور الجوع والمرض بعيدا في تلك الشعاب والسواقي وبيوت الطين، ليصطاد ويغل حقده في صدور البشر دون رقيب وحسيب. كان جبار مطشر مهودر، بعامه الذي لم يدون في تأريخ محدد، يشذب سعفاته، استحضارا لطلب جديد. فقد أمتهن منذ طفولته صناعة المقاعد والمناضد من سعف النخيل. 
 يروي جبار مطشر مهودر بفيض من كلمات، إن عمره من عمر ملك العراق فيصل الثاني، الذي قتلته اليد الظالمة في اليوم الأول من جمهورية عبد الكريم وعبد السلام. هذا ما يؤكده جبار مطشر  بتلذذ يخالطه شيء من الحزن، حين يُسأل عن عمره. يدون في ذاكرته هذا التأريخ مع تفاصيل أخرى، يلذ له الحديث حولها، ويردف ذلك بالقول تأكيدا لما يرويه، بأنه سمع ذلك وغيره، من عمته لطيفة، التي ماتت بالتدرن بعد وفاة أمه بعشرة أعوام، لذا أحتاج لمعرفة يوم مولده مدة ليست بالقصيرة، ودائما ما يقول بأنه ما عاد يأسف لضياع أيامه، ولا حتى سنوات طويلة قضاها هاربا من الخدمة العسكرية، يجوب الهور، يعبر الحدود نحو إيران هربا من رجال الأمن العراقيين، ومن ثم يعود هاربا حين يطارد من الشرطة الإيرانية.
 كان يمط شفتيه ويشعر بالنشوة وهو يتحدث عن عمره، الذي يقرنه بولادة ملك العراق، بالرغم من أنه لا يعرف بالضبط في أي عام أو يوم ولد ذاك الملك. ولكن جبار مطشر مهودر يقول إن عمته لطيفة كانت ذكية نبهة وتؤرخ للقرية حوادثها وأبناءها، لذا لا يمكن الشك فيما تقوله أو تعلن عنه.
 دائما ما يبدو جبار مطشر في حديثه عن عمره، وكأن له علاقة قربى بذاك الشاب الجميل الطلة الأنيق الذي اغتالته رصاصات رعناء، لم تأخذ بالاعتبار حتى صلة الرحم التي تربطه بآل بيت النبوة، هكذا يصف جبار الملك فيصل الثاني والواقعة التي أسست للجمهورية الأولى في العراق.
 يسرح في البعيد، ومع دقات فأسه فوق اللوح الخشبي وهي تشذب السعف وتنضده، يتذكر سنوات عمره التي سارت بعجالة، دون أن يتغير حاله كما حال قريته المنسية الراقدة بين الماء والسماء.
فوق حصير جوار باب كوخه الطيني، جلس جبار مطشر مهودر يبسط يده ويرفعها في عمل دؤوب مثابر،تحيطه كومة سعف نخيل، وجواره جلس حفيده ذو التسعة سنين، ينظر لكف جده وهي تعمل بترو ودقة، فيشعر بذات الزهو الذي يعتمر قلب جده.

ـ جدي ، مَن هو بوش؟!
قال الحفيد وهو يتطلع لفأس جده وهي تنقر برتابة غصن السعفة لتشذبه.
بوجه باش وابتسامة عريضة أجابه الجد
ـ بوش هو رئيس أمريكا.
ـ أهو من عشيرتنا؟!
ـ كلا يا ولدي فهو رئيس أمريكا.
ـ وأين تسكن عشيرة أمريكا؟
ـ أمريكا ليست عشيرة، أمريكا دولة يا ابني.
ـ وأين تقع دولة أمريكا؟
ـ إنها بعيدة جدا عنا.
ـ أبعد من سوق الشيوخ؟
ضحك الجد بصوت مكتوم قبل أن يرد، وراح يمسد شعر حفيده :
ـ أبعد وأبعد.
ـ أبعد من الناصرية ؟.
ـ أبعد وأبعد يا ولدي. قالها وتغضن جلد خديه، حين انفرج فمه عن ابتسامة برزت معها عظام وجهه المكدود الهرم، وبقايا أسنان نخرها دخان التبغ.
ـ أبعد من بغداد؟
ـ إنها بعيدة عنا جدا، بعد السماء عن الأرض.
ـ ولكن لماذا تأتي وتضربنا بالقنابل مثلما يقول أبي.
ـ إنها تريد أن تأخذ نفطنا.
ـ ولكن جارنا أبو أرحيم جاء وأخذ منا صفيحة نفط ، برضانا دون أن يؤذينا.
ــ إنه قدر فرض علينا يا ولدي.


49
ما حقيقة أن العراق يعيش اليوم ربيع الحرية والديمقراطية

فرات المحسن
في مثل هذا المبحث تتبادر إلى الذهن الكثير من الأسئلة البحثية في محاولة لمقاربة المشهد بجميع تجلياته، فمثلا هل أن مواطني العراق يتمتعون بنوع من المساواة؟. هل أن معايير الديمقراطية تمارس داخل مؤسسات الدولة؟ ما هي وقائع الممارسات الديمقراطية في الوسط الحزبي.
 في مقدمة كل هذه الأسئلة يطرح التساؤل الأكثر حيوية عن طبيعة المؤسسات الكافلة للعملية السياسية، والمعنية بضبط إيقاع الأحداث، وارتباطها بالهدف الرئيسي وهو بناء دولة القانون والديمقراطية. بمواجهة تلك النقاط المثارة تبرز إلى الواجهة أسئلة كثيرة بالغة التعقيد لا تجد لها أجوبة وافية وشافية، بل تذهب بعيدا لتربك المشهد بعمومياته، وتفرض عالما من اليأس والفوضى المقلقة، حول مستقبل العملية السياسية في العراق وبالذات بعد اشتداد الصراع السياسي حول نتائج الانتخابات الأخيرة.
 فما فتأت الكثير من المسائل القانونية والإدارية عالقة من جانب وغامضة من جانب أخر، وتحوي الكثير من الثغرات والعقد المنهجية، وتحتاج لإعادة قراءة وترتيب عياني عقلاني، يحيط بمجمل اللوحة، لتدارك تداعيات المآل الذي دفعت إليه العملية السياسية الاجتماعية برمتها، من قبل أقطاب إدارة الدولة بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 ولحد الآن.
الكثير من مؤسسات السلطة تستغل العديد من الثغرات القانونية في متن الدستور والتشريعات البرلمانية لتدير العملية السياسية، والشأن العام والحكومي، وحتى معالجة الأحداث الكبرى، ويتخذ ذلك وفي الكثير من الأحيان، طابع السرية والتمويه وطمس المعلومة بناءً وعلى وفق طرق المحاصصة وغلق الملفات بالتراضي، أو تشكيل لجان تحقيق للتمويه وإضاعة الوقت ومن ثم إنهاء الحادث بوضعه في جعبة المجهول. ولحد الساعة لا يعرف المواطن عن نتائج أغلب الأحداث غير نتف من أخبار تتداولها وسائل الإعلام بشكل متواتر ومشوش ودعائي مربك.
الزعم بأن خروج القوات الأمريكية يمثل نهاية لمرحلة يمكن تجاوزها، لا بل مقدمة لتعميق نهج الديمقراطية، وتشديد قبضة السلطة وسيطرتها على الملف الأمني بكافة تشعباته، وتصعيد قدرتها على تبني سياسات اقتصادية اجتماعية ناجحة، كل هذا يبدو مثل أحجية يراد بها تغليف ما هو غير واقعي، بشيء من الغلبة العاطفية بحجة وجود محتل ووجوب محاربته.
 في ظني أن مثل هذا الزعم فيه الشيء الكثير من الإسفاف والمبالغة، لا بل الاستخفاف بالوقائع إن كان الأمر يتطلب وقفة جدية عند اللحظة الراهنة، أو النظر نحو مستقبل بناء الدولة العراقية الحديثة. ولكون القضايا والمواقف التي تواجه عملية البناء شائكة وبالغة الصعوبة، فهي تتطلب العديد من الاشتراطات كي تتمكن الدولة العراقية السير نحو عملية البناء الصحيح كبلد ديمقراطي بعيدا عن التنميق والتزويق المخادع.
تبدو الخلافات الشخصية وانعدام الثقة بين أطراف القوى السياسية، والتي تسيطر على مقاليد السلطة، واحدة من الإشكالات والعقد الكبيرة، تجاوره العمليات الإرهابية وما يماثلهما من عمليات نهب واسعة لموارد الدولة، وفساد إداري مستشرٍ وعميق،وسلاح منفلت ومليشيات تتحكم بمصائر الناس. كل ذلك وغيره يمثل العقبات الكأداء في وجه الانتقال نحو خيارات أفضل لبناء دولة عراقية حديثة، تتمتع بهياكل مؤسسات قانونية ديمقراطية، وهذا الشيء يخضع في المقدمة للإرادة الحقيقية والجدية، ونزوع حقيقي لدى قوى سياسية تتبنى مشروع الخيار الوطني الديمقراطي كمنهج، ليس فقط للإدارة وإنما كسلوك عام داخل أروقتها ومؤسسات الدولة. ففي رحم العملية السياسية اليوم مسائل بالغة التعقيد والأهمية، تم أفراغ محتواها، بل وبشكل متعمد تم اقصاؤها بعيدا، لتستخدم بدلا منها خيارات سياسية، يتعذر معها حماية الأفكار والمحاولات الديمقراطية حتى في جوانبها البسيطة.
الديمقراطية في العراق تعد ظاهرة حديثة بكل تجلياتها، ولم يظهر منها غير الجوانب الهامشية التي لا تمثل الجوهر الحقيقي للديمقراطية، فما نشاهده من مظاهر وظواهر، لا تمثل قطعا صورة من صور الحريات المدنية أو السلوك الديمقراطي، ومثل هذا النموذج المشوه نجده في الكثير من البلدان التي تقدم نفسها كنموذج للديمقراطية ولكن طبيعة مؤسساتها السياسية والإدارية شبيهة بمؤسسات دولة العراق في جوهرها الفوضوي القسري، لنكتشف معه عن هزال وهشاشة وتضليل وخراب عام، غالبا ما يكون على حساب مؤسسات الدولة وتشكيلاتها، حين تهمش طبيعتها القانونية الاعتبارية وحيويتها الفعلية، ليترافق ذلك بنحر متعمد للقوانين والسلوك الإداري  وتقصى بعيدا القيم الإنسانية والقوانين والحريات، لصالح مصالح شخصية وفئوية وحزبية.
إن كان الاحتلال الأمريكي قد مثل نتيجة حتمية لسياسات صدام حسين المتهورة، فأن العراق وبذات الأسباب، قد أرتهن تحت طائلة الفصل السابع من قرارات الأمم المتحدة، والتي تعد التحدي الأكبر لا بل الأهم لوضع العراق السياسي والاقتصادي وموقعه بين الأمم بعد انسحاب الأمريكان، فالقرار يضع العراق وشعبه مرتهن لجملة إجراءات كابحة على مستويات عديدة، لذا فخروج القوات الأمريكية لا يشكل نهاية المطاف مع بقاء العراق خاضعًا لبعض بنود غير ظاهرة من الفصل السابع من القرارات الأممية، ودائما ما تتخذ ذريعة لتهديد شرعية سلطته. ولكن مثل هذا الأمر لا يمنع السلطات أو الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية، ولا يعيق سعيها لبناء دولة ديمقراطية حديثة، أن كانت لديها رغبات حقيقية ونوايا حسنة ومشاعر وطنية لذلك، ولإبعاد تدخل الغير في شؤون البلد وقراره السياسي السيادي. فاستحقاقات الداخل تمثل الاختبار والخيار الحقيقي لجدية كل هؤلاء ونواياهم في موضوعة بناء الدولة الديمقراطية العصرية. ولكن المسائل العملية ما كانت لتبنى بالتمنيات والرطانة السياسية بقدر ما تحتاج إلى فهم صائب لموضوعة الديمقراطية والأيمان بضرورتها، والإقرار بصوابها كطريق للحكم وتنفيذ شروطها الموضوعية وفي مقدمتها القبول بالتداول السلمي للحكم.
إن أريد شرعنة الحياة السياسية في العراق وفق النموذج الديمقراطي، فآليات عمل النظام ومؤسساته السلطوية، يجب أن تخضع لمعايير ذات طبيعة محددة، وأن تتوفر هناك مؤسسات تكفل مثل ذلك التوجه. فحتى عمليات فرض القانون وتطبيقه ومحاربة الفساد الإداري، من الموجب أن تتماثل طبيعة حلولها مع تلك المعايير الديمقراطية، ولن تكون تلك الإجراءات بكليتها صالحة، إن لم تكن ديمقراطية، وأن لا يقتصر ذلك على محاولات إنهاء الخلافات والصراعات بمختلف تلاوينها، وإنما أيضا اعتبار الديمقراطية وسيلة للقضاء على المصالح الشخصية السياسية منها والاقتصادية والفئوية.
الإدعاء بالسلوك الديمقراطي لا يشفع لهياكل ومؤسسات السلطة في العراق بممارسة عملها، دون أن تواجه الفضح والكشف عن طبيعة ذلك الإدعاء. فهناك وهذا مشخص ومعروف، الكثير من القصور ليس في مستوى الوعي بطبيعة الديمقراطية، وإنما خلو تشكيلة السلطات الثلاث من تشريعات وقواعد تعد ركائز أساسية وضامنة للسير وفق النموذج الديمقراطي. وتختفي في خضم الصراع السياسي بين الفرقاء، تشريعات أساسية ممهدة، لا بل هي من صلب البناء الديمقراطي. فلحد الآن تفتقر الدولة لقوانين عديدة منها قانون لمفوضية انتخابات مستقلة بشكل حقيقي وناجز لا لبس فيه، وليس كما عليه الحال حتى وإن كانت من صلب القضاء. حيث تتقاسمها خيارات ومصالح حزبية وشخصية، ومثلها باقي المفوضيات من مثل النزاهة وحقوق الإنسان.
 وتتخاصم الكتل الحاكمة اليوم حول برنامج يضع نموذجا متوازنا لقانون الإحصاء السكاني يكفل الحصول على طبيعة التشكيلات السكانية وحاجاتها الأساسية، وحراكها وفاعليتها ككتل وأشخاص لهم مواقعهم المكفولة الحريات، في بلد متعدد الطوائف والقوميات.أيضا تخلو العملية الانتخابية ليس فقط من تعداد حقيقي للسكان يساعد على بناء الثقة في توزيع المقاعد البرلمانية حسب الحصص السكانية الحقيقية. وما عاد هناك قانون ثابت للعملية الانتخابية يأخذ في الحسبان الخيارات المثلى للناخب وحقيقة التركيبة السكانية للعراق، وهذا يشكل واحدا من شروط إنجاح العملية الانتخابية. وفي ذات الوقت يحاذر أغلب قادة السلطة من وضع قانون مجلس الخدمة بصيغة علمية عملية، تبعد الأحزاب السلطوية وتحجب عنها القدرة في مسائل السيطرة على التعيينات والوظائف في مؤسسات ودوائر الدولة، مثلما يحرص الكثير من الفرقاء على نبذ أي محاولة لوضع قانون لمؤسسة ديوان الرقابة المالية.
جميع تلك الهياكل والتشريعات، تعد من الشروط الموجب توفرها في دولة تسعى لتكون سنن القوانين، رافع رئيسي لشرعية السلطة. ولكننا نرى أن الحال لا يقتصر على اختفاء وتغييب تلك الهياكل والتشريعات، بل تحرص الأحزاب المشاركة في إدارة السلطة على  تسيير العملية السياسية على وفق منطق الأهواء والرغبات، وحصر الصلاحيات وتمرير القوانين من خلال رؤساء الكتل أو الرجال الأقوياء فيها، مع طمس أصوات وتكميم أفواه، ومنها أعضاء مجلس النواب. فعملية التصويت في البرلمان مازالت تخضع لإجراءات العد برفع الأيادي، رغم أن برلمانات بلدان فقيرة اعتمدت التصويت الالكتروني، تحاشيا للخطأ وسرية الخيار، ولكن في العراق تصر الكتل وقادتها على ارتهان أعضاء قوائمهم، في ذات دائرة الكتلة، ومنعهم من قول ما يخالف ذلك، لذا لن يرى التصويت الالكتروني النور، ما بقى تقاسم السلطة وفق طرق المحاصصة والتوافق على إغلاق وحصر دائرة القرار بيد رؤساء الكتل وقادتها، وليت أن الأمر في البرلمان يقتصر على ذلك، ولكنه يذهب بعيدا ليقف رؤساء الكتل البرلمانية وتوابعهم، موقفا غريبا ومنحازا وبالضد من الديمقراطية حين يتم الحديث عن تشريع حقيقي لقانون تنظيم عمل الأحزاب في العراق.
إن مثل هذا الكم من المخالفات يجعل نموذج الدولة في العراق، لا يخرج عن طبيعة التجريب السياسي بمسمى الديمقراطية، والذي يسمح بأن يطلق على مثل هذا النموذج الفريد من نوعه بين البلدان، ببلد ديمقراطية الرطانة والهذر ليس إلا. 






50
فرات المحسن
شيء من سيرة حسوني الغريب
لوح الرخام
مرر كفه فوق وجهها الأملس ومسح عنها التراب العالق، فظهرت عروق الرخام البنية، مثل لوحة لشجرة تتدلى أغصانها نحو الأرض. دسها تحت ثوبه، وعاد بعجالة إلى البيت. قدر حجمها ثم وضعها تحت سريره. كانت قطعة رخام جذابة أغرته بجمالها فخبأها عن الأعين. حدث ذلك في ربيع عامه الرابع عشر. اليوم تذكرها، فجأة قفزت إلى ذهنه ومعها فكرة مثل ومضة برق.
ذهب حيث خبأها وسحبها من تحت السرير، مسد وجهها، وأزال عنها بطرف ثوبه غبار السنتين الماضيتين. ابتسامة عريضة بغمازتين غائرتين ارتسمت فوق وجنتيه. يأخذها معه إلى ساحة التحرير، هكذا فكر، ولكنه في النهاية استغنى عن ذلك، فلا حاجة لمثل هذا في الوقت الراهن.
في الخيمة التي اعتاد المرابطة داخلها وسط ساحة التحرير، وفي ذلك المساء المليء بالدخان الخانق، سأل عنه فأجابوه، أنه يسمى النقاش أو النحات. وبدوره كان قد عرفه بهذا الاسم. يسمونه النقاش، اكتفى في بادئ الأمر بهذا، مثلما سبقه الجميع بالإحجام عن الإلحاح في البحث عن معنى كلمة نقاش.
 كان النقاش ضعيف البنية بلحية كثة،أغلب الأوقات يشاهد ساهيا يطالع الجدران وينفث دخان سيجارة، أبدا ما سقطت من فمه. لم يكن يغادر الطابق الثالث من المطعم التركي، الذي سمي بجبل التحرير أو أُحدْ، إلا نادرًا. 
تعرف حسوني عليه بواسطة إبراهيم أبن المعلم جودة الجواهري. حينها قدمه أليه مع سلام حار وتحايا متبادلة. سماه بالنقاش، مثلما يفعل الآخرون ، ربما اختفى أسمه أمام ذلك اللقب، وما عاد أحد يجهد لمعرفة اسمه الحقيقي، فهنا تختفي الكثير من الأسماء لتحل بدلها ألقاب أو صفات، بعضها يكون مضحكا والبعض الأخر مؤسيا.
كان حسوني الغريب يظن أنه الحائر الوحيد أمام تسمية نقاش، فقد أدهشه الاسم حين سمعه للمرة الأولى، لم يجد من يفسر له هذا، ولم تسعفه ذاكرته حينها، ولا حتى شطارته في الحصول على المعنى الكامل لكلمة نقاش، فخزينه من المعرفة تفتح في السوق الشعبي لمدينة الحرية الثانية، برفقة عربة حمل صغيرة، يسحبها جسده الصغير بتثاقل، منذ الصباح الباكر، لحين الشعور بالإنهاك عند غروب الشمس. لم يرغب أن تكون هذه العربة عدته لزمن طويل، لذا جازف ليمتلك من خلال الاستلاف عربة التك تك التي أطلق عليها دون تردد ومنذ اللحظة الأولى، وحين أصبحت ملكا حلالا له،أسم رجاء. وضع القطعة الخشبية المربعة الصغيرة بلونها الأحمر القاني، وقرر أن يكون الاسم بصبغة الفسفور الأخضر المشع، وبيقين راسخ كانت قناعته بأن هذا اللون سيضيء في الظلمة عند عودته مساءً، فيشع أسم رجاء براقا، عندها يطالعها المارة فيشاطرونه فرحه.
 وقتذاك علق القطعة الخشبية جوار مصباح العربة الأمامي، وراح  بموجة ضحك يضرب معها الأرض بقدميه، ويصرخ مطلقا بهجة، كانت تنفلت مثل ومض شعاع من بين جوانحه الطرية . شاركه رفاقه الصبية فرحه وصراخه، وراحوا يربتون على كتفه وظهره، ويقبلونه مباركين له الانتصار الباهر. كان أسم رجاء يعني له أول نشوة روح لصبي بلغ الحلم. فرجاء جارتهم الحلوة التي رحلت قبل عام مع أهلها نحو أقصى الجنوب، تركت في صدره لوعة حارقة، فطبع أسمها بين شغاف قلبه، ولن يفرط بذلك لحين الموت، كما عاهد نفسه وعاهدها في ذلك الليل البهيم الحزين حين أخبرته برحيلها.   ما الذي تعنيه كلمة نقاش؟ سارع إبراهيم أبن المعلم جودة ألجواهري وهو من كان يجاوره في الخيمة عند الطرف القريب من نفق التحرير، بالإجابة على سؤاله .
ــ النقاش أوالنحات يا صديقي يعني المَثّال الذي يصنع التماثيل ويشذب الحجر بأزميله الحديدي الحاد أو يحفر في الحجر.
برزت أمامه كلمات غريبة كان يحتاج الكثير للتعرف عليها جيدا ، قبل أن تفلت من تلافيف دماغه، نقاش، نحات، مَثّال، يشذب ثم أزميل ، لقد ولجت خاطره مثل سمكات وضعت في حوض ماء، ما كان الحوض ليسعها جميعا،  لذا راحت تلوب دون مهرب. فرك فروة رأسه المشعثة ومال بجسده نحو إبراهيم وهمس.
ــ تريد لي الجنون قبل موتي؟.
 ثم طلب من إبراهيم الخروج من الخيمة والجلوس في عربة التك تك.
كان الهواء ساكنا ثقيلا مضمخا بروائح عفنة لبقايا الغاز المسيل للدموع . بابتسامة عريضة وبصوت دافئ ودود شرح له إبراهيم باقتضاب وبكلمات بسيطة، معاني تلك الكلمات، فشعر بالراحة وانبسطت أساريره وبصوت خافت قال:
ــ حبيبي برهوم، أود أخبارك بشيء، لا أريد أن يعرفه غيرنا.
ــ قل، سر ؟
ــ كلا ليس سرًا وإنما شيء خاص بي .
ــ تحدث عزيزي ربما أنفع في بعض الحالات.
ــ في البيت عندي قطعة مرمر أود أن يخط النقاش عليها أسمي وأسم حبيبتي.
ــ واو يا صاحبي لديك حب تخفيه عني.
ــ كلا يا صديقي كان ذلك في زمن مضى، ولكنه بقى عالقا في القلب.
ــ هل تركتك ؟
ــ شيء من هذا القبيل ، فقد رحلت مع أهلها قبل عام، ولم أعد أعرف عنها شيئا.
ــ رحلت بعيدا ؟
ــ بعيدا جدا حيث الجنوب.
ــ ولمَ تود وضع أسمها جوار أسمك ولأي غاية تفعل هذا؟
ــ ألم يتعلق قلبك بفتاة ؟
ــ نعم ومعها لحد الآن.
ــ إنها معي في خاطري وفي قلبي، وأشعر أنها تحس بما أضمره لها في صدري.
ــ حب جنوني .
ــ سمه ما تشاء، ألم تسمع أغنية راغب علامة توأم روحي؟
ــ وماذا يقول راغب في هذا الشأن.
ــ أجمل حاجة يروحي أنك توأم روحي وحبك أملي وروحي.
ثم أطلق ضحكته الرنانة المتقطعة التي تشبه بتموجاتها صياح الديك الرومي.
كان حسوني الغريب قد تعرف على إبراهيم في وقت حرج جدا،فهو من أسعفه بعربة التك تك، وحمله حيث العيادة الطبية، بعد أن جرح بطلق ناري أخترق ذراعه الأيسر، وبعد أن تعافى إبراهيم، عاد لمهنته كصائد لقنابل الغاز، إثرها باتا صديقين يتبادلان الأحاديث والنكات بجدية وأريحية، رغم أن إبراهيم يكبر حسوني الغريب بخمس سنين.
***
كان حسوني الغريب قصيرا ضعيفا حنطي البشرة. لم يسبق له الجلوس أمام مرآة لتسرح له أمه شعره المقصب، حتى حين كان عليه الذهاب إلى المدرسة، التي عافها عند الصف الخامس ابتدائي، لم يفكر يوما بطبيعة شعره المميز، ولا حتى يعترض على من يعيبه عليه. ترك الدراسة بعد موت أبيه مباشرة. ذلك اليوم لم تدمع له عين، ولكنه عند الساعة الأولى حسم أمره مع المدرسة، بعد أن شعر بفطرة الصبي المنكوب، بأن ليس هناك معين بعد اليوم له ولأمه المريضة، لذا أتخذ القرار دون نقاش مع احد. بدورها لم تعترض الأم، وما كانت لعلتها تستطيع ذلك، وماتت في السنة التالية، بعد أن خذلها قلبها. بعد أيام قليلة من موتها، وجد نفسه يتأبط قطعتي ثياب، وهي كل ما كان يملك، ويدب مكسور الخاطر نحو بيت عمه البصير، تاركاً وراءه تلك الحجرة الصغيرة، بسقفها الصفيحي المدوي كالطبول حين المطر، والضاج أيام الريح العاتية.
 ليس بالوقت الطويل حين وجد نفسه مثل دابة، يلف ويدور وسط سوق الخضار القريب ليقدم خدماته لمن يحتاجها، ذلك ما أراده العم فأطاع، وبفضل روحه الخدوم كسب مودة وعطف الناس. ثم حصل على عربة صغيرة بثلاث عجلات، راح معها يجوب السوق، رغم ثقلها على جسده الناحل. في قيظ بعض النهارات كان يجتزئ بعض وقت، ليلعب كرة القدم مع أقرانه، في الساحة المجاورة للسوق والملاصقة لمدرسة الحي. كان جل هؤلاء الصبية الذين يشاطرهم اللعب من الطلاب الذين يفضلون اللهو على الدروس الجافة المتعبة، فيهربون خلال الفسحات الدراسية ويتجمعون في الساحة المتربة.
كان حلمه الوحيد والكبير قبل أن يتعرف على رجاء، أن يرى عربته الخشبية تتحول إلى سيارة حمل يجلب بها الخضار من مختلف المدن القريبة والبعيدة عن بغداد، وكان يرسم لذلك مشاريع كبيرة، بأحلام تتجاوز عمره الصغير، قص بعضًا منها لصديقه إبراهيم جودة الجواهري، الذي لم يبخل عليه بالتشجيع والحث على تطوير مهنته مستقبلا بعد نجاح الانتفاضة.
ــ ومن أين لك قطعة الرخام هذه؟
ــ ذات يوم وجدتها مطروحة عند طرف السوق.
ــ ربما كانت عائدة لأحدهم؟
ــ لم تكن لأحد، وكانت مهملة لأيام عديدة، وقد أعجبتني فأخذتها.
هكذا قص حسوني الغريب حكايته مع قطعة الرخام، بعد أن جلبها وعرضها على صديقه إبراهيم، وطلب منه الذهاب حيث يجلس النقاش ليعرضها عليه، ويطلب منه النقش على وجهها بخط عريض وجميل (( حسوني الغريب ورجاء إلى الأبد )) طلب هذا دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن كيفية عمل النقاش، وود لو جلس ليشاهد الأزميل وهو يحفر أحرف أسمه جوار أسم رجاء.
تناول النقاش قطعة الرخام ووضعها خلف ظهره، ودون في دفتره الصغير وهو يبتسم، أسم حسوني الغريب وجواره أسم رجاء ثم إلى الأبد.
ــ يومان يا صديقي .
ــ أليس ذلك بوقت طويل.
ــ حسنا أجعلها ثلاثة أيام . وأطلق ضحكة مكتومة وهو يتفحص وجه حسوني الغريب، الذي أدار وجهه المخذول نحو صاحبه إبراهيم، وبعيون قلقة مرتبكة وكأنه يحثه على التدخل وحسم الأمر.فأجابه إبراهيم
ــ أوكي حسوني الحبيب يومين ليست بالكثير ونأتي لأخذها .

***
أحتضن حسوني الغريب لوح الرخام وكأنه يخاف أن يفلت من بين يديه ويتهشم. كان يهبط السلم بحذر ويراقب أقدامه وهي تتلمس مكانها فوق درجات السلم الأسمنتي خوفا من زلل. تبادل الابتسامة مع صاحبه إبراهيم، ووضع لوح المرمر فوق مقعد عربة التك تك وراح يزيل بسرعة وفرح غامر الحبل الرابط للوح الخشبي.
ــ برهوم حبيبي تعتقد الحبل هذا يكفي لحمل وتثبيت لوح المرمر .
ــ تستطيع أن تجد حبلا آخر أكثر متانة من هذه الحبال.أدخل الخيمة، هناك مجموعة أسلاك يمكنك اخذ بعضٍ منها واستخدامها لحمل اللوح المرمري.
ــ فكرة سليمة جدا.
شد بقوة على رأسي السلك وسحبهما أليه ثم لفهما بقوة وربطهما بالحامل الحديدي لمقدمة عربة التك تك،وأبتعد ليتأمل وضع لوح المرمر. صفق بيديه فرحا وسحب صاحبه إبراهيم من ساعده، ووقفا أمام عربة التك تك يتمليان اللوح الرخامي المحفور فوق وجهه بلون فاحم بارز(( حسوني الغريب ورجاء إلى الأبد )). جلس حسوني القرفصاء وطلب من إبراهيم الجلوس جواره والنظر لهذا التغيير الجميل الذي أحدثه اللوح الرخامي، وكيف أصبح عليه منظر مقدمة العربة وهي تحمل هذا اللوح، وقد تشابكت فيه عروق الرخام البنية لتكون منظرا لشجرة متدلية بأغصانها تحتضن أسمه وأسم رجاء.
ــ كم هي جميلة هذه اللوحة، أشعر أن رجاء تعرف ما فعلته ليكون أسمها جواري وإلى الأبد.
ــ كل شيء جميل يا ...
لم يكمل إبراهيم جملته فقد شتت ذهنه صفير المقذوف وهو يخترق صفو المكان، وأحس به  يخطر مثل البرق ليحاذي رأسه . فجأة سمع صرخة ألم ندت عن حسوني. كانت قذيفة الدخان المسيل للدموع قد اخترقت رأسه من جانب الصدغ الأيسر وتوغلت بأكثر من النصف داخل رأسه الصغير. كان الدخان يفور خارجا من الرأس ليشكل كتلة ضباب غطت وجه حسوني الغريب ، مال جسده نحو الخلف وأخذ يتلوى مثل ذبيح . بضع ثوان وخمدت حركته.



51
المنبر الحر / الناجي الوحيد
« في: 19:05 08/10/2021  »


الناجي الوحيد


فرات المحسن
للمرة الخامسة يأتون به إلى هنا، مشدوهًا متوترًا تدور عيناه برعب وقلق بين الوجوه وجدران البناية. خطواته كانت ثقيلة مرتبكة، وثوبه كالح مغبر. إبراهيم خضير عبد النبي جندي مطوع، قبل الحادث بثلاثة أشهر لا غير، هكذا ورد أسمه ووقائع خدمته العسكرية، في سجلات وزارة الدفاع، ومثلها عند مختار مدينته. اسم أمه نجية فزع هذال، وهو أبنها الوحيد على رأس ثلاث فتيات، وهي من ترافقه كل مرة حين يطلبونه للتحقيق.
في الغرفة ذات الجدران الكالحة الألوان، جلس مضطرب الفكر، يجول بنظراته الفزعة فضاء الغرفة. أمامه لوحة كبيرة خط عليها بلون ذهبي وعلى خلفية سوداء آية قرآنية. كل شيء سواها وكرسيين متقابلين ومنضدة عريضة، كان محتوى الغرفة الواسعة، التي تردد جدرانها صدى أصوات تهذر في الخارج.
 جلس العقيد عند الكرسي المقابل، ببذلة جديدة مكوية ومنشاة،خلع غطاء الرأس ورماه إلى المنضدة، وراح يفرك راحتي يديه ويزفر متبرما.البارحة لم تكن ليلة ذات طعم، فقد أضطر لترك مجموعة الأصدقاء قبل الساعة العاشرة ليلا، دون أن ينال منهم ما يشفي غليله، مثلما كان يأمل حدوثه كما الليالي السابقة، وأضطر لتناول عشائه في مطعم رديء الخدمة عند نهاية شارعهم، بعد أن أخبرته زوجته هاتفيا بطلب والدتها وأخواتها المبيت عندهن فوافقتهن، وتذكرت مع كلمات خجولة ومتسرعة، بأنها نست أن تعد له الطعام.
ـ هيا أخبرني، ما الذي حدث يا إبراهيم، أين كنت حين حدثت المجزرة؟ لا تخف حدثني بالتفصيل. لن يؤذيك أحد.
هكذا بادر العقيد بطرح أسئلته. كان يرغب بالحصول من إبراهيم خضير على معلومة تفيد التحقيق، حول ما حدث هناك، ليعد تقريره، الذي وعد به مرؤوسيه عن طبيعة الحادث الجلل.
ـ لقد سحبونا جميعا، هرولنا، أوقفونا بالطابور، كان ذلك يوم الخميس في مدرسة طارق بن زياد الابتدائية، كنت أقف نهاية الطابور من الصف السادس، وكانت ساعة رفع العلم. وقفنا صفا واحدا ننشد للعلم، فجأة زمجر الرصاص، فار الدم وغطى كل شيء، كان جسده ثقيلا حين هوى فوقي، غطاني بالكامل وسال دمه فوق وجهي، وما لبث أن صمت كل شيء، ولم أعد أسمع نشيد رفعة العلم.

ـ حسنا أبني ..هل شاهدت وجوه من أطلق عليكم النار، ألم تتعرف على أحد منهم؟

ـ كنا لاهين ننشد نشيد رفعة العلم.

ـ يا ابني أي رفعة علم تتحدث عنها. حدثني عن المجزرة التي حدثت لك وللآخرين في معسكركم خارج المدينة، انتبه لي جيدا، حاول أن تتذكر.
قالها وهو يبتلع ريقه الجاف، وينظر نحو زجاج الباب، حيث عيون الجنود تتلصص بين فينة وأخرى.
ـ كنت عند نهاية الطابور الذي رصفونا فيه، انطلقنا ننشد نشيد رفعة العلم، ثم لم نسمع غير صوت الرصاص.
ـ ولكن هذا لا ينفع في شيء، انتبه لي جيداً وحدثني عن واقعة المعسكر، ما الذي تتذكره منها.
قال العقيد جملته متبرما، وبجزع ظاهر أشعل سيجارة أخرى، وراح ينفث دخانها بعجالة وغضب.
ـ كنت أقف نهاية الطابور في الصف السادس في مدرستنا مدرسة طارق بن زياد يوم الخميس، رفعنا العلم وأنشدنا، ثم أمطرت السماء رصاصا، بعدها غطانا جميعا دم أحمر قان، فلم أستطع إكمال الإنشاد مع أصحابي.
مثل المرات السابقة دعك العقيد سيجارته بكعب حذائه وصاح مناديا الحرس.

ـ تعالوا خذوه إلى عائلته، لا نفع يرجى منه.










52
المنبر الحر / انتخابات الهيونطة
« في: 17:22 25/09/2021  »
انتخابات الهيونطة
فرات المحسن
في الطرف القصي من مقهى أبو شلش جلست استظل من سعير الصيف الذي اجتاح المدينة، بسعفات مروحة بالكاد تحرك الهواء الثقيل المشبع بالرطوبة.
مو خوش، إذا أبقه أسولف بالفصحى ما تجي السالفة حلوه، وطعمه يصير باهت حيل.
دخلت لكهوة أبو شلش، شارد من اللاهب ألي يسمط سمط، وجلست تحت بنكة السقف التعبانه،وجانت تفر نفسه فحطانه، وتدفع هوه رطب ولافح. جنت حيل مكتئب، ومخي رايح بعيد، والضغط صاعد لأبو موزه، فطلبت جاي حامض، بلجي يعدل مزاجي. أبو شلش جاب الجاي، وجان فرحان يجقجق بالستكان والماعون.ما كذبت خبر، رأسا جريته ساده، وبالعكس جان تصعد الحموضة على أفادي ووصلت البلعومي.
فجأة دخل صاحبي الورواري أبو شامل، كصير مدعبل جنه حيدر العبادي بعد ما خرط بنطرونه وسميناه أبو سوف. أبو شامل هم مثلي صلعته تلمع بالحر. وجماله أقجم، وكصته مفلطحه جنهه كشر ركي. وحواجبه بيض معكودات مثل جبن مشلله.
ــ ها حبي أبو الشباب شنو أخبارك.
ــ أولا انه صار عمري فوك السبعين بنص أوكَيه، فخلي الشباب ألك، ولو انته أدرد ولا سن باقي بحلكَك. ثانيا شنو أخباري،هذا بالله سؤال، شنو تشاقه مو أنت تعرف السالفه صعبه ومخربطه ولاكفه طين.
ــ ليش داد مو بعد جم يوم عيد ميلادك حسب علمي.
ــ يابعد جم يوم . بعد هوايه.انه مواليدي بشهر أكتوبر يوم عشرة .
ــ أي والله نسيت شلون صدفه حلوه يعني بيوم الانتخابات العراقية.
ــ أي نعم بيوم رفعة العلم الله يجرم،  راح أتنافس ويه المالكي والحلبوسي وخميس الخنجر وكاكه مسعود وهادي العامري ومقتدى وباقي شلة الحواسم من المشاركين بالروليت العراقي، والسحبه راح تكون تحت أشراف الهولندية جينين  بل سختات، صديقة أبو فدك، ألي راتبه هيه وعيشته ويه ربعه بالمكتب ألأممي من ضلوع العراقيين.
ــ هاي شنو أبو فريته ليش ما مكيف، راح عيد ميلادك يتخلد ويه يوم الانتخابات العراقية.
ــ والله ساعة السوده على هذا اليوم ألي يتنافس ويصادف عيد ميلادي ويه انتخابات  شعيط ومعيط وجرار الخيط.
ــ يابه سمي بسم الرحمن، أنت اليوم عصبي وضايج وطافره روحك.
ــ ليش ما أضوج وأنه أتذكر هذا اليوم بي أحداث هوايه حلوه، بس هذوله القشامر سودوه وصخموه .فعشرة أكتوبر، أي يوم عشرة من الشهر العاشر تشرين الأول، ما يبقه وراه غير شهرين ونص، لو شويه أكثر على رأس السنة الجديدة، والعالم تستقبله عام جديد بالأفراح والليالي الملاح، بس العراقيين، من عزه إلى صخام ولطام، وبجي ونوح. والعلمك أبو شامل، باليوم العاشر يصادف ولادة الرسام الفرنسي أنطوان واتو عام 1684 ، وولادة جوسبي فردي الموسيقار الأيطالي عام 1813 ،والكاتب الروائي والمسرحي الفنلندي الكسيس كيفي  عام 1834 . هذولة الواحد يفتخر يصادف عيد ميلاده وياهم .
ــ أيباه، وانت شنو من هذوله، عمامك، خوالك،لو من حمولتهم، لتتعيقل براسي على أساس هذوله همه ربعك، ويشاركوك مناسبة عيد ميلادك.
ــ أي هذوله أريد عيد ميلادي يطبك وياهم، ويكون بنفس يومهم، مو بيوم انتخابات لتدوير النفايات.
ــ بروح ذاك ألما أريد أجيب طاريه، عود شنو تدوير النفايات ؟
ــ تعال فهمه شنو تدوير النفايات.أبو شامل، النفايات يعني الزبالة، والانتخابات هذي مثل سابقته، راح ترجع نفس الوجوه ألي شاركت بالحكم، وهم نشوف رئيس وزراء ما يصير أله شيعي، وتكوم فحول التوث تتعارك حتى تجيب فحل اثول مدبغ بتأييد من ولاية الفقيه. ورئيس الجمهورية كردي، ونفس القوانه اتحادي لو ديمقراطي، بس هاي المرة ما تقبل غلط الرئيس مسعود يملخ اليتقرب للمنصب، وحاط واحد جوه أباطه. وكل عاده، رئيس البرلمان سني، وهاي المرة لو حلبوصي لو خنجوري وبوصاية أبو ميزن، وباقي مناصب الدولة تتوزيع مثل الطماطة والخيار والبتيته بين حرامية الحكم، وكلشي أملح وحار جوه يخيار.
ــ يمعود سمي بس الرحمان وخلينه نحتفل بيوم عيد ميلادك، وبهاي المناسبة دزلي على جاي يعدل الراس.وأسأل رب العباد، كون عيد ميلادك يجي بصف عيد ميلاد واحد مسنع وحباب، لو مناسبة حادث جبير هز العالم.
ــ أي هذا الحجي المعدل، مو يصادف عيد ميلادي بيوم انتخابات السلاح المنفلت فوك روس الناس والفشك يور ور، بعد أن شاركت الأحزاب المسلحة بالانتخابات، والفلوس عد الأحزاب ما ينعرف منين مصادره، وتلث ترباعه بوك من المال العام، وقانون يقسم البلد حصة لهذا الحزب وحصة لذاك، وأدير الانتخابات مفوضية مال شرطة، مو مفوضية مستقلة. أبو شامل لتكلي ليش ضايج وأنت دائما بيوم عيد ميلادي تكرط المزة كرط وتلط البطل ولا جنك. وهذي السنة تره ماراح تشوف كلشي، يابسة وتمن وبح، وزردومك ما يحصل على دسم، لأن أغلق الموضوع وراح عيد الميلاد وماكو فرحه وجمبارات.
وبالمناسبة  تدري شكد جنت فرحان لان عيد ميلادي يصادف بنفس شهر ثورة أكتوبر واسمع نشيد الأممية تغنيه فرقة الطريق وأوكَف رافع راسي وأعيط وياهم.
هبوا ضحايا الاضطهاد..ضحايا جوع الاضطرار .. هبوا لاح الظفر.....
وهماتين مكيف لأن هناك الاحتفال كل أول جمعه بشهر تشرين الأول أكتوبر بيوم الابتسامة،بلجي الله يفتحه بوجهك أبو شامل وتروح منه العقجات والطركات.
وهناك يوم يسمى اليوم العالمي للاعنف ويصادف يوم 2 تشرين الأول وهو يوم ولادة المهاتما غاندي، ويكون هذا اليوم رسالة لتعليم طرق اللاعنف بالحياة، يعني ضد السلاح المنفلت والعنف ألي ينغص حياة العراقيين.
وهناك اليوم العالمي للصحة النفسية ويصادف في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر، وهو يوم خاص للتوعية والكشف عن الصحة العقلية، وبلجي الله ورسله وكتبه، يدزلنه واحد يكشف على خبالات هوايه من السياسيين بالعراق وأمراضهم وعقدهم النفسية، وبيا طوله يحشرهم.
وصراحه أنا مكيف لأن عيد ميلادي يصادف ويه العيد الوطني الصيني، والناس تتجمع تحتفل بساحة تيانانمن.وهذا فرحنه واليحبنه يفرح ويانه.
 ويكلي ليش ضايج أذا راح تكابلني بيوم عشرة أكتوبر، يعني بفرحتي بيوم عيد ميلادي الميمون، صور صخيل وأبو دريل وحرامي الليل.

 
 

53
المنبر الحر / مازلت أتوطن كابوسي
« في: 22:36 07/09/2021  »


مازلت أتوطن كابوسي

في أحلامي التي لم أدمن تفسيرها.. أغواني العراف للمرة الألف أن أشي للغربان والصعاليك  عن موضع أساي ووحدتي، فحملوا معاولهم ومجارفهم وأهالوا على جسدي كومة حزن آخر، فشاطرتهم حفل الفجيعة .
كان ذلك يوماً آخر لم أفكر في عبوره أو مغادرته، أخيراً وضعته في جعبتي وغفوت.
حين استيقظت وجدته جواري ..كان هناك من ينتظرني.
ثمة أشخاص اعرفهم منذ سنواتي البعيدة ..وجوه غاضبة غصت بها فسحة روحي، تَدرجُ مثل القطا لتخرج من نفق معتم فاستقبلها ببلاهتي.
هو يوم آخر مفعم بالأحزان ومغطى بالجدب، لم يغادرني بعد أن ارتضاه خوفي. يلتصق جواري مثل حلزون لزج.
ضجرتُ، صرختُ أن أبتعد.. وضع كفه فوق صدغي فغفوت.. همس في حلمي.. أصمت أيها البائس هذا خيار جسدك، وأنت ارتضيته فكفّ عن الشكوى والتذمر.
كانت الشمس تسقط ضوءها مثل جمرات نار.. نزّ جسدي عرقًا ساخنًا حين استيقظت، وكانت كفه تضغط فوق صدغي الناط العروق.
يوم آخر جاورني لا يريد مغادرتي.. فأجهشت بالبكاء
 ومازلت أتوطن كابوسي






54
المنبر الحر / دعوة لكابوس
« في: 21:46 24/08/2021  »

دعوة لكابوس

دعيتُ لوجبة بكاء مر... فقبلت، فجيعة أعلنوها فكنت أحدهم، ومثلهم محرضا عليها.
 قالوا تعال نسكب الدمع، فلسنا سوى أبناء بررة لهؤلاء القتلى المرميون كل يوم، عند منعطفات الشوارع.
كانوا حفنة بشر دون ملامح، وسط الصخب يتوارثون المواجع.
 لم أدخر شيئًا تلك اللحظة، فروحي عافت جسدي، وأمست معلقة بأرجوحة وجوه الموتى فتناولت منديلي وبكيت.
ضجوا مهللين وهم يشاهدون دمعي المدرار. صمتوا يترقبون حسرتي وتأوهي فغافلتهم وتسربت مني ضحكة ضاجة.
لم أجد الساعة مخرجًا لحزني غير الضحك، فليس في جسدي ما يثير الشجون..
ثبتُ لرشدي، انتابني القلق أن أكون قد أصبت بلوثة. حملقت بأجساد الموتى وكنت حينها وجلاً مرعوبًا.
 أخفيت نشيجي، فتورم صدغي وأرتفع ضغط دمي. تحسست ورقة الدعوة، فدعكت دمعتي وأخفيتها في جيب سروالي، أخفيتها عدة لأيام قادمة، ربما أذرفها أو أبيعها لموت جديد.
كنت أرتجف وجسدي يتفصد عرقًا، تلمست ورقة الدعوة ثانيًة.
 ندمت،فقد كنت عجولا حين قبلت الدعوة دون تردد.
صَمتُ وأخفيت صوت نشيجي في المنديل.. عندها كانت حدقتا عينيّ تحدقان في الفجيعة البعيدة.
يرتفع ضغط دمي مجددا، وترتخي الشرايين في صدغي لتستوعب هديره.
 أطالع أفقا مغبرًا بهيميًا، تنط منه رؤوس دون ملامح .. رحت في نحيب طويل ، يتساقط دمعي فوق راحة يدي فيبدو بلورًا شفافًا.
استيقظت فزعًا وتلمست جيب سروالي، فتيقنت من وجود الورقة. فقد كنت أنتظر دعوة جديدة في يوم آخر أهرب فيه من فجيعتي.. الخاصة.







55
المنبر الحر / جرذ حفر الباطن
« في: 01:56 05/08/2021  »


جرذ حفر الباطن

أطل عريف شاكر برأسه عبر الباب الضيق للملجأ وقال :
ــ أتيت لأبلغك بأن عبد الرحمن سوف يذهب غداً بمأمورية إلى بغداد، تستطيع أن تبعث معه رسالة إلى أهلك ، هو من أخبرني بذلك، فقد طلب منه مساعد الفوج نقل وإيصال رسائل جميع من يسكن أهلهم مدينة بغداد، قرار إيصال الرسائل جزء من المأمورية الموعودة.
ـ ربما أفعل، أحاول ،شكرا.
قلت ذلك وأنا أشعر بكدر وخواء يشطر روحي ويشتتها، بعد أن امتدت بنا الأيام في هذه الوحشة الثقيلة القاتلة، ووطأة الخوف طيلة ساعات اليوم، وترقب المجهول الكامن خلف السواتر، يرقب ضحاياه لحين ساعة قدوم حتفهم بالمجان في قفار صحراء حفر الباطن.
ـ فكر بالأمر، غدا فجرا سوف يذهب عبد الرحمن مع سيارة جلب الماء والأرزاق. 
قال ذلك وابتعد خارج باب الملجأ.
سحبت بتثاقل ورقة من دفتر مدرسي كنت قد جلبته معي رغبة في تدوين بعض خربشات شعر يستطيبها بعض الأحيان ضجري وضيق في الصدر، ولكني تركته في حقيبة سفري التي طمرها الرمل، دون أن يرى النور منذ ما يقارب الشهر. عند الضوء الشحيح للقنديل المعلق في زاوية الملجأ، تمعنت الورقة جيدا، وانتابتني رغبة لعد رتابة خطوطها، فتوقفت عند منتصف العد، حين سمعت صوت انهيال الرمل من زاوية في سقف الملجأ، حينذاك لاحظت عيون الجرذ الناطة من بين أكياس الرمل والصفيحة الحديدية للسقف. كانت أصابعي تهز القلم هزاً خفيفاً وتسحبه بخدر فوق الورقة، لترسم دوائر متداخلة ووجوه عابسة. راودني الإحساس الغامر القاسي ذاته، الذي ينتابني بين حين وأخر.أحساس بالخواء المضطرب تحت سماء مفتوحة مليئة بالثقوب الفاغرة مثل أفواه سعالي. وحيداً، أسير في متاهة لا حدود تلجمها. ورغم عتمة وثقل سقف الملجأ، فقد شعرت وكأن ضوءا تسلل عبره،  وجسدي كان هناك ممدداً فوق الرمل. تنفتح السماء فوقي مثل كوّة موحشة، ترسل إشارات سحرية عبر نفقٍ معتم ، تأتي من خلاله أصوات شحيحة لا تستطيع أذناي تمييزها، فينتابني خوف يخالطه استسلام تام بليد، وكأنّ بي مساً سحرياً يشلّ كل حواسي. إحساس بالخدر التام والرغبة بصمت يخالطه نشيج داخلي.
لا أذكر عدد المرات التي كتبت فيها رسائل. فأنا أمقت كتابة الرسائل. وسبب لي ذلك وفي أكثر من مناسبة العديد من الإشكالات. فأنا لا أجيد الحديث عن أمنيات وتمنيات وتدبيج تحيات، أو التعبير الدقيق عن المشاعر، وأجد صعوبة في سرد الوقائع ووصف الأماكن. وفي أغلب الأحيان أجدني عاجزاً كلياً عن كتابة ما نويت الحديث عنه، فأرجئه للقاء مباشر واعتذار يكون وفي كثير من الأحيان غير مقبول عند الآخرين.
تركت الورقة جانباً وطالعت مكان الجرذ الفارغ. شعرت بحاجتي الملحّة للحديث معه، محاورته عن شيء ما،عن حياتي أو حياته،مشاعرنا المشتركة في هذه الوهدة المفزعة، عن الذي يعشقه والذي أمقته. عن عالم الصحراء المتقلب بين الحر اللاهب والبرد الموجع، عن الجوع والعطش، عن هذه الحرب القذرة البعيدة جدا عن خيارنا وأمنياتنا. من يدري فربما يعرف أكثر مني سببا لوجودنا معا في هذا المكان الموبوء بالموت المجاني. وربما يخطو  الآن برهبة وحذر لاكتشاف حسن نية البشر أو شرورهم تجاهه.
ولكن كم يبلغ من العمر الآن ؟ أنضج أم الوقت ما زال مبكراً ليعرف أن قدميه زلتا عن الطريق وقادتاه مبكراً حيث المكان الخاطئ، بالضبط إلى مكمن القتل. ولكن حقيقة الأمر أن البشر وحدهم بحثوا عنه وقرروا اقتحام خلوته الصحراوية، عن عمد حدث هذا، أم تراها صدفة حين زجوه عنوة في نزاعاتهم، وجعلوه يلتهم طعامهم الزقوم. هم وليس سواهم، من سيقوده لحتفه، إما تخمة أو قتلاً. ولكن أين تراه مختفيا الساعة. ألديه أحد غيري يحاوره في هذه الأرض القاحلة المجدبة. أتراه يشعر بعظم مسؤوليته فيمضي يتفقد ملاجئ الجنود كمبعوث للرب يحثهم على الاقتناع بما جاد به قدرهم، أم مل التطلع في وجهي العابس. لمَّ لا يأتي لمناجاتي، فقد كرهت ومللت الوحدة والانتظار المغمس بالخوف.
 سمعت خشخشة الورقة فشاهدت وجهه المدّبب الجميل. كانت الورقة بين أسنانه يسحبها متراجعاً فوق الفراش المغطى بالرمل. مبتعداً بها نحو الزاوية. تشبث بالورقة أول الأمر، حين حاولت سحبها منه، ولكنه فجأة تخلى عنها قاضماً بأسنانه الصغيرة زاويتها، ثم هرب مختفياً بين الأكياس عند سقف الملجأ. شعرت ببعض راحة وشيء من رضا لمثل هذه الدعابة، فقد كنت في أمسّ الحاجة أليها وبالذات في هذا الوقت ، لذا أمسكت قلمي وبدأت الكتابة.
أمي الحبيبة
تحية طيبة
أرجو أن تكوني بخير وصحة تامة. أنا لحدّ الآن بصحة جيدة وصاحبي بصحة وعافية أيضاً، ويمازحني طوال الوقت.
 أشعر بحاجة شديدة لرؤيتك.
                                          قبلاتي
 ابنك المحب           
                               حفر الباطن  ظهر يوم 23  /2 / 1991   




* ليل 23 على 24 شباط /1991 بدأ هجوم التحالف البري لطرد الجيش العراقي من حفر الباطن ودولة الكويت.



56
المنبر الحر / قيل لي
« في: 21:57 26/07/2021  »

قيل لي

قيل لي، وأنا أقترب من مكتب السفر، وكان هذا كل ما جاء عبر هاتفهم، أن كل شيء هادئ،بلهفة ترقب، وفي انتظار. كم جميلة العودة بعد شح ويباس سنين الغربة الطوال؟
الرسالة الأخيرة منهم حملت الكثير من الأشواق ولوعة محبين، وأجمل ما فيها، كان همس حب صادق.
صدقت فقادتني نفسي للبحث عن بطاقة للسفر. آخر الأيام قبل السفر كنت عبدًا لجهاز الحاسوب فلم أفارقه طوال ليلتين. بحثت في طياته عن بطاقة سفر أردتها أن تكون مباشرة لمدينتي، ولكن جهودي ذهبت سدىً. ففي مدينتي لم تضع سلطاتها المحلية في حساباتها عودتي لذا استغنت عن المطار.
في المكالمة الهاتفية الأخيرة قيل إن المدينة ترتل أناشيدي وأن الشوارع معشوشبة لأجلي، وبكاء الصبايا كان ندى الحدائق وعطرها، قيل ذلك في الهاتف، فأوغلت في صمتي الودود وصدقت بكامل جوارحي كل نثار الحكايات، وامتلأ قلبي ولهًا.
عجولاً كنت فأفشيت سري لشرطي ارتدى رتبة سادن، أسمعته بعض أناشيدي، هو من هاتفني وطلب مني العودة.
 ربما ؟! لا أتذكر ذلك جيدا.
 أكان أبي؟ اعتقدت ذلك.
 حبيبتي !؟ جائز.
 أم هو صاحبي الذي نسيت اسمه عند التجوال دون حساب، في عشرات المدن الباردة.
 كلا سمعت صوتًا أجشًا ميزته دون غيره، إنه أستاذي في آخر صف جامعي كنت قد هربت ودفاتري منه قبل نهاية الفصل الدراسي...
قيل إن النخيل بكاني حين تذكر حادثة هروبي، وما زالت هناك شتائم تطلق ضد من تسبب في نفيي وتغربي. قيل لي إن المدينة ما زالت تحمل حزن فراق ولوعة اشتياق وتهمس بأناشيدي. كل هذا بعد عقدي السابع الذي شربت نخبه قبل شهر مضى، وكنت حينها وحيدًا أطالع قطرات المطر الثقيلة وهي تقرع زجاج نافذتي بصخبها. قيل وكتب على لوح بريدي الالكتروني، بأن هناك من يسبح في النجوى والشجن حين يقرأ أناشيدي.
قيل وقيل وقيل الكثير.
حطت قدماي فوق إسفلت الشارع فسمعت وحشة الصمت تنط من بين فخاخ النوافذ.
ـ ارجع لفردوسك ودعنا في جحيمنا.
ـ عد لعاهراتك ولا تأت لتلوث شرف بناتنا.
ـ أدر ظهرك وتأبط أشعارك الكسيحة واحرقها قبل أن نطفئ بها سجائرنا.
سمعت نباح كلاب تجر عربة مزركشة يرن فيها ألف ناقوس. ترصدتني عيون الكلاب الخرساء، توقفت أمامي، كانت الشوارع معشوشبة بالفراغ المكين، وحدي بحذائي المطلي حديثا، كنت أقرع الأرض وأسمع رجع صداه، بحثت في جيب  السروال عن بطاقة العودة دعكتها بقوة.
كنت خائفا أن تلتهمها الكلاب.
قيل لي فصدقت
مزحةً كانت تملؤها الأكاذيب
تناهى لي من بعيد صوت كركرات طفولتي.
قيل لي .......فبكيت






57

إخفاء المعلومة حول الطرف الثالث خدعة سياسية

فرات المحسن

منذ قيام الاحتجاجات الجماهيرية وتصاعد وتيرة التظاهرات التي توجت بانتفاضة شعبية تاريخية اندلعت في 1 تشرين الأول عام 2019 ،احتجاجا على تردي الخدمات وسوء الأوضاع الاقتصادية  والبطالة الواسعة بين الشباب وانتشار الفساد الإداري والمالي. إثرها وجهت الأحزاب الحاكمة في العراق جل قدراتها لتفتيت وقمع الانتفاضة الجماهيرية، بمختلف الوسائل، وكان أكثرها قسوة ووحشية عمليات اختطاف وتعذيب الناشطين والاغتيال الذي راح ضحيته ما يقارب 700 شهيد وثلاثة آلاف معوق .
من خلال وسائل الإعلام ووفق تراتيبية أعدت وراء الكواليس بسيناريوهات  مفبركه، ظهرت لائحة اتهام موجهة لطرف مجهول، أعطته السلطة الحاكمة تسمية الطرف الثالث، وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مديرا للمخابرات العراقية حينها. ومنذ أولى عمليات الاختطاف والاغتيال ولحد الآن، قدمت مرافعات سلطوية  جهدت لأبعاد التهمة عن أجهزتها وقواها الأمنية والعسكرية وكذلك عن الأحزاب المشاركة في إدارة الدولة. وبمشاركة القضاء لم يسمح لتوجيه التهمة أو شبهة الإدانة لأي طرف، ومنع التطرق لحقيقة وطبيعة ما سمي بالطرف الثالث وأهدافه، وعتم على وقائع التحقيقات وأغلقت الكثير من الدعاوى.
كان الغرض من مجمل هذا التمويه وطمس المعلومة، خدعة لوضع الجريمة برقبة الجميع حتى المنتفضين أنفسهم. وفي نفس الوقت السماح للفصائل والأحزاب المسلحة إنكار واستنكار حوادث القتل. ولذا وبخطة خبيثة قامت الأحزاب ومثلها السلطة بمسرحيات هزيلة وساذجة، عرضت فيها للشعب أياديها بيضاء ناصعة خالية من لوثة دم.
ومن خلال عملية الخداع هذه،عملت السلطة على دفع الأمور بما يعمل على  إضاعة  دم الشهداء، وتشتيت الجهود وإخفاء الجهات الفاعلة، لتسهل معه عملية اختفاء وضياع أثار الجريمة ودلالاتها .
وبسبب جناية الطرف المجهول الهوية، راح دم الضحايا هباءً ولم يستطع بل منع أهاليهم من الوصول إلى الجاني الحقيقي ومقاضاته.
 من تلك الجرائم التي حاولت السلطة طمس المعلومة عنها والتغطية عليها لمدة عام كامل، رغم معرفتهم المؤكدة بالمنفذ، مثلما أدعى أحمد ملا طلال في حينها، عندما كان ناطقا رسميا باسم الحكومة، وأبعد إثرها عن مركزه السلطوي.كانت جريمة اغتيال المؤرخ والخبير الاستراتيجي السيد هشام الهاشمي في 6 يوليو 2020،وقد استمرت السلطة بالمماطلة والمراوغة والإخفاء لفترة طويلة، لحين تقديم قاتله الملازم الأول بوزارة الداخلية  ( احمد حمداوي عويد معارج الكناني)  بعرض تلفزيوني هزيل وساذج، يشي بما لا يقبل الشك عن قوة مشاركة سلطة الكاظمي وبشكل كامل ومفضوح بالجريمة، وبالتستر على قتلة المنتفضين والناشطين المدنيين. فقد اكتفت السلطة بعرض القاتل وأهملت عن عمد شركائه، لا بل عملت على تسويف وطمس جميع وقائع الجريمة والتحقيقات التي جرت في القضاء العراقي، واختصارها بشخص واحد دون ذكر الجهة التي كلفته بالقتل وما دوافعه لارتكاب جريمته، وهو أحد ضباط وزارة الداخلية، التي بدورها امتنعت عن التحقيق حول ارتباط وعلاقة منتسبها أحمد حمداوي الكناني بجهة مسلحة خارج وزارته.
 ولهذا السبب فأن الشكوك تدور الآن حول الأطراف التالية كمنفذ ومشارك بالجريمة، بعد أن صمتت جميعها عن ذكر حقيقة الطرف الثالث وحاولت مع السلطة طمطمة الوقائع ونتائج التحقيقات. فيا ترى من منهم يعرف الحقيقة وصمت بخسة ونذالة، أو قبل كل هذا وذاك، تستر على ما يعرفه من أجل أن لا يدان. مّن من هؤلاء قام بقتل الخبير الاستراتيجي هشام الهاشمي وقبله مئات الشهداء من شباب الانتفاضة التشرينية الذين رميت جريمة أغتيالهم برقبة طرف ثالث مجهول الهوية، رغم قناعة الناس بأنه يستوطن كل تلك الأجهزة والفعاليات الحزبية والمليشياوية لا بل هو ذراع من أذرعها.

ــ جهاز خاص داخل المخابرات العراقية.
ــ منظمة بدر الجناح العسكري.
ــ كتائب حزب الله العراقي.
ــ حزب الدعوة الجناح العسكري.
ــ سرايا السلام .
ــ عصائب أهل الحق.
ــ كتائب الإمام علي .
ــ كتائب سيد الشهداء .
ــ كتائب ربع الله .
ــ كتيبة مسلحة مرتبطة بعمار الحكيم.
ــ منظمة سرية ترتبط بوزارة الداخلية. 
أم غيرهم . 



58
تركيبة الحشد الشعبي،  هل تؤهله أن يكون ظهيرا للقوات المسلحة العراقية؟

فرات المحسن

يواجه العراق اليوم حزمة من المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وتوجد جملة من المواضيع المرتبطة بكل هذا. واحدة من أهم تلك المشاكل وأعقدها علاقة الفصائل المسلحة بمختلف تلاوينها بالوطنية العراقية.وهذا ما يستوجب المزيد من الدراسة والبحث الذي يساعد على استيعاب أفضل للتطورات الجارية، خصوصاً مع تصاعد الحراك المطلبي وبقاء جذوة الخلاف السياسي متقدة، واتساع وتسارع التغيرات السياسية والاقتصادية والتي باتت تؤرق الكثيرين.
معاناة الحاضر عند الإنسان تجعله في حالة رعب مما يخبؤه المستقبل، فبمقدار عجزه عن مجابهة وضعه الحالي، نجد أن حياته تبقى معلقة بالمتغيرات المفاجئة والمضمرة غير المنظورة أو الهلامية المغرقة بالمتاهات.
 فالعراق اليوم في ظل التركيبة السلطوية ووفق وقائع إدارة الدولة، والصراع على الغنائم وتقاسم مصادر القوة والمال، يواجه حزمة من المشاكل والأزمات، يكاد الفرد معها يقترب من الرعب اليومي أو الانفصام النفسي جراء ما يقع عليه من أضرار وإحباط يواجهه  يوميا ناتج عن تلك الأزمات. فانعدام الطمأنينة على رزقه اليومي وعائلته ومصيره الشخصي، تجعله  في وضع مختل التوازن، فاقد للسيطرة على قدراته، خائف من المستقبل وما يحمله له من مطبات وعثرات يجدها تثلم  ضمانات الحاضر رغم شحتها وعسرها، ومن هذا يفقد الفرد القدرة على التخطيط . وبسبب فقدانه الجهد الذاتي نجده في النهاية لا يستطيع السيطرة والتحكم بمصيره،ويجد نفسه بسبب هذا الرعب اليومي الكامن والمتربص ، أن لا حول ولا قوة له في مواجهة خصوم وكوابح عديدة تعترض كده وحياته اليومية.
فالبطالة المستشرية بين أوساط الشباب، وضعف الروابط الاجتماعية، تدهور التعليم، هشاشة الرابط الوطني، تفشي الأمية وانتشار الخرافة حتى بين أوساط المتعلمين. جميعها كانت وستبقى نذر شؤم طبعت بطابعها المجتمع، وأضفت عليه صفات وطباع لم يألفها سابقا. ولا شك أن مجمل ذلك كان سببا في اعتلال المجتمع واهتزاز قيمه، وبالذات لدى الشرائح الفقيرة منه التي أصبحت مع الوقت تشعر باليأس وانغلاق الأفق وانعدام الفرص للارتقاء بالوضع الشخصي والعائلي. ليأخذ هذا الواقع المتردي، عند مجاميع الشبيبة تعبئة نفسية سلبية دائمة بسبب اضطرابات منهجية بالتفكير ترافقها الانفعالات والتحدي والنوازع العدوانية. وهذا القطاع الواسع من العراقيين، يتصف ببنية دينامية تبحث عن الرزق داخل فم الأسد مثلما يقال،وتركب الصعاب لتثبت للجميع وجودها الإنساني. وكان من المناسب ظهور جهة ما تعمل على امتصاص هذا الغليان الشعبي والسيطرة عليه، لا بل توجيهه والاستفادة من طاقاته الحيوية الكامنة، بتوفير ملاذٍ ومنفذٍ له للتنفيس عن المكبوت النفسي والقوة الجسدية.
عند نقطة فاصلة من حياة الشعب العراقي وإثر التهديد الذي أنتظم على حدود عاصمة الدولة  بغداد والمدن الشيعية المقدسة، اتجهت الأنظار نحو تلك الطاقات الموجودة عند هؤلاء الشباب والمغيبة جراء التهميش والبطالة. وهذا انتبهت له المؤسسة الدينية وبعض الأحزاب التي تدعي الارتباط بها أو القريبة منها . حين أدركت ضرورة زج هؤلاء واستغلال قواهم وقدراتهم للوقوف بوجه أعداء العراق ويتقدم على ذلك مصطلح، أعداء الطائفة.

ظهور الفصائل المسلحة

على مدى ثمانية عشر عاما لم تقدم السلطة الحاكمة حلولا ناجعة للبطالة ومشاكل الفقر وتردي الخدمات، وإنما ازداد العوز والفقر، وأصيبت مجالات التعليم والمعرفة بانتكاسات شديدة، وتصاعدت وتيرة الاعتداء على الملكيات العامة والخاصة، وشوهت السلوكيات الخطيرة إدارة مؤسسات السلطة، وما استطاع قادتها  خلال تلك الأعوام غير زج المجتمع في حومة الصراعات الطائفية والقومية، لتختصر الكثير من احتياجات الناس وتحجر تحت يافطة الهوية الطائفية والصراع المذهبي والقومي، الذي استعر في ظل الوجود الأمريكي الذي عمل بدوره جاهدا مع شركائه من القوى المحلية، على تغذيته وجعله يتقدم الواجهة ويحتل الصدارة في أسباب تصعيد واستشراء التوترات الاجتماعية.
فمع دخول طلائع الجيش الأمريكي، ظهرت إلى العلن أولى تشكيلات المقاومة الشعبية، الرافضة للاحتلال، وتميز بناء هذه المقاومة بخليط من قيادات عروبية وبعثية وإسلامية غلب على مقولاتها الدوغمائية، واجتذبت الشباب من رافضي الاحتلال، وكان ثقل تلك التنظيمات ونشأتها  في بغداد والمدن ذات الغالبية السنية. وبمرور الوقت أفصحت تشكيلات عديدة عن نفسها، مثل كتائب ثورة العشرين التي تأسست عام 2003 ،والجماعة السلفية المجاهدة في الشهر السابع من نفس العام، ثم  توالى تأسيس تلك المليشيات السنية مثل جيش العزة والجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية وجيش أنصار السنة وجيش محمد والنقشبندية ومن ثم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين بزعامة الزرقاوي وصولا إلى داعش. وجميع تلك القوى وضعت نصب أعينها محاربة المحتل والقوى السياسية التي قبلت التعامل معه، وسبق جميع تلك المليشيات في التأسيس الجيش الإسلامي الذي ظهر إلى الوجود قبل سقوط نظام البعث في العراق بعدة أشهر.
بنيت قاعدة خوض المعارك على أسس العداء المذهبي للشيعة ومشاعر خسارة السلطة بعد عقود طويلة كانت ومؤسساتها تخضع لشروط وخيارات رجال يحسبون على المذهب السني قبل أي توجه أخر. 
فيما برزت على نحو ظاهر تشكيلات مسلحة شيعية عام 2003 أي بعيد الاحتلال مباشرة، رافضة لما تبناه الاحتلال من إستراتيجية للعراق، تمثلت أولا بأنصار الصدر الذي أطلق عليهم لاحقا تسمية جيش الأمام المهدي ثم سرايا السلام لاحقا ومجاميع صغيرة أخرى. ولكن فيلق بدر وهو الجناح العسكري للمجلس الإسلامي الأعلى وقتذاك، كان قد تشكل في إيران عام 1983 تحت أمرة قادة المجلس الإسلامي الأعلى لغرض مناهضة حكم صدام حسين ومحاربة الجيش العراقي، ومازال فيلق بدر يمارس نشاطاته بقيادة السيد هادي العامري بعد انفصاله عن المجلس الأعلى. ومن رحم جيش الأمام المهدي الذي جمد نشاطه في 21 تموز عام 2007  ظهرت إلى الوجود منظمة عصائب أهل الحق بقيادة الشيخ قيس الخزعلي الذي استقل عن جيش الأمام المهدي عام 2008 .وكانت كتائب حزب الله قد شكلت سراياها إثر خلافات داخل فصيل العصائب وكذلك بين أوساط جيش المهدي، وأتى ذلك قبيل فتوى رجل الدين الشيعي السيد السيستاني بأكثر من عام. وأُسس لواء اليوم الموعود وظهر إلى الوجود في ذات السنة. وهناك فصائل إسلامية شيعية تشكلت بالتعاقب. وكان لتفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري يوم 22 فبراير سنة 2006 الأثر الفعلي لظهور الكثير من الفصائل المسلحة الشيعية. وشكل ظهورها إنذارا ببدء الصراع الطائفي الذي أشتعل أواره إثر ذلك العمل الخسيس الذي أقترفه فصيل سني مسلح، وكان حدثا قدح شرارة الفتنة الطائفية،ودفع  الفصائل المسلحة من كلا الطرفين لاقتراف جرائم بشعة راح ضحيتها العشرات من البشر الأبرياء.
كان احتلال مدينة الموصل في العاشر من حزيران عام 2014 من قبل الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش ) وحلفائها من بقايا حزب البعث وذراعه المتمثل بجيش النقشبندية وبعض القبائل العربية السنية، ومجاميع من المسلحين بدوافع مختلفة،وكان ذلك نقطة تحول مفصلية في تاريخ الدولة العراقية. وسجلت تلك الواقعة انهيارا مريعا لقيادات الجيش العراقي، وهزيمة كاسحة لعدد من فرقه العسكرية، واستحوذت داعش في تلك الواقعة على كميات كبيرة من معدات وأسلحة الفرق العسكرية التي كانت بعهدتها مسؤولية الدفاع عن تلك المناطق. وإثر تلك التداعيات التي حصلت في ثاني أكبر مدن العراق، استطاعت المليشيات العشائرية المسلحة بقيادة داعش التمدد واحتلال مساحات واسعة من محافظة صلاح الدين، ثم وبشكل سلسلة من الهجمات التصاعدية استطاعت السيطرة على أجزاء كبيرة من محافظة الأنبار ومناطق شمال محافظة بابل وبالذات القرى والبلدات القريبة من العاصمة بغداد والواقعة جنوبها. ووصلت بقدراتها وبصورة مباغته حتى محيط العاصمة بغداد وجوارها من الجهة الغربية، وبالذات ناحية أبو غريب وجرف الصخر والكَرمة والفلوجة والحبانية، وكذلك جاورت طلائعها حدود محافظتي كربلاء والنجف، من جانب منطقة النخيب والصحراء. وكانت الغاية من تقدم داعش وانتشارها قرب بغداد، محاولة تطويق العاصمة من جميع الاتجاهات وإسقاطها عسكريا وإداريا ومن ثم التوغل نحو الجنوب.
مبرر تشكيل الحشد الشعبي
شكل انهيار الجيش العراقي واقتراب فصائل داعش وحلفائها من مناطق بغداد ومدن النفوذ الشيعي، الهاجس المقلق، لا بل التحذير الحقيقي من خطر قادم أرعب القوى السياسية ودفع المؤسسة الدينية الشيعية للتعامل معه بكل ما تمتلك من عزيمة وتأثير، لذا أطلق المرجع الشيعي الكبير السيد علي السيستاني فتواه التي دعا فيها جميع العراقيين إلى الجهاد، وسماه الجهاد الكفائي، وهو نوع من أنواع الجهاد، يوجه لجماعة محددة من المسلمين، ويسقط عن الباقين، ولا يلزم الجميع الجهاد فيه. وتعد دعوة السيد علي السيستاني التي أطلقها يوم 13 يونيو 2014 نقطة تحول في طبيعة المعارك على الأرض العراقية، وجاءت في الوقت الحرج، لتوقف التداعيات في جبهات القتال، وتحجم مظاهر انهيار القوات المسلحة. فقد لبت نداء المرجعية مجاميع كبيرة العدد،وكان تدفقهم مفاجأة للجميع، وما كانت لتستطيع المؤسسة العسكرية المتهالكة استيعابهم، وفي ذات الوقت ما كانت قادرة على تأمين السلاح والعتاد لهم.عند ذلك دخلت المؤسسة السياسية والعسكرية الإيرانية على خط حاجة وافتقار تلك الحشود للتجهيزات والتمويل لتكون الممول الرئيسي للكثير من تلك الفصائل سلاحا وأموالا ووفق شروط التبعية والولاء وليس غير ذلك.
 وكانت هواجس الخوف والقلق لدى المؤسسة الدينية الشيعية العراقية ومثلها غالبية الطائفة الشيعية وأحزابها الإسلامية من التداعيات المقبلة، إن استمرت داعش بالتمدد، فرض نوعا من التحدي وعزيمة تخلت كليا في سعيها لإنشاء هذا الحشد، عن المثالب التي اعترت التجميع والبناء. ولم يتوقف زخم التطوع رغم التشكيك والانتقادات التي رافقت سرعة حشد الآلاف في هذا الجيش العرمرم الذي لا يمتلك المعرفة المهنية أو الاحتراف في المهام والسلوك العسكري. ولم تكن الأيام القليلة في معسكرات الإعداد تكفي لجعله قادرا على حسم معارك كبيرة في مناطق مختلفة التضاريس وموزعة على رقعة جغرافية كبيرة ومتباعدة، وكذلك بمواجهة صولات حرب العصابات التي تجيدها مجاميع داعش وحلفائها. ولكن ورغم الضحايا الكثيرة التي قدمها الحشد الشعبي،والمشاكل والمعوقات الخطرة التي واجهها،استطاع أن يثبت، أن من الممكن للعزيمة إن ترافقت مع أي نوع من أنواع العقائد، أن تدحر أعداءها أو تقف ندا في وجه مشاريع خصومها ونواياهم، وهذا ما حدث في معارك تحرير آمرلي وجرف الصخر ومناطق حزام بغداد وتكريت والدور وغيرها .
ما هي طبيعة تشكيلات الحشد الشعبي
تألف الحشد الشعبي من آلاف الرجال الذين انضموا تحت رايات ما يقارب الأربعين فصيلا. وكان لبعضها وجودٌ سبق فتوى السيد السيستاني، ولكنها دخلت على خط الحشد الكفائي وأصبحت جزء منه، وراحت تملأ وتفرض شروط وجودها وقوتها التسليحية والعددية على باقي مكوناته.  ومنذ البداية وبسبب سرعة التكوين وارتباك الوضع العسكري والسياسي، ظهر أن هيكلة العديد من فصائل الحشد خضعت لرغبات بعض قادة العمل السياسي ورجال المؤسسة الدينية، وأيضا للبعض من المقربين لفصائل العمل العسكري الشيعية الكبيرة أو المنشقين عنها. كذلك شارك في الاستعدادات والتهيئة والبناء والقيادة، رجال عشائر من الذين يستمدون قوتهم من قبائلهم. وفي صلب هذا المشهد المتنوع في الشخوص والنوايا، نشأ صراع الإرادات  وبرزت ظاهرة التكتلات والاستحواذ على المكاسب المعنوية والاستفراد بالحصول على امتيازات عسكرية وسلطوية وسياسية. ومنذ البداية طفح خيار الرغبات الشخصية لبعض قيادات سرايا الحشد، لينشأ كل رجل طامع وطامح للقيادة، سرية خاصة به، ولم يكن الأمر ليخلو من التبعية للقوى الإقليمية. فكانت كتائب سيد الشهداء قد ظهرت للوجود بتمويل من الحاج أبو سيف وكان في ذات الوقت مسؤولها العسكري. أما سرايا الجهاد والبناء فقد أفصحت عن تركيبتها بكونها الجناح العسكري لحركة سياسية بذات الاسم ترتبط مباشرة بالجانب الإيراني. هناك أيضا كتائب التيار الرسالي وهو فصيل عسكري بقيادة عدنان الشحماني ومرجعيته رجل الدين الإيراني السيد كاظم الحائري. ثم فصائل حشد شعبي أخرى بمسميات عديدة مثل سرايا الخرساني، سرايا عاشوراء، سرايا العتبات، سرايا العتبة الحسينية، لواء المنتظر،لواء الطفوف، كتائب الغضب، درع الشيعة، لواء القارعة وغيرها الكثير. وأغلب هذه الفصائل وبمفارقة غريبة تبتعد عن ولاية السيد علي السيستاني لترتبط بولاية الفقيه الإيرانية الممثلة بالسيد الخامنئي واعتباره مرجعيتها الأولى.
 وحسب تصريح البعض من قادة الحشد ، كانت هناك تعبئة شعبية من أجل حشد الآلاف وزجهم في المعارك، ليقفز عديد الحشد إلى ما فوق المليون متطوع، ليكونوا مستقبلا نواة قوات للتحرير ومن ثم مسك الأرض مثلما أعلن حينها. ومثلما معروف عن الجهات الخارجية التي تمول تشكيلات ما أطلق عليه فصائل المقاومة السنية وهي دول إقليمية كثيرة منها السعودية وقطر وتركيا، فإن الكثير من تشكيلات الحشد الشعبي الشيعية، يأتي تمويلها من جهات أغلبها من داخل إيران وتجار شيعة في دول الخليج.
في خضم المعارك التي دارت نجد أن تعريف وعمل سرايا الحشد الشعبي عنوانا وقيادات و أفراد، كان يوضع تحت جناح ويافطة فصائل وقوى كبيرة، كان لها كيانها وخصوصياتها ومشاريعها منذ ما قبل سقوط الموصل أو قبل زمن بعيد من فتوى السيد السيستاني، ونرى أن تلك الكيانات الكبيرة هي من يضع الخطط ويقود التوجهات السياسية مثلما القوة القتالية في المعارك مع الخصوم.أما سرايا الحشد الشعبي ( الكفائي) وهي التابعة للسيد السيستاني وفي جميع تلك المعارك فقد حصر دورها في المشاركة عبر الانضواء  طوعا تحت راية إحدى تلك الفصائل أو أخذ التوجيهات منها.
 ويمكن حصر هذه الفصائل القيادية الكبيرة بثلاث كتل هي سرايا السلام :جيش السيد مقتدى الصدر، قوات بدر: جيش السيد هادي العامري ، عصائب أهل الحق: جيش الشيخ قيس الخزعلي. وخلال المعارك ضد داعش عمل بجهادية عالية وقوة سياسية ضاغطة واستغلت الفرص لتمرر تعابير لفظية ورمزية الغرض منها زج الفصائل الكبيرة ضمن تعريف الحشد الشعبي، ووضعها في إطار المجاميع التي لبت فتوى الجهاد الكفائي وجاء ذلك لأسباب سياسية طائفية وقبل كل ذلك استباق الأحداث والحصول على المكاسب المالية بعد أن احتسبت للحشد رواتب ومخصصات ومنافع عسكرية، وعندها أجبرت السلطة على خيار احتساب تلك الفصائل ضمن تشكيلات الحرس والجيش الوطني ورفع عن كاهل قياداتها تكاليف رواتب المنتسبين.
ورغم مشاركة سرايا الحشد الكفائي في جميع المعارك ضد داعش، واختلاط قواها بقوى الفصائل الكبيرة، فأن الصورة تبدو ملتبسة في حيثيات كثيرة، بل يموه على حقائق ووقائع لا جدال حولها. ففي الوقت الذي يعلن عن ارتباط سرايا الحشد الشعبي بالمؤسسة العسكرية العراقية، وبالذات بشخص القائد العام للقوات العسكرية، فأن الفصائل الرئيسية الكبيرة وكذلك أخريات غيرها،دائما ما تفصح دون مواربة وبشكل جلي عن درجة استقلالها وابتعادها عن المؤسسات الحكومية، وتنفرد بخصوصياتها السياسية والتعبوية والسوقية، وتجري نشاطات واستعراضات عسكرية لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية العراقية، ولم يكن ليأتي هذا الإفصاح اعتباطا، بقدر ما هو وسيلة للتفرد ونزوع نحو الخصوصية السياسية والعسكرية وارتباطها بالعامل الخارجي كموجه وراعي. بل هناك من يعتبر تشكيلاته ندا للمؤسسات السلطوية لابل أعلى منها شأوا.
طائفية الحشد الشعبي
دائما ما واجهت المحاولات الكبيرة والعديدة لإيجاد سبل للوصول إلى ما يساعد على زج أبناء الطوائف والقوميات العراقية من غير الطائفة الشيعية في الحشد الشعبي موانع كثيرة، فنجد هذا الأمر في ميزان حركة القوى الاجتماعية والسياسية ضعيف جدا، ويلاحظ المرء مدى الصعوبة في انخراط هؤلاء في سرايا الحشد الشعبي، لا بل إن مثل هذا الفعل رضخ ومازال للشد الطائفي، وبسبب هذا وضعت في الكثير من الأوقات اشتراطات لمنع الحشد من دخول المناطق ذات الغالبية السنية ومشاركتهم في تأمين أمنها. وجرت هناك ولازالت حملة إعلامية داخلية وعالمية ، تطعن بنوايا الحشد الشعبي وتضعه في خانة عصابات القتل والسرقة والاغتصاب وغير ذلك من الجرائم.وقد نجحت وسائل الإعلام العربية والعالمية وحتى المحلية في إيصال معلومات وتقارير، حقيقية في بعضها وكاذبة أيضا عن الحشد الشعبي إلى الأمم المتحدة وأوساط الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والسلم العالمي والهجرة وغيرها، وأشارت في بعض تقاريرها لما يدين الحشد الشعبي ويتهمه بالوحشية والكثير من الاعتداءات والسلوك الماجن، ويأتي ذلك استنادا لوقائع يومية تقترفها بعض الفصائل غير المنضبطة منه أو المحسوبة عليه بشكل أو أخر.
نجد اليوم أن بعض الفصائل العسكرية ومثلها الشعبية من مختلف الطوائف والقوميات وأيضا الكثير من العشائر، لا تحاول تقويض العلاقات وطرق التعامل السابقة التي تربت عليها على عهد حزب البعث،وكان ذلك تاريخا طويلا، خاصة في وسائل تعاملها مع الناس، بقدر ما تحاول وفي الغالب التماهي مع تلك التقاليد والأعراف وإعادة استخدامها، والاستمرار بذات السلوك والطباع من العلاقات المبنية على القوة والقسوة والتهديد، والعمل على تطويع الغير وتدجينه بفرض أفكارها ورغبات وخيار أفرادها. وباتت الممارسة المسلحة لا تقتصر على جبهات القتال الساخنة رغم إعلان انتهاء المعركة مع داعش أو الاقتتال الطائفي، وإنما البعض يمارسها داخل المدن. بتهديد الناس واغتيال وخطف الأفراد، والاعتداء على التظاهرات المطلبية والمؤسسات الحكومية والمقرات الرسمية والأهلية والقيام بين فترة وأخرى بالاستعراضات العسكرية وسط شوارع المدن وبمختلف أنواع الأسلحة.
مثل هذه الأفعال تشكل نقصا معرفيا وحضاريا وفعلا مرضيا، وتفتقر للقيم والأخلاق الثورية الحقيقة، بل هي وفي جميع الاحتمالات، تهديد مباشر للسكان وللسلم المجتمعي. ودائما ما عرف عن هذه الفصائل، بعدها عن أية التزامات سياسية واجتماعية، وإنما يكون فعلها عصبويا تحت شعار أنصر أخاك ظالما أو مظلوما دون تمحيص وتدقيق بالأسباب أو النتائج. وفي الغالب فإن هذه الفصائل المسلحة بالإضافة لقوتها العددية المدججة بالسلاح، دائما ما تعوض نقصها الثقافي والمعرفي بأفعال تفصح عن استعلاء وشعور رامبوي بالتفوق، يزدري قيم الأخرين وخياراتهم ويحاول إخضاعهم لجبروته.  ولم يكن ذلك ليأتي اعتباطا، فما دام المجتمع المدني هزيلا وبناه محطمة ومبعثرة، والهويات تتبدل وتتغير بفعل وسطوة الهزال السياسي والطائفية والعشائرية وانتشار السلاح، فأن قدرة الناس على الخلاص وبناء نموذج حضاري مدني يخضع لسلطة القوانين وليس غيرها، تبقى فكرة مضمرة وخاضعة لتهديد وهيمنة تلك القوى المسلحة التي هي وفي الكثير من الأماكن والأوقات صاحبة الكلمة العليا.  وهذا يضعنا أمام جملة أسئلة تثار عن طبيعة وأهلية الحشد الشعبي بجميع فصائله، وهل يكون ظهيرا للقوات المسلحة العراقية أو قوة حامية للسلم الاجتماعي أم العكس.
أغلب اللوم يوجه اليوم  إلى الجانب الحكومي، وتحديدا عند ناحية قصوره وتباطئه  بدمج هذه الفصائل بالجيش العراقي وفق سياقات عسكرية وقانونية ومهنية حاسمة وبحته بعيدا عن رغبات وهواجس طائفية أو سياسية.ولكن  الفوضى والعشوائية في القرارات واضطراب منهجية التفكير والقصور في فهم الحالة العامة، وسيطرة الذهنية النفعية وتصاعد مظاهر الشخصنة والتفرد والتناحر والتسابق على المكاسب السياسية والمالية، وارتفاع نسب التخندق الطائفي على حساب الوعي بالهوية الوطنية، مع الارتباط بمشاريع وأجندات من خارج الحدود الوطنية العراقية. لذا ومن كل هذا وغيره يمكن له وضع الحشد الشعبي وقبله الفصائل المسلحة جميعها، على مسافة بعيدة جدا عن المؤسسة العسكرية، ومن غير الممكن أن يكون الحشد ظهيرا لها. بل من الممكن أن نجده اليوم، أحد أكثر مصادر التهديد لتلك المؤسسة، ومن ثم للحريات العامة والسلم المجتمعي، وأي مشروع لدولة مدنية تسعى قوى الشعب الديمقراطية الوطنية لبنائها.  ومن الجائز القول أن استفحال الخلافات بين قادة الفصائل الكبيرة، يمكن له أن يقوض تجربة الحشد الشعبي ذاتها، ويدفع مستقبلا إلى احتراب وقتال، إن لم يستطع العراب الخارجي للفصائل منع حدوثه، وعندها فإن السلطة العراقية لن تجد القدرة على وقف تداعياته، ليكون بالنتيجة النهائية عاملا ناسفا للتجربة الهشة والهلامية التي بنيت عليها السلطة في عراق ما بعد سقوط حزب البعث ودكتاتورية صدام.
ليس هناك في الأفق ما يشي بخروج سحري من المأزق، فسياسات السلطة وترددها، وضعف مؤسسات الدولة، قاد لاستشراء وانتشار المليشيات المسلحة، موزعة على كامل الخريطة الجغرافية للعراق. ومع تضخم أعدادها وقدراتها العسكرية، وتعدد الأطر المرجعية لها، وضعف خطط المؤسسة العسكرية الذي جعلها الطرف الضعيف أمام الفصائل المسلحة إن جد الجد. ولا يمكن التطرق لمجمل تلك العيوب والأخطار المحدقة بالمؤسسة العسكرية،دون ربطها بالفشل الذي يعتور عمل مؤسسات الدولة بعمومها،والعجز في ميزانية الدولة وانتشار الفساد الإداري والمالي بين أوساطها.
وأود هنا القول، لو أعادت المرجعية تجديد فكرة الجهاد الكفائي بأن تعلن حالة طوارئ، تعيد عبرها تشكيل هيكل ما أسست له تحديدا وحصرا وبمن مثل هذا الجهاد حقيقة وليس لأغراض سياسية ومصالح فئوية ومنافع حزبية.ومن ثم ترسم له خارطة طريق تمنحه  بموجبها تركيبة وطبيعة تشكيلات وهياكل المؤسسة العسكرية الحقيقية ليرتبط مباشرة بوزارة الدفاع دون غيرها، وتنشر فرقه وألويته بين ووسط هياكل الجيش وحسب الاختصاص، لكان الصيغة الأمثل والقريبة جدا من نيل القبول عند باقي طوائف وقوميات الشعب العراقي، وفي الوقت ذاته يكون بابا واسعا لإعادة هيكلة القوات المسلحة. وارى أن مثل هذه الدعوة لازالت تمثل أفقا رحبا وجيدا يمكن من خلاله احتواء سرايا الحشد الشعبي ومتطوعي العشائر وباقي التشكيلات ووضعهم ضمن بنية الجيش العراقي ويعاد معها بناء وهيكلة المؤسسة العسكرية بعمومها.

59
انتخابات كاتم الصوت

فرات المحسن

في جميع حالات القتل العمد والاغتيالات التي طالت المنتفضين أو المعترضين على أداء الأحزاب السياسية التي تقود السلطة في العراق،لم تفعل الحكومة غير الإعلان عن تشكيل لجان تحقيقيه وإطلاق الوعود بالكشف عن القتلة. ورغم توفر الكثير من الأدلة في تلك الجرائم البشعة، التي اقترفت في وضح النهار وبالقرب أو تحت أنظار قوى الأمن وجهاز الشرطة والجيش، وتم في البعض منها معرفة الجهات التي نفذتها. ولكن السلطات الأمنية والمؤسسات القضائية ومثلها رئاسة الوزراء، لازالت تمتنع عن كشف الجهات الفاعلة أو اتخاذ إجراء بحقها، بل الأسوأ من هذا  قيام الجهات الرسمية بحجب نتائج التحقيق وطمس معالم الجريمة، وتحصر القضية وتوضع في أدراج النسيان،اعتمادا على تقادم الزمن واختفاء الأدلة ومن ثم يأس أصحاب الحق الشخصي.
جميع الوقائع تشير لكون مصطفى الكاظمي كان أحد أهم أقطاب عمليات الاغتيال حين وجوده على رأس جهاز المخابرات العراقي، وكانت المعلومة تصله كاملة، ويعرف جيدا الجهات المنفذة لتلك الاغتيالات. ولذا وبناء على هذا تم اختياره لرئاسة الوزارة. ووضعت خطة تكليفه برئاسة الوزراء في دهاليز المخابرات الإيرانية والقوى الموالية لها. وكلف الكاظمي بمهام الإعداد والإشراف على تفتيت الانتفاضة شيئا فشيئا، ويتقدم خطته بالتغاضي عن هدر دم المنتفضين ومن ثم تمييع قضايا اغتيالهم، لحين الوصول إلى انتخابات مفبركة يعاد فيها تدوير ذات السياسات الحزبية والشخصية العقيمة والمريضة والملوثة بمختلف الموبقات.
تلك المهام الحكومية باتت مكشوفة للعيان وعرتها الوقائع والأحداث اليومية، إن كانت على مستوى العنف اليومي والسلاح المنفلت أو بسرقة المال العام أم السياسات الاقتصادية الهزيلة ومثلها حملات التهريج الإعلامي المخادع التي يمارسها رئيس الوزراء وباقي شلته، أو مظاهر استعراضات القوة السافرة المليشياوية المسلحة المرتبطة بإيران، وضغط الأحزاب الحاكمة الساعي لفرض خيار أجواء الإرهاب والفوضى والتهديد بخنق أي صوت ينادي بالتغيير وإجراء انتخابات نزيهة.عند ذلك ستكون هذه المليشيات سيدة الوقائع الانتخابية بكامل مراحلها، وسوف تعمل بجد وقسوة لتامين بيئة سياسية وأمنية تقطع الطريق على القوى الوطنية الديمقراطية حتى وإن كانت تلك القوى صغيرة وبسيطة.
مقدمات هذا الخبث الانتخابي لا تخفى على الجميع فأحزاب السلطة ترفض بشكل قاطع إشراف ومراقبة الأمم المتحدة على الانتخابات. وسبق لهذه القوى المتنفذه أن سوفت ومنعت سن قانون عادل ومنصف وحضاري للأحزاب، تتقدم أولى بنوده منع مشاركة القوى المسلحة بالانتخاب، وكشف مصادر تمويلها وإبعاد من يثبت استخدامه للمال السياسي كسلاح لكسب الأصوات.وعملت هذه الأحزاب على تشكيل مفوضية لإدارة العملية الانتخابية وزع أعضاؤها حسب الحصص الحزبية ووضع على رأسها قاضي له ارتباط قوي بالمالكي.
 كل ذلك الخبث والتسويف والمماطلة تقف وراءه الأحزاب الممثلة بالبرلمان والمتحاصصة في مؤسسات الدولة ويشاركها في ذلك مجلس الوزراء، وتتواطأ معها في هذا التسويف والمماطلة، السلطة القضائية التي باتت جزءً مكملا وذراعا للأحزاب والمليشيات قبل أي جهة أخرى.
وبعد أن تعرت نوايا السلطة وأحزابها وافتضحت طبيعة تبادلها للأدوار والمهام التسويفية والترقيعية، لذا ما عاد يخفى على الشعب سياقات ومناهج العمل التكاملي والأداء المفبرك بين السلطة ممثلة بمجلس الوزراء والمليشيات بمختلف تلاوينها.
فحين تقوم تلك المليشيات باستعراضاتها المسلحة في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى ويترافق ذلك وتصريحات وبيانات تهديد ووعيد وشتائم لسلطة رئيس الوزراء ولقوى الأمن والشرطة وأيضا للجيش الوطني. عندها يصدر عن القيادات الأمنية ما يسوف الموقف ويقدم صورة مغايرة للحدث،رغم ما تحمله من ذل وهوان، ليكون ذلك إثباتا لقدرتها المتهالكة وحرصها على ابتلاع الخوف والشتائم والتهديد، لا بل الأدهى من ذلك لجؤوها وعلى رأسها القائد العام ممثلا برئيس الوزراء، إلى خيار العطوات أي وساطة رؤساء بعض الكتل أو رؤساء عشائر لأبعاد أذى المليشيات عن السلطة ومؤسساتها. وهنا يقفز السؤال الأكثر إيلاما أمام هذا الهزال والخنوع السلطوي.
كيف يتسنى للقائد العام للقوات المسلحة وأذرعه الأمنية الوقوف بوجه تلك المليشيات وردعها عن التلاعب بنتائج الانتخابات؟ وقبلها، كيف يتسنى له تأمين بيئة مناسبة سلمية وديمقراطية وآمنة مثلما يدعي. وهو الخانع والمرتعد أمام جبروت المليشيات وقبلها سطوة الأحزاب.
في مثل هذه الأجواء الملتبسة ما عادت الانتخابات غير مشروع لإعادة تدوير ذات الشخصيات والقوى التي سيطرت على مقاليد الحكم في العراق منذ 18 عاما ودفعت بالشعب العراقي نحو الجوع والفقر والخراب والمصائب الموجعات، ولن تكون الانتخابات المقبلة غير باب جديد لوصول قوى قديمة بوجوه وثياب مهلهلة تمثل الفاشيين الفاشلين القتلة من حملة السلاح ومرشحي المكاتب الاقتصادية لأحزاب الخراب.
ومن كل هذا وأمام خبث هذه القوى مجتمعة وبمختلف تشكيلاتها.  فليس أمام الشعب العراقي غير الاحتكام للمقاطعة الشاملة للانتخابات المقبلة، وتقديم درس واعٍ وأكيد لعزيمة الناس وقدرتها على إفشال مسرحيات الأحزاب الإسلامية والقومية والطائفية ومليشياتها القذرة ومكاتبها الاقتصادية الناهبة، وتنبيه العالم وأممه المتحدة لما يجري في العراق من قتل وسرقات وخراب عام باسم خدعة كبيرة سميت انتخابات. ولإثبات استمرار عدم شرعية السلطة المنبثقة عن الدورات الانتخابية السابقة ومثلها القادمة، إن لم يتم تأمين بيئة سلمية ديمقراطية سليمة وحقيقية بعيدة عن تهديدات المليشيات وسلاحها المنفلت وأذرع المكاتب الاقتصادية ذات المال المنهوب من قوت الشعب والمستغل لشراء الأصوات والذمم.       

60


مصطفى الكاظمي وأجندة الدولة العميقة
فرات المحسن
في خضم المشهد السياسي العراقي الملتبس، تتضارب التحليلات دون الوصول لنتائج حاسمة، أو الأحرى تتوقف عند أطراف ونتف من الحدث، لتبني عليه روايات واستنتاجات وقصص ما أتى الشيطان بها من سلطان. ولكن فضاء وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام تمنحها زخما يجعل الكثير منها حقائق قابلة للتصديق، لا بل مسلم بها عند جمهرة واسعة.
لازالت جذوة قضية اغتيال الخبير الأمني والباحث هشام الهاشمي مستعرة وتتفاعل بين أوساط الكثير من المهتمين بالحدث العراقي. ففي الوقت الذي تربط صحيفة الواشنطن بوست عملية اغتياله بتصاعد حدة الصراع الأمريكي الإيراني، وتلمح لكون عملية الاغتيال كانت جزءا من الرد الإيراني على أقدام أمريكا على قتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وذراعه الأيمن أبو مهدي المهندس قائد فصائل الحشد الشعبي العراقي، وكان قد قتلى عند أطراف مطار بغداد الدولي بهجوم نفذته طائرة مسيرة أمريكية. وهناك من يرجح أن تكون عملية اغتيال الهاشمي تدخل في باب قص أجنحة رئيس الوزراء الكاظمي وقضم مصادر معلوماته، ووضعه في عزلة لا يجرأ بعدها على اتخاذ قرارات تصطدم بالحشد الشعبي، وترفع من سقف علاقته بالأمريكان وتنفيذ رغباتها في شأن الحشد،وظهر هذا المؤشر إثر اتهام الهاشمي بعمالته للطرف الأمريكي.
ومثلما كانت رسالة مقتل الهاشمي ومن ثم اختطاف الألمانية الجنسية مديرة القسم الثقافي في معهد غوتا السيدة هيلا لويس، واضحة المغزى والأبعاد، وموجهة مباشرة  لرئيس الوزراء وحاشيته، فقد سبقتها حوادث أخرى كانت اشد وقعا وخطورة وقسوة على مركز الرئيس وقدرته على اتخاذ القرارات.ونستطيع القول أنها كانت ضربة مباشرة لمركزه وأدواته وحتى مكانته السياسية ، ولازالت تداعياتها مؤشر لاستكانة رئيس الوزراء وخضوعه لإرادة الحشد الشعبي وفصائله المنفلتة.  فالاستعراض الذي سجلته عدسات الكاميرات لمجموعة سيارات ذات دفع رباعي تتجول داخل المنطقة الخضراء، ومن ثم طوقت  مقرات رئاسة الوزراء ومكافحة الإرهاب. استعراض القوة هذا والتطويق،كان ردا مباشرا وحاسما على عملية جهاز مكافحة الإرهاب، الذي بادر ونفذ أوامر الرئيس الكاظمي، باقتحام مقر حزب الله في المنطقة القريبة من الدورة جنوب العاصمة بغداد، وتم اعتقال مطلقي الصواريخ. وكان حزب الله وبعض الفصائل الموالية لإيران يتخذون من المنطقة وطبيعتها الريفية، مراكز لمقراتهم ولعمليات التدريب على مختلف أنواع الأسلحة ومنها الصواريخ الثقيلة وبعيدة المدى وطائرات مسيرة. والمنطقة بحد ذاتها تمثل الجزء الجنوبي لقوة الصدمة للحشد الشعبي وواحدة من أهم مناطق طوق بغداد الأمني، الذي فرضه الحشد تحسبا لمستقبل مرتقب. وكانت حملة الكاظمي وجهاز مكافحة الإرهاب بقيادة الفريق الركن عبد  الوهاب الساعدي، محاولة لكبح جماح المليشيات وردع عملياتها المستمرة بقصف المنطقة الخضراء ومطار بغداد والسفارة الأمريكية بالكاتيوشا.
ولكن نتائج الاعتقال لبعض رجال الحشد من قبل قوات مكافحة الإرهاب، ومن ثم عملية دخول عجلات الحشد الولائي إلى المنطقة الخضراء وتطويقها لمقرات السلطة،وامتناع قادة حرس المنطقة الخضراء عن المواجهة مع الحشد، أضطر الرئيس الكاظمي الاستعانة والطلب من رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ليأمر بفك الحصار وإبعاد قوات الحشد عن مقرات الحكومة وهي رواية موثقة. كل ذلك يدل على هشاشة موقف الكاظمي وضعف إمكانياته وخضوعه لاملاءات تفرض عليه، ولا يملك القدرة على مواجهتها أو عدم تنفيذها، ولا حتى الاعتراض عليها. فالرجل محاط منذ ما قبل ترشيحه لمركز الرئاسة، بشبكة من عتاة السياسيين والشياطين، تمتد علاقاتهم وأذرعهم إلى ما خلف الحدود العراقية، ويمثلون شبكة واسعة من روابط ومصالح، ليس من السهل الإفلات منها أو تفكيك حتى بعض حواشيها وأطواقها، دون المجازفة والحزم وهي الخاصية الغائبة عن رجل لا يملك رصيد من القوة ولا القدرة على صناعة الحدث.
 من المناسب وبشكل عام معرفة طبيعة بعض قوام هذه الشبكة .  وفي ذات الوقت القول، من الصعب الوصول إلى عمق هذه الشبكة، وحتى كشف بعض أذرعها.  فكثير من المناصب الحكومية ومؤسسات السلطة المدنية والعسكرية، باتت بشكل حاسم وناجز تخضع لمقدرات هذه الشبكة، وتدار حسب مقرراتها وتنفذ أجندتها. وهناك وشائج ظاهرة ومخفية تربط  حلقات وحواشي هذه الشبكة مع بعضها البعض، وفي الأغلب الأعم فإنها تملك مصالح ورؤى مشتركة لمسيرة الحدث العراقي. ويحتمي أعضاؤها وإداراتها بفصائل مسلحة بغطاء مسمى الحشد الشعبي، وهي من ينفذ عمليات تطويع الآخرين وإجبارهم على القبول بما تفرضه مافيات الاقتصاد والسياسة، التي تمثل المكاتب الاقتصادية والسياسية للأحزاب الداخلة في العملية السياسية ومن هو قريب منها. ومجمل ذلك الحراك يرتبط أيضا بمصالح الدول الإقليمية وتأثيرها في الوضع الاقتصادي والقرار السياسي العراقي، وينوخ تحت ضغط علاقتها وتأثيرها على أطراف الشبكة المافوية الداخلية المسيطرة والمنفذة.
لم يحظى الكاظمي مصطفى بالقبول والرضا للحصول على مركز رئيس الوزراء إلا بعد نيله موافقة الأطراف المتنفذة والمهيمنة على الجزء الأكبر من الشبكة السياسية الاقتصادية للسلطة، والمتمثلة بقائمتي الفتح لهادي العامري وسائرون لمقتدى الصدر.  ورغم المناورات التي أجريت مع الزرفي و توفيق علاوي ومن ثم مع الكاظمي للتمويه على مجمل العملية وإعطائها طابع اللعبة  الديمقراطية بين القبول والرفض. ولكن في نهاية المطاف وافق الكاظمي على جميع شروط أطراف اللعبة، وقدم لها حقائب وزارية حسب خياراتها. فنال رضا الكرد بمنحهم ثلاث وزارات وأجبر على قبول فؤاد حسين كوزير للخارجية. وكان بقاء فالح الفياض بمركزه مطلبا ملحا للفتح كون الرجل يمثل قوة المافيات الساندة للقرار الاقتصادي والسياسي لمجموعة هادي العامري وحلفاؤه. وكانت مجموعة مقتدى الصدر المسماة سائرون قد نالت مرادها دون عناء بالحصول على العدد المناسب من وزارات الدولة . ولكن موقف سائرون كان شديدا وحاسما لا يقبل المناقشة أو التسويف، حول وجوب وضرورة الإبقاء على الأمين العام لمجلس الوزراء حميد نعيم الغزي في المركز الذي حصلت عليه مجموعة مقتدى على عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي.
 ووظيفة الغزي تمثل الرديف لرئاسة الوزراء، ويصب عمله في التنسيق مع الوزارات وإعداد جداول بسياق عمل مجلس الوزراء وتنسيق أعماله، وترأس لجان وزارية عديدة، والتوقيع باسم رئاسة الوزراء للعديد من المذكرات والاتفاقات بين الحكومة وبلدان أخرى. ولمعرفة قوة مركز أمين مجلس الوزراء، يمكن الرجوع إلى الأوامر الإدارية التي صدرت من مجلس الوزراء خلال عهد عادل عبد المهدي ومن ثم العهد الحالي، بتعيين وتدوير الكثير من المدراء العامين، وتوج كل ذلك بإصداره أمر إعادة موفق الربيعي للوظيفة وتعينه سكرتيرا للجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية، وأغلب تلك الأوامر كانت بتوقيع الغزي وليس غيره، ولم تجد اعتراضا من رئيس الوزراء.
لن يستطيع مصطفى الكاظمي ولا غيره الانعتاق والخلاص من الطوق المحكم الذي بنته وفرضته تلك الشبكة الواسعة من المصالح الاقتصادية للأحزاب الحاكمة. وإن افترضنا حسن النية في السيد مصطفى الكاظمي وجردناه من علاقاته بتلك المنظومة الفاسدة وعصابات المافيا، وأنا اشكك بمثل هذا، وأعد الكاظمي شريكا في كل ما جرى ويجري منذ ما كان رئيسا لجهاز المخابرات العراقي.
 إن الذي يحدث من عمليات اغتيال وخطف لنشطاء الحركة المدنية، والتفجيرات في المعسكرات وأمطارها والمنطقة الخضراء وبشكل دوري بقذائف الكاتيوشا، والاعتداء وقتل المتظاهرين، ما هو إلا حلقات متتالية وعمليات ممنهجة، الغرض منها ليس فقط استهداف وزعزعة الثقة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، وإنما غايتها إفشال مهام الكاظمي والطعن بالوعود التي قطعها على نفسه بعد تكليفه برئاسة الوزراء. ويأتي كل ذلك باستخفاف واضح وإذلال علني لسلطته وحاشيته، ولن تتوقف تلك الأفعال لحين اقتناع الكاظمي بفشله وخذلانه وإعلان تخليه عن المهام التي أراد تنفيذها، وخضوعه التام وقبوله بكلية ووحدانية شروط الدولة العميقة وشبكتها التي تدير شؤون السلطة في العراق .
 


61
دعوة لحضور عرض وتوقيع كتاب
الباحث الدكتور صالح ياسر حسن

بالتعاون مع اتحاد الكتاب العراقيين في السويد ودار اوروك- ميديا
 يستضيف المنتدى الثقافي الديمقراطي العراقي في ستوكهولم الباحث الدكتور صالح ياسر حسن للحديث عن كتابه الجديد:
"عمليات الإنتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي ـ بعض إشكاليات النظرية والممارسة". وذلك عن دار أوروك ـ ميديا، في العاصمة السويدية ستوكهولم
يشمل الكتاب ( الذي يقع في 234 صفحة من القطع المتوسط)، عشرة فصول، يتناول فيها الباحث وبروح نقدية إختلاف المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية وبعمليات الانتقال وأهمية توضيحها. وتسليط الضوء على بعض المفاهيم والأطروحات النظرية التي تؤصل لعملية الإنتقال الديمقراطي، من خلال التعريف بمفهوم الانتقال" ذاته. ورصد وتحليل الأسباب التي تؤدي اليه، والطرق أو الأساليب التي تتم من خلال عملية الانتقال، مخرجات هذه العملية، لاسيما فيما يتعلق بترسيخ الديمقراطية في مرحلة مابعد الانتقال.
بدراسة منهجية ابتدأها بشرح المفاهيم والمصطلحات التي تشكل بنية موضوعة الانتقال الى الديمقراطية، يتابع الباحث د. صالح ياسر حسن صيرورتها التأريخية، وفق ما يطلق عليه "التحقيب التاريخي" بمعنى تتبع انتشار مفاهيم الديمقراطية، بصيغتها المعاصرة على شكل موجات، ذلك رغم أستدراكه بأن هذه المقاربة تعرضت الى النقد بسبب "تعريفها المبهم للانظمة الديمقراطية من خلال مؤشر الانتخابات أساساً". أذ أن الانتخابات وأن كانت تشكل أحد الجوانب الأساسية في الممارسة الديمقراطية، لكنها ليس العنصر الوحيد، اذ ثمة أساسيات أخرى تتعلق بحقوق الفرد وحرية التعبير والعمل و جميع "الشروط اللازمة لإحترام الحقوق والحريات والفصل بين السلطات الثلاث الخ. مع التركيز على التجربة العراقية، التي تعرض فيها الديمقراطية واحدة من أهم تجلياتها على المحك، حيث الحراك الشعبي الذي يستخدم فيه الشباب المنتفض والمدعم من طيف واسع من فئات المجتمع، أدوات الفعل الديمقراطي الذي ضمنها الدستور، وهي حق التظاهر السلمي والإعتصام والإضراب عن العمل وحرية التعبيروغيرها، والتي تقابل من قبل السلطات المتنفذة بأشكال عدة من محاولات القمع والإلتفاف على هذا الحق. فالممارسة الديمقراطية لا تتحدد بصناديق الانتخابات، وأنما هي فعل يومي مؤسساتي يجب أن يمارسه الجميع.
الموعد: يوم الأحد المصادف 2   فبراير/ شباط   2020
من الساعة الرابعة الى السادسة مساء: - 00: 18   - 00: 16 
المكان:شيستا ترف،  شيستا توري رقم 7
 Stockholm, Kista Träff  -Norgesalen
Kista Torg 7




62
المنبر الحر / مطاردة الأشباح
« في: 19:17 16/10/2019  »
مطاردة الأشباح


فرات المحسن 
 
بضغط ما أرتكب من جرائم قتل بحق المتظاهرين العزل، والاتهامات التي وجهت للجهاز الحكومي بالقتل العمد والاستخدام المفرط للقسوة ضد المنتفضين، أطلق رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي تصريحات وجملة من قرارات ترقيعية، محاولة منه للملمة ما يمكن لملمته والتغطية على سوء إدارته وجرائم أجهزته وعجزها الكامل، والتي أثارت ضده قطاعات كثيرة من الشعب العراقي وجعلت هيئات ومؤسسات دولية تصدر بيانات تنديد وشجب واستنكار للجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي.
 
تعكس بيانات السلطة وتصريحات قادتها تناقضا حادا واضطرابا في السلوك السياسي والمهني، ففي الوقت الذي يلوح مستشار الأمن الوطني وقائد الحشد الشعبي فالح الفياض بالتهديد والوعيد للمنتفضين ومن يقف بجانبهم أو يدعو لتظاهراتهم، ومثله فعل قادة في الحشد ورجال سلطة وأعضاء أحزاب، حين اتهموا التظاهرات بالعمالة للأجنبي ولحزب البعث، وصرحوا دون خجل، بأن قواهم المسلحة وقوى أجهزة الأمن والشرطة والجيش تقف بالمرصاد للمتظاهرين،وهي وهم على استعداد لسحق المنتفضين وتدميرهم ومعهم المؤامرات الخبيثة التي تقودها قوى من خارج حدود العراق. وقد نفذت بعض تلك القوى وعودها وتهديداتها ووجه قناصتها رصاصهم الحي نحو رؤوس وصدور الشباب العراة السلميين، وقامت باغتيال واعتقال وخطف وتغييب أعداد كبيرة منهم. ولم يتوقف غضب هؤلاء الأوباش وتهديدهم ووعيدهم، عند حدود أبناء الانتفاضة فقط، وإنما وجهت آلتهم التدميرية للعبث وتحطيم وسائل أعلام وقنوات فضائية بحجة وقوف تلك الجهات الإعلامية بجانب انتفاضة الأول من أكتوبر 2019.
الرعب الذي أصاب الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، جعلها تدرك جيدا أن انتفاضة الأول من أكتوبر، سوف تكون مقدمة لتداعيات مستقبلية وتؤسس لدور مؤثر لا بل كبير في الحراك المجتمعي وعلى مستوى البنى السياسية الاجتماعية والاقتصادية،وسوف تكون انطلاقة لجيل شبابي جديد يفجر ويزلزل كل ما بنته الطبقة السياسية الحاكمة من نظام مهلهل صنع أسوء نموذج لسلطة غاشمة تخدع الناس بشتى الوسائل وفي مقدمتها الدين، لتقتل وتسرق وتبيح المحرمات باسمه، وتعمل ليل نهار على تجويع شعبها وقتل طموح شبابه وتطلعاتهم لغد أفضل، واستخدمت العنف لترسيخ وجودها، وفرضت القهر والقتل لمنع انفجار الانتفاضة واستمرارها ومن ثم تحولها إلى ثورة عارمة.
 
أجبرت جموع الشباب المنتفض حكومة عادل عبد المهدي على الاعتراف بأن تظاهراتهم وإرادتهم السلمية قادرة على مقارعة أجهزته القمعية بمختلف مسمياتها، وكذلك تعريتها من ما تدعيه من أخلاق وسلوك حضاري ومهني. واستطاعت الانتفاضة أن تكشف الكثير من عورات تلك السلطات وتفضحها أمام الشعب العراقي والعالم أجمع. فكمية الأخبار والأفلام والصور المتداولة بين الجماهير، عن السلوك الشائن والعنفي، وطرق القتل والتعذيب التي مارستها قوى الأمن والشرطة وقوة سوات وبعض فصائل الحشد الشعبي، لا تدع مجالا للشك بطبيعة هذه القوات وأفعالها الشنيعة والوحشية وقدرتها البالغة واستعدادها الممنهج للقتل بدم بارد، وكذلك محاولتها التعمية على تلك المعلومات والأخبار التي تغطي وتعري جرائمها تجاه أبناء شعبها. تلك الجرائم التي تظهر حقيقة ارتباط تلك القوى وتمسكها بالماضي الذي نقش عميقا في ذوات الكثيرين من منتسبيها، وباتوا معها يحملون عوامل مرضية نفسية متوارثة ومستشرية بين أوساطهم، أكتسبها قادتهم والكثير من منتسبيهم كموروث ومشروع شخصي وجمعي، مارسوه أو أصيبوا بعدواه أثناء خدمتهم في أجهزة القمع على عهد الطاغية صدام، وهذا ما يفاخر به الفياض ورهطه والكثير من المرتزقة على مختلف مسمياتهم.
فرضت انتفاضة الأول من أكتوبر 2019 على السلطة الحاكمة خيار اعتبار قتلاها شهداء يستحقون التكريم وأعلنت الحكومة الحداد لمدة ثلاثة أيام حزنا على الضحايا.هذا الاعتراف الرسمي الذي أنتزعه دم الشباب من روح السلطة وجبروتها وعنجهيتها، يكفي للطعن وتفنيد كافة البيانات الصادرة عن فالح الفياض ورهطه وفرق الردح من مرتزقة القوى السياسية من كتاب ومحللين، ومن حاول ولازال يحاول توجيه التهم للشباب المنتفض بالعمالة لجهات أجنبية، أو يتهمهم الارتباط بحزب البعث، ويحاول ليل نهار وبجهد ومثابرة خبيثة إيجاد ولو خيط رفيع يربط بين الانتفاضة ومن يدير المؤامرة من خارج العراق. أي مؤامرة كانت ومن أي جهة تأتي، ليس ذلك بمهم بقدر إيجاد الخيط الرفيع، عندها تمجد وتؤله سلطة تجويع وهلاك الشعب سلطة الخطف وقتل الأبرياء وتكميم الأفواه، وترتفع عند هؤلاء المرتزقة قيمة ارتزاقهم وخستهم على حساب جوع الشباب وضياعهم وتدميرهم بالبطالة والمخدرات.
أصدر رئيس الوزراء بيانات وحزم قرارات تداولتها وسائل الإعلام رغم ما تحمل بنيتها ومحتواها من كذب فاضح وصريح. وقد قوبل جميعها من قبل الجماهير ووسائل الإعلام ليس فقط بالازدراء والريبة وإنما بالاستهزاء وعدم الثقة، وعززت تلك البيانات والقرارات حالة العزلة بين السلطة والشعب. فرئيس الوزراء الذي لم يتعلم من جنسيته الفرنسية غير كيفية الدخول إلى لوح الحاسوب والكتابة من خلاله، وأصابته مثل أي عجوز أخر، الدهشة من هذا العالم الغريب، فاستطاب منه نظام الاستمارات والإحصاء والقياس،فعد ذلك مظهرا من مظاهر الشعور بالعظمة والاعتزاز بالنفس والقدرات، فأخذ يبيع برأس العراقيين لبن مغشوش، وفذلكات وأحاجي سبق أن خُدع بها، لذا صنع فذلكة اخترعها بعد اختياره لرئاسة الوزراء، وله قصب السبق في هذا على جميع رؤساء الدول وسياسيها، حيث أعلن عن فتح باب الترشيح للوزارات عبر بوابة الكترونية، يقدم خلالها من يرغب بشغل حقيبة وزارية، سيرته الذاتية وخبراته، ليختار بعدها عبد الهادي  من يجد فيه الكفاءة لشغل المنصب، ولكن مع مجريات الوقائع اللاحقة ظهر إن رئيس الوزراء قد ضرب وفذلكته ببوري معدل من قبل رفاقه، وأجبر على قبول خيار الكتل، ووزعت حقائب الوزراء حسب الأهمية والقرب من قوى المحاصصة، وما وجد الرئيس غضاضة في ذلك، ولم يكلف نفسه أو يقدم اعتراضا يذكر على ما فرض عليه، وبسبب هشاشة شخصيته فقد وجد فيما حدث نافذة للخلاص من المسؤولية كما سالف عهده بالمسؤوليات.
إثر الرعب الذي أثارته انتفاضة الجياع وبعد التمرين القاسي الذي مارسته القوات العسكرية  والأمنية للقائد العام رئيس الوزراء، ضد العديد من الاحتجاجات السابقة وأخرها ما حدث مع خريجي الكليات العاطلين عن العمل ثم شباب انتفاضة الأول من أكتوبر. أختار رئيس الوزراء ذات الطريقة السابقة، وهي توزيع صحيفة الكترونية على العاطلين ووجوب سعيهم للحصول عليها وملؤها بالمعلومات الشخصية ومن ثم تقديمها للحصول على مبلغ الرشوة البالغ 175 ألف دينار عدا ونقدا ولمدة ثلاثة أشهر فقط وبعدها يرمون في أتون البطالة مرة أخرى ، وهذه العطوة جاءت لكسب الصمت ليس إلا. وعبد المهدي سليل العائلة الإقطاعية هو الأعرف بحاجة الناس وكيفية التعامل مع الفلاحين. ومع ما خطط له ورهط مستشاريه الذين فضلوا خيار تقديم الطعم للشباب الثائر لمدة ثلاثة أشهر وحزمة من تعيينات للبعض من الخريجين. سوف يجدون آلاف الشباب تطرق أبواب مؤسساتهم بحثا عن هذه اللقمة اللعينة عسى ولعل تسد بعض جوع .
يعرف رئيس الوزراء ومجلس مستشاريه ومن سانده ووضعه على رأس السلطة، وهي تلك القوائم الحزبية الخبيثة التي تطعن بأحلام الشباب وتسفهها كل يوم، وتغذي بين أوساطها مثلما المخدرات، الخيبة والخذلان. جميع هؤلاء ممن يشاطر الرئيس المسؤولية في إدارة الدولة وحتى البرلمان العراقي، جميعهم يعرف جيدا أن البوابة الالكترونية أو تلك الاستمارة اللعينة المطلوب من العاطل ملئها، سيكون الحصول عليها عصيا على غالبية العاطلين عن العمل، لأسباب عديدة في مقدمتها فقرهم وإملاقهم وعدم امتلاكهم لجهاز كمبيوتر أو عدم قدرتهم الوصل إلى أماكن توزيعها. ولكن المصيبة الأكبر والأعظم ستكون في مشهد تكرر ويتكرر دائما وتحت أنظار العالم أجمع، ودون أي حياء أو تأنيب ضمير،وسبق لرئيس الوزراء أن وقع فيه ومارسه وغاص في وحله حد رقبته الضامرة، إلا وهو استحواذ الأحزاب ورجال الحكم وقادة الفصائل على تلك الاستمارات لتقديمها بأسماء حقيقية أو وهمية للاستحواذ على الدرجات الوظيفية لصالح رعاياهم ومرتزقتهم. أو حتى الحصول عليها ومن ثم بيعها للآخرين لشراء ذممهم أو مساومتهم على بعض ما يحصلون من مال.
 
الأغرب في تلك القرارات والبيانات ليس التغيير الوزاري الذي لم يجد البرلمان العراقي ووسائل الأعلام ومعهم الكثير من المحللين السياسيين،لم يجدوا فيه أو له طعما ورائحة، وجاءت جميعها دون معنى ودلائل أو قرائن وإدانات واتهامات،رغم السلوك الشائن والخائب والضعيف لا بل الغامض والخالي من الأداء المهني عند غالبية الكابينة الوزارية، التي لم تقدم للشعب غير الخيبات وسوء الأفعال والخدمات.فرئيس الوزراء وبعد أن ارتجفت فرائصه من هول الانتفاضة أراد أن يشرك الشعب بقراراته الخاصة التي تسعى لمطاردة الفساد، الذي بات يشكل مظهرا من مظاهر الخراب العام، وأصبح دالة ترزح تحتها جميع مفاصل مؤسسات الدولة، ومعه تزداد يوما بعد يوم عذابات الناس وقهرهم وجوعهم، وفي الوقت نفسه تنمو عصابات الجريمة لتشكل كارتلات وائتلافات تمتد أذرعها خارج العراق، وبعضها اقرب من حبل الوريد لمحيط رئيس الوزراء وأخوته في النضال السابق والحالي.وهو مثلما عرفنا عن سابقيه من رؤساء الوزارة العراقية يتماها ويحاكي بتناغم تلك العصابات، لذا يتساءل ببراءة الأطفال وفي مؤتمره لتشكيل لجنته المنحازة سلفا لتقصي الحقائق حول جريمة قتل المنتفضين، نجده وكأنه السيد المسيح في طهرانيته وتجلياته، يسأل جلاسه والشعب عن وجود قناصين وقنابل يدوية ومولتوف وحرق بنوك وتحطيم دوائر ووو وهو القائد العام لأكبر مؤسسات البلد وأضخمها والأكثر استهلاكا وأنفاقا. ولترقيع تلك البراءة وتحسين الصورة وبسخاء مفرط وفي غفلة من الزمن، يعلن عن طرد أكثر من ألف موظف حكومي عن أعمالهم، بسبب تهم الفساد والارتشاء والمحسوبية، ثم يردف هذه الوجبة الدسمة من الفاسدين بوجبة أخرى لعدد من المسؤولين الكبار تمت إحالتهم إلى المحاكم بتهم فساد أيضا.
من هم هؤلاء الأشباح الذين طردتهم أو أحلتهم للمحاكم، وبأي تهمة أدينوا وما طبيعتها ووفق أي قواعد ومعايير قانونية عاقبتهم، وأنت تبحث عن الدولة وتحارب الانحراف نحو اللادولة، وتحكم بلدا ديمقراطيا حد الكَشر، يطعم شعبه رصاصا وغازا مسيلا للدموع. وبعد كل الذي جرى تحت قيادتك وضمن مسؤوليتك ، تطلب منا أن نصدق هذا الذي ذكرته وفعلته في بياناتك، وأنت ولحد الساعة تتساءل عن الذي حدث وتبحث عن وقائع جرمية لتحمل شباب الانتفاضة وزرها، رغم إنك وأقولها بالفم المليان قد شاهدت عسكرك ورفاقك ومليشياتك، كيف كانوا يتصيدون شباب الانتفاضة برصاصهم وبدقة العارف والقادر يصيبون الرأس دون باقي الجسد.
من هم هؤلاء الأشباح من الفاسدين الذين أخرجتهم من وسط سلطتك الموبوءة بالفساد والمنخورة حد العظم.ومن هم هؤلاء الذين كانوا يتصيدون الشباب برصاصهم القاتل. أتريدنا أن نصدق ما فعلت بهذا الكم من الأشباح مجهولي الهوية، وتدعونا لمشاركتك في المطاردة والبحث عنهم وكشفهم.ونحن نرى جيدا من يحيط بك ومن هو أقرب لك وأعزهم رفقة وصداقة ، وجميعهم من عتاة القتلة وسراق المال العام والخاص، ونشاهدهم يوميا  يمرحون بظل سلطتك ويجلسون بكل أريحية واطمئنان جوارك وتمارس معهم لعبة سلب الناس حقوقها.     
 
 
 
 


63

وحدة قوى التيار الديمقراطي هل من مرتجى؟

فرات المحسن
لا ريب أن الدعوات التي انطلقت من بعض الأساتذة لتلافي الصدع الذي أصاب بعض قوى التيار الديمقراطي وبالذات إثر ما حدث في بعض تنسيقياته، تعد محاولات لتلمس الطرق الناجعة للملمة ما يمكن لملمته لصالح قوى كان وما زال وجودها ضروريًا في الساحة العراقية داخليا وخارجيا. وقد انطوت تلك الدعوات على حسن نوايا واضحة ورغبة حقيقية لسبر غور الأحداث ووضع بعض حلول أو مقترحات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم عدم وجود الدراية لدى البعض منهم بحقيقة الأحداث ومسبباتها.
أعتقد بل أجزم بأن ما حدث يشكل بطبيعته مؤشر لتصدع كبير شارك في بلورته وتصعيده، قوى وشخصيات داخل التيار ذاته، ولم يكن وليد هذه الأيام، بقدر ما كان كامنا داخل الهياكل والبناء ومسير القوى والشخصيات التي تبنت تأسيس التيار الديمقراطي، وأخذت على عاتقها العمل على بلورة هيكلته على وفق شعارات كان بعضها بعيد كل البعد عن الواقع، وهذا ما ساد في النهاية. فكان هناك ميل ظاهر لإطلاق أحكام تعميمية شخصية تبحث عن أدوار بطولية قبل أي شيء آخر. وبدا أن هذه الشخصيات والقوى المشاركة بالعمل داخل التنسيقيات معبأة تماما بأفكار نخبوية أنانية أدت بالنتيجة لتفاقم الخلافات. وفي اعتقادي أن هذا يمثل توجهات وأفكار اقصائية تدميرية قريبة من المرض المزمن. وهذه الأمراض سبق وأن أصيبت بها القوى الوطنية خلال فترة معارضتها لحكم الطاغية صدام، واستفحل أمرها بعد سقوط الدكتاتورية وانشطار وتنازع القوى والفعاليات السياسية واستفحال الصراعات الثانوية على حساب المشتركات. ففي نفس الوقت الذي كنا نحاول إسقاط جل العيوب على مسبب واحد هو حكم صدام، كنا نجد ذلك سلوكا سويا ومريحا يبعد عنا اكتشاف سوءاتنا وعيوبنا وتشتتنا، ونمو قدراتنا على التعالي وافتعال الخصومة والنفرة واستسهال الطعون. هذه الأمراض المهلكة انتقلت وتوارثها البعض، وكانت أسبابا يمكن تشخيصها ونبذها لو وضعنا أمام أعيننا حقائق ووقائع ورغبات صادقة في تشكيل تيار وطني بعيدا عن التشوهات والرطانة الفارغة والنخبوية ومحاولات الاستئثار والاستحواذ.ولكن تلك الأمراض  وصلت في بعضها لحدود العدوانية والتدمير، وحدث الكثير منها داخل أوساط القوى الديمقراطية وأيضا داخل الحزب، وباتت اليوم تشكل اللوحة الظاهرة لمشهد التشتت والنزاع. وأستطيع القول بان هذه العيوب والنزوات رحلت إلى القوى المدنية الوطنية داخل الوطن أيضا لترتفع معها مؤشرات الخصومة والشعور بالإجحاف والغبن، وبسببها  يوجه البعض سهام اللوم والتبخيس الرخيص لمن بقى داخل الوطن ولم يستطع اللحاق بالمعارضة. وبالعكس هناك من يتنازع ويوسم معارضة الخارج بمختلف التشوهات ويوجه لها الطعون. هذا الانشطار بات يشكل واحدا من إشكالية كبيرة في الجهود المبذولة لصياغة وحدة التيار الديمقراطي. 
من كل ما تقدم ظهرت نتائج بعيدة كل البعد عن الأسس التي تشكل وفقها التيار الديمقراطي، والذي كان الهاجس الأول والضروري لتأسيسه خارج العراق وحسب ظني ووفق مسعاي في بدأ انتمائي، ومعي العديد من الزملاء. التضامن مع القوى والشخصيات العلمانية الوطنية داخل العراق أولا، والدعوة لرص الصفوف والتهيئة للانتخابات، ومن ثم السعي لبناء لوبي ديمقراطي وطني علماني في بلدان الشتات يساعد على مخاطبة الهيئات الدولية والأحزاب في تلك بلدان ، للقيام بدور فاعل لمساعدة العراق على إنضاج تجربته الديمقراطية والحث على تبني الخيار الحضاري وتغذية تجربة الحكم بإنجاح مسيرة تداول السلطة والقبول بالأخر وبناء السلطة ديمقراطيًا. كذلك لغرض طلب مساعدة جميع تلك الهيئات الدولية وحثها على مفاتحة السلطة في العراق ومراقبتها والضغط عليها إن تطلب الأمر،للابتعاد عن السلوك الجانح ونبذ سياسة الإقصاء والتخلي عن بدائية الطرق والعلاجات السياسية والاقتصادية، والعمل على تهذيب الوعي المجتمعي. وبموازاة كل هذا السعي للمشاركة في الانتخابات الديمقراطية وبذل الجهود لإيجاد موطئ قدم مؤثر للقوى الوطنية العلمانية الديمقراطية داخل البرلمان العراقي.
ومع هزال السلطة والاعتداءات المتكررة والفجة على القانون والتي تمارس من قبل الأحزاب والمليشيات ومن المواطن العادي أيضا، وشيوع عمليات الاحتيال والخداع وتفشي المخدرات وسوء الخدمات وتدني التعليم والبيئة والصحة، وغياب الانتماء الوطني وتهشم المشترك الذي يخدم جميع أبناء الشعب دون إقصاء، وتفجر للعدوانية عبر استباحة وسرقة الممتلكات العامة والخاصة وضعف الملاحقة القانونية وانتشار السلاح المنفلت. كل ذلك ينذر دون شك بمستقبل صعب هلامي يحمل بين طياته مظاهر نذر شؤم يمكن لها أن تفجر العنف والصراعات الدموية، على خلفية تلك العلاقات المشوهة والاضطهادية الضاغطة والمستشرية والبعيدة كل البعد عن اهتمام السلطة، بل لا تولي تلك الظواهر اهتماما حقيقيا بقدر اهتمام أطرافها بتقاسم السلطة وترسيخ مبدأ المحاصصة وهذا لوحده يجعلها بعيدة عن وضع استراتيجيات حكيمة لعلاجات مثلى توقف التداعيات وتحجمها وتتفادى انفجار الصراعات .
كل ذلك كان حافزا ولازال للقوى والشخصيات الديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي لتبني خيار تشكيل التيار الديمقراطي. وأنا هنا لا أذيع سرًا وأقول بشكل جلي، إن الحزب الشيوعي كان المحفز الرئيسي لتبني ذلك الخيار، وكان صاحب الفكرة والأكثر والأبرز شأوا  في العمل لأجل هذا، وحشد قواه ودفع أعضائه للمشاركة في تأسيس التنظيم.
كان الدافع الرئيسي والحقيقي لتشكيل التيار الوطني قد جاء وفق غاية ليس بعيدة عن الحشد والإعداد لخوض انتخابات عام 2014 والرغبة في أن يلعب هذا التيار دور داعم (( للتحالف المدني الديمقراطي)) الذي شكل كتحالف مدني عابر للطائفية شارك الحزب الشيوعي العراقي بقوة في بناءه، وضم بعض العناصر العلمانية من مثل مثال الألوسي وفائق الشيخ على وشروق العبايجي و غيرهم، ليدخل هذا التحالف حلبة المنافسة مع باقي الأحزاب والكتل في الانتخابات التشريعية للبرلمان العراقي عام 2014.
استطاع الالوسي وفائق الشيخ علي وشروق العبايجي الحصول على مقاعد في البرلمان، دون حصول الحزب الشيوعي على مقعد يضمن وجوده هناك، بالرغم من مشاركة جماهيره في الانتخابات ومثلها فعلت قوى التيار الديمقراطي التي باتت تشكل قوة تصويتية لها وجودها في الواقع السياسي.
لا أميل لإطلاق الأحكام التعميمية القاطعة، ولكن أستطيع القول أن الفترة اللاحقة للانتخابات البرلمانية العراقية وعبر الأربع سنوات، حملت الكثير من التناقضات وكانت في الكثير منها نذائر شؤم ليس للتيار الديمقراطي وإنما حتى للحزب الشيوعي. فالتساؤلات التي أثيرت في الشارع العراقي كان جلها يصب الغضب على سياسة التحالفات التي يجترحها الحزب الشيوعي،لذا يوسمها البعض بالعقم والضعف .وبدوره قدم الحزب تبريرا لعدم حصوله على مقعد في البرلمان، راميا ذلك الإخفاق على قانون سانت ليغو وانحياز مفوضية الانتخابات للقوائم الكبيرة الحاكمة. أعتقد أن الحزب الشيوعي في هذا، لم يولي ما حدث اهتماما فعليا ليعيد حساباته في التحالفات، أي كيف ولماذا ومتى ومع من؟ ويدرس حينها رغبات وقناعات وأفكار ليس فقط أعضاء الحزب وإنما أصدقاء الحزب ومحبيه.
 لم يكن أداء الألوسي وفائق الشيخ علي وشروق العبايجي موفقا داخل البرلمان وخارجه مما شكل حرجاً لا بل وضعًا متوترا داخل صفوف الحزب  ومثله بين أوساط التيار الديمقراطي. ولغرض إيجاد التوازن في التشخيص، ممكن القول بأن الكثير من تلك التداعيات فيها بعض من الالتباس، لا يتحمل الحزب الشيوعي لوحده جميع أوزارها، فهناك حروب بدائية دائما ما كانت تهدف للتشكيك وتصعيد حدة الخلافات والدفع بعدوانية في محاولة ضارية لوضع آسفين وشق صف القوى الوطنية وبالذات داخل أوساط الحزب الشيوعي ومؤازريه. ولا يخفى وجود ميل عند البعض داخل الحزب وكذلك بين أوساط الوطنيين للطعن بالتجربة وإسقاطها. وكانت هناك أيضا وبشكل مفضوح محاولات ستالينية مستميتة للاستحواذ على تنظيمات التيار أو في أبسط الأحوال جعله يتبنى خيارات الحزب، مما فتح الطريق لبداية خلافات وسط التيار.
 ظهر ذلك جليا في فترة الإعداد لانتخابات البرلمان العراقي عام 2018 .فمشوار التيار الديمقراطي للانتخابات، بدأ بمارثون ساهم في انشقاقه وتشرذمه قيادات الداخل، وبات خلاله وبعده شوط الخصومة يتصاعد. فالسلطة الحاكمة والمفوضية  المشرفة على الانتخابات ألمحت للتيار بضرورة أن يشكل حزب يسمح له الدخول في الانتخابات كقائمة  إن أراد المشاركة. وبدوره عمل الحزب الشيوعي على تشجيع بعض أعضاء التيار الديمقراطي داخل العراق للإسراع في بناء صرح ذلك الحزب، واستساغ البعض فكرة تأسيس مثل هذا الحزب وعقد لذلك مؤتمر ولقاءات. وهنا حدث الخلاف بين الداخل وبعض قوى التيار الديمقراطي، وبالأخص من تنسيقيات التيار الديمقراطي بالخارج. فكان هناك إصرار من البعض على نبذ  فكرة تكوين حزب من التيار الديمقراطي والإبقاء على صيغة العمل التي تذهب لإدارة التنسيقيات بعيدا عن مركزية تنظيم حزبي.وأنا لا أخفي ومنذ التأسيس استئناسي وتبشيري بهذا الرأي. وأرى اليوم أحقية هؤلاء في مشروعهم الاستقلالي رغم بعدي عن تنظيماتهم. وهنا لا ينكر فأن الدعوة لتأسيس حزب أحدثت شرخا كبيرًا واضطرابًا في مسيرة التيار الديمقراطي.
استمرت المباحثات بين قوى التيار الديمقراطي العلماني بجميع تلاوينها لغرض التجمع في كتلة واحدة تخوض الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2018. وبجهود واضحة شارك الحزب الشيوعي بتجمع أطلق عليه تسمية ( تقدم ) .لا أريد هنا الخوض في متبنيات حركة تقدم والأسباب والتبريرات التي قدمت من الحزب الشيوعي أو التيار الديمقراطي عن سبب انفراط عقد هذا المشروع الجامع وذهاب الحزب لخيار التحالف في ( قائمة سائرون ).
أثارت هذه ألانتقاله الكبيرة والفجائية للحزب الكثير من التساؤلات ليس فقط بين أوساط التيار الديمقراطي وإنما داخل الحزب الشيوعي. ومن الضروري هنا الإشارة إلى الدور الرئيسي الذي تكفل به بعض أعضاء المكتب السياسي وعلى رأسهم سكرتير الحزب الشيوعي السيد رائد فهمي لتبني ذلك الخيار، وكان هو بالضبط من أدار فجأة ودون مقدمات ظهر المجن للحلفاء في تقدم، مما سبب حالة من الدهشة والذهول وخيبة الأمل.
بعد هذا الحدث راح الحزب يبشر بقوة بما أسماه جماهير التيار الصدري المهمشة والمغيبة والمظلومة التي يجب الدفاع عنها واحتساب قوتها التصويتية وسطوتها وسعتها الجماهيرية، وعدها ذخيرة حية من الممكن الاستناد أليها لصناعة نصر ناجز في العملية الإصلاحية. ومن الممكن للقائد مقتدى الصدر لو أتيحت له الفرصة، بناء الوطن العراقي الحر وجعل الشعب سعيدا.
 لابد قبل البحث في حقيقة مسعى وخيار الحزب في هذا الجانب، النظر إلى التداعيات التي سببها تحالف سائرون. فقد أثار ذلك الخيار تساؤلات وانفعالات كثيرة لازال يتردد صداها دون أن تحسم، ليس فقط بين أوساط الشيوعيين وإنما عند الكثيرين وبمختلف المستويات من المحبين للحزب أو مؤازريه. وباتت دوامة تلك الأسئلة وعلامات الاستفهام والشكوك تتصاعد يوما بعد أخر،ويأتي كل ذلك على خلفية ما يقدم عليه ويقوم به السيد مقتدى الصدر وتياره من سلوك وأفعال وتصريحات.وهنا أختصر الكثير من الوقائع التي اقترفت بعيدا عن فكرة الإصلاح وقبلها مبررات التحالف، ليحضرني تصويت سائرون دون الحزب الشيوعي على قبول طريقة سانت ليكو، وقبلها استحواذ التيار الصدري على مراكز حساسة في حكومة عادل عبد المهدي ومشاركاته في إدارة مؤسسات الدولة ووقائع الفساد المستشري داخلها. وقبل كل ذلك انفراد السيد مقتدى بآليات القرار وحصر التفاوض مع باقي القوائم بشخصه دون غيره،وتوج الآمر بالبيان الذي صدر عن سائرون والذي أختصر بالقول ( إذا قال السيد مقتدى قال سائرون أو قال العراق) وغير ذلك من الممارسات التي تعطي الانطباع وتشير في النهاية، لكون سائرون بكل أطيافها باتت أسيرة لرأي وأفعال ورغبات السيد مقتدى الصدر. وجميع تلك الوقائع دلائل حقيقية على نأي السيد مقتدى وتياره عن مسمى إصلاح ودولة مدنية، وإن رصيدهم الطبيعي والأساسي يذهب في اتجاه معاكس ومغاير للإصلاح والدولة المدنية والعدالة الاجتماعية. فالتيار الصدري مرهون بمشروع الدولة الإسلامية الاقصائية المستندة لنظرية العمل على استلاب إرادة الجماهير وإضعاف قدراتها على الاختيار السليم، من خلال اللجوء إلى تغييب الوعي بين أوساطها، والعمل على تفشي الخرافة والحرمان من حرية التعبير وتكريس عبادة الفرد القائد .
دخول الحزب الشيوعي لتحالف سائرون أشاع ما هو أكثر من حالة التبخيس للقدرات لا بل أصيبت جماهيره ومعها الكثير من الأصدقاء والحلفاء  بحالة من اليأس والخيبة، وباتت الجماهير التي كانت تعلق آمالها على الحزب والقوى المدنية الديمقراطية، في حالة إحباط وقنوط، وجاء ذلك كرد فعل واقعي لفقدان الهدف المرتجى مع تصاعد اليقين بانعدام أمكانية بلوغ تحالف مدني ديمقراطي حقيقي على المدى القريب، بعد أن وجدت القوى الديمقراطية أن الحزب الشيوعي قد تخلى كليا عن هدف بناء كتلة مدنية للعلمانيين الديمقراطيين ورمى ذلك وراء ظهره، وفضل خيار النأي عن الأفكار والأهداف الثورية التي وسمت على المدى الطويل تاريخ نضاله الإنساني الرائع، وقدم لأجل ذلك خيرة شبابه شهداء على مذبح الحرية والعدالة الاجتماعية، دون التهيب والرعب من خصوم وقوى دائما ما كانت تناصبه العداء وتستخدم القمع والوحشية الدموية والإبادة في مواجهة مناضليه.
إذا كان هناك حرصا حقيقيا لتبني مسعى تشكيل كتلة تيار ديمقراطي حقيقي فمن المناسب للحزب الشيوعي أن يعيد النظر بالأحداث والتداعيات التي سببتها أولا تدخلات البعض من أعضائه في سير ووقائع وعمل التيار الديمقراطي، ومحاولتهم تجير حركة التيار لرغباتهم ونزواتهم. أيضا التدقيق والنظر بأسباب وتداعيات تخليه كحزب شيوعي عن خيار الراديكالية وابتعاده أشواط عن قوى داخل تنظيماته وخارجها كانت تأمل أن يكون الحزب المحفز لمسيرة بناء الكتلة الوطنية العلمانية الديمقراطية مهما كان حجمها وقوتها. وكان الشارع وبالذات قواه الديمقراطية تأمل أن تنموا المبادرة وتتوسع رويدا رويدا، وبصبر وأناة تجذب أليها جماهير شعبية كبيرة، تساعد بنضالها المطلبي وصوتها العالي للضغط والتسريع في التحولات الحضارية الديمقراطية وبناء دولة المواطنة.
أخيرا أجزم بأن ما فعله الحزب من خيار التحالف مع سائرون كان خيارا مأزقيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد ساهم مساهمة كبيرة في تشتيت جهود قوى التيار الديمقراطي وفت من عضدها، وساعد على إثارة لغة الطعون والإساءات والتخريب والهدم .
ورغم رؤيتي لصعوبة تجاوز الحزب الشيوعي لهذه المحنة والخروج بسهولة سالما منها. فظني وبعد انهيار تجربته هذه التي أراها تقترب، والتي حملت منذ يومها الأول الخطل والعطب، ويوما بعد يوم تثبت فشلها، لا بل شابها التذبذب والغرابة في وقائعها وحيثياتها، ونرى في مجريات وقائعها اليومية ابتعاد عن جميع الأهداف التي أعلنت عند تأسيسها كتحالف بمسمى سائرون. يبقى الحزب بحاجة إلى نظرة نوعية علمية تستلهم الواقع وتستوعب ما حدث بجزئياته وليس فقط بعامته، على أن يأتي ذلك عبر دراسة ميدانية للقوى المدنية الديمقراطية الحقيقية، والمسالك المفضية لخيارات التحالف العلماني الحضاري . فالبناء الحضاري والدولة المدنية تحتاج إلى وقت طويل وطويل جدا، وأيضا لمراس وصبر وأناة ، على أن تتضافر جهود استثنائية وحشد قوى، بعيدا عن الوصاية والإملاء، ويجري تحليل الواقع  وهواجس الناس السلبية والايجابية والابتعاد عن المحاباة والمجاملات على حساب المبادئ وحياة الجماهير ومطالبها الصريحة والحقه.
ومن نافلة القول، إن تشكيل تيار وطني ديمقراطي علماني يحتاج وقبل أي شيء أخر، إلى بناة ديمقراطيين حقيقيين وليس إلى هواة خطب ثرثرة ورطانة كاذبة بالوطنية أو نخب وشللية تسعى للسيطرة والاستحواذ.   



64
.                 الإطاحة بعمر أحمد البشير كان طبخة سعودية


فرات المحسن

مثلَ العطاء السعودي قمة السخاء في منح المليارات السبعة من الدولار الأمريكي لجمهورية مصر العربية وقائدها الرئيس عبد الفتاح السيسي إثر انقلابه على الرئيس الإخواني محمد مرسي،ليعقبه عطاء سخي أماراتي وكويتي. الانقلاب شكل علامة فارقة في حياة الشعب المصري ولازال. وفي نفس الوقت  أفصح عن قدرة وقوة وعزيمة المملكة السعودية على تنفيذ سياستها في المنطقة والعالم الإسلامي بقدر ما تستطيع وبما تملكه من تأثير وسطوة وفائض مالي كبير.

بعد تلك الأحداث ظهر أن  إزاحة  الرئيس الإخواني محمد مرسي عن كرسي الرئاسة في مصر، جاء على خلفية الصراع الوهابي الإخواني. فوجود الإخوان المسلمين على رأس السلطة في جمهورية مصر شكل صداعا قويا وتهديدا مباشرا  للسلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية الوهابية في  للملكة السعودية. فالأخوان يعدون المنافس الفكري السياسي ـ الاجتماعي للعقيدة الوهابية على مستوى العالم الإسلامي، رغم أن الطرفين ينبعان من ذات الأصول الفكرية، ويتوافقان في الكثير من تفاصيل المناهج الدينية التي يرتكنون أليها ويعملون على ترويجها، وفي الوقت ذاته فان السيطرة على العالم الإسلامي هي الشغل الشاغل لكلا الطرفين، لذا فلأحداث تفصح عن حلبة الصراع السياسي بينهما، ووفق هذا الصراع الخفي أو المعلن، أعطت المؤسسة السياسية والمالية السعودية الإشارة لأذرعها بضرورة التحرك ولملمة ما يمكن من المشهد في مصر، لتقليم أظافر الإخوان، ومن ثم الإطاحة بالمشروع الإخواني الذي استطاع الاستحواذ على السلطة في مصر وفق استحقاق انتخابي، وليس انقلابا عسكريا أو صعودا إثر تخلي الرئيس حسني مبارك  عن السلطة.

 أغلب الوقائع حينذاك كانت تشير لوجود رغبة داخل المؤسسة العسكرية المصرية واعتمادا على وعود بالمساعدات السخية من السعودية وبعض بلدان الخليج، لإعادة وضع قاطرة الدولة المصرية على سكة النظام السابق مع بعض التغييرات الطفيفة، وهذا الترتيب الذي جاء عبر انقلاب عسكري، قامت به المؤسسة العسكرية المصرية، وكان الغرض منه إعادة أنتاج نظام حسني مبارك بطبعة جديدة، وهذا ما حصل فعلا.

في السودان اليوم صراع علني بين مطالب الجماهير ومنظماتها  في مواجهة المؤسسة العسكرية .هذه المؤسسة الراسخة بتقاليدها الغير مرنه والمحافظة، ورغم تقاليدها المحافظة وسيطرة روح الانضباط والمسلكية عليها، لكنها وفي مراحل تاريخية عديدة منذ الاستقلال الناجز عام 1956 ،أفرزت رجال وقادة تحسب لهم وقفات وطنية شجاعة . ولكن هذه المؤسسة العسكرية وفي المرحلة الراهنة، ومن طبيعة تعاملها مع مطالب الجماهير إثر الإطاحة بالبشير، تبدو وكأنها دُجنت على عهد عمر حسن أحمد البشير، لذا نجدها بعد الإطاحة بالبشير غير راغبة بترك السلطة دون أن تجد ضمانا يمنحها حق الحفاظ على المكاسب التي حققتها أثناء حكم عمر البشير.

شكل انقلاب العقيد عمر حسن البشير على حكومة الصادق المهدي في 30 يونيو عام 1989وسيطرته على السلطة بما يقارب 30 عاما ما يمكن تسميته رسوخ دكتاتوري بغيض عانى فيه الشعب السوداني الأمرين. أتخذ البشير خلال تلك الفترة العديد من المواقف المتقلبة المتذبذبة  وقاد المؤسسة العسكرية السودانية نحو مواجهات واسعة ومفتوحة مع الأحزاب والمنظمات الجماهيرية وقطاعات شعبية كبيرة، وبسبب حروبه الداخلية والسياسات الطائشة المتذبذبة وغير الحكيمة في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية ، أصبح الوضع الاقتصادي والسياسي ينذر بالخطر وبات من غير المنطق لا بل ليس من الحكمة بقاء البشير على رأس السلطة في السودان .

كان نظام البشير حليفا قويا للمنظمة العالمية للإخوان المسلمين وسبق أن استضاف العديد من قادة التنظيم وقدم المساعدات اللوجستية لهم، يضاف  لذلك حصوله على تأيد قوي وفعال من دولة قطر وتركيا، قدمت قطر له المساعدات المالية جراء إخلاصه وولائه لمنظمة الإخوان، وبات السودان مثلما دولة قطر وتركيا ممرا حيويا للراغبين بالذهاب إلى الجهاد في أفغانستان أو سوريا والعراق وليبيا.

أيضا سبق لعمر البشير أن مد جسور الصداقة والعمل مع إيران، ورسخت  تلك الصداقة لفترة جدا طويلة، استطاعت إيران فيها تقديم الكثير من المساعدات للسودان، ووقفت إلى جانبها في خصومتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك رفضت قرارات المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمت البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور وأصدرت حكما نص على جلبه أمام المحكمة الدولية ومحاكمته على العديد من التهم.

 جميع تلك العلاقات والتوجهات السياسية للبشير عمر، ما كانت لتكون غير تصعيد وإيذاء وتحدا ومناكدة  للسلطة في المملكة السعودية، وأثارت أفعال عمر البشير وعلاقاته حقد المملكة وفتح شهيتها للبحث عن ثغرة أو لحظة للانتقام منه، وهذا ما جعلها دائما في حالة استنفار وريبة،  وتترقب الفرصة لتنال منه .

كانت حرب اليمن التي عملت السعودية على إثارتها وشكلت لأجلها تحالفا عربيا ودوليا لغرض خوض الحرب ضد الحوثيين اليمانيين، جاءت لتكون مفتاحا جديدا لعلاقة مختلفة مع عمر أحمد البشير، وبابا لجعله يغير من طبيعة علاقاته وتحالفاته السياسية. فعبر إغراءات مالية كبيرة استطاعت السعودية أن تقلب الطاولة على رأس الصداقة الإيرانية والقطرية للسودان، وتكسب سلطة عمر البشير إلى جانبها في حرب اليمن وبما سمي ( عاصفة الحزم ). حيث أرسل البشير قطعات عسكرية سودانية للوقوف بجانب ذلك التحالف. تلك المشاركة قلبت ظهر المجن للحليف السابق، مما جعل إيران تتخلى كليا عن أحمد البشير.

ولكن جميع تلك التقلبات الانتهازية السياسية دائما ما جعلت السعودية بعيدة جدا عن القناعة بأن يكون البشير حليفا مؤتمنا. وفي ذات الوقت ما كانت لتجعل السعودية تتخلى عن فكرة إزاحته عن السلطة، ويأتي في مقدمة التخوف هذا مجاهرته بانتمائه ألإخواني، وهذا يكفي لجعل السعودية في حالة قلق وريبة دائمين، فالرجل غير مؤتمن لذا يسبب لها صداعا مزمنا وكذلك يثير قلق حليفها المصري الرئيس عبد الفتاح السيسي.

بعد الإطاحة بعمر حسن البشير إثر انقلاب العسكر عليه يوم 11 ابريل 2019 واحتجازه من قبل معاونيه من قادة الجيش في مكان مجهول، رغم إن جميع هؤلاء كان للبشير اليد الطولى والفضل في وجودهم كقادة للمؤسسة العسكرية، وجاء ذلك الانقلاب بعد فترة احتجاجات جماهيرية امتدت لأكثر من عام .

 وأمام إصرار الجماهيرية  وتماسكهم التنظيمي، بدأت المؤسسة العسكرية تخضع بعض الشيء للمطالب الجماهيرية، وبالذات إثر إصرار الجماهير على رفض كامل للحكومة العسكرية المؤقتة،  مما دفع رأس الانقلاب الفريق أحمد عوض بن عوف للاستقالة. وجاءت هذه الاستقالة تعزيزا لموقف الجماهير. ولكن يبدو إن موقف العسكر رغم الخلافات داخل المجلس المؤقت، فلا زالوا يراهنون على نقطة الإبقاء على المكاسب التي حصلت عليها وتمتلكها المؤسسة العسكرية دون مساس، أيضا التفكير بوجود ضامن لتراتيبية السلطة التي تفرض مشاركة قوية للجيش، ومن هذا المنطلق طرحت فكرة قبول حكومة مدنية على أن تكون وزارتي الداخلية والدفاع من خيار الفريق المشكل للمجلس العسكري المؤقت.

 وما يشير لوجود اليد السعودية الفاعلة في مجمل عملية الإطاحة بعمر أحمد البشير، تأكيد أعضاء المجلس العسكري الانتقالي المؤقت على ضرورة بقاء الجيش السوداني المشارك في عاصفة الحزم السعودية، ولهذا تعهّد الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري المؤقت ببقاء القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن حتى تحقق أهدافها.  أيضا فالإعلان عن قيام وفد مصري كبير بزيارة للسودان بعد يومين من زيارة لوفد مشترك من السعودية ودولة الإمارات،.وقد تم خلال اللقاءات السياسية مع قادة التغيير الاتفاق على الدعم السياسي والاقتصادي للنظام الانتقالي، وهذا يشير بشكل حاسم للدور السعودي الإماراتي في التغيير،ولم تخفي القيادة المؤقتة هذا الارتباط ، وبدون مواربة صرح أحد الضباط في القيادة المؤقتة ، إن الإمارات والسعودية ومصر كان لها دور في التخطيط  لعزل البشير، ومن ثم إزاحة الفريق عوض بن عوف وزير الدفاع وصلاح قوش رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، في إطار إستراتيجية  ترمي لإبعاد وإضعاف قوة الإخوان المسلمين في السلطة الجديدة.

 أيضا شكل صعود نجم الفريق أول عبد الفتاح البرهان دالة واضحة على إن التغيير جاء ضمن أجندات التحرك السعودي الإماراتي المصري، في محاربة الإخوان المسلمين، فالفريق أول البرهان سبق وأشرف مباشرة خلال عهد البشير، على القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي الذي أسسته السعودية، وأقام علاقات وثيقة بكبار المسؤولين العسكريين السعوديين وكذلك قادة الجيوش في التحالف العربي

جميع الوقائع تعطي الانطباع الكامل والمؤشرات الواقعية حول مشاركة السعودية وحليفيها الإماراتي والمصري بشكل جلي وفاعل بعملية الإطاحة بالرئيس السوداني حسن أحمد البشير على خلفية الصراع مع الإخوان المسلمين .ومع عمق تغلغل أنصار الإخوان المسلمين في المجتمع السوداني وأزمة النظام الاقتصادية، يثار التساؤل عن قدرة قادة التغيير على تجاوز المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعب السوداني، وليس اقلها التركة  الثقيلة لنظام البشير التي أدخلت البلاد في صراعات لا تتناسب وقدرات البلد. كذلك ما طبيعة المساعدات التي سوف تحصل عليها السودان من السعودية والإمارات لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور هناك.





65

هل السيد عادل عبد المهدي رجل مجموعة مستقبل العراق؟

فرات المحسن

في الغالب ومع الوضع العراقي المأزوم، دائما ما تكون الرؤية مشوشة ومربكة، لا تفصح عن مكنوناتها إلا بعد مرور فترة زمنية ليست بالقصيرة، وربما بعد فلترتها بدهاليز اللعب السياسية التي تشارك فيها العديد من الجهات الداخلية والخارجية على حد سواء.ولذا تحضرني هنا أسئلة كثيرة  دائما ما دارت بخلدي منذ أكثر من أربعة أشهر، وبالتحديد منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه اسم السيد عادل عبد المهدي كمرشح لرئاسة الوزراء.
ــ ما موضع السيد عادل عبد المهدي في لجة الصراع الأمريكي الإيراني ؟!
ــ وما طبيعة سياسته ولمن ومع من تتطابق رؤيته ؟؟
ــ ما هو مستقبل العلاقة مع الجانب الإيراني؟
ــ هل الإدارة الأمريكية تبحث فعلا عن مشروع لإنجاح التجربة السياسية في العراق؟

نشر في مايو عام 2017  تقرير مجموعة عمل مستقبل العراق التي أدارها رايان كروكر كرئيس، و ضمت المجموعة ما يقارب 20 عضوا و 41 مستشارا بينهم العديد من العراقيين. السيد رايان كروكر أستاذ تنفيذي بجامعة تكساس وسفير سابق في العديد من الدول منها العراق وأفغانستان وسوريا. المدير التنفيذي للمجموعة كان الدكتورة نسيبة يونس كبيرة الباحثين في مركز الحريري والمجلس الأطلنطي وهي من أب عراقي موصلي وأم باكستانية . وتقرير المجموعة أعد وفق سياسة المجلس الأطلنطي بشأن الملكية الفردية المستقلة في النرويج.
 جاء في التمهيد الذي قدمه السيد كروكر للتقرير، تأكيد أولوية ضمان مصالح الأمن القومي الأمريكي على المدى الطويل في العراق، وأشار للكيفية التي تتم فيها حماية أمريكا لتلك المصالح على أفضل وجه. ويضيف كروكر، بأن مستقبل العراق مهم ، ليس فقط للعراقيين بل للمنطقة والمجتمع الدولي بأكمله، وما تقوم به الولايات المتحدة أو لا تقوم به سيكون له تأثير كبير على مستقبل المنطقة.
رؤية كروكر شملت خلاصة لتقرير المجموعة واتجاهاتها في إعداد خارطة طريق مستقبلية لعمل ليس فقط السلطة في العراق، وإنما للمؤسسات الحكومية في الولايات المتحدة ، ومعها باقي التوابع، حيث تضع الخارطة دوائر تتعشق  بعضها بالبعض، لتدور في خطط تكاملية مترابطة،  تشكل في مجملها الحراك العام لضمان مصالح الأمن القومي الأمريكي، وكذلك أداء ومسيرة السلطة في العراق.
التقرير يشير في مقدمته وبنقاط موجزة لاتجاهات وطبيعة المشروع، لذا يحدد أوليات بعينها لبنية وحركة السلطة العراقية  وتركيبتها، والتي تكفل تشكيل ائتلاف واسع يعمل على ضمان المصالح الوطنية للجميع، وهذا الآمر حسب التقرير، يقدم للمشروع تسهيلات جمة بعد أن يطمأن للاستقرار المجتمعي والسياسي عبر شراكة الأضداد، وهذا لوحده يكون شرط رسوخ عملية المحاصصة في تقاسم السلطة.على أن يكون الهدف مقرون بتعزيز المصالح الأمريكية ليصبح له الأثر الايجابي في مسيرة توطين العملية التي أعدت كخارطة طريق لمستقبل العراق. لذا حددت للعملية اتجاهات ذات طابع تكاملي سياسيا واقتصاديا، لا يشمل تأثيرها الجانب العراقي فقط ، وإنما معني بعموم الإقليم. فدعم الولايات المتحدة للحكومة العراقية يقلل في نهاية المطاف من تعرض العراق لضغوط النفوذ الإقليمي لاسيما الإيراني منه، وهذه النقطة لوحدها باتت تأخذ حيزا كبيرا من سياسة الولايات المتحدة، حيث تشعر أمريكا بأن دورها قد ضعف بعد انسحاب قواتها من العراق في 15 ديسمبر من عام 2011 وإن عودة جنودها وبناء قواعدها في بعض المدن العراقية، وكذلك تواجد قواتها عبر ما سمي بالتحالف الدولي لمحاربة داعش، ما عاد يكفي لثلم امتداد المصالح والأذرع الإيرانية التي  تغولت وتوغلت في عمق الحياة العراقية السياسية والاقتصادية وكذلك العسكرية ، وأصبحت الولايات المتحدة تبحث من بين الساسة العراقيين عمن يقف ليقدم لها العون في لي ذراع الجانب الإيراني ، ولهذا نراها في صراع يومي لكسب النقاط من أجل تحجيم تأثيره.
فالجانب الإيراني من المنظور والرؤية الأمريكية وحلفاؤها في المنطقة بات مصدرا للقلق والتوتر. فقدراته الصاروخية وتجاربه النووية تشكل عامل إرهاب وتهديد خطرين، ليس فقط للجانب الأمريكي وإنما وهذا هو المهم، لدولة إسرائيل والحلفاء في الخليج العربي، لذا فسياسة تضييق الخناق على إيران يجب أن يكون للعراق فيها دورا فعالا، وبالذات في مهام قطع شرايين الاقتصاد الإيراني وتشديد العقوبات عليها، وتجريد الفصائل المسلحة التابعة لها من قدراتها العسكرية، وهنا نجد الولايات المتحدة وفي بعض المواقف عاجزة في محاولاتها تلك، وليس بقادرة مباشرة على قطع حبال العلاقة التكافلية التكاملية بين العراق وإيران.وهنا تتناسى الإدارة الأمريكية إن عدم الاستقرار السياسي في العراق والذي جاء بعضة من جراء سياستها، قد سبب أضرارا كبيرة في البنى التحتية لعموم مناح الحياة، وبدا أكثر تأثيرا في قطاع الكهرباء، لذا لا تجد الحكومة  العراقية أمامها غير شراء الطاقة من إيران، وفي هذا المجال نجد أن سياسة الإدارة الأمريكية تضع السلطة العراقية في موقف حرج، فهي تريد من العراق الامتناع عن شراء الطاقة من إيران في الوقت الذي هو بأمس الحاجة للكهرباء لحل معضلة دائما ما أثارت ولازالت الاحتجاجات الواسعة.وفي هذا الجانب فالمطلع يسجل قصورا كبيرا في سياسة الإدارة الأمريكية، فقد امتنعت وخلال السنوات الطويلة الماضية عن المشاركة في تحديث شبكة الكهرباء العراقية، لا بل هناك ما يؤشر لفعلها في وضع العراقيل والتابوات أمام الشركات الكبرى التي ترغب العمل في حقل الكهرباء، مثلما حدث مع عقد الحكومة العراقية مع شركة سيمنيس الألمانية.أيضا فأن وجود ما يقارب 80 شركة إيرانية أو فروعها داخل العراق، مع ارتفاع ظاهر لحجم التبادل التجاري لصالح إيران بما يقارب 12 مليارات دولار، كل ذلك يضع أمام الجانب الأمريكي الكثير من المتاريس والعقبات التي لا تستطيع معها الحصول على تأييد كامل وموافقات لمجمل مشاريعها الخاصة بالحرب أو الحصار للاقتصاد الإيراني.
الحرب في العراق التي كلفت أمريكا أكثر من 4500 عسكري وما يقارب 815 مليار دولار،جعلت الإدارة الأمريكية وعلى مدى السنوات منذ احتلال العراق لحين فوز الرئيس ترامب في أرباك وتخبط ،ومع مجيء الرئيس ترامب نجدها قد غيرت كثيرا من طرق تعاملها، فسياسة  ترامب ليست بذات الطابع الاستراتيجي الذي انتهجه وسار عليه الرئيس أوباما، فالرئيس ترامب رجل اقتصاد وتاجر لا يخفي طموحاته ونواياه، ودائما يعلنها دون مواربة أو حذر، وحساباته  تختلف كليا عمن سبقه من رؤساء الولايات المتحدة وهو يضع في مقدمتها مقدار المنافع التي تحصل عليها بلاده عبر استجابة حلفاءه لطلبات يشعر أنه متفضل في تقديمها وليس مدين.ودائما ما يبدو وكأنه يحاول التفرد بالقرار السياسي بعيدا عن المؤسسات التي تدير السلطة في الولايات المتحدة.
بعد انقضاء كل تلك السنوات منذ خروج العسكر الأمريكان عام 2011 ثم إعادة تواجدهم وفق طريقة جديدة سميت بقوة التحالف الدولي للحرب ضد الإرهاب، وترافق مع هذا الوجود  بناء ما يقارب العشر قواعد عسكرية على أرض العراق، وانتشار عسكري تحت مسمى تدريب الجيش العراقي. السبب في هذه العودة القوية للجيوش بعد أن أدركت الولايات المتحدة ومن ثم درست الوقائع على الأرض وبعد انتهاء مرحلة داعش، بأن الأوضاع في العراق تحتاج العودة إلى مشروع يعزز وجودها هناك ويعطي انطباعا أخر لطبيعة بقائها وضرورته للحفاظ على مصالحها المباشرة، وعليها العمل لصناعة  أطر جديدة للعلاقة مع العراق، لذا قامت الإدارة الأمريكية بالعودة لقراءة الحدث العراقي من خلال البرنامج الذي أعدته مجموعة كروكر عام 2017 وبمحتوى تقرير مجموعة عمل مستقبل العراق، وهنا ذهبت لإمساك ما تستطيع أمساكه داخل العملية السياسية الجارية في العراق. وجاء صعود السيد عادل عبد المهدي لقيادة العملية السياسية ليكون دافعا جديدا وقويا وجدت فيه أمريكا ما كانت تنتظره لحسم خيار الأخذ بما اقترحته مجموعة كروركر.
 في مجال العلاقات الاقتصادية وفي الشأن العراقي بالتحديد، ترى مجموعة كروكر إن سهولة وانسيابية تصدير النفط العراقي يقع في أولوية والولايات المتحدة وبرامجها وأنشطتها الدولية، وليبقى أحد أهم العوامل المحركة للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي. ومن أولويات هذا التوجه السعي لجعل موارد النفط العراقي تضمن حصص جميع المشاركين بالسلطة ومنهم الطرف الكردي، لذا سعى برنامج كروكر لوضع خارطة ترضي وفي جميع الأحوال الحليف الكردي المؤتمن، وتمنحه خصوصية تفضيلية في مسألة أنتاج وعائدات النفط. وكانت هذه النقطة خط الشروع الذي ابتدأ بها السيد عادل عبد المهدي عمل وزارته، حيث منح الطرف الكردي كامل حقوقه في الميزانية العامة للدولة يضاف أليها تراكمات رواتب البيشمركه والموظفين في كردستان بأثر رجعي، دون خضوع أعدادهم للرقابة وللتدقيق، وهذا ما حصل مع كميات النفط التي تصدر من قبل الإقليم بعيدا عن علم ورقابة وزارة النفط العراقية، وبكميات تصدر خارج نطاق مؤسسة تسويق النفط الحكومية سومو.أما في جانب المناطق المتخاصم عليها فيبدو أن هناك طبخة أمريكية - مهدية تسعى لعودة قوات البيشمركه الكردية لتلك المناطق، ولكن الإدارة الأمريكية تدرك حساسية الموضوع في هذه المرحلة، والحاجة للصبر والأناة في التنفيذ، بسبب تقاطعات سياسية وإقليمية لا تود الإدارة الأمريكية إثارتها في الوقت الراهن، ولكن من الممكن البدء في وضع خطط أولية لتسويات داخلية وإقليمية، تضمن مستقبلا عودة هذه المناطق للجانب الكردي.
من الجائز القول أن خطوة شروع السيد عبد المهدي بعقد معاهدة طويلة الأمد وبمحتوى يتخذ الطابع الاقتصادي كمضمار لحركة العلاقة وروح تنفيذها مع الجانب الأردني.تأتي متطابقة جدا ومستوفية لبنود وشروط مشروع كروكر، وهي تعزيز الاقتصاد الأردني المتهالك، وهذا الأمر يعد جد ضروري وحيوي لاستقرار الأردن كبلد يعد في مقدمة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ودائما ما أعتبر خط الصد للحفاظ على أمن إسرائيل من الجبهة الشرقية، والمشارك الفعال في تمرير ما سمي بمستقبل الشرق الأوسط الجديد وإنهاء الخصومة مع إسرائيل لصالح مشروع صفقة القرن. ومشروع كروكر أوضح دون مواربة، إن استقرار هذا الحليف المعرض للخطر الدائم، لا يمكن له أن يكون متماسكا وقويا دون ارتباطه بصادرات النفط العراقي، وكذلك إيجاد سوق مفتوح لتصدير منتجاته، والعراق يعد سوقا واعدا ومفتوحا على مصراعيه، لذا وضمن هذا التوجه التقى رئيس الوزراء العراقي السيد عبد المهدي بنظيره الأردني عمر الرزاز عند الحدود العراقية الأردنية لتوقيع بنود أتفاق التعاون الاقتصادي وتبادل المصالح وافتتاح المنطقة الصناعية المشتركة، الذي عد مكسبا كبيرا ومثاليا للجانب الأردني مع تخلف القطاع الصناعي والزراعي العراقي.
ووافق الجانب العراقي على تزويد الأردن بما مقداره  10 آلاف برميل يوميا من نفط كركوك بكلف نقل واختلاف مواصفات، تحتسب بأسعار تفضيلية بعيدا عن سعر السوق العالمية، ليربح الجانب الأردني في ذلك بما معدله 17 مليار دولار سنويا، ووافقت الحكومة العراقية على تمديد إعفاء 370 سلعة أردنية من الرسوم الكمركية .مقابل تسهيل رسوم الدخول للبضائع العراقية عبر منفذ العقبة الأردني.
وكمقدمة حسن نوايا وتأكيدا للعلاقة الإستراتيجية القادمة قدم الجانب الأردني للرئيس عبد المهدي 1370 قطعة آثار سبق أن سرقت من المتاحف العراقية والمواقع الأثرية وهربت عبر الحدود العراقية الأردنية، كذلك تم بصيغ توافق، تسوية المبالغ العالقة بين الطرفين وبالذات منها ما هو لصالح الجانب الأردني على أن يساعد الأردن العراق بالتزود بالكهرباء الذي هو بأمس الحاجة أليها.
تدرك الولايات المتحدة أن خططها في العراق لن تؤتي أكلها دون دعم واسع من أوساط حكومية عراقية وقطاعات شعبية، وهي في ذلك تحتاج لتعزيز دبلوماسيتها وقوتها الإعلامية لتصبح شريكا مباشرا لتوجهات السلطة العراقية، بدلا من الاعتماد فقط على الوجود العسكري والمبعوث الخاص الذي يقدم للسياسيين العراقيين التوجيهات والنصائح والتحذيرات المبطنة وأيضا العمل على مراقبة مشاريع إيران والفصائل المسلحة التابعة لها. وهنا على الولايات المتحدة إن شعرت بضرورة الأخذ ببرنامج مجموعة مستقبل العراق، فعليها دراسة وإدراك مثل هذا الوضع الهش في العلاقة ومعالجته بشراكة حقيقية وواسعة تخدم قبل أي شيء ترسيخ الديمقراطية الحقيقية وتسريع وتيرة البناء وتقديم الخدمات ومكافحة الفساد وهذا لوحده ( ربما ) يقدم تصورا عقلانيا لخيار العلاقة الإستراتيجية الثابتة والعالية المستوى التي لم يعن للشعب العراقي تلمسها والحصول عليها من القوة التي حررته من سطوة وتسلط دكتاتورية حزب البعث الغاشمة.
بالرغم مما أقدمت عليه سلطة السيد عادل عبد المهدي والذي مثل لحد الآن تناغما حيويا مع خطة كروكر وما جاء بتقرير مجموعة عمل مستقبل العراق، فإن العراق لازال يواجه معضلات جمة ليس من الممكن حلها على المدى القريب دون تقديم تضحيات على المستوى الشخصي والعام، وهذا يجعله يحتاج إلى شريك فعال ومتعاون وقوي، ولحد الآن فالجانب العراقي يجد إن إيران لازالت تمثل وعلى أرض الواقع الشريك الأقرب اقتصاديا وسياسيا، وليست للعراق القدرة على فك الارتباط بهذا الشريك دون أن يواجه تبعات كبرى لا طائل منها.  أيضا فالمشروع الأمريكي يجد أمامه عقبات كأداء تبعد حسم الأمور لصالحه، ربما أولها يتمثل بهشاشة سلطة الحكومة العراقية و ترددها وقصورها أمام سلطة الأحزاب والكتل السياسية، أيضا الوجود الخطر لحشود الفصائل المسلحة، يضاف لذلك انتشار واسع للفساد بجسد السلطة العراقية وبألوان عديدة ومرعبة أنعكس بدوره على شرائح واسعة من المجتمع العراقي.
ولكن الغريب وهذا هو المهم، إن جميع العقبات الظاهرة والمخفية التي تعترض تنفيذ ليس فقط  ما جاء بتقرير كروكر وإنما تعمل على زعزعة الوجود السياسي والعسكري للولايات المتحدة، كل ذلك يبدو وكأنه لا يحظى باهتمام كبير عند القيادة الأمريكية، ولا ترى فيه على المدى القريب وضعا مقلقا، بقدر ما يترسخ أمامها هدف واحد هو اليوم محور أغلب اهتمامها السياسي والعسكري وتكرس له الكثير من  قدراتها، وتجد من الضروري  بذل جهود مضاعفة لخنق هذا الخصم العنيد الذي دائما ما يحاول أثارتها وتهديدها  وتحدي سياستها ومصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة. فإيران باتت الهاجس المقلق للولايات المتحدة وتطور الأحداث معها يؤشر لقرب لحظة اندلاع الحرب. والتصعيد الكلامي بين الطرفين أصبح مصدر إخافة وهاجس مقلق لعموم المنطقة، في نفس الوقت تدرك الولايات المتحدة إن خصمها ليس بذات الطبيعة والقدرة التي كان عليها صدام، بل الخصم قوي وقادر أن يوجع أعداءه  إن حدثت الواقعة. كذلك لو اندلع هذا الصراع فليس للحكومة العراقية القدرة على تفادي تأثير أحداثه وتداعياته كونها ستكون في قلب عاصفته الهوجاء، وعندها لا مناص من التغير الذي سيطال عموم المنطقة.




66
أمسية شعرية مع الشاعر العراقي عدنان الصائغ

منكسراً أمامَ مرايا المحلّاتِ /   كبطاقاتِ البريدِ التي لا تذهبُ لأحدٍ
 لنحمِلْ قبورنَا وأطفالنَا /      لنحمِلْ تأوّهاتِنا وأحلامنَا ونمضي
 قبل أنْ يَسْرِقَوها /   ويبيعوها لنا في الوطنِ:  حقولاً من لافتاتٍ
 وفي المنافي: وطناً بالتقسيط
هذه الأرضُ / لمْ تعدْ تَصلحُ لشيءٍ
هذه الأرضُ /    كلّما طفحتْ فيها مجاري الدمِ والنفطِ
 طفحَ الانتهازيُّون


يقيم منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم واتحاد الكتاب العراقيين في السويد أمسية شعرية
يلتقي فيها الشاعر المبدع عدنان الصائغ وذلك في الساعة الرابعة عصرا من يوم الأحد الموافق 9 / 12 / 2018 في منطقة شيستا من العاصمة ستوكهولم .
العنوان.
بناية شيستا تريف ، خارج الكَالاري ، ساحة الورود/  قاعة نورياسالن



67
شعار الصداقة بين الشعوب بين النظرية والمآل.
لقاء صحفي مع الدكتور خليل عبد العزيز
التقاء الصحفي فرات المحسن
الجزء الثاني
ــ هل ظهرت حركات تطالب بحق تقرير المصير أو الانفصال عن الاتحاد في تلك الجمهوريات ؟
* لا ينكر حدوث تطور حقيقي في حياة تلك الشعوب وتحسن في طبيعة الثقافة والمعرفة والعمران، ولكن السلطة الحقيقية كانت بيد الروس، وهؤلاء بدورهم مارسوا شتى أنواع الضغوط ويحاولون جهد الإمكان قمع أي مسعى للمطالبة بسقف حقوق أعلى مما منح لشعوب تلك الجمهوريات ، وقد ظهرت حركات عديدة طالبت بحقوق وحريات أكثر، وبعضها ناشد بالاستقلال، وكانت تلك التطلعات والحركات تواجه بالقمع المنظم، وقامت السلطة السوفيتية بإرسال أعداد كبيرة من هؤلاء إلى المنافي وبالذات إلى سيبيريا.ففي القرم ظهرت حركة قومية قوية للتاتار نادت بالحريات والاستقلال فجوبهت بالقمع حيث وجهت لهم سلطة السوفيت جيش عرمرم قضى على تلك الحركة ثم تم ترحيل الآلاف منهم إلى المنافي. أيضا حدثت حركات تمرد ومطالبات بالحريات وحق تقرير المصير والاستقلال الناجز في بعض الجمهوريات فجوبهت تلك الحركات كسابقاتها بالقمع. ففي الأربعينات من القرن العشرين تم الترحيل بشكل جماعي للعديد من المنادين بتلك الحقوق، فمن الشيشان الأنغوش رحل ما يقارب 480000 ومن البلغار و الأتراك الجورجيين رحل ما يزيد على 120000 ومن الأكراد والقوقازيين 200000 وجميع هؤلاء كانوا يرسلون أما إلى منافي سيبيريا أو جمهوريات آسيا الوسطى وقد تعرض الكثير منهم للهلاك أثناء عملية النفي.
خلال الحرب العالمية الثانية واحتلال القوات الهتلرية الفاشية لمساحات واسعة من الاتحاد السوفيتي شاركت مجموعات كبيرة ومسلحة من شعوب أواسط آسيا والقرم واكرانيا القوات الغازية وأخذت تقاتل الجيش السوفيتي وألحقت به خسائر فادحة ودمرت منشات اقتصادية حيوية بشكل وحشي مما دفع ستالين خلال وبعد انتهاء الحرب إلى إجراء عمليات ترحيل ونفي بحق مئات الآلاف من هؤلاء وتحت ظروف غير إنسانية.
 
ــ وما كانت ردود فعل شعوب تلك البلدان على هذا القمع والاستعباد؟

* جراء هذا القمع كانت ردود الفعل في بعضها قاسية ولم تخمد جذوتها، وكانت دائما في حالة ترقب للثورة على ذلك الحال من القمع، تصور إن سكان القرم تحالفوا في الحرب العالمية الثانية مع الغازي النازي  ضد الاتحاد السوفيتي وأنضم العديد منهم إلى الجيش الهتلري وقاتلوا معه،ولازال قائد الحركة التاتارية  مصطفى جميلوف موجودا  لحد الآن يعيش في أوكرانيا،  ومثلهم فعل البعض من أبناء الشعب الأوكراني، فقد قاد بنديرف حركة ضد الجيش السوفيتي، وأنخرط في الجيش النازي الذين منحه رتبة جنرال وعمل على خدمة الرايخ الهتلري، وفي أوكرانيا يمجد ذلك الجنرال الآن ويعتبر بطلا قوميا ووضع له نصبا تذكاريا وسط العاصمة كييف.وفي بعض جمهوريات الاتحاد على بحر البلطيق يقيم الكثير من المواطنين احتفالا يوم 14 تموز من كل عام يتم فيه الرقص وتناول الشراب ولذيذ الطعام وذلك بمناسبة ذكرى دخول الجيش الهتلري وتحررهم من سلطة السوفيت.

ــ ألم تضع السلطة السوفيتية مناهج وخطط لمعالجة تلك الطموحات المشروعة بما يساعد على طمأنة تلك الشعوب وكسب رضاها؟
•   على العكس من ذلك كانت القيادة العليا السوفيتية تحاول بشتى الوسائل طمس أي طموح قومي وتحاربه بضغوط كبيرة، وسياسات قهر واستعباد، ويظهر ذلك في سياسات الانصهار القومي وتعميم اللغة الروسية لجعلها اللغة الأم لشعوب الاتحاد السوفيتي جميعها. وخلال فترة حكم ستالين أستوطن الكثير من الروس تلك الجمهوريات، ولم يكن ذلك قد جاء اعتباطاً وإنما كان منهجا سياسيا وبالذات تنفيذ لأفكار ستالين. فهو من طرح ضرورة تغيير الطبيعة السكانية لتلك الجمهوريات، وليس فقط إدارتها سياسيا بالرغم من كون جميع مفاصل السلطة هناك كانت بيد الروس بشكل ناجز وإن أهل البلد يأتون  بالدرجة الثانية .
جوزيف ستالين
لذات الغرض، اصدر ستالين قرارا بجعل اللغة الروسية، اللغة السائدة في التعاملات الرسمية وفي المدارس لتتقدم على لغة الأم في مختلف المجالات، واتخذت تلك المحاولة طابع الإخضاع بالتنفيذ لنزع سمة الوطنية عن المواطنين، كون اللغة تعتبر الحامل الأساسي للهوية الوطنية.
والأدهى من كل ذلك، فإن القيادة السوفيتية بنت داخل تلك الجمهوريات أجهزة مخابرات وأمن ذات سطوة وقسوة بالغتين، ولكن المهم وقبل أي شيء أن تكون بقيادة روسية. فقد حرصت القيادة على إعداد كوادر قيادية محلية لتلك الأجهزة وأعطتهم سلطات واسعة لإدارة تلك الجمهوريات فظهر من هؤلاء قادة كبار أصبحوا في النهاية رؤساء لتلك الجمهوريات منهم علييف، رشيدوف،شفرنادزه.
في أحدى الجلسات داخل معهد الاستشراق الذي  كنت أعمل فيه، أخبرت مدير المعهد السيد بابا جان غفوروف عن معلومة استقيتها من مصدرين الأول صحيفة النيويورك تايمز والثاني من BBC .حيث تقول المعلومة بأنه أثناء فترة قيادته لسكرتارية الحزب الشيوعي في جمهورية طاجاكستان قام غفوروف بقتل ما يقارب 450 ألف طاجيكي، عندها تبسم غفوروف وقال هذا الرقم غير صحيح،  فالرقم الحقيقي هو أكثر من 600 ألف، وبرر ذلك القتل بالقول بأن بناء السلطة السوفيتية هناك كان يتطلب كل تلك الأضاحي، فلولا ذلك لما وجدت طاجاكستان الاشتراكية السوفيتية، كان ذلك الحدث يفرضه الواقع. وكان غفوروف الرجل الأول الذي حصل على خمسة أوسمة من القيادة السوفيتية على عهد ستالين.


مع باباجان غفوروف


ــ ألا ترى أن البحث في هكذا ملفات وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وكل ما جرى بعد ذلك، وكأنه بحث عن مثالب الشيوعية ليس إلا؟

* كلا على الإطلاق، فأنا دائما ما كنت أود عرض حقائق كانت خافية عن الناس، ولم يكن في وارد تفكيري الطعن بالشيوعية والماركسية فهي نظرية ومذهب وتيار فكري فتح للعالم طرق وأبواب أنجز من خلالها ما يعد اليوم إرثا ثريا للبشرية. وكونها دليلا علميا فإن في صلب موضوعاتها العدالة الاجتماعية وهذا الذي أؤمن به كمخرج حقيقي وسلوك سياسي اجتماعي يفضي لسعادة الشعوب. الغاية التي أسعى لها هي عرض العيوب الكثيرة والإخفاقات التي رافقت التجربة السوفيتية للماركسية ومحاولة بناء الاشتراكية، والتي أفضت في النهاية لانهيار عام لجميع المنظومة العالمية للاشتراكية وليس فقط للاتحاد السوفيتي. من المهم هنا أيضا أن يعرف الجميع بأن السياسة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي كانت تؤكد في فحواها وطريقة تعاملها، كون الروس يمتازون عن باقي شعوب الاتحاد السوفيتي، وإنهم أصحاب حضارة وإنجازات عظيمة في الثقافة والعلوم والمعارف والعسكرية، ووضعوا بصمتهم بجدارة داخل الحياة الثقافية والسياسة للشعوب الأوربية،وهذه حقائق لا تخفى ولا ينكرها أحد، وكان لذلك امتدادا تاريخيا في عمق العهد القيصري، ولم يكن وليد لحظة حضور الاشتراكية وثورة أكتوبر. ولا ينكر ولن يخفى أو يطمس ما قدمه النظام السوفيتي من إنجازات عظيمة  ليس فقط للشعب الروسي وإنما أيضا لباقي شعوب الاتحاد السوفيتي وكذلك العالم. 



في مؤتمر العلاقات بين شعوب آسيا الوسطى والبلدان العربية

ــ كونك درست في كلية الصحافة جامعة موسكو، وكان هناك تنوع وتعدد في جنسيات الطلبة في تلك الجامعة، هل كان هناك تفاوت وتمايز في مستويات الطلاب ؟

* كانت جامعة موسكو تمتاز بتنوع تشكيلتها الطلابية فتجد حضورا كثيفا لطلاب من مختلف جمهوريات الاتحاد السوفيتي وخارجه أيضا، وحين دخلت كلية الصحافة وفي الصف الأول وجدت معي العديد من طلبة الجمهوريات الاتحادية. الفرق بين هؤلاء الطلبة من روسيا وجمهوريات بحر البلطيق الاتحادية مع باقي طلبة الجمهوريات الاتحادية يبدو ظاهرا. فهؤلاء القادمون من الجمهوريات الجنوبية أو منغوليا كانوا أبناء لقيادات الأحزاب الشيوعية أو من المقربين لهم، والميزة الأخرى لهؤلاء، عدم خضوعهم لأهم شرط لدخول الجامعة أو الاختصاص ألا وهو اجتياز الاختبار العام للحصول على المقعد الدراسي. فهؤلاء كانوا يرشحون مباشرة من قيادة أحزابهم الشيوعية ومؤسسات جمهورياتهم الاتحادية، وبسبب هذا الاختيار والترشيح الحزبي وعدم الخضوع للاختبار ثم التقييم، فإن أغلب هؤلاء كانوا من الطلبة الفاشلين في دراستهم، وكان أساتذة الكليات يعانون الكثير جراء المستوى العلمي المتدني لهؤلاء .
في بداية دراستي تعرفت على أحد هؤلاء وهو القادم من أرمينيا وأسمه رافك وأبوه كان السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأرميني. رافك هذا كان مثالا للجهل والتخلف والغباء، وقد كتب عميد الكلية إلى وزارة التعليم مباشرة، يخبرهم عن عدم قدرة هذا الطالب على الفهم والتطور، ثم فعل العميد ذات الشيء في العام التالي، مبينا للوزارة عدم جدوى استمرار رافك في الدراسة وضرورة فصله وإبعاده لجهة غير دراسية، فحالته في نهاية المطاف سوف تحتسب على كلية الصحافة، وهذه سمعة سيئة، وإن عمل في مجال الصحافة فسوف يقدم ما هو أسوء ،عندها يشار بالسوء لكلية الصحافة في جامعة موسكو وليس غيرها، ويرد السؤال، كيف سمحت الكلية بمنح هذا الطالب شهادة التخرج. ولكن وفي كل مرة يطلب عميد الكلية فصل رافك من الدراسة، تتدخل الجهات الحزبية العليا وتجبر العميد  التريث في إبعاده عن الكلية لاعتبارات تتعلق بالحزب الشيوعي في أرمينيا. وفي العام الثالث أراد العميد ولمرات عديدة إيجاد مخرج لهذه الورطة ولكنه وفي الأخير أضطر لاتخاذ قرار بفصل رافك، وبدورها فالوزارة أوقفت العمل بالقرار لمدة أربعة أشهر، لحين دار نقاش بين العميد وبعض المسؤولين هناك، استطاع العميد عندها إقناعهم بضرورة عدم استمرار هذا الطالب في الدراسة بكلية الصحافة.
مثل هذا الآمر كان يحدث في باقي الكليات ويأتي على وفق السياسة التعليمية للدولة السوفيتية، فالقيادة العليا تفضل العمل بناءً على المعايير الحزبية وعلى قاعدة التسريع في إعداد الكوادر العلمية والقيادية لتلك البلدان، والتي تعتقد القيادة السوفيتية إن مثل هذا التسريع والإعداد سوف يقدم كوادر نافعة لبلدانها. فنجد إن امتحان القبول لا يشمل طلاب الجمهوريات الاتحادية ولا ينظر أو يدقق في مستواهم التعليمي. كذلك فسياسة تفضيل أبناء القيادات أو المقربين منهم وزجهم في الدراسة ينتج عنه مساوئ شديدة الخطورة كان لها التأثير الفعلي أثناء وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي .
من نتائج تلك السياسة التعليمية غير الحكيمة لا بل المسيئة،  ظهور التفاوت في المستويات العلمية والفنية والثقافية بين طلبة الكلية الواحدة لا بل الصف الواحد، ولعب هذا العامل دور كبير في استشراء نزعة التبخيس وتقليل الشأن بين أوساط الطلبة وكذلك الأساتذة تجاه طلاب الجمهوريات الاتحادية، وانعكس هذا الآمر على عموم التعامل مع شعوب تلك البلدان التي دائما ما كانت تُتَهمْ من قبل الروس بتدني مستوياتها الثقافية والاجتماعية.


مع زعيم جمهورية منغوليا الشعبية السيد تسيدنيال

ــ أختلف المؤرخون حول تفسير جملة أطلقها لينين عن ستالين في خطابه الموجه إلى الأديب مكسيم غوركي قائلا ( تعال ألي لترى القوقازي العجيب  يكتب في المسالة القومية). هل كان لينين يقصد بها التقليل من قدرة ستالين وفكره على تحليل المشاكل القومية للشعوب، أم يا ترى كان مدحا. فستالين أصدر كراسا حول القضايا القومية، وهو لم يكن روسيا بل جورجيا. فيا ترى لماذا حدث كل ذلك التحول في طبيعة حكم ستالين ليصبح دكتاتورا ويفرض على شعوب الاتحاد السوفيتي تعلم اللغة الروسية وخضوع المؤسسات جميعها هناك للإدارة الروسية .

* سبق أن حدثتك عن وجود الفرق بين ثقافة الشعب الروسي وثقافة باقي شعوب الاتحاد خاصة منها الجمهوريات الجنوبية، فالروس لهم ميزة السبق في العلوم والمعرفة والثقافة عن تلك الشعوب، وشعوب الاتحاد الجنوبية كانت متخلفة في مناح الحياة العديدة، فثقافتها محلية محدودة، وليس لها علاقة بالكثير من المعارف الحضارية والتقنيات والعلوم الحديثة، ويمكن الإشارة في ذلك إلى جمهوريات وسط أسيا المسلمة، حيث دائما ما مثل الإسلام عامل كبح للتمدن والعلوم والمعرفة، وكان يعمل على إثارة النعرة الدينية والقومية ويبقي طابع التخلف مسيطر على مقدرات الناس رغم كون الإسلام أثناء فترة حكم السوفيت يمارس في الخفاء.
انضمام تلك البلدان والأقاليم إلى الاتحاد السوفيتي قدم لها الكثير من الإنجازات التي ساعدتها للدخول في العصر الحديث ورفع من مستوى ثقافة ومعارف شعوبها.ولكن العوامل الذاتية الكابحة كانت تجعلها لا ترتقي لمستويات باقي شعوب الاتحاد وبالذات الشعب الروسي.وكانت التقاليد والسياسات الروحية والاجتماعية التي تمارس بالخفاء، تعمق الهوة بدلا من ردمها. وفي المقابل فسياسة القيادة العليا غير الصائبة والقسرية لعبت الدور الأساسي في استشراء وتغذية تلك النزعات.
ستالين كان من أصول جورجية وهي أحدى الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفيتي، وسبق أن كانت جزءًا من روسيا القيصرية. ويمكن القول إن ستالين كان أكثر من أي قائد روسي تشبثًا بالروسية ويمجد ويفخر بطبيعة الشعب الروسي ومعارفه، وكان مقتنعا بأن شعوب الاتحاد دون الروس لا يمكنهم بناء الاتحاد السوفيتي والاشتراكية، لذا سعى لزج الآلاف من الروس داخل أنشطة وحياة تلك الشعوب،وجعل جميع مفاصل الإدارة في جمهوريات الاتحاد خاضعة لسطوة وقرار المركز المتمثل بقيادته، وكذلك فرض اللغة الروسية لتكون اللغة الأولى للجميع في الاتحاد. هذا التعلق بالروسية يفصح عنه خطابه الموجه للشعب السوفيتي عندما وصلت القوات الهتلرية الغازية إلى ضواحي موسكو، أي على بعد 40 كيلومترا من العاصمة.في ذلك اليوم وخلال الاحتفال بذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية ألقى ستالين خطابه الشهير في الساحة الحمراء يستحث فيه الجنود والشعب للدفاع عن الوطن، وهنا ظهر تعلقه بالروسية وأمجاد الشعب الروسي، فكان خطابه موجها بشكل أساسي إلى المقاتلين والشعب الروسي يذكرهم فيه بالأبطال من القادة التاريخيين الروس، وفيه كشف ستالين وبشكل صريح وواضح ميوله تلك، وراح في تمجيد الدور الريادي للروس في مواجهة القوات الهتلرية.فقال بحماس منقطع النظير:
(( يارفاق الجيش الأحمر والقوات البحرية والقادة والمسؤولين العسكريين والسياسيين والأنصار والنصيرات.ينظر العالم اجمعه أليكم في هذه الحرب التي تخوضونها، وهي حرب تحرير، حرب العدالة . يجب أن تأخذوا بعين الاعتبار بطولات قادتنا الروس العسكريين السابقين : الكسندر بيفسكوف، دمتري دونسكوي، كوزمين مينا ، دمتري بشارسلي، الكسندر سوفروف وميخائيل كوتوزوف . يجب أن تكون راية لينين العظيم المحفز الأساس لكم .))
 أيضا ولكونه كان قريبا من لينين، ربما أراد أن يضع أمام قائده ما يوحي ببعض أفكاره الماركسية. ولكن علينا أن نعرف بان لغة ستالين الروسية كانت تصاحبها لكنة بائنة، وأيضا لم ينل ستالين حظا جيدا من التعليم، فيقال أنه لا توجد على الإطلاق مدرسة في عموم الاتحاد تقدم ما يثبت تخرج ستالين منها. ويقال أيضا إن تحصيله الدراسي يقتصر على الدراسة في الكنيسة لمدة أربعة أعوام ولم يكمل تعلم الحروف الروسية بشكل ناجز، وبعد أن بلغ عمره 11 عاما عمل في صبغ البيوت وشارك في نضال العمال في جورجيا ومن ثم في روسيا لحين انتمائه إلى الحزب الشيوعي الروسي،ومن هذا يقال بأن كتابه عن المسألة القومية الذي جاء لاحقا، كان قد استعان في إنجازه على بعض الأساتذة والحزبيين الروس.

ــ مع كل ما تقدم من أحداث، هل تعتقد أنها كانت سببا في تفكك الاتحاد السوفيتي ومن ثم انهياره؟
* يمكن أن تكون إجابتي بأكثر من نعم، ففي نظرة للإحداث التي سبقت الانهيار ثم أعقبت ذلك، نستشف الكثير عن حقيقة العلاقة بين الجمهوريات الاتحادية.
سياسة ستالين ومن جاء بعده من قادة، مثلت إيذاء لشعوب الاتحاد، فسياسته التي اعتمدت محاولة تغيير الطبيعة السكانية واللغوية لشعوب الاتحاد لصالح العنصر الروسي انعكست بشكل عام سلبا على العلاقات مع تلك الشعوب ، وصعدت من حدة التخندق المذهبي والقومي تجاه الروس. كذلك السيطرة السياسية والإدارية للروس على مفاصل السلطة في جميع الجمهوريات واستخدام قوى الأمن لقمع أي تحرك أو مناشدة بالحريات أو الحقوق المدنية، سبب الكثير من ردود الفعل القوية، رغم عدم بروزها بشكل ناجز لأسباب عديدة يتقدمها القسوة والقمع. فبعض تلك الشعوب كانت وفي مختلف المراحل تترقب لحظة الخلاص من سطوة الروس والخلع النهائي عن الاتحاد السوفيتي.ولذا نجد هذه الشعوب سباقة في الفكاك من العلاقة بالاتحاد السوفيتي إثر انهياره.
انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك كدولة فدرالية في 21 ديسمبر من عام 1991.ورغم إعلان تشكيل اتحاد كومنولث من بعض الجمهوريات الاتحادية السابقة فانهيار الاتحاد الفدرالي للجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كان له الأثر الكبير على مستوى العالم أجمع، وكان وقعه كبيرا لدى شعوب بلدان الاتحاد. فقد بدأت ردود فعل تلك الشعوب قاسية وانتقامية لكل ما يمت بعلاقة للسيطرة الروسية ، فكانت هذه البلدان سباقة للتحرر من الإرث السوفيتي، لذا تم في هذا السياق طرد جميع القادة الموالين لروسيا وكذلك الكوادر الإدارية الروسية في مؤسسات السلطة، وأيضا المواطنين الروس الذين استوطنوا تلك البلدان وفق سياسة تغيير الطبيعة السكانية التي شرعت على عهد ستالين.
ولو عدنا لما قبل الانهيار، نجد إن التاريخ قدم دروسا يمكن أن نطلع من خلالها على العلاقة الملتبسة لا بل المنفرة بين تلك البلدان وروسيا والاتحاد السوفيتي.
من الجائز القول إن العلاقة غير السليمة التي كانت تشوب صلات الروس الاتحادين بباقي بلدان الاتحاد هي أسباب مفجرة لصراع خفي ساعد في صنع عوامل الانهيار  للاتحاد السوفيتي بعد أن ساهمت سياسة ستالين ومن جاء بعده من قادة الاتحاد إلى الابتعاد كليا عن المبادئ التي جاءت بها الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917 ورمي نداء لينين لشعوب الشرق بعيدا فأدى كل ذلك لنخر ونحر مفهوم العلاقة بين الشعوب وحق تقرير المصير ومن ثم سرع في انهيار الاتحاد السوفيتي.     


68
أمسية استذكارية
بمناسبة الذكرى السنوية  16 لرحيل الأديب العراقي عبد الغني الخليلي
وصدور كتاب الأديب الشاعر طالب عبد الأمير المعنون
عبد الغني الخليلي، سحر الكلمة وعشق الصداقات
يقيم منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم واتحاد الكتاب العراقيين في السويد
أمسية استذكارية للأديب الراحل عبد الغني الخليلي مع قراءة وتوقيع لكتاب
الكاتب والإعلامي طالب عبد الأمير
وذلك في الساعة الرابعة من عصر يوم الأحد المصادف 02 /كانون الأول / 2018
المكان شيستا تريف خارج الكَالاري، شيستا توري 7 ، الطابق الأول قاعة نوريا





69
شعار الصداقة بين الشعوب بين النظرية والمآل.
لقاء صحفي مع الدكتور خليل عبد العزيز
التقاء الصحفي فرات المحسن
الجزء الاول

على ارض بلدان الشرق ( آسيا الوسطى ) دارت رحى معارك وغزوات عظيمة، وكانت تلك الإمارات والخانات والأقاليم تخضع تارة لهذا الغازي وتارة أخرى لذلك الفاتح.
 عام 1721 قام بطرس الأكبر بإعلان إمبراطوريته الروسية العظمى التي امتدت على أراضي شاسعة. فقد حارب الدولة العثمانية ووقع بعد انتصاراته عليها، معاهدات كسب فيها أراض كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية والفارسية، وكان من تلكم الأراضي أقاليم الشرق وخاناتها وتوسع كذلك في سيبيريا الواقعة في الجزء الشرقي والشمال الشرقي من روسيا. وحارب كذلك  الدول الأوربية وانتصر في العديد من المعارك وتوسع في بولندا وفنلندا ودول البلطيق وشبه جزيرة القرم التي تقع  شمال البحر الأسود في الشرق الروسي.
بقيت تلك البلدان والأراضي تابعة لإدارة الإمبراطورية الروسية، لحين قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 حين سقطت القيصرية وكان ذلك مقدمة لتغير طابع علاقة تلك البلدان مع روسيا الجديدة.   
بلدان الشرق، أسيا الوسطى، قريغيزستان ، أوزبكستان، تركمانستان، كازخستان وطاجكستان التي تقع وسط القارة الآسيوية، دائما ما سميت ببلدان آسيا الداخلية أو بلاد ما وراء النهر على عهد الخلافة الإسلامية، وهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها ما يقارب 4 ملايين كم مربع ليس لها شواطئ بحرية تنفتح معها على بحار العالم سوى بحر داخلي هو بحر قزوين،ودائما شكل موقعها الجغرافي ممرا حيويا لتجارة الشرق. ويعيش فيها أكثر من 70 مليون من البشر وبمختلف الأعراق والغالبية فيها من المسلمين. وتشكل بمجموعها عقدة جغرافية لطرق برية تربط شرق أسيا بغربها وشمالها بجنوبها، باتجاه الخليج العربي. وتمتاز هذه البلدان بتنوع مصادر الثروة فيها وخاصة موارد النفط والمعادن الثمينة والثروة الزراعية.
لم يختلف حال بلدان القفقاس أو ما سمي ببلدان القوقاز وهي المنطقة الجبلية الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود وتقسمها سلسلة جبال القوقاز وتتشارك فيها جمهوريات روسيا الاتحادية، جورجيا وأرمينيا وأذربيجان.وهي بلدان غنية بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز الطبيعي والحديد والنحاس والرصاص.ودائما ما كانت هذه البلدان موقعا للصراعات السياسية والدينية والثقافية ووقعت فيها العديد من العمليات التوسعية.وخضعت بعض أقسام المنطقة خاصة الشمالية منها في نهاية القرن السابع عشر لحكم القيصرية الروسية.
بعيد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 وفي 24 نوفمبر وجه لينين نداءً هاما لشعوب الشرق المسلمة وكان النداء مفعما بروح السلام والأممية ألحقه والتأكيد على حق الشعوب بتقرير مصيرها وبناء أوطانها والتمتع بحرياتها المدنية ومعتقداتها الدينية.ومما جاء فيه:

(( أيها المسلمون بروسيا و سيبيريا و تركستان و القفقاس ... يا أيها الذين هدم القياصرة مساجدهم و عبث الطغاة بمعتقداتهم و عاداتهم. إن معتقداتكم و عاداتكم و مؤسساتكم القومية و الثقافية أصبحت اليوم حرة مقدسة . نظموا حياتكم القومية بكامل الحرية و بدون قيد فهي حق لكم . و اعلموا أن الثورة العظيمة و سوفياتات النواب و العمال و الجنود و الفلاحين تحمي حقوقكم و حقوق جميع شعوب روسيا . أيدوا إذن هذه الثورة وقد تم وضع برنامج ضخم لما يمكن أن يطلق عليه اليوم “التمييز المضـــاد” (affirmative action)، سُمي بالكورنيزاتسيا، أي إحلال السكان المحليين محل المستوطنين الروس. وقد بدأ بطرد المستعمرين الروس والقوزاق والمتحدثين باسمهم من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تلك المناطق. وتوقفت اللغة الروسية عن الهيمنة، وعادت اللغات المحلية إلى المدارس وإلى الحكومة وإلى المطبوعات. وقد تمت ترقية السكان المحليين ليشغلوا مناصب في الدولة وفي الأحزاب الشيوعية المحلية وأعطوا أولوية حتى عن الروس في التعيينات. وقد أُنشئت جامعات لتدريب جيل جديد من القادة غير الروس. أيضا أُعيدت الآثار والكتب الإسلامية المقدسة التي نهبتها القيصرية إلى المساجد. وقد تم تسليم القرآن الكريم المعروف بقرآن عثمان في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلامي في بتروغراد في 25 ديسمبر سنة 1917. وقد أُعلن يوم الجمعة، يوم الاحتفال الديني بالنسبة للمسلمين، يوم الأجازة الرسمية في كل آسيا الوسطى )).

النداء الموجه لشعوب الشرق كان تطبيقا حرفيا لمفهوم لينين عن حرية الأمم في حق تقرير مصيرها، وقدم لشعوب الشرق ورقة سياسية مغرية تدعوهم ليكونوا ضمن دولة جديدة غير تلك القيصرية الروسية، دولة تضمن لهم حرية المعتقد الديني والسياسي وقبله الحق في  التحرر والانفصال أي تقرير مصيرهم إن أردوا ذلك.
كان النداء حافزا لجميع المسلمين بروسيا وبلدان أسيا الوسطى و سيبيريا و تركستان و القفقاس لقبول التعاون مع روسيا الاتحادية،  وجعل تلك الشعوب تشعر بوجودها القومي في ظل أعراف وقواعد حددها بيان قائد الثورة ومنظرها.
وجدت تلك الشعوب الفقيرة والمتخلفة ضالتها في انتصار ثورة أكتوبر للتخلص من حكم القياصرة لذا قدمت تأييدها المباشر للثورة على القيصرية بقيادة فلاديمير أيلتش لينين.
بعد وفاة لينين في 21 يناير،كانون الثاني عام 1924 خلفه بالقيادة جوزيف ستالين بعد صراع شرس خاضه داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي واستطاع في النهاية حسم الصراع لصالحة، ولم يطل معه الأمر، فخلال فترة قيادته أصدر دستورا جديدا منح نفسه بموجبه سلطات مطلقة في الحكم.وفي فترة حكمه خرجت الدولة عن المبادئ التي قامت عليها ثورة أكتوبر، وقام ستالين بالتخلص من المعارضين له داخل الحزب، وتحول الاتحاد على عهده إلى دولة موحدة ذات سلطة مركزية قوية وطابع شمولي،كان الحزب وقوى الأمن هما المركز الذي يتحكم بجميع نشاطات الدولة وإدارات بلدان الاتحاد.
هذا التاريخ الطويل من التغيرات في المشهد العام للعلاقة بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي وأيضا في سياسة السلطة السوفيتية تجاه شعوب الشرق المسلمة المنضوية للاتحاد،ومن ثم الانسلاخ السريع عن الاتحاد إثر تصدع السلطة السوفيتية وانهيارها في موسكو.


 كل ذلك دفعنا للحوار مع الدكتور خليل عبد العزيز لاستجلاء رؤيته في شأن العلاقة التي كانت قائمة بين شعوب الاتحاد السوفيتي، ومحاولة لعرض تلك المواقف، وهو الذي عاصرها لزمن طويل وعاش أحداثها لأكثر من عقدين، ونحن هنا ننقل رأيه  فيما حدث بحيادية،طالبين منه الإفصاح عما خبره في طبيعة الحراك السياسي والعلاقات بين جمهوريات الشرق المسلمة والسلطة الاتحادية في الاتحاد السوفيتي السابق.

   
دكتور خليل عبد العزيز             

دكتور خليل عبد العزيز وفرات المحسن



ولد الدكتور خليل عبد العزيز في مدينة الموصل من عائلة متوسطة الحال 
ساهم في الحركة الوطنية منذ أعوام الخمسينات حيث بادر بتشكيل اتحاد الطلبة العراقي العام في مدينة الموصل وأصبح رئيسا له. وشارك في تظاهرات انتفاضة عام 1952 . في العام 1954 أصبح ممثلا للطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي شكلت آنذاك وخاضت الانتخابات النيابية، وعلى أثر قيام حكومة نوري السعيد بحل المجلس النيابي، شارك في التظاهرات الاحتجاجية وعندها صدر أمر بإلقاء القبض عليه، لذا تقرر انتقاله إلى بغداد، حيث أصبح عضوا في اللجنة العليا لاتحاد الطلبة العراقي العام. كما عمل في تنظيمات الطلبة التابعة للحزب الشيوعي العراقي. في عام 1956 ألقي القبض عليه في بغداد وصدر قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة عام واحد قضاها في سجن بعقوبة، وبعد انتهاء فترة الحكم ، أبعد إلى مدينة بدرة الحدودية التابعة للواء الكوت. بعد ذلك سيق إلى معسكر الشعيبة جنوب العراق لأداء الخدمة العسكرية بعد أن تم فصله من الدراسة وزوال أعذار تأجيله من أداء الخدمة العسكرية. وكان معسكر الشعيبة يضم أكثر من 150 مناضلا وطنيا من جميع أنحاء العراق. وأثناء خدمته في ذلك المعسكر قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.
 بعد ثورة 14 تموز عاد إلى الموصل وتقلد مركز رئيس اتحاد الطلبة العراقي العام هناك. أعتقل ليلة مؤامرة الشواف وأودع في الثكنة الحجرية. أطلق ضباط وجنود كتيبة الهندسة الموالون للجمهورية سراحه مع بقية المعتقلين. ساهم بنشاط في عمليات قمع حركة الشواف. في عام 1959م صدرت بحقه عدة أحكام بالإعدام بتهمة المساهمة في القتل وقمع مؤامرة الشواف، هُربَّ إلى موسكو من قبل الحزب الشيوعي، ليبدأ صفحة أخرى من حياته. أنهى فيها الكلية التحضيرية للغة الروسية، ثم درس وحصل على الماجستير عن رسالته حول الحزب الوطني الديمقراطي العراقي. نال بعدها شهادة الدكتوراه في الإعلام، وعمل باحث علمي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو، يعيش حاليا في العاصمة السويدية ستوكهولم.


ــ الدكتور خليل عبد العزيز، هل لك أن تعطينا صورة عن نمط العلاقة التي كانت تربط  بين بلدان جنوب الاتحاد السوفيتي السابق، بلدان أواسط آسيا المسلمة وأيضا القوقاز بسلطة الاتحاد السوفيتي.

*  كانت بلدان أواسط أسيا المتمثلة بقرغيزيا واوزبكستان وتركمستان وكازخستان وطاجكستان أقاليم وبلدان تابعة للقيصرية الروسية وبعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى،صدر عن قائد الثورة فلاديمير لينين نداء وجهه لتلك البلدان وقدم لهم فيه وعودا لنيل الحقوق الدينية والمدنية وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير. كانت تلك البلدان الفقيرة المتخلفة ترغب التخلص من حكم القيصرية الروسية، لذا كان البيان وما جاء فيه من وعود عاملا مهما ودافعا لانضمامها  إلى الاتحاد، وتأييدها للثورة بقيادة لينين  . ومنذ عام 1924 وهو عام تأسيس الاتحاد السوفيتي حتى عام 1936 انضمت للاتحاد أغلب بلدان أواسط آسيا.
خلال تلك الفترة حدثت الكثير من التغيرات وبدأت تظهر نزعات الأثرة والتفرد والمركزية في الحكم، فالمعروف عن الاتحاد السوفيتي ومنذ تأسيسه أعتمد قادته على نظام حكم الحزب الواحد الذي أُعتبر الممثل الحقيقي والوحيد لإرادة الشعوب الحرة. وعلى عهد ستالين بات الاتحاد السوفيتي دولة موحدة بسلطة مركزية بطابع شمولي، وابتعدت السلطة عن الأخذ برأي الجمهوريات ذات القوميات غير الروسية، وظهرت بوادر الشك والريبة من طموحات شعوب الجمهوريات الاتحادية، والخوف من تحركها نحو المطالبة بالاستقلال، وعلى هذا الأساس عملت السلطات الاتحادية على تسويف وتسويق الشعارات للإبقاء على الأوضاع مع بعض التغييرات السطحية الشكلية، وفي الوقت نفسه بقيت جميع إدارات السلطات في تلك البلدان تحت سطوة قيادة مركز الاتحاد،وكان العمل يتم وفق جانبين أو أسلوبين للعلاقة، الأول الحفاظ على كيان الاتحاد السوفيتي بوجود جميع الجمهوريات المرتبطة بينها بعرى قوية مثلما يظهر للعيان، وعلى أساس التكامل الاقتصادي بينها، والثاني يتم بإعطاء تلك الشعوب بعض الحقوق التي كانت تمنح لها بالقيراط والأقساط، في الوقت الذي يتم انتهاج أساليب إدارية وسياسية تضيق الخناق وتحد من ظهور طموحات سياسية للاستقلال.

ــ ما الذي جعل تلك العلاقات تتغير على هذا النحو، هل كان نداء لينين لبلدان أسيا الوسطى المسلمة دون جدوى أو الأحرى خدعة سياسية؟
* كان نداء فلاديمير لينين لشعوب الشرق وبالذات الإسلامية منها حول الحريات وحق تقرير المصير، فكرة صائبة ونبيلة ولم تكن من باب الترف والخداع السياسي، فالرجل كان ماركسيا يؤمن بتلك الأفكار وجوهرها النبيل في حق الشعوب بنيل الاستقلال والكرامة الإنسانية. ولكن بعد وفاته واستلام ستالين الحكم تغيرت اتجاهات واستراتيجيات السلطة ونحت منحى السيطرة الكاملة على مقدرات تلك الشعوب، وتم اختزال الإدارات والسلطات بيد الأمين العام والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وبالذات منها إدارة حكومات تلك الجمهوريات،وباتت قيادات الحزب الشيوعي المنفذة لتعاليم قيادة مركز الاتحاد بقيادة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، تسيطر بالكامل على مقدرات شعوبها، مقصية في حرب مستمرة ومستعرة كل ما يتعلق بفكرة حق تقرير المصير.
وكمثال على تلك العقلية الاقصائية، فأن لهذه العنجهية القومية أو ضيق الأفق القومي، امتداد واسع ليس فقط داخل القيادات العليا للحزب الشيوعي بل هناك ذات التصورات والقناعات عند الكثير من المواطنين السوفيت، وبالذات الروس منهم، وتتمثل بنظرة تعالي تتهم الشعوب ذات الأصول غير السلافية ومنها بلدان جنوب الاتحاد السوفيتي والمسلمة منها بالجهل والتخلف. ونلاحظ إن هذا يمتد حتى وقتنا الحاضر.فالرئيس بوتين أنتقد فكرة حق تقرير المصير التي طرحها لينين. فهو يرى أي بوتين، إن مثل هذا الحق الذي تحدث عنه لينين لا يمثل الحقيقة، وإن تلك الشعوب التي عناها في نداءه لم تكن شعوبا متحضرة ولا تملك إدارات أو قدرات بناء دولة جديدة، والروس أو الاتحاد السوفيتي هو من بناها كدول ووضع لها قواعدها الاقتصادية والعلمية والسياسية ومنح شعوبها حقوقها المدنية وعلمها أعراف الديمقراطية والبناء الحضاري.

ــ هل لك أن تقدم لنا ما يفصح عن تلك العلاقة الملتبسة أو المشوهة التي كانت تسير عليها مؤسسات الاتحاد ؟
 
•   كنت أعمل صحفيا في وكالة نوفوستي للأنباء، وطلب مني أن أعمل تحقيق أو ريبورتاج صحفي عن مصنع للطائرات موجود في طاشقند عاصمة أوزبكستان.ذهبت إلى هناك. كان مدير المعمل أوزبكيا وقد رحب بي أيما ترحاب وسألني عن مهمتي ثم أراد معرفة جنسيتي، فأخبرته بأني من العراق فدهش وبفرح قال بلهجة مفخمة إذن أنت مسلم، فأجبته بأني شيوعي ولا علاقة لي بالدين، ولكنه تجاهل ذلك وراح يتحدث عن الإسلام وموقعه في أوزبكستان وعلاقته الروحية ومكانته عند هذا الشعب وقال، رغم كوني شيوعيا ولكن لنا نحن الشعب الاوزبيكي تقاليد راسخة وحيوية بالدين الإسلامي. أردت تغيير وجهة الحديث فشرحت له مهمتي وسألته عن مصنع الطائرات فتحاشى أسئلتي وراح يتحدث من جديد وبنشوة عن الإسلام والمسلمين في العالم ثم العراق. وبعد وقت ليس بالقليل أخبرني بأنه سوف يقدمني لمعاون مدير المصنع، فهو الذي يستطيع تلبية حاجاتي ويجيب عن أسئلتي، فهو يعرف كل شيء عن المصنع .
 كانت جنسية المعاون هي الروسية، وحين قابلته أخبرني بحقيقة صادمة عن مدير المصنع قائلا، إن المدير واجهة شكلية لسياسة عامة ولا يملك الكثير من السلطة الإدارية، وغالبا ما تحصر مهامه باستقبال وتقديم الشاي للضيوف والدردشة معهم بأحاديث دائما ما تكون بعيدة عن طبيعة العمل.
في جولة طويلة في أنحاء المعمل كان المعاون يقدم لي بالتفصيل معلومات كثيرة وجيدة عن طبيعة العمل والإنتاج ، ولكنه توقف لمرتين أثناء ذلك ليخبرني بأنه يتلقى إشارات بالسبايكر من المدير، ويعتقد أنه يرغب أن تعود أليه ليكمل معك الحديث السابق. وفعلا بعد أن أكملنا الجولة ورجعنا إلى المقر طلب مني المدير الجلوس لإكمال ما سبق وتحدثنا حوله، فشكرته على كل شيء واعتذرت منه لضيق الوقت، ووعدته بلقاء أخر. مثل هذا النموذج القائم في مصنع الطائرات كان موجودا في جميع المصانع والمؤسسات المنتجة لا بل حتى في دوائر الدولة المهمة وأيضا العادية، أي يوضع مدير عام من نفس سكان الجمهورية الاتحادية ولكن السلطة الحقيقية تكون بيد المعاون وهو روسي الجنسية ويتمتع بجميع الصلاحيات، وفي النهاية فهو الوحيد صاحب القرار الأعلى، وقد بقيت هذه السياسة متبعة إلى يوم انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد تلمستها ووجدتها أينما ذهبت وفي جميع مؤسسات جمهوريات الاتحاد السوفيتي. فهناك قاعدة أطلاق الصواريخ في كازاخستان جميع العاملين الأساسيين فيها فقط من الروس ولا يوجد أي شخص من خارج القومية الروسية يعمل في المراكز الحساسة لهذا المرفق .ومثل ذلك مصانع للحاسوب في أرمينيا وغيرها.
     ــ  يا ترى ما هي الأسباب والدوافع لمثل هذه التركيبة الغريبة للإدارة ؟

* في اعتقادي، كان الهدف من كل ذلك، وضع تلك الشعوب تحت سيطرة السلطة المركزية أولا ثم إبقائهم على ذات الحدود المسموح بها من المعرفة والمهنية والإدارة، وكانت تلك في مجملها سياسة تؤدي لوضعهم دون المستوى الذي يتناسب والشعوب المتحضرة المكتملة البنيان. ورغم التحسن في البنى التحتية والعمران الحديث وارتفاع الدخل القومي وتطور قوى الإنتاج، فقد كان يرافق كل ذلك عقلية روسية تبخس حقوق وتطلعات وطبيعة مواطني تلك الجمهوريات، وتنظر لهم بنظرة فوقية واستخفاف، وتعدهم دون مستوى التحضر مقارنة بالروس .
أصبح مفهوم الصداقة بين الشعوب شعارا شكليا على عهد ستالين ومن جاء بعده من قادة، وكانت بين القيادة السوفيتية المركزية وقيادات تلك الشعوب ما يشبه الاتفاق على بناء الروابط التي تبدأ أولا بحصول تلك الشعوب على بعض الحقوق القومية والمدنية على أن توفر تلك القيادات الفرعية الآلية لمجرى عملية التكامل الاقتصادي والاستفادة القصوى من خيرات تلك البلدان لصالح عموم الاتحاد السوفيتي.ولكن للحقيقة فقد كان هناك هدفا مخفيا يذهب للاستفادة من خيرات تلك الشعوب وفي الوقت ذاته يحد أو يبطأ تكامل البناء الحضاري لها. 
فالفروق كانت واضحة في مستوى التقدم العمراني والثقافي ما بين الجمهوريات الاتحادية الشمالية مثل روسيا  وروسيا البيضاء واوكراينا ودول البلطيق الاتحادية وبين دول آسيا الوسطى والجمهوريات الجنوبية الأخرى مثل جورجيا وأذربيجان وأرمينيا . فالقيادة السوفيتية كانت تتهيب من تطور جمهوريات الاتحاد الجنوبية خوفا من بروز النزعات القومية ومن ثم  تمردها على السلطة المركزية ومطالبتها بالاستقلال وانسلاخها عن الاتحاد.

ــ ربما ينتبه المرء لتعلق شعوب تلكم البلدان بالدين الإسلامي كحالة وجدانية روحية.ما حقيقة هذا الآمر؟

* كمثل على هذا التعلق أذكر لك شخصية درست لمدة خمس سنوات في جامع الأزهر في مصر،ومن ثم أصبح بعدها مفتيا للديار في عموم جمهوريات آسيا الوسطى الاتحادية،وهو ضياء الدين باباخانوف، كان هذا المفتي وفي اغلب زيارتي له  يفضل أن نبدأ حديثنا بتناول أقداح الشراب، فينادي على أبنه شمس الدين الذي أصبح لاحقا سفيرا لروسيا الاتحادية في الكويت، ويشير له بجلب زجاجة كونياك، عندها يأخذ المفتي بتقديم البيالا وهي قدح تقليدي أوزبيكي لشرب الكحول. كان باباخانوف رجلا شيوعيا وملتزما حزبيا ويتبع تعاليم القيادة السوفيتية بصرامة لا يحيد عنها.
 خلال حديثنا اخبرني المفتي عن وجود ما يقارب 40 إلى 50 مليون نسمة من المسلمين يعيشون في جمهوريات آسيا الوسطى، وعن موقف هذه الملايين من الدين الإسلامي، حدثني قائلا، إن هناك موقف مودة وحب واحترام عظيم للدين الإسلامي لدى هذه الملايين ، ولكنهم يخشون بل يخافون من الحزبيين ورجال الأمن والواشين، ورغم هذا الخوف فالغالبية تتمسك بإسلامها. وروى لي كيف أن العديد من المنتمين للحزب الشيوعي يتهيبون الحديث بالسوء عن الاتحاد السوفيتي والحزب، حفاظا على مواقعهم الحزبية والوظيفية، ولكنهم في البيوت يتحدثون بأقذع الأوصاف والشتائم ضد الدولة السوفيتية والقيادة، وينعتوهم بالكفر والإلحاد، رغم إن غالبية هؤلاء لا يعرفون الكثير عن الإسلام، وليس بينهم من يعرف تلاوة القرآن أو فك رموزه، ولكن كل ذلك كان يأتي كجزء من العداء لسلطة الحزب الشيوعي وأوامره القسرية .
ــ ما الذي كانت تقدمه تلك الجمهوريات الاتحادية للاتحاد ؟
كان العديد من جمهوريات الاتحاد ومنها الجمهوريات الجنوبية ترفد الاتحاد بالكثير من المنتجات الزراعية وغيرها من الخيرات الطبيعية مثل النفط والغاز الطبيعي والحديد والنحاس والرصاص.وتشكل منتجات تلك البلدان أكثر روافد اقتصاد الاتحاد السوفيتي .
فمثلا أوزبكستان كانت تعد أحد أهم البلدان في أنتاج القطن عالي الجودة ،ويسمى الذهب الأبيض لغزارته وما يدره من مبالغ لاقتصاد الاتحاد.وفي عمليات حصاد هذه الغلة توظف جميع الطاقات في طاشقند وتشارك في جني المحصول مؤسسات الدولة وباقي قطاعات العمل والطلاب أيضا، ولكن دائما ما كانت تجري عملية مخادعة وتضليل في حساب المحصول. فالقيادة العليا للحزب الشيوعي السوفيتي تطلب من قيادة الحزب في طاشقند كمية برقم حسابي محدد، وعند ذلك وبعد عملية جني المحصول وحين تفشل الجهود في الحصول على ما يساوي الرقم الذي طلبته قيادة الحزب العليا ، تقوم قيادة الحزب في طاشقند كمحاولة لإرضاء المسؤولين بتسجيل ذات الرقم المطلوب لإقناع القيادة بنجاح زراعة القطن ووفرته. وجميع الجمهوريات الاتحادية تقدم منتجات زراعية وصناعية لترفد بها المنتج الوطني على مستوى الاتحاد، وتجدها تمارس في جني الإنتاج ذات عملية الغش في الحساب النهائي وهي عملية غش يترتب عليها حصول البعض على وسام الحزب والدولة لأبطال للإنتاج.

ــ وما هي الأسباب لمثل هذا العمل غير المهني والخداع غير العملي والمضر في حساب المنتج؟
* عملية المخادعة ورفع رقم الإنتاج تأتي بسبب ما تقدمه قيادة الحزب العليا من جوائز تكريمية، عرفانا بما قدمته القيادة المحلية للحزب. وكان مثل هذا يحدث في أغلب الجمهوريات الاتحادية ومع جميع المحاصيل الزراعية واستخراج المعادن أو تصنيعها.
 بالنسبة لي فقد شاركت في احد المرات بجني محصول القطن حين كنت في سفرة مع مجموعة طلبة من جامعة موسكو في زيارة لطاشقند،وقد طلبوا منا المساهمة في الحصاد، عندها أعطوني خرجا كبيرا لأجمع فيه المحصول، لم أكن بمهارة أهل طاشقند ولكن لحسن الحظ كان لي حظوة عند بعض الفتيات فأخذن بمساعدتي من خلال وضع بعض ما يقطفنه في خرجي، وبعد الحصاد أقيمت حفلة كبيرة وقدم لي شكر خاص بسبب ما استطعت جمعه وكان حجمه كبيرا.
جميع الجمهوريات الاتحادية كانت تتلاعب بأرقام المحاصيل الزراعية وأيضا إنتاج المواد الأولية لذات السبب أعلاه، والذي يجلب للمنظمة وبعض أعضائها الجوائز السنوية كأبطال للإنتاج.

حيدر علييف السكرتير الأول للحزب الشيوعي الأذربيجاني
1969



ــ وما طبيعة الجوائز التي تقدمها السلطة السوفيتية عند نهاية السنة الإنتاجية؟

* كان تقليد منح الجوائز يخضع أيضا للمساومات والخديعة، ويتساوق وخدعة رفع أرقام الإنتاج، فالجوائز والمكافأة كانت مغرية ويدور حولها تنافس حاد، فالحصول عليها يعطي للشخص امتيازا معنويا وماديا كبيرا. روى ليَّ أحد قيادي الحزب عن حادث وقع في جمهورية أوزبكستان، حيث تقدم أحد المنتجين من الذين نالوا استحسان القيادة وحققوا أرقاما عالية تؤهلهم لنيل وسام لينين كواحد من أبطال الإنتاج، تقدم المزارع نحو سكرتير الحزب شرف رشيدوف ليستلم الجائزة فما كان من الرئيس وقبل تقليد الوسام، أن اخبر المزارع بأن هذا الوسام ليس دون ثمن، وعليك أن تتذكر ذلك جيدا، فهذا التكريم له مقابل. وهذا ما فعله المزارع لاحقا، حيث جمع ما قيمته خمسين الف روبل وقدمها إلى رشيدوف مقابل حصوله على وسام لينين.
 وسام لينين كان يعني الكثير ماديا ومعنويا. معنويا يقدم للشخص الاحترام والتقدير في جميع المناسبات، ويتقدم على الآخرين في المواقع، وقيمة الوسام المادية كبيرة أيضا، فصاحب الوسام يستقل مجانا ومدى الحياة جميع وسائل النقل برا وجوا، ويمنح أيضا أفضلية الحصول على سكن، وقبل كل ذلك يحصل على مبلغ نقدي يتراوح  بين 200 إلى 300 ألف روبل. ومثل ذلك كان يحدث في باقي الجمهوريات ولمختلف المنتجات الزراعية والصناعية والاختراعات.




70

يقال تمخض الجبل فولد فارا
فرات المحسن

ولكن في العراق السياسي ومنذ عقود لم يكن هناك جبلا أصلا ولم يلد حتى السفاح.
بعد حفل انتخابات وضجيج عن تزوير، استقر رأي فطاحل الساسة على اختيار رجل دولة يقال أنه من طراز فريد وجديد، أي يختلف عن سابقيه بالرغم من فشله في ثلاثة تجارب استوزر فيها وخيب الظنون لا بل أخل بوظيفته.
أجتمع السياسيون للبحث في رميمهم عن الذي يمسك لهم خيط السلطة ويكون الحارس الجديد للتغطية على ما يقترفونه من موبقات.
فاختاروا السيد عادل عبد المهدي، ومن أين لهم غيره، ليخترع لهم، مثلما يقول الناس في العراق فيكه جديدة،لا سابق عهد بها، ولم تستخدم حتى في أكثر وأعظم بلدان الديمقراطيات،وهي الترشيح عبر بوابة البريد الالكتروني.
وراحت الناس مصدقة ما بين أيديها ومن خلفها، فالرجل مؤمن وسيد بن رسول الله كما يدعي، وأيضا حسب دائرة نفوس قضاء الشطرة في لواء المنتفك، وسبق له إن عاف المسؤوليات السلطوية برغبة جامحة ونقاء سريرة وزهد لا ريب فيه !!!؟؟؟؟.
واحتشد المؤيدون في كتلة سائرون والبناء والحوار والكرد وقدموا خرائط طرق وبناء لكابينة أبو العوادل. وبدوره لم يكذب خبرا  فرفع معهم شعار لا شرقية ولا غربية أمه أمه إسلامية.
لم يمتد الزمن بعادل عبد المهدي طويلا  ليقدم كابينته التي فاحت منها رائحة العفن قبل أن تصل البرلمان.
يقال والعهدة على الرواة وأصحاب الحديث، بان فكرة النافذة الالكترونية جاءت وفق رؤية إستراتيجية،وهي من وحي جماعة الرفيق عزة الدوري أو الرفيق يونس  الأحمد،نقلت إلى عادل عبد المهدي عبر بوابة كردستان، لتكون مفتاحا لولوج من يرتئيهم حزب البعث مناسبين للدخول في العملية السياسية، وعودتهم سوف تكون مشفوعة بإمرة السيد رئيس الوزراء الجديد، بعدها يكون نشاط حزب البعث رسميا ودون اعتراضات وهزي تمر يا نخلة. وحدث كل ذلك بشكل سلس وشفاف وبإسناد من جبهة عريضة من محبي ومريدي حزب البعث داخل جميع الكتل البرلمانية . 
فأختار أبو العوادل ما أوحي له من شخصيات ومثلما يدعي أنهم أتوا حسب خيار الفيكه الجديدة، ليطرحهم وسط ترحيب سائرون والبناء والحوار والجبهة الكردستانية،فهم أبناء الخؤولة والعمومة من الذين قدمهم له حزب البعث تحت مسمى النطيحة والمتردية والموقوذة والمنخنقة، أي الذين استثنتهم المحاكم من الاجتثاث أو شراكة النهب.
ولكن الغريب إن تحت ثياب تلك المترديات يختبئ  مثلما تربى عليه البعث،الذئاب والضباع.
 فوزير الاتصالات نعيم ثجيل يسر خربيط عضو فرقة في حزب البعث واستثني من الاجتثاث عام 2005 . ولنقاء سريرته وتركه لحزب البعث لذا مرر اختياره للوزارة بأصوات الغالبية وبأريحية تامة.
ووزير الخارجية من آل الحكيم سبق أن أمتنع عن مصاحبة الازيدية نادية مراد كونها من أهل الذمة حسب ما أخبر أقرانه ومريديه.وهو حبيب السيد الجعفري، ومن أحبه الجعفري فقد تجعفر.
ولم يعن للسيد عادل عبد المهدي وفي أصعب الظروف وأشدها حلكة أن رفض للسيد مسعود البرزاني طلبا ولهذا لم يجد عادل مناصا من وضع وزارة المالية بيد مدير مكتب السيد البرزاني المدعو فؤاد حسين الذي رشح نكاية بجميع من كان يرفض وجوده على رأس سلطة العراق. وقد وجد البرزاني في ذلك فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد، ألأول لوي ذراع من تحداه بشخص فؤاد حسين، والثاني أرضاء شخصي لفؤاد بجعله الحصان الكردي الأسود داخل سباق السلطة الاتحادية.عندها ستكون بيده خزانة العراق ويرئسه شخص ضعيف لا يملك ما يمكنه الامتناع عن تنفيذ ما يطلبه السيد  مسعود البرزاني، فقد سبق للسيد عادل أن تعامل مع السيد مسعود بكامل الأريحية ووهبه ما لا يملكك وسوف يعيد الكرة بأريحية أيضا.
أما وزير الشباب فحدث ولا حرج فلحيته تنبؤك عن تاريخه، فالرجل سبق وأن تكربل في الصليب الأحمر العراقي، ثم اسلم على سنة القاعدة ورسولها أبو مصعب الزرقاوي وركب هودج الطائفية لتنتقل سبحة اليسر من شماله إلى يمينه، فسبحان الله الخالق القادر وسبحان النافذة الالكترونية العادلية المهدوية، وهم الشباب ولهم الغد.
أما وزير الأعمار والإسكان  الكردي بنكين عبد الله ريكان  وهو مرشح السيد مسعود البرزاني، فسبق أن كان صديقا لعدي وشريكه ايضا، وخلال ذلك العهد ترأس الاتحاد الوطني البعثي في دهوك، و المهم في الآمر أنه صهر طارق كافي فليح عضو القيادة القطرية لحزب البعث وهذه هي الغاية والمرتجى، وقد فك اختناقه عام 2005 ،واليوم يوضع مثل منشار في الوزارة الاتحادية.
وفي لمحة ربانية وتنظير حضاري اختير لوزارة العدل، هذه الوزارة الحساسة التي ترتبط في هذا الظرف الملتبس والشائك بوزارة الداخلية والقضاء العراقي.أختار  لها أسماء صادق وهي موظفة من الدرجة السابعة ومن مواليد 83 وتحمل درجة البكالوريوس ولا تملك غير خبرة الموافقة على ما تؤمر به،لتكون في وزارتها ممثلا للمكون المسيحي، وتوافقا مع رغبة أخيها قائد حركة بابليون في الحشد الشعبي المسيحي ريان الكلداني. وليفرح الهاشمي وعلي حاتم بقدومها، وهذا نصيب العراق من حصة النافذة الالكترونية مثلما أدعى السيد أبو العوادل.
وليس لوزارة الدفاع غير خيار من كان قائد سرب طائرات الهليكوبتر للدكتاتور صدام .ليقود الجيش العراقي إلى النصر الناجز والمؤزر على أعداء الآمة العربية المجيدة.
وبات من المؤكد بأن وزارة الداخلية لن تفلت من أنياب الرفيق الفياض صاحب التاريخ النضالي الرصين والنقي والخالي من الشوائب، فهو لها منذ ولدته أمه ولا راد لأمر الله، وهذا ما جاء ودون في اللوح المسطور وحسب ما رغبت به مرجعية ولاية الفقيه الشيعية وخيار المجرب لا يجرب .
ووفق شروط المحاصصة جاء خيار عادل عبد المهدي لوزارة الثقافة أهانه كاملة وكبيرة لحضارة ووعي الإنسان العراقي. فقدمت الوزارة وعلى طبق من ذهب لأحد رجالات الحشد الشعبي، حسن كزار الربيعي الذي ليس له لا بالعير ولا بالنفير ما يتعلق بالثقافة والمعرفة والحضارة، وكل ما يملكه من ذخيرة ثقافية هي خبرة انتمائه لعصائب أهل الحق، لترمى الوزارة مثلما أعتاد عليه قادة المرحلة منذ عام 2003، على من لا علاقة له بطبيعة انشغالاتها، وربما تعب رجال السلطة من كثرة المناوشات فقرروا أن تصبح مسجدا جديدا ليس إلا، يضاف إلى المساجد الفارغة التي تقاسمت مدن العراق وقراه.
وإن دققنا وبحوشنا جيدا بمجموع من جاء عبر نافذة عادل عبد المهدي، لوجدنا غير هؤلاء من بعثي فترة اللقاح والمزاوجة عن طريق المتعة بين الماضي والحاضر.
كل هؤلاء الضباع كانوا سعاة خير أتى بهم عادل عبد المهدي عبر نافذته الالكترونية ووضعهم بين يدي من يحرص على استتاب الأمن والسلم الاجتماعي، ومن يجهد ويقاتل لغرض الإصلاح. وقبل كل هذا وذاك إن يقصم ظهر المحاصصة حسب ما ثبرونا بضجيجهم وتهديداتهم المستمرة، وهم كاذبون. وجاءت الكابينة الوزارية  بمؤازرة الجميع بمن فيهم من تشدق بكل تلك الثرثرة الرخيصة التي صدعت رؤوسنا وأدعى فيها حرصه على حياة حرة كريمة للشعب العراقي وروج لأمل في تغيير.
كل تلك الخيارات التعيسة والبائسة التي أقدم عليها عادل عبد المهدي ورهطه من رجال الطبقة الحاكمة وأيضا البعض من توابعهم، رجال سياسة كانوا أم رجال دين، تذهب للقول لا بل تجزم إن ليس هناك كفاءات ورجال علم وتكنوقراط في طول العراق وعرضه،ويختصر جل الآمر بينهم كشلل وبين من يختارونه، عندها لن يقع الخيار على غير من هو شبيه لهم في الخلقة والأخلاق والفكر ولن يحيدوا يوما عن مثل ذلك.
عادل عبد المهدي ومن قدم له المؤازرة والتأييد.. لقد قصمتم ظهر العراق بثقل ونتانة كابينتكم الوزارية.


71


الولاء والحراك الجماهيري
   
فرات المحسن

نجح المحتل الأمريكي بتكبيل الشعب العراقي بأغلال ليس من السهولة كسرها وإيجاد منافذ لتحرره وخلاصه منها، ويمكن القول إن الخراب الذي بدأ منذ مؤتمر لندن بقيادة المندوب الأمريكي  زلماي خليل زاده في 15 ديسمبر عام 2002 وتوج بعد ذلك بصياغة طرق المحاصصة الطائفية والعرقية بعد الإطاحة بسلطة حزب البعث، ثم فصل لهذه التشكيلة دستورا يعتبر أحد أعظم مكامن العثرات وإثارة النزاعات وخديعة الشعب وقنبلة موقوتة ممكن لها أن تفجر الأوضاع لو أريد إعادة صياغته.
دفع المحتل الأمريكي الكثير من الأموال لحشد الجهود ووضع العديد من الخطط وقدم الضحايا لأجل بناء قاعدته الاجتماعية والسياسية بين أوساط المجتمع العراق، وقد استطاع أن يكسب بعض النجاح في مسعاه ذلك، خاصة بين أوساط النخب السياسية من خلال إفسادهم بالمال والوعود، ولكن كل ذلك لم يجني النجاح المتوقع الذي كان يبحث عنه. بسبب المنافسة الإيرانية وبعض دول الإقليم الأخرى وأيضا تقلب الأهواء وضعف ولاء الكثير من أبناء الشعب العراقي وقواه السياسية حتى لوطنهم فكيف مع المحتل.
منذ ما قبل مؤتمر لندن أكتشف المحتل الأمريكي، إن سياسي العراق مجاميع من الكذابين المخادعين لا بل الأوغاد حتى تجاه أبناء جلدتهم ووطنهم، لذا كانت نظرية الفوضى الخلاقة (المنفلتة ) التي أقترحها وزير الدفاع رامسفيلد، أسلوبا ومقدمة لتشتيت كتل المجتمع ورفع سقف تناحرها وتنازعها، وأيضا مقدمة لصياغة تراكيب سلطوية بعيدة كل البعد عن بناء أسس دولة حضارية.
 مع تشتت ولاء أصحاب تلك السلطة وتنوع هوياتهم،فضل المحتل صناعة إدارة سلطة جديدة من جميع هؤلاء رغم عللهم، ليكون  للمحتل من خلالهم بعض فروض يتم فيها إخضاعهم وتوجيههم نحو سلوك يتناسب وصناعة آلية تضمن مصالحه، وفي ذات الوقت تصعد حالة التنافس والشك والريبة والعصبية الطائفية والقومية ومثلها المناطقية فيما بينهم وكذلك بين أوساط الشعب العراقي.
مجموعة القيادات والشخصيات السياسية وبمختلف توجهاتها والتي شاركت المحتل وعملت تحت شروطه ووصايته،  شرعت بوضع آلية اختزال الحراك المجتمعي وتقنينه عبر تصعيد الانفعالات ونوازع الشد والرعب والنفرة والتطير الطائفي والقومي ، ومع الأسف الشديد نجحت محاولاتها تلك في شطر لحمة المجتمع العراقي على هشاشتها إلى أنداد وخصوم وأعداء، لتطفو على السطح بشكل فج وقبيح تلك التشوهات وتصبح  قواعد  ومعايير في   احتساب الولاء للجماعة،  أو ما روج له وأطلق عليه التخندق أو التآزر المجتمعي القومي والطائفي ومثله المناطقي. ومع ضعف السلطة صعدت العشائر من سطوتها ومكانتها كمنظومة اجتماعية سياسية تتماثل وسلطات المؤسسات الحكومية ومثلها فعلت المؤسسة الدينية وساعد هذا التصعيد والسيطرة، على استشراء قبح تلك الظواهر، ولعبت البطالة والجهل المجتمعي الفعل المؤثر في تفجير الخصومات وشق الصفوف وبناء استحكامات خاصة بالضد من المخالف أي كانت طبيعته.
شكل ظهور الفصائل المسلحة وبالذات التابعة للتنظيمات والأحزاب الدينية، الملمح الأكثر سطوة ونفاذا في تفجير الخطر الداخلي ورفع مستوى العداء تجاه الأخر أو ما يسمى بالمخالف فكريا وعقائديا. وبمواجهة إدعاءات الخوف من الأخطار المحدقة وتضخيم  عداء ومحاولات انتقام الخصوم. وتأكيدا وترسيخا لتلك الهواجس المرضية وتعميما للغة الترقب والخوف، فرض على الكثيرين أن يسلموا زمام قيادتهم ورضوا بالخضوع لقانون الولاء الأعمى للعقيدة  وقبول ما يملى عليهم، ليتحول الفرد إلى رقم في مجموعة القطيع المسلح والمدجن. وربما يصل في بعض الحالات إلى ما يشبه حالة الاخصاء، حيث يسلم الفرد مصيره إلى الما فوق، دون إثارة التساؤلات أو الشكوك، وعندها لا يجد الفرد ضيرا في حالات التبخيس التي يتعرض لها، ولا حتى من حالة فقدان قيمته الإنسانية. ففي مثل هذا الولاء الأعمى يكون التنظيم القوي المدجج بالسلاح والمانح للمال هو الأهل والعشيرة التي تضمن للفرد الحماية قبل أية مؤسسة أخرى. وولاء الفرد فيها يصبح ناجزا وغير خاضعا للريبة والتطير والشك. فالتنظيم يكون مصدرا للاحتماء من الخصوم وفي ذات الوقت مصدرا للرزق، ويجد الفرد في ذلك الحيز ما يضفي عليه نوع من التوازن النفسي ويبعد عنه التهديد الذي يراه حسب التفسير العقائدي قادم لا محال من الطرف الأخر .
لا تبتعد مؤسسات الشرطة وقوى الأمن الداخلي لا ولا حتى قطعات كثيرة من الجيش عن مثل تلك الحالات المعقدة والمشوهة. فأوامر وتوجيهات الأحزاب المشاركة بالسلطة تلعب أدوارا مؤثرة في تراتيبية  وسلوك تلك الوحدات، وغالبا ما يكون ولاء قادتها و الكثير من إفرادها ناجزا وحاسما لجهة حزبية بعينها ويتقدم ذلك قبل أي ولاء أخر.
هذا الولاء التام يخضع لشروط  لازالت في الغالب تحكمها أو تديرها تقاليد العسكرياتية الصدامية، الخاصة بالضبط عبر الخوف والتهديد والتخوين والاتهام، وأغلب قادة المؤسسة الأمنية و العسكرية الحالية هم بقايا المؤسسة  العسكرية لصدام، ودائما ما يجدون أنفسهم في حومة هذه التهمة وتلك، رغم خلع جلودهم وإبدالها بثياب تتناسب وظرف المرحلة السياسية الجديدة. أيضا ينتاب الغالبية منهم الإحساس بمقدار الخيبة من كثرة الخسائر التي تعرضوا لها إثر الهزائم المتكررة منذ هزيمة غزو الكويت حتى ما قبل سقوط الموصل وأثناءها. وتجد تلك المؤسسة الكبيرة ما هو مبعث للرضا والاطمئنان  وكبح لعوامل العجز والضعف عبر التصاقها بالسلطة وأحزابها والتي تمثل لقادتها وجود حيوي يمنح الشرعية وأيضا يكون مصدرا للرزق،وعندها تكون السلطة السياسية الأب الراعي والواهب وصاحب المعيار الوحيد لقياس الإخلاص والسلوك العام والمهنية.  وبدورها فالسلطة تتعامل مع تلك المؤسسة بمختلف صنوفها وفروعها، كمؤسسة فاعلة يتم مراعاتها كونها أحدى أهم مؤسسات القمع لدى دولة في طور النشوء،أيضا بسبب هواجس الخوف والتوجس منها، لذا يغدق على قادتها وأفرادها الخير الكثير ولا يخضعون في الغالب للمسائلة على ما يرتكبونه من أفعال شائنة وغير سوية، وعبر هذا يتم شراء ولائهم وصمتهم وزجهم في سياسات السلطة حتى الوحشية منها.
هذه الصورة المشوهة للانتماء الوطني والمتخمة بالنماذج السلبية التي تكتنف مؤسسات المجتمع العراقي،  يبدو إنها الوجه السافر والكامل والحقيقي للمآل الذي خطته الإدارة الأمريكية وإيران وساعدتها في ذلك دول الإقليم ولعبت الدور المنفذ فيها سلطة الأحزاب وأذرعها الضاربة.
ومن خلال كل ما ورد أعلاه نكتشف السبب في ضعف الحراك الجماهيري واقتصاره على مجاميع ليست بالكبيرة نسبة لأعداد للمتضررين من الشعب العراقي، ولذا أقول من الخطأ منهجيا دراسة حراك الشارع العراقي دون البحث في العلاقة الجدلية بين جميع تلك الولاءات الفردية  والجماعية وتشكيلاتها وتقسيماتها، حين نريد قراءة لوحة  تظاهرات الجماهير الداعية والمطالبة بالحقوق المدنية والحريات وتصحيح العملية السياسية وتقديم الخدمات. حيث نرى التظاهرات تنحسر حينا وتقوى حينا آخر، ونشعر بذلك التشتت داخل تلك المجاميع وانعدام الشعار الموحد،وبقاء التظاهرات على شكل جزر موزعة في تلك المدينة أو الأخرى،وعزوف أعداد كبيرة عن المشاركة فيها تبعا لولائهم لهذا الحزب أو تلك القوى رغم كونهم وعوائلهم ضمن مشروع الجوع والإيذاء اليومي الذي تقدمه السلطة للشعب. ونشاهد اقتصار التظاهرات على مجاميع من الشباب المهمش العاطل عن العمل،  المنسلخ أو غير الراغب بالعمل ضمن آلية تلك الولاءات القبيحة.
ولكن يمكن القول مع استمرار زخم التظاهرات وتكرارها فإن ذلك سوف يساعد على ظهور  قيادات ذكية من رحمها ويجلب الكثير من قطاعات الشعب المتضررة للمشاركة في الاعتراض والتظاهر حتى من بين من يوالي الأحزاب الحاكمة أو ينضوي في أحدى تشكيلاتها.
 



72


ضباع مجالس المحافظات

فرات المحسن

بات التفكير بالمستقبل يقلق المواطن العراقي لا بل يفزعه، وقد أخذ  العجز واليأس مأخذه عند الكثيرين،فأصبحت الناس يائسة مغلوب على أمرها. فكل شيء يسير داخل دوائر مغلقة لا يعرف لها منفذ أو إلى أين تأخذ الناس في دوامتها. جميع مؤسسات السلطة الحاكمة ومثلها مؤسسات المجتمع المدني العراقية وقادة القضاء والمؤسسة العسكرية ومثلها المؤسسات الدينية، جميع هؤلاء يشتركون بصناعة الإيذاء والقسوة والخراب والخيبات للشعب العراقي، لذا أغلق في وجوه شعبنا الأفق، ولم يبق هناك غير بصيص نور ضعيف من الجائز أن يتم إخماده بعد تشكيل الوزارة الجديدة، والمتوقع لها أن تكون على ذات النهج القديم. فليس هناك في الأفق ما يشير لقبول ورضا سلطة الأحزاب الإسلامية والقومية الانتقال إلى أصلاح البنى والهياكل السياسية والإدارية لمؤسسات العراق والتخلي عن نهجها السابق. فالجميع يتمسك بفكرة دخوله الحكم والتفاوض على نسب الحصص التي ينالها ومقدار قيمها المالية والمعنوية، وهذا هو الجهد المبذول والذي تعمل على تركيبته السياسية كافة القوى دون استثناء.فهم أعرف من غيرهم بأن التغيير والإصلاح أي كانت طبيعته سوف يحمل لهم الانحسار والموت المحتم، لذا يجاهدون لمنعه مهما كانت طبيعته.
عرض السيد العبادي ما قيمته 25 ترليون دينار عراقي لتقديمها مع ما يقارب 30 ألف درجة وظيفية لمحافظات الجنوب والوسط، وقد أشارت الدوائر المالية لرئاسة الوزراء إلى كون هذه التخصيصات التي تقدم، سوف تؤخذ من صندوق احتياط الطوارئ الوطني،  وتغافلت الأخبار عن ذكر الفارق الحاصل في عائدات النفط العراقي المصدر والذي يقارب 25 دولارا عن قيمة  احتساب تصدير برميل النفط في ميزانية العراق لعام 2018 والذي وضع بسعر 45 دولارا للبرميل، ولم تظهر حسابات رئاسة الوزارة أو وزارة المالية أو أي سلطة مالية عراقية أين تم إيداع وارد الفرق بالأسعار أو كيف استغلت وفي أي أبواب تدوير وصرف  وضعت.
ليست هناك جهة رقابية تعمل على تدقيق حسابات الحكومة وأبواب صرفها لأموال البلد، وليس هناك من عرض شفاف وسليم لقاعدة واردات البلد، ومثلها نسب الصرف لجميع مؤسسات الحكومة، لذا بات الحديث عن هذه الأموال وأين ذهبت، مثل رواية لفلم خيال علمي وألغاز لا يستطيع أي من كان اكتشافها أو حلها، سوى حلقة ضيقة من الأشخاص لن يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وهؤلاء هم المانحون الواهبون، وبيدهم أموال قارون وخزائن العراق ومثلها مصائر البشر.وهم من يحجب عن الشعب أرقام الحسابات وكذلك الامتناع عن توفير الخدمات. ولكن هل إضاعة وسرقة أموال العراق وما حصل عليه الشعب من العلل والسقم والخيبات التي أصابته،  تقف عند ما يفعله هؤلاء. كلا فهناك سلسلة حلقات وتوابع جميعها تشارك في صناعة الخراب وإيذاء الناس، لا بل أن سلسلة الحلقات هذه تبدو مثل حيتان أو تماسيح تلتهم أي شيء يقع في طريقها، وتترقب مثل الحيوانات المسعورة الحصول على ما يقدمه لها أسيادها من القابعين في المنطقة الخضراء.فحلقة الوزراء  ورؤساء المؤسسات والمدراء دائما ما تضمن حصصها من داخل المؤسسات والوزارات ذاتها بعد أن تصبح تلك الدوائر ضياع يمتلكها هؤلاء دون حساب ورقابة.
قرر مجلس الوزراء بتأريخ 24/ 7 / 2018 وبشكل طارئ تأليف لجنة أعمار وخدمات المحافظات برئاسة السيد رئيس الوزراء حيدرالعبادي وعضوية عدد كبير من الوزراء وأمين مجلس الوزراء ومدير مكتب السيد رئيس الوزراء وغيرهم، على أن تتولى اللجنة تقييم الأعمار والخدمات في المحافظات ومتابعة احتياجات ومطالبات المواطنين لتحسين الخدمات والإسراع في انجاز المشاريع الخدمة.
القرار في شكله الظاهر جيد ويوحي بعمل مستقبلي ممتاز، حيث تخضع العمليات الخدمية للمتابعة والتنفيذ من قبل غرفة عمليات شكلت للغرض ذاته، على أن تنفذ المشاريع الخدمية بالجهد الوطني. وتتولى دائرة شؤون مجلس الوزراء ولجانه متابعة التنفيذ.
إن كانت العديد من المؤشرات أثبتت إن بعض الوزراء ورؤساء الدوائر شركاء في سرقة أموال الشعب فإن الفقرة الأخيرة من القرار أعلاه، تحوي دون ريب خطرا كبيرا  وتعلوا فيها مستويات الريبة والشكوك لدرجات كبيرة، فدائما ما كانت أصابع الاتهام ولازالت تشير للكثير من حوادث الاختلاس وسرقة المال العام والتصرف غير المسؤول بأموال الدولة، من قبل لجان في دائرة شؤون مجلس الوزراء بالذات، بدءًا من أمين المجلس الذي شكل حلقات نافذة ومتنفذة في مؤسسات الدولة جلهم من أقاربه وخلانه ومريديه.
 ولن يتوقف الآمر عند هذه الحلقة التي أسرفت بنهب الأموال تحت أعين وأنظار ورضا من يمتلك خزائن العراق، فهناك الكثير من التوابع والمتواليات من مؤسسات السرقات والنهب وإضاعة المال العام دون حياء أو خوف تعمل بالعلن ودون حياء بل تتحدى جوع الناس وعريهم، ومن ضمن جوقة هؤلاء السراق يأتي أعضاء مجالس المحافظات. هذه الحلقة الغريبة العجيبة التي تعد الأكثر خطورة ولؤما وقذارة من باقي الحلقات، فهؤلاء يتفوقون على الجميع في فنون السرقة والاحتيال، وهم من جعل حياة الناس في المحافظات تذهب إلى الدرك الأسفل، حيث تنعدم الخدمات وتفشل المشاريع وتنهار البنى التحتية رغم التخصيصات المقدمة لتلك المجالس حسب ميزانية الدولة. فأعضاء مجالس المحافظات يضعون نصب أعينهم مقدار الكسب المادي الذي يحصلون عليه من تشغيل تلك الأموال أو صرفها وتقاسمها. فنجد إن الكثير من الأموال التي تصرف على المشاريع المتلكئة تذهب هدرا بسبب التنافس والتقاتل الحزبي لإفشال بعضهم للبعض،أو بسبب ضيق أفقهم التعليمي وجهلهم بطرق إدارة المؤسسات وكيفية التصرف بالميزانية وتوزيعها على أبواب صرف عقلانية وذات مردود ايجابي وجدوى اقتصادية. ونجد كذلك ما يشي بقدرة هؤلاء على وضع أبواب صرف خاصة بحساباتهم  لنهب المال العام. يضاف لذاك الطمع الشخصي والسلوكيات الخبيثة في استغلال هذه التخصيصات وصرف جلها بما يسمونه الامتيازات والمكافئات التي توزع منذ اليوم الأول لورودها  ولحين نفاذها، ثم يبدأ الصراخ بفراغ ميزانية المحافظة. فأعضاء مجالس المحافظات بدلا من العمل على إكمال المشاريع الخدمية يسرقون جل الأموال لإقامة مشاريعهم التجارية وشراء عقارات وأراض خارج وداخل العراق، وقد استولى هؤلاء على أموال تقدر بالمليارات دون مسائلة وحساب. ولن يختلف الآمر والحال عن سابقه وهذا ما سوف يحدث وهو المتوقع، مع التخصيصات التي وعد بها السيد العبادي محافظات الجنوب والوسط ، فلن تصل لغير جيوب أعضاء مجالس المحافظات، ومهما أريد تقديم خدمات أو تحسين حال ووضع أسس لمشاريع تنقذ الناس وتبني لهم ما يسعفهم ويشعرهم بقيمتهم الإنسانية، فإن مجالس المحافظات سوف تعمل على إغلاق جميع منافذ النجاة، كون هذه المجالس ومنذ البداية وضعت كحلقة للنهب والتمويل الحزبي ولتكون بشكل ناجز بابا من أبواب النفع العميم لرفع ميزانية الأحزاب السياسية التي أسس صناديق خاصة بما تحصل عليه. لذا لا تريد هذه الأحزاب بل تمانع وبشدة وتقاتل لغرض أبقاء الحال على ما هو عليه وعدم الابتعاد عن مبدأ المحاصصة، فالتخلي عن هذا النهج المدمر سوف يجعلها تفقد الكثير من المنافع ولن تجد ما يكفي لسد أفواه قادتها وجوعهم للمال.

 







73

خرج أو صرة أو خزائن السيد حيدر العبادي

فرات المحسن

في طفولتي، أي في غور الزمن البعيد، كنت ألجأ لجدتي حين أشعر بحاجة لشراء علكة أو حلويات أو كرات زجاجية (دعابل) وما شابهها. اقترب من جدتي وأطلب منها ما أريد فتخرج صرة قماش صغيرة كانت تعلقها برقبتها، تفتح الصرة أو الخرج الصغير وتعطيني بسخاء ما أريد. ما أقوم به حينذاك كان عملية ابتزاز طفولي بريئة لجدتي ، أو الأصح، لأسمها عملية تبادل منافع. جدتي تحبني جدا جدًا ودائما ما كانت ترغب أن أكون جوارها فرحا مسرورا مرحا ،وتستقبلني بوجه باش وتومئ بيدها حين تراني، أن أقترب. تفتح ذراعيها وتهش بهما وابتسامة عريضة تفرش نفسها فوق تلك الأخاديد والطيات المحاطة بالشيلة البيضاء أي الخمار الأبيض.تلك كانت ملامح دعوتها،وأنا مثلها في الحب، أبادله إياها رغم طمعي بكرمها، ولكن دائما ما كان حبي لها يطغي على أمر تحايلي لكسب النقود، لذا أقترب منها وأقبلها وبدورها تضمني لصدرها فأشم عطر شيلتها الذي لازال عالقا في أنفي وقلبي.
كان ذاك المشهد يمثل لي الشيء الكثير الذي أحصل بواسطته ودون عناء على بعض ما أريد.كان ذلك على عهد ألعاب الجعاب والدعبل والحلقوم والمكاوية والشعر بنات وما سمي بشراب السيفون والنامليت وهو عبارة عن قنينة زجاجية تحوي شرابا طيب المذاق بألوان مختلفة ويغلق رأس القنينة بكرة زجاجية، دعبلة. أنقرض المشروب الذي كان أنتاجه وطنيا خالصا، أنقرض هذا الشراب الرائع المنعش بعد أن حل بدله شراب السينالكو وكندا دراي وتراوبي والببسي والكولا  والكراش وأنواع شراب أخرى.
الفرق بين السيد حيدر العبادي والمرحومة جدتي هو الحب،نعم الحب وليس غيره، فجدتي كانت تحبني دون خوف أو طمع وتهبني المال بمحبة وطيبة وسعادة، والأهم دون منة. أما العبادي وحزبه فيمقتون الشعب العراقي حد اللعنة، ولا يطيقون قربهم من أبنائه، ولو أتيحت لهم الفرصة لأبادوه عن بكرة أبيه حقدا وكراهية ، لذا تراهم يكنزون الأموال بخرج وخزائن وحسابات أحزابهم الدينية، ويبخلون حد العمى واللعنة بمنح شعبهم ما يسد رمق جياعه ويكسي جلد فقرائه ويريح نوم أبنائه ويطفئ ظمأ العطشى. والأحزاب الإسلامية ومنها جماعة العبادي، ساعون لتجفيف منابع  الخير في العراق وحصر الموارد بيدهم دون تقديم ما ينفع الشعب العراقي.
وبعد أن شاهدت الأحزاب الإسلامية العين الحمرة من بعض أبناء العراق الغيارى الذين هددوا مصالحها ومواقعها وأحرقوا بعض مقارها،عندها ارتعشت القلوب خوفا وامتلأت رعبا رغم إن الضمائر بقيت دون حياء وتحوي الكثير من اللؤم والخسة، ولكن الجماهير استطاعت إجبار العبادي على فك الخرج والصرة التي يكتنز بها الأموال ليخرج ما كان يمنعه ويخفيه عن الشعب بحجج واهية قذرة وخسيسة. وكان بدلا من أن يمنح الشعب ما يساعد على تجاوز المحن والخيبات يذهب ليستجدي صندوق النقد الدولي لإقراضه المليارات، وليضع من خلالها العراق وشعبه تحت طائلة المديونية الدولية.  وفعل العبادي ما هو أخس من هذا حين وضع قواعد الاستقطاع الشهري من مداخيل موظفي ومتقاعدي  دوائر الدولة.
دفع العبادي لمحافظة البصرة ثلاثة مليارات دولار أي ما يعادل ثلاثة ونصف ترليون عراقي وكذلك وعد بتقديم مثلها لمحافظات العراق، ولو جمعنا ما أخرجه وسوف يخرجه العبادي من مكامن خرجه وخزائن حزب الدعوة ووعد بتقديمه للمحافظات، لوجدناه  يعادل ميزانية دول وليس دولة واحدة. فالسؤال الكبير يستغيث بجميع المقدسات والأخلاق والضمائر وهو يصرخ بجميع اللغات، ما الذي كان يمنع سابقا العبادي من منح المحافظات العراقية مبالغ تساعدها على تحسين وضعها البيئي والصحي والمعيشي. لماذا كان المالكي ومن ثم العبادي يسحب مدخرات الدولة من صندوق الادخار الوطني ويساعد بها إيران أثناء الحصار أو يقدمون المنح لمرتزقتهم  للترف وشراء المؤسسات والبيوت . ما الموانع التي جعلت العبادي يوقف التعيينات ويأمر وزارة المالية بإيقاف توفير الدرجات الوظيفية.  إن كان خرجه يحوي كل تلك الترليونات من النقود المكدسة.  يا ترى هل إن الكره الأعمى لا بل المقت القاتل للشعب العراقي جعل حزب الدعوة والأحزاب الإسلامية الأخرى تعمل على تجويع الشعب وارتهانه لصندوق النقد الدولي والدول الكبرى،وهذه الأحزاب بانتظار اللحظة الأخيرة لسقوط العراق وطنا وشعبا إلى الهاوية السحيقة، عندها يهربون لحاضناتهم بما غنموه.
هل إن هذه المبالغ التي وعد العبادي بمنحها للمحافظات سوف تكون كما سابقاتها عرضة للنهب والضياع جراء التناحر والتقاتل داخل مجالس المحافظات لتصبح هذه الترليونات غنائم لهؤلاء الأوغاد من أعضاء الأحزاب الدينية المهيمنة على تلك المجالس ، وعندها يفرح العبادي وحزبه بأن المال الذي خرج من جعبته ذهب لجعب وخزائن مناصريه وأصحابه ومرتزقته ورفاقه ممن يردد قول هيهات منا الذلة، وهو يعرف اتجاهها مسبقا. 

لازلت أمن بإصرار على إن لا شيء ثابت في هذا الكون وإن التغيير في العراق حاصل وقادم لا محال، ولا أطلب سوى الرجاء بأن أشاهده،مثلما شاهدت سقوط الطاغية صدام، رغم أني لا أرى التغيير في الأفق القريب.
فسبق أن تغيرت أمامي الكثير من المشاهد، حدث سابقا مع السيفون أو معي وعلاقتي النفعية مع جدتي،سقطت الملكية وسقطت الجمهورية الأولى وحدثت بعدها جرائم كبرى بحق الشعب العراقي، والآن حدث ويحدث مع السيد العبادي وقبله المالكي أو عموم حزب الدعوة العربي الاشتراكي. فلم يعد ليَّ أمل غير أن أرى نهاية لهؤلاء الأوغاد الذين حطموا جميع أحلامنا ومنها العودة للوطن، لنضع رؤوسنا فوق وسادة عند أهل وأحبة ونبتسم لحلم سعيد.




74

هل قرأ المكتب الاستشاري  للحزب الشيوعي العراقي اللوحة جيدا؟

فرات المحسن

أرسل لي العديد من الأصدقاء  بيان المكتب الاستشاري للحزب الشيوعي  الصادر في 15 /06 /2018 والمعني بتوضيح موقف الحزب حول اللغط الذي أثير بعد إعلان الدخول في التحالفات بدءًا  من الدخول في سائرون ومن ثم سائرون مع الفتح ثم توالت الإشاعات عن تحالف مع الحكمة وإرادة ودولة القانون والوطنية إلى أخر قائمة المكونات.هذا البيان التوضيحي جاء كتعهد أخلاقي بشروط أن لم يجدها الحزب الشيوعي متوافقة ورؤاه ومنفذه من قبل حلفائه فهو في حل من الارتباط بتلك التحالفات.
قرأت البيان بتمعن شديد فوجدت فيه ما يشير للإصرار على التحالف مع أي كان ولكن ليس بالذي يكون. أي إن الحزب الشيوعي مستمر بالتحالف داخل سائرون حتى وإن قام هناك ائتلاف أو تحالف جديد بينه وباقي الكتل الأخرى، فإن الحزب سوف يستمر معهم ولكن له في الذهاب هذا شروط ، وفي شروطه هذه يكون حريصا على استقلال قراره السياسي. وقد عرض الحزب شروطه أو مرتكزات تحالفه، وهي بمجملها حجر الزاوية في تحالفنا، مثلما ذكر مكتب الحزب الاستشاري. وتلك المرتكزات تبدأ بالابتعاد عن المحاصصة، بناء دولة المواطنة، ضمان استقلال القرار العراقي، حصر السلاح بيد الدولة ، تقديم الخدمات للناس، تأمين البطاقة التموينية، أطلاق تنمية مستدامة وأخيرا محاربة الفساد. فإن ابتعدت التحالفات عن كل ذلك عندها يكون للحزب موقفا أخر، أي أنه لن يشارك في تلك التحالفات، ولن يكون ضمن طاقم الحكومة، وينسحب بالكامل ليكون السيد رائد فهمي  والسيدة هيفاء الأمين في خانة المعارضة داخل البرلمان.
لا ينكر إن هذا البيان جاء ليكون مخرجا سليما للورطة التي أوقع الحزب نفسه فيها ، والتي دفع ثمنها لحد الآن غاليا أمام الكثير من أعضائه وأصدقائه ومؤازريه ومحبيه، وأصبح النقاش حول تلك الخطوة بابا لجدال غير عادي تجاوز الدهاليز الداخلية نحو فضاء الخارج، ولم يخلوا من القسوة والإيذاء لكلا الطرفين المؤيد والرافض، وحدث اصطفاف لن يكون اليوم أو غدا لصالح الحزب الشيوعي، ولذا من الضروري الوقوف أمامه وقفة حساب ومكاشفة لجميع مراحل الحدث، منذ ما قبل التحضير للانتخابات، بدءًا من خلطة تظاهرات ساحة التحرير ومن ثم دعوة الحزب لتشكيل (  تقدم ) لحين إتمام صفقة الدخول في سائرون وما تبعها من مشاهد، على أن لا يهمل أو يبعد مدخل اختزال وحصر مسؤولية سائرون بشخص السيد مقتدى الصدر وما ترتب ويترتب على ذلك من قرارات تمس التحالف بالصميم.
في صلب بيان المكتب الاستشاري للحزب الشيوعي، وما طرحه من شروط للبقاء في التحالفات، نجد أن الحزب لا يملك في الوقت الراهن خيار الانسحاب الفوري، بسبب عدم ظهور وتبلور نتائج  ما أشيع عن المشاورات بين السيد الصدر والسيد هادي العامري، وقبل ذلك مع الحكيم وقائمة الوطنية. أيضا لا يحبذ الحزب العجالة والخروج الآن تحاشيا لسلوك وردود فعل منفلتة، ربما ستكون قاسية وموجعة وانتقامية توجه له من قبل بعض الحلفاء، وأظن إن من وسط هؤلاء الحلفاء من ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، ليكون عندها بحل من المحاسبة، ثم يوضع اللوم بالكامل على الحزب الشيوعي كونه طعن بتحالف سائرون وغدر به  بعد أن حصل منه على المقعدين.
في قراءة  لشروط  الحزب والتي أرى في البعض منها رصاصات قاتلة وتحد لبعض القوى إن كانت المسلحة منها أو المرتبطة بدول الجوار وتتلقى منها الدعم السياسي والتمويل. ولكن لأختصر الأمر ببعض الشروط وأحاول قراءتها دون لبس أو توريات. 
من الجائز القول إن الحزب الشيوعي تغافل عند تحالفه في سائرون ونحى جانبا خارطة الفساد التي يتقاسمها العديد من الشخصيات ذات الثقل المؤثر والفاعل داخل جميع الكتل دون استثناء،  وليس بعيدا عنهم العديد من شخصيات داخل كتلة سائرون، وإن جرت جردة حساب لسراق وناهبي المال العام، عندها يكون هؤلاء في مقدمة الأوغاد ، فما بالكم بالقوائم الأخرى المترعة بأتعس وأقذر مافيات القتل والنهب والسرقات. وإن جرت التحالفات على ذات المنوال الذي يعد له اليوم، فلن تكون الصورة بعيدة عن تكتلات الأعوام  الخمسة عشر الماضية التي باعت ونهبت فيها النخب السياسية ولازالت تنهب خيرات العراق، وهي اليوم تحاول إعادة تدوير نفسها لتتصدر من جديد المشهد في إدارة السلطة. وعند هذا أجد من الموجب على الشيوعيين التدقيق والتمعن جيدا بهذه الكتل وأولها من هم أقرب عليهم وفي دائرة سائرون، فليس اللسان الذرب والكلام العذب يغني ويسمن،وليس كل ما يعلن عند البعض هو عين الصواب أو الحقيقة الواقعة،  وأن رضي عنه وتقبله الشيوعيون فتلك مصيبة عظيمة تقع في صلب المبادئ والضمير والأخلاق، وكان من المناسب أن يلفظ  الحزب أي علاقة تربطه بهؤلاء، إن كانت لديه معايير لتفضيل تلك الكتلة عن غيرها.
ومن الموجب أن تتقدم الشروط مسألة حصر السلاح بيد الدولة، والتي تبدو في وقائعها سبب كبير للخراب العام في العراق، وحصر السلاح بيد الدولة يعني تخلي  الأحزاب والفصائل المرتبطة بها عن سلاحها وهذا يشمل أيضا قوى سبق وسماها السيد مقتدى الصدر، المليشيات الوقحة وهي فصائل مدججة بالسلاح،  دائما ما تصرفت بسوء وترهيب للمجتمع، وهناك ما يشير لعلاقة سيئة بينها وبين مؤسسات الدولة العراقية، بل وجهت سلاحها في الكثير من الأحيان نحو  تلك المؤسسات.
نزع السلاح وحصره بيد الدولة يحتاج إلى قرار سياسي فعلي تتخذه أولا قيادات الأحزاب والقوى المشاركة في العملية السياسية ، إن كانت تؤمن بشكل ناجز وحقيقي بالتداول السلمي للسلطة. ولكن ولحد الآن فتلك الأحزاب تحتفظ بفرقها العسكرية الجرارة وتتسلح بأنواع من الأسلحة الخفيفة والثقيلة، لا بل تخزن أسلحتها الفتاكة في بيوت ومحال وسط الدور السكنية للمواطنين وفي جميع أنحاء العراق. وجميعنا يتذكر كدس العتاد العائد لسرايا السلام والمخزن في دار للعبادة وسط مدينة الثورة، والذي راح ضحية تفجيره العشرات من الجرحى والقتلى وهدم ما يقارب العشرين دارا سكنية لفقراء المدينة، دون أن نجد من يحمل سرايا السلام مسؤولية الجريمة النكراء حتى من بين الأوساط الحكومية، وذلك الآمر يبدو طبيعيا جراء ما يحمله الجناح العسكري لأتباع التيار الصدري من قوة وبطش وتهديد يفرض فيه الصمت على الناس وبقوة السلاح.
دون تفكيك القوى والفرق العسكرية التابعة للأحزاب وكذلك الفصائل المسلحة فلن يكون هناك سلما اجتماعيا أو تداولا سلميا للسلطة أو مسعى جادا  لدولة المواطنة ولا حتى وجود لتحالفات تسعى لتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية، وتبقى لغة الرعب المسلط على الشعب هي السائدة وتنفجر بين حين وأخر،ومن الممكن أن تندلع حرب سلاح لا تعرف الناس عندها من المسبب لهذا الموت المجاني، وهذا ما نراه اليوم في استشراء حرب العشائر المجنونة دون رادع قانوني أو أخلاقي.
ولكن لا ينكر ما يتعرض له الوطن من إرهاب داخلي مدعوم خارجيا لذا نجد إن سرايا السلام وباقي قوى الحشد الشعبي لازال العراق بأشد الحاجة لها في مواجهة فلول داعش وباقي منظمات الإرهاب، مما يجعل فكرة تشكيل ألوية من هذه الحشود تخضع للنظم والتقاليد والسلوك العسكري وتحت أمرة قادة من الجيش، ضرورة قصوى ومخرجا للسيطرة على حركة وسلاح هذه الفصائل.   
أما شرط الابتعاد عن المحاصصة فمنذ مؤتمر لندن ولحد اليوم كان ومازال هذا النموذج السيئ شعارا لجميع النخب السياسية العراقية، وأصبح مرضا عضويا مستعصيا عند الجميع، وما عادت تلك النخب بقادرة على  الخلاص منه،لا بل بات هدفا  يتقدم المشاريع جميعها، ويظهر في سعي التحالفات لتشكيل الكتلة الأكبر، فأصبح من ينادي من هؤلاء بالابتعاد عن المحاصصة،  كمن يروي نكته سمجة لإضحاك الأطفال.
الجميع دون استثناء يسعى للتحالف وتكوين ألكتله الأكبر، ولا أدري ما دوافع الركض وراء مثل هذا عند أغلب القوائم،  هل هو الجلوس لتناول الشاي والبسكويت مثلما دعي لذلك السيد رئيس الوزراء، أم هو مشروع طموح وطمع للحصول على مكاسب ومكانة داخل السلطة القادمة، ليبدأ من جديد شوط توزيع المناصب والاستحواذ على المال والقوة والمنافع.وسوف يكون مشروع إعادة بناء الدولة وبذات النخب، مشروعا لا علاقة له من قريب أو بعيد بمسألة التخلص من المحاصصة وبناء الدولة الديمقراطية.
لنجعل الصراحة مدخلا وشاهدا فكتلة الفتح وعمادها منظمة بدر تقاتلت، نعم تقاتلت للاستحواذ على وزارة الداخلية ووزارات أخرى وحصلت عليها عند التغيير في وزارة العبادي، وهي ساعية اليوم للحصول على حصتها حاملة بيدها سلاح الانتصار على داعش بقوة وعزيمة الحشد الشعبي، ولذا تريد مستحقات المكافئة وعلى ذات الشاكلة تنحوا عصائب أهل الحق، ومثلهم فضل السيد أياد علاوي المحاصصة ونال مبتغاه سابقا، ولن يقبل اليوم بغير طمأنة جماعته ونيل حصتهم من الكعكة مثلما قيل ويقال، أما الأكراد فبعيدا عن مسمى عراق، فحراكهم يصب في صراع مع الحكومة الاتحادية حول حقوق خاصة ولكسب وزارة سيادية لا يحاد عنها وتلتحق بها بعض وزارات أخر وإدارات ضمن الدولة الاتحادية بشرط  انعدام أي نقاش في خصوصيات الإقليم  أي كانت طبيعتها، وقد وضعوا في مقدمة شروط التحاقهم وأرفقوها بالتهديد والوعيد المعتاد. والسيد الحكيم وحكمته لن يقف مكتوف الأيدي دون أن يلقم بعدد من وزارات تدر على كتلته ما تجود به مغارة العراق الذهبية. واليوم يتذكر الجميع  كيف صنع للمالكي والنجيفي وعلاوي عروشا عدت  مخرجا لشغل وظائف لرجال بطاله عطاله خصصت لهم ولرئاسة الجمهورية حاشية ملوك وأباطرة ورواتب مجزية بقدر خزينة وزارة كاملة، دون أن نرى منهم نقطة حياء يسفحونها حين استلام الراتب الشهري.
 لن أطيل فالجميع لعبها لعبة قمار للحصول على المنافع، فالقوة والمال والجاه هو مسعى الجميع وما العمل الدءوب لصناعة الكتلة الأكبر غير شروع  لتثبيت وتدوير المحاصصة.
باقي الشروط التي طرحها الحزب الشيوعي، أغلبها كانت ومازالت شعارات وهتاف يومي لرهط رجال ونساء جميع القوائم، وليس مستغربا إن اختصرت هناك أو أضيف لها بند أخر لتكحيل العيون النواعس. ونحن في كل هذا وذاك ننتظر التعهد الأخلاقي والضميري الذي اقره الحزب الشيوعي على نفسه، ولا نتوقع تأريخ محدد لتطبيقه ولكن الخوف كل الخوف أن تسوف الأمور ونخرج من الحفل دون حمص.   



75
تركيبة الحشد الشعبي،  هل تؤهله أن يكون ظهيرا للقوات المسلحة العراقية؟

فرات المحسن

في احتفالية يوم القدس والذي صادف يوم الجمعة الأخيرة من رمضان، فرضت بعض الفصائل المسلحة على السلطة العراقية أن يجري الاحتفال في أحد أكبر وأطول شوارع العاصمة بغداد وهو شارع فلسطين، وأقامت استعراضا عسكريا كبيرا رفعت فيه ما يشير لارتباطها بولاية الفقيه الإيرانية مع ظهور خجول أو معدوم للعلاقة بالعراق، وهذا ما يعطي الانطباع ببعد تلك الفصائل عن حاضنتها المحلية وهشاشة ارتباطها بالحامل الوطني. ثم وبعد أقل من يومين ينفجر كدس عتاد موضوع في حسينية تابعة للتيار الصدري في مدينة الفقراء الثورة ليذهب من جراء انفجاره العشرات من الضحايا والأملاك الخاصة بالمواطنين .
على هذه الشاكلة وغيرها من الأحداث نجد العراق يواجه اليوم حزمة من المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وتوجد جملة من المواضيع المرتبطة بكل هذا،وواحدة من أهم تلك المشاكل وأعقدها علاقة تلك الفصائل المسلحة بالوطنية العراقية.وهذا ما يستوجب المزيد من الدراسة والبحث الذي يساعد على استيعاب أفضل للتطورات الجارية، خصوصاً مع تصاعد الحراك المطلبي وبقاء جذوة الخلاف السياسي متقدة.
معاناة الحاضر عند الإنسان تجعله في حالة رعب مما يخبئه له المستقبل، فبمقدار عجزه عن مجابهة وضعه الحالي، نجد أن حياته تبقى معلقة بما يخبأه المستقبل غير المنظور أو الهلامي المشبع بالمتاهات. فالعراق اليوم في ظل التركيبة السلطوية ووفق وقائع إدارة الدولة، والصراع على الغنائم وتقاسم مصادر القوة والمال، يواجه حزمة من المشاكل والأزمات، يكاد الفرد يقترب معها من الرعب اليومي أو الانفصام النفسي جراء الإحباط الذي يواجهه يوميا وما يقع عليه من أضرار ناتجة عن تلك الأزمات. فانعدام الطمأنينة  على رزقه اليومي وعائلته ومصيره الشخصي، تجعله  في وضع مختل التوازن، فاقد للسيطرة على قدراته، خائف من المستقبل وما يحمله له من مطبات وعثرات يجدها تثلم  ضمانات الحاضر رغم شحتها وعسرها، ومن هذا يفقد الفرد القدرة على التخطيط . وبسبب فقدانه الجهد الذاتي نجده في النهاية لا يستطيع السيطرة والتحكم بمصيره،ويجد نفسه بسبب هذا الرعب اليومي الكامن والمتربص به، إن لا حول ولا قوة له في مواجهة خصوم وكوابح عديدة تعترض كده وحياته اليومية.
فالبطالة المستشرية بين أوساط الشباب، وضعف الروابط الاجتماعية، تدهور التعليم، هشاشة الرابط الوطني، تفشي الأمية وانتشار الخرافة حتى بين أوساط المتعلمين. جميعها كانت وستبقى نذر شؤم سبغت بطابعها المجتمع، وأضفت عليه صفات وطباع لم يألفها سابقا. ولا شك أن مجمل ذلك كان سببا في اعتلال المجتمع واهتزاز قيمه، وبالذات لدى الشرائح الفقيرة منه التي أصبحت مع الوقت تشعر باليأس وانغلاق الأفق وانعدام الفرص للارتقاء بالوضع الشخصي والعائلي. ليأخذ هذا الواقع المتردي، عند مجاميع الشبيبة تعبئة نفسية سلبية دائمة بسبب اضطرابات منهجية بالتفكير ترافقها الانفعالات والتحدي والنوازع العدوانية. وهذا القطاع الواسع من العراقيين، يتصف ببنية دينامية تبحث عن الرزق داخل فم الأسد مثلما يقال،وتركب الصعاب لتثبت للجميع وجودها الإنساني. وكان من المناسب ظهور جهة ما تعمل على امتصاص هذا الغليان الشعبي والسيطرة عليه، لا بل توجيهه والاستفادة من طاقاته الحيوية الكامنة، بتوفير منفذ له للتنفيس عن المكبوت النفسي والقوة الجسدية.
 عند نقطة فاصلة من حياة الشعب العراقي وإثر التهديد الذي أنتظم على حدود عاصمة الدولة  بغداد والمدن الشيعية المقدسة، اتجهت الأنظار نحو تلك الطاقات الموجودة عند هؤلاء الشباب والمغيبة جراء التهميش والبطالة. وهذا ما فعلته المؤسسة الدينية وبعض الأحزاب التي تدعي الارتباط بها أو القريبة منها . حين أدركت ضرورة زج هؤلاء واستغلال قواهم وقدراتهم للوقوف بوجه أعداء العراق ويتقدم على ذلك مصطلح، أعداء الطائفة.

ظهور الفصائل المسلحة

على مدى خمسة عشر عاما لم تقدم السلطة الحاكمة حلولا ناجعة للبطالة ومشاكل الفقر وتردي الخدمات، وإنما ازداد العوز والفقر، وأصيبت مجالات التعليم والمعرفة بانتكاسات شديدة، وتصاعدت وتيرة الاعتداء على الملكيات العامة والخاصة، وشوهت السلوكيات الخطيرة إدارة مؤسسات السلطة، وما استطاع رجالها خلال تلك الأعوام غير زج المجتمع في حومة الصراعات الطائفية والقومية، لتختصر الكثير من احتياجات الناس وتحجر تحت يافطة الهوية الطائفية والصراع المذهبي، الذي استعر في ظل الاحتلال الأمريكي الذي عمل بدوره جاهدا مع شركاؤه من القوى المحلية، على تغذيته وجعله يتقدم الواجهة ويحتل الصدارة في أسباب تصعيد واستشراء التوترات الاجتماعية.
مع دخول طلائع الجيش الأمريكي، ظهرت إلى العلن أولى تشكيلات المقاومة الشعبية، الرافضة للاحتلال، وتميز بناء هذه المقاومة بخليط من قيادات عروبية وبعثية وإسلامية غلب على مقولاتها الدوغمائية، واجتذبت الشباب من رافضي الاحتلال، وكان ثقل تلك التنظيمات ونشأتها  في بغداد والمدن ذات الغالبية السنية. وبمرور الوقت أفصحت تشكيلات عديدة عن نفسها، مثل كتائب ثورة العشرين التي تأسست عام 2003 ،والجماعة السلفية المجاهدة في الشهر السابع من نفس العام، ثم  توالى تأسيس تلك المليشيات السنية مثل جيش العزة والجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية وجيش أنصار السنة وجيش محمد والنقشبندية ومن ثم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين بزعامة الزرقاوي وصولا إلى داعش. وجميع تلك القوى وضعت نصب أعينها محاربة المحتل والقوى السياسية التي قبلت التعامل معه، وسبق جميع تلك المليشيات في التأسيس الجيش الإسلامي الذي ظهر إلى الوجود قبل سقوط نظام البعث في العراق بعدة أشهر. وكانت قاعدة خوض المعارك تبنى على أسس العداء المذهبي للشيعة ومشاعر خسارة السلطة بعد عقود طويلة كانت ومؤسساتها تخضع لشروط وخيارات رجال يحسبون على المذهب السني. 
فيما برزت على نحو ظاهر تشكيلات مسلحة شيعية عام 2003 أي بعيد الاحتلال مباشرة، رافضة لما تبناه الاحتلال من إستراتيجية للعراق، تمثلت أولا بأنصار السيد مقتدى الصدر الذي أطلق عليهم لاحقا تسمية جيش الأمام المهدي ثم سرايا السلام ومجاميع صغيرة أخرى. ولكن فيلق بدر وهو الجناح العسكري للمجلس الإسلامي الأعلى وقتذاك، كان قد تشكل في إيران عام 1983 تحت أمرة المجلس الإسلامي الأعلى لغرض مناهضة صدام حسين ومحاربة الجيش العراقي، ومازال فيلق بدر يمارس نشاطاته بقيادة السيد هادي العامري حتى بعد انفصاله عن المجلس الأعلى. ومن رحم جيش الأمام المهدي الذي جمد نشاطه في 21 تموز عام 2007 ظهرت مجموعة عصائب أهل الحق بقيادة الشيخ قيس الخزعلي الذي استقل عن جيش الأمام المهدي عام 2008 .وكانت كتائب حزب الله قد شكلت سراياها أثر خلافات داخل فصيل العصائب وكذلك بين أوساط جيش المهدي، وأتى ذلك قبيل فتوى رجل الدين الشيعي السيد السيستاني بأكثر من عام. وأُسس لواء اليوم الموعود وظهر إلى الوجود في ذات السنة. وهناك فصائل إسلامية شيعية تشكلت بالتعاقب. وكان لتفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري يوم 22 فبراير سنة 2006 الأثر الفعلي لظهور كثير من الفصائل المسلحة الشيعية. وشكل ظهورها إنذارا ببدء الصراع الطائفي الذي أشتعل أواره إثر ذلك العمل الخسيس الذي أقترفه فصيل سني مسلح، وكان حدثا قدح شرارة الفتنة الطائفية،ودفع  الفصائل المسلحة من كلا الطرفين لاقتراف جرائم بشعة راح ضحيتها العشرات من البشر الأبرياء.
كان احتلال مدينة الموصل في العاشر من حزيران عام 2014 من قبل الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش ) وحلفائها من بقايا حزب البعث وذراعه المتمثل بجيش النقشبندية وبعض القبائل عربية وباقي الفصائل السنية المسلحة، نقطة تحول مفصلية في تاريخ الدولة العراقية، وسجلت تلك الواقعة انهيارا مريعا لقيادات الجيش العراقي، وهزيمة كاسحة لعدد من فرقه العسكرية، واستحوذت داعش في تلك الواقعة على كميات كبيرة من معدات وأسلحة تلك الفرق العسكرية. وإثر تلك التداعيات التي حصلت في ثاني أكبر مدن العراق، استطاعت المليشيات العشائرية المسلحة بقيادة داعش التمدد واحتلال مساحات واسعة من محافظة صلاح الدين، ثم وبشكل سلسلة من الهجمات التصاعدية استطاعت السيطرة على أجزاء كبيرة من محافظة الأنبار ومناطق شمال محافظة بابل وبالذات القرى والبلدات القريبة من العاصمة بغداد والواقعة جنوبها. ووصلت بقدراتها وبصورة مباغته إلى محيط العاصمة بغداد وجوارها من الجهة الغربية، وبالذات ناحية أبو غريب وجرف الصخر والكَرمة والفلوجة والحبانية، وكذلك جاورت طلائعها حدود محافظتي كربلاء والنجف، من جانب منطقة النخيب والصحراء. وكانت الغاية من تقدم داعش وانتشارها قرب بغداد، محاولة تطويق العاصمة من جميع الاتجاهات وإسقاطها عسكريا وإداريا ومن ثم التوغل نحو الجنوب.
مبرر تشكيل الحشد الشعبي
شكل انهيار الجيش العراقي واقتراب فصائل داعش وحلفاؤها من مناطق بغداد ومدن النفوذ الشيعي، الهاجس المقلق، لا بل التحذير الحقيقي من خطر قادم أرعب القوى السياسية ودفع المؤسسة الدينية الشيعية للتعامل معه بكل ما تمتلك من عزيمة وتأثير، لذا أطلق المرجع الشيعي الكبير السيد علي السيستاني فتواه التي دعا فيها جميع العراقيين إلى الجهاد، وسماه الجهاد الكفائي، وهو نوع من أنواع الجهاد، يوجه لجماعة محددة من المسلمين، ويسقط عن الباقين، ولا يلزم الجميع الجهاد فيه. وتعد دعوة السيد علي السيستاني التي أطلقها يوم 13 يونيو 2014 نقطة تحول في طبيعة المعارك على الأرض العراقية، وجاءت في الوقت الحرج، لتوقف التداعيات في جبهات القتال، وتحجم مظاهر انهيار القوات المسلحة. فقد لبت نداء المرجعية مجاميع كبيرة العدد،وكان تدفقهم مفاجأة للجميع، وما كانت لتستطيع المؤسسة العسكرية المتهالكة استيعابهم، وفي ذات الوقت ما كانت قادرة على تأمين السلاح والعتاد لهم.عند ذلك دخلت المؤسسة السياسية والعسكرية الإيرانية على خط حاجة وافتقار تلك الحشود للتجهيزات والتمويل لتكون الممول الرئيسي للكثير من تلك الفصائل سلاحا وأموالا ووفق شروط التبعية وليس غير ذلك.
 وكانت هواجس الخوف والقلق لدى المؤسسة الدينية الشيعية العراقية ومثلها بين غالبية الطائفة الشيعية وأحزابها الإسلامية من التداعيات المقبلة، إن استمرت داعش بالتمدد، فرض نوعا من التحدي وعزيمة تخلت كليا في سعيها لإنشاء هذا الحشد، عن المثالب التي اعترت التجميع والبناء. ولم يتوقف زخم التطوع رغم التشكيك والانتقادات التي رافقت سرعة حشد الآلاف في هذا الجيش العرمرم الذي لا يمتلك المعرفة المهنية أو الاحتراف في المهام والسلوك العسكري. ولم تكن الأيام القليلة في معسكرات الإعداد تكفي لجعله قادرا على حسم معارك كبيرة في مناطق مختلفة التضاريس وموزعة على رقعة جغرافية كبيرة ومتباعدة، وكذلك بمواجهة صولات حرب العصابات التي تجيدها مجاميع داعش وحلفائها. ولكن ورغم الضحايا الكثيرة التي قدمها الحشد الشعبي،والمشاكل والمعوقات الخطرة التي واجهها،استطاع أن يثبت أن من الممكن للعزيمة إن ترافقت مع أي نوع من أنواع العقائد، أن تدحر أعدائها أو تقف ندا في وجه مشاريع خصومها ونواياهم، وهذا ما حدث في معارك تحرير آمرلي وجرف الصخر ومناطق حزام بغداد وتكريت والدور وغيرها .
ما هي طبيعة تشكيلات الحشد الشعبي
تألف الحشد الشعبي من آلاف الرجال الذين انضموا تحت رايات ما يقارب الأربعين فصيلا، ترافق بناء تشكيلاتها إثر فتوى السيد السيستاني. ولكن ومنذ البداية، ظهر إن هيكلتها خضعت لرغبات بعض قادة العمل السياسي ورجال المؤسسة الدينية، وأيضا البعض من المقربين لفصائل العمل العسكري الشيعية الكبيرة أو المنشقين عنها. كذلك شارك في الاستعدادات والتهيئة والبناء والقيادة، رجال عشائر من الذين يستمدون قوتهم من قبائلهم. وفي صلب هذا المشهد المتنوع في الشخوص والنوايا، نشأ صراع الإرادات  وبرزت ظاهرة التكتلات والاستحواذ على المكاسب المعنوية والاستفراد للحصول على امتيازات عسكرية سلطوية وسياسية. ومنذ البداية طفح خيار الرغبات الشخصية لبعض قيادات سرايا الحشد، لينشأ كل رجل طامح للقيادة، سرية خاصة به، ولم يكن الآمر ليخلو من التبعية للقوى الاقليمية. فكانت كتائب سيد الشهداء قد ظهرت للوجود بتمويل من الحاج أبو سيف وكان في ذات الوقت مسؤولها العسكري. أما سرايا الجهاد والبناء فقد أفصحت عن تركيبتها بكونها الجناح العسكري لحركة سياسية بذات الاسم ترتبط مباشرة بالجانب الإيراني. هناك أيضا كتائب التيار الرسالي وهو فصيل عسكري بقيادة عدنان الشحماني ومرجعيته رجل الدين الإيراني السيد كاظم الحائري. ثم فصائل حشد شعبي أخرى بمسميات عديدة مثل سرايا الخرساني، سرايا عاشوراء، سرايا العتبات، سرايا العتبة الحسينية، لواء المنتظر، كتائب الغضب، درع الشيعة، لواء القارعة وغيرها الكثير. وأغلب هذه الفصائل وبمفارقة غريبة تبتعد عن ولاية السيد علي السيستاني لترتبط بولاية الفقيه الإيرانية الممثلة بالسيد الخامنئي واعتباره مرجعيتها الأولى.
 وحسب تصريح البعض من قادة الحشد ، كانت هناك تعبئة شعبية من أجل حشد الآلاف وزجهم في المعارك، ليقفز عديد الحشد إلى ما فوق المليون متطوع، ليكونوا مستقبلا نواة قوات للتحرير ومن ثم مسك الأرض مثلما أعلن حينها. ومثلما معروف عن الجهات الخارجية التي تمول تشكيلات ما أطلق عليه فصائل المقاومة السنية وهي دول إقليمية كثيرة منها السعودية وقطر وتركيا، فإن الكثير من تشكيلات الحشد الشعبي الشيعية، يأتي تمويلها من جهات أغلبها من داخل إيران وتجار شيعة من دول الخليج.
في خضم المعارك التي دارت نجد أن تعريف وعمل سرايا الحشد الشعبي عنوانا وقيادات و أفراد، كان يوضع تحت جناح ويافطة فصائل وقوى كبيرة، كان لها كيانها وخصوصياتها ومشاريعها منذ ما قبل سقوط الموصل أو قبل زمن بعيد من فتوى السيد السيستاني، ونرى أن تلك الكيانات الكبيرة هي من يضع الخطط ويقود القوة القتالية في المعارك مع الخصوم.أما سرايا الحشد الشعبي ( الكفائي) وفي جميع تلك المعارك فقد حصر دورها في المشاركة عبر الانضواء  طوعا تحت راية إحدى تلك الفصائل. ويمكن حصر هذه الفصائل القيادية الكبيرة بثلاث كتل هي سرايا السلام :السيد مقتدى الصدر، قوات بدر: السيد هادي العامري ، عصائب أهل الحق: الشيخ قيس الخزعلي. وضمن سياقات العمل السياسي وموجبات استغلال الفرص في العراق، تمرر تعابير لفظية ورمزية الغرض منها زج الفصائل الكبيرة ضمن تعريف الحشد الشعبي، وجعلها من داخل المجاميع التي لبت فتوى الجهاد الكفائي الذي أطلقها السيد علي  السيستاني لأسباب سياسية دينية وطنية وقبلها الحصول على المكاسب المالية بعد أن احتسبت للحشد رواتب ومخصصات، وليفرض على الدولة خيار أحتسابها من ضمن تشكيلات الحرس والجيش الوطني.
ورغم مشاركة سرايا الحشد الكفائي في جميع المعارك ضد داعش، واختلاط قواها بقوى الفصائل الكبيرة، فأن الصورة تبدو ملتبسة في حيثيات كثيرة، بل يموه على حقائق ووقائع لا جدال حولها. ففي الوقت الذي يعلن عن ارتباط سرايا الحشد الشعبي بالمؤسسة العسكرية العراقية، وبالذات بشخص القائد العام للقوات العسكرية، فأن الفصائل الرئيسية الكبيرة وكذلك أخريات غيرها،دائما ما تفصح دون مواربة وبشكل جلي عن درجة استقلالها عن المؤسسات الحكومية، وتنفرد بخصوصياتها السياسية والتعبوية والسوقية، وتجري نشاطات واستعراضات عسكرية لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية العراقية، ولم يكن ليأتي هذا الإفصاح اعتباطا، بقدر ما هو وسيلة للتفرد ونزوع نحو الخصوصية السياسية والعسكرية وارتباطها بالعامل الخارجي كموجه وراعي.
دائما ما واجهت المحاولات الكبيرة والعديدة لإيجاد سبل للوصول إلى ما يساعد على زج أبناء الطوائف والقوميات العراقية من غير الطائفة الشيعية في الحشد الشعبي موانع كثيرة، فنجد هذا الآمر في ميزان حركة القوى الاجتماعية والسياسية لضعيف جدا، ويلاحظ المرء مدى الصعوبة في انخراط هؤلاء في سرايا الحشد الشعبي، والمؤسف في الأمر أن مثل هذا الفعل رضخ ومازال للشد الطائفي، لا بل وبسبب هذا وضعت في الكثير من الأوقات اشتراطات لمنع الحشد من دخول المناطق ذات الغالبية السنية ومشاركتهم في تحريرها. أيضا جرت هناك ولازالت حملة إعلامية داخلية وعالمية ظالمة في بعضها، تطعن بنوايا الحشد الشعبي وتضعه في خانة عصابات القتل والسرقة والاغتصاب وغير ذلك من الجرائم.وقد نجحت وسائل الإعلام العربية والعالمية وحتى المحلية في إيصال معلوماتها وتقاريرها الحقيقية والكاذبة عن الحشد الشعبي إلى الأمم المتحدة وأوساط الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والسلم العالمي والهجرة وغيرها، التي بدورها أشارت في بعض تقاريرها لما يدين الحشد الشعبي ويتهمه بالتوحش.
نجد اليوم أن بعض الفصائل العسكرية ومثلها الشعبية من مختلف الطوائف والقوميات وأيضا الكثير من العشائر، لا تحاول تقويض العلاقات وطرق التعامل السابقة التي تربت عليها على عهد حزب البعث،وكان ذلك تاريخا طويلا، خاصة في وسائل تعاملها مع الناس، بقدر ما تحاول وفي الغالب التماهي مع تلك التقاليد والأعراف وإعادة استخدامها، والاستمرار بذات البنية من العلاقات المبنية على القوة والقسوة والتهديد، والعمل على تطويع الغير وتدجينه بفرض أفكارها ورغبات وخيار أفرادها. وباتت الممارسة المسلحة لا تقتصر على جبهات القتال، وإنما البعض يمارسها داخل المدن. فتهديد الناس وخطف الأفراد والاعتداء على المؤسسات والمقرات الرسمية والأهلية وكذلك الاستعراضات العسكرية التي تجريها تلك القوى في شوارع المدن وبمختلف أنواع الأسلحة، تفتقر إلى القيم الثورية الأخلاقية الحقيقة، وهي في حقيقة الآمر تهديد مباشر للسكان وللسلم الاجتماعي. ودائما ما عرف عنها، بعدها عن أية التزامات سياسية واجتماعية، وإنما يتمحور فعلها فقط تحت شعار أنصر أخاك ظالما أم مظلوما دون تمحيص وتدقيق. وفي أغلب الأوقات فإن هذه القوى المسلحة بالإضافة لقوتها العددية المدججة بالسلاح، دائما ما تعوض نقصها الثقافي بأفعال تفصح عن استعلاء وشعور رامبوي بالتفوق يزدري قيم الآخرين وخياراتهم ويحاول إخضاعهم لجبروته.  ولم يكن ليأتي هذا اعتباطا، فما دام المجتمع المدني هزيل وبناه محطمة ومبعثرة، والهويات تتبدل وتتغير بفعل وسطوة الطائفية والعشائرية وانتشار السلاح، فأن قدرة الناس على الخلاص وبناء نموذج حضاري مدني يخضع لسلطة القوانين وليس غيرها، تبقى مضمرة وخاضعة لتهديد وهيمنة تلك القوى المسلحة التي هي وفي الكثير من الأماكن والأوقات صاحبة الكلمة العليا.  وهذا يضعنا أمام جملة أسئلة تثار عن طبيعة وأهلية الحشد الشعبي بجميع فصائله ليكون ظهيرا للقوات المسلحة العراقية أو قوة حامية للسلم الاجتماعي .
أغلب اللوم يوجه اليوم  إلى الجانب الحكومي، وتحديدا في ناحية قصوره وتباطؤه بدمج هذه الفصائل بالجيش العراقي وفق سياقات عسكرية وقانونية ومهنية بحته بعيدا عن رغبات وهواجس طائفية أو سياسية.ولكن  الفوضى والعشوائية في القرارات واضطراب منهجية التفكير والقصور في فهم الحالة العامة، وسيطرة الذهنية النفعية وتصاعد مظاهر الشخصنة والتفرد والتناحر والتسابق على المكاسب السياسية والمالية، وارتفاع نسب التخندق الطائفي على حساب الوعي بالهوية الوطنية، مع الارتباط بمشاريع وأجندات من خارج الحدود الوطنية العراقية، لذا ومن كل هذا وغيره يمكن أن يضع الحشد الشعبي وقبله الفصائل المسلحة جميعها، على مسافة بعيدة جدا عن المؤسسة العسكرية، ومن غير الممكن أن يكون الحشد ظهيرا لها. بل من الممكن أن نجده وبعد القضاء على داعش نهائيا، أحد أكثر مصادر التهديد لتلك المؤسسة، ومن ثم للحريات العامة وأي مشروع لدولة مدنية تسعى قوى الشعب الديمقراطية الوطنية لبنائها.  ومن الجائز القول أن استفحال الخلافات بين قادة الفصائل الكبيرة، يمكن له أن يقوض تجربة الحشد الشعبي ذاتها، ويدفع مستقبلا إلى احتراب وقتال، إن لم يستطع العراب الخارجي للفصائل ذاتها منع حدوثه، فإن السلطة العراقية لن تجد القدرة على وقف تداعياته، ليكون بالنتيجة النهائية عامل ناسف لتجربة الديمقراطية الهشة التي بنيت عليها السلطة.
ليس هناك في الأفق ما يشي بخروج سحري من المأزق، فسياسات السلطة وترددها، وضعف مؤسسات الدولة، قاد لاستشراء وانتشار المليشيات المسلحة، موزعة على كامل الخريطة الجغرافية للعراق. ومع تضخم أعدادها وقدراتها العسكرية، وتعدد الأطر المرجعية لها، وضعف خطط المؤسسة العسكرية الذي جعلها الطرف الضعيف أمام الفصائل المسلحة إن جد الجد. ولا يمكن التطرق لمجمل تلك العيوب والأخطار المحدقة بالمؤسسة العسكرية،دون ربطها بالفشل الذي يعتور عمل مؤسسات الدولة بعمومها،  والعجز في ميزانية الدولة وانتشار الفساد الإداري والمالي بين أوساطها.
وأود هنا القول، لو قيض لنداء المرجعية أن يكون على شاكلة إعلان حالة طوارئ تصدر عن الحكومية العراقية تحديدا وحصرا، تدعو فيها لبناء فصائل عسكرية ترتبط بوزارة الدفاع وبعيدة عن التخندق الطائفي، لكان لها أن تكون الصيغة الأمثل والقريبة جدا من نيل القبول عند باقي طوائف وقوميات الشعب العراقي، وفي الوقت ذاته تكون بابا واسعا لإعادة هيكلة القوات المسلحة. وارى أن مثل هذه الدعوة لازالت تمثل أفقا رحبا وجيدا يمكن من خلاله احتواء سرايا الحشد الشعبي ومتطوعي العشائر ووضعهم ضمن بنية الجيش العراقي ويعاد معها بناء وهيكلة المؤسسة العسكرية بعمومها.



     

76
فضائح انتخابات الخارج تتكرر دون حياء

فرات المحسن

لم تسجل المفوضية ( المستقلة ؟؟) للانتخابات غير مشاركة أقل أو أكثر من  270 ألف عراقي في كل مرة جرت فيها عملية التصويت للبرلمان العراقي للثلاث دورات 2005ـ 2010 ـ 2014 للقاطنين خارج العراق. واستبعد من أصل هذا الرقم أكثر من الأربعين ألفا بحجج واهية ودون مسوغ مقبول. لا بل كان الأبعاد نموذجا سيئا لعملية إقصاء متعمد لقوائم بعينها. ورافق تصويت الخارج الكثير من اللبس والإرباك وظهرت عمليات تلاعب وتزوير مؤكدة سجلها المراقبون والبعض من موظفي التسجيل. ولم تكن بعض المكاتب تمتلك الأمانة المهنية والشفافية في التعامل مع الحدث، بل دفعت نحو إثارة الشبهات في جميع إجراءاتها. وخير مثال على ذلك ما فعلته بعض المكاتب من ابتذال مورس فيه خداع خبيث مع البعض من مواليد الخارج أو مع أخوتنا الأصلاء من الكورد الفيلية ليمنعوا من المشاركة .
سجلت ملاحظات عديدة على أداء مديري المكاتب واتهموا بعدم الحيادية وتبعيتهم لبعض القوى السياسية المتنفذة، وكان هذا واضحا للكثير من المراقبين في مختلف الدول التي أجريت فيها الانتخابات ، وبان تأثير ذلك على وقائع ومجريات الحدث الانتخابي. فقد عمل مدراء المكاتب على استقطاب نسب كبيرة لموظفين من عينات منتقاة وفق الميل الجهوي والطائفي أو الحزبي. وبني ذلك على وفق أغراض سياسية ومصالح شخصية وارتباطات مالية، مؤكدا السلوك غير المهني وغير الحيادي للمدراء الذين انتدبتهم المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات لإدارة العملية الانتخابية في ما يقارب الستة عشر بلدا. وظهر جراء ذلك عمليات تزوير وتسويف واسعة، لتشطب أثرها الكثير من أوراق التصويت التي تخالف سياسيا توجهات مديري المكاتب وأتباعهم. ومورس ابتزاز علني نحو أصحاب الوثائق الأجنبية التي تشير لعراقيتهم و تثبت هويتهم الوطنية. وسجلت حوادث تفضيل ومحاباة بين مدراء و موظفي قاعات الاقتراع والبعض من المقترعين.
ومع كل تلك الأحداث الإدارية، سجلت أيضا وقائع نهب للمال العام لا يمكن التغاضي أو السكوت عنها. لا بل هناك سرقات يستحي من ممارستها حتى شحاذي الشوارع. ففي أغلب مكاتب الانتخابات التي افتتحتها المفوضية ( المستقلة ؟؟) وانتدبت أليها أفراد من الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية، قدمت لهؤلاء المفوضين تخصيصات مالية بلغت الملايين من الدولارات. وقد استغل هؤلاء تلك الأموال للبذخ والهبات والسرقات. وفي هذا السياق نذكر أن أحد هؤلاء المفوضين أستأجر له ثلاثة رجال كمرافقين ( في البلد الآمن ) وبراتب لحين نهاية العملية الانتخابية، بآلاف الدولارات للفرد الواحد. كذلك حجزت ثلاث سيارات للتنقلات، وشقق سكنية وجناح خاص في أحد فنادق الدرجة الأولى ( البزنس) تبلغ ليلة السكن فيه 500 دولار، ومكتب فاره فاخر. وأحد هؤلاء صرح بأن مكتبه قام بطبع 2800 نسخة من الدعاية الانتخابية وبذات العدد لكراس أخر لشرح العملية الانتخابية. ولكن لم تظهر من تلك الكراسات غير بضع عشرات، لا بل لم يلحظ الناخب وجودا لها حتى في مراكز الاقتراع وطيلة أيام الانتخابات الثلاثة للتصويت. في حين أن تكلفة طباعة تلك الكراسات كانت بالغة الفحش وبالدولار الأمريكي. وجاءت مبالغ تأجير المخازن وشراء القرطاسية وصناديق الاقتراع وتأمين حمايتها لتسجل مبالغ خيالية تثير الكثير من الاستغراب والشكوك. وذهبت جميع تلك المبالغ والحصص إلى شخصيات ترتبط بأصدقاء ومعارف مدراء المفوضيات ومشايعيهم من ذات الحزب أو باقي الأحزاب القريبة. واستدلالا على تلك المحاباة وتبادل المنافع الشخصية، فأن أحد مدراء المكاتب المرسل من العراق لإدارة العملية الانتخابية أستأجر من أحد أصدقائه ومن المقربين لحزبه مخزنا متهالكا دون حماية وبنوافذ محطمة لتأمين مواد الانتخابات بمبلغ خيالي، في حين أن في انتخابات عام 2005 ورغم ما شابها من سرقات، تم أيجار مخزن بمواصفات عالية الجودة مع توفير الحماية له من قبل سلطات ذلك البلد لم تتجاوز تكلفته ربع مبلغ ما قدم كمكافئة لهذا الصديق الرفيق الإسلامي صاحب المخزن. وذات الشيء حدث في عمليات شراء القرطاسية وغيرها من احتياجات المكاتب التي أحيلت بعهدة أشخاص أغلبهم من تجار الدرجة الثانية ومن أتباع الأحزاب التي تدير العملية الانتخابية.
وسجلت أيضا نسب عالية وبإفراط ملحوظ لأعداد الموظفين المشاركين في إدارة مواقع وغرف الانتخابات كحراس ومفتشين وإدلاء، كان جل عملهم الوقوف بين الممرات وأمام الأبواب لاجترار الأحاديث والتحديق بالجمال القادم للانتخاب مثلما قال أحدهم. وأغلب هؤلاء دفعت أجورهم تحت الطاولة أي خارج نظام ضريبة الدخل العمل المعمول بها في تلك البلدان.
والغريب في هذا الأمر هو ورقة الدفع حيث سجل فيها على أن القابض عليه دفع رسوم الضريبة، وحين أعترض هؤلاء على هذه الصيغة أخبرهم مدير مكتب المفوضية بأن هذه الصيغة لا تعنيهم وإنما الغرض منها فقط يخص مركز المفوضية في اربيل.
وتفاوتت أجور العاملين من الذين شاركوا في الإعداد والعمل للعملية الانتخابية في جميع مكاتب المفوضية وفي مختلف البلدان. حيث أن مركز المفوضية الرئيسي لم يضع قواعد ثابتة للأجور وحسب طبيعة العمل وإنما ترك الأمر لمدير المكتب ليتصرف على هواه وحسب تقديره الشخصي لمستوى المعيشة في ذلك البلد.
و لا أدري ما هو موقف المركز الرئيسي لمفوضية الانتخابات في بغداد ومعهم هيئة النزاهة من الأجراء الذي اتخذه البعض من مندوبي المفوضية لإدارة عملية الانتخابات في البلدان الأوربية، حيث قام بعضهم باستدعاء جوقة من أقاربهم ومعارفهم ومن بلدان أوربية مجاورة للمشاركة في إدارة العملية الانتخابية. وتحملت دائرة المفوضية دون مبرر معقول أجور سفرهم إلى تلك البلدان وكذلك مبالغ تنقلاتهم وسكناهم في أضخم الفنادق. في الوقت الذي أهمل وأبعد الكثير من العاملين الذين اكتسبوا خبرة كبيرة حين أداروا بنجاح عملية الانتخابات عام 2005 في تلك البلدان.
الأسئلة الكبيرة التي تثار والتي على السياسيين العراقيين من الحريصين على أموال وسمعة العراق أن يتأملوا ويدققوا في مسبباتها ونتائجها الحقيقية على الأرض.
ـ هل أن حجم أعداد المشاركين في انتخابات الخارج يوازي ما قدم ويصرف من مبالغ لفتح مكاتب للمفوضية في بلدان العالم.
ـ ما هو حجم ونسب من يشارك في انتخابات الخارج مقارنة بما أعلنته المفوضية عن أعداد الذين من الموجب مشاركتهم في الانتخابات في عموم العراق، و ما هي النسبة الحقيقية لهؤلاء مقارنة بأعداد من شارك ويشارك فعلا في الانتخابات داخل العراق.
ـ هل أن عمليات الصرف الباذخ الذي يقوم بها مدراء المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات الذين انتدبوا لإدارة عمليات الخارج، تخضع للمراقبة والتفتيش والتدقيق ومن ثم المسائلة.
ـ ألا تتوفر آلية الكترونية للتصويت عبر الانترنيت. ليتم عبرها وئد السرقات.
وبذات المعايير السيئة التي تدار بها العملية السياسية هناك، تخضع عمليات فتح مكاتب الاقتراع في بلدان العالم المختلفة، حيث تتوافق الأحزاب المتنفذة وتتحاصص على تقاسم المندوبين وتوزيعهم على تلك البلدان وتقدم لهم التسهيلات المالية واللوجستية دون أية مسائلة أو تدقيق. ومن الجائز القول أن عمليات انتخابات الخارج أصبحت تشكل واردا جيدا للبعض من الشخصيات والأحزاب العراقية وباتت بابا مفتوحا للسرقات بمختلف أنواعها.
وعين اليقين القول أن السارق مثل المأبون لا يهمه ما يقال عنه بل هو سادر في غيه وابتذاله وسقوطه وينظر إلى الجميع بعين القبح والرذيلة، لذا لا نرى اليوم من يستمع لصرخة مظلوم وتضور جائع، وإنما نجد غلبة ساعية دائما لخطف حتى فتات الخبز من أفواه الجياع والعراة من العراقيين. وأبواب السرقة مشرعة مثل شهية هؤلاء الظلمة قساة القلوب. وقيل أن المال السائب يعلم السرقة. ومع وفرة السراق، توجد هناك وفرة لأموال سائبة لعدم وجود من يؤتمن عليها.
أدناه أسجل بعض ما سوف يصرف على عملية الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة في المملكة السويدية وحسب ما وضعه مقترح بعض من له اليد في إدارة العملية الحسابية لمجريات ووقائع العملية التصويتية في المملكة السويدية  وحسب ما وردني من أحدهم، وتتداخل فيها بعض أبواب الصرف لغرض زيادة الإنفاق


1 ـ النشر والإعلام                           70 مليون دينار عراقي
2 ـ نفقات نشر                                30    مليون   د ع    
3 ـ نفقات إعلام                                 30   مليون    د ع
4 ـ اشتراك في صحف                              10   ملايين   د ع

5 ـ إيجار مباني                          250  مليون د ع، وهي في الحقيقة ثمانية آلاف دولار أي عشرة ملايين دينار عراقي لا غير ولكن عمل مستند بذلك بمبلغ 250 مليون د ع 

6 ـ إيجار مكتب الرئيس                                    100   مليون   دع  مستند مثل سابقه
7 ـ إيجار مخازن                                     20    مليون     د ع 
8 ـ إيجار مباني متفرقة أخرى                           100   مليون   د ع
9 ـ إيجار معدات وسيارات                      30 مليون       دع
10 ـ "  "     "      "                                 15 مليون      د ع
11 ـ إيجارات نقل                    12  مليون     د ع
ا12 ـ لنثرية الرسمية                   2 مليون        د ع
13 ـ أجور الخبراء الاستشاريين                8 مليون           د ع
14 ـ استشارات قانونية                   8 مليون       د ع
15 ـ تنظيف الدائرة                   2 مليون    د ع لليوم الواحد
16 ـ أجور خدمات مصرفية                15 مليون    د ع
17 ـ أجور حارس حماية المركز الانتخابي         6 مليون   د ع
18 ـ صيانة عامة                       14 مليون د ع
19 ـ الكهرباء والماء                      8 مليون د ع



إما الأجور التي تمنح للعاملين فهي كالتالي


مدير إعلام                     20000  عشرون ألف دولار لمدة شهرين
رئيس شعبه                     3750  دولار لمدة شهر واحد
موظف في مكتب الرئيس عدد 8               2750 دولار
مدير مركز                                   1500 دولار لمدة يومي التصويت
مدير محطة 3                    1250 دولار لمدة يومي التصويت
موظف    اقتراع أكثر من 100              1000 دولار لمدة يومي التصويت

اتفق مع بعض الشخصيات المقيمة في السويد والمحسوبة على الأحزاب الحاكمة ومن المعارف للجنة المشرفة على العمل كسماسرة لتهيئة بعض العاملين من الذين يقبلون على استلام نصف الأجر والتوقيع على ورقة استلام كامل المبلغ. واحد هؤلاء السماسرة من مدينة هلسنبوري 

77

من يرشدني له الأجر والثواب

مع من تحالف الحزب الشيوعي؟

المفوضية العراقية للانتخابات البرلمانية أعلنت عن وجود نموذج لاستمارة على العراقيين المتواجدين خارج العراق إملاءها وإرسالها إلى المفوضية لكي يحصل العراقي على رقم أو ماشابه مما يؤهله المشاركة في الانتخابات القادمة.
أنا أملك جميع الوثائق العراقية، الجنسية وشهادتها وجواز السفر العراقي وهوية الأحوال المدنية، جميعها حديثة وتحتوي والله العظيم على فسفورة .
سؤال يلح عليَّ ويقلقني لا بل يقض مضجعي في أغلب ليال الشتاء السويدية المثلجة.. يا ترى لمن أمنح صوتي إن أردت المشاركة في الانتخابات؟؟؟
استعرضت القوائم فلم أجد فيها ما يستدعي الرضا والاطمئنان أو حتى المقبولية.
تحالف العبادي يحتوي على ما يفزع ويجزع الروح. وفرة السراق والكلاوجية ومن باع العراق تفصيخ في هذا التحالف  تجعلني لا أقترب منه أو حتى ألقي نظرة خاطفة عليه.
ومثل ذلك متوفر أيضا في تحالفات أبو إسراء نوري المالكي ومن خرج من تحت أباطاته،ومثله أياد علاوي وصالح المطلق وسليم الجبوري والنجيفي ووو، وللابتعاد عن كل هؤلاء فقد اخترت حكاية من حكايات بيبيتي التي كانت تنبهني فيها، بأن عليَّ أن أغتسل سبع مرات لأنظف من نجاسة أبو بريص أن وقع عليَّ أو لامس جسدي. فكيف لو اقتربت ولا مست نجاسة هؤلاء وهم مثل التماسيح والاراول والسحالي .
وهناك في الحومة بضع كلاوجية  سبق أن علت عليهم في الانتخابات الماضية حين تحالفوا مع الحزب الشيوعي وظهر أنهم من منظمة (( لغوية كلاوجية دون حدود)) وقد شبعوا ردحا بعد أن ذاقوا طعم زقنبوت راتب ومخصصات البرلمان وسرقوا وتمضمضوا برواتب حماياتهم.
وإذا لم يكن قد أستجد على الساحة ما يوحي بتغيير في الكتل والوجوه وإن الشخصيات ذاتها المعتمة الكالحة المنافقة الكاذبة السارقة عادت وقدمت نفسها مرة أخرى لتكون وحدها من يملك خيوط اللعبة لإدارة البلد، فماذا أفعل أو يفعل غيري؟؟.
سألت نفسي إلى أين تريد الوصول في هذه التساؤلات، فما عاد أمامك غير أصدقائك في الحزب الشيوعي، ودون شك رغبتي تميل نحوهم، فأنا عراقي العاطفة والهوى وخياراتي تحددها قبل أي شيء أخر أهوائي ورغباتي.
الحزب الشيوعي أختار تحالف سائرون وكفى، وأقولها صراحة، كان خيارا غير مريح ليَّ لأسباب عديدة، أولها وجود سعد عاصم الجنابي رئيس التجمع الجمهوري ومضر شوكت أمين حزب الترقي والإصلاح وقحطان الجبوري أمين عام الدولة العادلة ومن ثم حركة أو حزب الشباب والتغيير. لا معلومة عندي عن الحزب الأخير، ولكن تجمع هذه النتف الحزبية الصغيرة وليدة اليوم والصدفة والمصالح الشخصية، والتي أنضم البعض أليها انتفاعا من مال يمتلكه هؤلاء الفطاحل المشكوك في مصادر أموالهم وتمويلهم، والذي سبق للحزب الشيوعي أن رفض مشاركتهم والتحالف مع بعضهم في الانتخابات الماضية بسبب كان مقنعا جدا حين عرفته، وهو فكرهم المبني على المصالح والمغانم الشخصية قبل أي شيء أخر.
توقفت عند هذا المشهد الذي خربط علي الغزل كثيرا، أكثر من توقفي عند اللوحة المعقدة التي جعلت الصديق العزيز أبو أحلام يدفع بالحزب للتحالف مع التيار الصدري. ربما الحجة بخيار التحالف مع الصدريين بنيت على أسس وقناعة التحالف مع قواعد التيار وهم الطبقة المعدمة والشباب المهمش بعيدا عن ضغط النوايا المبيتة السيئة، وفي هذا الجانب وجد أبو أحلام وبعض قيادة الحزب الشيوعي وحسب اعتقادهم في تحولات السيد مقتدى الصدر نحو بناء الدولة المدنية والإصلاح ما يقنع، خاصة وأن السيد مقتدى قد أبعد الكثير من شخصيات التيار الصدري عن الترشح للانتخابات  القادمة وتبنى مشروع كتلة جديدة غير كتلة الأحرار، ووضع هذه الكتلة تحت عباءته وبمباركة ودعم كاملين، وأختار لرئاستها الأستاذ الجامعي الدكتور حسن العاقولي الذي أصبح أمينا عاما للكتلة الجديدة التي سميت باسم حزب الاستقامة.
ولكن الغريب أن أستاذ الجامعة الأمين العام لحزب الاستقامة وأؤكد على الاستقامة والأمانة، كمقدمة لخيار التيار الصدري لرجاله ومؤازريه.
الدكتور حسن العاقولي فاجئنا في مقابلة تلفزيونية بكذبة لا يقدم على اقترافها حتى الصبيان من لاعبي الحجر، حين أدعى عدم علاقة حزبه بالتيار الصدري وأنه لم يلتقي السيد مقتدى مطلقا، ولم يكلف من قبله أو من رجاله لبناء هيكلية حزب الاستقامة الذي يترأسه، ولا علاقة تربط حزبه بالتيار الصدري من قريب أو بعيد.
وعلى ذات المنوال أعلن المتحدث باسم تحالف سائرون قحطان الجبوري إن السيد مقتدى الصدر لم يدعم التحالف لحد اليوم والتحالف ينتظر دعم السيد الصدر في قادم الأيام.
إذا كانت البداية بمثل هذا الكذب الساذج الرخيص والفاضح الذي يشبه كذب وترهات موفق الربيعي وعباس البياتي وباقي شلة الحكم المارقين، فكيف يتسنى لنا معرفة أي طريق علينا السير فيه.
وهنا أجد نفسي وبعد تصريح هؤلاء  أتساءل:
مع من تحالف الحزب الشيوعي العراقي ؟
ما الذي أقنع الحزب الشيوعي للتحالف مع هذه المجموعة، وهم شلة لا تختلف قيد أنمله عن مثيلاتها في باقي قوائم التحالفات ثم جائهم حصان جامح أخر مدجج بالكذب الصريح فقيم الركَاع من ديرة عفج.

قبل كل هذا وذاك، ما الذي سوف أفعله أنا ولمن أعطي صوتي الانتخابي؟.
بعد أن تخربط وتاه عليَّ الجوخ والبداوي وضاع عندي الحساب.
من يرشدني لطريق الانتخاب السوي فله الأجر والثواب،وقبل أن يفعل هذا ويقدم نصيحته، عليه أن يدلني على قائمة أو تحالف ممكن أن يجلب للعراق الخير ويتمسك بوطنيته ويتعالى فوق مسميات الحزبية والطائفية والقومية والشخصية.
وهل مثل هذا الفصيل أو الكتلة أو التحالف أو الفريق موجود ومسجل عند المفوضية المستقلة كلش للانتخابات النزيه.
   

 

78
ندوة عن المقام العراقي
يقيمها اتحاد الكتاب العراقيين في السويد ومنتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم

المقام العراقي لون عراقي من الغناء القديم تصاحبه الآلات الموسيقية ، وهو تراث موسيقي يتسم بصفة أو طبيعة ارتجالية في الغناء والعزف على مختلف السلالم الموسيقية التقليدية ، إن المقام العراقي يقتصر وجوده في العراق فقط، ويمثل الفن الغنائي الخاص بالشفافة الموسيقية الحضرية لمدن العراق ، وقد برز وبصورة ظاهرة في بغداد والموصل وكركوك،  ومن ابرز السلالم النغمية المشتركة للمقام بين العالم العربي والإسلامي هي الرست والبيات والحجاز واليكاه والصبا والحسيني والنوى والكرد والمخالف ، وتتميز المقامات العراقية ما عدا خضوعها لقواعد تتحكم بالأجناس الموسيقية وتصويرها ، باحترام الخصوصية التي تفرضها صبغة المقام العراقي إضافة إلى تمسكه بالميزات الجمالية الخاصة به على صعيد الأداء واللحن.
ولكي نتعرف على الطبيعة النغمية وأنواع المقام وأشكاله وتفرعاته الكثيرة، يكون لنا لقاء  مع أستاذ المقام محمد العزاوي وهو  المختص في هذا المجال ليقدم لنا معارفه ويغني الموضوع بأدائه الشيق ومعلوماته القيمة.

الموعد يوم السبت المصادف 13 / 01 / 2018
الساعة الخامسة مساءً على قاعة سينسوس في منطقة سلوسن جوار محطة المترو، عشرة أمتار يسار باب المحطة الخارجي

79

في كردستان الارتشاء لأجل التظاهر
فرات المحسن
هل من الممكن أن تكون الجماهير الكردستانية خرجت للتظاهر بعد أن قبضت من الخارج ثمنا لتظاهراتها؟؟!!
سؤال كبير، ولكن السيد البرزاني ومجموعته أعلنوا أن مثل هذا ليس بغريب وحقيقة حدثت، فقد قام البعض من المتظاهرين باستلام مبالغ لغرض الإعداد للتظاهرات، وأيضا حرق مقرات الأحزاب ومؤسسات الدولة.
جائز بل هو حقيقة بأن أي مظاهرة تنطلق تحوي بين حشودها من غير الأسوياء ومن المندسين لأغراض معينة، منها أحقاد شخصية أو سياسية أو حتى اجتماعية أو لأسباب غير تلك، وجميعها يدخل تحت يافطة الهوس الجماهيري.
فعل إحراق المؤسسات والمقار الحزبية وأي بناية عامة فعل مدان وغبي، ويعود مردوده في النهاية على المتظاهر نفسه أو بعموم المواطنين والبلد. فلماذا يمارس هؤلاء هذه الفعلة الغبية والخبيثة.
مثل هذا الآمر يحتاج لتحليل نفسية الإنسان المقهور وكذلك خلفية الحدث وبعموم المشهد دون تجزئة، وبالذات السبب في نزوع المرء للعنف، عندها نتعرف على مسببات ردود فعل الإنسان المحبط المقهور الواقع تحت سطوة وتعذيب السلطة، ونشاهد كيف يتجاوب ويتساوق مع قسوة وقهر السلطة وعدم مبالاتها وإهمالها لهمومه ومشاكله واحتياجاته،فيقابلها بردة فعل عدوانية يعتقد أنها سوف تؤلم الحاكم وتوجعه.
خرج علينا بعض الأصدقاء الأحبة بفلم عن مظاهرات كردستان يرافقه تعليق يتهم إيران بتدبير تلك التظاهرات. بشكل ناجز يمكن القول أن الفلم معد من قبل مجموعة السيد البرزاني وليس من قبل الطرف الأخر الطلباني بسبب علاقة الأخير بإيران، مما لا يسمح له اتهامها مثلما فعل صانعو هذا الفلم. إيران باتت شماعة قوية لتعليق الشبهات والاتهامات والمكائد والأخطاء، فتعليق المصائب برقبة إيران صار أسهل من شربة ماء، ويقف بجانب هذا التأويل المخادع أمريكا وإسرائيل والسعودية ومصر والخليج جميعا، وجبهة ليست بالضعيفة من العراقيين.وفي قولي هذا لا أدافع عن الأفعال الإيرانية التي لا تمثل في الكثير منها غير إيذاء متعمد واستهانة بقدرات الشعب العراقي وحتى بقادته وتاريخه، وليس هنا مجال لاستعراض ذلك.
على مدى سنوات طوال وضعت تحت يد سلطة السيد مسعود البرزاني موارد ضخمة أختصرها هنا بالمنافذ الحدودية وموارد تصدير النفط دون رقابة، مع 17 % من موارد الدولة العراقية. ومع كل تلك الموارد فقد تسببت السياسات الخاطئة والسرقات انهيار الواقع الاقتصادي وتجويع قطاعات واسعة من الشعب الكردستاني، وكان التبرير لتلك الأزمات وخاصة أكبرها وهي الأزمة الاقتصادية، يرمى بإجحاف وتضليل على عاتق الدولة الاتحادية.وأيضا لا يعني ذكري لهذا، إنكاري لبعض السياسات الخاطئة للسلطة في بغداد تجاه إقليم كردستان. كذلك فالمحافظات الخاضعة لسلطة بغداد شاهد حي على العديد من الأخطاء الفادحة والقباحات المقترفة والإهمال المتعمد للبناء التحتي والدمار الذي أصاب جميع مناحي الحياة، وترافق ذلك مثلما في كردستان مع سرقة المال العام واختفاء المليارات لصالح رجال السلطة ومرتزقتهم، لذا لا يمكنني الدفاع عن حكومة بغداد عند توجيه الاتهام لسلطة السيد مسعود البرزاني وحلفاءه.
في كردستان وطيلة العشر سنوات الماضية تم سرقة أغلب العائدات المالية لصالح أحزاب السلطة وقسمت بينهم أغلب الواردات، واختفت لعدة أعوام موازنة الإقليم لصالح السيد مسعود البرزاني وعائلته وحلفاءه، وترافق ذلك مع خنق الحريات المدنية، وعتم على العيوب، وشكلت مليشيات لقمع أي رأي مخالف وخنق الإعلام،وروج للدكتاتورية، وأصبح الوضع في كردستان لا يطاق بسبب تلك السياسات العجفاء والقاسية. ففي إربيل لا يمكن مع وجود نظام بوليسي قمعي، القيام بأية تظاهرة أو مخالفة للرأي، ومخالفة الرأي سوف تواجه بالتكميم والتعتيم وحتى القتل. وجراء كل تلك التعديات شهدت وتشهد مدن إقليم كردستان تظاهرات عارمة تندد بالأوضاع السيئة التي يعيشها الإنسان الكردستاني بسبب سياسات السلطة وأساليبها القمعية وتجويع المواطن بسبب عدم دفع الرواتب أو سرقة جزء من الراتب بمسمى الادخار الإجباري، ودون الإعلان عن مداخيل الحكومة وعائداتها المالية.
في لمحة حكيمة من قبل الأمير صباح السالم الصباح أمير الكويت قدم ما يقارب 60 مليون دولار لمحاربة صدام وإخراجه من الكويت، وبعد أن تحررت الكويت من احتلال الطاغية صدام وقذاراته ، منح الأمير الكويتي مبالغ للكويتيين لمساعدتهم على إعادة ترتيب حياتهم الجديدة بعد العودة، لم يخرج الكويتيون للتظاهر ضد ألأمير واحتفظوا له بلمحته الكريمة وعدوها فعلا يستحق التمجيد والمحبة.
ما يملكه السيد مسعود البرزاني لوحده من أموال حصل عليها طيلة فترة حكمه ولحد الآن تكفي ليس لدفع الرواتب والأجور لجميع العاملين وإنما إخراج أقليم كردستان من محنته وبناءه وجعله قبلة للناظر، وإعطاءه وضعا خاصا يتحدى به علاقته بالعراق ومحيطه الإقليمي، ويقدمه مثال لوطن مزدهر بعمرانه وحرياته وحضارته، عندها سوف يكون إقليم كردستان العراق مثالا يحتذى به ورسالة حية للنضال والتحضر والعناد والمكابرة لجميع أقاليم الكرد الأخرى، ليصبح عند الجميع هدف وطن الكرد الكبير على أبعاد قريبة وتحت النظر .
ولكن أين السيد مسعود البرزاني ورهطه من هذا، وهم يقرضون كل ما يقع أمامهم دون حياء ويجلسون في قصورهم العامرة يتلذذون بطيب الطعام وفاخر الملابس على حساب جوع الشعب الكردي الفقير الفاقد لأبسط وسائل العيش الكريم .
أين السيد مسعود البرزاني وحاشيته وحلفائه من الذي يحدث داخل المدن والقصبات من أوجاع وآلام وخيبات وجوع، فهل تراه يفرط بالمليارات التي سرقها من قوت هؤلاء الجياع ليقدمها أو الأحرى يعيدها لصالح هذا الشعب الذي دائما ما أراد له السير خلفه لصناعة مجد شخصي وعائلي. فما الذي يجعله يحجم عن فعل هذا إن أراد إنقاذ الإقليم والوقوف بوجه أعداءه مثلما يدعي. فجوع المواطن وقسوة أوضاعه وتكميم الأفواه، هو من أجبر هذه الجموع  للخروج بالتظاهر وليس رشوة إيران أو غيرها فهذا الشعب المقهور المكبوت، أن تمعنتم جيدا وبأنصاف وضمير، لا يحتاج للرشوة ليخرج للتظاهر. 
     


80
أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي

حوار مع الدكتور خليل عبد العزيز

أجراه فرات المحسن

ـ بعد سنوات دراستك الطويلة في الاتحاد السوفيتي وأيضا عملك في أحد أهم مراكز البحوث هناك، وبعد حياة حافلة بالأحداث السياسية، يا ترى ما هي الحصيلة التي تكونت لديك عن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي ومن ثم المنظومة الاشتراكية؟
هل تعتقد أن سياسات القيادة السوفيتية وتوجهاتها في إدارة السلطة كانت أحد العوامل في ذلك السقوط المدوي؟

نعم،بالفعل أن تلك السياسات وغيرها الكثير من العوامل الداخلية والخارجية كانت تعمل على تآكل التجربة الاشتراكية، وهناك الكثير من الوقائع أخذت تنخر وتطعن بالقيم الشيوعية الماركسية.فما عاصرته وشاهدته وأطلعت عليه كان في أغلبه يدفع بالاتحاد السوفيتي نحو الهاوية، وما كان انهياره غير نتيجة طبيعية ومنطقية لتلك السياسات العقيمة.
 ورغم أن الحدث كان كبيرا ومأساويا ومؤذيا ليس فقط للدولة السوفيتية وإنما للعديد من شعوب العالم التي كانت تجد في الاتحاد السوفيتي نصيرا لها.فلا ينكر أن الاتحاد السوفيتي كان قوة توازن دولية عظمى ومكانته كانت تفرض جبروتها في المحافل الدولية ويقف بالند من الخصوم وبالذات أمريكا وحلفائها في العالم الغربي، وكان في الكثير من مواقفه نصيرا للسلم العالمي ولقوى التحرر الوطني.
في رأيي الشخصي،أن  السبب الداخلي الرئيسي في ذلك الانهيار وهو المهم، يتمثل في تغافل القيادات السوفيتية المتعاقبة وفي جميع المراحل،وعدم اهتمامها بالحاجات النفسية للفرد ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية، واتجهت القيادة وحرصت على جانب بناء الترسانة العسكرية، وكان الغرض من ذلك، محاولة إثبات أن الاتحاد السوفيتي دولة عظمى وقوة لا تقهر، والعمل على الترويج لمقولة أيدلوجية تؤكد على أن هذه العظمة والجبروت جاء كنتاج طبيعي لثورة أكتوبر العظمى وواقع صنعته وفرضته النظرية الاشتراكية، ودون تلك النظرية لم يكن الاتحاد السوفيتي قادر على بناء مثل هذه القوة والحصول على هذه المكانة.
كان يترافق مع هذا التنظير الإعلامي واقع حال آخر، فحاجات الناس اليومية كانت بعيدة جدا عن تفكير القيادات فلم يكونوا  يلتفتون  لما يجري ويحصل من مآسي داخل المجتمع،وهناك الكثير من الأمثلة التي من المكن ذكرها للاستدلال على ما كان يحصل. فمثلا هناك أساتذة جامعات وضباط في القوات المسلحة وأطباء وغيرهم، يسكنون مع عوائلهم وعوائل أخرى في غرفة واحدة وليس شقة، أي غرفة واحدة لعائلتين ، وتسمى تلك الغرف وتلك التجمعات السكانية بالبيوت المشتركة، وبقيت هذه الأوضاع لحين انهيار الاتحاد السوفيتي، لا بل إن بعضها باق لحد الآن، ولم تحل هذه الأزمة، ودائما ما كان التبرير يعلق على شماعة الحرب الأهلية والحرب الثانية، حيث دمر الجيش النازي بعد أن اقترب في هجومه من حدود العاصمة موسكو، آلاف المدن والقرى وهجر سكانها، ودائما ما كانت تلك الحالة عصية على الحل، فكيف يتسنى للسلطات السوفيتية إعادة أعمار وبناء كل ما تهدم وتوفير السكن لملايين البشر، ومثل هذه المشكلة الحيوية والتي تفرض وضع خطط محكمة لتقدير حاجات البلد لوحدات سكنية، كانت الحلول تواجهها معضلات  حقيقية، فهي تتطلب توفير سيولة نقدية أي ميزانية ضخمة للأعمار، في الوقت الذي كانت تعمل القيادة السوفيتية على تخصيص جل ميزانية الدولة للأنفاق العسكري، لذا ترك الناس يعيشون في تلك الأماكن الضيقة وفي ظروف سكن قاسية ووضيعة. ودائما ما كانت المبررات تأتي عبر وسائل الإعلام لتطلب من الناس كبت مشاعرهم ورغباتهم والترويج والهتاف للبناء الاشتراكي والاتحاد السوفيتي، فهذا الشيء يتقدم فوق كل الرغبات الاعتبارات، والبناء الاشتراكي دائما ما كان وسيكون الهدف المباشر للأعداء وبالذات العدو الأول الولايات المتحدة الأمريكية، لذا على الشعب التوحد تحت راية الحزب في مواجهة الأعداء.     
كان سباق التسلح وتخصيص جل ميزانية الدولة  للمؤسسة العسكرية وصناعة الأسلحة، أخلالا فاضحا في مستوى أنجاز باقي قطاعات الاقتصاد، وبدوره فقد أثر هذا اجتماعيا واقتصاديا في سلوك الأفراد والجماعات، ومن ثم أنعكس بدوره على نظام وطرق عمل مؤسسات الدولة.وكان من أهم الأسباب في انتشار الفقر بين أوساط الشعب وإشاعة طرق الرشوة وسرقة المال العام، فكان بعض أساتذة الجامعات يتقبلون الرشوة بابتذال ومثلهم أفراد الشرطة والأمن لا بل الكثير من موظفي الدولة، فأحد أساتذة الجامعات يقبل من طالب عراقي أو أجنبي استضافته على وجبة طعام لغرض ما، أو يقدم له قنينة شراب مقابل خدمات دراسية، رغم إن قنينة الشراب أو وجبة الطعام كانت جد رخيصة، ولكن شخصيات تلك المؤسسات كانوا يفتقدون المال الذي يوفر لهم مثل تلك الأشياء، ووصلت بعض الحالات إلى أكثر تعاسة من هذا. فنحن طلاب أجانب تمنحنا الدولة السوفيتية راتبا شهريا قدره 90 روبلا والمهندس السوفيتي صاحب التحصيل العلمي العالي يستلم مثلنا 90 روبلا أيضا، والطبيب يستلم بين 90 إلى 100 روبل وهذا ينطبق على العديد من موظفي الدولة من ذوي الاختصاصات العلمية العالية.
ـ ولكن ما كانت دوافع الاتحاد السوفيتي من تقديم مساعداته السخية للعديد من البلدان؟

في الوقت الذي كان الكثير من أبناء الشعب السوفيتي يعانون من العوز والفاقة، كان المرء يلاحظ أن الاتحاد السوفيتي يقدم بسخاء مساعدات طائلة للعديد من بلدان العالم، ولكن من السهولة معرفة السبب الجوهري لكل تلك المساعدات، فالغرض منها كان كسبا لمواقف تلك البلدان وضمان وقوفها بجانب الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة وباقي المحافل الدولية وأيضا وهذا مهم للساسة السوفييت، وقوفها بالضد من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي واحدة من تلك المهازل نستطيع أن نعود لتاريخ العلاقة بين العراق والاتحاد السوفيتي وبالذات على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث طُلب من الحزب الشيوعي أن يتخذ موقف المساندة الدائم للزعيم والامتناع عن إثارة الخلافات معه، لا بل ضرورة الاصطفاف معه وتأييده في مجمل سياساته، وقد وقفت القيادة السوفيتية موقفا قامعا لجميع الأصوات داخل الحزب الشيوعي العراقي والتي كانت تندد بسياسة الزعيم عبد الكريم أو تشير لبعض أخطائه. ويعود السبب الرئيس لهذا الموقف، لضمان وقوف الزعيم عبد الكريم والدولة العراقية مع الاتحاد السوفيتي في المحافل الدولية. فلم يكن الاتحاد السوفيتي بحاجة لنفط العراق ولا خيراته الأخرى، ولكن صوت العراق وموقفه الإيجابي من سياسات الاتحاد السوفيتي ،كان السبب الرئيس في المساعدات الكبيرة التي قدمت للعراق . ونفس السياسة كانت تستخدم مع باقي البلدان وبالذات السائرة في طريق التحرر والاستقلال الوطني، ولم يكن هذا الموقف ببعيد عن بلدان المنظومة الاشتراكية التي كان الاتحاد السوفيتي يبذل قصارى جهده لكي تقف على قدميها فيقدم لها العون المادي والمعنوي.
كان السوفييت يقدمون للعديد من البلدان أسلحة بالمجان و بأبخس الأثمان، ويرسل خبرائه ومعداته ويساعد في بناء ورش ومصانع وأبنية، وكان يقدم كل ذلك بأسعار أقل بكثير من أسعارها العالمية، وكان في الكثير من مبيعاته، يتقبل أسعار أعماله وإنجازاته بدفوعات رمزية. وكان الهدف ذاته، خلق مناصرين وضمان تأييدهم في الساحة الدولية، وكذلك وقوفهم بوجه الولايات المتحدة وحلفائها، وكنت شاهدا على أغلب تلك الأحداث التي وقعت أمامي في العديد من بلدان العالم التي زرتها أو عملت فيها، منها سوريا ومصر والعراق والصومال واليمن، وقد لاحظت أن جميع تلك البلدان ومنها أيضا بلدان المنظومة الاشتراكية، لم تكن لديها القناعة الحقيقية الراسخة ليس فقط بالفكر والنهج الاشتراكي، وإنما بقيادة الاتحاد السوفيتي .

ـ ألم يكن هناك من يعترض أو يصحح تلك السياسات؟

هذا السؤال حيوي لذا يمكنني القول، لم تكن هناك في الاتحاد السوفيتي ديمقراطية وكان نظام الحكم قمعيا وكابحا للحريات، وكل ذلك يجري تحت شعار دكتاتورية البروليتاريا،  ووفق ذات الشعار يصنف أي معترض أو معارض، وحول أية قضية كانت، بأنه معادي للدولة الاشتراكية ومروج للأفكار الرأسمالية. وكانت جميع قوائم الانتخابات داخل الحزب تعد سلفا ولا يقبل أي صوت معارض لها. فمقولة الحزب الأوحد لا تعطي أي مجال للتعبير عن الرأي. ولكن قولي هذا لا يعني خلو الساحة من العقلاء والحكماء والعلماء والمفكرين ولكن جميع هؤلاء لا يجدون مجالا للإفصاح عن آرائهم وبالذات في المسائل الحيوية التي تهم المجتمع والحزب والدولة،ودائما ما تقمع تلك الآراء لصالح سيادة ووحدة الحزب، وخلال الاجتماعات الحزبية لا توجد هناك آراء مخالفة يسمح بمناقشتها، وبشكل حاسم يصوت على التوصيات والقرارات بنعم، ودائما ما تظهر النتائج للعلن وكأن الحزب كتلة متجانسة تحافظ على وحدتها وإيمانها الراسخ بالاشتراكية العلمية، ولكن تلك الوحدة تتصدع لتتغير العبارات خارج الاجتماع وأثناء أوقات الاستراحة، وبشكل سري وهامس يبدأ حديث مخالف كليا لما طرح في الاجتماع وما قاله الحزب وسلطة الطبقة العاملة .
كانت هناك نظرة فلسفية للقيادة وإدارة الدولة والمجتمع، فالدولة تلبي الحاجات العامة للدولة ولكن تهمل بشكل مفرط الحاجات الحياتية للفرد الإنسان.فقد سعى النظام لبناء البنية التحتية للبلد، ولولا الإيغال في سباق التسلح والبحث عن كسب تأييد بلدان العالم من خلال بذل المساعدات،لأستطاع النظام أن يعيد ويبني الكثير، وربما أضعاف ما بناه وقدمه، ولكان الوضع أفضل مما هو عليه، فسياسة السلطات كانت تنظر إلى أهمية تقديم وتوفير الحاجات العامة وتأهيل البنية التحتية، لذا بنت وعبدت الشوارع والحدائق ومواقف السيارات وإنارة المدن وشيدت الجامعات والمدارس والمصحات والمسارح ودور العجزة والمستشفيات والطرق الحديثة التي ربطت عموم الاتحاد السوفيتي وغير ذلك الكثير، و قدم النظام جهدا كبيرا شارك فيه خيرة أبناء الوطن لبناء تلك الصروح العظيمة. وكان واحدا من أضخم المشاريع العمرانية، مترو موسكو، هذا المشروع الجبار الذي أنشأ على عهد السكرتير العام للحزب الشيوعي جوزيف ستالين، فكان بحق منجز مبهر  للناظر، فجميع محطاته عبارة عن قصور ومتاحف تحت الأرض تدل على عظمة الإنسان السوفيتي وقدرة الدولة الاشتراكية على البناء وصنع المعجزات.وكانت جميع أعمال تطوير البنية التحتية تقدم كواجهة لعظمة الاتحاد السوفيتي وقدرة الاشتراكية .
ومع كل تلك الانجازات فأن القصور وعدم تلبية الحاجات الفردية للإنسان كانت ظاهرة للعيان ويعاني منها المواطن السوفيتي، فالشخص الذي بحاجة إلى شقه للسكن كان يقف في طوابير الانتظار ما لا يقل عن عشرة إلى خمسة عشر عاما  لكي يصله الدور، وإذا أراد شراء سيارة  شخصية فعليه الانتظار أكثر من تلك السنين ليحصل على تلك السيارة، لهذا كان البعض يقوم بتسجيل أبنائهم في هذا الطابور منذ اليوم الأول لولادتهم. لم تكن هذه الحالة نكته يتداولها الناس بقدر ما هي حقيقة وواقع مؤلم يعانيه المواطن السوفيتي.فالمفارقة تكمن بكون أن الخدمات العامة كانت في أحسن حالاتها والسلطات تقدم جل اعتنائها وقدراتها على تطويرها وتحسينها ، ولكن يبتعد شوطا عن حاجات المواطن النفسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية وجلها كانت شحيحة جدا، وهذا ما جعل المواطن السوفيتي متذمرا شاكيا، وعند انهيار الاتحاد السوفيتي لم نشاهد من يهب للدفاع عنه ، وانهارت بعده قلاع المنظومة الاشتراكية برمتها لذات الأسباب والمشاكل التي ابتلى بها الاتحاد السوفيتي، والتي أسفرت عن العلاقة الواهية التي كانت تربط تلك البلدان بمسمى النهج الاشتراكي.

ـ وما هو تأثير سباق التسلح على  المواطن السوفيتي؟

منذ بداية الحرب الباردة والتي أشعلت سباق التسلح والبحث عن طرق إيذاء الطرف الأخر، عملت السلطة السوفيتية ولغرض المطاولة بذلك الشوط ، على تقنين لقمة العيش للمواطن السوفيتي، وحولت أغلب موارد الدولة المالية نحو ذلك السباق الأهوج المحموم.وفي الطرف الآخر أدركت الولايات المتحدة وحلفائها عسر الأوضاع وسوء التخطيط وقلة الحكمة عند السوفييت فراحت تعمل بجهد على تغذية ذلك الهاجس الذي سيطر على القيادة السوفيتية، وراحت تروج عبر الإعلام المؤدلج وممنهج لتصعيد مخاوف السوفييت ودفعهم أكثر وأكثر لبذل الأموال الطائلة على برامج التسلح وإدامة معركة مفتوحة بعيدا عن خطط التنمية الاقتصادية الحقيقية وتقديم ما يناسب من خدمات للشعوب السوفيتية.
وهنا دعني أوثق حديثي هذا فأتوقف عند حديث وزير الدفاع الأمريكي على عهد الرئيس كندي وهو السيد ماكنمارا .ففي محاضرة ألقاها أمام أساتذة كلية الدفاع الوطني في واشنطن في 14 / 09 / 1961 قال الوزير (( علينا أن نرغم الاتحاد السوفيتي على تغيير أولوياته، فالنظام الشيوعي يعد جماهيره بمجتمع من الرفاهية ينتفي فيه الفقر، ومجتمع للمساواة ينتفي فيه التمايز الطبقي ولتحقيق هذه الأهداف فإن الاتحاد السوفيتي مطالب بأن يضع التنمية كأولوية أولى قبل الأمن. علينا أن نرغمه على أن يرفع أولوية الأمن ويضعها قبل التنمية، وعلينا أن نشده إلى سباق تسلح يقطع أنفاسه ويرهن موارده ويتركه في النهاية ترسانة نووية دون رغيف خبز أو قطعة لحم.كذلك فإن غلبة الأمن على الأولويات في الاتحاد السوفيتي، سوف تنعكس من الخارج إلى الداخل فيزيد تركيز السلطة في يد المسولين في أجهزة الحزب والدولة مما يباعد بينهم وبين عامة الناس ويعزلهم ))
نجحت الولايات المتحدة في ذلك أيما نجاح وتكللت جهودها بالسقوط المدوي للاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية. فعلى عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان روج لما سمي ببرنامج حرب النجوم وكان الأساس من هذا البرنامج هو خداع الاتحاد السوفيتي ودفعه للهرولة في سباق محموم لحرب مقبلة تصبح السماء الفضاء الواسع لمعركة بالأسلحة الليزرية المتطورة التي ممكن لها الوصول وتدمير أية نقطة في العالم وبالذات الاتحاد السوفيتي وحلفاءه. كان هذا البرنامج من إعداد أجهزة المخابرات والجاسوسية العالمية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، ولم يكن له من الواقع شيئا، بقدر ما كان جزءا من محاولات دفع السوفييت للهرولة وراء سباق التسلح وهدر المال العام. والغريب إن القيادة السوفيتية قد انطلت عليها الخدعة وراحت تبذل المال والجهود من أجل كشف ذلك البرنامج ووضع معادل له. ولكن من الممكن القول بأن هناك داخل القيادة ذاتها من كان يدفع نحو ذلك السلوك ليس من أجل مصلحة السوفييت بقدر ما كان عملا تخريبيا منظما للإطاحة بالنظام السوفيتي لصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وكانت هذه الخطة المحكمة هي القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد السوفيتي الذي كان مقصوما من أساسه حيث استنزفت ميزانية الدولة وأفقرت الناس.

ـ هل الانهيار أقتصر على تلك العوامل التي ذكرتها؟

كلا، فانهيار الاتحاد السوفيتي لا تقتصر أسبابه على ملمح أو جانب واحد، فقد تعددت الأسباب واستشرى الإيذاء ووصل إلى حد، ما عادت الناس معه تطيق تصرفات حتى أبسط رجال السلطة،وبات الشارع يعرف أن قوى القمع الممثلة بالشرطة والشرطة السرية وقوى الأمن هم من يحكم ويدير البلد، وتلك الحالة كانت تعمل آلاتها على نخر جسد الدولة بعدة آليات أولها الرشوة والتعديات الفجة على حياة المواطن دون مسائلة، ويأتي كل هذا مع الفقر وقلة الحاجات، لا بل عدم توفر ابسط مستلزمات الحياة الكريمة ويترافق ذلك مع انعدام الحريات وكبح وتكميم الأفواه ودكتاتورية الحزب الواحد. كل ذلك جعل المواطن دائما ما يشعر بالتهديد وقسوة قبضة السلطة وإرهابها. فالشرطي السوفيتي كانت لديه صلاحيات مطلقة ليتحكم بمصائر الناس، فأن أراد  تفتيش أو دخول أحد الدور فهو لا يطلب الأذن من أي شخص يعنيه أمر هذا البيت، وكذلك لا يحتاج الحصول على ورقة أذن من السلطات العليا تخوله تفتيش أو دخول ذلك البيت ، فهو يدفع الباب بقوة ويدخل عنوة ويقوم بالتفتيش ويستطيع أن يهدد وأيضا يلقي القبض على من يريد، فالقانون يسمح له فعل ذلك، وهو مخول بفعل هذا من أعلى الجهات وبصلاحيات مطلقة، ولذا كنا نعرف عين المعرفة وبالمكشوف والتجربة اليومية، أن من كان يحكم الدولة السوفيتية هي الأجهزة القمعية وليس غيرها.فالمخابرات العامة والشرطة السرية والأمن والشرطة كانت قراراتها وإجراءاتها وسلطتها فوق سلطة الحزب وباقي مؤسسات الدولة. وأنا الآن أتذكر حادثة حصلت لنا نحن رفاق الحزب الشيوعي العراقي في منظمة الاتحاد السوفيتي.
 كان هناك طالب شيوعي عراقي محكوما حكما ثقيلا في العراق واستطاع الحزب تهريبه من العراق إلى الاتحاد السوفيتي، وكان يدرس في جامعة كييف في أوكرانيا. في أحد الأيام حصل شجار بينه وبين أستاذه في الجامعة، فقام الطالب العراقي بصفع الأستاذ مما حدي بعمادة الكلية الاتصال بالأمن الذين جاؤوا  وألقوا القبض على الطالب وأودعوه الحبس. ثم بعد اقل من ساعتين صدر بحقه قرار فصل من الكلية وتسفيره إلى العراق. بعد أن عرفت منظمة الحزب الشيوعي العراقي بالحادث كلفتني شخصيا الاتصال بالسيد نيجكين والطلب منه التدخل لإيقاف الأجراء بحق هذا الطالب كون تسفيره إلى العراق سوف يكون نهاية لحياته هناك ،ونيجكين هذا هو عضو الارتباط والمنسق العام بين السلطات السوفيتية ومنظمة حزبنا الشيوعي العراقي.
اتصلت بنيجكين وطلبت منه مقابلة مستعجلة فرفض بادئ الأمر معللا ذلك بانشغالاته، بعدها استطعت أقناعه فطلب مني الحضور. قابلته وشرحت له حادث الطالب العراقي ورغبة الحزب الخروج من هذه المعضلة ومنع تسفير رفيقنا إلى العراق.تجاوب نيجكين معي قائلا كيف يحدث هذا، كيف يعاد هذا الطالب إلى العراق، لا عليك سوف أعمل اتصالاتي وأبذل جهدي لحل المشكلة. بعد مرور ساعتين من رجوعي إلى السكن أتصل بي نيجكين ليخبرني بأن لا هو ولا الحزب الشيوعي السوفيتي يمكنهما التدخل في هذا الآمر، فجهاز الأمن هو من قرر فصل الطالب وتسفيره إلى العراق، فسألته أليس الحزب الشيوعي هو السلطة العليا التي بيدها القرار وتعطي التوجيهات، فأخبرني بأن ما يقرره جهاز الأمن هو الأصل والفصل في أغلب الأمور وقراراته تأتي أولا وتتقدم على جميع القرارات، لذا لا يمكن للحزب التدخل في هذه القضية، ولكنه أكمل بأنه سوف يعمل جانبا وعلى مسؤوليته الشخصية ويبذل ما يستطيع من جهد لأجل عدم تسفير الطالب إلى العراق وإنما إلى بلد أخر وربما سوريا أفضل له.
نجح نيجكين في ذلك وطلب مني أخبار حزبي وإستحصال موافقته على تسفير الطالب الشيوعي إلى سوريا، وهذا ما فعلته وأخبرت نيجكين بذلك، عندها رتب لذلك الحل، واتصلت منظمة حزبنا بمنظمة الحزب في سوريا لاستقبال الطالب المسفر. وكانت هذه التجربة أثباتا واقعيا لسلطة الأجهزة القمعية،  ومثل تلك الحادثة تتكرر بالآلاف مع المواطن السوفيتي العادي حين توجه له تهمة ما حتى ولو بسيطة فالحزب والمؤسسات غير الأمنية لا تستطيع التدخل.

ـ وكيف كان ينظر الإنسان العادي لما يحدث حوله وما الذي يربطه بوطنه؟

كانت مظاهر الولاء للدولة السوفيتية تتخذ شكل الطابع الرسمي العام وليس الشعبي فالمشاعر الشعبية يخالطها الكثير من الخوف والتوجس والكتمان يضاف لذلك قلة الخدمات وشح السلع الكمالية وشوق الناس ورغباتهم الحصول على المتع الفردية وتلبية مشاعرهم الإنسانية، ففي أحدى نزهاتي مع زوجتي رأينا قرب المسرح الكبير طابورا طويلا من الناس يحتشدون خارج أحد المخازن،طلبت مني زوجتي الوقوف في الطابور لحين ذهابها إلى المقدمة ومعرفة البضاعة التي يبتغي الناس الحصول عليها، ففضلت أنا أن أذهب ولتقف هي بالطابور،ذهبت وسألت عن البضاعة التي يوزعها المخزن فأخبروني بأنه تقويم سنوي صغير يوضع في الجيب، وكان يباع بكوبيكين من العملة السوفيتية،فرجعت إلى زوجتي وأخبرتها بذلك فقالت دعنا نقف لنحصل على عدد منها فسألتها وما حاجتنا لها فقالت لنهدي بعضها إلى معارفنا.
كانت تلك المظاهر تبدو شكلا مألوفا في الحياة السوفيتية فالمواطن يتوقف عند أي طابور يشهده من أجل الحصول على أية بضاعة كانت حتى التافهة منها، وكانت تلك الظاهرة ذات دلالة كبيرة على وجود شح في الكثير من الحاجات التي تلبي رغبات الناس على بساطتها، مع قلة الرواتب. ولكن في الجانب الأخر للسياسة السوفيتية كان الإعلام يجهد لتصوير الحياة في الاتحاد السوفيتي على أنها تتفوق كثيرا على ما موجود هناك في أمريكا والغرب، الواقع تحت سطوة الرأسمالية القاسية المجرمة التي لا تقدم لشعوبها غير القهر والاستلاب والجوع ، كانت آلة الإعلام السوفيتي ماكينة جبارة لطحن الخديعة وتزويق الأوضاع عن البناء الاشتراكي والاتحاد السوفيتي.
ـ ما الذي تغيير حين صعود غرباشوف للأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفيتي؟

مثل صعود نجم ميخائيل غرباشوف حلقة جديدة في تراجيديا السياسة السوفيتية، فالرجل كان مثقفا تخرج من جامعة موسكو الحكومية عام 1955 بشهادة القانون وفي عام 1967 تأهل لشهادة الماجستير في الاقتصاد الزراعي في معهد ستافروبول للزراعة، وأنضم إلى الحزب الشيوعي حين كان يدرس في الجامعة ليصبح بعدها فعالا جدا في الحزب ويتدرج في المراكز الحزبية لحين وصوله كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفيتي. عملت سياساته المسماة بغلاسنوست وبيريستريكا على محاولة عصرنة الاستراتيجيات السوفيتية وهدفت كذلك إلى إنهاء الحرب الباردة وسباق التسلح.ومن خلال دراسته الجامعية وعمله أيضا في مجال الزراعة في منطقة ستافروبول أطلع على الكثير من الواقع الزراعي وكيف تسير خطط التنفيذ والإصلاح في ذلك القطاع. فقد كانت الزراعة في عموم الاتحاد السوفيتي تتعرض للكثير من المشاكل بسبب الخطط غير الناجحة والسرقات التي تطالها وفوق كل هذا البيئة القاسية التي تفعل فعلها مع المحاصيل، ويضاف لكل ذلك قلة التخصيصات رغم حيوية هذا القطاع لسد حاجات البلد للمحاصيل الزراعية.
حين أستلم غرباشوف رئاسة الدولة والحزب واجهته العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية، ففي المجال الذي كان مطلعا عليه وهو قطاع الزراعة، شخص غرباشوف العديد من المشاكل والمعوقات وأشار أليها في مؤلفاته وخطبه. فهو يقول بأن الكولخوزات وهي المزارع الحكومية، لم تكن ذات نفع حقيقي للسوفيت وإنما كانت أحد أكبر الإخفاقات في مجال الزراعة، ولم تقدم شيئا يذكر لمنفعة البلاد وإنما كانت عبئا ثقيلا عليه، فالسلطة تقدم مبالغ ضخمة لهذه المزارع دون أن يكون هناك أنتاج يذكر، وهناك أهدار كبير في المال العام، في نفس الوقت لم يكن هناك من يتحمل المسؤولية عن الذي يحدث كون الكولخوزات تابعة للدولة وبأشراف دوائر الدولة والحزب لذا كانت تجري فيها عمليات تسويف وسرقات منظمة للمواد والمال العام.
حين حضر غرباشوف لمؤتمر عام مدراء الكولخوزات وجه في خطابه سؤلا للحضور قائلا: أود أن أوجه لكم سؤالا، وأجد له جوابا من أحدكم، في أية سنة كان الكولخوز الذي يديره قد ربح شيئا ما، وقدمه واردا للدولة السوفيتية؟ عند ذلك لم يتقدم أحد ليجيب غرباشوف على سؤاله، عندها قال غرباشوف إذن فأن الكولخوزات تعتبر فاشلة ولا نتيجة ترتجى منها ولذا نسأل أنفسنا لماذا هي باقية لحد الآن وبهذا الحال؟
 وحين سؤاله عن السوفخوزات وهي المزارع التعاونية للفلاحين، وهل أنها تخسر أيضا فتلقى الجواب بالنفي وإن السوفخوزات دائما ما كانت تربح كون العمال والإداريين فيها يبذلون جهدا كبيرا لتوفير الأرباح ويعرفون جيدا أن الإنتاج الجيد والعالي يعني عوائد جيدة يحصلون عليها . ولكن الغريب وفي ظاهر الحال كانت إدارات السلطة والحزب توجه جل عنايتها نحو الكولخوزات وكان الإعلام يعمل على ذلك أيضا ويروج لكونها النموذج الاشتراكي الفريد، وكل ذلك بسبب وجود ارتباطات ورشى وسمسرة وسرقات وتبادل منافع شخصية وحزبية.
كان لدى غرباشوف قناعة تامة بضرورة أجراء التغيير والإصلاح ولكن المشكلة التي كانت تواجهه تكمن في الكوادر والقيادات العليا في الحزب والدولة وفي مقدمتهم أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الذين ناصبوه العداء. فأغلب هؤلاء كانوا قد تربوا لعقود طويلة على ذات العقلية السوفيتية التي اكتسبت تقاليد حزبية صارمة تحجرت وباتت تملك آليات وتراتيبيات لا يمكن الخروج منها أو القفز من فوقها، لذا تتمسك تلك القيادات بذات النمطية البيروقراطية والتزمت والممانعة في السير نحو التغيير والتجديد الذي يمكن له أن يكسب الدولة والحزب أنماطا جديدة للعمل والنجاح.
كانت غالبية القيادة في المركزين الحزبيين العالين تتهيب كسر النمطية وقواعد العمل القديمة وتحرص على أبقاء ما هو قديم خوفا على مصالحها التي حرصت على اكتسابها ونيلها طيلة عقود والتي أبقت الصورة الواضحة للعقلية السوفيتية الثابتة رغم تغيير الزمن.
وحين يتحدث غرباشوف عن فترة وجوده على رأس الحزب والسلطة في الاتحاد السوفيتي، يقول بأن قيادة الحزب الممثلة بالمكتب السياسي وأيضا اللجنة المركزية قد قلبوا له ظهر المجن ووقفوا ضده بعد أن أعلن عن أفكاره حول طرق الإصلاح وأصبحت الغالبية منهم مناوئين له ولأفكاره، وقال أنه لاحظ ذلك في اختلاف تقاليد الحزب أيضا،فمن المتعارف عليه وحين يدخل سكرتير الحزب إلى قاعة المؤتمرات الحزبية الكبيرة يقف الجميع لاستقباله وتحيته بالتصفيق، ولكن الذي حدث معي كان العكس، فحين دخلت وقفت الأغلبية وهتفوا ضدي وضد سياسة البيريستريكا التي أعلنتها.

ـ ولكن يقال أن هناك من قيادات الحزب من وقف بجانب غرباشوف.

صحيح لكن الغريب في الآمر أن من وقف بجانب غرباشوف من أعضاء المكتب السياسي أو اللجنة المركزية هم من كان يعرف عنهم انتهازيتهم وعدائهم للنهج الاشتراكي والاتحاد السوفيتي، بالرغم من عدم إعلانهم الصريح عن مواقفهم المعارضة تلك .وقد أيدوا سياسة غرباشوف في الخروج عن سباق التسلح والحرب الباردة وأيضا تهشيم البنى الحزبية القديمة وعصرنتها مثلما قال،وقام بطرح فكرة التغيرات الاقتصادية للخروج من الأزمات المستعصية. وكانت رغبة هؤلاء الوقوف إلى جانبه، محاولة وجدوا فيها فرصة سانحة لتفكيك الاتحاد السوفيتي من خلال منهج الإصلاح  الغرباشوفي، ومن صلب هذا التوجه ظهر بوريس  يلتسن الذي عمل في البداية مروجا ومناصرا لإصلاحات غرباشوف ثم ركب موجة الإصلاحات ليسفر عن الوجه الحقيقي لتلك الجماعات التي كانت تعمل من داخل الحزب الشيوعي السوفيتي للإطاحة بالاشتراكية والاتحاد السوفيتي، وفي الأخير أنقلب على غرباشوف وعمل على إقصائه عن السلطة .
في جميع تلك الأحداث كانت للصهيونية العالمية أدوارا كبيرة اشتغلت بهمة عالية على هدم وإسقاط الاتحاد السوفيتي وإفشال التجربة الاشتراكية من داخل مؤسسات الحزب والدولة. فالصهيونية كانت متغلغلة في مفاصل الدولة السوفيتية والحزب منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر، وكان العديد من القادة والكوادر الحزبية والإدارية لهم علاقة بشكل وأخر بأوساط الصهيونية العالمية عبر علاقات أسرية أو مصالح عمل أو صداقات شخصية. فالرئيس بوريس يلتسن كان يحيط نفسه بشلة كبيرة من اليهود الذي يقدمون خدماتهم للصهيونية العالمية أولا ويعملون لغرض تهشيم الدولة السوفيتية وهم من عمل على تفكيك أواصر الاتحاد، أشرفوا على بيع المصانع والمعامل والورش والسلاح  وتفكيك مؤسسات الدولة دون حساب ورقابة ليفرغوا روسيا من الصناعات، وقد تحقق هدفهم بنجاح ظاهر دون أطلاق طلقة واحدة.
ولكن يمكن القول أن السبب الرئيسي في سقوط الاتحاد السوفيتي وفشل التجربة الاشتراكية هو انعدام الديمقراطية وتسلط قوى الأمن والمخابرات، ويضاف لذلك سباق التسلح وعدم شعور القادة بمسؤولياتهم الوطنية، وضعف روح المواطنة عند الفرد بسبب المعاناة والضائقة المالية، وفي النهاية أقول، أنه لم يكن هناك أساس علمي راسخ وقناعة حقيقية بالاشتراكية العلمية التي تمثلها الماركسية، لا داخل القيادات السوفيتية ولا عند قطاعات واسعة من شعوب الاتحاد،  ويمكن ترحيل مثل هذا على القيادات وشعوب المنظومة الاشتراكية التي انهارت جميعها مثل أحجار الدومينو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومع كل الذي حدث وبتلك اللوحة السوداوية  الملتبسة للوقائع والتغيرات، وفي خضم الصراعات، وبوجود كل تلك المساوئ،  فلم يثبت لحد الآن أن الماركسية والاشتراكية كمنظومة عمل وجوهر فكري ومنهج استراتيجي علمي للسلطة، كانت فاشلة، وإنما من فشل هو النموذج السوفيتي للاشتراكية بسبب بعده لا بل تخريبه وتعديه على المبادئ الماركسية الحقيقية.
 


81
حول كتاب طالب عبد الأمير
نوبل و "مثالية" الأدب

بقلم: فرات المحسن


صدر في السويد بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين بعد المائة عام على رحيل الفرد نوبل، كتاب للشاعر والكاتب والصحفي طالب عبد الأمير بعنوان نوبل ومثالية الأدب.
 منذ البداية يخبرنا عنوان الكتاب عن طبيعة محتواه ، حيث يدعونا للاسترسال في قراءته لنجد أن هناك وجهة وضعها الكاتب كهدف أساسي عليه تتبعه وكشفه، وهذا هو أكثر ما أثار طالب عبد الأمير حين اشتغاله لإنجاز هذا الكتاب.
كتاب نوبل ومثالية الأدب يقع في 224 صفحة من الحجم المتوسط. ومنذ المقدمة وحتى النهاية يضع الكاتب طالب عبد الأمير لمتن كتابه خارطة تتوزع على 12 لوحة أو حقل تبتدئ بسؤال، لماذا هذا الكتاب؟ وهي إجابة الكاتب عن سبب شروعه في تأليف الكتاب، ثم  يأتي تمهيد، بعده سؤال من هو الفرد نوبل؟ ثم رحلته مع العلم والإبداع، نوبل أديباً، نظام توزيع الجوائز..وهكذا، حتى نصل لأهم  فصل فيه وهو ( معضلة "مثالية" الأدب)التي حرص الكاتب الإفاضة فيها، محاولاً الحصول من خلال سيرة الفرد نوبل العلمية والأدبية على إجابة شافية لهذه التي أسماها معضلة، وهي في السياق والنسق العام معضلة حقيقية لازالت دون حل، والسؤال يبقى كبيرا فيها. ما هي مثالية الأدب وكيف تكون؟ سؤال عصي ولازال، لا يمكن حل ألغازه رغم ما يحتويه من فضاء مكشوف وناصع وشيق ولكن التوريات فيه ملغمة وضاجة بالأحابيل. لذا نجد أن طالب يتعثر في الوصول إلى كنه مثالية الأدب، لذا لا نجد أجوبة شافية منه لبعض ما يطفح من أسئلة في متن كتابه .وتبقى فلسفة مثالية الأدب عصية وخاصية شخصية بحته علينا أن نستلها من روح المبدع وليس غيره، وحتى في هذا لن نجد ما يشفي الغليل لنعرف ما الذي عناه نوبل أو غيره في معضلة مثالية الأدب.
يمكن للقارئ أن يتلمس هذا الإشكال في النص الذي دونه نوبل في رسالته لأخيه، وهو نص أدبي فلسفي وليد لحظة تشكي وجزع فيقول فيه ( إني حياة نصف متشكية، كان عليه أن يختنق بين أيدي الأطباء، عندما ظهر إلى الوجود باكياً، خطأه الأكبر افتقاده للعائلة والمزاج الرائق. مطلبه أن لا يدفن حياً. وذنبه ألا يصبح منقاداً لغنى المال)
دون طالب عبد الأمير في كتابه وسلط الضوء على حياة الفرد نوبل ومسيرته الإبداعية علمية كانت أم أدبية وولج حتى الاجتماعية منها. أستعرض تلك الحياة كما وكأنه يروي قصة، فالأزمات لم تكن لتبتعد عن نوبل رغم انتصاراته العلمية وتأرجحه بين ملامح نصر الاختراعات وكسب المال وبين أزمات سياسية اقتصادية واجتماعية شابت حياته. ولكن ما يقارب نصف صفحات الكتاب أختار عبد الأمير الإبحار في عالم نوبل الأدبي،محاولا التوصل إلى تلك العلاقة والسبب المباشر لها، فعلاقة نوبل بالأدب يا ترى كانت إسقاط  لما يشعر به من ألم تجاه ما صنعته يداه وما أقترفه عقله، أم هي نزعة وشعور ذاتي دائما ما كان يتيح له كسر حدود القوة والرتابة وميكانيكية الفعل اليومي مع المواد الثقيلة والصلبة ونتاجها المدمر. ورغم أن الكثيرين يوسمونه بالقاتل، لصناعته الديناميت الذي استخدم لاحقا في الحروب، فإن الفرد نوبل كان أنساني النزعة تقدمي الفكر مارس الكتابة شعرا والرواية أيضا وكان محبا لأدب الرسائل، وكان حر التفكير يتلذذ بالنقاشات الفلسفية ويقدم فكرا تحرريا في مجالات الدين والسياسة.
 في جزء الكتاب الأكبر أختار عبد الأمير أن يتحدث بإفاضة عن جوائز نوبل التي توزع في حقول العلوم والآداب والسلام، وعن السيرة الأدبية للفرد نوبل حين كتب بعض الشعر والمسرحيات.
الكتاب غني جداً بالمعلومة، ويكشف عن الحوادث والمفاصل التاريخية ليس فقط لمسيرة الفرد نوبل، وإنما أيضا لمسيرة ما بعد وصيته. وتوقف كثيراً بتمحيص وتشويق عند المعايير التي تتم وفقها عملية منح الجائزة، لذا يذهب الكاتب إلى ابعد من ذلك ليثير مسألة حساسة ومهمة دائما ما تشهر بوجه الأكاديمية السويدية التي تشرف على التقييم والاختيار ثم منح جائزة نوبل في الأدب، فهناك الكثير من الانتقادات والتشكيك الذي تعرضت له نتائج منح الجائزة، بدأً من السياسة المتبعة في منحها،حتى ظهور الشخصيات الفائزة، فهناك انتقادات وإشارات لا تخلو من طعون أغلبها سياسي، توجه إلى المعايير التي تتبناها الأكاديمية السويدية. لم يترك الكاتب هذا الحقل أو يعافه دون البحث عن إجابات لسد الثغرات أو رد الطعون،لذا ذهب في محاولة ذكية لإغناء كتابه بمصدر مهم وقريب من القرار في الأكاديمية السويدية، ليجري مقابلتين صحفيتين، ومجال الصحافة هي أحد حقول اشتغال الكاتب، فالتقى السيد هوراس اينغدال سكرتير الأكاديمية السويدية حتى العام 2009.
في هاتين المقابلتين حاول طالب عبد الأمير البحث الجاد وعن قرب للحصول على أجوبه شافية لكثير من الأسئلة التي تطرح في الشارع عن نظام توزيع الجائزة، وما هي ردود الأكاديمية السويدية على التهم والشكوك التي تدور حول مهنية وشفافية معاييرها في الاختيار. وكان من الطبيعي في هذين اللقائين أن يبعد المسؤول عن نفسه أي تهمة تطعن بقرار دائما ما كان يتعرض للنقد،  بالاحتماء بالقيمة المعنوية للجائزة ذاتها وبأكثر الصور إشراقا ومجدا اكتسبته عبر سنين طويلة امتدت منذ عام 1901.
يقدم لنا كتاب (نوبل و "مثالية" الأدب) استعراضاً شيقاً وسلساً ومعرفيا وكذلك أكاديميا، ليس فقط في سيرة وحياة نوبل وإبداعاته العلمية والأدبية، فحسب، وإنما يثير لدينا أسئلة عديدة ومتشعبة عن طبيعة ومثالية وحيوية وسمو الأدب.وقبله عن ظاهرة كبيرة في حياة البشرية غيرت الكثير من قواعد العمل وطرق الحياة والتأريخ البشري، حالها حال اكتشاف العجلة والكتابة والكهرباء،وتلك الظاهرة أسمها الديناميت.
يستعرض الكاتب بلغة سلسلة وشفافة كيف نشأت فكرة الوصية عند نوبل، وما هي الدوافع الواقعية والنفسية التي جعلته يذهب لتلك الوصية، عندها نجد هناك استعراضاً غنياً مترابطا للحقول التي خصصت لها الجائزة والشخصيات التي نالتها أو تلك التي حجبت عنها، ولم يترك ذلك ليمر دون ذكر كل هؤلاء الذين حصلوا عليها وسنوات نيلهم الجائزة.
ويستعرض الكتاب حقول منح جوائز نوبل وهي " الطب – أو علوم الفسلجة، الفيزياء، الكيمياء، الأدب والسلام" وفي هذا المجال نتعرف على معلومة مهمة ربما كانت مغيبة عن الكثيرين وهي جائزة العلوم الاقتصادية التي تمنح في ذات الوقت مترافقة مع منح جوائز نوبل في باقي الحقول، فجائزة العلوم الاقتصادية ليست من ضمن ما عنته أو خصصته جائزة نوبل، وإنما هي من ابتكار البنك المركزي السويدي، وجاءت بمناسبة الذكرى الثلاثمائة  لتأسيسه.
جائزة نوبل للآداب تأخذ الحيز الأكبر من كتاب طالب عبد الأمير، وأعتقد أنه ركز وبرع في هذا المجال كون موضوعة الأدب دائما ما كانت ضمن اهتماماته وانشغالاته، لذا بذل في هذا الجزء جهداً باذخاً. وأراد أن يذهب فيه عميقاً للبحث عن إجابة للسؤال الحيوي الذي يصل بعده لقيمة وروح الجائزة، وهو، ما الذي عناه نوبل فيما ذكر بوصيته عن "مثالية" الأدب! ؟
كتاب (نوبل و"مثالية" الأدب) للكاتب الصحفي طالب عبد الأمير، كتاب موسوعي فيه من الغنى المعرفي الكثير، وله قيمة مرموقة وغنية في عالم الأدب والمعلومة العلمية والاجتماعية، فالكتاب يستطيع بلغته السلسة ودلالاته ورويه أن يناله ويستوعبه الجميع، لا بل يكون الجميع شغوفاً بمحتواه، ليتعرف عبر صفحاته على عوالم ليست فقط خاصة بطبيعة ومآل الجائزة كأساس في بحث الكتاب، وإنما أيضا، وهذا مهم جدا،سرد سيرة إنسان بقدرات وطاقات ليست بالعادية وإنما بذكاء وحيوية مفرطة، ولكن في ذات الوقت روح اجتماعية تصاب بالعطب والوهن اتجاه عشيقة أو إحباط من خسائر وملاحقات ذات طابع تنافسي سياسي،وأيضا لم يستطيع أن يجد مستقرا لحياته رغم غناه، لذا كان تدوينه تلك الرسالة التي وجهها لأخيه خير دليل على روح العذاب ولحظات يأس وحاجته للاستكانة والشعور بالاطمئنان وكذلك لمن يدير له أمور حياته اليومية المتشابكة.
الكتاب القيم والشامل يستعرض لنا موضوعة مشوقة تحوي العلوم والمعرفة وأهم ما فيها ما يتعلق بالأدب وقبلها سيرة الفرد نوبل ونضال عائلة وصعودهم من الفاقة إلى الغنى وتنقلهم بين المدن بحثا عن مكان لتنفيذ أفكارهم، ومن ثم صراعهم جميعا في الحياة وما قدموه للبشرية كنموذج لعائلة جادة ونشطة وعاملة،  ومن خلال استعراض مسيرتهم ومسيرة نوبل الذي قدم ثلاثمائة ابتكار علمي لخدمة الإنسانية، نجد أن هناك الكثير مما يجعل البشرية تفتخر به وتدين له بالكثير.
أننا نكون بحق في رحلة شيقة داخل كتاب علمي أدبي موسوعي. كتاب ليس مخصصاً لنخبة بذاتها بقدر ما هو كتاب جامع نافع، وجوده يغني المكتبة العربية التي هي بحاجة لمثله.

فرات المحسن

82

لنقف جميعا بوجه الهجمة الهمجية الرجعية


في كل مرة وحين يتطلع شعبنا الصابر المكابر لاستقبال زمن تنفرج فيه الأوضاع ويحل السلام في ربوع الوطن، يخرج علينا برلمان العراق بمادة كريه وقاسية ترفع من حدة الكراهية والخصومة والتفرقة بين أبناء شعبنا.
ففي الوقت الذي سجلت قواتنا المسلحة نصرها الكبير على قوى الشر والظلام داعش، وبتنا نترقب من الحكومة والأحزاب المشاركة فيها بجميع تلاوينها ومسمياتها ومن البرلمان كمنظومة  تشريعية، أن تجد في تلك الانتصارات حافزا لمحاسبة مغتصبي وسراق المال العام والفاسدين ومن تسبب بكل تلك الجرائم التي حدثت، منذ الاقتتال الطائفي والتفجيرات وصولا إلى احتلال ما يقارب ثلث أرض العراق وضياعها على يد داعش،  والتي سببت بقسوتها ولؤمها استشهاد الآلاف من شباب العراق وتهجير الناس وتدمير المدن، نفاجئ ومعنا العالم، بطلب ذلك البرلمان تشريع قانون جديد للأحوال الشخصية وهو ما يعني تعديل قانون 188 لعام 1959، وجعل هذا التعديل قاعدة للتفرقة بين المذاهب، وهذا يعني رفع حالة الخصومات والتعديات بين أبناء الشعب الواحد وجعل القانون ينقسم  ويتشظى ليذهب إلى مذاهب وشيع، وأخطر ما في هذا القانون القبيح، هو التشريع والتحليل لزواج القاصرات، وهذا الأمر مخالف لبنود الدستور العراقي الذي أقره الجميع وصوت عليه الشعب، وكذلك سوف يكون مخالفا للمعاهدات والعهود والمواثيق التي أقرتها الأمم المتحدة فيما يخص الطفولة وحمايتها وحقوق المرأة والمساواة .
أننا في منتدى الحوار الثقافي في ستوكهولم ندين بشدة هذه التشريعات المجحفة واللئيمة والذاهبة بالمجتمع إلى درك التخلف والتناحر، والتي تجعل المرأة سلعة تباع وتشترى ويعتدا على حقوقها وحقوق الأطفال، ونرى أيضا أن تشريع مثل هذا القانون ليس إلا قبول ومواكبة وتماثل مع النصوص الداعشية التي استباحت حقوق الإنسان بالقتل والاغتصاب وبيع النساء وإحلال شريعة الغاب طيلة احتلالها لمدن العراق، ولن نفرق بين من سوف يشرع هذا القانون وداعش في طبيعته الجرمية ومحاولة جعل الأطفال والنساء سلع وجواري.
أننا في منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم نرفع أيادينا وأصواتنا لندين ونستنكر هذه المحاولة القذرة ونعدها اعتداءا صارخا على بلدنا العزيز العراق وطعنة نجلاء في تاريخه وتراثه وحياة شعبه وتطلعاته نحو السمو والرفعة.
لنقف جميعا بوجه هذه الهجمة الهمجية الظلامية.

منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم

ستوكهولم في 10 / 11 / 2017
 


83
مركز الشرق للصحة النفسية في العاصمة السويدية ستوكهولم، والذي أسسه الدكتور ويرأسه منذ أكثر من ٢٥سنة.
يحاول الدكتور البلداوي في كتابه هذا أن يلقي الضوء على التحديات التي تواجه العائلة المهاجرة والقادمة إلى السويد بالتحديد من الشرق الأوسط ، وأثناء فترة محاولة تأقلمها على أنماط الحياة الاجتماعية في المجتمع الجديد، ويدرس المشاكل التي تتفاقم بسبب الاختلاف الثقافي، الاجتماعي والقانوني، وخلفية العوائل المهاجرة وطبيعة المجتمع الجديد.
الكتاب يستعرض الكثير من الحالات المشخصة كعينات لأجل التوضيح والشرح للقارئ حول كيفية التطبيق العملي لحل الأزمات التي تواجه العوائل والطرق العلمية والعملية التي اتبعها فريق العمل لمساعدة هذه العوائل لمعالجة تلك الأزمات التي رافقت العائلة في سعيها لإيجاد أفضل السبل للتأقلم مع المجتمع الجديد وفض النزاعات الداخلية أو الخارجية منها بشكل يضمن التطور لأفراد العائلة ويجنبها الوقوع في خلافات قد تكون حادة مع مؤسسات المجتمع الجديد.
 

84
الفريد نوبل ومثالية الأدب

هناك قلة ممن يعرفون عن شخصية وسيرة حياة الفريد نوبل، التي بدأت في بيت فقير في إحدى ضواحي ستوكهولم، وانتهت به مالكا لأكثر من تسعين مصنعا، في عشرين بلداً.إلى جانب ثلاثمائة ابتكار علمي تركها لخدمة الإنسانية.
ولا يعرف الكثيرون عن شغفه بالأدب وحبه للفلسفة، وعن نجاحاته العديدة في العلم والابتكارات، وليس هناك بمعلومات مستفيضة عن فشله بالحب وتكوين العائلة.كما أن القليل يعرف، أن نوبل كان كاتبا نظم الشعر وكتب الرواية والدراما ومارس أدب الرسائل، وكان مناقشا جيدا ومثابرا في الفلسفة والدين والسياسة. ويمكن القول عنه، كان إنسانا حر التفكير متنورا وجد نفسه في أفكار الكثير من فلاسفة عصر النهضة.
هذا ما سوف نطلع عليه في كتاب الصحفي والكاتب طالب عبد الأمير المسمى ( نوبل ومثالية الأدب ) قراءة موضوعية في معضلة جائزته في الأدب.الصادر عن دار نشر ( أوروك ميديا ـ ستوكهولم 2017 )




85

محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز.. ج2

لقاء وتحرير

فرات المحسن



صباح اليوم التالي جئت مبكرا إلى المعهد فوجدت أمرا تحريريا قد صدر بتعييني بصفة باحث علمي أقدم في معهد الاستشراق. عندها فسرت هذه العجالة في تعيني كباحث علمي في المعهد بأنها جاءت وفق ما يظهر من خصومة لغفوروف مع السيد بريماكوف وجماعته  وبالذات بعض أقطاب معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية وأيضا مجموعة العلاقات الدولية في اللجنة المركزية بقيادة بناماريوف. فالسيد غفوروف أراد أن أكون أداة لتصعيد  التنافس والتناحر من خلال عرض ما يفند أو يقف بوجه أطروحات بريماكوف عن الواقع السياسي وتطوراته في مصر، فالسيد غفوروف لم يكن ليعرف الأشياء الكثيرة عن حياتي وسيرتي الذاتية، ولكنه وجد نفسه يقف بجانبي بعد أن عرف موقف بريماكوف المتشنج والمعاند ومحاولاته العديدة لمنع مناقشة أطروحتي التي تفند العديد من آراء بريماكوف حول مصر.
 في اليوم الأول من مباشرتي الدوام في المعهد أطلعني السيد غفوروف على طبيعة عملي، ووضع لي قواعد عمل للسير وفقها، قائلا بأن لا علاقة لي بأي قسم من أقسام المعهد وإنما أرتبط  به مباشرة دون سواه. ورغم وجود القسم العربي في المعهد والذي يديره السيد ليبيدوف فأن ليس لي علاقة بذلك القسم، ولكن يمكنني أن أتصل بالسيد ليبيدوف عند الحاجة أو حين يطلب هو مقابلتي. ولن أكون مقيدا بنظام المعهد الذي يتطلب حضور الباحثين وأغلب العاملين في أقسامه مرتين في الأسبوع ، أما أنا فكان علي الحضور يوميا كمساعد للسيد غفوروف أو متى أراد مني الحضور.
خلال شهر من عملي في المعهد تأكد لي بشكل ناجز وجود خلافات عميقة وصراعات سياسية بين تلك المجاميع في مؤسسات الدولة وبالذات البحثية منها أو داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي  ولكن جميع تلك الخلافات تختفي تحت سقف الاجتماعات المشتركة ويقدم للعالم بعد ذلك خطاب أيدلوجي موحد يعبر عن كتلة حزبية متراصة.
بعد مضي فترة سلمني غفوروف ملف عن أفغانستان. لم تكن عندي معلومات كثيرة عن ذلك البلد وكان حالي حال من يتابع الأخبار من خلال وسائل الإعلام. كان الملف يحتوي على تقارير الاستخبارات السوفيتية وكذلك تقارير السفارة السوفيتية ومقالات صحف والموقف الأمريكي ومثله البريطاني. كان الجيش السوفيتي وقتذاك يحتل أفغانستان. سألت غفورف عن المطلوب مني عمله مع هذا الملف إذا كان كل شيء فيه يتحدث بالتفاصيل الدقيقة عن الوضع هناك. فقال غفوروف أنه لا يريد الحديث أو استعراض وجهات النظر أو متابعة الأخبار الموجودة في الملف، وإنما يتطلع أن يحصل على معلومة تؤكد أو تنفي وجود خلاف حول فهم المسألة الأفغانية، وبالذات بيننا وبين الآخرين. وطلب مني أن أكتب رأيي بعد قراءة الملف ثم أجلس مع سعيد كميلوف لترجمته إلى الروسية. توقفت متمعنا بجملة (وجود خلاف بيننا وبين الآخرين) عندها أدركت بأني أصبحت جزء من هذه الكتلة التي يقودها غفوروف.   
في الجانب الآخر كان مركز يفغيني  بريماكوف وبمرور الوقت يتعزز وبدأت الخصومة بين  معهد الاستشراق  ومعهد الاقتصاد والعلاقات الدولية   تطفو  فوق السطح وكانت الأحداث تتسارع في مصر وتتجه نحو الأسوأ. في ذلك الوقت كان غفوروف يطلب مني كتابة تصوراتي عن أحداث مصر ليقوم سعيدوف بترجمتها وترفق مع باقي التقرير العام الذي يعده المعهد ليرسل بعدها إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان التقرير يخلو من ذكر اسمي. فجأة وبعد عدة تقارير وفي أحد الأيام طلب غفوروف إدراج أسمي بين أسماء المشاركين في إعداد التقرير، عندها شعرت بحدوث نوع من التغيير في سياق العمل، فسألت عن السبب في هذا فأجابني غفوروف بأن هناك قرار صدر من المكتب السياسي للحزب يؤكد وجوب ذكر جميع من شارك في إعداد التقرير، شعرت وكأن هذا الآمر يعنيني بالذات وليس شخصا أخر، وأنه محاولة من بناماريوف ـ  بريماكوف وجماعتهم للتمهيد لمؤامرة تخصني. لم تمض على مشاركتي في إعداد التقارير غير فترة ليست بالطويلة ربما شملت أربعة أو خمسة  تقارير فقط، حين أخبرني غفوروف بأن هناك من أتصل به من أللجنة المركزية للحزب وسأله من يكون هذا الدكتور خليل عبد العزيز، فأخبرهم بما يتعلق من معلومة عني مؤكدا كوني شيوعي عراقي سبق وأن حكم عليه بالإعدام في بغداد، كذلك سألوه عن الكيفية التي تم فيها توظيفه للعمل في المعهد. فرد عليهم كونه يمتلك صلاحيات للتعيين وفق خياره، وسألوه إن كان قد حصل على موافقة اللجنة المركزية فأجابهم بأنه غير محتاج لهذا وصلاحياته يستمدها من المكتب السياسي للحزب.
ضمن خطط المنافسة والصراع الذي كنت أنا محوره، كانت تثار بين فترة وأخرى وبإلحاح مسألة وجودي كأجنبي في المعهد، وكان غفوروف يواجهها بعناد وردع قوي. في أحد الأيام أتصل بي رئيس دائرة الهجرة لعموم الاتحاد السوفيتي وطلب حضوري إلى دائرته مع جلب جميع الأوراق الثبوتية الخاصة بإقامتي في الاتحاد السوفيتي لغرض إتمام معاملة منحي الجنسية السوفيتية، في الوقت الذي شعرت بفرح غامر، توجست خيفة من هذا الآمر، وتساءلت لمَّ يتصل مدير دائرة الهجرة والإقامة مباشرة بي دون سابق معرفة أو مقدمات للطلب، لذا ذهبت إلى السيد غفوروف وأعلمته بالخبر وأنا منشرح الصدر مستعد لنيل الجنسية السوفيتية التي يتمناها الكثيرون. وقد اعتقدت بأن الجنسية السوفيتية سوف تساعدني وتغير من  نمط علاقاتي في المعهد ومع مؤسسات الدولة الأخرى، وتقف أيضا بوجه محاولات إقصائي وتحجيمي. وعند مقابلتي لغفوروف شرحت له ما حصل، ففاجأني بالقول عليك أن ترفض هذا العرض، فهم يسعون لتجميد عملك في المعهد أو أي مؤسسة أخرى. فتساءلت كيف ؟
أجابني بأن الغاية من منحي الجنسية هو تجميد عملك كليا، فعندما تصبح مواطنا سوفيتيا سوف تفرض عليك قواعد وقوانين منع التعامل مع غير المواطنين السوفييت، حيث يمنع عليك مقابلة أي مسؤول أجنبي دون الحصول على موافقة أمن الدائرة التي تعمل بها، وهذا سوف يعيق عملنا سوية ويهيأ الظرف للإطاحة بك كباحث علمي في المعهد، وإن خرقت التعليمات فسوف تواجه بما لا يحمد عقباه وعلى ابسط الأمور، وسوف تكون عملية طردك من وظيفتك سهلة جدا على صديقك اللدود بريماكوف.                             
منذ تلك الحادثة بدأت تظهر بحدة الخلافات بين المعهدين وكنت شخصيا واحدة من تلك السجالات والمشاكل، وما عاد بريماكوف يخفي محاولاته الحثيثة لإقصائي عن العمل في المعهد، ولكن قوة شخصية وتأثير غفوروف السياسي كان يثلم ويمنع كل تلك المحاولات، ولكن بريماكوف ما كان ليستكين. وفي ذات الوقت وبموازاة أفكار بناماريوف كانت سياسة الاتحاد السوفيتي تتمسك بالنهج الفكري الذي تغذيه هذه المجموعة. وكانت أفكار بناماريوف تتساوق وأفكار بريماكوف وكان كل ذلك يمثل حقيقة النهج السياسي للاتحاد السوفيتي المعتمد في التعامل الدولي.
ورغم صعود نجم بريماكوف وارتفاع وتائر تأثيره في السياسة العامة وعلى مصادر القرار فأنه لم يكن ليتركني وشأني ويشير دائما كوني معارض لسياسة الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات لرؤيته حول الأحداث والقوى السياسية وقياداتها في العالم الثالث، وكنت جزء مهما من خططه للصراع بالذات مع مدير معهد الأستشراق.
كانت نقاشاتي مع بريماكوف تأخذ طابع التشنج فهو دائما ما يحاول استفزازي ويختار المواضيع التي تثيرني وتزعجي، ففي واحدة من تلك المرات طعن أمامي بالحزب الشيوعي العراقي وسألني سؤالا استفزازيا عما فعله الحزب الشيوعي العراقي لوطنه العراق.فأخذت أشرح له مواقف الحزب ونضاله منذ ثلاثينيات القرن العشرين وتقديمه القرابين على مذبح الدفاع عن الحريات المدنية والحياة الحرة الكريمة للشعب ومن أجل وطن حر وشعب سعيد، وقدم حزبنا سكرتيره الأول  فهد ثم سكرتيره الآخر سلام عادل وآلاف الشهداء لهذا الهدف السامي، فأجابني بأنه يتفق معي في ما ذهبت أليه، ولكن أجبني ما الذي قدمتموه للناس فأجبته، بأننا حفرنا في ضمائر أبناء الشعب حب الوطن والحرية وحرضناهم للمطالبة بحقوقهم وبناء وطنهم بعيدا عن الاستلاب والخوف والخضوع لسطوة الأجنبي وعملنا على تثقيف الجماهير وتوعيتهم بالحقوق المدنية، فقال وماذا يعني هذا ، فيمكن لأي شخص ومن خلال برنامج إذاعي واحد القيام بكل ما تحدثت عنه، وأني أرى بأنكم وبعد كل هذا المدة الطويلة التي مضت على تأسيس حزبكم، لم تستطيعوا أن تقدموا شيئا لشعبكم، وقد كنتم في فترة ما تؤيدون عبد الكريم قاسم رغم أنه لم يكن ليمنحكم منصبا في سلطته، ثم ختم حديثة بالقول، أنا لا أثق بسياسة أي حزب شيوعي عربي ولا أؤمن بأدوار يعتد بها  في بلدانها، وأعتقد بأنها غير قادرة على فعل شيء ما ، أيضا على المرء أن ينظر لتجربة حزب البعث الذي استطاع السيطرة على السلطة في سوريا وكذلك العراق رغم قصر عمره في عالم السياسة بالنسبة لعمر حزبكم، أيضا أنا أنظر بعين الرضا والتقدير للتجربة الناصرية.   
   
صعود نجم بريماكوف

كان أغلب الصحفيين من العاملين في وسائل الإعلام السوفيتية لهم رأي جازم بكون السيد يفغيني بريماكوف يعمل في لجنة أمن الدولة المسماة كي جي بي، وحتى المصريين كانت قناعاتهم تصب في هذا الاتجاه ، ولكنه وعلى المستوى الشخصي، دائما ما كان ينفي هذه العلاقة و يعلن بشكل متكرر بأنه يتحدى أي شخص يستطيع أن يثبت وجود مثل هذه العلاقة أو عمله في ذلك الجهاز. ولكون السيد بريماكوف كان مسرفا في تناول الكحول ويتعاطى الشراب يوميا، لذا في أحدى المرات وتحت سطوة الكحول وأمام جمع من أصدقاءه قال إن ليس لديه علاقة  بالكي جي بي فهو يعمل في دائرة أخرى يطلق عليها المنظمة العسكرية المضادة للاستخبارات والجاسوسية. بدوري فقد حصلت على تأكيد لهذه المعلومة من شخصيات ذات نفوذ في السياسة السوفيتية ولهم علاقة شخصية ببريماكوف.
كانت شخصية ومكانة السيد بريماكوف تتعزز مع مرور الوقت بسبب علاقته بعضو المكتب السياسي  للحزب السيد بنماريوف لتقارب أفكارهم ورؤيتهم التي تنم عن عداء مستحكم للأحزاب الشيوعية في البلدان النامية ومنها الأحزاب الشيوعية العربية، وتأكيدهم الدائم على عدم قدرة تلك الأحزاب على قيادة مجتمعاتها أو إحداث تغيير في طبيعة الحكم في بلدانها لصالح الطبقات الفقيرة.
تخرج بريماكوف من معهد الدراسات الشرقية  وتخصص باللغة العربية، فعمل في القسم العربي من الإذاعة في موسكو، ثم عمل في جريدة البرافدا وأرسل إلى القاهرة كمراسل للجريدة وكان يقوم يوميا بإرسال تقارير إلى موسكو تتحدث عن الوضع في مصر والتطورات اللاحقة لهذا الحراك، ثم بعد قضائه فترة طويلة في القاهرة لعب فيها دورا حيويا في العلاقة بين البلدين وعزز مكانته بين المراسلين الصحفيين القادمين من الاتحاد السوفيتي وبات له مركزا مميزا هناك.تم إرجاعه إلى موسكو ليعاود العمل في أقسام صحيفة البرافدا ولكن بعد فترة قصير عين  باحثا في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية، ثم صعد نجمه ليصبح مديرا لمعهد الأستشراق بعد خلو المركز الوظيفي إثر وفاة السيد غفوروف. ودائما ما كانت تثار التساؤلات حول صعوده السريع وتسلقه للمناصب. ولكن مثل هذا الاستغراب والدهشة يبطلان لو عرفنا بوجود لوبي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمكتب السياسي كان يدعم توجهات وأفكار بريماكوف لا بل يتبنى أطروحاته، وهذا اللوبي هو من يمهد له المهام ويدفع به للصعود في سلم المناصب.ويمكن القول بأن هناك كتلة قوية داخل السلطة والحزب الشيوعي تدير من الداخل وترسم سياسة الدولة السوفيتية وبعدها الدولة الروسية، يمكننا توصيفها بالدولة العميقة.
فحين توفى السيد غفوروف مدير معهد الأستشراق بقي مكانه فارغا، وكان موته خبرا سعيدا لتلك الكتلة وبالذات الموجودة في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية. قدمت أسماء عديدة لتحل محل غفوروف ومنهم بروفيسور من أصل كوري اسمه كيم . كان هذا جديرا باحتلال الموقع ولكن هذا الطرح واجه اعتراضا شديدا من قبل أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وقرروا أن يملأ الموقع الوظيفي بشكل مؤقت لحين تهيئة البديل، ولكن لم تمض غير فترة قصيرة حين عين بريماكوف مديرا لمعهد الاستشراق رغم بعده المهني والعلمي عن طبيعة المعهد ومهامه. ولم يدع بريماكوف الوقت يمضي فسرعان ما عمل على تسريح وإزالة جميع من كانوا على علاقة بغفوروف.
عند فتح أرشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أمام الباحثين في شهر آب (أغسطس ) من عام 1991 أثار ذلك الكثير من الشهية للإطلاع على خفايا السياسة السوفيتية، وقد صدر عن ذلك كتاب  ظهرت فيه مجموعة رسائل لعلماء سوفييت كانت موجهة إلى قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، يطالبون فيها اتخاذ إجراءات عقابية بحق يفغيني بريماكوف الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمعهد الاستشراق السوفيتي، وجاء في نص أحد الرسائل ما يلي:
* الشيوعيون في معهد الاستشراق لأكاديمية العلوم السوفيتية يطلبون منكم اتخاذ الإجراءات القاسية بحق الأكاديمي بريماكوف والذي لقبه الحقيقي ( كيرشنبلات)، نظرا لما يقوم به من أعمال تعسفية وغير قانونية كالارتشاء وسوء استخدام مركزه الوظيفي واستغلاله لمصالحه الشخصية والذي دائما ما يفرض أعماله تلك على معهدنا. إن قائد المافيا الصهيونية هذا، دائما ما ينتهز ويسخر موقعة الوظيفي لمنافعه الشخصية، وهو وطوال عام العمل يقضي أوقاته في مهمات أيفاديه خارج الاتحاد السوفيتي، كذلك يجمع الرشوة من زملائه في العمل وبالذات منهم الذين يعملون ويعيشون في الخارج.وقام ببناء قصره الريفي الفخم الواقع في منطقة (ماليازيملي) من تلك الأموال.
يفغيني بريماكوف ـ كيرشنبلات ـ لا يهمه أي شيء فيما يخص موارد الدولة ولذا يبذرها على مصالحه الشخصية الطامعة في الكسب غير المشروع. لقد دمر بريماكوف المعهد بأكمله وقام بتقسيم المهام وكذلك زملاء العمل، على مجموعة من الموالين والمقربين له من اليهود ، أما من هم خارج هذه التقسيمات من العلماء فيعدهم بريماكوف غير مفيدين أو غير مؤهلين.  انتهت

كان بريماكوف ذكيا جدا ويعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، فهو يتمتع بحدس كبير وبقدرة سياسية واجتماعية فائقة قادرة على التأقلم مع الوضع والتغيرات وحتى في العلاقة بالأشخاص خاصة من الدرجات الحزبية والإدارية العليا. ففي عهد بريجنيف كان السيد بريماكوف ملتصقا بالقيادة ويلبي ويساير مختلف السياسات السوفيتية، ويبدو وكأنه داخل طاقم السلطة وقريب من قرارها،ثم كان من حاشية غرباشوف حين وصل الأخير إلى سدة الحكم  وساعده على ذلك السيد ياكفليف عضو المكتب السياسي للحزب والذي سبق وأن عمل سفيرا لموسكو في كندا، وخلال تلك الفترة صعد نجم بريماكوف ليصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي. وحين أطيح بغرباشوف وأعتلى سدة الحكم الرئيس يلتسين عين بريماكوف مديرا للمخابرات العامة ثم أصبح وزيرا للخارجية وارتفع نجمه ليصبح بعدها رئيسا للوزراء رغم وجود رأي عام ضده في عموم الاتحاد السوفيتي ثم في روسيا  .
في فترة من الفترات وحين كان يعمل بريماكوف في الصحافة كلفته القيادة السوفيتية الذهاب إلى العراق لمحاولة نزع فتيل الأزمة بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بقيادة  الملا مصطفى البرزاني، وكان هاجس القيادة السوفيتية هذا ينظر بعين الريبة إلى علاقة الأكراد بسلطة شاه إيران والخوف من إن يستغل الشاه تلك العلاقة لمصالحه في المنطقة. لذا كلف بريماكوف للذهاب إلى هناك ومحاولة جسر الخلاف بين الحكومة العراقية والحركة الكردية. كانت اتصالات الاتحاد السوفيتي بأكراد العراق تتخذ طريق طهران للوصول إلى كردستان العراقية، ولكن هذه المرة أصر بريماكوف الذهاب مباشرة إلى بغداد ومن ثم الانتقال منها  إلى كردستان، معلل السبب في طلبه هذا، بعلاقته الطيبة بصدام حسين وقدرته التحاور مع القائد العراقي بشكل صريح ومنفتح.

    

دخل بريماكوف العراق بصفة مراسل لوكالة أنباء تاس السوفيتية وتحدث مع القيادة العراقية وبالذات صدام حسين وطلب منهم تسهيل مهمته وتوفير وسيلة لتنقلاته بين الطرفين، وفر له الجانب العراقي ما أراد من تسهيلات  فراح يتنقل بثقة بين طرفي النزاع . ورغم أنه جاء بتكليف من قادة الاتحاد السوفيتي وبمهمة محددة فأنه دائما ما كان يعلن بأن مهمته تتعلق بإجراء تغطية صحفية خاصة للأحداث .
كان بريماكوف يحضر لمقر وكالة تاس في العاصمة العراقية كلما عاد من مهمته في كردستان.وكان هناك في مقر تاس رجلا عراقيا يعمل مترجم أسمه فاضل فرج وهو خريج الاتحاد السوفيتي ومن الشخصيات الديمقراطية التقدمية. كانت طلبات بريماكوف من السيد فاضل فرج تتعلق بما يرد من أخبار يومية في الصحافة العراقية و يتحدث أيضا حول مهمته المتعلقة بالصلح بين طرفي النزاع، ولقد أخبر بريماكوف السيد فاضل فرج بأنه منح الضوء الأخضر من صدام حسين وصلاحيات للتفاوض مع الملا مصطفى لغرض إنهاء الاقتتال ووضع حد للمشاكل والعلاقات المتشنجة. فقدم السيد فاضل فرج نصيحة لبريماكوف قائلا له بأن عليه أن لا يثق بصدام حسين وبسياسات حزب البعث، فأجابه بريماكوف بأن هذا الكلام كلام شيوعي عراقي، وأنه يثق ثقة كبيرة بصدام وسوف تكون هناك في القريب العاجل نتائج ايجابية.
 كان بريماكوف وفي كل مرة يعود بها إلى بغداد يذهب إلى الغرفة التي يعمل فيها السيد فاضل فرج في وكالة تاس ويحدثه عن وقائع لقاءاته مع قادة  الأكراد وأين وصلت المباحثات فلا يجد من السيد فاضل غير الموقف السلبي والمضاد لحزب البعث وصدام حسين، وحين وصل الاتفاق إلى مراحله النهائية قال بريماكوف، أريد أن أحمل لك البشرى بأن الأيام القليلة القادمة  سوف تفرج عن أتفاق يعقد بين الطرفين يوقف القتال ويمنح الأكراد حكما ذاتيا، عندها أخبره السيد فاضل فرج بأن حزب البعث وصدام من المستحيل أن يكونوا صادقين في نواياهم وسوف لن يطول الوقت ليتخلوا عن أي أتفاق كان، وأنت ولكونك توفيقي، لا تشاهد ما خلف اللوحة، وعليك أن تفهم بأن هؤلاء فاشيون ولن يتخلوا عن فاشيتهم تحت أي ظرف. عندها أبدى بريماكوف انزعاجه وأكد أن الأطراف جميعها اتفقت وسوف توقع الاتفاق، وأنت حالك حال جميع الشيوعيين العراقيين. فلم يتردد السيد فاضل فرج بوصف بريماكوف بالتوفيقي مرة أخرى.
بعد ذلك  أصبح مدير وكالة تاس السيد ماتيوشيك يعامل السيد فاضل فرج معاملة غير جيدة وفي نهاية المطاف أخبره بأنهم استغنوا عنه كمترجم في الوكالة، وحين سأله عن سبب ذلك أخبره المدير بأن بريماكوف قد أتصل به هاتفيا من موسكو وطلب منه طرد السيد فاضل من العمل في وكالة تاس، وبعدها تم تعيين السيد كاميران قره داغي مترجما في وكالة تاس بدلا عن السيد فاضل فرج. 



86
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج1

لقاء وتحرير
فرات المحسن

 
يفغيني بريماكوف رجل يعرف من أين تؤكل الكتف
 
 
 
بعد عملي الطويل ومشاركاتي العديدة في فعاليات وأبحاث معهد الاستشراق  التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في السنوات الممتدة من  1970 ولغاية 1975. سنوات العمل في المعهد أعطتني تجربة ومعرفة غنية في مجالات عمل مختلفة وأيضا في أمور الحياة ومتعلقاتها، وأهم ما في ذلك الإطلاع على طبيعة الوقائع ومجريات التعامل والصراع  بين الأطراف  والمؤسسات العلمية  والسياسة السوفيتية، فتعرفت واطلعت على أسرار كثيرة زاخرة بالحوادث والوقائع الضخمة جدا والمرعبة في بعضها. وكنت في البعض منها أمثل صداع وقلق أو شخص غير مرغوب فيه لدى بعض الأوساط والنخب السياسية، لكوني أجنبي وضعت وسط  الحومة وداخل دائرة تلك الصراعات وحشرت فيها حشرا. وكان لي رأي واضح وصريح في واحدة من المسائل الشائكة المعقدة في العلاقات السياسية السوفيتية مع أطراف خارجية، ويمكن تحديد هذه الموضوعة، بالنظرة السلبية والاستصغار الذي يحمله بعض قادة الحزب الشيوعي السوفيتي للأحزاب الشيوعية في العالم الثالث. وكان على رأس هذه المجموعة يقف السيد بناماريوف مسؤول مكتب العلاقات الخارجية عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي وبطانته ومنهم السيد يفغيني بريماكوف. كان جميع هؤلاء ينظرون للأحزاب البرجوازية الحاكمة في تلك البلدان بعين الرضا ويروجون لفكرة، أن تلك الأحزاب قادرة على تبني طريق التطور اللا رأسمالي والوصول إلى الاشتراكية دون حاجة للشيوعيين وأحزابهم. وبسبب موقفي غير الإيجابي من هذا الطرح وتلك الآراء، وتزامن ذلك مع دراستي وطبيعة أطروحتي التي أكدت في جانبها السياسي على إن الوقائع في مصر العربية كمثال، ومن مجريات السياسة والعمل الحزبي والمؤسساتي هناك، أظهرت جميعها بأن لا علاقة لها بتبني التطور اللا رأسمالي أو البناء الاشتراكي لا بل العكس، وإن ما يتبناه مكتب العلاقات الخارجية السوفيتي والسيد بريماكوف لهو على خطأ كبير وخداع بالسياسة . لذا سبب لي الموقف هذا الكثير من المشاق التي واجهتني منذ اليوم الأول لوصولي القاهرة لإعداد أطروحة الدكتوراه في الصحافة.
تمتد معرفتي وعلاقتي بالسيد بريمالكوف منذ الأيام الأول من عام إعدادي لأطروحة الدكتوراه في القاهرة. فقد ترافق بحثي في أطروحة الدكتوراه خلال فترة تعاوني مع مكتب وكالة نوفوستي في القاهرة، وكان يتواجد هناك في الكثير من الأحيان السيد إيكر بلاييف مندوبا عن جريدة  الأزفيستيا وكذلك يفغيني بريماكوف عن جريدة برافدا، وقد تعرفت على الاثنين خلال حضورهما إلى الوكالة. كانت طريقة بريماكوف باللقاء جيدة وودودة وبترحاب حار وفي العديد من اللقاءات وكانت بيننا أحاديث في مختلف المواضيع. أحدى المرات وقبل خروجه من الوكالة عرض علي الذهاب معه إلى بيته فوافقته وذهبنا حيث استقبلتنا السيدة  زوجته وهي امرأة طيبة كريمة من أصل جيورجي. جلسنا في غرفة الاستقبال نتناول الشراب، وبعد حديث قصير سألني عن طبيعة ومحتوى أطروحة الدكتوراه التي أعدها، فأخبرته عنها وكنت أحمل صفحتي ورق طبعت عليها خطة البحث لذا قدمتها أليه فراح يطالعها، وكنت أشرح له كيف تم تغيير خطة البحث والمساعدة والعون الذي قدم لي من قبل الإخوة المصريين، بعدها طلبت رأيه بخطة البحث وعموم موضوعة الأطروحة. فقال أني أنبهك لمسألة حساسة يجب أن تأخذها بالحسبان وهي الواقع السياسي المصري الذي يجب أن يأخذ حيزا كبيرا وواضحا في الأطروحة فأكدت له بأن هذا موجود بشكل واضح في مقدمة الأطروحة وسوف يأتي في المتن أيضا. فقال برد سريع وواضح، إن ما أعنيه أن تذكر في أطروحتك مصر كمثال لطريقة الانتقال نحو الاشتراكية وإن التوجه السياسي للسلطة في مصر يتخذ مسار الانتقال السلمي نحو بناء الاشتراكية، فأجبته بأن ما يتوفر من معلومات ومن واقع حال يشير لعكس ذلك، فرد بسرعة بأن علي الأخذ بما أخبرني به دون الأخذ بغيره وهذا ما ينفع العلاقات السياسية مع بلدنا الاتحاد السوفيتي.وكان من الصفات التي يتصف بها يفغيني بريماكوف شخصيته المتعنتة المغرورة، وفي الغالب لا يود الاستماع لغير ما يعتقد ويفكر به لذا تراه يطلق الأحكام المتسرعة.
كان هناك ما لا يقل عن أربعين مراسلا للصحف والمجلات السوفيتية في القاهرة من مثل كمسمولسكيا، ترود، برافدا، أزفيستيا وغيرها. وأغلب هؤلاء المراسلون لهم علاقات مع بعض ويعقدون حفلات وتجمعات في العديد من المناسبات وفي أحد المرات قدمت لي دعوة لحضور حفل يحضره أغلب هؤلاء المراسلون، لم أمانع وقررت الذهاب إلى الحفل وشاركت الجميع الطعام والشراب والأحاديث العامة والسياسية خاصة، ودارت أحاديث كان بعضها انتقادا للسياسة المصرية ومثلها لبعض السياسة السوفيتية. فجأة دار لغط بين الحضور وهمسات بأخذ الحذر والصمت لقدوم السيد يفغيني بريماكوف فسألت البعض من القريبين مني وهم من العاملين معي في الوكالة عن سبب هذا الهمس، فأخبروني بأن السيد بريماكوف واحد من عملاء المخابرات السوفيتية  وهو رجلهم في القاهرة ولكن ورغم حصولي على هذه المعلومة، فلم يؤثر ذلك على علاقتي الشخصية  ببريماكوف وقد دعاني إلى بيته عدة مرات وكالعادة كانت تدور بيننا أحاديث كثيرة نختلف في كثير منها ونتوافق بالبعض. كان من عادة بريماكوف في البيت أن يجلس في صالة  الضيوف مرتديا فقط ملابسه الداخلية وأمامه منضدة كبيرة وضعت عليها مجموعة الصحف المصرية ومثلها السوفيتية . في أحدى المرات سألني عن الذي جلب انتباهي في الصحافة المصرية هذا الصباح فحدثته عن بعض المقالات والمانشيتات التي حوتها الصحافة وأخبرته بأني أقرأ صباح كل يوم جميع الصحف المصرية ، فسألني إن كنت قرأت هذا الذي حدثتني عنه الآن، فأجبته بنعم، فأخبرني بأنه يعمل يوميا ومنذ الصباح الباكر على كتابة تقرير عما يعرض ويكتب في الصحافة المصرية ثم يرسله إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ووكالة تاس السوفيتية وجريدة البرافدا، طلبت أن أطلع على محتوى ذلك التقرير فقدم لي نسخة مطبوعة منه وكان معنونا ( ماذا قالت الصحافة المصرية اليوم ) .
في أحدى المرات ذهبت لمقابلة مدير دائرة الإعلام في وزارة الإعلام المصرية ودار بيننا حديث عن الصحافة فأخبرته بأن السيد بريماكوف يجهد يوميا ليعد تقريرا مفصلا عن الصحافة المصرية ويرسله إلى مراكز القرار في الاتحاد السوفيتي فقال المدير بأنهم يقومون وبشكل يومي بأعداد تقرير عن الصحافة المصرية ويرسل عند الساعة الثامنة صباحا إلى عدة جهات وأشخاص ومنهم السيد بريماكوف الذي بدوره يرسله إلى هيئات ومؤسسات في الاتحاد السوفيتي. دهشت من هذه المعلومة وذهب تفكيري بعيدا خاصة في تحديد وقت أعداد التقرير وإرسال بريماكوف تقريره الصباحي إلى موسكو. في مرة أخرى زرت مبكرا بيت بريماكوف وخلال الحديث طلبت منه التقرير اليومي الذي يعده كي استفاد من كيفية إعداده.  عندها قدم لي نسخة مطبوعة، بعدها ذهبت إلى مكتب مدير دائرة الإعلام في وزارة الإعلام المصرية وطلبت التقرير اليومي عن الصحافة المصرية الذي تعده الوزارة فوجدت تقرير بريماكوف نسخة طبق الأصل من تقرير الوزارة المصرية، لا يختلف عنه بحرف واحد سوى بعنوان التقرير، فتقرير وزارة الإعلام المصرية لا يتطرق لأي نوع من السلبيات في عموم الوقائع التي تحتويها الصحف المصرية وتشير لها، لذا يمكن القول بأن موسكو كانت تحصل على معلومات مخادعة أو غير حقيقية بسبب نسخة  مراسل البرافدا السيد بريماكوف من التقرير.
كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها واحدة من أكثر مساوئ بريماكوف بالنسبة للسياسة بعموم توجهاتها، وقد أصبت بخيبة أمل وعدم ثقة بواحد كان يعتبر من أنجح الصحفيين السوفيت آنذاك. ورغم هذا كنت ألتقيه بين فترة وأخرى ويدور بيننا حديث طويل وبالذات حول موضوعة علاقة  السلطات المصرية بمسمى التحول نحو الاشتراكية أو طريق التطور اللارأسمالي وكان رأيي واضحا ولم أكن لأخفيه عنه، رغم يقيني بأنه يرتبط  رسميا بجهة مخابراتية سوفييتية ما. فأمامي كانت تتضح يوميا الكثير من الحقائق والوقائع التي تشير بما يؤكد نزوع القيادة المصرية لخليط من القومية والتدين وأن ليس هناك علاقة لها بالاشتراكية حتى ولو بقدر الإدعاء الذي يثار عن ذلك، ولكن بريماكوف كان يستفزه هذا الرأي ويصف آرائي واستنتاجاتي بالخاطئة وغير الواقعية وأن مصر سائرة بالطريق الصحيح لبناء الاشتراكية في نهاية المطاف،ويؤكد بأن ناصر والقيادة المصرية سائرة بشكل حثيث وواقعي وممنهج ووفق تصور القيادة السوفيتية لمسيرتها. ودائما ما شكل هذا الموقف نقطة خصومة وخلاف بيننا، وقد حدثته كثيرا عن وقائع تجري في مصر يوميا تشكل ظاهرا خلاف رأيه، وفي أحد المرات حدثته عن صديق من مجموعة الخبراء السوفييت  الذين يخدمون في مصر،وهو عنصر مخابراتي سوفيتي أسمه كَينيا كان تلميذا معي في نفس الكلية التحق بالمخابرات السوفيتية بعد التخرج، والذي حدثني عن معاناتهم من المراقبة اللصيقة والمضجرة للمخابرات المصرية وباتت تسبب لهم الكثير من المشاكل والمعاناة وكأن الخبراء السوفييت أعداء لمصر وليس عملهم خدمة لصالح مصر والمصريين.
بعد عودتي إلى موسكو بفترة ليست بالطويلة بدأت كتابة أطروحة الدكتوراه وفي ذلك الوقت عاد يفغيني بريماكوف أيضا  ليعمل في أقسام جريدة البرافدا ثم نقل ليعمل في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية ، وهذا المعهد وغيره من معاهد الأبحاث يعد الدراسات والبحوث ويقدم خدماته وخبراته للسلطات السوفيتية العليا .
كنت وقتها أحاول تجنب اللقاء ببريماكوف رغم كوني أتقصى أخباره عن بعيد، وقد عرفت من خلال بعض الأصدقاء بأنه يتابع أخباري وأخبار بحثي وإعدادي لأطروحتي، وكان يحاول أن يجد فرصة مناسب للالتقاء بي. بعد انتهائي من كتابة الأطروحة  وقد سمع بريماكوف بذلك فأرسل بطلبي وحين ألتقيته أبدى امتعاضه مما أنا فاعله ومن الأفكار والرؤية التي أبديها في أطروحتي، وقال بأنه ينصحني بالتخلي عن هذا، وأن ما أطرحه يخالف كليا سياسة الحزب الشيوعي السوفيتي ورؤاه عما يحدث في مصر، وبعد نقاش طويل ومتشنج قال بالحرف الواحد ودون مواربه. يوسف الياس ( وكان هذا أسمي وقتذاك) لن تجري المرافعة ولن تحصل على نتيجة إلا من خلال المرور على جثتي. خرجت من عنده منزعج كليا رغم قناعتي بأن من يقف ورائي وبجانبي هو عميد كلية الصحافة الذي قدم لي الكثير من المساعدة في إنجاز الأطروحة.
التقيت بالصدفة بالسيد ميرسكي، وهو باحث يعمل في معهد الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية وسبق  أن وضع كتاب حول دور الجيوش في البلدان النامية وعد الكتاب في وقتها أهم دراسة حول طبيعة العلاقات بين مؤسسات الدولة والحراك السياسي في العالم الثالث. كان السيد ميرسكي على النقيض من أفكار بريماكوف رغم أنهما يعملان في ذات المعهد. ومن حسن حظي أن كلية الصحافة قد اختارت ميرسكي ليكون المناقش الرئيسي لأطروحتي وقد اخبرني مباشرة وبعد لقائي الأول به ، بأن بريماكوف وجماعته يقفون بالضد من الأفكار التي دونتها في أطروحتي. فسألته عن هؤلاء الذين سماهم جماعة بريماكوف، فاخبرني بأنهم مجموعة من أعضاء في معهد الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية وكذلك أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في قسم العلاقات الدولية الذي يرأسه بناماريوف .لم اعر الآمر أهمية بقدر ما كنت أعطي ثقتي بأكاديمية ومهنية عميد كلية الصحافة.
بعد أن أنهيت كتابة الأطروحة تم طباعتها ووضع ملخص لها أيضا ولم يتبقى سوى الإجراءات التنظيمية المتعلقة بالمناقشة والدفاع . بعد أيام  أرسل بطلبي عميد الكلية ليخبرني عن وجود إشكال سوف يسبب لنا مشاكل مع لجنة الحزب المركزية، وأنه شخصيا بغنى عن مثل هذا الآمر وغير مستعد للدخول بخصومة مع هؤلاء، وقطعا ليس له قدرة على ذلك. بدوري تساءلت عن العلاقة بين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وما ورد في أطروحتي، وهل ما أقوم به من دراسة يأتي في باب السياسة أم جانب البحث العلمي الخالص، فأجابني العميد بأن الأطروحة تحوي السياسة والعلم على حد سواء، وإن فيها ما يخالف سياسة الحزب  الشيوعي.فطلبت وقتها أن يرشدني لطريق ينقذ الموقف، فأجاب بأنه حتما سوف يحاول إيجاد مخرج لذلك خلال اليومين القادمين، وكانت مدة الدراسة التي منحت لي قاربت الانتهاء دون أن أحصل على الضوء الأخضر لمناقشة الأطروحة.
في اليوم الثاني أخبرني المدير بأنه قد مددت لي مدة الدراسة والمناقشة لثلاثة أشهر أخرى وخلال هذه الأشهر علينا أيجاد الحل. فسألته عن طبيعة الحل المقترح، فقال لي بأن لا علم له في الوقت الراهن، ولكنه يعتقد أن الحل الصحيح يوجد عندي بالذات، فتساءلت كيف وما المطلوب مني؟. فقال أن علي رفع ما يتعارض ونهج قيادة الحزب من متن الأطروحة وكل ما يفند مسيرة المصريين نحو بناء الاشتراكية، فذكرته بما اتفقنا عليه قبل ذهابي إلى القاهرة فكيف تطلب مني الآن أن أحذف كل ذلك، ياترى هل المطلوب مني أن أكتب عن آلات الطباعة ونوعية الورق المستخدم والأحبار وكيفية توزيع الصحف وأعداد العاملين، وهل كانت الخطة التي وضعناها تتعلق بهذا الشيء دون غيره؟  لم نتفق على شيء وخرجت من عنده حائر ضجر لا أدري ما سوف يكون عليه الموقف في القادم من الأيام.
بعد مضي أسبوع أخبرني العميد بأن أتفاق قد جرى على إرسال الأطروحة إلى معهد الماركسية اللينينة لدراستها وإعطاء الرأي . في تلك الإثناء أرسل بريماكوف بطلبي مرة أخرى فقابلته، عندها وجه لي لوم حاد وكرر مرة أخرى بأني لن استطيع أن أنال النجاح في سعيي للحصول على الدكتوراه، وكان ردي جازما وبثقة متناهية بأني سوف أنال ذلك ولن يعيقني أحد.
لم أترك الأمر يمر دون أن أتابعه بحماس وأبحث عن أية طريقة تقربني من نيل حقي في الحصول على شهادة الدكتوراه لذا ذهبت دون موعد إلى معهد الماركسية اللينينية وقابلت اللجنة التي تقرر أن تدرس أطروحتي لنيل الدكتوراه وحاولت معرفة أذا كانت تتعارض مع سياسة الحزب حسب ما يقال.
استغربت اللجنة حضوري شخصيا دون موعد مسبق، ولكنهم وفي نهاية الأمر أخبروني بأن قرارهم سوف يصدر بعد الانتهاء من الإطلاع ودراسة الأطروحة وذلك سيكون بعد أسبوع من الآن. وفعلا ذهبت أليهم بعد أسبوع فأعلموني بأن الأطروحة ومن الناحية العلمية صحيحة وسليمة وتتوافق مع متطلبات البحث، ولكن ما جاء فيها من آراء سياسية وبالاستناد على خطابات وتصريحات وأدبيات القادة المصريين، لايتلاءم  و الاقتناع السائد بأن مصر تسير نحو الانتقال السلمي لبناء الاشتراكية، وهذا الاقتناع يؤمن فيه العاملون في العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي السوفيتي، لذا تقرر قبولها بشرط أن تتم المناقشة بشكل سري ودون الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام
كانت هناك قناعة عند بعض أعضاء اللجنة المركزية وأيضا بريماكوف بأن الأطروحة سوف لا تنال نصيبها من النجاح،  وبصورة مؤكدة سوف تواجه الرفض من قبل اللجنة العلمية التي مهمتها مناقشة الأطروحة والاستماع لدفاعي. ولكن خلال النقاش نال الكثير من مواضيعها استحسان ميرسكي وكذلك عميد كلية التاريخ، وقد أشادوا بما عرضته لواقع حال الصحافة المصرية وما قدمته من تحليلات قالوا عنها بأنها جد صائبة وعلمية، وهذا هو المهم في الآمر. وقد عرضت للتصويت فوافق عليها بالإجماع وامتنع شخص واحد، وهذا الشخص  وجه لي أثناء النقاش سؤال تهكمي قائلا هل للسيد بريجنيف رأي في العلاقة مع القيادة المصرية وطبيعة ومسار أفكارها وللسيد خليل عبد العزيز رأي مخالف في ذلك ؟، فهل من الواجب والعقل أن اصدق خليل عبد العزيز أم أثق بالسيد بريجنيف؟. فأجبته مباشرة كلا يا سيدي، عليك أن تصدق بما يقوله بريجنيف.عندها علت وجهه ابتسامة عريضة وقال، السيد بريجنيف كان يخاطب السيد الرئيس جمال عبد الناصر وكذلك الرئيس أنور السادات بكلمة رفيق، فكيف لي أن أصدق عبد العزيز وأنا عضو في الحزب الشيوعي منذ الحرب الأهلية ودافعت عن ثورة أكتوبر العظمى ولذا أعلن مباشرة وقوفي بالضد من الأفكار التي قدمها خليل عبد العزيز في أطروحته، وكان الوحيد في موقفه هذا دون باقي الأساتذة، الذي كان مجموعهم ستة عشر أستاذا.
بعد مضي أسبوعين ومن حسن حظي حدث الذي كنت قد توقعته، فقد قام الرئيس أنو السادات بطرد الخبراء الروس من مصر. عندها وبالصدفة التقيت هذا الأستاذ الممانع فسألني،أي هاجس كنت تحمله وكيف لك أن تتنبأ بالذي حدث؟ فأجبته بأن جميع الوقائع على الأرض كانت تؤشر لذلك، وإن سوء الأوضاع وتضارب الأفكار والمناهج وتذبذب السياسات وانعدام أي معلم  علمي مقنع لمسيرة المصريين نحو البناء الاشتراكي، هذا ما كان سبب تحليلي للواقع المعاش في مصر وعلاقتهم بطريق التطور اللارأسمالي أو الاشتراكي، شكرني وقال لي بأن موقفي كان صائبا وأنه بالذات من صوت بالضد من أطروحتي ونيلي الشهادة.
بعد انتهاء دفاعي وحصولي على النتيجة الإيجابية تقدم مني أعضاء الوفد الذي أرسله السيد غفوروف مدير معهد الاستشراق وأخبروني بأنه يطلب حضوري صباح الغد إلى المعهد.وجدت في ذلك فرصة مناسبة جدا أن ألتقي بأحد رجال السياسة والقرار الكبار في الاتحاد السوفيتي والمسؤول عن واحد من أهم معاهد البحوث الإستراتيجية، وسبق أن كان السيد باباجان غفوروف سكرتيرا للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية  طاقجستان السوفيتية وشارك في العديد من المعارك دفاعا عن الثورة الاشتراكية وعن الاتحاد السوفيتي ونال التكريم من القيادة السوفيتية.
منذ الصباح الباكر بدأت بالتحضر للزيارة بشكل مناسب. كنت مبهورا وأنا أدخل للمرة الأولى هذا الصرح العلمي الحيوي. أخبرت الاستعلامات بأن لي موعد مع السيد مدير المعهد فسألني الموظف عن أسمي وبعد أن أخبرته رحب بي ورفع الهاتف وأتصل ذاكر اسمي  ثم أرشدني إلى غرفة المدير. طرقت الباب ودخلت فوقف السيد غفوروف وصافحني بحرارة وهنأني على نجاحي ونيلي درجة الدكتوراه في الصحافة، وقال أنت أبليت بلاءا حسنا وأنا قمت بواجبي، في تلك اللحظة لم يخطر على بالي أن أدقق جيدا بقوله هذا ولكن بعد عملي في المعهد عرفت دور السيد غفوروف في تذليل بعض الصعوبات والدفع لتسهيل مهمة دفاعي عن الأطروحة. بعدها سألني عن الذي أفكر به بعد نيلي الشهادة وما هي مشاريعي المستقبلية، فأجبته بأن ذلك يتعلق بموقف الحزب الشيوعي العراقي، فهناك قرار متخذ من الحزب بخصوص أعضاءه ممن ينهون دراستهم، حيث عليهم تطبيق شعار الحزب  ( التفوق العلمي والعودة إلى الوطن ). رد غفوروف علي جوابي  بالقول إن هذا لا يعنيني، وأنا أقترح عليك الآن العمل معنا هنا في المعهد، فهل توافق؟ لحظتها انتابتني مشاعر سعادة غامرة فلم أتردد بالجواب، نعم يسعدني ذلك جدا. ثم تداركت الآمر وقلت بأن المصادقة على شهادتي لم تصدر بعد فكيف لي أن أعمل عندكم، قال غفوروف أبعد ذلك عن ذهنك فليس له أهمية عندي وتعال غدا صباحا لتبدأ العمل في المعهد، فالموافقة على أطروحتك ستتم حتما في وزارة التعليم العالي السوفيتية.
 



87

الوهابية والاخوان المسلمين، صراع الأخوة الأعداء هل يتحول لقتال؟

فرات المحسن

مثل ظهور قناة العربية الوجه الأبرز لطبيعة الصراع والتنافس الإعلامي بين العربية السعودية ودولة قطر والذي جاء على خلفية نزاع خفي كانت قد بدأت ناره تستعر على أرض أفغانستان داخل أوساط المجاهدين العرب وإثر اكتساح طالبان لباقي الفصائل وتحالفها مع القاعدة.
دائما ما كان يقلق السعودية الطموح غير العادي لدولة قطر ودفعها الأموال الطائلة للظهور كقطب مؤثر في السياسة الإقليمية والدولية، وما كان هذا الفعل القطري ليثير السعودية فقط وإنما أثار ولازال حفيظة بلدان المنطقة وبالذات منها أقطاب مجلس التعاون الخليجي شركاء قطر في تلك المؤسسة.
مثل ما سمي بالربيع العربي نقطة فارقة في استعار النزاع بين الطرفين حين اصطف السعوديون مع الرئيس التونسي ومنحوه حق اللجوء في المملكة ونددوا بما جرى هناك وفعلوا مثل هذا مع ثورة الشعب المصري ووقفوا ومازالوا يمجدون فترة حكم حسني مبارك. وفي جميع مجريات الأحداث كانت قطر تلعب لعبتها الكبرى في الدفع نحو تصعيد الصراعات في تونس ومصر وباقي بلدان المنطقة.
 فوز الأخوان المسلمين برئاسة جمهورية مصر العربية أثار حفيظة السعودية والأمارات ودفعهم منذ لحظة اعتلاء محمد مرسي كرسي الحكم للعمل على إعادة ترتيب حساباتهم ووضع جميع الإمكانيات المادية لغرض الإطاحة بحكم الأخوان وإعادة حكم حسني مبارك بنموذج جديد تمثل في صعود رجل الجيش القوي المارشال عبد الفتاح  السيسي، الذي ظهر كمنقذ لمصر من أحداث جسام . وكانت أولى التهم التي وجهت لمرسي تهمة التخابر مع قطر وإعطائها معلومات عن الجيش والحياة العامة في مصر.
أكثر ما تخشاه السعودية هم الأخوان المسلمين كمنافس مذهبي لمؤسستها ومنظومتها الفكرية الدينية الوهابية التي تقود مؤسسات الدولة جميعها ، فرغم تماثل مصادر الفكر الوهابي والاخوني فالحذر السعودي يأتي على خلفية التنافس السياسي الممزوج بالمذهبية المتطرفة المنغلقة، وصعود نجم الأخوان في مصر سبب صداعا عظيما للسعودية وحلفاءها وبدأت تشعر بالتهديد يقترب من حدودها. فرسوخ حكم الأخوان في مصر سوف يجعل المنافس المذهبي ماثل أمامها وجار لها وينافس بشدة منظومة القيادة في الدولة السعودية، ومع مضي الوقت سوف يعمل على الطعن بالفكر الوهابي ويسعى لوضعه في موضع التشكيك والتبخيس، وتلك الحقيقة تدركها المؤسسة الدينية الوهابية الماسكة والمسيرة بقوة لمؤسسات الدولة السعودية. وهذا الخوف دفع السعودية والإمارات للوقوف بقوة مع النظام المصري الجديد بقيادة المارشال السيسي وتقديم المليارات له . وبالمقابل قامت قطر وجميع قنواتها الإعلامية بالوقوف ضد الحكم الجديد في القاهرة وتبني الخصومة معه على المكشوف، واحتضان أقطاب ودعاة الأخوان المسلمين نكاية بالسعودية والإمارات، وكل ذلك لأجل جاء لغرض كسر مساع السعودية للسيطرة وفرض خياراتها على مجلس التعاون الخليجي وعموم المنطقة، وقد تجلى ذلك في معركة الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي  والأصطفافات والصراعات داخل المعارضة السورية .
بعد جهود مضنية قامت بها السعودية وحليفها القريب الإمارات العربية لكبح جماح قطر وترويضها وتطويعها لانتهاج سياسة مماثلة لعموم سياسات مجلس التعاون الخليجي والاعتراف بقيادة العربية السعودية للمجلس، وقبل كل ذلك وفي المقدمة منه التخلي عن الأخوان المسلمين وطردهم من قطر، وبعد وساطة كويتية كبيرة ومضنية، وقعت قطر وبلدان المجلس وبرغبة وشروط السعودية في   ابريل 2014 على اتفاق لم تنفذ قطر أي من بنوده، وكانت أولى تلك البنود طرد قيادات الأخوان المسلمين من الدوحة والتوقف إعلاميا عن المناكفات والطعون التي توجه لسياسات بعض أعضاء مجلس التعاون وكذلك لجمهورية مصر العربية،وبالعكس من ذلك الاتفاق فإن السياسات القطرية زادت من شقة التباعد بينها وبين رغبات السعودية وصعدت في دعمها للإخوان المسلمين وزادت الطين بله بتقربها وتعاونها مع إيران .
الأزمة الحالية تأتي على وفق مشهد جديد ترتب بعد زيارة الرئيس الأمريكي ترامب حيث بدأت معه العربية السعودية تشعر بأن ميزان القوى يميل لصالحها بالضد من إيران ومن يتحالف معها متمثلا ببعض فصائل الأخوان المسلمين من مثل حماس الفلسطينية، وجاء تصريح أمير قطر في وسائل التواصل الاجتماعي عن قاعدة العيديد التي تمثل حصانة ضد اعتداءات دول الجوار، وكان يلمح بذلك التصريح للسعودية والأمارات ، ثم جاء تصريحه عن نجاح بلاده في بناء علاقة وطيدة مع إيران. هذه التصريحات والخلاف الأساس المتمثل بصراع المذاهب بين الاخونجية والوهابية مهد وأصبح نقطة الشروع للبدء بحسم الأمور وعزل ومن ثم معاقبة قطر بأشد العقوبات.
 قررت السعودية حسم الموقف وإنهاء أولا المنافسة الإقليمية التي تعمل عليها قطر منذ زمن بعيد وأيضا وجود الأخوان المسلمين الذي يمثل الوجه الخفي للتهديد الأيدلوجي للمؤسسة الدينية والسياسية الوهابية في السعودية.
قطر من طرفها أعلنت عدم استسلامها للعقوبات والتهديدات واستمرار سياستها المعاندة والمناكفة للسعودية وراحت تصعد من تقربها لإيران وتركيا الأخوانية وهناك ما يشير لمساندة باكستان لدولة قطر. ومع هذا التصعيد يبدو أن المنطقة مقبلة على صيف ساخن جدا وشروخ وتصدع في العلاقات الإقليمية  فهل يدفع هذا الموقف المتشنج كلا الطرفين إلى صراع مسلح؟.
مثل هذا السؤال لا يخضع لرغبة السعودية التي تريد الأطباق بقوة على عنق قطر لإركاعها وتحجيم دورها وإبعاد أي دور للإخوان المسلمين في المنطقة. وهو أيضا بعيد جدا عن خيار قطر لو أرادت فك الحصار عنها، فالمشهد برمته لازال تحت سيطرة الأمريكان ويخضع لاشتراطات مصالحهم العليا. فالسعودية وقطر تمثلان بيادق مهمة جدا في رقعة المصالح العليا للولايات المتحدة ولهذا لن تترك أمريكا الصراع ليتحول في لحظة حرجة إلى صراع مسلح، ودخول تركيا على خط الأزمة عقد كثيرا فكرة الذهاب لمثل هذا الخيار . ولكن ربما يثار خيار أخر على خلفية سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وعدم اهتمامها بحياة شعوب هذه المنطقة ورغبتها بإشعال الحرائق في هذا الطرف من العالم ليتهيأ لها الجو لاحتلال أبار النفط مباشرة، عند هذه النقطة ربما سوف تدفع أمريكا لحرب إقليمية بدايتها تكون بين السعودية وحلفائها بالضد من قطر ثم وعلى خلفية تطور الأحداث وقرب الصراع من الحدود الإيرانية وحسب الاتفاق الموقع بين إيران وقطر عام 2010 تمتد الحرب لتشمل دول أخرى في المنطقة ويأخذ الصراع منحا أخر يتمثل في تصعيد النزاع المذهبي ويدخل الإقليم برمته في حرب ضروس لا تبقى ولا تذر .
 



88
المنبر الحر / بوسترات
« في: 14:47 18/03/2017  »
بوسترات


مازلت أتوطن كابوسي


في أحلامي التي لم أدمن تفسيرها.. أغواني العراف إثر المرة الألف ..أن أشي للغربان والصعاليك  عن موضع أساي ووحدتي، فحملوا معاولهم وأهالوا على جسدي كومة حزن أخر.
فشاطرتهم حفل الفجيعة.
ذلك كان يوما أخر.. لم أفكر في اجتيازه أو مغادرته.. أخيرا وضعته في جعبتي وغفوت.. حين استيقظت وجدته جواري ..
 هو يوم أخر مفعم بالأحزان، لم يغادرني بعد أن ارتضاه خوفي...جواري يلتصق مثل حلزون لزج.
 ضجرت، صرخت أن ابتعد.. وضع كفه فوق صدغي فغفوت ..همس في حلمي ..أصمت أيها البائس هذا خيار جسدك .
كانت الشمس تسقط ضوئها مثل جمرات نار.. نز جسدي عرقا  ساخنا حين استيقظت.. كانت كفه تضغط فوق صدغي الناط العروق .
 يوم أخر جاورني لا يرتضي أن يغادرني .. بكيت.
 ومازلت أتوطن كابوسي.




دعوة لكابوس

دعوت لوجبة بكاء مر... فقبلت... فجيعة أعلنوها فكنت أحدهم ومثلهم محرضا عليها، قالوا تعال نسكب الدمع فلسنا غير أبناء بررة لهؤلاء الناس القتلى، كل يوم، عند منعطفات الشوارع.
كانوا حفنة من بشر دون ملامح، يتوارثون المواجع وسط الصخب. لم أدخر شيئا تلك اللحظة فروحي عافت جسدي وأمست معلقة بأرجوحة وجوه الموتى فتناولت منديلي وبكيت.
ضجوا مهللين وهم يرون دمعي المسكوب، صمتوا يترقبون حسرتي وتأوهي فغافلتهم وتسربت مني ضحكة ضاجة.
لم أجد الساعة مخرجا من حزني غير الضحك، فليس في جسدي ثمة شيء يثير الشجون..ثاب إليّ رشدي، فقلقت أن أكون قد أصبت بلوثة .. حملقت بأجساد الموتى وكنت حينها وجلا مرعوبا، أخفيت نشيجي فتورم صدغي وأرتفع ضغط الدم. تلمست ورقة الدعوة فدعكت دمعتي وأخفيتها في جيب سروالي، أخفيتها عدة لأيام أخر ......ربما أذرفها أو أبيعها لموت جديد
كنت أرتجف وجسدي يتفصد عرقا، تلمست ورقة الدعوة/ مرة ثانية.
 ندمت وكنت عجولا حين قبلت الدعوة دون تردد.
صَمتُ وأخفيت صوت بكائي في المنديل.. عندها كانت حدقتا عينيّ تحدقان في الفجيعة البعيدة.
فيزداد ارتفاع ضغط دمي مجددا وترتخي الشرايين في صدغي لتستوعب هديره. أطالع أفقا مغبرا بهيميا تنط منه رؤوس دون ملامح .. رحت في نحيب طويل متواصل، يتساقط دمعي فوق راحة يدي فيبدو زجاجا شفافا.
استيقظت فزعا ولكني تلمست جيب سروالي وتأكدت من وجود الورقة فقد كنت أنتظر دعوة جديدة في يوم آخر أهرب فيها من فجيعتي.. الخاصة.






89
فعالية ثقافية فنية
يقيم منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم واتحاد الكتاب العراقيين في السويد فعالية فنية ثقافية يتم فيها عرض فلم عن حياة الزعيم عبد الكريم قاسم للمخرج سلام قاسم.
يستعرض الفلم حياة الزعيم، النشأة ومسيرة حياته لحين ساعة استشهاده ، ثم يعقب العرض نقاش مفتوح لتقيم العمل التسجيلي وأيضا طبيعة المرحلة وما شابها من التباسات ومجريات ووقائع حياة الزعيم.

تقام الفعالية في الساعة الرابعة من عصر يوم السبت المصادف 18 / 03 / 2017  في منطقة شيستا من العاصمة ستوكهولم وعلى قاعة    BLACKBOX   داخل المكتبة المركزية  الواقعة وسط السوق التجاري ( الكَاليري ).



90
أمسية فنية

يستضيف  اتحاد الكتاب العراقيين في السويد و منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم الفنان التشكيلي الأستاذ عمار داوود في أمسية فنية عن الرسم التشكيلي.
يتمحور موضوع الأمسية حول قراءة الصورة وكيفية التواصل بين المتلقي والصورة من ناحية الشكل والمضمون والطبيعة الكلية لتأثير اللوحة . فعالم الألوان والفن التشكيلي عالم قائم بذاته يمزج بين الحسي والمادي، لذا فإن رؤية اللوحة والتواصل معها أو الغور في طبيعة تعابيرها وسحر مادتها وألوانها، يتطلب منا تأمل خاص وثقافة عامة ومزاج حسي يمكننا من خلاله فهم أهمية وطبيعة اللوحة وتناسق موضوعها . هذا الشيء يمكن أن نحاور فيه الفنان التشكيلي عمار داوود ومن خلال الشرح والحوار نستطيع اكتشاف عوالم الموضوعة وتناسق اللون والظلال ومساقط الضوء وبديع التشكيل في فن الرسم.
سوف يتم دعم المادة بالشرح والرسومات الخطية التحليلية وعرض بعض أعمال الرسم لفنانين من مدارس متنوعة ومن حقب تاريخية مختلفة،مع وجود فسحة للنقاش وطرح الأسئلة.

تعقد الأمسية  الفنية في الساعة الرابعة من عصر يوم السبت المصادف 25 / 02 / 2017  في منطقة شيستا من العاصمة ستوكهولم وعلى قاعة    BLACKBOX   داخل المكتبة المركزية  الواقعة وسط السوق التجاري ( الكَاليري ) لضاحية  شيستا.

وجودكم يسعدنا جدا


91
كارل ماركس في العراق / الجزء الأخير

ــ شنو أجاوزت، وعليمن، تره لوما مصلحتي يم السربوت جبار جان هسه عفتك تفتر أباب الشرجي وترجع تبات بالكَهاوي ويبقى أسمك أستاذ عبد القادر إلى يوم يبعثون.
ــ شكرا لك على كل حال، أعتقد أنك تستطيع أن تفعل ذلك.
ــ  هم ميخالف مقبوله منك، رفيق ميكون خاطرك أله طيب، نص ساعة ونكون بالفندق.
*         *        *
 أقترب من المقهى حافي القدمين بثياب رثة، يداه ملوثتان ويبدو عليه وكأنه يعمل في محل لبيع الفحم أو في كورة حدادة. دنى من طارف التخت جوار عربة طعام أبو عفيفة وجلس ينظر مبهورًا لصحن الطعام الجاهز الموضوع فوق سطحها. التفت أبو عفيفة  نحوه وسأله مباشرة وشبه ابتسامة ترتسم على شفتيه.
ــ ها وليدي جوعان؟
ــ أي جوعان..
ــ تريد لفة.. لو بالماعون؟
ــ بكيفك عمي.
ــ أخليلك عروكَ وبيتنجان لو بس عروكَ؟
ــ بكيفك.
أبتسم أبو عفيفة ابتسامة عريضة وهو يطالع هذا الفتى البائس بشعره الكث ووجه المتسخ، ثم وجه نظره داخل المقهى حيث يقف أبو داود ويجلس قريب منه أبو رجب.
ــ أخليلك خضرة؟
ــ بكيفك. 
ــ أخليلك طرشي؟
ــ بكيفك عمي خليلي كلشي وكلاشي.. الله يخلي بيبيتك فدوه.
ــ عدك فلوس؟
ــ هذي بس.
أخرج من جيب ثوبه ورقة نقدية إيرانية. ضحك أبو عفيفة وراح يجهز الطعام، وبين لحظة وأخرى يخطف النظر نحو الفتى الفقير، الذي تعلقت عيناه بيد أبو عفيفة وهي تهيئ الطعام، ناوله قطعة رغيف كبيرة في داخلها مثلما طلب كلشي وكلاشي، فاخذ الفتى يلتهمها بشيء من العجالة. فجأة نادى أبو عفيفة على صاحبه أبو رجب.
ـ أبو رجب.. أبو رجب حبيبي.. تعال.. تعال،رحمه الذاك الأب، هذا هم الك عرف بيه مثل أستاذ عبد القادر.. دتعال بلجي هذا هم اله نصيب يمك.
جاء أبو رجب مقطب الوجه يتحدث بعجالة وبشيء من الغضب .
ــ أبو عفيفة أي هسه صارلك أسبوع أتصجم.. يزي عاد..تره أزعل والله.
ــ تزعل على أخوك ، خوش والله هاي الجانت مرجيه منك.
ــ لعد شنو قصدك.. قابل جنت تريدني أحط أبأيد استاد قادر سناسل؟
ــ لا، بس أعرفك أدور ثواب من المخابيل.
 ــ هم ميخالف مقبوله ..اشكرك هوايه هوايه، هاي المرجيه منك.
ــ هاي شبيك روحك زغيره اليوم.
ــ وأنته اليوم جايك الواهس وتصجم وتضرب بسامير.
ــ قصدي أتلاطف حبيبي.
ــ تتلاطف مو؟  شنو انته حسبالك رجعو أستاد قادر للسجن لو للشماعية.
ــ هسه لو تاه لو رجع الأهله شنو طب بجيسنه ؟ أشو شهر من أجه يمنه وفرحنه بي، وفجأة كَلب وراح مثل فص ملح وذاب.
ــ أغاتي أبو عفيفة شنو قصدك كَلب وفص ملح وذاب ؟
أطلق أبو عفيفة ضحكة صاخبة جلبت انتباه رواد المقهى ونادى بأعلى صوته
ــ هاي هم خوش والله،  تعال عيوني أبو داوود، تعال شوف أبو رجب هم تيه الحجي وكَام يسأل شنو ما شنو؟
جاء أبو داوود ليلتحق بهم وراح ينظر بدهشة نحو الرجل الفقير وفجأة قال وهو يهز يده يمينا وشمالا.
ــ واي واي، أني أحسنلي أعزل الكَهوة .
ــ ليش عيوني أبو داوود، ليش شنو صاير؟
ــ صارت السالفة ماصخة، الكَهوة صارت تجمع للمخابيل .
ــ أي لعد شلون، مو شبيه الشيء منجذب أليه.
عند تلك الجملة راح الجميع في نوبة من الضحك والمزاح. نهض الرجل الفقير من مكانه وفغر فاه وبدأ بموجة ضحك هستيري وتصفيق أجبرت الرجال الثلاثة التوقف والنظر أليه بدهشة.
ــ مستوي حيل ..الله يخليه، ما يحتاج ..نكَره سلف..عفيه وليدي عفيه.
ــ تره مو بس هو ،وربك المعبود، الكول مستويه.
ــ بس جان استاذ قادر مو بشكل هذا، شوية أوعى و حجيه مرتب وموزون.
ــ بس جان نوبات  يخربط بالحجي جنه مثل الأجانب، الولد يسوي ابنيه والبنية يسويه ولد، ويسأل هوايه.
ــ هسه موزين طلع بهجي حالة، هو جان اليطب يم ذولاك بذاك العهد صدكَ جذب جان يطلع عدل؟
ــ الله يذكرك بالخير أستاذ قادر ما أدري شنو صار وياه. وشحل بيه الدهر؟
ــ وضعه كلش زين ومنشنش .
 قال أبو رجب ذلك وهو يسحب نصف رغيف من تحت غطاء القماش الذي يحفظ أبو عفيفة أرغفة الخبز والصمون داخله.
ــ أي قادر وضعه كلش زين ومرتاح ومنشنش،هاي عرفناهه، بس أروحلك فدوه،أريد أعرف، عود الخبز مالتي شعليه؟
ــ أبو عفيفة فلوسك تلكَاهه يوم القيامه.
ــ أي أقبض من دبش مو؟
ــ أخويه أبو رجب أنته متأكد من سالفة كَرايب استاذ قادر، أخاف الرجال راح بين الرجلين بهذا الوكَت الما يتأمن؟
ــ لا يابه ماكو هيج شيء، البارحة الجمعة مو كَدامك أبو داوود، ما سمعت شنو كَالي سامر، أنو واحد أجه يمهم بالمظاهرة مال ذيج الجمعة، لمن طلع ويانه قادر.. وهذا الرجال كَال هوه كَرايب قادر، وبوسه لعبد القادر وشبكَه،وكَال راح يوصله الأهله هل أيام، وبعدين سامر يكَول الرجال ترخص مني وكَال القادر تجي وياي، وقادر جان فرحان كلش، والرجال أخذه وياه وقادر برضاه وجان مرتاح، راح ويه كَرايبه.. أصلا يكَول سامر أنو كَرايب استاد قادر جانت عنده سياره من هاي الحديثة ألي تخرع، سوده مظللة وموديل هل سنه..  بعد شنو أريد اسوي وياه.. الله يحفظة ويسلمه ويشافيه ما طول لكَه أهله.
ــ أي آني سمعته السامر من حجالك، بس شو ما صدكَته ما أدري ليش؟ هذا أصلا مو راحه، وأني خايف تره بهذا الوكَت ولد الحرام هوايه، أخاف هذا شافو مخبل أخذو وراحو ودو  لهذولة العصابات الياخذون الجلاوي والمشاوي لو ياخذون واحد من أعضائه، لو يفخخوه و يستعملوه بالتفجيرات.. الله يستر.
ــ هاي شلك بيه يمعود أبو عفيفة، فال الله ولا فالك ..تره بسوالفك هاي تمرد كَلبي مرد.
ــ لا والله أخويه أبو رجب مو قصدي آذيك، وأسال الله أن ينجي استاذ قادر..بس أني كَلبي يلعب من هذا أبو كفشة المنفوشه سامر.
ــ أبو عفيفة، أني أدري ليش.. لأن انته تكره هذوله الشباب جماعة حرية حرية دولة مدنية.
ــ لا والله مو هيج.. آني ما أكرهم..هذوله ولدنا.. بس أشوف ديتعبون نفسهم وماكو نتيجه، وطوخوهه ومصخوهه..وسالفتهم ما بيه فايده، والناس تريد السالفة تستوي بالعجل،ما بقه عده صبر.
ــ أذا ما عده صبر لعد شنو تنتظر.. ربك ينزللهم بالزنبيل؟
ــ وربك المعبود تره البلحكومة رايحين بفالهم وينفذون بس ألي براسهم ، وما يهمهم كلشي، وخلولهم أذن من طين وأذن من عجين.. دعوفنا من هاي السالفة.. هسه يعني ما راح تتعرف على هذا المسكين؟
ــ شلك بهذي السوالف أبو عفيفة مو كَتلك،  تره والله أزعل عليك.. هسه تقبل أدفع حساب أكل هذا الفقير لو تريد تحصل الثواب لوحدك.
ــ عنده تومانات.
ــ شنو راح تاخذهن منه؟
ــ ليش أخويه أبو رجب.. أشفتني.. جنت أخذ من استاذ قادر؟
ــ لا والله أخويه والنعم منك..وكَفاتك وياه جانت كلش حلوه.
ــ أبو رجب هذا المسكين ذكرني بأول يوم أجه استاذ قادر هنا، كَعد بنفس المكان وجان يباوع مثله، وهم جان جوعان.
ــ أبو داوود تره هاي الدنيه.. كثرو بيها  المجادي والجوعانين والبطالة والعطالة والمخابيل. وغيرهم بذيج الصفحة يربون كروش وياكلون ويشربون ومبربعين بالفلوس.. الله لا يوفق كلمن سعه بهذا الصار بالعراق.
ــ الناس راح تتخبل من هذي الاوضاع.
ــ ابو عفيفة، ليش أحنه منو بقه بينا صاحي.. أشو كلنا نحتاج علاج نفسي.
ــ أي ولله  أبو رجب كلنا أطباكَات والحمد لله.. هو ألي شافه وديشوفه العراقي قليل، والله الصار بينه وديصير، لو بغير ناس جان ما بقو على وجه البسيطة..
ـــ صحيح والله.. الله يكون بعون العراقيين.
ـــ صدكَني أبو رجب آني حيل حيل  مشتاق الاستاذ قادر.. تعودت عليه. تره ما جان يبين عليه مشخوط.
ــ والله آني بشكلك مشتاقله،وأني أحبه كلش،وألي وياه ذكريات من جان استاذ، تصور البارحة شفته بالحلم جن كَاعد بوسط حديقة جبيره، لابس قاط ومتهندم وشعره مسفط ولا بس مناظر. مريت من يمه جان يكَوم وأجه وسلم عليه وصافحني وسأل عليكم حيل.. بعدين كَالي أترخص منك أبو رجب أروح، تره الطلاب ينتظروني،بس كَبل ما يروح حجه حجايه حلوه، كَال تره العراق حتما ما يبقه بهذا الحال ، ولا بد يصير زين ويتقدم بقدرة وقوة وتصميم أهله، أو وصاني أستمر بالمظاهرات والمطالبة بالإصلاح . كَعدت من الحلم ما أدري ليش فرحان.. كون على ثقة أبو عفيفة جانت الناس تحلف براس أستاذ قادر... ربي بجاه كلمن عده جاه يمك، ينسعد ويتشافه ويرجع الأهله سالم غانم.
ــ أمين رب العالمين... ها عمي تريد بعد لفه؟
ــ أي عفيه حباب ينصرك الله على البنات.
ــ هاي شنو يابه ؟معود كَول غيره ، هاي السالفة منين لكَيته؟
وبضحكة ضاجة قال أبو داوود.
ــ هذا عقدته تختلف عن عقدة استاذ قادر، تره ياجماعة كل عراقي وعنده عقده خاصة بي.
ــ أي نعم،  مثلا عقدة أبو رجب من يوصل يم العربانه، لازم يهلس نص كَرصة خبز.
اشاعت مزحة ابو عفيفة الضحك والمرح بين الجميع .
ــ ضحك خير ربي وشره على المايحب الخير للناس.
ــ الله يكون بعون الناس ويمتعهم بالسلامة ويرجع الغايب الأهله ويشافي كل مريض ويفرج كربة المظلوم والمهضوم  ويطيهم الآمان والعافية.
النهاية
فرات المحسن
ستوكهولم
f_almohsen@hotmail.com
03 / 01 / 2017


92
كارل ماركس في العراق / الجزء الخامس والثلاثون

ــ يابه والله وداعتك والخوه والروح الرفاقية،  القصة الحجاهه ألي لو بس تسمعه، رأساً تصدكَ بي.
ــ يمعود أنته متأكد من عنده هو مو غيره؟
ــ أستاذ جبار نعم حيل متأكد، ومن انته راح تشوفه ويسولفلك قصته راح تتأكد مثلي.
ــ متنطينياه مرة لخ أحجي وياه.
قدم سامر جهاز الهاتف  إلى ماركس طالبا منه التحدث مع جبار .
ــ أستاذ جبار يريد يحجي وياك .. يعجبك تحجي وياه لو ميعجبك؟
لم ينتظر ماركس أن يجيب على سؤال سامر وتلقف الهاتف بسرعة قائلا.
ــ نعم رفيق جبار؟
ــ عزيزي أرجوك لا تناديني برفيق،  فقط كَول أستاذ جبار فالمسالة حساسة أرجوك؟
ــ حسنا أستاذ جبار مثلما ترغب .
ــ تكَدر تحجيلي وتوصفلي شلون جنت بمكان الاختطاف وشلون حالنه هناك؟
راح كارل ماركس يصف لجبار كيف تم اختطافهم وحال الغرفة والبستان وغرفة أبو بشير ومرتزقته وساقية الماء والتنور وليلة قرصات البعوض وحلم جبار بمحاولة رميه في النهر وعندما وصل ماركس لكلمة قزولقورت. صاح جبار بأعلى صوته وبفرح.
ــ أنطيني سامر بسرعة رفيق، أنطيني سامر.
ناول ماركس الهاتف لسامر وكانت ابتسامة عريضة ترتسم على وجهه الذي تحول إلى ما يشبه عرف ديك بلونه الأحمر القاني .
ــ نعم أستاذ جبار العزيز أخويه الورد. 
ــ أخذ تكسي هسه بسرعة، وأخذ وياك العزيز ماركس للفندق، أو وصي أخويه رضا إذا شفته، لو العمال هناك حته يعتنون بيه. كَللهم وصية جبار، يوفرون أله غرفة زينه وكلشي يحتاجه، أخوي أخوي سامر ما وصيك أدير بالك عليه، وأني بعد ساعتين أنهي الاجتماع بالوزارة وأجي عليكم لهناك... خوش أخويه ما وصيك مره لخ بماركس تره هذا صاحبي بوكت الشده والضيكَ.. ما أوصيك سامر الورد ما أوصيك.
ــ أنته تأمر أمر أغاتي أستاذ جبار.. ميصير خاطرك أله طيب. الله وياك محروس عيوني.
أغلق الهاتف والتفت نحو ماركس قائلاً.
ــ عيوني أنته هسه خشيت بالعصر الذهبي.. وآني همين بلكت يصيرلي فد شي ويه صاحبنا سيد جبار وتنزل رحمة الله تهلهل علينا، شفته شلون من سمع بيك يمي، تخبل طار من الفرح.. هو جبار تره هم بشكلك تحريفي .. أكَلك أستاذ ماركس أريد أحجي حجاية بس لاتزعل وهمين مو تروح و تنقله للرفيق جبار.
ــ تفضل تكلم.
ــ يعني لو هسه أخطفك وأطالب جبار بفدية  عنك.. تتصور راح ينطيني لو يغلس الحباب..
كان ماركس يتجنب النظر إلى سامر ويشغل نفسه بالتطلع نحو المتظاهرين ولكنه في نفس الوقت كان منتبها لما يقوله أو الأحرى ما يهذر به سامر من كلام.
ــ شفت شلون صاير جبار سيد أبن رسول الله من بيت الساده آل مطورد، راح ناخذ تكسي على حساب السيد. شتكَول رفيقي العزيز لو أفرك أبغداد فد ساعة ساعتين تشوفه للولاية مالتنه زين وتشبع منه كَبل ما ترجع الأهلك.
أطلق ضحكة مدوية بوجه ماركس الذي لم يجاريه بفرحه، ولم يكن على استعداد لقبول مثل هذه المزحة السمجة، وجهه كان مقطبًا شاحبًا، يفكر بأنه لن يجد راحته قبل أن يلتقي بالرفيق جبار، رغم سماعه لكلماته الترحيبية الفرحة وضحكاته  التي كان ينقلها الهاتف بشكل واضح حين كان سامر يبعد السماعة عن أذنه متعمدًا ليقربها  من ماركس.
كان ماركس يتسقط بنظراته حشود الجماهير وهو يبتعد مع سامر خارج  ساحة التحرير.جموع غفيرة تصرخ وتهتف بملء حناجرها وتلوح بالأعلام، ويبدو الإصرار رغم التوتر هو السمة والطابع الظاهر على هذه الجموع. شيء حسن يبعث على التأمل والأمل، أنهم يشنون حربا لتحطيم قيم وقواعد وقيود خلقها وفرضها أصحاب السلطة، ولكن يا ترى هل تستطيع هذه الجموع كسر تلك القواعد والاستحكامات للنخب الحاكمة. لم تكن حشود الجماهير بأعداد كبيرة ولكن يبدو عليهم الإصرار والعزيمة وهذا هو المهم، وليكن هذا سلاحها في المواجهة.
كثير من الغرابة والتناقضات في هذا البلد، وكأن هناك مخاض لصناعة وطن غير الذي هو عليه الآن .ولكن الغريب أن أكثر الأشياء والأفعال دائما ما تأخذ منحى العنف والعدوانية وتطغي عليها الأنانية عوضا عن المحبة والتسامح والألفة. المظاهر الطاغية على الفرد وحتى المجموع متوجهة بشكل غريب نحو تمجيد الماضي، وكقواعد وسلوك عام فذلك من يتسيد المشهد اليومي، وتكون محاكاة الماضي قاعدة وسلوك يومي ومعيار لقياس العلاقات وسير الأحداث.ولكون الماضي والتقليد يشكل الغالب في حياة الناس فحالات التوتر تكون شائعة في البنية الاجتماعية، ومن خلال ذلك يستمر المجتمع في خلق وسائل عديدة لتعزيز التقليد وكبت حركات التغيير والمطالبات الجماهيرية بالإصلاح. ربما كانت تلك قناعتي أو هناك متغيرات ووقائع لم استطع اكتشافها أو الوصول أليها، فبات فهمي لهذا المجتمع قاصرا، ولكن مثل تلك التظاهرات الجماهيرية في المدن العراقية حتما سوف تخلق أجواء جديدة وتكون نواة لتغيير قادم، فمن غير المعقول أن يستمر الوضع على هذا الحال الذي تفرضه النخب الحاكمة ومافيات السوق.
ــ ها رفيق ماركس، أشوفك رحت بدالغة جبيره وانته تباوع لجماعتنه؟
ــ نعم دائما ما تبدأ الثورة ببؤرة صغيرة ثم تتسع.
ــ رفيق من حلكَك الباب السمة.
ــ شنو حلكَك وأي باب لهذه السماء؟
ــ رفيق أنته لو مسجل ما سمعته من سوالف وكلمات وأمثال، وما شفته من أحداث بالعراق وبعدين كل هذا أطبعه بكتاب وبعنوان صارخ،  كارل ماركس في العراق،  يابه بعرضي راح الكتاب هذا يثير ضجة  بالعالم وخاصة هو بأسمك، وينوضع يم كتبك، العمل المأجور وراس المال لو حول المسألة اليهودية وغيرها، يابه وروح خالي،  ميه بالميه انته من وراه راح أتألف وتصير برجوازي . وبالعراق أسألني أني، ناسي وأعرفهم زين، يكيفون لو واحد  يسولفلهم عن الأمثال والعبر والدكَايكَ والفاينات العراقية، أحسن من سوالف الاقتصاد وجنجلوتيات البحوث والدراسات ؟   
ــ أرجوك سامر فلنبتعد ونذهب إلى حيث قال الرفيق جبار.
ــ يمعود هاي شبيك كَالب وجهك، موزين راح تلتقي بأحد أقطاب الحركات الثورية العالمية  رفيق جبار آل مطورد.
ــ أرجوك سامر لقد تجاوزت كثيرا، دعنا نذهب حيث طلب جبار ذلك.
ــ شنو أجاوزت، وعليمن، تره لوما مصلحتي يم السربوت جبار كان هسه عفتك تفتر أباب الشرجي وترجع تبات بالكَهاوي ويبقى أسمك أستاذ عبد القادر إلى يوم يبعثون.
ــ شكرا لك على كل حال، أعتقد أنك تستطيع أن تفعل ذلك.
ــ  هم ميخالف مقبوله منك، رفيق ميكون خاطرك أله طيب، نص ساعة ونكون بالفندق.



93
كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع والثلاثون

طال الوقت مع رنين الهاتف دون رد. أغلق سامر الهاتف وأشعل سيجارته وارتشف منها بقوة .
ــ كلهم نفس الطينه،ولد الركَاع..  تكَول حسبالك أولاد شاه نشاه لو إمبراطور اليابان ولد الق... استغفر الله.
ــ ألم يجيب..؟
ــ لا ما د يرد على التلفون.
ــ يجوز بعيد عن الجهاز لو مشغول.. حاول مرة أخرى.
أعاد سامر الكرة وضغط على أزرار جهاز الهاتف وراح يستمع لرنينه البعيد.
ــ ألو.. ها سامر.. أهلا شلونك.
ــ هلو ورده أغاتي شلونك شلون العائلة والله مشتاقلك كلش، ولو آني أدري أنته مشغول، بس حبيت أسلم عليك، ذاك اليوم أجيت للفندق بالعرصات كَالولي بالفندق ألاخ ألي بالمنصور.. بقيت شويه وتغديت يم الجماعة وهمه ما قصرو.. حبي رضاوي  الورد رحمه الذاك الأب الطيب ألف رحمه ونور عليه بهذا يوم الجمعة المباركة، أكَدر أحصل تلفون الحبيب جبار.
ــ شنو اليوم بيها حبيب جبار لازم أكو شي.. كَلي بلكي أكَدر أساعدك؟
ــ لا والله ماكو شي بس ردت أسلم عليه، خوب ما تبقه علاقتنه مكَطوعة بهلشكل وأحنه أصدقاء ورفاق من زمن طويل، واليوم حلمت بي حلم قوي، وكَلت لازم أحجي ويه أخويه الحبيب.. من كل ولابد.. داد صدقه للوجه الحلو أريد تنطيني تلفون جبار. خوب أنته متضوج من أخوتك يتصالحون.
ــ لا أخويه بالعكس.. ليش اضوج.. تدلل، والله صحيح جنتو أصدقاء وحبايب وجماله رفاق بطريق واحد. واليمشي بدربنه شيشوف لو طركَاعه لوعندك الحساب مو هيجي الحجي.
ضحك سامر ضحكة طويلة ثم راح يسجل في هاتفه رقم تلفون الرفيق جبار الذي أعطاه إياه رضا. وبعد أن أغلق الهاتف مع رضا قال لماركس.
ــ هسه تمام رفيق ماركس لو شعراية من جلد خنزير لو بح.
ــ أما ضجرت من ترديد الألغاز.. أي خنزير هذا وأي بح؟
ــ قصدي لو نطلع بنتيجة زينه ويه ابن المهلوس الرفيق جبار، لو يعنفص علينه وكلشي يضيع ومنحصل منه كل نتيجة، وتبقى أنته تفتر بسوكَ باب الشرجي لحين يقضي الله أمرا كان مفعولا.. تعال رفيق ماركس تعال نروح نكَعد فوكَ ذيج المصطبة.
ذهبا وجلسا هناك. كان ماركس يراقب حركات سامر وينتظر بفارغ الصبر أن ينهي ثرثرته ليتصل بالرفيق جبار. سحب سامر سيجارة أخرى وأخذ ينفذ الدخان ويقلب بيده جهاز الهاتف دون أن يقدم على الاتصال بالرفيق جبار، بل فضل أن يسبق اتصاله بالحديث عن الخصال السيئة التي يتمتع بها الرفيق جبار، كان الحماس ظاهرًا عليه وكأنه يتحدث عن عدو  لئيم لا يملك من الصفات إلا سيئها وأقبحها.
ــ ألا تتصل بالرفيق جبار؟
ــ نعم سوف أتصل.. من كل ولابد أتصل. بس دا أفكر شنو أحجي وياه، وبس لا هذا الانتهازي القذر أخاف يسد التلفون بوجهي؟
ــ بدون أي مقدمات قل له بأنك عثرت على كارل ماركس، وأني أجلس جوارك الآن، عندها نرى ردة فعله. هيا يا رفيقي فقد عيل صبري ما الذي تنتظره.. أرجوك.
ــ أو كي حبيبي راح أتصل بس تره أنته لا تتفاجئ.. تره آني أعرف النتيجة ويه هذا.. شايف نفسه شوفه أكثر من كَبل بألف قاط.. وهسه ينكر الأول والتالي.. أعرفه آني قاري وكاتبه ومفلسه تفليس.
ــ مهما يكن أرجوك أتصل به ولنرى حقيقة الأمر.
ضغط سامر على أرقام الهاتف وراح ينتظر، لم يطل به الوقت حين جاء صوت جبار من هناك.
ــ ألو تفضل وياك سيد جبار آل مطورد.
ــ مرحبه رفيق جبار آني رفيق سامر.
ــ أهلا وسهلا بسامر.. هاي شنو أشسامع اليوم صار تلث تشهر ما سامع صوتك.. سامر  بعد لتكَول رفيق ولتسولف بذيج السوالف.. الرفيق راحت ويه الرفيق الجبير.. أوكي سامر.. تفضل شنو تريد.
ــ ماكو شي حبيت أسلم عليك وأسال عن صحتك.. خوب ما يطول زعلك علينه، وأحنه أخوتك ونحبك حيل ونحترمك.. أنت جبيرنه وكَلبك واسع تتحمل غلطاتنه وسوالفنه التعبانه.. مو هيج رفيق.
ــ مو كَتلك عوف كلمة رفيق.. تره اذا كررتها راح أسد التلفون زين.. كَول   شنو عندك  شتريد.. تريد تروح تبات بالفندق.. بعده أم عشتار ما تريدك. هسه أخابرلك رضا خلي يبيتك هناك.
ــ لا أستاذ جبار آني هسه رجعت يم أهلي وعفته لأم اعشتار هينوب، بعد صارت العيشه وياهه صعبة.. بس أكو شغله أتهمك كلش ردت أحجي وياك بيه.
ــ كَول شنو هيه الشغلة؟
ــ يمي واحد لا زم أنته تعرفه وهو يريد يحجي وياك.
ــ جيبه أنطينياه، تره ما عندي وكت، ولازم أطلع يلله بسرعة.
استلم ماركس الهاتف النقال بقلب وجل يخفق بسرعة، وكأن الكون كان يرتج مثل شجرة جوفاء في ريح عاصف. كل شيء يبدو معلقا بكلمة تصدر من الرفيق جبار، وأن هذه اللحظة الصارمة القاسية من عمره هي اللحظة الحاسمة وهي حد السيف القاتل الذي سوف يشطر العمر لمرحلتين.
ــ ألو رفيق جبار أنا الرفيق كارل ماركس.
ــ منو ..شلون منو ؟
ــ أنا كارل هيانريش ماركس.
ــ يمعود هذا شلون حجي؟ أنت وين يا رجل، وشلون وصلت هنا؟ وهسه أنته يمن.. أطيني سامر.. أطيني سامر.
وبشيء من الفزع الذي دب فجأة في قلبه ناول ماركس التلفون إلى سامر وهو غير مصدق بأنه تحدث مع جبار.. ظهرت ابتسامة طفولية على وجه سامر وهو يأخذ جهاز الهاتف.
ــ ألو عيوني أستاذ جبار..
ــ لك هذا صدكَ كارل ماركس صاحبنا؟  لو خاف هاي وحدة من دكَاتك العوجه؟
ــ  أفه رفيق لا وروحه الوالدك العزيز هذا صاحبنا نفس الخشم والحلكَ والعيون، ولو شعر راسه خفيف وما عنده لحية بشكل ذيج لحيته مال كَبل.
ــ أي موكَتلك بلا رفيق ..شنو شعر راسه خفيف شنو ما عنده لحية؟
ــ رفيق جبار هو يكَول عصابة أبو بشير زينو راسه ولحيته وعذبوه.
ــ شوف سامر أذا تستمر بكلمة رفيق فراح أسد التلفون وخلي ماركس مالتك هذا  يدفعلك فلوس العشه. بعدين أني أعرفك زين أنته تبقه على نفس ذبتك مخبوص ومتطير، وهذا الماركس مالتك لعب عليك وانته صدكَت بي؟
ــ أستاذ جبار دا أكَلك وروحه الخالي هو نفسه.. لو بس تشوفه؟
ــ سامر حبيبي، تره أني أعرف أنته ما عندك خال ميت، غير واحد مات وجان عمره ست تشهر يعني بالكَماط  فلا تسوي عليه داور كيسه وتبيع فيكات؟
ــ يابه والله وداعتك والخوه والروح الرفاقية، القصة الحجاهه ألي لو بس تسمعه تصدكَ بي.
ــ يمعود أنته متأكد من عنده هو مو غيره؟


94
كارل ماركس في العراق / الجزء الثالث والثلاثون


ــ منو ...منو؟
ــ أنا رفيقكم كارل ماركس الذي استقبلتموه عند أول دخوله بغداد، وفي اليوم الثاني جلسنا في فندق رفيق جبار وقد تكلمت أنا في موضوعة المجتمع والماركسية الجديدة، أثارك موقفي ذاك، وكنت متوترًا جدًا وطلبت مني الاعتذار عما ذكرته، وقلت بأن الماركسية الكلاسيكية هي منهجكم وطريقكم، واتهمتني بالردة والتحريف، حينها قال لك الرفيق جبار بأنك تثير المشاكل وبدأ الخصام بينكم، وأنت أخبرته بأنك تحملت رفقته لأكثر من عامين وأنك لا تعترف به رفيقا لك، واتهمتني بأني لست كارل ماركس الحقيقي وإنما شخص آخر تحريفي، وكانت ردة فعلك شديدة وعنيفة حين هددتني وأنت تخرج من قاعة الفندق مع مجموعتك بعواقب وخيمة وسوف تطلعوني على الماركسية الحقيقية.
نظر سامر بتركيز شديد إلى وجه ماركس ثم ضغط على صدغيه وهز رأسه وكأنما يريد أن ينفض عنه شيئًا ثقيلاً علق به، ثم أطرق نحو الأرض، وبعد لحظات رفع عينيه ليغرزهما بوجه ماركس ثم أمسك كتفه وراح يخضه بهدوء وهو يصرخ بسرور وفرح طفولي تجلى في بريق عينيه السوداوين.
ــ ياربي.. ياربي هاي شلون دنيه.. افترت ودارت.. ورجعت ليوره.. والله صحيح هذا الخشم عرف ومو غريب وهاي الكَصة نفسها.. هاي انته وين جنت.. منين أجيت.. وهاي منو هلس شعرك ولحيتك ؟
ــ حين كنا مختطفين عند عصابة أبو بشير وبعد إطلاق سراح رفيق جبار عُذبت كثيرًا وقام أبو بشير ومرتزقته بحلق شعر رأسي ولحيتي.
ــ تعال.. تعال.. تعال ورايه خل ننزل بحديقة الأمة هناك نكَدر نتفاهم أحسن.
كان زحام الجماهير على أشده وهتافاتهم تتعالى لا يستطيع المرء التمييز والتعرف على ما يردد فيها، مجاميع تشتم وتقذف بالأحذية نحو صور لشخصيات لم يسبق لماركس مشاهدتها، وهناك مجموعة كبيرة أخرى تستمع لخطاب يقرأه رجل رشيق القامة بشعر فاحم عكش يعتلي منصة نصبت أمام الساحة، ومجموعة أخرى ليست ببعيدة ترفع لافتة خط عليها شعار كبير، باسم الدين باكَونه الحرامية،  لم يجد ماركس في جعبته ما يفسر الكلمة الوسطى، ولم يهتم للأمر بشكل جدي، فكثيرا ما كانت ترد كلمة باكَونا على أفواه العراقيين ودائما ما وجدها قد أصبحت لازمة عند البعض في أثناء أحاديثهم دون أن يسألهم عن معناها.
  تابع سيره وسط الزحام ليلتحق بسامر الذي سبقه وكان يقتحم المتظاهرين بقوة وحيوية وكأنه تيس ماعز ضخم. هبطا سوية السلم المفضي إلى وسط الحديقة بعد أن اجتازا العربة العسكرية التي كانت تقف تحت الراية الخرسانية، تاركين ورائهم الجماهير الصاخبة وهي تهتف مطالبة بالإصلاح والبعض منها يطالب بإسقاط الحكومة. أمسك سامر ماركس من يده وتنحى به جانبا نحو زاوية بعيدة من الحديقة.
ــ هاي شلون..أوين أفتر بيك الدهر يمعود تعال أحجيلي شنو القصة؟
ــ حكاية طويلة سوف أرويها لك لاحقاً.
 ــ لعد أني خبرني رضا أخو الرفيق جبار بأن العصابة أطلقت سراحك بعد ما أخذت الفدية من السفارة الألمانية.
ــ أي سفارة وأي فدية.. لم يحدث مثل هذا الأمر وإنما الشرطة من أطلق سراحي بعد فترة من خروج الرفيق جبار بعد أن دفع لهم أخوه مبلغ السبعة آلاف دولار فدية عنه.
ــ سبعة آلاف دولار!؟
ــ نعم سبعة آلاف دولار اتفقوا عليها ولذا أطلقوا سراح الرفيق جبار.
ــ ولكن رضا أخو الرفيق جبار كَلي دفعنه سبعين ألف دولار.
ــ مثلما أخبرتك الآن وهو الذي حدث أمامي في ذلك المكان.
ــ مو غريبة كلهه أتطير أفياله!
ــ كيف يطير الفيل، شيء غريب؟
ــ رفيق ماركس بالعراق كلشي ممكن ولا تستغرب.. الطلي يلعب شناو.. الديج الهراتي من الخوف ينرعص ويكَوم يعوعي بنص الظهر.. الواوي يصادق الدجاج.. بالعراق كلشي يصير وكلشي يطير.
ــ رفيق سامر لا أريد أن أعرف شيئًا عن الذي تتحدث عنه.. المهم كيف أستطيع الوصول إلى الرفيق جبار؟
ــ ولو ما اريد أجذب عليك وأنته رفيقنا الجبير، من يوم تعاركنه أنه وياه بيوم ندوتك.. انكَطعت علاقتي بجبار،  أو وراكم تفلكش وخرب كلشي بحزبنه، بس بقت عندي علاقة بأخوه رضا، علاقة قوية لأن رضا خوش ولد حباب وفقير، ومرات شويه يساعد، رجال سخي، وهو سولفلي كولشي الي صار بيكم. وهذا الي تسميه هسه رفيق جبار.. وره ما طلع من يمك رجع متخبل وصار طباكَات.. أو وره شهر كَلب عكرف لوي على حزبنه، وكَام يضرب ركعة، وجوه كَصته بالبيتنجان.
ــ وما معنى يضرب ركعة وجوه كَصته؟
ــ يعني يصلي ويقشمر بالناس على أساس هو متدين ورايح بالدين للوحة..وكَصته صارت سوده من هلكَد يصلي.. وتخشخش ويه الجماعة المتدينين ألي بالحكومة، وأتعين بمركز مهم بوزارة الخارجية ومن ذاك الوكَت أربع سيارات جسكاره تودي وأربعه ترجعه وحرس أباب بيته.
ــ أرجوك رفيقي سامر أفصح جيدًا عن حديثك فما عدت أعرف ما تعنيه.. رايح بلوحة وتخشخش وسيارات جسكاره.. ماذا يعني كل ذلك؟
ــ ملخص الكلام، خلال جم يوم، صار الرفيق جبار متدين ومن جماعة الحكومة، ورأسًا عينوه بوزارة الخارجية بمركز حساس، لأنه عنده شهاده ويعرف لغتين.. وكَرايبه هم جبير بحزبهم.. يعني جبار فد شي جبير بالنسبة لجماعته الي صار منهم.أصلا حته سالفة الاختطاف استغله وحصل من وراه شي جبير.
ــ ما الذي تعنيه؟
ــ يكَولون سواه على اساس اختطاف طائفي وبسبب موقفه الديني وعلاقاته ببعض رجال الدين من طائفته ..لتكَلي ولا أكَلك سواها كَولبه،وصارت صدكَ ،  تكَول جانو خاطفين نلسن ماندلا مو جبار أبو العقد المرعوص.
ــ ماذا اكلك وماذا تكلي ..إلا تنتهي هذه الكوارث والعقد اللغوية؟
ــ حقك ابن عمي ماركس ..العفو رفيق ماركس ؟ ولا يهمك نرجع لصلب الموضوع.
ــ المهم كيف نستطيع الاتصال به والوصول اليه؟
ــ الحقيقة.. رفيق ماركس تعرف.. هو بدل تلفوناته واتغيرت أحواله وما كَام ينشاف.. بس علاقتي بأخوه رضا استمرت وكلش زينه،  يمكن نكَدر نحصل من عنده على تلفون جبار ونحاول الاتصال بيه.
ــ ليتك تفعل هذا الآن.. أرجوك دعني أحادثه.
ــ أي هسه خليني أحصله وبعدين كولشي يصير.. إذا حصلناه أو وافق يشوفك كون على ثقة أعتبر نفسك وصلت للمكان الي تريده.
ــ أيعني ذلك عودتي إلى لندن؟
ــ نعم، رفيقك سابقًا جبار وحاليًا مولانا جبار، بين يوم والثاني يروح خارج العراق، ويكَدر يسويلك جواز سفر ويطلعك وياه.. هذوله عدهم كولشي سهل مثل شربة بطل ببسي ويجرون وراه تريوعه طويله.. من كثر ما شابعين ومبربعين بالنعمة والناس جوعانه. خل انحصله هسه وأذا وافق يقابلك خير على خير.. أعتبر مسألتك أنحلت وميك بالصدر والهوه بظهرك عدل وكَبل اللندن .. بس كون يشيل التلفون وأخاف يكَلب ويرفض يحجي ويايه وحتى وياك، تره هو نحس أعرفه أبن المداس حيل نحس وشايف نفسه شوفه.. على كل حال نتصل بأخوه رضا أولاً حته نحصل تلفونه، وشي هم حلو، بلجي هم بواسطتك وترجع علاقتنه آني وياه وشويه نستفاد منه لهذا اليابس الانتهازي اللوكَي.
كان ماركس ينظر إلى سامر بغضب ويجبر نفسه الاستماع لثرثرته، وهو لا يملك حيال هذا الآمر ما يجعل سامر يكف عن الثرثرة والشروع مباشرة بإنجاز ما يرغب به ماركس. وترسخت في ذهنه القناعة بأن مثل شخصية سامر لا يمكن لها أن تكون ثورية وقيادية في مجال عمل ما،أي عمل كان، وهو هامشي وفوضوي ومخادع، فكل شيء فيه يوحي بالتطير والعجالة وكذلك الوصولية. المهم يريد ماركس منه أن ينجز مهمة إيصاله إلى الرفيق جبار، وليذهب سامر بعد ذلك أين ما يذهب.
ضغط سامر على أزرار هاتفه ليتصل برضا  وفي ذات الوقت سحب سيجارة وضعها عند طارف فمه. طال الوقت مع رنين الهاتف دون رد. أغلق سامر الهاتف وأشعل سيجارته وارتشف منها بقوة .
ــ كلهم نفس الطينه،ولد الركَاع..  تكَول حسبالك أولاد شاه نشاه لو إمبراطور اليابان ولد الق... استغفر الله.


95
كارل ماركس في العراق / الجزء الثاني والثلاثون


ــ هسه يمعودين خل نغسل ادينه ونشرب جاي ونروح يم الجماعة للمظاهرة.
ــ أوكي يالله ياجماعة.
ــ ليش متخلوه على حسابي هذي المرة.
ــ عمي أبو رجب أحنه متعودين كل جمعه نجي يمكم  بهاي الكَهوة ناكل ونشرب جاي.. خوب مو جايين خطار أبيتكم.. الله يحفظك ويخليك وينطيك الصحة والعافية.. وهمزين بواسطتك تعرفنة على أستاذ عبد القادر.
قال مزهر ذلك وطلب من ماركس النهوض من أجل السماح له بالخروج من المكان للذهاب وغسل يديه فتنحى ماركس جانبًا مفسحًا له الطريق وفي الوقت ذاته طلب أبو رجب من ابو داوود جلب الشاي للجميع. ولكن باغتهم ماركس بسؤال مسرحي مفتعل رافقته ابتسامته المخفية.
ــ ماذا يعني تحود النار الكَرصته؟
ــ معود بطل من أسألتك.. دتعال كَوم نبوس أبو عفيفة ونصالحة وبعدين تروح ويايه للمظاهرة.


*       *       *
جاور ماركس سامر في المسير نحو ساحة التحرير وكان قريبًا منه جدًا وكأنه يريد أن لا يفلت منه، كان يلاحقه بنظراته ويحاول اختبار ردود فعله مع كل حركة أو جملة تقال، يود أن يتأكد من شخصيته وهل هي ذاتها التي واجهته بنزقها وعنفوانها وهددته بسماجة وسخف. يا ترى هل يفشل معه ويكون سامر أكثر تطرفًا وصعب المراس ومتطيرًا أكثر من المرة السابقة. في كل خطوة كان يريد أن يسحب سامر من يده ويذهب به بعيدًا ليحادثه ويصارحه، ولكن سامر كان مشغولاً مع أصدقائه بالحديث عن التظاهرة التي تأخذ من تفكيرهم الكثير، وهم يبحثون أيضًا في متبنيات المجتمع وكل ما يعتمل فيه من وقائع ومرارة تفرضها العادات والتقاليد والمعتقدات الغيبية، وكان حديثهم كالعادة خليط يذهب هناك ثم يعرج على حديث اخر بعدها يعيد تكرار السابق.  كان ماركس ورغم أن محور تفكيره كان يرتكز على محاولة الانفراد بسامر، ولكنه أيضًا يفكر بمجريات حديث هؤلاء الشباب عن حركتهم الجماهيرية أو من الجائز إطلاق تسمية انتفاضتهم الجماهيرية. فالملاحظات التي أوردها بعضهم تبدو جد عقلانية وواقعية وشخصت لب وأس المشكلة وهو الأساس الاقتصادي وما حدث من تغيرات في وسط القوى المنتجة وطبيعة علاقات الانتاج وبنية الطبقات الاجتماعية وانعكاس ذلك على البناء الفوقي للمجتمع، تفكير سليم جدًا ولكنه يحتاج إلى دلالات في الوعي المجتمعي والطبقي والحراك الجماهيري. ومن خلال ما عرفه عن طبيعة التشكيلات الاقتصادية في العراق فإن اقتصاد العراق الريعي اليوم، وهو الذي يعتمد على تصدير النفط وبيعه لن يفضي إلى ما يرغبه هؤلاء، ولن تولد من رحمه دولة مدنية ديمقراطية، وإنما المعروف وبشكل جلي أن هذه الولادة دائمًا تطرح نموذجًا مشوهًا، وأي سلطة فيه ليس لها قدرة على وضع برامج تقدم للمجتمع ما هو نافع وحضاري فهي تعتمد شعارات وحلول ترقيعية ليس إلا، وتحاول استغلال الدخل الوطني لمصالح فئوية وحزبية. أعتقد أن عزيمة  وقوة هؤلاء الشباب يحتاجها العراق بشكل حقيقي، ولكن تحقيق حلم هؤلاء بالإصلاح يحتاج إلى أفق أوسع وإلى قوى تخلق تناسبات وتحالفات جديدة لتكون قادرة على الاستمرار وخلق الظروف الضاغطة لأجل التغيير. وهذا التغيير من المؤكد إن نجح في مهامه الأولية، سوف يساعد على كسر قاعدة احتكار السلطة المستندة إلى الهويات الفرعية، ويؤسس لوعي اجتماعي جديد، وهؤلاء الشباب أجد فيهم المعرفة الجدية والإيمان بضرورة خلق البديل المدني الديمقراطي، وهو البديل الوحيد القادر على بناء وطنهم. ورغم قناعتي بصعوبة التغيير هذا في المدى القريب ولكنه كملمح استراتيجي يبقى ضرورة لإنقاذ هذا الشعب من ثقافة الاستبداد والنزعات الماضوية المناهضة للحداثة والمغرقة بالتخلف وعدم احترام الرأي الآخر والانكفاء على الغيبيات.
فجأة وفي غفلة منه وبسبب سرحانه في تحليل أفكار الشباب، لم يجد سامر جواره. التفت نحو الباقين وبارتباك ظاهر سألهم عن سامر، فأجابه أحدهم بأنه ذهب لشراء علبة سجائر وسوف يعود.
ــ نلتكَي بيه بالمظاهرة وين يروح.
ــ ولكن كيف أضعته أنا؟
ــ شنو ليش أنته.. شنو تريد منه؟
ــ لا شيء... لا شيء ولكن خفت أن يضيع وسط الناس؟
ــ أخونا الطيب استاذ قادر... ليش سامر زعطوط لو مايندل المنطقة... جان كمشت إيده وما خليته يفلت منك؟
تدخل أبو رجب بالقول وهو يقبض على ساعد ماركس ويسحبه إلى جانبه.
ــ حقه استاد قادر يخاف على أصدقائه.. تعرفون هو... هو تعرفون.. جان استاد جامعة وكلش يهتم بطلابه.
ــ والله حسبالي غير شي؟ كَلت بس لا صاحبنه يدور طيور مكلشه؟
ــ لا يمعودين تره استاد قادر مر بظروف قاسية.. بعهد صدام جان مسجون وبعد دخول الامريكان طلع وهوه هسه شويه مريض إنشاء الله يصير زين.
ــ والله انته عبد الرضا كلش تفكيرك يروح بعيد ودائمًا عقلك يروح على المزين.
ــ أي مو سامر يتفلس على التمن ..شلون جهره عاد ، مطعجه معقجه ..لو بس أعرف شلون أطاهم كَلبهم وسمو سامر ..ليش مسمو معيريج ..صليبيخ ..طاوه محروكَه .
ضحك الجميع وكانوا قد اقتربوا من فتحة السوق المفضية إلى ساحة التحرير. كانت عيون ماركس القلقتان تجوبان المكان بحثًا عن سامر الذي فاجأهم عند انعطافة الزقاق. كان يقف أمام بائع صغير يعلق صندوق خشبي برقبته ويضع فيه عدد من علب السجائر. سارع ماركس ووقف جوار سامر مراقبًا حركته ثم سأله.
ــ سوف تذهب إلى التظاهرة.. أليس ذلك؟
ــ أي لعد وين راح أروح؟
ــ ممكن أن أكلمك على انفراد.. أرجوك؟
ــ شنو القصة استاذ قادر أكو مشكلة؟
ـ نعم مشكلة كبيرة أحتاج أن تحلها معي؟
ــ خلي نلحكَ بالجماعة وعود بعدين نحجي؟
ــ أرجوك سيد سامر أحتاج مساعدتك.
ــ زين.. زين بعد ما تنتهي المظاهرة نحجي.
ــ أرجوك أن تتفهم موضوعتي.. أنا بحاجة لمساعدتك وأنت أملي في حل هذه المشكلة؟
ــ أستاذ قادر أي هسه وقت حل المشاكل.. وشنو آني لكَيتني حلال مشاكل.. آني مشاكلي لا تنعد ولا تنحجي وهسه إنته تريد أحل مشكلتك.. يمعود الجماعة صارو بنص الناس وإنته صالبني هنا.
تقدم أبو رجب ملوحًا بيده ومناديًا على ماركس أن لا يتأخر فلحق به سامر يرافقه ماركس وخلال تلك الخطوات القليلة تابع ماركس إلحاحه بطلب الحديث المنفرد مع سامر.
ــ أرجوك لا تجعل أبو رجب يعرف بطلبي هذا أرجوك.. طلبي هذا وحديثي سوف يؤثر كثيرًا بهؤلاء الرجال الطيبين، لا أريد أن أظهر أمامهم مخادع وغير جدير باحترامهم.
ــ أي هسه هو شنو طلبك.. هو آني أعرفه حتى متريد أبو رجب لو غيره يعرفه؟
ــ لن أحدثك به إن لم تعدني أن نبتعد قليلاً عن التظاهرة لأخبرك بالذي أريده منك.
ــ أو كي... بس كون على ثقة غير خمس دقايق ما أسمحلك باكثر منهن.
ــ جيد... لا تدع أبو رجب يأتي معنا.. علينا أن نجعله بعيدًا قدر الامكان.
ــ أي تعال أهنا.. كَول يمعود سطرتني.. بس إنته ليش هيجي تحجي.. وجنك أجنبي؟
ــ عزيزي سيد سامر المحترم أنا هي تلك الحقيقة.. أنا أجنبي وليس عراقي.
ــ يعني إنته مو استاذ قادر صديق أبو رجب؟
ــ سيد سامر أنا وأنت التقينا سابقًا في مطار بغداد ومن ثم في فندق الرفيق جبار.. هذه ملخص للحكاية كلها.. أنا كارل هانريش ماركس.
تراجع سامر إلى الوراء وكأنه صعق حين سمع الاسم، شعر برهبة الموقف وكأن كل شيء قد توقف من حوله وردد وهو يتلعثم بالكلام.
ــ منو ...منو؟


96
نداء
في عملية جبانة أقدمت عصابات الجريمة المسلحة باقتحام منزل  الصحفية والناشطة المدنية السيدة أفراح شوقي، وبصفة جهة أمنية حكومية، وبعد أن روعوا واعتدوا على عائلة الصحفية أفراح وسرقوا بعض أموالها وسيارتها الخاصة،اختطفوها من منزلها واقتادوها إلى جهة مجهولة.
أننا الموقعين أدناه من ناشطين ودعاة الحقوق المدنية والمهنية في المملكة السويدية، ندين بشدة هذه الجريمة النكراء ونحمل الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية كامل المسؤولية عن هذا الفعل الشنيع،وفي نفس الوقت نطالب السلطات باتخاذ الإجراءات العاجلة للكشف عن ملابسات الجريمة والجهات التي قامت بها، ومحاسبة قوى الأمن المسؤولة عن المنطقة التي وقعت فيها الجريمة.وقبل هذا، العمل بشكل مكثف ودقيق على إنقاذ حياة الصحفية أفراح شوقي وتحريرها من يد خاطفيها وإعادتها إلى عائلتها، وتحديد الجهة المنفذة وإنزال أقصى العقوبات بحقها. كما نطالب بوضع ضوابط ملزمة للسيطرة على الانفلات الأمني المتفاقم وانتشار السلاح وعصابات الجريمة والوقوف بحزم بوجه هذه القوى التي باتت تروع الناس وتسلبهم حقوقهم الإنسانية وتعتدي على كرامتهم.

1 ـ رابطة المرأة العراقية فرع السويد ـ ستوكهولم
2  ـ جمعية المرأة العراقية ـ ستوكهولم
3 ـ الاتحاد الديمقراطي للجمعيات العراقية في السويد
4 ـ الحركة النقابية العمالية العراقية في السويد
5 ـ لجنة اللاجئين العراقيين في ستوكهولم
6 ـ اتحاد الجمعيات العراقية في السويد
7 ـ نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
8 ـ رابطة الديمقراطيين العراقيين في ستوكهولم
9 ـ دكتور صالح ياسر رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة
10 ـ بسام محيي خضير    كاتب
11 ـ هيفاء عبد الكريم      رابطية
12 ـ ليث حميد
13 ـ عبد الكريم حيدر عبد الواحد
14 ـ أياد عباس
15 ـ خوشناو شير
16 ـ دكتور عبد الحسين الاعرجي
17 ـ جاسم هداد          ناشط مدني
18 ـ نديم فزع            ناشط مدني
19 ـ وسام حسناوي كسار
20 ـ غازي عبود
21 ـ دكتور توما شمعون
22 ـ سعد مجيد الجيزاني
23 ـ لؤي حزام عيال
24 ـ نعمة عيال نصار
25 ـ سعيد شلش العسكري
26 ـ زكي المظفر
27 ـ رياض أدمون
28 ـ سامية محمد
29 ـ فانا عزيز
30 ـ حكمت حسين      ناشط مدني
31 ـ جواد علوان الربيعي
32 ـ عبد الرضا المادح      قاص وكاتب
33 ـ ميثم محمد علي
34 ـ هادي عبد علي
35 ـ فيروز يوسف
36 ـ أحمد طه حمودي           نقابي
37 ـ فاطمة رضا حسين       رابطية
38 ـ دلناز عبد الواحد
39 ـ نجيب حسين مهدي
40 ـ حيدر علي حسن
41 ـ بشرى الطائي   
42 ـ رند الحلفي   طالب
43 ـ روى الحلفي            طالب جامعي
44 ـ روناك محمد محمد         ناشطة نسوية
45 ـ ثانا نجدت               طالبة
46 ـ بيان محمد                  ناشطة نسوية
47 ـ سيروان صديق        موظف
48 ـاسعد المهداوي
49 ـ محمود سلمان عاصي
50 ـ هادي الجواد
51 ـ طالب عبد الأمير      أعلامي وكاتب
52 ـ عيسى عوده           متقاعد
53 ـ سمير جادري
54 ـ قاسم عبود
55 ـ دكتور ليث العاني        أكاديمي
56 ـ دكتور خليل عبد العزيز 
57 ـ فرات المحسن      صحفي وكاتب
58 ـ بسعاد عيدان          مهندسة كيماوية
59 ـ عبد الله حطاب
60 ـ حاتم الطائي
61 ـ كريم حسون الأسدي
62 ـ دكتور أزهر المظفر
63 ـ جبار حسن
64 ـ نورية المقدادي          ناشطة نسوية
65 ـ كفاح وضاح حسن سعدون
66 ـ دنيا رامز حسين
67 ـ الدكتورة سعاد خيري
68 ـ رئيفة صادق              تربوية
69 ـ يحيى المحسن            موظف
70 ـ صفاء سعيد
71 ـ      بيان محمد
72 ـ نبيل البازي          محاسب
73 ـ فهد محمود               عامل
74 ـ فيصل الفؤادي          نقابي
75 ـ كفاح محمود

97
كارل ماركس في العراق / الجزء الواحد والثلاثون

ــ لا راح ألزم أيده وأخلي بصفي ما يتحرك.
ــ والله ما أدري شأكَول شنو أحجي.. هاي أنته العاقل وتريد تتصرف هيجي.
دخل أربعة من الشباب رافعين أياديهم بالتحية وطلبوا من أبو عفيفة أن يعد لهم وجبة الطعام التي اعتادوا تناولها عنده كل يوم جمعة. من خلال تحياتهم وحديثهم عرف ماركس بأن لهؤلاء الشباب معرفة سابقة بأبو رجب وأبو عفيفة وأظهر ذلك أيضًا ترحاب أبو داوود الحار بهم. جلسوا في الزاوية البعيدة من المقهى وكانت ضحكاتهم وأحاديثهم توحي بالحيوية والنشاط. ذهب أبو رجب مقتربًا منهم عندها فسحوا له المجال ليجلس جوارهم وراح يشاركهم أحاديثهم.
ــ أستاد قادر تكَدر تساعدني؟
ــ نعم أبو عفيفة.. أستطيع ذلك.
ــ أخذ هذي أماعين الزلاطة وديهن يم هذولة الشباب.
ــ أوكي.. إنشاء الله.
ــ هاي شنو أوكي وشنو إنشاء الله.
ــ وماذا أقول إذن؟
ــ كَول بس أنشاء الله وهاي  كافي.
تناول ماركس صحون السلطة قائلاً:
ــ إنشاء الله وهاي كافي.
ــ خوش، ميخالف، دروح يمعود، دروح وديهن وتعال.
ذهب ماركس بالصحون ووضعها فوق المنضدة التي تتوسط جلسة الشباب. عندها أمسك أبو رجب يد ماركس ليقدمه إلى الشباب.
ــ هذا أستاذ عبد القادر مله عطا آل مغامس جان واحد من أهم أساتذة كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة ومسؤول عن التقييم الجامعي والبحوث.
هب الشباب بالترحاب وتقديم التحية لكارل ماركس الذي مد يده وصافحهم جميعًا بحرارة. طلب أبو رجب من ماركس الجلوس. جلس ماركس جواره مبتسمًا ينظر إلى وجوه الشباب بود ورضا.فجأة صاح أبو عفيفة.
ــ يمعود أبو رجب خلي قادر يساعدني بعدين عود يتعرف على الشباب.

أثناء ذلك انتبه ماركس لوجه الشاب حنطي البشرة مجعد الشعر الجالس أمامه. راح يطالع وجهه وحركات يديه، لذا لم يولِ اهتمامًا لصياح أبو عفيفة وصراخه المتكرر. أغلق أذنيه وركز نظره، فقد شدته إليها ملامح الوجه العابس. أخذ يبحث في ذاكرته عن هذا الوجه، فجأة وجده ينط  في الذاكرة. ليس هذا الوجه بغريب عليه. في هذه اللحظة لم يعد ينقصه غير أن يتذكر الاسم والمكان الذي التقاه فيه، لا يمكن لذاكرته أن تخونه، لم يعتد على ذلك، فرغم كل ما حدث ويحدث فهو يختزن في رأسه آلاف الوجوه التي قابلها طيلة حياته ولم يدعها تفلت من مخيلته. أطرق مفكرًا يحاول إيجاد وجه هذا الفتى العابس بتجاعيده المبكرة.
لم يأخذ ذلك من وقته الكثير، فجأة مثل ومضة خاطفة تجسدت صورته السابقة أمام عيني ماركس. الصورة المنتقاة الراسخة في الذهن لا يمكن لها التوهان أو الغياب بين زحمة الوجوه والأسماء.. سامر... سامر.. الرفيق المتهور صاحب المزاج الحاد.. سامر.. نعم هو الرفيق سامر الذي لم يستوعب حديثي ثم اتهمني بالتحريفية وهددني بأنه ومجموعته  سوف يرشدونني إلى الماركسية. ورغم القلق فإن ماركس شعر بالسعادة تغمر كيانه، فيا لها من مصادفة غريبة. هل عاد القدر يكرر لعبته؟ هل استدار ليمنحه فسحة أمل؟ هل يكون هذا الشيء مقدمة لخاتمة مطاف غبي مشاكس دفع فيه ثمنًا ليس بالقليل من وقته وأعصابه؟
 لم يجد ماركس ما يفسر به تلك الدورة وهذه المصادفات العجيبة،  وهو الذي لا يثق بالقدر بذلك المستوى من الثقة التي يوليها له الناس. ما الذي عليه أن يفعله الآن. هل يقلب حضور هذا الفتى المعادلات، أم من الممكن أن يكون عائقًا، أو شراكًا جديدًة سوف يعلق بها مرة أخرى، عندها يبدأ فصل آخر من كومة الآلام  والمحن. إنه الآن أمام مفترق طرق وخيار صعب وقاهر، لا يستطيع معه المجازفة وكشف أوراقه جميعها، فعليه أن يحسب لكل خطوة حساب دقيق غير متسرع، وما الذي يترتب عليه واقعه الحالي. لا يريد أن يتبع إغواء اللحظة بشكل عفوي وغبي، فعليه التروي دون فضح الموقف، عليه أن يدرس جميع الاحتمالات ويختار اللحظة المناسبة، أن يأخذ كامل التحوطات قبل المجازفة بكشف حقيقته لسامر، فذلك الأمر تترتب عليه تغيرات دراماتيكية صعبة ومذهلة، ليس فقط لسامر وجماعته، وإنما الأكثر من ذلك لأبو رجب وأبو عفيفة وأبو داوود، لقد كان صعبًا عليه في تلك اللحظات اتخاذ القرار المناسب، ولكنه في  النهاية قرر شيئًا ما. فوجه لمجموعة الشباب سؤالاً مراوغًا.
ــ أود أيها الأعزاء أن أتعرف عليكم فهل تسمحون لي بذلك؟
 فسبقه أبو رجب قائلاً.
ــ مثل ما كَلتلكم هذا أستاذ عبد القادر مله عطا آل مغامس أستاذ كلية العلوم في جامعة الكوفة سابقًا.
ــ أهلاً بالأستاذ ومرحبًا أنا اسمي عبد الرضا وهذا صديقي مهند ونحن نعمل بالصحافة وهذا صديقي الآخر وزميلي في الجامعة سامر وهذا زميلنا في التظاهرة مزهر ويعمل في محل لبيع الأدوات الصحية.
تأكد ماركس بأنه أمام شخصية سامر التي قابلها وتعرف عليها سابقًا، لذا مد يده مرة أخرى وراح يصافح الشباب بحرارة دون أن يرفع عينيه عن وجه سامر.
ــ أستاذ قادر صار يومين يسألني شنو نريد بتظاهراتنا، آني شرحتله مطاليبنا ومعنى الدولة المدنية وهوه هسه من شافكم أرتاح وكيّف بيكم واليوم راح يشاركنا بالمظاهرة.
ــ أهلاً بي وبيك وبكل عراقي شريف أو وطني وغيور على بلده.
قرر ماركس أن لا يتدخل أو الأحرى أن لا يتحدث، وإنما المهم عنده الاستماع لأحاديثهم وفي الوقت نفسه راح  يفكر في الكيفية التي تساعده للانفراد بسامر بعيدًا عن المقهى وعن هؤلاء أيضا. اختار الصمت والتروي للبحث في صيغة تسعفه للوصول إلى مبتغاه، ربما الذهاب معهم إلى التظاهرة سوف يمنحه فرصة ويسمح له الانفراد بسامر عندها يكاشفه بالموقف.
جاء أبو عفيفة بصحون الطعام ووضعها أمام الشباب وعاتب أبو رجب قائلاً.
ــ تره هاي سوالف محلوه منك أبو رجب.
ــ ليش عيوني أبو عفيفة.. آني شنو سويت؟
ــ إي مو الرجال قادر راد أيساعدني وأنته ما خليته.
ــ عفيه عليك أبو عفيفة هاي شنو منك.. ليش آني ما خليت قادر يساعدك!!
ــ أي نعم.. كَعدته القادر يم الجماعة وما جان يهتم لصياحي.. هسه بالله هو ما شاء الله لا حك ومستوي وما ينعتب عليه، بس أنته شبيك، ما جنت تسمع صوتي؟.
ــ أبو عفيفة والله ما انتبهت زين.. تدري الرجال يريد يتعرف على الشباب وبنفس الوقت يعرف شنو غايتهم بالمظاهرات.. وآني كَلت بلكي هذا يكون باب يفتحه رب العباد يكَدر يساعده لاستاد قادر ويبدي يرجعله فكره.. هاي كل ما في الامر.
ـــ خوش.. بس مجانت حلوه منك.. أنبح صوتي وأنته وقادر وكأنه مو يمكم.
ــ أعتذر منك أبو عفيفة.. العفو عيوني أنته.
نظر أبو عفيفة إلى ماركس فوجده يطالع وجه الشباب بدهشة وترتسم شبه ابتسامة على وجهه، ربت  بخفة ومسح على رأس ماركس دون أن يجد منه ردة فعل، فاستدار عائدًا إلى جوار عربته.
ــ الحراك لازم يستمر وياخذ شكل أخر.. ميصير جمعة وره جمعة وماكو نتيجة.. أعتقد أحنه وصلنه الطريق مسدود... هذولة البلحكومة يراوغون ويسوفون وميردون يسوون إصلاحات ويراهنون على مللنه وتعبنه.
هكذا قال سامر وهو يلوك طعامه ويلوح بيديه.
ــ بس عزيزي سامر تره من عام ألفين وأهدعش صارت تطورات كثيرة بالساحة ووقائع جديدة ظهرت وهمين وياهه عناصر جديدة، وبسبب هذا أنولدت شروط جديدة، يمكن نعرف من خلاله أنو المجتمع دخل مرحلة جديدة من الصراع حول شنو التغيرات ألي نريدها، وشنو طبيعته.
ــ والله صحيح مثل ما يكَول مهند، المهم نعرف التناقضات الموجودة مو بس بلمجتمع وإنما ما يحدث من تناقضات داخل السلطة، وما نتوقف يم التناقضات الرئيسية، لازم نكتشف التناقضات حتى الثانوية منها.
ــ يا جماعة الخير حجيكم كلش صحيح، بس لتنسون تره هذي التناقضات وتفاعلاتها، واحد من يريد يكتشفه ويدرسه لازم يعتمد من البداية و يروح على لب المشكلة وهو الأساس الاقتصادي، وشنو تأثيره، لو شنو حدث من تغييرات بمستوى القوى المنتجة وطبيعة علاقات الإنتاج وبنية الطبقات الاجتماعية وبعدين أندور عليه ونعاين الاصطفاف الصاير في الجبهة الاقتصادية وانعكاساته على البناء الفوقي في إطار العلاقة التبادلية والوحدة الجدلية بين المستويين.
ــ منطق سليم جدًا.
قال ماركس ذلك بصوت خافت ونقر بإصبعه فوق المنضدة وكان يبدو منشغل البال ينظر إلى سامر، الذي باتت جميع آماله تتعلق على اللقاء المنفرد به.
فجأة تدخل أبو رجب وراح يتحدث بصوت مرتفع وواضح جعل باقي جلاس المقهى يلتفتون نحو الزاوية التي كانت المجموعة تجلس فيها.
 ــ خالي أنتو هذا تفكيركم على راسي، وما عندي اعتراض عليه، ولو  يرادلي فد عشر دروس تعليمية حته أتعلم وأفتهم شنو تردون.. بس آني اكَول، واسمحولي يمكن تفكيري قاصر ومو بشكلكم.. الناس تطلع تتظاهر تريد شي مبين.. ضد شي ملموس، شي محدد أو واضح ومأذي البلد وأهله.. الفساد والبوكَ خله الدولة مفلسة، والبطالة ما أله حدود، وما خلو بناية مال الدولة ما أخذوه.. والخدمات كلش معدومه.. والسلاح صار بيد حتى الزعاطيط، والمشاكل ما تنحل إلا بالسلاح لو بالفصل مال العشاير، والتفجيرات تحصد بالناس، والساده والخطوط الحمر وتيجان الروس ملوهه  للشوارع، ومحد يفك حلكه يخاف ينعلس.. والوظايف بس ألهم... وغيره وغيره.. تكَولون الدولة المدنية تحل كل هذني المشاكل.. هسه أحجولنه بالنتيجه.. آنه وياكم علمود هذني مو على مود غيرهن..
ــ عيوني أبو رجب ما تفضلت بي صحيح بس أحنه نسولف على لب المشكلة، يعني شنو السبب بكل هذا.
رد عليه عبد الرضا باسمًا وكأنه يحاول مواساته. ولكن سامر سارع  وتدخل بالحديث.
ــ يا جماعة تره أبو رجب وياه الحق.. أحنة حراك جماهيري ومن كل قطر أغنية، بينه العامل والبطال والفنان والموظف والطالب وما جمعنا بالتظاهرات غير هاي الأهداف الحجه عليها عمنه أبو رجب، وأحسن شي نحسب نفسنه حركة اجتماعية متعددة الأطراف، وأحنه يبقى شعارنا التغيير ومن أجل أقامة النظام الديمقراطي الي يضمن تحقيق الإصلاح مو غيره.. وهذا يجي بالدولة المدنية.
ــ هو هذا الصحيح.. ولو نكَدر نطب عليهم مرة لخ بعقر دارهم بالبرلمان وهناك نراويهم شنو الثورة الجماهيرية.
ــ حبيبي مزهر هاي باعتقادي جانت غلطة.. وأصلاً لو تنظر بيه وتشوف وتتمعن زين، راح تلكَه إلي فشلها هو منه وبيها، يعني إلي دعى إله وقام بيه، بعدين اتندم، لو أكَول ما تندم بس لعبه حسب مصالحه.. ما ادري شنو وفشله، أحنه نريده سلمية لا أكثر ولا أقل.
ـــ والله جانت تصير ثورة.
ــ عيوني رحمه الوالديك.. شلون تصير ثورة؟ ليش هيه ذيج الحركة ألي دخلنه بيه البرلمان تمثلمن؟ تمثل الشعب.. !!؟ جنه مجاميع ما ينعرف راسنا من رجلينه... الثورة ما تصير في مجتمع منقسم على نفسه ومتوزع على سبعين ألف شكَه، وكل شكَه تريد تحود النار الكَرصته.. يا ثورة عمي دخلونه.. على هذي الجمعة وكل جمعه بلكي شويه الناس تتحرك. الثورة يرادلها وحدة مجتمعية قبل ما تصير وهذا صعب ويوم على يوم الأمريكان والإيرانيين يشتغلون حتى تصير أصعب.
ــ هسه يمعودين خل نغسل أدينه ونشرب جاي ونروح يم الجماعة للمظاهرة.
ــ أوكي يالله ياجماعة.
ــ ليش متخلوه على حسابي هذي المرة.


98
كارل ماركس في العراق / الجزء الثلاثون

ــ خوش ورحمه الوالديكم، أغاتي ممنون.
 قالها ماركس ضاحكًا.
ــ يله أبو رجب أسطره لحجي عبد القادر.. هذا فد واحد لجه يريد يعرف كلشي.
ــ عمي أستاد قادر.. ولو آني أعتدي عليك لأن أنته أستاذ بهذا الشي ومجان واحد يلحكَك بهاي الشغلات، بس شتسوي الوكت خربط كلشي وصار الأستاذ يتعلم من الطالب.. شوف أستاذ قادر هذوله يطلعون يتظاهرون يردون إصلاح الحكم، لأن الأحزاب الحاكمة مصخوها وبعد الناس ما بقت تتحمل، الشباب عطاله بطاله والأحزاب إلي تحكم البلد بعضها يريد الدولة تصير دولة دينية والمتظاهرين يصيحون ما نريد غير دولة مدنية.
ــ نعم.. وما الذي يعنوه بالدولة المدنية؟
ــ ولله حسب ما عاشرتهم جم جمعة وخشيت بنقاش ويه جم واحد منهم، لمن يجون مرات يكَعدون هنا بكَهوتنا، الشباب قنعوني بحجيهم وصدكَت بيهم.. همه يقصدون بالدولة المدنية أنو الحكومة المدنية تضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب، وهيه أطبق القانون مو غيرها، وتمنع يكون السلاح بيد غيره.. ويكَولون الدولة المدنية تعتمد على مبدأ المواطنة يعني مو المواطن ينعرف من دينه لو قوميته لو بماله، يعرفونه كشخص مواطن. وهناك شي مهم مو مثل ما يكَول أبو عفيفة، الدولة المدنية ما تعادي الدين الإسلامي لو غيره من الأديان، بس هيه ترفض أن يستغل الدين من قبل جماعة ألي يحكمون لتحقيق سوالفهم وأهدافهم السياسية.
ــ نعم كل ذلك صحيح وجيد.. يبدو أنهم يدركون طريقهم رغم وعورته في مثل أوضاع العراق.
ــ تدري استاد قادر آني شكَد أرتاح وأفرح من اشوفك تحجي عدل وصرت تتذكر وكت من جنت أدرس بالكلية. أسال الله وآل البيت يرجعولك عقل الذهب مثل ذاك اليوم، جانت الناس تمدح بيك وبشغلك.
ــ نستفاد منكم أغاتي أبو رجب.
ــ اليوم قبل الظهر راح يجون شباب يكَعدون هنا بالكَهوة يتحضرون للمظاهرة وأنت راح تستمع ألهم وحتى تكَدر تسألهم.
ــ جميل جدًا.. أتشوق لذلك. متى يأتون؟
ــ بعد ساعة لو ساعتين.
ــ لننتظر..
من الصعب وبشكل مباشر اكتشاف ما يفكر فيه الآخرون، فثمة عوامل تلعب دورها في رؤوس الناس وتصارع مشاربهم الفكرية، وما من أحد يستطيع أن يرغم الآخرين دون وسيلة إقناع، على خوض تجربة نقاش هادئ متكافئ بعيد عن الاستحكامات والأحكام المطلقة ليكتشف ما تخبئه أذهانهم، فمن المستحيل أن يمتلك الإنسان في الكثير من الأحيان، الحقيقة المطلقة ولا حتى أقلها شأنًا. فالبشرية تطرح على نفسها فقط المهام التي باتت الشروط المادية متوفرة لحلها، تتعمق وتدمج في الأنماط والأشكال والوسائل التي تنجز بواسطتها البشرية تلك المهام فعليا، أي أن الانتباه يوكل إلى الشروط الإيديولوجية والسياسية للجدل التاريخي، وفي هذا فأبو عفيفة ينازع أبو رجب عند حدود معلوماته عن الدولة المدنية وهي أكبر بكثير من حدود استيعابه، ولذا فالحقيقة تفلت من سيطرته، ولن يستطيع أبو رجب مهما تهيأت له الحجج دحر وتبخيس فكرة أبو عفيفة عن الشيوعيين والشيوعية. فأبو عفيفة رغم خلفيته المهنية المتعلمة، يبدو راسخ القناعة ومعتد بما يقوله، ويعتقد بأن ما يعنيه هو الحقيقة بعينها، ولكن  مثل هذا الأمر يعد عند البعض ضربًا من الجنون،  والجائز في أمور الاختلاف والتضاد، أن المجانين وحدهم من يمتلك الحقيقة. هل يجوز لي أن أصل لمثل هذا الاستنتاج، أم تراني وقد تلبستني روح الأستاذ عبد القادر ولذا بدأت عندي مثل هذه الهلوسات، فأخذتني لذة الدخول إلى العالم الافتراضي، وعندها أتلمس عبر فضاءه وتهويماته خطى أستاذ قادر وحياته الملتبسة التي ما بقي منها  يقينًا مستحقًا.
هل من المناسب أن أشرح لهم ما تعنيه الدولة المدنية أم أن مثل هذا سوف يدخلني في إشكال صعب مع ذهنيتهم التي استقرت عند عالم أستاذ عبد القادر ما بعد الاعتقال، ودونه سيكون العجب العجاب، أم ترى ما أقوله لهم سوف يتوافق وقناعتهم بأصل الصورة القديمة للأستاذ قادر. مثل هذا الانشطار بين الشخصيتين يمكن له شرح الانشقاق الدنيوي بين المجتمع المدني والدولة السياسية والذي ينجم عن التناقض بين الإنسان البرجوازي ومواطن الدولة العادي. الملاكون ومعدومو الدخل، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة بين طابع التملك الخاص لوسائل الإنتاج ونتائج العمل نفسه، إنه التناقض والتضاد والانشقاق بين المجتمع المدني والدولة السياسية. لأرمي ذلك على عاتق ذهن الأستاذ عبد القادر وهو حافظة غنية ممكن لي أن استل منها ما أشاء.
تبسم ماركس وهو يفكر بهذا التعرج الفكري في عالم يراد أن يفرض عليه كواقع، بل حقًا هناك كائن فنتازي يجاوره في مسيرته داخل العراق وهو الحضور والواقع الوحيد بالنسبة له وليس له خيار غير البحث من داخله وبأدواته عن الخلاص.
 ارتشف شيئًا من الشاي وطالع وجوه جلاس المقهى.. زباين المقهى مثلما سماهم أبو داوود.. زباين أم زبانات ما الذي سوف يختلف عنده، أيستحق أن يجادل أحدهم في هذا المعنى. فالعراقي معروف عنه صاحب جدل حتى في مثل هذه النتف الصغيرة ولا يمكن إقناعه بسهولة. سمعت مرة قول لأحد الرجال الحكماء بأن العراقي مشاغب بطبعه، ولكني لم أجد ما يوصف ذلك أو يقاربه، فالبسطاء من هؤلاء الناس بسطاء في طيبتهم وكرمهم مثلما في تطلعاتهم ونواياهم. ليست لي القدرة على الإحاطة بكل صلاح أو عاهات هذا الشعب وأنا الذي وضعت في محيط أدور فيه من مأزق لآخر. زوايا مغلقة ومسالك لا تفضي لشيء يناسب من يريد اكتشاف الواقع.
 استرعى انتباه ماركس مرور مجموعة شباب خطرت أمام المقهى ثم لحقت بها موجة أخرى. جميعهم كانوا شبابًا يرتدون الملابس الحديثة وتبدو على وجوههم سمات الصحة والحيوية. خرج ماركس ليجلس خارج المقهى عند المقعد القريب من عربة أبو عفيفة. راح ينظر إلى مجاميع الشباب التي ترد المكان سائرة نحو نهاية الزقاق حيث مخرج السوق المفضي إلى الشارع الرئيسي. اشتدت الحاجة لديه للسؤال عن هؤلاء ووجهتهم.
ــ من هؤلاء الشباب وأين تراهم ذاهبون؟
ــ خوش سؤال أستاذ قادر، أنته مو من الصبح ليهسة أدور على  جماعة خبز حرية دولة
مدنية؟
ــ نعم.
ــ أغاتي هذوله همه إلي أدور عليهم.. شوف شلون ورود ومتفحين، ومن تسألهم يكَولون ماكو خبز والحكومة تبوكَ قوت الشعب.. حيره والله ما أدري أصدكَ بيهم لو أصدكَ بالحكومة.
هكذا عقب أبو عفيفه وهو يراقب مجاميع الشباب الواردة على الزقاق حاملة بعض الأعلام واللافتات المطوية.
ــ تعتقد أن هؤلاء غير صادقين في ما ينادون به؟
ــ مو كلش.. بس مرات أكَول الحق وياهم.
ــ هل أنت مكتفي ماليا؟
ــ لا عمي.. التقاعد وهاي شغلة العربانه وممطلع بيه راس.
ــ ماذا تعني ممطلع بيه رأس..
فجأة صرخ أبو عفيفة بصوته الجهوري مناديًا أبو رجب.
ــ يمعود أبو رجب تعال ترجم العمك.. تره اليوم روحي زهكانه وليهسه ممطلع فلوس الصمونات.
ــ هاي شبيك أبو عفيفة؟
ــ أحجيله بالعربي ومدى يفتهمني.. أكَله راتب التقاعد والشغل مال العربانه ميكفي العيشه يكَول شنو تقصد.
ــ أنت لم تقل هكذا.. قلت ممطلع بيه رأس فأردت معرفة عن أي رأس تتحدث؟
ــ راس أبو البرتقاله يلوكَ لبيبيتك.. يمعود أبو رجب ليش ما تخذه للأستاذ تفره ابغداد  تراويه الزوراء لو أسواق الكراده بلجي ربك يعطف عليه ويكوم يتذكر.. وبجاه الله  وسيدنا عبد القادر ينعدل عده الديلكو.
ــ هم هاي فكره والله أبو عفيفة.. بعد شويه آخذه وياي للمظاهرة وأخلي يرفع علم العراق ويهتف ويانه.
ــ هاي شلك بيه أبو رجب.. يمعود يروح يتيه، لو يتخربط، لو يكَوم يسوي حركات مزينه ويعتقلوه.. تره وضع الشرطة هل أيام مو تمام، ومرات يرتبكون ويدورون حجة على الناس.. وفجأة وتلكاه رايح بالسجن، وهناك راح ياكل تن كتل ومحد يلحكَله.. خوب أنته مو تروح أدور عليه من موقف الموقف.. وأنته عدك فلوس حتى أطلعه.
ــ لا راح ألزم أيده وأخلي بصفي ما يتحرك.
ــ والله ما أدري شأكَول شنو أحجي.. هاي أنته العاقل وتريد تتصرف هيجي.


99



الدراسة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية

لقاء خاص مع الدكتور خليل عبد العزيز
أجرى الحوار فرات المحسن


   الدكتور خليل عبد العزيز والصحفي فرات المحسن

عُد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، نقلة نوعية كبيرة في مختلف مجالات الحياة للشعب العراقي، وأيضا مرحلة جديدة في علاقة العراق بالعالم الخارجي. ففي الوقت الذي كان فيه العراق حليفا قويا للغرب أثناء حقبة الحرب الباردة،  وعضوا أصيلا في الحلف الإقليمي  الذي سمي وقتذاك بحلف بغداد  والذي شكل عام 1955 وشاركت فيه كل من  تركيا وإيران وباكستان والعراق إضافة للمملكة المتحدة (بريطانيا ). فثورة 14 تموز بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم غيرت قواعد اللعبة الإقليمية بشكل حاسم، وأنهت تلك العلاقات والروابط الإستراتيجية بقطيعة مع التحالف الغربي والخروج من حلف بغداد لتنهي بذلك العصر الذهبي من علاقة متينة كانت للحكومة العراقية الملكية مع حليفتها بريطانيا العظمى .
مثلما هو معروف في التاريخ القريب فإن مشروع تشكيل الدولة العراقية عام 1921 جاء على يد ووفق رغبة الساسة البريطانيون لذا أعطيت لمؤسسات الدولة العراقية طابع تشكيل أولي يتخذ من النموذج المؤسساتي البريطاني مثالا أعلى في بناءه وقواعد عمله. وكان أكثر تأثيرا وملموسية لهذا التوجه يظهر وسط المؤسستين العسكرية والتعليمية. فالمؤسسة العسكرية بنت مناهجها وقواعد السلوك والتدريب فيها وأيضا التسليح على وفق ما أسس له الساسة وجنرالات الجيش البريطاني الذين كان لهم التأثير الفعلي وتربطهم مصالح كثيرة بقادة الجيش الشريفي الذين أصبحوا لاحقا قاعدة الحكم وركيزته بعد تأسيس الحكومة الوطنية العراقية عام 1921  .وظهر التأثير البريطاني في سياسة المؤسسة التعليمية العراقية أيضا، حيث اعتمدت أصول التدريس والتقييم الانكليزية في اغلب مناهج التعليم. 
حول مشاكل التعليم في العراق وإرسال البعثات خارجه في العهد الملكي ، وما استجد من متغيرات بعد ثورة 14 تموز في طبيعة ونمط أداء المؤسسة التعليمية. ومن ثم الحديث عن النموذج السوفيتي في تدريس الأجانب ومنح الشهادات،وكذلك علاقة وأداء الحزب الشيوعي العراقي بتلك البعثات.حول كل هذا وغيره كان لنا لقاء بالدكتور خليل عبد العزيز الذي وصل الاتحاد السوفيتي عام 1962 بعد أن حكم عليه بالإعدام إثر اتهامه المشاركة بقمع مؤامرة الشواف بالموصل، لذا تم تهريبه من العراق ليعيش هناك ويتلقى علومه الدراسية ويحصل على شهادة الدكتوراه بالصحافة ويمارس مهنة باحث علمي ومستشار بالشؤون العربية في  معهد الاستشراق السوفيتي.

ــ كيف كانت في نظرك سياسة المؤسسة التعليمية في العراق الملكي، وبالذات في جانب إرسال الطلبة  للدراسة في الخارج، وهل أقتصر ذلك على دول بعينها دون أخرى ؟

كانت سياسة التعليم في الحكومة الملكية العراقية تعتمد وتطبق أصول التدريس كما في المدارس الانكليزية، رغم اختلاف بعض المناهج التعليمية والتربوية، ولكن طرق التدريس والتقييم ومنح الشهادات يشابه بشكل كبير أسس التقييم والتدريس الانكليزية الرصينة. وقد حرصت الحكومات الملكية العراقية على وضع قواعد متينة لإرسال بعثاتها وفق شروط وقواعد مهنية وتعليمية صارمة في الاختيار. فلا يرسل للدراسة ولن يحصل على الزمالة غير المتفوقين دراسيا من أصحاب الدرجات العالية. وكانت أكثر الزمالات العلمية تخصص للدراسة في الجامعات البريطانية والأمريكية. ويعد جميع الذين عادوا من الدراسة في بريطانيا والولايات المتحدة من المتفوقين والمتميزين في اختصاصاتهم إلا ما ندر.وكانت لوزارة التربية والتعليم في العهد الملكي، علاقة مع المؤسسات التعليمية في الجارة تركيا، ولذا كانت الوزارة  العراقية تحصل على بعض الزمالات من الجانب التركي فترسل بعض الطلاب للدراسة هناك، ولكن اغلب هؤلاء كانوا يعودون دون الحصول على تعليم جيد، وفي غير المستوى العلمي الرصين، ويعود السبب في ذلك لاختلاف وعدم موائمة المناهج التعليمية في تركيا مع مناهج التعليم البريطانية وشبيهتها في العراق. أيضا كانت هناك عوائل غنية ترغب في حصول أبنائها على شهادات دراسية من خارج العراق، بعد أن كانوا قد حصلوا على درجات غير مناسبة،فكانوا يرسلون أبنائهم للدراسة في الخارج، وبالذات في الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعات في تركيا ومصر. ولكن وبشكل واضح فإن أغلب الزمالات العلمية كانت ترسل إلى الجامعات البريطانية  وبعدها الأمريكية وألمانيا الاتحادية عبر الترشيح من قبل وزارة التعليم.

ــ ألم يتم إرسال زمالات إلى الدول الاشتراكية في فترة العهد الملكي؟

قطعا لم تكن هناك علاقة للحكومة العراقية مع تلك البلدان وبالذات في مجال التعليم، فقد كانت جميع علاقات العراق في هذا المجال وغيره ترتبط بالعالم الغربي. ولكن المصادفة لعبت دورها وحصل بعض الطلبة العراقيين على مقاعد دراسية في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية ومن دون علم أو رغبة الحكومة ووزارة التعليم العراقية.ففي عام 1957 شارك وفد عراقي كبير بمهرجان الشبيبة العالمي في موسكو، وبالرغم من جميع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية لمنع سفر مواطنيها إلى موسكو، إلا أن العشرات من الشبيبة والطلبة استطاعوا بمختلف الوسائل والطرق، الحصول على جوازات السفر وتحقيق آمالهم في مشاركة شباب وطلبة العالم في مهرجانهم. وبعد انتهاء فعاليات المهرجان استطاع البعض من الشباب العراقي الحصول على مقاعد دراسية في المعاهد السوفيتية. فقد استطاع محمد علي الماشطة ومصطفى الجواهري الحصول على زمالة دراسية في المعاهد السوفيتية وكان قد سبقهم الالتحاق بالدراسة في موسكو مواطنان عراقيان يهوديان استطاعا الهروب من العراق بعد إسقاط الحكومة العراقية الجنسية عن اليهود العراقيين عام 1949 ، وقد وصلا إلى موسكو عبر إيران، أحدهما وأسمه مسرور، أذكر أنه عمل كمذيع في إذاعة موسكو باللغة العربية، أما الثاني وأسمه الياس البدري فقد تم تعينه مدرسا لتدريس اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في موسكو بعد إنهائه الدراسة في كلية الحقوق. وكان هناك أيضا مواطن عراقي آخر اسمه صلاح الخزرجي استطاع الوصول إلى موسكو والدراسة هناك بعد هروبه من العراق.  وهناك حكاية تتعلق ببعض المحاربين الأكراد الذين غادروا العراق مع الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني بعد فشل الثورة الكردية و
جمهورية  كردستان وعاصمتها مهباد، وأقاموا في الاتحاد السوفيتي. فالكثير من هؤلاء حصلوا على زمالات دراسية ودرسوا في عدة مدن سوفيتية وفي اختصاصات متنوعة ونالوا شهادات جامعية، ولذا بقي قسم منهم في البلاد السوفيتية ورفضوا العودة إلى العراق مع الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني  الذي عاد بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 .

ــ وما الذي حدث للسياسة التعليمية بعد قيام العلاقة مع الدول الاشتراكية بعيد ثورة 14 تموز ؟
بعد ثورة 14 تموز فتح الباب على مصراعيه أمام العراقيات والعراقيين للاستفادة من الزمالات الدراسية التي تمنحها الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي إلى وزارة التعليم العراقية، خاصة بعد عام 1959 حيث وقعت وزارة التعليم العراقية مع الجانب السوفيتي وباقي الدول الاشتراكية اتفاقيات تمنح بموجبها تلك الدول الجمهورية العراقية مقاعد دراسية في معاهدها وجامعاتها، وبموجب هذه الاتفاقيات يحصل الطالب على منحة مالية وسكن من تلك الدولة إضافة للراتب الشهري الذي تخصصه له الحكومة العراقية يستلمه شهريا من سفارة العراق في ذلك البلد. وكان ذلك النموذج هو الشكل الوحيد المعتمد في إرسال الزمالات ويتحدد فيه العدد الذي توافق عليه وترسله الحكومة العراقية عن طريق وزارة التعليم بعد تقييم طبيعة وشهادات طالب الزمالة .
وكان الحصول على الزمالة الحكومية إن كانت إلى الاتحاد السوفيتي أو دول المنظومة الاشتراكية، تخضع لمعايير تربوية رصينة، أهمها التفوق الدراسي في الثانوية أو الإعدادية أو نوع الاختصاص في الجامعة. وهذه الضوابط وضعتها وزارة التعليم العراقية وفق برتوكولات وقعتها مع تلك الدول، وحددت وفقها النموذج الذي بموجبه ينال الطالب الزمالة. وكانت تلك المواصفات صارمة وعملية جدا، لذا فإن جميع الذين تمتعوا بتلك الزمالات ونالوا شهادات التخرج من تلك البلدان كانوا من المتفوقين في دراستهم .



مع مجموعة من الطلبة العراقيين في الجامعة


ــ وهل استمر الوضع على هذا المنوال؟
 
هذا الوضع لم يستمر ولم تعد الزمالات تمنح حصرا للحكومة العراقية . فقد خصصت الأحزاب الشيوعية والمنظمات الجماهيرية في البلدان الاشتراكية، من مثل اتحادات ونقابات الشبيبة والطلبة والعمال والفلاحين ورابطة المرأة وغيرها من التنظيمات وكذلك مجلس السلم العالمي  و منظمة التضامن الأفروأسيوي مقاعد دراسية وزمالات إلى الحزب الشيوعي العراقي وتنظيماته الجماهيرية. وبات الحزب الشيوعي العراقي وباقي التنظيمات المرتبطة به يحصلون على العديد من الزمالات الدراسية التي ساعدتهم على إرسال الكثير من كوادرهم وجماهيرهم للدراسة هناك، وكانت جميع هذه المقاعد الدراسية من خارج حصة الحكومة العراقية.ومن كان يحصل على هذه المقاعد، لا علاقة له بالحكومة العراقية من حيث الراتب الشهري أو غيرها من المنح المالية الحكومية. وبسبب ذلك قام الجانب السوفيتي بتخصيص مبلغ 90 روبلا شهريا لهؤلاء الطلبة في الوقت الذي كان الطالب السوفيتي وفي ذات القسم الدراسي يستلم راتبا شهريا قدره 30 روبلا. وقد بررت القيادة السوفيتية وقتذاك السبب في هذا التفاوت، كون الطالب السوفيتي لديه أهل يلجأ إليهم وقت الحاجة أما الطالب الأجنبي فلا يستطيع الحصول على إعانة من أحد، وكانت النتيجة لهذا القرار توفير حياة اجتماعية جيدة ليعيش الطلاب الأجانب برفاهية وبحبوحة مالية. وكانت السلطات السوفيتية تعامل جميع الطلاب العراقيين الدارسين لديها على قدم المساواة ودون تمييز بين المبتعث الحكومي أو المرسل من قبل الحزب الشيوعي و المنظمات الجماهيرية.

ــ وما الذي حدث بعد أن انهالت على الحزب الشيوعي العراقي والمنظمات الجماهيرية المرتبطة به كل تلك الأعداد من المقاعد الدراسية ؟
.
في بداية التخصيص ومنح المقاعد الدراسية الذي قامت به التنظيمات الحزبية والجماهيرية في الدول الاشتراكية، لم يتخذ الحزب الشيوعي نهجا مناسبا لاستيعاب هذه الحالة، وكان من المفترض بالحزب تشكيل لجنة تضع ضوابط لدراسة الطلبات على الزمالات الدراسية، وأن تلتزم تلك اللجنة بتدقيق المستوى العلمي لحصول الطالب على الزمالة، وأيضا التفكير الحكيم والعقلاني بحاجة البلد للاختصاصات العلمية والإنسانية وأخيرا الاستمرار بواسطة هذه اللجنة في مراقبة دراسة الطلبة ومتابعة مستواهم العلمي، على أن تقدم المنظمات الحزبية تقريرا بذلك ولكن لم يبادر الحزب بتشكيل مثل هذا اللجنة ولا العمل وفق السياقات المرجوة للضبط والسيطرة على ما يمنح له من زمالات. وفي بداية الآمر لم يكن يتم توزيع هذه المقاعد بطريقة التلاعب والوساطة، وكان الآمر يحصر بيد عدد قليل جدا من القيادة. ولكن مع مرور الوقت أضحت المقاعد الدراسية خاضعة للعلاقات والأمزجة الشخصية، وتم استغلال تلك الزمالات والمنح في غير مجالاتها ووجهتها الحقيقية، وشارك في ذلك ليس فقط الجانب العراقي وإنما شجعه وعمل عليه بعض الموظفين السوفيت.عندها شكلت تلك الزمالات معلما فارقا لسوء الاستخدام والتصرف غير العقلاني والمسيء. فقد باتت آليات توزيع بعض تلك المقاعد خاضعة لنفوذ وقرارات بعض الأشخاص دون غيرهم. وأغلب تلك الزمالات كانت تذهب إلى الأقارب أو المقربين ووفق العلاقات الشخصية والمحسوبية، و لم يراعى فيها المستوى والرصانة العلمية.
وكانت الجهات السوفيتية تمنح أحيانا مقاعد دراسية دون تحديد الاختصاص، لذا كان البعض يستغل ذلك ويحصر الزمالات الممنوحة، فقط في الاختصاصات العلمية دون غيرها.ونتج عن ذلك لاحقا أوضاع سلبية جدا، كون الكثير من هؤلاء الطلبة لم يستطيعوا أكمال شوط الدراسة أو أضاعوا الفرص العديدة التي منحت لهم للحصول على الدرجة العلمية، وكان العديد من هؤلاء غير مؤهل أصلا للدراسة العلمية، وكذلك لم يكونوا بالمستوى اللائق من النضوج الفكري.
 

في جامعة موسكو

ــ وهل عالج الجانب العراقي أو السوفييتي تلك المشكلة ؟


كلا . وإنما أستمر الحال وتطور إلى الأسوأ. فقد خلقت هذه الأوضاع تجارة رائجة للمقاعد الدراسية وظهرت شخصيات من العراقيين، استطاعت توظيف علاقتها مع الجانب السوفيتي وكذلك مع أوساط منظمة التضامن الأفرو أسيوي ومجلس السلم السوفيتي،للحصول على المقاعد الدراسية بصورة غير سليمة، من خلال الرُشى وشراء الذمم. فكانت تلك الشخصيات تقدم المغريات المالية للحصول على الزمالات الدراسية من الجانب السوفيتي، ومن ثم تقوم ببيعها لمن يدفع أكثر. وكانت بعض تلك الشخصيات تدير تلك الأعمال بشكل علني، ولكن تحت أنظار ومراقبة ورصد المخابرات السوفيتية وليس بعيدا عن دوائرها.وظهر بين أوساط العراقيين وخلال فترات طويلة شخصيات عديدة كانت تمارس مثل هذا العمل بشكل غير مخفي.
كان هناك شخص أشتهر بعلاقته الوطيدة بالأوساط السوفيتية أسمه جبار حاجم ، هذا الشخص بني له شبكة من العلاقات المشبوهة مع الكثير من المسؤولين السوفييت.ودائما ما كانت تثار حوله الشكوك ويتهم بالعلاقة بجهاز أمن الدولة السوفيتي ( كي جي بي ) ويعزو ذلك لقدراته الفذة على الوصول إلى ما يرغب فيه والحصول على مبتغاه عبر شراء الذمم.وكان أيضا يمتهن تصريف العملة بشكل غير مشروع.
ومن الحوادث الطريفة التي رواها السفير العراقي في موسكو وقتذاك السيد صالح مهدي عماش للدلالة على علاقة جبار حاجم بالمخابرات السوفيتية، هي حادثة وقعت للسفير ذاته. فمن عادة السفير عماش الركوب في مقدمة سيارة السفارة أي جوار مقعد السائق. وكان السفير عائدا من مطار العاصمة موسكو بعد توديع وفد رسمي عراقي، عندما وقع حادث للسيارة، جرح فيه عماش وأيضا سائقه، وقد اضطرت السلطات السوفيتية لنقله إلى المستشفى مع سائقه، وقد طلب السفير عماش من السلطات السوفيتية التكتم والتغطية على الحادث، لحراجة الموضوع بالنسبة لبلده العراق، ولكي لا يستغل للإثارة من قبل خصومه . وبعد أن رقد السفير في المستشفى، ولم تمض على الحادث غير نصف ساعة تقريبا، دخل عليه جبار حاجم في الغرفة حامل باقة ورد وقدم نفسه للسفير للتهنئة بالنجاة من الحادث. قال السفير عماش، بأنه لم يكن يعرف جبار حاجم ولم يشاهده سابقا، ولذا فهو يعتقد جازما بأن جبار حاجم على ارتباط أكيد بالمخابرات السوفيتية، وتساءل كيف تسنى له معرفة ما وقع لنا وبهذه السرعة إن لم يكن منهم.
والمدهش في حياة جبار حاجم، قدرته الغريبة للوصول إلى أي جهاز حكومي سوفيتي، فكانت أية قضية مستعصية للعراقيين عند الجانب السوفيتي، فإن تدخل جبار حاجم يضمن نجاح حلها.
وكمثال على طبيعة تلك السمسرة، أذكر حادثة لها دلالة كبيرة عما كان يحصل.فقد كلفني أحد شخصيات الحزب الشيوعي العراقي بالاتصال بجبار حاجم لمعرفة كيفية حصوله على الزمالات وبيعها، بعد أن انتشرت أخبار قيامه بهذا الأمر. وحين اتصلت به أخبرني مباشرة بأنه كان يشتري بعضها من بعض الحزبيين في موسكو وكذلك من بعض الموظفين المتنفذين في المؤسسات السوفيتية .وحدثني أحد الأصدقاء عن عملية شراء كان يقوم بها شخص عراقي آخر محسوب على التقدميين، هو شاكر القيسي . حيث استدان منه مسؤول منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي وقتذاك خليل الجزائري مبلغا قدره 3000 روبل وكان هذا المبلغ بالنسبة للموظفين السوفيت ومثلهم الطلبة العراقيين، يعد ثروة كبيرة في ذلك الوقت.وحين استفسر الصديق من السيد شاكر القيسي عن كيفية استرداده للدين من خليل الجزائري، الذي لا يملك ما يوفي فيه هذا المبلغ الكبير، فأجاب القيسي ضاحكا بأنه لا يفكر إطلاقا باسترداد المبلغ وإن هذا الدين يعد من الديون الميتة، ولكنها وعلى المدى القريب سوف تحي أموات. ولتفسير ذلك يستعرض القيسي الحال بالقول، دائما ما تكون هناك زمالات فائضة ، وفي تلك الحالة يقوم بالطلب من خليل الجزائري الحصول على عدد من المقاعد الدراسية من خلال معرفته وعلاقة الحزب بالمؤسسات السوفيتية، وكان ذلك يتم  مقابل قسم من الدين، ويقوم الجزائري بإبلاغ الجهة المانحة موافقة الحزب على ذلك التخصيص، فيأخذ القيسي من خليل الجزائري المقاعد الممنوحة ومن ثم يبيعها.

ــ وهل كان لهذا الفساد تأثير على مجمل طلاب البعثات العراقيين .

مع كل هذا الفساد والإساءات لم يكن ذلك  ليمنع من بروز أعداد ليست بالقليلة من الطلبة العراقيين بشكل جيد، وكان هناك الكثير ممن استطاع بجهود جدية أن ينال درجات علمية رصينة، وأن ينجحوا نجاحا بينا وباهرا في دراستهم، وقد شغل الكثير من خريجي الجامعات السوفيتية ومثلها باقي الدول الاشتراكية العديد من المراكز العلمية المهنية والمهمة داخل العراق وخارجه وحازوا على التقدير والاحترام والتقييم العالي والرضا من المؤسسات العلمية والمهنية التي عملوا فيها. وكان الفضل في ذلك يعود إلى رغبتهم الحقيقية بالدراسة ومثابرتهم وجديتهم وهي الأبواب الأولى لتفوقهم ونجاحهم ولم يكن هناك أي فضل أو منة سياسية في تقدمهم ونجاحهم.



ــ كيف كان تأثير تلك السلبيات على الدراسة في الاتحاد السوفيتي ومثله على البلدان الصديقة؟

الرضا والقبول السوفيتي وعدم الاهتمام بالنتائج التي يحصل عليها الطلبة الأجانب، وأيضا عدم مراعاة الجوانب العلمية والمهنية، أطاح بالعملية التربوية ووسمها بسوء السمعة وانعدام المستوى العلمي لخريجي الاتحاد السوفيتي، وبسبب ذلك بدأت الكثير من الدول الآسيوية والأفريقية تشكك بالشهادة التي تمنحها المؤسسات التعليمية السوفيتية و ما عاد البعض منها يعترف بتلك الشهادة أصلا.
في أحدى المرات حضرت لقاءً يوضح ذلك الفشل وعدم الثقة بالشهادات التي تمنحها المعاهد والجامعات السوفيتية.فحين كنت أعمل في وكالة نوفوستي السوفيتية لتوثيق العلاقات الثقافية بين الاتحاد السوفيتي والدول العربية وأكتب عن ذلك في صحف المدار والأخبار وغيرها وباسم يوسف الياس يوسف . كلفت في ذلك الوقت من قبل الوكالة بالذهاب إلى وزارة التعليم العالي السوفيتي حيث يتم هناك استقبال أحد الوزراء الأفارقة. وصلت القاعة وقدمت نفسي كمندوب صحفي عن وكالة نوفوستي. جلست عند مقاعد الصحفيين داخل قاعة الاجتماع، ورحنا نستمع لحوار الوزيرين. الوزير الأفريقي كان وزير التعليم الغاني، وبعد كلمات الشكر والترحاب الحار بالضيوف من قبل الوزير السوفيتي، قام الوزير الغاني بتقديم الشكر والامتنان للدعوة الكريمة ولحسن الضيافة التي تلقاها الوفد، بعد ذلك بدأ الوزير السوفيتي بالقول وبنبرة عتاب، بأننا وجهنا لكم الدعوة هذه لسبب أولي ومهم، وهو موضوع معادلة الشهادات، فنحن نمنحكم الزمالات الدراسية لأجل رفع المستوى العلمي للدارسين القادمين من بلدكم ونعرف أن هذا ينعكس ايجابيا على التطور العلمي والاقتصادي لبلدكم غانا، ونحن في هذا نبذل أقصى الجهود التدريسية ونمنح الدارسين مبالغ نقدية ومن ثم نمنحهم شهادات دراسية عليا، ونظن إن ذلك يعد ثروة وطنية لبلدكم. وبعد كل هذا تصلنا معلومات بأنكم ترفضون الاعتراف بشهادات التخرج من كلياتنا ومعاهدنا، فأرجو أن أجد جوابا على هذا.
أجابه الوزير الغاني بأن جميع ما تحدثت عنه سعادة الوزير، لهو صحيح ، فنحن لا نعترف بالشهادة التي تمنحها مؤسساتكم التربوية لطلبتنا. عندها استغرب الوزير السوفيتي ذلك وقال معاتبا، هل إن هذا هو من باب رد الجميل لما نقدمه لكم من خدمات ؟.فأجابه الوزير الغاني مستعرضا السبب في حدوث مثل هذا الآمر،حيث قال بأننا نرسل إلى بريطانيا أو أمريكا مجموعة كبيرة من الطلبة، يمكن القول مثلا مائة طالب لكل بلد، وحسب حاجة بلدنا من اختصاصات، ولكن بعد عام أو عامين يعود ما يقارب 50 أو 70 منهم دون الحصول على مؤهل دراسي، لكون مستواهم العلمي لا يوازي مستوى طلبة الجامعات هناك، أو أنهم أصلا لم يكونوا مؤهلين للدراسة في المعاهد والكليات في بريطانيا أو أمريكا، فيعودون بسبب فشلهم. ولكن حين نرسل مائة طالب إلى الاتحاد السوفيتي، فأن جميع هؤلاء وبعد مضي خمس سنوات يعودون وقد منحوا شهادات عليا باختصاصاتهم، وهذا ما يجعلنا غير موقنين بصحة الموقف الدراسي لهؤلاء، وأيضا بصحة طرق التدريس عندكم، لذا نشكك في طبيعة منحهم الشهادة ومستواهم العلمي. عقب الوزير السوفيتي على ذلك بالقول، بأن السياسة التعليمية في الاتحاد السوفيتي تسعى لمساعدة هؤلاء الطلبة على التحصيل الدراسي ولا تضع العراقيل في طريقهم. فنحن نعتبر ما تعلمه هؤلاء عندنا تنعكس فائدته على شعب غانا، وأنتم تحتاجون لمثل هذا التسريع في إعداد الكوادر.فرد الوزير الغاني مؤكدا بأن هذا النوع من التدريس ومنح الشهادات خاطئ ويسيء لكم قبل الإساءة لنا، لذا أخبرك سعادة الوزير بأننا لن نسمح لأنفسنا الاعتراف بالشهادات التي تمنحها معاهدكم وجامعاتكم. فنحن لدينا قواعد ومعايير نقوم بموجبها اختبار حامل الشهادة فإن استطاع اجتياز الاختبار عند ذلك نوافق ونصادق على شهادته ولكن وللأسف فأن أغلب من يأتي من طرفكم يفشل في اجتياز الاختبار، لذا اتخذنا القرار بعدم الاعتراف بالشهادة الصادرة عنكم دون تمحيص.
 
ــ هل منح الاتحاد السوفيتي مقاعد دراسية لأحزاب عراقية غير الحزب الشيوعي؟

خلال فترة ثورة 14 تموز أقتصر منح الزملات فقط لوزارة التعليم ومن ثم الحزب الشيوعي العراقي ومنظماته الجماهيرية، وقد صادف أن عرفت بأن أحد أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني قد حصل على زمالة، ولكنها منحت له من قبل أحد الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي .وبعد عام 1968 ووصول حزب البعث إلى السلطة في العراق وتطويرا للعلاقة، بدأ الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية بمنح حزب البعث وتنظيماته الجماهيرية مقاعد دراسية في الكثير من الاختصاصات العلمية والأدبية ومثلها في المدارس الحزبية حيث تدرس طرق  التنظيم الحزبي والعلاقات العامة أي الجهد المخابراتي. وكان أغلب هؤلاء من جهاز المخابرات العراقية. وكانت تقدم لهم الكثير من التسهيلات المالية والترفيهية، ويعزو السبب في ذلك لتطور العلاقات الدبلوماسية التي رافقتها المصالح الاقتصادية والمغريات المادية التي يقدمها العراق إلى الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية والتي كانت على شكل استثمارات وأعمال بناء وشراء أسلحة.
 وعلى مدى فترات نشأت علاقات غير سليمة بين الكثير من الطلبة والأساتذة في الاتحاد السوفيتي ومثلها في باقي الدول الاشتراكية حيث بدأ الطالب يحوز على شهادته  سواء كان ذلك في مستوى البكالوريوس أو الماجستير وحتى الدكتوراه، من خلال الهدايا العينية والمادية السخية التي يقدمها إلى الأساتذة، والتي كانت الرشاوى فيها تفقأ العين   

 
 

مع البعض من زملاء الدراسة في كلية الصحافة


100


كارل ماركس في العراق / الجزء التاسع والعشرون

ــ نعم أخويه أستاذ قادر آني يوم الجمعة أفتح من وكت لأن يوم الجمعة يوم مو عادي أولا هو يوم الله والكهوة تنترس بي زباين.
ــ ماذا تعني زباين؟
ــ هاي آني شلون وياك.. صدك جذب أنته فد مرة كلشي ناسي.
ــ كلمة جديدة لم اسمعها سابقًا.
ــ هم ميخالف عمي، الله لا يوفق ألي سوه بيك هاي السالفة.. زباين  يعني جمع زبانه.. يعني كطف مال جكاير... لو جمع زبون يعني هدوم مال الزلم.
قال ذلك أبو داوود وأخذ جسده الضامر النحيل يهتز جراء محاولته كتم ضحكته.
ـــ  ربي ضحك خير بهذا الصبح بس لا ينكَلب علينا شر؟
ــ ما الذي دهاك في هذا الصباح أبو داوود ،تتكلم بالألغاز؟
ــ عيوني أستاذ قادر حبيت أتلاطف وياك بهذا الصبح.. اليوم جمعة عطلة، والناس أتغبش وتجي من وكت تتسوك حاجاتها من هنا، والبعض عنده حاجه زايده بالبيت هم يجي اليوم يبيعه  ويحصل بيه جم فلس لعياله.. واليوم تبدي رحمة الله بعد الظهر تلتم ناس هواية من جماعة خبز حرية دولة مدنية، وبعضهم يجي يمنه بالكهوة ياكلون ويشربون.. اشو دكَوم ساعدني.. حرك نفسك!
رفع ماركس جسده فأحس بالتعب،  فالسهر كان يثقل رأسه وجسده ولكنه قاوم ذلك واستدار ليمسك التخت الخشبي من طرفه الآخر ليساعد أبو داوود على نقله  جوار مثيله أمام المقهى، ولكن جملة دولة مدنية أدارت رأسه وأيقظت عنده هواجس الفضول الشديد.
ــ أبو داوود الله يحفظكم وشلونكم عيني.. ما الذي تعنيه بجماعة خبز حرية دولة مدنية؟
ــ هسه ما راح أجاوبك... أنته خوب أندليت بيت الشايب أبو سبتي.
ــ  من هو أبو سبتي؟
ــ هذا شلون حجي؟ يمعود بيت أبو سبتي إلي جماعة أبو صبري وأبو تركي الأعضب البارحة ودوك لهناك ودزو أبو سبتي عليه وبعدين انتظروني لمن أجي وآخذك..
ــ نعم ..نعم أعرفه عند المنعطف الثاني من الزقاق ما بعد زقاقنا هذا..
ــ يعني ما أتيه لو رحت هناك..
ــ كلا أعرف الطريق جيدا..
ــ عجيب ويكَولون مخبل؟
همس أبو داود ذلك مع نفسه واستدار ليدخل المقهى.
ــ ماذا قلت؟
ــ هيجي ما كو شي ..
ــ لم تخبرني عن جماعة خبز حرية دولة مدنية؟
ــ دخذ هذي السطلة وروح لبيت أبو سبتي أمليه مي وتعال.. اليوم جمعة وبالعادة الماي ينكطع بالنهار فتره طويله.
ــ لماذا يقطع عنكم الماء؟
ــ أسباب هوايه يمكن يسوه قصطني على مود المظاهرات، لو أكو منو يقبض لو يريد يخربط شغلنه لو شغل الحكومة حتى يهيج الناس ضده.. بالعراق أتوقع كلشي يصير، وكلشي أله أسباب ومسببات ما يجي من وحده.. كلشي مخربط ومتعرف راس الشليله من آخره.. مشروع الماي صار ست سنوات وما كملوه.. بالمليارات يكَولون صرفنه عليه.. والبوكَ صاير عدهم مثل شربة الماي.. هسه أنته وين وديتنه دروح لبيت أبو سبتي جيب من عنده ماي وتعال بسرعة.
ــ أعطيها لأبو سبتي؟
ــ لا بويه أنته  تمليه بنفسك وترجعه لهنا.
رفع ماركس جردل الماء وسار متهاديًا وسط الزقاق. كان يريد أن يعرف عن هذا المجتمع حتى النتف الصغيرة التي تتفاعل وتعتمل وتتضاد لتخلق عاداته وتقاليده وحراكه وممارساته وأعرافه. تلك التي تختفي ثم تظهر فجأة دون تخطيط أو توجيه، فهذا التخبط والعشوائية في بحث الأمور هو النمط الشائع في المجتمع العراقي حين يراد التصدي للحياة ومشاكلها اليومية. دائمًا ما أراد أن يعيد للفكر النظري وظيفته النقدية وصلته بالواقع، ولذا فهو ينطلق من الواقع وليس غيره، أي البحث في ظاهر الواقعة ثم يقوم بتحليلها وكشف منطقها الداخلي وتعارضها أو تناقضاتها المتلازمة، وميول تطورها وإلى أين مآلها. يوم الجمعة حسب ما عرف عنه، هو يوم عطلة دينية للمسلمين حاله حال يوم السبت لليهود والأحد للمسيحيين، وهذه الأيام في سماتها الأعم ظاهرة اجتماعية سياسية تاريخية، حيث يتحول هذا التقليد إلى مكنون لعلاقة دينية أو مذهبية ومن ثم تأخذ طابعها الحقيقي بالسير والتحول إلى علاقة سياسية تتمحور في انحياز الدولة كليا إلى دين الأكثرية، مما يجعل من باقي الطوائف والديانات غرباء في بلدهم حتى وإن اعترفت الدولة بوجودهم وحقهم في ممارسة طقوسهم، ولكن طابع الدولة ومسماها الديني يرفض مساواتهم مع المسلمين. وهنا يتم بقوة التوظيف السياسي للخطاب الديني، ليكون في الأخير عنوانًا للفرقة والحروب، ويفرض طابع الجشع والنفعية وخيارات المفاضلة عند الترويج لذلك الخطاب، ويكون الوجه الأمثل والدين العملي للمجتمع المدني البرجوازي. ومع هذا فإن ما هو أنساني في الدين قابل للتحقق في الدنيا لو توجه الناس للفضيلة وأبعدوا عن الأقليات الدينية مشاعر الغربة عن المجتمع والدولة والمعاناة من التمييز والاضطهاد وهضم الحقوق، وهذا لن يتحقق إلا في ظل سلطة البروليتاريا وعملها الدءوب لبناء دولة العدالة الاجتماعية وجعل الجميع متساوين في الحقوق والواجبات دون استثناء ودون الرجوع لمقولات الدين وأعرافه.
كان أبو سبتي يجلس القرفصاء أمام باب الدار بثوبه الكالح، يتلفع بغطاء رأس أبيض مرقط بمربعات سود، كان ساهمًا يطالع السماء ويداعب بيده سيجارة يبدو من شكلها أنها صناعة يدوية، بين لحظة وأخرى يرتشف منها نفسًا طويلاً ثم يخرج دخانها الكثيف من منخريه وفمه ويروح يراقب كتلة الدخان البيضاء ويتعقبها ليطردها بنفخة من فمه، يلعب لعبته هذه كلما سحب رشفة قوية ثم يعقبها بزفير قوي، كان يراقب الدخان وهو يبتعد فيبتسم بنشوة رضا ظاهرة.
ــ السلام عليكم أبو سبتي.
لم يلتفت أبو سبتي نحو ماركس وراح ينظر إلى أعلى هازًا رأسه بحركات خفيفة وكأنه يبحث عن شيء علق عند سطوح وجدران البنايات التي أمامه.
ــ أبو سبتي...السلام عليكم..
لثلاث مرات كرر ماركس ذلك دون أن يسمع جوابًا. وفجأة نطق أبو سبتي دون أن يلتفت نحو ماركس.
ــ ها شتريد جاي.. ما تخاف يبسطوك..
قال ذلك أبو سبتي وهو يسحب الكلمة الأخيرة عنوة وكأنه يخرجها من منخريه
ــ أرسلني أبو داوود لجلب جردل ماء من عندكم..
ــ ولك أنته تبقه مخبل؟ أي دحجي عدل مثل الأوادم.. كَول بالصحيح شتريد... مو جاي من الصبح حتى تصطرني وأتخربط عليه الجو.
ــ حجي رحمه الوالديكم... ألم تفهم ما أقوله؟
ــ سليمه وصخونه لكل المخابيل.. هو أبو داوود ما لكه غيرك؟ كَول شتريد؟
ــ ماء لأبو داوود.
ــ فوت جوه وعلى أيدك أليمنه الحنفية.
من خلال حركة اليد فهم ماركس ما قاله أبو سبتي  فدخل البيت وذهب حيث حنفية المياه ليضع الجردل تحتها ويملأه بالماء ثم خرج ونظر إلى أبو سبتي وشكره. كان أبو سبتي غائم العينين يطالع السماء المغبرة، يرتشف سيجارته بتلذذ وقوة ويمارس لعبته مع دخانها، وكان يبدو وكأنه في عالم آخر، ساهيًا عما يحيط به ولم يكن ليعنيه دخول وخروج ماركس أو حتى وجوده بالقرب منه.
ــ في أمان الله حجي أبو سبتي.
كرر ماركس ذلك لعدة مرات بعدها عاد أدراجه إلى مقهى أبو داوود دون انتظار جواب أبو سبتي. وجد هناك أبو رجب وكذلك أبو عفيفة وعربته  يقفان قرب المقهى.
ــ هاي شنو أبو داوود شغلته لأستاذ قادر عندك؟
ــ أحسن ما كَاعد بطال عطال.
ــ عاد تنطي شي لو بلوشي؟
ــ بسم الله الرحمن، هو ليش أسوه، قابل كَام كسر السده.. الشغلة كله سطل ماي جابه من يم أبو سبتي، وهو يوميه يلطله تلث استكانات جاي بلوشي.. وبالشقه يكول أبو عفيفة سجلهن على الحساب، وفوكاهه  فندق بلاش..
ــ دنشاقه، هاي أشبيك صايره روحك زغيره تطفر بالعجل. عمي أستاذ قادر أغسل أيدك وتعال أكعد يمي خل نتريك .جبت صحن كاهي بالكَيمر والله على مودك رحت من الصبح يم القشلة حتى أجيبه.
ــ أشكرك إن شاء الله.. أبو رجب أغاتي.
ضحك الجميع وجلس ماركس وأبو رجب عند تخت داخل المقهى يتناولان الفطور، وقد بدأت حركة الناس تزداد مع مرور الوقت ودبّ النشاط في محلات السوق وامتلأ الزقاق بضجيج وصراخ الباعة. جلب أبو داوود قدحين من الشاي ووضعهما أمامهما فوق المنضدة. في ذلك الوقت شعر ماركس بأن ما يلح داخل رأسه من سؤال ما زال طريًا وقد كبر بشكل لا يحتمل التأجيل، لذا عليه أن يسأل أبو داوود عن معنى جملته، خبز حرية دولة مدنية، قبل أن تزدحم المقهى بالرواد ويبدأ يوم العمل الثقيل المتعب ولا يبقى لدى أبو داوود فسحة من الوقت لتفسير ما قاله.
ــ أغاتي أنشاء الله.. رحمه لوالديكم، حجينا أبو داوود.. لم تخبرني عن قولك بأن هؤلاء جماعة خبز حرية دولة مدنية.
ــ شلك بدوخة الرأس؟
ــ بودي معرفة ذلك، الباب اليجيك منه ريح، لا أدري ماذا بعدها.
ــ هاي شلك بيه .. شجاب هذا المثل بهذا الوكَت؟
ــ سمعتهم يتحدثون به.
ــ أي خوب مو كلشي تسمعه تكَوله.
ــ نعم .أوكي ..فقط أريد أن أسمع عن هؤلاء .

ــ شوف أستاذ قادر هاي صار جم سنه قبل وبعد المظاهرات يجون شباب حلوين يكَعدون هنا بهاي الكهوة.. يسولفون ويرطنون أريد أفتهم منهم شي ما أكَدر، أريد أوكَع على مايهم.. كلشي ما كو.. شنو حريه  حرية.. افتهمناها بعد ما أجوي الأمريكان للعراق، وبعد ما أبو شعبنا انسلك بهذي الحرية ألي إجتنه وأحنه بعدنه ما نعرف راسنا من رجلينا.. جان قبل هذا الوكت، واحد لاعب بالشعب طنب، وأحنه طكَت بلاعيمنا من العطش والجوع، ومن الخوف جنه نشتم بي ويه أرواحنا، وهسه بهذي الأيام حتى التلفزيون والإذاعة تصيح حرية حرية ديمقراطية.. بس والذي رفع السمه دون عمد، هذي الأيام مثل وكت صدام، إذا ما عدك حامي يحميك لو ما عدك واسطة، ولو بس تفك حلكَك وتكَول هذوله الجماعة مو خوش، ثاني يوم تلكيك الناس مشمور بالزباله.. لو تجيك ورقة تكَول أنجب أحسلك، هاي الحرية بالعراق من جنه ويه ابن صبحة، لحد ما أجو الأمريكان وجابو وياهم ولدنه الحبابين.. دخلينه استاذ قادر من هذي السوالف الفاينات، شراح تستفاد لو عرفت شنو حرية حريه دولة مدنية. إي مو هيه يمكن نفس السالفة السوت بيك ما سوت وخلتك بهذا الوضع.
ــ على أية حال ولو أني لم أفهم من قولك الكثير، ولكن ما الذي عنيته بدولة مدنية ؟.
عندها صاح أبو عفيفة بصوت عال وهو يقوم بترتيب مواد مطعمه فوق سطح عربته، مكملاً ما أبتدئه أبو داوود.
ــ بابه يا دولة مدنية هاي أنته شبيك.. هذوله الشيوعيين خابصين الدنيا بيه.. هيه شلون واحد يكَول.. كلمن بكيفه ومعليه بالآخرين، والدين الإسلامي ما لازم الناس يصير عدهم مهم ويجلبون بيه، لو يحللهم مشاكلهم.. يعني لتكَلي ولا أكَلك كفر بكفر. يردونه نصير مثل الغرب الكافر.. بالمناسبة فد يوم من جانو الأمريكان يفترون براحتهم بشوارع بغداد، سألت جندي منهم طبعا بالانكليزي.. جان يصيح ويشتم علينه بدون سبب.. كتله أنته تؤمن بالسيد المسيح جان أيجاوبني.. كَالي وهو هذا منو..وين بيتهم .. هذولة الشيوعيه يردونه نصير مثل هذا الجندي.
ــ هاي شلك بيه أبو عفيفة تره السالفة مو هيج.. وبعدين تره المتظاهرين أكثرهم مو شيوعيه.
ــ هيج مو هيج.. أبو رجب تره هذوله ثخنوهه كل جمعة كَاطعين أرزاق العالم.
ــ غير همه يردون مصلحة الشعب.
ــ هذا يا شعب... ليش هذا الشعب يا يوم عرف مصلحته، أشو كتلنه الملك وسحلنه الوصي ونوري السعيد وكتلنه عبد الكريم ويه جماعته وصار يوميه انقلاب عسكري وأجو البعثيين مرتين وحكمو الناس بالنار والحديد والشعب مجتف وخايف وما يعرف راسه من رجليه، بس يدردم وبدون نفع، وهسه أجو ذوله وشغل البوكَ ما لتهم للضالين، وأحنه وغيرنا نصرخ ونعيط وننبطح على ظهرنه والجماعة مطنشين، لا وجماله  ديضحكون على الناس.
ــ نعم وهذوله يتظاهرون حتى يوعون الناس ويدلوهم على باب رزقهم.
ــ أهو هاي هيه ما كو غيرهم يدلي الناس على رزقه.. إي مو الناس ما عده خبز وذوله يردون يجيبون الخبز.. المثل يكَول لو الرزق على كَد العقول جان البهايم ماتت من الجوع. الله ورسله وكتبه موجودين وكلشي ماشي بالعدل والناس عال العال، ورزقكم في السماء وما توعدون.
ــ وهذوله أصحاب عقل وضمير وإخلاص للوطن.
ــ خوش خوش.. البارحة سمعتها من إذاعة موزمبيق باللغة الصينية.. خوب انته اليوم ما نسيت العلم مالتك همين راح ترفعه وتقره نشيد الجمعة المباركة.. بسم الدين باكَونه الحرامية؟
قال ذلك أبو عفيفة هازئًا وطلب من أبو داوود أن يجلب له قدح شاي ثخين فجاء له بما طلبه.
 في الوقت ذاته كان أبو داوود يتكلم بصوت مرتفع وكأنه يوجه حديثه لجميع من كان جالسًا في المقهى.
ــ هاي الشغلة أمدوختني ومدا أفتهم منها شنو وليش وشلون. بس الخال أبو رجب كل جمعة يروح للمظاهرات ويشيل علم العراق وهمين يصرخ وياهم خبز حرية حرية دولة مدنية... وهسه بعد ما سمط الريوك المعدل ودهن زردومه بالكَيمر، راح يكَدر يشرحلنا شنو وليش وعليمن.. خوش أستاذ قادر أسمع زين بلجي تحصل بيه على ثواب ويصيبك أجر.
 ــ خوش ورحمه الوالديكم، أغاتي ممنون.
 قالها ماركس ضاحكًا.
ــ يله أبو رجب أسطره لحجي عبد القادر.. هذا فد واحد لجه يريد يعرف كلشي.


101


كارل ماركس في العراق/ الجزء الثامن والعشرون

ــ تروح على كَهوة أبو داوود وكَله عمي أبو صبري يريدك، يجينا وبدون عذر.. كَله شغلت عشر دقايق ويرجع.
ــ صار عمي.
قالها ابو سبتي وذهب مترنحًا خارج الدار.
ــ زين طلع هويتك أحسن ما أنطلعه أبدالك.
ــ لا توجد لدي هوية أو أوراق إثبات.
ــ هاي شنو يابه.. فتشو خل نوكَع على ما يه.
نهض ماركس عن الكرسي وتقدم اثنان وراحا يفتشان ملابس ماركس، لم يجدا شيئًا. فصرخ أحدهم بوجه ماركس..
ــ لك انته شنو ومنو ومن وين؟ هذا كلشي ما عده لا فلوس لا هويات.. يبين جاي ومضبط شغله حتى محد يكشفه لو انلزم.
تلك اللحظة أنفرج باب البيت ليدخل أبو تركي الأعضب وخلفه رجل طويل القامة ممتلئ الجسد يرتدي العباءة والعقال. كانا يتحادثان دون أن يلتفتا لما يحدث داخل البيت واقتربا من فتحة السلم المفضي إلى السطح عندها تنبه أبو تركي لتلك الزاوية من الدار فشاهد ماركس جالسًا على الكرسي تحيط به مجموعة رجال أبو صبري.
ــ هاي شنو هذا شجابه هنا؟
ــ عمي أبو تركي هذا جاي للسوكَ ويسأل على كهوة أبو داوود ويكول هوه صديقه.
عندها ضحك أبو تركي الأعضب قائلاً.
ــ هاي أنتو شلون صيده صايدين اليوم.. هذه خطية.
ــ شنو تقصد عمي أبو تركي؟
ــ صحيح هذا عرف لأبو داوود... أنته أستاد قادر مو؟
ــ نعم أنا أستاذ عبد القادر.
ــ يابه شباب هذا عرف راجع لأبو عفيفة وأبو داوود وهمه وصوني عليه، لحد يكَيسه، أخذنه محصوله من أبو عفيفة.
ــ لعد أحنه أتصورناه  بالأمن وأبو داوود عنده علاقة وياه.
ــ يمعود يا أمن، تره أبو داوود وأبو عفيفة جماعتنه ومن عدنه وبينه ما يخونون.. وياما وكفولنه وكفات.. وهو هذا الرجال بيا حال، ما تشوفونه بيا حال.. هذا جان أستاد مال جامعة وانسجن وصار بي ألي صار.
ــ أها، لعد من هيج  كلشي ما عنده موشل هينوب..
بعد أن صعد أبو تركي الأعضب السلم ودخل أحدى الغرف في الطابق الأعلى وقبل أن يغلق الباب خلفه قال.
ــ أذا تكدرون أنتم ودو للرجال الكَهوة أبو داوود. هذا هو بيا حال وأنتم حاصرينه بهالشكل؟
 
 راحت عيون ماركس تتنقل بين الوجوه، لقد تعرف على هؤلاء اللصوص  وقدم نفسه لهم دون ماض أو هوية. شخصيته الجديدة دخلت عرينهم ولم يجد بدًا من خداعهم رغم اضطرابه، ولكنه هذه المرة يشعر أنه كسب الجولة بسهولة، ضربة حظ كانت، فلو إن هؤلاء عصابة لا علاقة لها بأبو تركي الأعضب وأيضا بأبو داوود لكان الآن في حالة لا يحمل معها غير مشاعر استعجال الموت وليس غيره. ولكن رغم انقشاع حالة الشك عند هؤلاء فمشاعر عدم الاطمئنان كانت راسخة في فكر ماركس، فهو على يقين من أن أفكار جميع رجال العصابات  سريعة العطب ومن السهولة تغييرها في أية لحظة يشاءون. فكرة سيئة منحهم الثقة، فعالمهم المشحون بالصراعات والمؤامرات والخدع والجريمة يجعل منهم في حالة إرباك وارتباك دائم، وهم غير راضين عن وقائع يومهم لا بل واقع حياتهم بمجمله، ويكاد المرء يلمس ذلك في عيونهم القلقة وأمزجتهم المتقلبة، وحديثهم الخشن القاسي. فكيف يطمئن المرء ويعرف حاله بعد حين. احتمل ماركس نظراتهم الشرسة وهي تتسقطه بالكامل، وفي نفس الوقت كان يفكر بالخطوات القادمة التي سيتخذها معه أبو صبري، فربما ينقلب فجأة كل شيء ويبدأ الجميع ممارسة العنف معه باستهتار وشيطنة بحجة مداعبة أو الهزأ من مجنون. فالمجنون في هذا البلد دائمًا ما يكون ملاحقًا من الناس ومصدرًا للسخرية والطعون ويهمل ويعزل ويضرب ويطرد دون رحمة.
  لم يسمح ماركس لتفكيره الابتعاد كثيرًا عن حيز المكان أو الذهاب شططًا نحو فكرة تبعده عن الذي هو فيه. كان تفكيره محصورًا في باحة هذه الدار الخربة، ولكنه أيضًا يتذكر كيف كان مصير حبه معلقًا عند شفتي والد بيرتا الجميلة، كان يطلب منه أن ينطق كلمة القبول بزواجهما، وتلك كانت أصعب اللحظات التي ترقبها بصبر لا حدود له وانتهت بخيبة أمل مع كلمة كلا. فهل ينتظر الآن قرارًا مجنونًا من أبو صبري في حالة عدم حضور أبو داوود. ولكن ما علاقة هذا بذاك، كيف سمح لنفسه أن يجمع بين هاتين الحكايتين، هل بدا ذهنه يتشتت وينحرف نحو مسالك لا جامع بينها. كل تلك الحوادث التي توالت عليه قربته من عالم الهلوسات، أم  يا ترى فعلا تلبسته روح أستاذ عبد القادر وبدأ ذهنه بالهذيان. شعر بتعب شديد يدب في أوصاله فأرخى جسده على الكرسي ووضع رأسه بين يديه.
تلك اللحظة فتح الباب ودخل الرجل العجوز أبو سبتي وخلفه أبو داوود القهوجي الذي توسط الباحة ونظر في زوايا البيت وحين وقع نظره على كارل ماركس هز رأسه وقال.
ــ يمعود الخاطر الله متكلي وين وليت.. العفو يابه السلام عليكم.. شلونك عمي أبو صبري.
ــ هله أبو داوود.. الشباب لكو تايه بالسوكَ.
ــ خطيه أبو رجب صار تلث ساعات ما خله مكان بالسوكَ ما دور بيه على هذا البلية.. مسكين..
ــ بالريش همزين الله ستره.
ضحك ماركس ضحكة مفتعلة وقال بصوت عال.
ــ شنو يعني بالريش؟
ــ هسه محله أستاذ قادر د كَوم  يمعود.. تعال نروح، الرجال أبو رجب خبص الدنيا عليك بس عوزه يبجي حسبالك مضيع ابنه.
قال أبو صبري ضاحكًا:
ــ هاي غير حنيه على هذا الطباكَات!
ــ مو هو يعرفه من جان أستاد بالجامعة. يله بينه أستاذ قادر.
ــ أنشاء الله.. الله يحفظكم أغاتي.
قالها ماركس ذلك مبتسمًا فراح الجميع ضاحكًا ومرددًا.. ألله وياك استاذ قادر.

***
بعد أن خلت أزقة السوق من البشر وأغلقت المحلات أبوابها ومثلما باقي الليالي، حاول ماركس النوم ولكن هيهات،  فالنعاس لا يأتيه قبل الضياء الأول للفجر وبعد صراع طويل مع الأفكار، حلوها رغم قلته ومرها الذي يسيطر على أغلب ما يدور بخلده. يحضره الآن فولتير الذي أُعجب بالكثير من أفكاره حول الحقوق المدنية وحرية العقيدة ودفاعه عمن يتعرضون للاضطهاد دون وجه حق، وانتقاده الحكم الارستقراطي، والتوزيع غير العادل للثروة، ونظرته النقدية حول فرض الضرائب المجحفة، والعقوبات على أبناء العامة من قبل رجال الحكم ورجال الدين والنبلاء، أيضًا فكرته عن أن الكون قائم على العقل واحترام الطبيعة. ولكن من دراسته لتأريخ الشعوب التي أسهمت في بناء الحضارات الكونية فإن فولتير خلص إلى فكرة عدم الثقة بالديمقراطية، كونها تروج لحماقات العامة والدهماء وكان ينادي بحاكم مستنير منفرد بالحكم ولكنه يستمع لنصائح مستشارين أذكياء. وهذا الحاكم يمكنه دفع القوة والثروة التي يتمتع بها رعاياه في الاتجاه الأفضل. فولتير يفكر بالاستبداد المستنير كمفتاح للتقدم والتغيير. كفيلسوف نابغة كان يثير مثل هذه الأفكار وهو يشاهد الفوضى العارمة التي تعم فرنسا والعالم وما يواجهه الناس من مصاعب ومتاعب.
لن يكون مثل هذا الأمر سليمًا في الكثير من الدول. هكذا فكر ماركس، فهو بالذات ينشد  حكم الطبقة العاملة وبناء الاشتراكية لتحقيق دولة العدالة الاجتماعية، دولة يكون الإنسان فيها أثمن رأس مال، ويجزم أن  فيها خلاص البشرية. ولكن ما العمل مع بلد يخلو من تصنيف وانشطار طبقي، فالبرجوازية الوطنية طعنت من السلطة فأفرغت ساحتها لصالح تجار الفساد وصناع الجريمة، الذين يمارسون الأدوار المنحطة في مسيرة الاقتصاد والاجتماع، وهم من ولد كل هذه التناقضات والفوضى والأزمات الاقتصادية والاجتماعية دون ان يلعبوا دورًا رياديًا في بناء وطنهم. أما الطبقة العاملة فتبدو في حالة أكثر غرابة وتغريب من البرجوازية، فهي تظهر وكأنها منزوعة طبقيًا، أي لا يمكن وفي اغلب الأوضاع،  توصيفها وتصنيفها طبقيًا. فليس من الجائز إدراج كل من يعمل بأجر أو من يؤدي عملاً نافعًا ضمن جوقة العمال، وباستجلاء الموقف فإن أعداد من يدخلون في علاقات الإنتاج الرأسمالية وهم جميع من يبيع قوة عمله وينتج عنها فائض القيمة، عندها يمكن تسميته بالعامل، وفي هذا البلد لا يوجد ما يشير لوجود مؤشر حقيقي لهذه القوة العاملة، ولذا يضمحل الوعي الطبقي الذي يلعبه الفرد وأيضًا الطبقة، والطامة الكبرى أن هلامية الطبقة العاملة جعلت المرء يتعذر عليه وسمها حتى بطبقة لذاتها فكيف والمطلوب في الصراع الطبقي والدور التاريخي أن تكون طبقة بذاتها؟
ولكن أيمكن أن تكون نظرية فولتير في الحكم صالحة للعراق بشكل خاص. فما شاهده من انفلات وفوضى عارمة تتعكز على ما سمي بالديمقراطية والحريات التي جلبها الأمريكان للإفساد وليس للإصلاح، فراحت الناس تتصرف فيها بعشوائية مقيتة بل مهلكة في الكثير من المواقف. ربما من المقنع أن هذه الأفواج من البشر الضائعة تحتاج إلى سلطة ذكية حكيمة واعية لمهامها، وذات برنامج سياسي اجتماعي اقتصادي يحيي البلد وينقذه من الذهاب نحو الفشل والسقوط المريع. وعليها قبل أي شيء آخر منع العامة والدهماء من فرض خياراتهم على الناس، وأن يكون الحاكم شديد المراس قويًا يعرف كيف يوجه رعاياه نحو الفضائل والتغيير والحداثة، ويقف بحزم لمنع التصرفات الطائشة وعصابات الجريمة والحريات السائبة، ولكن من أين وكيف يأتي هذا الحاكم وقد تقاسم الدهماء السلطة وقبضوا عليها بيد من حديد.
ــ أكَعد يمعود، أكعد اليوم جمعة والصلاة على رسول الله محمد.

ــ لست نائمًا فقط أغمضت عيني لفترة وجيزة، كم الساعة الآن؟
ــ هاي هم حلوة.. تسأل على الساعة.. شنو تريد تروح للدوام؟!
ــ كلا، فقط أردت أن أعرف الوقت.
ــ نعم أخويه أستاذ قادر آني يوم الجمعة أفتح من وكت لأن يوم الجمعة يوم مو عادي أولا هو يوم الله والكهوة تنترس بي زباين.
ــ ماذا تعني زباين؟


102

كارل ماركس في العراق / الجزء السابع والعشرون

بعد أن ملّ الجلوس والنوم في المقهى لثلاثة أيام، يُزق فيها الشاي من يد أبو داوود ويُطعم من طعام أبو عفيفة مثل فرخ طير كسير، ويستمع لهذر جلاس المقهى وروايات أبو رجب عن أستاذ عبد القادر. جازف ماركس وقرر القيام بجولة بين أزقة السوق. توقف عند جميع المحلات وتمعن في البضائع التي تعرضها العربات الجوالة والأكشاك الثابتة وصل نهاية الزقاق ثم عاد أدراجه، شعر برهبة المكان، فالضجيج والزحام وتنوع البضائع ووجوه الناس الشاحبة المتعبة اللاهثة لا تدع للمرء قدرة على التركيز والثبات حول فكرة واحدة. عاد ليجلس جوار أبو عفيفة لبضع ثوان ثم نهض بعجالة واتجه صوب وسط السوق. كان أبو عفيفة يعاينه وابتسامة عطف ترتسم على شفتيه وراح يهز يده استخفافًا. توغل ماركس بعيدًا في زقاق جديد ثم آخر، بعد ذلك فاجأته استدارة أجبرته العودة ثانية لذات الزقاق، وأخيرًا قادته قدماه للخروج من فتحة للسوق أوصلته إلى شارع أسفلتي عريض بممرين للسيارات ونفق، تزدحم العربات فيه بشكل غير عادي. توقف لينظر ما حوله ويراقب حركة سير الناس والعجلات. كان الزحام على أشده وأصوات السيارات تختلط مع أصوات الباعة. على يساره يمتد جدار أسمنتي عالٍ يحجب واجهات الدكاكين والبضائع عن الشارع الإسفلتي. سار محاذرًا ارتطام الأجساد في الممر الضيق المزدحم جراء كثرة البضائع المعروضة في الواجهات وعلى جانبيه، فلم يترك للبشر سوى فسحة ممر يتعذر السير خلالها بسهولة. لم يشاهد في حياته مثل هكذا زحام مربك غير مرة سابقة كانت في أحد أسواق الجزائر. وحتى ذلك الوضع الذي شاهده في الجزائر العاصمة، لم يكن بمثل هذه الحال من الفوضى.
 نعم يتحالف أصحاب المصالح الكبرى لخلق مثل هذه الفوضى لتمرير بضائعهم وتحقيق مآربهم والعمل على إشاعة الأساليب الملتوية ليعيشوا وجهاء على حساب هذه النسب العالية من الباعة المسحوقين. الجميع هنا يتدبر أمره كيفما يستطيع، فهم يجدون أنفسهم متروكين يواجهون مصيرهم لوحدهم،على الأقل هكذا يوحي منظرهم. أغلب هؤلاء صغار يعملون دون ضمانة للحاضر أو المستقبل، وتراهم يتنافسون في يومهم من أجل لقمة العيش بصراع ظاهر ومستتر، فلقمة العيش تفرض مثل هذا الاقتتال. هكذا فكر ماركس بعد أن شعر بعدم قدرته على احتمال هذه العشوائية والوضع المربك، ومن الجائز أن يفقد في نهاية جولته طريق العودة، فقرر الرجوع من حيث أتى. عرج ماركس عائدًا ودخل الزقاق القريب متوجهًا نحو مقهى أبو داوود. بعد استدارة قصيرة أجتازها بصعوبة دخل في زقاق، شعر فجأة وهو يدخله بأنه أضاع الطريق فراح يتلفت حوله في محاولة للتعرف على دلالات ممكن لها أن ترشده إلى الطريق الصحيح. كلما توغل في الأزقة المتشابهة والمتشابكة كان يفقد المكان، فشعر وكأنه داخل لعبة متاهات الممرات المغلقة. بدأ التوتر يسيطر عليه وأصبح في حالة نفسية معبأة بالهواجس غير المريحة، فهو لا يريد ولو لفترة قريبة أن يفقد المكان الذي التجأ إليه، وكذلك لا يود في هذا الوقت الابتعاد عن صحبة أبو داوود وأبو رجب وتصوراتهم الطيبة عن أستاذ عبد القادر الذي حل هو بديلاً عنه، وأيضًا أبو عفيفة وسخاءه وطيبته.
باتت المقهى تعني لماركس الكثير، فهي ليس فقط مكاننا للمبيت، وإنما يجد فيها الحماية ضد التهديد والعنف، حتى وإن كانت تلك الحماية مؤقتة وجاءت عبر وساطة أبو عفيفة. يدرك الآن أن ما حدث لهذا المجتمع كان كبيرًا وقاسيًا جدًا، لذا فالعدوانية ظاهرة طبيعية عند البشر وبالذات الذين مورست عليهم ضغوطات كبيرة وواجهوا عدوانية مسلطة بشعة ومجرمة مثلما يتحدثون عنها، لذا فهم يفرغون ردود أفعالهم بممارسة العنف ضد الأضعف منهم، وهو اليوم وفي مثل هذه الظروف يبدو الأضعف في هذه المعادلة. فهو شخص تائه وحيد دون أوراق ثبوتية وأجنبي بين أناس لا يفقهون ما يريده، ويتوجسون من الغريب، وها هو الآن يمارس طقوس الخداع والتمويه ليحصل فقط على الطمأنينة ليس إلا.
أين مقهى أبو داوود في هذه الفوضى والتخبط. ليست بأزقة كبيرة أو كثيرة ولكنه أضاع فيها طريقه بسبب عشوائية المحلات والاكشاك والعربات. تجرأ وسأل صبي يقف عند عربة لبيع أقراص الأفلام.
ــ هل تعرف أين تقع مقهى أبو داوود؟
ــ ليش عمي شتريد منه؟
ــ   لا أريد شيئًا فهو صديقي وأريد أن أستدل على مكانه.
ــ أبو داوود عده صديق أجنبي!
ــ ماذا تعني أجنبي؟
ــ أنت مو أجنبي لو ويه الجماعة؟
ــ وكيف عرفت أني أجنبي؟
ــ مبين من حجيك... ما عدنه واحد يحجي هلشكل إذا مو اجنبي، لو شو شنو.
ــ جيد وأين تقع مقهى أبو داوود.
ــ شمدريني... آني ما أعرف روح أسأل غيري.
استدار ماركس وعاد أدراجه من حيث أتى في محاولة لاستبيان صورة جديدة للمكان الذي قدم منه عسى أن يجد دلالة ترشده نحو المقهى. وقف عند رأس الشارع وراح يتأمل المحيط وما حوله، شاهد الصبي صاحب العربة يلوح له من بعيد وكأنه يستدعيه. ربما وجد دالة ما يسعفني بها، هكذا فكر ماركس وهو يتحرك باتجاه الصبي. وقف أمامه مبتسمًا وكان الصبي يهرش رأسه بعجالة ويتلفت يمينًا ويسارًا دون أن ينظر لماركس أو حتى ينطق بكلمة. وقف ثلاثة شبان جوار ماركس راحوا ينظرون له بحدة ظاهرة ثم قال أحدهم موجهًا كلامه لماركس.
ــ أخونا أتفضل ويانه.
ــ إلى أين؟
ــ أنته مو أدور على كَهوة أبو داوود.
ــ نعم أبحث عن تلك المقهى.
ــ لعد تعال أحنه نوديك لهناك.
لم يخنه حدسه فهو الآن تحت رحمة هؤلاء وهو مثلما فكر، بات الحلقة الأضعف، فالشباب الثلاثة يطوقونه ويوجهون سيره ليدخلوا معه في زقاق مغلق النهاية، لم يحاول المقاومة أو الممانعة فقط سألهم عن السبب في إجباره للسير معهم، فأجابه أحدهم بأن واجبهم يحتم عليهم مراقبة جميع من يدخل هذا السوق، ولن ندعك تتأخر فقط دقائق معدودات بعدها نرشدك إلى مقهى أبو داوود. لم يفكر في طلب المساعدة من زحمة الناس أو محاولة الهروب. فإن صرخ طالبا النجدة، ربما ذلك سيدفع هؤلاء الشباب لقتله مباشرة وبدم بارد ووسط السوق دون خشية من حشود الناس، فالشرر كان يتطاير من عيونهم وهم يحادثونه ويحثونه على السير أمامهم. دخلوا زقاق ضيق دون مخرج أخر، دفع أحدهم بابًا خشبيًا ثقيلاً فأصبح الجميع وسط باحة مكشوفة تحيط بها غرف عديدة يبدو أنها مخازن لبضائع متنوعة ومتعددة.دفعوا به نحو زاوية خلف كومة أخشاب كبيرة وماكينة لتشطيب الخشب.
أجلسوه فوق كرسي خشبي يبدو جديد الصنع، بعدها انهالت عليه الأسئلة.
ــ من وين تعرف أبو داوود؟
ــ صديقي وأنا أبيت عنده ليلاً.
ــ عجيب.. وشوكت تعرفت عليه؟
ــ ليس من وقت بعيد؟
التفت أحدهم وأمال رأسه على صاحبه وكأنه يهمس له بكلام سري ولكن ماركس كان يسمعهما بشكل واضح.
ــ أكلك خاف هذا يطلع بالأمن؟ أشو حتى حجيه مو بشكلنا.
ــ ما أعتقد.. أبو داوود صاحبنه وجان كَالنه عليه.. خوب أبو داوود ما يلعب بذيله ويسوي علاقة بدون ما نعرف.. أبو داوود عينه بالمنطقة وإذا هذي العين أتغشنا نقلعه.
ــ إي نقلعه.
ــ انته شنو أسمك؟
تردد ماركس قبل أن يجيب على السؤال، ما الذي عليه قوله، الموقف لا يحتمل تغير في الأدوار أو القفز فوق لحظة يتقرر فيها مصير الإنسان دون اتخاذ قرار صائب، عليه الآن ودون تردد الاختيار بين الهوية الأصلية أو البديلة. ليرمي كلمته وما يحدث بعدها فليحدث، فما عاد يهتم للقادم، فليس ما يحدث من حوله مفارقات، بقدر ما هي نكبات ونكد وقدر تعس يهرول وراءه أين ما أراد الذهاب. وها هو يقع مرة أخرى بيد عصابة جديدة ربما لن يفلت منها هذه المرة وقطعًا لن يخرج سالمًا.
ــ عبد القادر؟
ــ وين بيتكم بيا منطقة؟
ــ لا أعرف.
ــ شكد صارلك تعرف أبو داوود.
ــ لا أتذكر.
ــ شوف أبو صبري.. هذا مو خالي.. هذا لو بالأمن ودازي يشمشم بالسوكَ.. لو شوف شنو عنده من لعبه جبيره تخوف؟
ــ يابه والله المعبود وروحه الخالي وداعة أبني صبري.. إذا هذا طلع بالأمن وعنده علاقة بأبو داوود.. راح أخلي جثثهم ثنيناتهم معلكَة  اباب الكهوة. حجينا أبو سبتي رحمه الوالديك ما تجي يمي.. تعال أهنا..

كان أبو سبتي جالسًا أمام أحد أبواب الغرف يعبأ ألعاب أطفال بأكياس نايلون بعد أن يخرجها من صندوق خشبي كبير.كان شيخًا في السبعينات من عمره. وبعد أن سمع نداء أبو صبري عليه، رفع عجيزته بتثاقل وتقدم منحني الظهر ليقف جوار ماركس.
ــ ها عمي أبو صبري كَول آمر.
ــ تروح على كهوة أبو داوود وكله عمي أبو صبري يريدك، يجينا وبدون عذر.. كَله شغلت عشر دقايق ويرجع.
ــ صار عمي.

قالها ابو سبتي وذهب مترنحًا خارج الدار.


103


كارل ماركس في العراق / الجزء السادس والعشرون

ــ يابه إذا جانو يفتهمون شنو يكَول.. لعد ينجرلهم أذن وحقهم من يحبونه. بس سمعته يحجي بالقيمة.. تره يمكن خطيه ديفكر ومشتهي مركَة قيمة.. والله لخاطر هذا الرجال راح أوصي أم داوود تسوي قيمه أوباجر اجيبله سفرطاس كامل.. ثواب لروح الموته.

كان ماركس يفكر في حلمه الذي تحدث فيه مع رفيقه إنجلز بتفاصيل كان يود الإفصاح عنها، كان يحتفظ بها داخله وها هو قد قالها في حلمه الجميل، استرسل فيها وكأنه يتحدث عن وقائع ونماذج تتعلق بطبيعة هذا المجتمع كان بحاجة لتدوينها. تمنى لو لم يستيقظ من النوم وأن لا يأتوا لإيقاظه، فأحلام الرعب والكوابيس كانت الوحيدة التي تعبث بلياليه على مر الأيام الماضية، ولكن اليوم اختلفت وكان رفيقه بجانبه مثل ماضي الأيام.
ــ عيوني قادر دكَوم غسل وجهك.. راح يجي أبو عفيفة حتى تتريك وتشرب جاي وترتاح.
ــ هم أجوك جماعة أبو تركي بالليل؟
ــ نعم أتوا منتصف الليل وكانوا مؤدبين جدًا.
ــ خوب ما آذوك لو فتشوك؟
ــ كلا كانوا مسالمين.
ــ إي مو أبو عفيفة دهن زردومهم.
ــ دهن زردومهم ..ماذا تعني كلمة دهن زردومهم؟
ــ يعني أنطاهم المقسوم.
ــ وما معنى المقسوم؟
ــ يعني الخاوه الشهرية.
ــ وماذا تعني الخاوه الشهرية؟
ــ لك عاد مو من صبحية الله، تفرغ خبالاتك براسنا.. هسه أحنه خاشين يوميه بحزوره وطالعين من حزوره وأنته اليوم جاي تسأل وأحنه أنجاوب وما تفتهم.
ــ أي أبو داود.. تتذكر ذيج الأيام السوده من طلعو علينا البعثية إبلتيقه.. أنت تسأل والحزب يجيب.. هسه أستاذ عبد القادر يريد يسويها ويانه.. عيوني أستاذ قادر دكَوم غسل وجهك وأشرب ماي وأتهده بالرحمن ولكل سؤال جواب أنشاء الله.
ــ أنشاء الله أغاتي.
قالها ماركس ورفع عجيزته بتثاقل وذهب إلى داخل المقهى ليقف عند حنفية الماء للاغتسال. وقف أمام المرآة المغبرة الموضوعة أعلى الحنفية وراح يطالع وجهه الشاحب المتعب وعينيه الكسيرتين. ها هي لحيته قد نمت وارتفع شعره رأسه بعض الشيء، ربما لا يحتاج سوى أسابيع أخرى لتختلف صورته كليًا عن وضعها السابق بعد الحلاقة القسرية القاسية التي أرتكبها المجرم أبو بشير ومرتزقته وكذلك عندما كانت عليه في السجن، ولكن ماذا سوف يكون عليه الوضع بعد ذلك الزمن. مد يده وأراحها تحت صنبور الماء ثم رشق بقوة وجهه بقبضة ماء، وكأنه يريد أن يوقظ نفسه من غفوة أو غفلة، شعر في هذه اللحظة برغبة قوية في جعل انفعالاته تنفجر، رغب أن يصرخ بكل ما أوتي من قوة، يريد لروحه أن تستجيب الآن برد فعل حاد لكسر لحظة المتاهة المرعبة التي يدور فيها عقله وجسده، يريدها أن تصرخ ليخرج كل ذلك الغضب اليائس الحبيس الذي يمزق صدره. يريدها أن تعلن تمردها على الواقع المفرط المرارة الذي وقعت فيه، تفتت حال التخبط والاعتباطية التي يجرجره نحوها القدر الهمجي الخبيث، أن تكسر عجزها وقصور تحليلها لما هي عليه، وتعاف السؤال عن كيف ولماذا وضعت حالها في كومة مآزق وبدت وكأنها في ميزان المعالجات جاهلة وفاقدة للقدرة وتفتقر لأي خبرة حياتية، ضعيفة الحيلة مدحورة القوى. وهو في تفكيره اليائس المتطير هذا راح يرشق وجهه بالماء بقوة وعجالة وتكرار جعل أبو داوود وأبو رجب ينتبهان لما يفعله ماركس ويتبادلان نظرات الشفقة.
ـــ شوفه خطيه.. مسكين.. مو بيده.. الله لا يوفقكم والله يجازيكم بالأسوأ منه على هذي العملة السويتوهه بالرجال.
ــ أي والله خطيه مسكين.. والله آني أخاف فد يوم يسوي بنفسه فد شي.
ــ عمي أستاذ عبد القادر.. أستاذ عبد القادر.. تره أبو عفيفة أجه بعربانته.. تعال تريك..
قال أبو رجب ذلك وسحب ماركس من يده ليجلسه فوق التخت جوار عربة أبو عفيفة. الذي بدوره سأل ماركس عن ما جرى له ليلاً فلم يرد ماركس بغير كلمة واحدة.
ــ جيد.
ــ خوب محد آذاك؟
ــ كلا. شكرًا لك.
ــ هل ترغب بلفة كباب عروك لو تتريك ويايه جبن؟ آني جايب ويايه لفتين جبن.. ملت روحي من العروك.
ــ ليس لي شهية للأكل الآن.. شكرًا لك سيدي.
ــ حتى لو نص صمونه تفتح بيه ريكَك.
ــ كلا فقط أرغب بتناول الشاي.
بحركة وكأنه يدير شيئًا ما بأصابعه في الهواء أومأ أبو عفيفة لأبو داوود ثم أشار نحو كارل ماركس، فهم أبو داوود الإشارة فجاء بقدح شاي وقدمه لكارل ماركس وجلس جواره.
ــ وحق الأخوة هذا من راس القوري أستاذ قادر... بلجي على كَصتك الشغل اليوم يصير أحسن.
ــ شنو راس القوري؟
ــ راس القوري يعني أنته أول واحد نقدمله الجاي قبل ما يطلع جاي من القوري لغيرك.

أخذ ماركس يرتشف الشاي ويطالع حركة الناس في السوق وفضل عدم الإجابة على الأسئلة أو حتى مجارات حديث أبو داوود .كان يريد أن يعبر عن موقف ما أمام الأحداث وأن لا يظهر قلة حيلة وعدم قدرة على التحكم بالوقائع. وكمحاولة منه لسد الثغرات الغير متوقعة إن شارك بالحديث أو أجاب على الأسئلة، فضل خيار الصمت في هذا الوقت،فهو إيحاء مناسب لحالة الجنون التي يظنون أنها تتلبسه. دعهم يفكرون بما يشاءون فما عاد ذلك يهمه، وليمتنع عن الإجابات لبعض الوقت حتى لا تكون إجاباته مصيدة لكشف أسراره، وما عليه بعد كل تلك المصائب غير التفكير بالخروج نحو فضاء الحرية والوصول إلى بلده بعيدًا عن بلد العجائب ومكمن القلق والخطر، وليكن خروجًا عجولاً من هذه المتاهة. عليه أن يجد الدفاع المشروع عن النفس، وهذا لن يكون موجودًا دون تغليب المصلحة الذاتية. ولكن هل ممكن تحقيق هذا بوجود القلق والخوف المتفجر أمامه كل لحظة. وهل تغليب المصلحة الشخصية سوف يجلب الأمان ويطمئنه.
ــ عيوني أستاذ قادر دكَوم بدل وره الوجاغ.. هذي سترة وبنطلون وقميص بلكي تصير على كَدك؟
ــ عاشت ايدك أبو عفيفة والله أبن أوادم يصيبك ثواب أو أجر بهذا المسكين.

ــ هاي باقيات عندي من جنت معلم.. أم عفيفة ضامتهن بالكنتور.. أدكَول هاي الهدوم إذكره بأول شوفه شافتني بيها من أجينا نخطبه.. وآني كل مره أكلها يمعوده تعوذي بسم الرحمان أي مو صرنه شياب، والهدوم هاي راح ياكله العث، لكن هيه راكبه راسه ومترضه.. البارحة كَلت يزي عاد وهاي الهدوم ترهم القادر أفندي وخلي يكدرها.
ــ بعد شتريد أستاذ قادر.. أجاك قاط بالباكيت.
ذهب ماركس خلف الستارة حيث مخزن قناني الغاز المجاور لطاولة قوارير الشاي. خلع ملابسه القديمة المتسخة وارتدى الملابس التي أهداها له أبو عفيفة ومسح بقميصه القديم فردتي حذاءه الموحلتين، وخرج فارتفع صراخ وتهليل من أبو رجب ومعه أبو داوود مرددين.
ـــ الله ومصلي على محمد وآل بيت محمد.. عريس وربعه يزفونه.. عريس وربعه يزفونه.
لم تبدر من ماركس كلمة ولكنه ابتسم ابتسامة شاحبة لم يرغب بأن يلاحظها الغير وخرج ليجلس في مكانه المعتاد قرب عربة الطعام.
ــ يابه كون على ثقة حسبالك الهدوم أمفصله إلك تفصال، علخير عيوني أستاذ قادر.
ــ أشكرك أبو عفيفة.. ممنون أغاتي.
ــ أي هسه لو مكمله وجايبله بينباغ جان رجع مثل كَبل على عهد الكلية من جان يوكف بالصف هيبه.
ــ أستاذ قادر تلبس رباط ويه القاط؟
ــ لا أحبذ لبس ربطة العنق.
ــ د عوفو للرجال.. هسه بعدك متشتهي تاكول أستاذ قادر..؟
ــ قطعا.. لا أرغب الطعام الآن.
ــ براحتك.. من تجوع كَلي.

 

104

كارل ماركس في العراق الجزء الخامس والعشرون

 عندها عاد ماركس إلى رقدته وقد شعر بشيء من الاطمئنان وراح ينتظر بزوغ فجر يوم جديد.
 تضاربت الأفكار في ذهنه، فها هو الآن في وضع قلق وغير مطمئن ولكن في نفس الوقت يشعر بأنه وجد بعض الحماية جراء  تعاطف له ما يبرره، ولكنه وفي حقيقة الأمر يأتي بالذات على حساب شخصيته. فوصمة الجنون للأستاذ قادر وجدت طريقها لتستلب شخصيته الحقيقية عند هؤلاء، ولكنها في الوقت نفسه تؤشر لفترة مظلمة وقاسية استلبت من الناس حتى عقولهم. فالعنف والجنون باتتا صنوين لمرحلة امتدت طويلا، ولم تكن شططًا عابرًا في حياة الكثير من العراقيين، وحين يتحدثون عنها، يصفونها بشتى المسميات لا بل كانت ومازالت عندهم ظاهرة مثلت نموذجًا فريدًا للقسوة والظلم، حتى وإن واجهتهم كل تلك المشاكل والصعوبات في الراهن من الوقت، فإن هناك غالبية لا تريد أن تذهب لمقارنة الماضي بالحاضر، وتصر على أن الحاضر هو نتاج ذلك الماضي وتلك حقيقة بائنة، وقسوتها لا تنكرها عين منصف. ولتفسير العنف والقسوة المجتمعية، نجد أن الماضي له من السطوة والتأثير الكثير. فالصفات العدوانية والعنيفة لها جذورها وتربتها التي تغذت منها، ولكن لا يمكن أن تكون خاصية إنسانية. فهؤلاء الناس لو أتيحت لهم فرصة حياة متجددة إحيائية تطورية ويرفع عن كاهلهم عبء التهديد النفسي وكبت الحريات والعوز المادي، ولو كانوا في وضع مريح يسمح لهم بالتفكير العقلاني، لتغيرت الكثير من طباعهم وقدموا ما يشي لقيمتهم الإنسانية الحقيقية. ولكن مع انعدام كل هذا، فالمواقف الشخصية والثبات والنفرة من التغيرات يشخص عندهم ظاهر ويرسم في إدارة الظهر للعالم وتفريغ العوامل الذاتية في فورات غضب وانفعالات فجائية وعناد في المواقف، ولم يأتِ ذلك اعتباطًا وإنما جاء بسبب الشعور بالتهديد المسلط دائمًا عليهم.أيضا عوامل القلق وفقدان الحريات مما يربك التوازن الوجودي لديهم، ويبعدهم عن حقيقتهم كشعب يعد من أولى شعوب الأرض وبناتها في هذا العالم.
      ***

فتح ماركس عينيه على سعتهما وهو ينظر إلى صديقه إنجلز الجالس جواره على ذات تخت المقهى الذي أتخذه سريرا. كانت مفاجأة غريبة ولكنها أدخلت السرور والارتياح لقلبه وشعر وكأن الحياة ردت إليه لذا قال بنشوة وفرح غامر.
ــ ما الذي أتى بك يا صاحبي؟
ــ استلمت رسالتك وعرفت أنك في مأزق كبير ففكرت أن أقدم لك المساعدة قدر ما أستطيع.
ــ آه كم أنا بحاجة إليك في هذا الظرف العصيب. لم أكن لأعرف من أين سوف يأتيني العون لأهرب من هذا الكابوس الذي تلبسني. يا صاحبي كم أنا فرح بوجودك، دائمًا أجدك جواري وأنت تضع معي خطة خلاص هذا العالم، وتشاركني حتى في همومي ومشاغلي الشخصية، أنا جد فرح بوجودك أيها الرفيق الباسل إنجلز.
ــ لم أمنع نفسي من المجيء إلى هنا والبحث عنك، فقدري أرتبط بقدرك وبتنا صنوين في هذه الحومة. لا فكاك عن بعضنا البعض. أليس ذلك صحيحًا رفيقي العزيز؟
ــ نعم أيها الرفيق.. كنت أنت سندي وصاحبي وأيضًا ملهمي في الكثير من المواضيع.
ــ صديقي ورفيقي ماركس أنت من أكتشف قانون تطور التاريخ البشري وهذه الحقيقة البسيطة والواضحة دائما ما كانت تخفيها وتشوش عليها هيمنة الايدولوجيا، وهي إن الإنسان يجب أولا أن يأكل ويشرب ويجد المأوى والملبس قبل أن يصبح في استطاعته الاهتمام بالسياسة والعلم والفن والدين.ألم تلاحظ هذا هنا في العراق.
ــ أعرف هذا عزيزي إنجلز وما مجيئي إلى العراق غير محاولة لسبر غور حركة وتطور التاريخ البشري واكتشاف الحقيقة المتعلقة بالصراع الطبقي وطبيعة وسائل الإنتاج في هذا البلد العجيب الغني بإفراط والفقير بذات المستوى ونفس الوقت، ولكني تعرضت للتشويش وأدخلت في دوامة صعبة ولم تعد لدي قدرة لتلمس وتتبع الأحداث والتطورات، ولم أجد طبقة عاملة بالمعنى الحرفي والاحترافي للكلمة، وأيضًا تختفي بشكل مشوش البرجوازية ومثلها وسائل الإنتاج. لذا فطبيعة الصراع الطبقي مشوشة ومتداخلة بشكل غريب لن يستطيع المرء تفسير الكثير من وقائعه اليومية أو مسالكه ومآلاته بعمومها. ولم أجد عندهم  إنتاجًا للوسائل المادية الحقيقية الضرورية للعيش، فهم يعتمدون على استيراد كل شيء، ولم أحصل على مؤشرات لدرجة التطور الاقتصادي المحققة من طرف هذا الشعب فالسلطة تعتمد الريع النفطي في مجمل الاقتصاد. أيضًا وهذا ما شوش علي وأربكني، فقد أدخلني من استدعاني، في مآزق عديدة وصلت في بعضها حد التهلكة لا بل الموت المحقق.
ــ حتى لم تستطع أن تدرك وتطلع على حقبة تشكل الأساس الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة والمفاهيم الشرعية والفن وحتى الأفكار حول الدين التي يختص بها هذا الشعب، والتي على ضوئها تفسر الكثير من الأحداث، وكان من الممكن أن تنفعك في قادم الأيام.
ــ لا يا صديقي إنكلز، لم أكن في وضع مستقر وفاجأتني أحداث وضعتني في حالة تقترب من الضياع، أنت تتذكر كيف تسنى لي اكتشاف القانون الخاص بالحركة الذي يحكم نمط الإنتاج الرأسمالي لعصرنا والمجتمع البرجوازي الذي خلقه هذا النمط من الإنتاج، وأيضًا لفائض القيمة الذي سلطت الضوء عليه وهو لب المشكلة ووضعت الحل لما عجزت عن حله جميع الأبحاث السابقة من لدن الاقتصاديين البرجوازيين وكذلك النقاد الاشتراكيين. ولكني في نهاية المطاف لم أجد أو أشاهد أو أتلمس هنا ما يسعفني لمعرفة كيف يتولد في هذه العشوائيات الكثيرة المنتشرة في طول العراق وعرضه فائض القيمة ولم أجد اقتصادًا يمكن للمرء دراسته واستخلاص نتائج منه. تصور يا رفيقي، حتى الرؤية لدى السلطة والمجتمع حول توزيع الثروة ونظام الاقتراض الحكومي غير عملي وأيضًا غير منصف، وتنعدم الأسس لنظام الضرائب والحماية الكمركية وتوزيع الدخول، واعتمدت هذه الطرائق في جانب منها على العنف الوحشي، وتستخدمه سلطة الدولة أي العنف المنظم والمركز في المجتمع بغية إنماء عملية تحويل أسلوب الإنتاج المشوه السابق الذي سمي ظلما بالاشتراكي، وتقليص مراحل الانتقال إلى نمط الاقتصاد الرأسمالي. وهنا نرى إن العنف ذاته أصبح قوة اقتصادية وولد من رحمه مافيات مدججة بالسلاح.
ــ ولكن أين منظمات المجتمع المدني من كل هذه الفوضى؟
ــ هنا مربط الفرس يارفيقي، فأنت تعرف وربما فاتنا تطوير مفهوم رأس المال الاجتماعي هذا الذي كان علينا بحثه بشكل تفصيلي، فقيمة وفعاليات العلاقات الاجتماعية ودور التعاون والثقة، له الأثر الكبير في تحقيق الأهداف الاقتصادية، فرأس المال الاجتماعي ركيزة أساسية للعلاقات الاجتماعية وهو الذي يتألف من شبكات اجتماعية ومشاركات مدنية وعادات مشتركة لها تأثير على إنتاجية المجتمع والفرد، وهنا فإن المجتمع يعوزه الكثير ليخلق مثل تلك الشبكات والسبب هو تخلف أنماط في شبكة التشكيلات....
شعر ماركس بلكزة قوية عند قدمه فوثب من نومته وفرك عينيه فوجد أبو داوود وأبو رجب يقفان جواره ويبتسمان له.
ــ أكَعد عمي أكَعد... الدنيه صبح والشمس صارت بنص السما وأنته رايح بسابع نومه. خلينا نفتح على باب الله.
ــ لم أنم طوال الليل.
ــ هسه جنت نايم وأتدردم جنك بعدك بالكلية وتحجي محاضرة للطلاب. صار ساعة أحنه واكفين يمك نسمع سوالفك. أي مو خبلتنه.
هكذا قال أبو رجب وهو يسحب مع أبو داوود التخت ليضعاه جوار الآخر ويخرج ماركس من بين المقعدين.
ــ خالي آني سمعته.. هذا عود صدك جان أستاذ. يرطن رطينه ما افتهمت منه كلشي.. هاي شلون جانو الطلاب يفتهمون.. عملية تحويل أسلوب الإنتاج المشوه، عود شنو هاذي.. هاي تسطر أكبر واحد.
ــ هوه أني شنو كَلتلكم.. هذا أستاذ عبد القادر جان ينحلف برأسه وبعض الطلاب يعبدو عباده.
ــ يابه إذا جانو يفتهمون شنو يكَول.. لعد ينجرلهم أذن وحقهم من يحبونه. بس سمعته يحجي بالقيمة.. تره يمكن خطيه ديفكر ومشتهي مركَة قيمة.. والله لخاطر هذا الرجال راح أوصي أم داوود تسوي قيمه أوباجر اجيبله سفرطاس كامل.. ثواب لروح الموته.



105



السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج2

 
   الدكتور خليل عبد العزيز والصحفي فرات المحسن


أجرى الحوار فرات المحسن




ــ هناك الكثير من المؤشرات حول طريقة تعامل السوفييت و تغيير إستراتيجياتهم في التعامل مع الأحزاب الشيوعية العربية. هل من الممكن الحديث عن هذا؟

تغيير النهج أو طرح رؤية إستراتيجية  جديدة  للتعامل مع تركيبة تلك الأحزاب ودورها في عمليات التغيير داخل بلدانها، ظهر بشكل تصاعدي بداية  سنوات الستينات من القرن العشرين، حين ظهرت بين أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي، وبالذات داخل لجنة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي التي كان يرأسها وقتذاك الرفيق بوناماريوف، ظهرت أراء جديدة حول العلاقة بالأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وهوية العمل من أجل تحقيق الاشتراكية في تلك البلدان.
 كان رأي الرفيق بوناماريوف والرفاق المحيطين به حول طبيعة الثورة الاشتراكية وطرق إنضاجها أو القيام بها في البلدان النامية، يحمل الكثير من التشاؤم والتطير، لا بل كان مفرطا باليأس ويستكثر على الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان القدرة على تحريك الجماهير أو قيادتها للقيام بمهام الثورة، وإن التفكير بمثل هذا الأمر يبدو ضربا من الخيال يستحيل تحقيقه. وكانت هناك أيضا معاهد دراسات وقيادات حزبية تؤيده في نهجه هذا، بالرغم من إن أغلب هؤلاء لا يتطرقون للأمر سلبا كان أم إيجابا. ومثل هذا الموقف يأتي ضمن سياق الهيكلة الحزبية والموقف النظري الأيدلوجي الذي اعتاد على تقديم الحزب الشيوعي السوفيتي ككتلة متجانسة متراصة لا يوجد داخلها خلاف أو اختلاف. وفي ذات الوقت، فالموقف الرسمي كان دائما يحمل بين طياته ازدواجية في المعايير، فيحرص في خطابه السياسي، وضمن سياسة مواجهة الخصوم ،على تغيير تركيبة هذا الخطاب بتقديم  صورة أخرى تظهر الأحزاب السياسية في البلدان النامية على إنها أحزاب ثورية قادرة على إجراء التغيير الاشتراكي في بلدانها عن طريق الثورة، وكان هذا الموقف الرسمي الذي يعرض أمام الرأي العام وتختفي دونه باقي المواقف.
بعد فترة من الزمن وضمن حملة ممنهجة، ظهر رأي بوناماريوف إلى العلن، وبدأ الترويج له داخل أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي. وأخذت حملة التنظير تتسع بعرض الفكرة القائلة عن إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر النضال السلمي وطريق التطور اللارأسمالي، والتخلي عن التفكير بركوب موجة الثورات وضرورة قيادة الأحزاب الشيوعية لعملية تغيير أنظمة الحكم .وأخذت تطفو إلى السطح وبشكل واسع فكرة الضغط على الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية للأخذ بهذا التوجه دون سواه،رغم وجود آراء مخالفة لذلك عند العديد من السياسيين والباحثين السوفييت. وعبر موجة من التنظير داخل الأوساط القيادية السوفيتية، طرحت فكرة التعامل الايجابي مع السلطات الحاكمة وأحزابها، التي تتبنى فكرا اشتراكيا مهما كانت طبيعته،وتستند على بعض قوى الجماهير،والأهم في الآمر أن تكون في مسيرتها بعيدة عن آليات وهياكل الاقتصاد الرأسمالي.

ــ وكيف نفذت مفاهيم ورؤى الرفيق  بوناماريوف ؟


كان حقل التجارب الأول في مصر بقيادة جمال عبد الناصر. فقد كانت هناك داخل القيادة السوفيتية رؤية خاصة ايجابية عن شخصية الرئيس عبد الناصر، ولقيت خطواته التي اتخذها في طريق بناء مصر واستقلالها تقيما إيجابيا، وبالذات حين رفع شعار الطريق نحو الاشتراكية العربية والتزامه بالنهج الثوري لتحقيق ذلك. وهذا ما أغرى البعض في القيادة السوفيتية، بالرغم من كون خطوات عبد الناصر في تطبيقه للاشتراكية كانت غامضة لا بل متقلبة بين العروبة والإسلام والطوباوية، وكانت لا تعدو  سوى خطوات لا ترقى حتى للمربع ألأول في طريق بناء الاشتراكية. وكان واضحا بأن ليس هناك في وارد تفكير عبد الناصر السير في خط بناء الاشتراكية العلمية على أسس النظرية الماركسية، ولكن لم يكن هذا ليثني البعض في القيادة السوفيتية، ومثلهم في بعض معاهد الدراسات والصحف، التي راحت بجهود استثنائية تكيل المديح وتشيد بسلطة عبد الناصر واعتبرت اتخاذه قرار السير نحو الاشتراكية بداية جيدة ممكن أن تفضي في النهاية  لبناء الاشتراكية العلمية، وكان من أكثر المتحمسين لهذا الرأي الرفيق بوناماريوف ويشاطره في هذا السيد يفغيني بريماكوف والسيد أيكربلاييف، وهؤلاء كانوا مقتنعين بشكل ناجز بأن مصر تحت قيادة عبد الناصر تسير في الاتجاه الصحيح، وليس المهم التسميات إن كانت اشتراكية إسلامية أم عربية وإنما المهم هو الابتعاد عن سياسة السوق الرأسمالية وبناء الاشتراكية المفضي إلى ما تعتقد به القيادة السوفيتية .

في ذلك الوقت وجهت إلى جمال عبد الناصر نصائح عديدة لتشكيل حزب يقود مرحلة البناء الاشتراكي إن رغب فعلا في اتخاذ هذا الطريق،وجاءت هذه النصائح من بعض القيادات المصرية ومن الخارج أيضا، وكذلك من شخصيات سوفيتية مرموقة، وكانت جميعها تشير إلى إن التوجه لبناء الاشتراكية لا يمكن له أن يتم فقط بالاعتماد على أجهزة الأمن والجيش. وبدوره فقد أقتنع جمال عبد الناصر بالفكرة وأعلن عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي . ففي شهر تموز من عام 1962 عقدت اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية في مصر مؤتمرها، وفي هذا المؤتمر أكد جمال عبد الناصر التزامه بالخط الثوري ومسيرة الاشتراكية العربية، وأعلن عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي، فصدر عنه قرار تشكيل الأمانة العامة للاتحاد،وكان جل أعضائها من القيادات العسكرية التي شاركت عبد الناصر الإطاحة بالملكية. ونص دستور الاتحاد الاشتراكي على كونه تنظيم سياسي طليعي يمثل رأس الرمح في التحول نحو الاشتراكية، وهو الذي يقود الجماهير ويعبر عن إرادتها ويوجه سياسة الدولة والعمل الوطني.

ــ وما كان موقف الحزب الشيوعي المصري من كل هذا، وما كانت طبيعة علاقته بعبد الناصر ؟



 
الرئيس جمال عبد الناصر ودكتور خليل عبد العزيز



ما كان جمال عبد الناصر ليعطي اهتماما أو أية قيمة معنوية للحزب الشيوعي المصري ويهمل وجوده إهمالا كبيرا ومتعمدا.وحين طرح مشروع الاتحاد الاشتراكي أراد من الشيوعيين أن يتوافقوا كليا مع رأي وتوجهات السوفييت في البناء السلمي للاشتراكية، ولذا عليهم أن يدخلوا طوعيا ومن ثم الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي. فقد كان جمال عبد الناصر يحذر حذرا شديدا من وجود الحزب الشيوعي وكذلك من تنظيم الأخوان المسلمين، ويجد في هذين التنظيمين ما يهدد جمهوريته ووجوده الشخصي، وكان ذلك أحد أهم الحوافز التي دفعته لقبول فكرة بناء تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، ليكون هذا التنظيم في النهاية الإطار الذي يضم بين أروقته جميع المصريين  بعد أن يتخلوا عن انتماءاتهم الأخرى. وبدورهم كان الشيوعيون المصريون لا يميلون لرأي القيادة السوفيتية ويترددون في تأييد جمال عبد الناصر، لا بل إن أغلب قواعد الحزب الشيوعي المصري والكثير من قيادته، يعتقدون بأن حكم عبد الناصر كان حكما عسكريا دكتاتوريا، ودليلهم على ذلك تفرده بالقرار وتضيقه المستمر على حزبهم وحملات الاعتقال المستمرة لأعضائهم من قبل أجهزة سلطته.

ــ كيف تمت موافقة الحزب الشيوعي المصري الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي؟

وجهت للحزب الشيوعي المصري  ضغوط كبيرة من جهات عديدة على رأسها الرفاق السوفييت للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر، وبحجة أن يكون هذا الدخول مقدمة للعمل على تسريع وتيرة التغييرات والتصعيد من أجل بناء خطوات اشتراكية صحيحة. فبعد فترة صعبة واجهت الشيوعيين المصريين، قررت قيادتهم الدخول في الاتحاد الاشتراكي، ولكن طموح ورغبة جمال عبد الناصر ومعه القيادة السوفيتية كان ابعد من ذلك، ولم يتوقف عند هذا الحد بل ذهب بعيدا، حين وجهت ضغوط هائلة على الشيوعيين المصريين لإقناعهم بضرورة حل حزبهم ككيان قائم، وإن لا حاجة لوجوده بعد أن ثبت دخوله الطوعي ووجوده كفصيل داخل الاتحاد الاشتراكي العربي.
لاقى الضغط السوفيتي بادئ الآمر صعوبة كبيرة في أقناع الشيوعيين المصرين بحل حزبهم . فقد كانت أعداد ليست بالقليلة من قواعد وكوادر الحزب تقف بالضد من مثل هذا التوجه . وبدوره كان موقف القيادة السوفيتية يزداد تعنتا وإلحاحا،وكان موقفها ذلك يأتي بناءا على ما يقدم لها من تقارير وتحقيقات صحفية عن أوضاع مصر وقواها السياسية، كانت تأتيها عبر تقارير يقدمها مراسلو صحيفتي أزفستيا وبرافدا في مصر وهما السيدان يفغيني بريماكوف وبيلاييف. لذا لم يستطع الحزب الشيوعي المصري الاستمرار في العنت والممانعة، وفي نهاية المطاف فرض عليه حل نفسه والذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الناصر. وقد حدثني عن ذلك الرفيق ميشيل كامل الذي كان قياديا في الحزب الشيوعي المصري  في مرحلة حله، ثم أصبح سكرتيرا للحزب الشيوعي المصري  بعد إعادة تشكيله اثر موت جمال عبد الناصر وحل الاتحاد الاشتراكي العربي على عهد الرئيس أنور السادات. وقد عمل السيد  ميشيل كامل أثناء الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي العربي في إحدى اللجان كداعية للاشتراكية وعين مديرا لتحرير مجلة الطليعة وبدوره فأن سكرتير الحزب الشيوعي وقتذاك السيد ابو سيف يوسف قد أعطي أيضا عملا في مؤسسة الأهرام الإعلامية كترضية له.
ــ وهل عمم هذا النهج على بلدان أخرى ؟
تبني هذا النهج كان يدفع بعض القادة السوفييت للاعتقاد بأن مثل هذا الاتجاه ممكن له أن يتطور وينجح مستقبلا لتحقيق الاشتراكية العلمية. لذا بذلت القيادة جهود كبيرة في تطوير هذه الرؤية وذهبت بعيدا لتنفيذها في العديد من البلدان، منها غانا بقيادة كوامي نكروما وغينيا بقيادة أحمد سيكوتوري وأثيوبيا بقيادة منغستو هيلي ميريام والصومال على عهد محمد زياد بري.ففي تلك البلدان أنشأت حكوماتها بمساعدة الحزب الشيوعي السوفيتي مدارس حزبية لأعداد كوادر وطنية وفق النظرية الماركسية اللينينية وكانت تقدم لهذه المدارس مساعدات كبيرة لغرض تطوير الدارسين فيها وبناء قاعدة واسعة منهم تقود بلدانها مستقبلا نحو الشيوعية.
 من الطرائف التي أتذكرها والتي تدل على عقم ذلك التفكير وعدم حكمة النهج الذي تتخذه القيادة السوفيتية في هذا التوجه. ففي عام  1976 كنت في زيارة إلى أثيوبيا، وفي إحدى جولاتي في العاصمة أديس أبابا وصلت إلى الساحة الرئيسية فيها حيث وضع هناك تمثالين ضخمين أحدهم لكارل ماركس والأخر للينين. وقفت جوار التمثالين ورحت أطالعهما، ثم أردت بشيء من الفضول اختبار بعض أبناء الشعب الأثيوبي حول علاقتهم بهذين التمثالين، ومقدار معرفتهم بالشخصين، فسألت فتاة كانت تمر بقربي عن معرفتها بشخصية لينين أو ماركس من بين هذين التمثالين، فحارت الفتاة الجواب ثم اعتذرت عن عدم قدرتها التمييز بينهما، ثم سألت رجل مر من هناك فحار جوابا أيضا وأعتذر. ثم جاء رجل كان يرتدي بذلة طيار ويحمل حقيبة وبعض كتب، فطلبت منه ذات الآمر فأجاب بشكل صحيح، فسألته كيف تسنى له معرفة ذلك، فأجابني بأنه تعلمه في المدرسة الحزبية وهو الآن في طريقه أليها.
ــ تطرقت إلى تجربتين الأولى تمثلت بإجبار الحزب الشيوعي المصري على الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الناصر  والأخرى بناء أحزاب أو كوادر وفق مناهج الماركسية اللينينية في بعض البلدان الأفريقية، ما هي طبيعة التجربة المتعلقة بالعراق والتي حاولت فيها القيادة السوفيتية تطبيق نهج الاحتواء مرة أخرى؟

نهاية عام 1963 أطيح بحكم حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق من قبل حليفهم في انقلاب شباط عام 1963 الرئيس عبد السلام محمد عارف، في حركة انقلابية سميت حركة 18 تشرين الثاني عام 1963ايضا. كانت ميول عبد السلام عارف عروبية إسلامية وكان صديقا مقربا من عبد الناصر حسب  إدعائه. وسبق له أن زار القاهرة ووقع مع جمال عبد الناصر والرئيس السوري اتفاق الوحدة الثلاثية بين هذه البلدان في شهر ابريل من عام 1963 الذي احتوى كمشروع وحدوي على عدة محاور فصلت فيها غاية الاتحاد وتوجهاته السياسية والاقتصادية ومقوماته وتشكيلاته الإدارية.وإثر ذلك الاتفاق وحد شكل العلم للبلدان الثلاثة ووضعت ثلاث نجوم تتوسط ألوانه الخضراء والبيضاء والحمراء. ولكن هذا الاتحاد لم يستمر بل لم تنفذ من بنوده غير ادعاءات عروبية فارغة، وقضي عليه بعد ثلاثة أشهر من التوقيع.
 بعد الإطاحة بحكم حزب البعث في العراق قام عبد السلام بزيارة القاهرة في نفس الوقت الذي استقبلت فيه القاهرة السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي السيد نيكيتا خروشوف ، استطاع عبد الناصر أن يجمعهما على متن أحدى البواخر المصرية.
 لذا تمت هناك مقابلة للرئيسين ودار فيها حديث غير ودي وشاب اللقاء بعض التوتر. وحول هذا اللقاء ذكرت صحيفة أركَومنت أي فاكت الروسية في عددها المرقم 41 الصادر عام 1997 وضمن مقال للكاتب الكسندر موروزوف ما حدث في ذلك اللقاء ومن ثم بعده. يقول الكاتب إن من بين المدعوين بمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من بناء السد العالي الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف والرئيس العراقي عبد السلام عارف والرئيس اليماني عبد الله السلال. أراد الرئيس عبد الناصر أن يجعل لقاء الرئيس السوفيتي خوشوف وعبد السلام تقاربا يزيل الكره والجفوة بينهما ولكن جهوده باءت بالفشل.  فالسيد نيكيتا خروشوف لم يكن يحمل غير الكره لشخصية عبد السلام، ويتهمه بأنه رجل سخيف نزق، لا بل قاتل ويداه ملطختان بدماء أبناء الشعب العراقي وبالذات الشيوعيين منهم.ولعبت المصادفة دورها فجلس الرئيس العراقي عبد السلام عارف جوار السيد أوليغ كفتونوفيش المترجم الخاص للزعيم السوفيتي. ابلغ الرئيس عبد السلام المترجم رغبته في الحديث إلى الزعيم السوفيتي، فتجاهل المترجم تلك الرغبة ولكن الزعيم السوفيتي أنتبه لذلك، وقال فجأة للمترجم، أليس هذا هو عارف الذي قتل الكثير من الشيوعيين في العراق؟.فأجابه المترجم أنه هو بعينه، عندها قال خروشوف: إذن أبلغه بأني لست مستعدا للحديث معه فحسب، بل لو وجدت دورة مياه واحدة فسوف لن تجدني أدخلها إن كان عارف قد دخلها قبلي. قال هذا وراح يتفرس بشماتة وفضول في وجه عبد السلام عارف ليرى أثر ما قاله هذا منتظرا ردة فعله. كان ذلك بالنسبة للمترجم موقفا في غاية الإحراج، فلم تكن لديه الجرأة لنقل هذا الحديث المهين لرئيس دولة أخرى، وفي النهاية قرر أن لا يفعل ذلك، وأن يغير الحديث بعبارات من عنده رسمت معها علامات ارتياح ورضا على وجه الرئيس العراقي، عند ذلك أدرك الزعيم السوفيتي خروشوف إن شيئا قد حصل وتغير خلاف كلامه فتوجه بالحديث إلى مترجمه متسائلا: هل نقلت كلامي بالنص؟ فأجابه المترجم ، لقد أبلغته بأنك مشغول ولا وقت لديك للحديث معه الآن.عند ذلك عصف الغضب بالزعيم السوفيتي وطرد مترجمه فورا.
ذات الحادثة تناولها الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه المطبوع باللغة الانكليزية ( ناصر وثائق القاهرة ) ذكر فيه أن خروشوف لم يتوقف عند ذلك الحد بل ألتفت إلى جمال عبد الناصر وهم في السيارة قائلا : يا صديقي الرئيس، إلى متى ستحاول فرض هذه المعزة عليّ ؟ فسأله ناصر، أي معزة تقصد؟ أجابه خروشوف بصوت مرتفع : عارف ..عارف ..عارف ثم تناول صحيفة كانت فيها صورة عبد السلام عارف وقال .ألا يبدو شبيها بالمعزة ؟
كذلك رفض الرئيس السوفيتي الدعوة التي وجهت له من قبل عبد السلام لزيارة العراق بحدة وصلف فلاحي وقيل أنه وجه أهانه صريحة للرئيس عبد السلام عارف .
فالرئيس خروشوف كان يغلب على تصرفاته طابع الرجل الريفي، فهو فلاح بطبيعته ودائما ما كان سلوكه ينم عن هذا الطبع، وفي كثير من الأحيان لا يلتزم بالسلوك والأعراف الدبلوماسية .ففي بعض الاحتفالات والاجتماعات الرسمية والجماهيرية ، كانت من أعراف العمل السياسي السوفيتي أن يعد مسبقا خطاب مكتوب، وعلى الشخص مهما كانت درجته القيادية في الدولة، أن يقرأ النص المكتوب ، ولا يسمح له مطلقا الارتجال في تلك المناسبات. ولكن خروشوف دائما ما كان يشذ عن تلك القاعدة. فهو وبعد أن ينظر إلى المزاج العام في القاعة، تراه يقول وهو يرفع الورقة، هذا هو ما مدون هنا، وأنا سوف أتحدث لكم أيضا دونه.
 في أحدى خطبه أشار إلى بناء الاشتراكية في الصين، حيث وجه سؤلا إلى الحضور( هل رأيتم شعبا لديهم جميعا لباس داخلي مشترك ) ضجت القاعة بالضحك واستمر هو بالإجابة على سؤاله( نعم، في الصين لديهم لباس داخلي واحد يداولونه بينهم ) ثم عاد إلى ورقة الخطاب الرسمي ليقرأها .وفي إحدى المرات وجه له سؤال عن فعلته في الأمم المتحدة حين خلع حذائه وراح يطرق به الطاولة، فأجاب بأنه فعل ذلك كون الجميع كانوا نياما، وقد قمت بإيقاظهم. وقد غرم الاتحاد السوفيتي وقتها بعشرة آلاف دولار باعتبار إن خروشوف قد أنتهك حرمة الأمم المتحدة.


جمال عبد الناصر ونيكيتا خروشوف وعبد السلام عارف وعبد الله السلال أثناء افتتاح المرحلة الأولى من مشروع السد العالي





ــ ولكن فيما بعد ظهر لدى القيادة السوفيتية ميل نحو عبد السلام عارف. كيف حدث ذلك؟

حين طرح عبد السلام عارف فكرة تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تقليدا لخطوة جمال عبد الناصر، شعرت القيادة السوفيتية بالكثير من الارتياح وكأنها وجدت في ذلك ما يشفع لها للذهاب بعيدا نحو خيار الطريق اللارأسمالي في بناء الاشتراكية، وعدت القيادة السوفيتية خطوة عبد السلام توجه سليم ومكسب كبير، ورموا بعيدا ما كان يمثله عبد السلام عارف من طبيعة دموية فاشية بعد مشاركته في قتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه وكذلك إيغاله ومشاركته في اغتيال قادة وأعضاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي في انقلاب شباط عام 1963 .وكان رأي مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية السيد بنماريوف قد لعب الدور الفاعل في رمي ذلك الانطباع بعيدا عن عبد السلام عارف.
 ورغم ظهور المشاكل العديدة في تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر وفشل الشيوعيين المصرين في اخذ زمام المبادرة، وترسخ دكتاتورية جمال عبد الناصر واستشراءها فإن القيادة السوفيتية كانت تلح بشكل غريب لأجل تكرار التجربة في العراق.
ومع تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تصاعدت آمال السوفييت بالقدرة على إعادة تجربة ما حدث في مصر وتكرارها مع الحزب الشيوعي العراقي، لذا أخذوا بالضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي  للتهيؤ بما يتناسب والاستعداد للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أسس حديثا. وكانت حجج الجانب السوفيتي تركز على طبيعة الحزب الشيوعي وأعداده الغفيرة التي لو قيض لها الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي فأنها سوف تصبح القوة الرئيسية فيه، وعندها يمكن لها أخذ زمام المبادرة وتحويل مسيرة الاتحاد نحو الوجهة الصحيحة في السير قدما نحو بناء الاشتراكية. عملت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي على توجيه ضغط هائل بدأته بين أوساط قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاءه الموجودين في عموم الاتحاد السوفيتي، ومنهم حسب ما اذكر الرفيق عزيز محمد والرفيق سلام الناصري وغيرهم. وتوجهت حملة ممنهجة وواسعة عبر وسائل عديدة حزبية وإعلامية لدغدغة مشاعر الشيوعيين العراقيين ودفعهم للقبول بالدخول إلى الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد السلام عارف. وكانت هذه اللهجة ومثلها الضغوطات تعرض وتمارس في جميع اللقاءات والحوارات التي تتم بين الجانبين، وتوجهت في أساليبها نحو قيادات وكوادر الحزب الشيوعي العراقي في الداخل وكذلك مع الموجودين في أوربا وبالذات في براغ.
في هذا الأمر وتلك المرحلة، فإن التاريخ يسجل للحزب الشيوعي العراقي كقيادة وقواعد موقفا قويا وذكيا في القدرة على المراوغة وعدم الأخذ بالرأي غير الحكيم للأخ الأكبر . فموضوعة الانتماء إلى الاتحاد الاشتراكي لم يتم النظر لها داخل قيادة الحزب كقضية يمكن تداولها على نطاق واسع داخل التنظيمات، ولم تعط توجيهات حزبية للنقاش في موضوعها، ولذا لم يصدر عن اللجنة المركزية أي قرار لا بالموافقة على الدخول ولا بحل الحزب وفي ذات الوقت امتنع الحزب عن إصدار ما يفند الرغبة بذلك، ولم يكن هناك شيئا مكتوبا أو مدونا عن مجمل الموقف من رغبة الحزب الشيوعي السوفيتي ومحاولاته المستميتة لدفع الحزب الشيوعي  العراقي  للدخول في تنظيمات الاتحاد الاشتراكي العربي. ولا ينكر فإن بعض التوجيهات الشخصية صدرت من بعض الكوادر دعت للدخول إلى الاتحاد الاشتراكي ومن ضمن هؤلاء السيد باقر إبراهيم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية حينذاك، ولكن تلك الدعوات واجهت انتقادات حادة وهجمة شرسة من داخل الحزب، أفشلتها وقضت على رغبة القيادة السوفيتية .كان موقف الحزب الشيوعي العراقي موقفا ثابتا ومبدئيا، فرغم عظمة الاتحاد السوفيتي ومكانة الحزب الشيوعي فيه، وقوة الضغط الهائلة التي مورست على الحزب الشيوعي العراقي، ولكنهم لم يستطيعوا تغيير موقف الشيوعيين العراقيين في أحد أهم المفاصل التاريخية في حياته كحزب شيوعي .وتلك كانت نقطة هامة وفعالة أثبتت صحة موقف قيادة الحزب وخياره في طريق إدارة شؤونه التنظيمية والعقائدية وبقائه ككيان مؤسساتي له ثقله الفعلي داخل الوطن العراق.

 



106
السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج1

أجرى الحوار فرات المحسن

لم يتوقف الاجتهاد في النص ضمن الحركة الشيوعية العالمية منذ وفاة كارل هانريش ماركس وفردريك انجلز، بل كانت وفاتهما مرحلة جديدة للاجتهاد والتطوير في النظرية بما يتناسب ومستوى المواجهة مع الأحداث والفعل اليومي.
مثلت الثورة البلشفية، ثورة أكتوبر عام 1917 بقيادة  فلاديمير لينين الخطوة الأكثر فاعلية في تنفيذ أفكار كارل ماركس وبتطوير ملهم للقائد لينين، مثلما يشير الكثير من الباحثين والمروجين لأفكار لينين وثورة أكتوبر. وباتت اجتهاداته مرحلة مهمة في الذهاب لتفسير الماركسية وتنفيذ ثورة لإقامة دولة الاشتراكية ومن ثم لاحقا الشيوعية. وعد التنظير اللينيني في كيفية إدارة الدولة،  الاجتهاد الأصح في متن النظرية الماركسية. لا بل  تنفيذا صارما للماركسية.
  كانت الأهداف المعلنة للثورة البلشفية هي المساواة بين فئات الشعب والقضاء على الرأسمالية والإقطاع وتحقيق النموذج الاشتراكي المفضي في النهاية إلى الشيوعية، ولكن طريق تنفيذ العمل ما كان يخلوا من المصاعب والعثرات. فقد واجهت الثورة معضلات ووقائع على الأرض بمستويات متعددة ومتنوعة،كان يحتاج لحلها أو التعامل معها، رؤية واقعية بعيدة في كثير من منهجيتها عن فحوى التنظير والدراسات النظرية، ولا يقتصر التفاعل معها عبر نص مدون بقدر ما يحتاج إلى وعي بطبيعة المشكلة وطرق حلها، مما دفع أصحاب الشأن للبحث عن مخارج تقارب الحدث وتحاول وضع حلول واقعية له . وكان هذا الأمر يوقع الكثيرين في دوامة التناقضات وحتى التعارض مع مفاهيم وردت وترد في النظرية الماركسية،عندها تتضخم بدرجات متفاوتة طرق الاقتراب أو الناي عن النظرية. فمتطلبات الناس ليس فقط الحريات والمساواة وهي أهداف جميلة بالطبع، ولكن ما يترافق معها هي حاجات البشر الأساسية للمواد والموارد وضرورة إشباع حاجاتهم المادية والروحية التي تزداد باضطراد، وتنشأ مع الوقت الحاجة الماسة لتطوير ورفع قدرة البشر على استخدام وتوظيف الموارد الطبيعية ووسائل الإنتاج لتتوافق مع الحاجات الاقتصادية الاجتماعية  للمجتمع.
إذن فأن تحقيق الاشتراكية الذي عمل عليه لينين قد واجه واقعا على الأرض يتطلب اجتهادا خاصا.لذا عمل ومن معه على استنباط أفكار جديدة لقيادة المجتمع ووسموا اجتهاداتهم تلك بالماركسية اللينينية. واستمر ذلك خلال فترات طويلة أثناء الحرب الأهلية والحرب العالمية الأولى ثم الثانية وما تلاها، وجيرت تلك الاجتهادات بشخص لينين .
ظهور الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية مثل مرحلة جديدة ومختلفة عما سبقتها، حيث ارتفعت وتيرة الاجتهاد في النص الماركسي وبرزت العديد من الشخصيات التي فككت الحدود النظرية للماركسية وأعطت مفاهيم جديدة عن طبيعة التشكيل الاشتراكي وكذلك مستقبل البناء الشيوعي.
ولأجل استجلاء بعض مما حدث من تغيير أو اجتهاد في النظرية والتطبيق وما شاب ذلك من أحداث داخل الاتحاد السوفيتي وأيضا العلاقة التبادلية مع البلدان النامية. كذلك طبيعة العلاقة مع الأحزاب الشيوعية العربية كان لنا لقاء مع الدكتور خليل عبد العزيز .
   
 
الدكتور خليل عبد العزيز والصحفي فرات المحسن

{{ولد الدكتور خليل عبد العزيز في مدينة الموصل. ساهم في الحركة الوطنية منذ أعوام الخمسينات حيث بادر بتشكيل اتحاد الطلبة العراقي العام في مدينة الموصل وأصبح رئيسا له. وشارك في تظاهرات وانتفاضة عام 1952 . في العام 1954 أصبح ممثلا للطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي شكلت آنذاك وخاضت الانتخابات النيابية. عام 1956 ألقي القبض عليه في بغداد وصدر قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة عام واحد قضاها في سجن بعقوبة وأثر ذلك تم فصله من الدراسة. عام 1959م صدرت بحقه عدة أحكام بالإعدام بتهمة المساهمة في القتل وقمع مؤامرة الشواف، هُربَّ إلى موسكو من قبل الحزب الشيوعي، ليبدأ صفحة أخرى من حياته. أنهى فيها الكلية التحضيرية للغة الروسية، ثم درس ونال درجة الماجستير عن رسالته حول الحزب الوطني الديمقراطي العراقي. نال بعدها شهادة الدكتوراه عن الإعلام المصري. وعمل باحث علمي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو وقد أطلع على الكثير من أسرار السياسة السوفيتية أثناء فترة عمله في ذلك المعهد، يعيش حاليا في العاصمة السويدية ستوكهولم.}}

في بداية حديثنا ولكونه عاش فترة طويلة من الوقت في الاتحاد السوفيتي وخاصة سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين عاصر فيها أحداث عديدة، لذا طرحت عليه سؤالا حول تركيبة الخطاب السياسي للسلطة السوفيتية في تلك الفترة ، وهل هناك من ميزة يتميز بها ذلك الخطاب.
فأجابني :
كانت ميزة الكتمان والسرية تطغى على جميع سياسات السلطة والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، فيتم التكتم على جميع الأحداث ولا تظهر للعلن أي من تلك السياسات قبل التدقيق والتمحيص، حيث تدخل في فلتر يجعلها تتواءم وتوجيهات القيادة والسياسة العامة للحزب. كانت هناك صراعات وخصومات كبيرة داخل اللجنة المركزية، وأيضا توجد أفكار وأراء مختلفة ومتضاربة  داخل مؤسسات الأبحاث العلمية، ولكنها لا تظهر للعلن، وتلك طبيعة راسخة عند جميع الأحزاب الشمولية. كنت أسمع بأن يفغيني بريماكوف كان يقدم للقيادة السوفيتية صورة سيئة جدا عن طبيعة الأحزاب الشيوعية العربية وعملها، في حين إن رئيس معهد الأستشراق السيد غفوروف  يحمل تصور أخر ويتحدث بالضد مما يقدمه بريماكوف وهذا ما كنت أطلع عليه في عملي داخل معهد الاستشراق. ولكن الغريب أن جميع هؤلاء حين يحضرون اجتماعا مشتركا تختفي النزاعات ونبرة الخلاف لصالح توحيد الخطاب الأيدلوجي لعموم الاتحاد السوفيتي.

ــ ما هي طبيعة تعامل الحزب الشيوعي السوفيتي مع الأحزاب الشيوعية العربية؟

كانت هناك رغبة عارمة تجتاح بعض معاهد الدراسات السوفيتية وأيضا داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. تلك الرغبات والسياسات تعمل لأجل حل وإنهاء وجود الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية، بالذات مع  البلدان التي تسلك الطريق اللا رأسمالي. فلم يكن هناك بين أوساط القيادة السوفيتية تقيما ايجابيا لجميع الأحزاب الشيوعية العربية، وكان يؤشر لحضور أعضاء قياداتها إلى موسكو، فقط لغرض تلقي التعليمات والاستجمام .ودائما ما كانت القيادة السوفيتية  تجد ما يصعقها ويثير استغرابها من تصرفات وأفكار غير واقعية يعرضها بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية. وبدورها فإن تلك الأحزاب كانت تؤله الحزب الشيوعي السوفيتي وتجد فيه المرشد والمعلم والأب الروحي الذي لا غنى عنه، ودائما ما تجد فيه العصا السحرية لحل مشاكلها حتى الداخلية منها. وبدورهم كان السوفييت يدركون جيدا هذا الآمر ويتعاملون مع تلك الأحزاب بشيء من عدم المبالاة، فتراهم لا يعيرون اهتماما جديا للآراء التي تقدمها الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الغالب يهملون طلباتها التي لا تتوافق والسياسة العامة للدولة السوفيتية. وفي العديد من المرات، تراهم يجدون في طلبات الأحزاب الشيوعية العربية ما هو غير واقعي لا بل لا يمكن تناوله والنقاش فيه أو حوله.ولطالما كانت تلك الطلبات بعيدة كل البعد عن التفكير المنطقي الذي يستحق التداول أو التنفيذ. وفي الكثير من الأوقات أهمل السوفييت علاقتهم هذه، ولهذا وضعوا موظفا صغيرا في جهاز مخابراتهم ليس له منصبا حزبيا مؤثرا ليكون وسيطا بين الأحزاب الشيوعية العربية والحزب في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن ليمر طلب لمقابلة أو اتصال أو ألتماس وحتى حاجة بعينها، إلا من خلال هذا الموظف المدعو نيجكين الذي عمل في فترة ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز العراقية ملحقا ثقافيا في السفارة السوفيتية في بغداد، وكان هذا الموظف يبتز أعضاء الأحزاب الشيوعية العربية ولا يوافق على إيصال طلباتهم إلى القيادة السوفيتية دون أن تقدم له رشا معينة، دائما ما كان يحددها هو وليس هم.
في أحدى المرات طلبت قيادة الحزب الشيوعي اللبناني وبإلحاح غريب  مقابلة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي لغرض حل مشكلة كانت مستعصية على الرفاق اللبنانيين وموضوع خلاف واسع. وبعد جهد جهيد قبل السوفيت حضور الاجتماع، فعرض الرفاق اللبنانيون خلافهم الداخلي، أحتار الرفاق السوفيت في كيفية الإجابة عليه، ووجدوا إن ذلك ليس من مهامهم، ومن غير المعقول أن يطلب منهم حل إشكال بسيط مثل هذا ويمكن للبنانيون أنفسهم حله.  ففي اليوم الأول من اللقاء قالوا بأنهم يوجهون سؤالهم لقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي ، هل الإصلاح الزراعي صالح وقابل للتنفيذ في لبنان أم غير ذلك ، كان سؤالا  من غير المنطقي عرضه علينا،هكذا أجابهم الرفاق السوفييت، فالحزب الشيوعي اللبناني يعرف جيدا وضع بلاده وطبيعة الريف والملكيات الزراعية هناك، ولا حاجة لتدخلنا، ولكن الرفاق اللبنانيون كانوا مصرين على تلقي النصيحة من السوفييت فختم السوفيت اجتماع في اليوم الثاني بنصيحة واحدة فقط أنهوا بها  اجتماعهم مع القيادة اللبنانية، بأن من المهم بحث الموضوع داخل تنظيمات الحزب الشيوعي اللبناني. 
الحزب الشيوعي الوحيد الذي كانت تحسب له القيادة السوفيتية الحساب، هو الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب.فقد كان لهذا الحزب رأي حر ومستقل ودقيق وثابت وناضج في علاقاته مع السوفييت، ودائما ما كان الشيوعيون السودانيون يوجهون نقدا حادا للسياسة الدولية للسوفيت، وهذا الموقف كان يسبب صداعا وحرجا للقيادة السوفيتية، لذا كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وفي بعض الأحيان تمتنع عن دعوة الحزب الشيوعي السوداني لحضور لقاءات الأحزاب الشيوعية العربية. وحين يواجه السودانيون رفاقهم السوفيت ويعاتبونهم على موقفهم ذلك، يقدم الجانب السوفيتي  الاعتذار ويبرر الأمر بأن ذلك حدث سهوا أو إن ذلك جاء بسبب الموظف المكلف بملف توجيه الدعوات.
 في الجانب الأخر فقد كان أكثر الأحزاب الشيوعية خنوعا وذيليه، هي بعض الأحزاب الشيوعية العربية مثل الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش واللبناني بقيادة نيقولا الشاوي والحزب الشيوعي الأردني بقيادة فؤاد نصار وحزب التقدم والاشتراكية المغربي بقيادة علي يعته.
فلم تكن لهؤلاء كلمة أو رأي يعتد به عند السوفيت، وإنما عرف عنهم الخضوع وقبول أي رأي يعرض عليهم، فقد كانوا في حالة موافقة دائمة ورضوخ لجميع ما يمليه عليهم الجانب السوفيتي.

ــ يعتقد البعض بأن فرق الثقافات والوضع الاجتماعي كان له تأثير في طبيعة العلاقة بين الجانبين السوفيتي والعربي.

 
الشهيد سلام عادل
هذا جدا صحيح. ويمكن أن تؤشر حالة كانت انعكاساتها غير إيجابية على الكثيرين من الشيوعيين القادمين من البلدان النامية، ودائما ما كانوا يتذمرون منها،كونها ما كانت لتناسب طباع وطبيعة عمل ونضال هؤلاء، ولكن القيادة السوفيتية تجد فيها  إنعاشا وتجديدا لحياة هؤلاء الذين أتوا  من أوضاع نفسية ومادية قاهرة. وكانت تلك الرؤية لدى القادة السوفييت تعبيرا دقيقا عن مشاعر عطف أو بالضبط مشاعر الأبوة التي تنعكس في طرق تعاملهم مع الشخصيات الشيوعية التي تصل إلى الاتحاد السوفيتي. وهذا الأمر يخضع للمزاج العام ومثله للفروق في الثقافة والعادات والتقاليد بين الشعوب، وكان ذلك يلعب دورا مهما حتى في التوجهات السياسية. فالظروف السياسية والحياة الاجتماعية للكوادر الشيوعية في البلدان النامية ومنها العربية تختلف كليا عن حيثيات الحياة اليومية والقيم التي تربت عليها كوادر الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات منهم الروس.
 فحين يأتي أحد الكوادر الشيوعية إلى موسكو يطلب منه الذهاب إلى المنتجعات ليقضي فترة نقاهة مثلما حدث مع أغلب الرفاق الشيوعيين العراقيين، وهذا الآمر بتقدير القيادة السوفيتية يأتي كضرورة لإبعاد المنغصات عن تفكير الرفيق وتخفيف وطأة المشاكل وما تعرض له من تعذيب أو ملاحقات، وكان هذا الآمر دالة إيجابية كان على شيوعيي البلدان العربية قبولها ليتمتعوا بصفاء الذهن وتبتعد أرواحهم عن تلك الأوقات العصيبة التي اعترضت حياتهم في بلدانهم..
عند قدومي إلى موسكو قابلت الرفيق سلام عادل فنصحني بأن لا أقبل الذهاب إلى مصح أو منتجع لو عرض علي ذلك، فسألته عن السبب، فأجابني بأن ذلك يمثل شيء من الاستخفاف وعدم الجدية بالنسبة للمناضل العراقي، وروى لي كيف إن القيادة السوفيتية أرسلته إلى الريف خارج العاصمة موسكو، حيث كان هناك وسط غابة كثيفة الأشجار  منتجع جميل يطلق عليه تسمية مصح. صباح اليوم الأول وبعد أن تناولت الفطور سألت المشرفين عن البرنامج المعد خصيصا لي، فأجابوني بأن ليس هناك برنامجا محددا بل عليك أن تسير وسط الغابة حتى نهايتها ثم تعود إلى المصح لترتاح .وهناك يتوفر كل شيء من أكل وشراب وراحة تامة وسط سكون الطبيعة  ورائحة الحشائش والورود. وقد قطعت الغابة ثم عدت واستمرت حياتي اليومية على هذا المنوال فترة ليست بالقليلة. وحين سألت الرفاق السوفيت عن سبب أو علة وجودي هناك، أخبروني بأن إرسالي جاء وفق معايير أهمها،إيجاد أجواء راحة وأمان تام، بعد أن وجدنا أنك قد تعرضت للاضطهاد والمطاردة في بلدك، لذا تحتاج إلى فترة مناسبة من النقاهة والهدوء والابتعاد عن الأجواء المتوترة المشحونة بالقلق والترقب والاختفاء.
 صحيح إن السوفيت كانوا بذلك الفعل يرغبون بتأمين أجواء هادئة وبعيدة عن التشنجات لرفاقهم من البلدان النامية، ولكن طبيعة التركيبة النفسية والثقافية والاجتماعية لهؤلاء الرفاق ما كانت لتسمح لهم التأقلم مع ما يوده الرفاق السوفييت لهم، ولكن الحاجة وسلطة الأب كانت في الغالب تفرض عليهم المسايرة والقبول.



107
كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع والعشرون

ــ يابه هذا يبين ما عنده مكان... زين أستاذ قادر تكدر تبات هنا على الكرويتات مال الكهوة بعد ما أعزل.
قال أبو داوود صاحب المقهى وهو يناول ماركس كأس ماء جلبه له أثناء ما كان يأكل لفافة الطعام الثانية التي هيئها له أبو عفيفة.
ــ نعم أستطيع ذلك
 
بدأت حركة الناس تخف كثيرًا وأغلقت بعض المحلات أبوابها وسحب باعة العربات عرباتهم إلى أماكن بعيدة عن وسط السوق باتجاه أزقة ومحلات أخرى. كان أبو عفيفة وأبو داود ومعهما أبو رجب قد دخلوا وسط المقهى وراحوا في حوار حول كيفية التعامل مع أستاذ قادر أو كارل ماركس. وهل من الممكن إبقاءه هنا داخل المقهى. عندها اعترض أبو داوود بشدة قائلا.
ــ أخوان.. هذا الرجال أني ما أعرفه، بعدين مبين عليه مخبل مخربط.. زين اذا كعد بالليل وكسرلي حاجات الكَهوة شراح أسوي.. أيبات على القنفات بره حاله حال غيره من المجادية والمخابيل.. ميخالف.. بس بنص الكَهوة أعذروني.
ــ خوش أبو دواوود الخاطري.. نصفطله كرويتيتين وينام أباب الكَهوة.. تره هذا رجال ذبه الدهر والسرسرية لعبو بي لعب... هذا جان أستاذ قدير ومحترم وينشال فوك الراس.. عزيز قوم ذل والله العظيم وداعت الخوه.
ــ على راسي أبو رجب ميخالف بس تره عصابة أبو تركي الأعضب يوميه بالليل.. هذا المكان يصير مالتهم.. حته الشرطة ما تدخل لهنا، وتخاف منهم.. شغلتهم يبيعون ويشترون الممنوعات ويشتغلون بكل أنواع الدكَايك السوده، حتى القتل والنهب، وخاف يلكَونه ويقتلوه وياخذون فلوسه، حتى أحنه نفسنه ممخلصين منهم، كل شهر ياخذون من عدنه خاوه.
ــ فلوسه راح أبقيه يمي وأني هسه من راح أعزل أروح لعد أبو تركي... شويه آني عندي خاطرانه يمه.. أروح أوصي وأحجيله قصة أستاذ قادر... وهم أنطي حصة الشهر. هسه خلي يكَوم... ساعدوه يغسل وجه خطية حسبالك طالع من كَبر.
قال أبو عفيفة ذلك واخذ بيد ماركس وسلمه لأبو داوود ليساعده في تنظيف وجهه.. وفي ذات الوقت أخذ في مدح  وشكر أبو رجب.
ــ رحمه لهذاك الأب.. والله جنك مسوي فضل عليه من السما للأرض.. آني أشعر جني أريد أرد فضل لهذا الرجال.. لأن جان ما يقبل أذا ما يكعدني يمه ونشرب سوه جاي.. ايباه شلون دنيه.. الله لايطي كلمن سعه بعذاب هذا الزلمه.. الله يخبل عوائلهم.. ليش شنو ذنبه يتخبل بعد ما كان أستاذ محترم ومقدر..
ــ أنشاء الله محلوله.. خلي يبات هنا لحين بلجي نشوفله دكتور من جماعتنه يساعده ويقيس شكد خبالاته ويمكن ينعدل حاله ويرجع حتى لو مو مثل كبل بس أحسن من هسه.
بعد أن ساعدوا ماركس في تنظيف وجهه ويديه راح أبو داوود وبمساعدة أبو رجب في لملمة حاجات المقهى ووضعوا تختين متقابلين ليكونا سريرًا لماركس. ومثلهم فعل أبو عفيفة فافرغ بضاعته في حقيبة صغيرة تسحب باليد ودفع عربة الطعام وذهب بها نحو زاوية داخل السوق حيث ركنها هناك وأحاطها بسلك معدني طويل ربط طرفيه بقفل كبير ثم سحب الحقيبة اليدوية متوجها للبحث عن أبو تركي الأعضب ليشرح له حالة عبد القادر ويستعطفه من أجل حماية ماركس ليلا أو عدم إيذائه.
 
***
                                                                                                   
لم تكن ليلة عادية فرغم كون ماركس قد قضى أكثر من أسبوع كان خلاله ينام فوق بطانية صوفية واحدة وضعها كفراش فوق أرضية غرفة السجن الإسمنتية الصلدة وكان يتوسد راحتي يديه، وقبلها كان ولمدة أكثر من شهر تحت التهديد اليومي في الغرفة المتربة عند بيت المجرم أبو بشير وقد مورس ضده من العنف المنفلت الكثير ومنه تلك الليلة المجنونة التي ربط جسده المقيد بخطم البقرة الهائجة. ولكن في هذه الليلة ومع صرير تخوت المقهى كلما تحرك، كان مجبرًا على السهاد، ويشعر بأنه تحت تهديد حقيقي، وكأنه في انتظار أحد ما سوف يأتي لينقض عليه،  وأن ساعة حتفه قد اقتربت. فهو يترقب رجال العصابات السائبة الذين يتحدث الناس برعب عنهم،هؤلاء الذين يجوبون ليل بغداد بحثا عن ضحايا وأماكن لسرقتها، لا يدري في أي ساعة سوف يكون قدومهم ومتى يجدهم قرب مضجعه الاضطراري. عندها يمارسون نزواتهم الوحشية بقسوة عمياء. فأفعال هؤلاء لا يمكن توقعها ولا حتى فهمها على الإطلاق، ولن يكون بينهم من يتعاطف مع الضحية، فتلك المشاعر قد محيت ولم يعد لها مكان في نفوسهم، وتحول القتل لديهم إلى هواية تسبقها غواية ضرورة أن تكون هناك ضحية، ضحية مهما كان لونها أو مكانتها أو حتى عمرها وجنسها. ورغم كل هذا وكل ما شاهده وعلق في ذهنه، وما تلقاه من ألم وقسوة ووجع وحتى خديعة طالته منذ أول دخوله عالم بغداد، وبعد كل هذه الجولة من الإحباط والضياع والعذاب، فلن يخدع نفسه ويكون متحيزًا أو مجافيًا لأفكاره ويوسم هؤلاء البشر جميعا بالتخلف والدونية، وبالرغم من أنه ينتظر الليلة من يأتي ليجهز عليه في فراشه الخشبي هذا، فهو يود أيضًا أن يجد المبرر العقلاني لما يعتمل في ضمائر وقلوب العراقيين. فهم أبناء بيئتهم القاسية وتراثهم الطويل الضاج بالعنف، ومع كل ذلك الإرث القاسي فأرواح البعض منهم لا تخلو من عاطفة وبراءة وقدرة على نكران الذات والاستعداد لتقديم العون للأخريين، ولكن العواطف ليست كل شيء في هذه الحياة، وضغوط الجماعة وربما عدوانيتها والخضوع لإرادتها ونمط الحياة وقيمها ووطأة الوضع الاقتصادي المزري في أغلبه، يدفع المرء لتغير دائم في السلوك العام والخاص، ويؤثر هذا حتى على المظهر الخارجي والتركيبة العامة للشخص فيتصرف أحيانًا بعيدًا عن شخصيته الحقيقية.
   
لم يكن ليل تلك المنطقة من بغداد ساكنًا هادئًا على الإطلاق،  فرشق الرصاص يتكرر بين فينة وأخرى وكأن هناك في الجوار قتال شوارع بين خصمين عنيدين. ها قد أنقضى الوطر الأكثر من الليل وهو مستيقظ. لم يغلق عينيه، وكانتا على سعتهما، تراقبان السماء بنجومها اللامعة. وكان يتنصت دبيب الحشرات وأصوات الكلاب والقطط السائبة وهي تتعارك على بقايا الطعام المبعثر في المزابل داخل أزقة السوق، حين سمع فجأة وقع أقدام تقترب وحديث هامس لمجموعة رجال. بعد برهة وجيزة أطلت ثلاثة وجوه تنظر له فوثب من رقدته.
ــ لتخاف يول لتخاف.. أنته أسمك قادر.. أستاذ عبد القادر.
حاول ابتلاع لعابه ولكن حنجرته كانت جافة يابسة مثل صحراء ملح، فخرجت الكلمة بحشرجة متقطعة ومعها صفير خوف.
ــ نعم.
ــ لتخاف.. أرجع نام أنته بحمايتنه، وصه بيك أبو عفيفة.. تدلل أستاذ قادر.. نام نوم العوافي..
ــ أني ما عندي فلوس.
ــ نعرف.. موكلنالك لتخاف أنته بحمايتنا.. أبو عفيفة صاحبنًا وصاحب جميل علينه.. نام أرجع نام.
 ــ أبو تركي ما تخلينه نتونس شويه وياه..
ــ هاي سوالفك الفاينات.. تريد تصير سبع ولوتي براس المخابيل.. دعوفه للرجال بقهرة.. دمشي وتعال ويايه وهناك طلع شطارتك... اليوم دسمه أريد اشوفك..
ــ عد عيناك أبو تركي.. ممنونك.. خليني على يمناك..
 ــ في أمان الله عبد القادر بيك.
ــ أنشاء الله أغاتي ..عيوني..
هكذا نطق ماركس جملته بفم جاف فضحك الرجال وربت أبو تركي على كتفه. وبين ضحك الرجال ودهشة وخوف ماركس انسحبوا وابتعدوا يسيرون ببطء نحو نهاية الزقاق. عندها عاد ماركس إلى رقدته وقد شعر بشيء من الاطمئنان وراح ينتظر بزوغ فجر يوم جديد.
 
 



108
التحالف الوطني الشيعي العراقي وصراع المرجعيات الدينية

فرات المحسن

من جديد تطفح إلى السطح حقائق الصراع الشيعي الشيعي.فقد قدمت كتلة التيار الصدري وهي أحدى أعمدة التحالف، ورقة تضمنت نقاط يرى التيار إنها بوابة للإصلاحات في الحياة السياسية داخل التحالف الشيعي، وفي الوقت نفسه يكون قبولها من قبل الباقين شرطا لعودة التيار الصدري إلى حضن التحالف. ولكن بعض نقاط ورقة التيار عدها البعض من داخل التحالف، استفزازا لذا لا يمكن تمريرها، لا بل اعتبرت شروطا تعجيزية، على التيار الصدري رفعها من ورقته. فمطالبة الصدريون بوضع قائمة بأسماء المفسدين داخل التحالف الشيعي يستفز البعض، وهم من يمثل كبار قادة التحالف ومناصريهم، ومنهم من بات يمثل رأس الفساد في العراق ويتقدم الجميع بالسيطرة على وسرقة المال العام. وفي وارد هؤلاء إن عمليات الاستجواب في البرلمان لا يمكن لها الاستمرار، وتمثل بقناعتهم استجواب سياسي بل محاولات للتسقيط السياسي، وهؤلاء ساعون لإيقاف عمليات الاستجواب التي تجري، رغم تأكيد التيار الصدري إن شرطه لاستمرار الاستجواب يعد ضمانة عودته لحضن التحالف الشيعي.
ورغم إصرار أغلب أعضاء التحالف الشيعي على عدم وجود خلاف داخل هذا البيت لكن المشهد من داخله وأيضا ما يتسرب عن اجتماعاتهم يؤشر لوجود خلافات كبيرة، تتقدمها فكرة هيكلية الدولة الدينية التي يرغبون في بنائها وفق منهج ولاية الفقيه. فالمعروف عن المذهب الشيعي تعدد المراجع الدينية، والسماح لتابعيه بخيار العودة للمرجع حسب خيار الفرد وعلاقته بالمذهب.ولكن ومنذ ظهور الحوزة الدينية في قم طفح إلى السطح صراع خفي سعى دائما لجعل المرجعية العليا عائدة حصرا لعلماء المؤسسة الدينية الإيرانية دون سواها .ورغم إن أغلب قادة الحوزة الدينية في العراق هم من أصول إيرانية منذ هجرة الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من إيران إلى العراق وتأسيسه لما سمي لاحقا في أعراف ومدونات الطائفة بالمرجعية الدينية. ولكن ظهر في فترات مختلفة  صراع ديني سياسي  بين المؤسسة الدينية في العراق ممثلة بالحوزة الدينية في النجف و نظيرتها الإيرانية،كانت تثيره حسب الحاجة ولإغراضها السياسية، الحكومة الإيرانية. وغالبا ما كانت الكفة تميل فيه لصالح الحوزة الدينية في النجف لحين زمن الثورة الإيرانية عام  1979 وظهور الشيخ الخميني الذي استمال بقوة الدولة الإيرانية وأموالها،الطائفة الشيعية في العديد من الدول، ومنها مجاميع عديدة داخل الطائفة الشيعية في  العراق. واحتضنت الدولة الإيرانية والحوزة الدينية فيها، رجال المعارضة الشيعية العراقية لنظام صدام وأغدقت عليهم الكثير من الأموال وقدمت لهم يد العون لبناء ميليشياتهم وتسليحها، وكذلك إيجاد قواعد عسكرية لانطلاقها في عمليات الصراع ضد حكم صدام في العراق. ومن هذا التأثير لقائد الثورة الإيرانية والمحاولات لتصدير مفاهيمها خارج إيران، تسيد الشيخ الخميني أغلب الطائفة الشيعة، وبات ليس فقط ينافس رجال الحوزة الدينية في النجف، وإنما استطاع أن يخطف منهم البريق الذي كانوا يتمتعون به. وجاءت وفاة الشيخ الخوئي لتعزز مكانة السيد الخميني. ولم تستطع الحوزة في النجف أن تعيد ذلك البريق والسطوة التي تمتعت بها على عهدي السيد محسن الطباطبائي الحكيم  ( 1889 – 1970 )  أو السيد أبو القاسم الخوئي (1899- 1992)  وطغى على المشهد الشيعي في العراق تعدد المرجعيات وجلها يتبع إيران رغم بقاء مرجعية النجف ممثلة بالسيد السيستاني.
نصت الفقرة الأولى من شروط التيار الصدري ( أن يكون هناك غطاء مرجعي عام داخل العراق مقبول من جميع الأطراف ) وعند هذه النقطة دار الخلاف حول طبيعة المرجعية التي يحبذها التيار الصدري. فالمعروف عنه رجوعه حسب اقتراح الشهيد الثاني السيد صادق صادق الصدر  قبل استشهاده، إلى مرجعية السيد كاظم الحائري في إيران. وقد حدث على عهد متأخر من عام 2014 شرخ في العلاقة بين التيار الصدري والشيخ الحائري، وباتت مرجعية التيار غير مستقرة أو غير واضحة المعالم، ولكن وفي أكثر الأحيان يرد على لسان السيد مقتدى الصدر قبوله بمرجعية السيد السيستاني. عند هذه النقطة أختلف الحلفاء في التحالف الشيعي على طبيعة المرجعة التي يجب عليهم العودة أليها لتكون الحاسمة في القرار السياسي والديني.فالبعض يرى إن التيار الصدري يريد فتح باب التدخل لجهات دينية (المقصود مرجعية السيد السيستاني) ربما ليس لديها الرغبة في التدخل بالعمل السياسي، خاصة وإن هذه المرجعية قد أشارت على لسان الناطق الرسمي باسمها عن هكذا توجه.وعند هذه النقطة من الشروط أبدت الكثير من أطراف التحالف الشيعي تحفظها على وضع حوزة النجف ممثلة بالسيد السيستاني كإطار مرجعي وحيد للتحالف، والسبب يعود في ذلك كون أغلب هؤلاء الحلفاء ليسوا من مقلدي السيد السيستاني. وهنا يبرز الخلاف  في طبيعة التوجه نحو خيار أي المرجعيات التي عليها أن تكون قائدة وموجهة للعمل السياسي والمجتمعي والطائفي للتحالف الشيعي، أي لمن العودة في خيار بناء الدولة الدينية العراقية، ومن يكون المرجع في القرارات، هل هي الحوزة الدينية في النجف أم مرجعية قم في إيران.
ورغم وجود العديد من نقاط الخلاف، ولكن يعتقد إن الآمر قد حسم لخيار الحوزة الدينية في إيران ممثلة بولاية الفقيه وبمرجعية السيد الخامنئي  إذا ما عرف إن أغلب قوى التحالف الشيعي ومعها أغلب المليشيات الشيعية، تتلقى الدعم المادي وتعود في خياراتها لتحتكم دائما لقرارات ولاية الفقيه وهو المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي وتتبع تعاليمه وتلقى النصح والعون من حوزة قم.وهذا الخيار في طبيعته لا يعود فقط إلى الراهن من الوقت، بل عائد أساسا لارتباطات سابقة كان لإيران الفضل واليد الطولى في بناء هياكل سياسية ودينية للعديد من القوى السياسية الشيعية العراقية الحالية. ولذا اقر التحالف الشيعي وبشكل ناجز لا لبس فيه واقع أن يكون خيار توزيع المناصب السيادية في الدولة العراقية وقيادات التحالف ، عائد لقرارات السيد المرشد علي خامنئي وليس لغيره، إن توافق مع الصدريين أو دونهم، وأقصيت فكرة مرجعية السيد السيستاني التي سبق أن وضع ما يعرف بقواعد تحييدها وعدم السماح لها بالتدخل في الشأن السياسي العراقي، وهذا ما أوضحته المرجعية الدينية العراقية نفسها، بإعلانها ذلك في الأشهر الأولى من هذا العام، وإقرارها بالعجز تجاه ما يقوم به القادة والكثير من السياسيين الشيعة، وفضلت تقديم النصح الديني الذي ما عاد يعني للساسة الشيعة شيئا مؤثرا وفاعلا.  وهم عازفون حتى عن الاستماع لخطبة الجمعة التي بح بها صوت المرجعية الدينية في النجف دون إن تجد لبحتها صدى يذكر عند قادة العملية السياسية في العراق.








109
الحفل السادس لفرقة طيور دجلة ألق جديد

فرات المحسن

في مساء خريفي مست برودته الندية شوارع العاصمة السويدية ستوكهولم، كنا على موعد مع حفل جديد لفخر الجالية العراقية في السويد وفخر وطننا العراقي فرقة طيور دجلة في عرضها الغنائي السادس. مساء الثاني من شهر أكتوبر للعام 2016 بدا مساء مورق ندي بحشود الناس المتأنقة أمام باب القاعة.
لم تخني ظنوني فالفرقة ومنذ التأسيس عام 2008 قدمت الكثير من العروض التي كسبت فيها رهان النجاح ومثله حب جمهور الجالية وأيضا الجمهور من خارج السويد. من هذا كان رهاني يصب على قدرة الفرقة على جلب الجمهور للاحتفال معها في موسمها الإنشادي الجديد لعام 2016 ،وأيضا بعد إضافة الفرقة حيوية جديدة لحفلها تمثل بوجود عازف العود الفنان المبدع نصير شمة.
كان الزحام على أشده أمام قاعة المرايا في فندق كَراند هوتيل وسط العاصمة ستوكهولم. الكل يتطلع ليكون هذا المساء مساءا معطرا بأصوات نسائنا البديعات الباسلات اللاتي تدربت أصواتهن بإشارات وإرشاد أنامل وجهود المايسترو الرائع علاء مجيد.وفعلا فقد قدمت الفرقة ما يفرح القلب والوجدان. أعطت الفرقة ومعها تخت الموسيقى الشرقي طقسا احتفاليا باذخا ومبهرا أدخل البهجة في النفوس وجمل العالم حولنا .رحم الله سيدة الغناء الشرقي حين غنت عن معنى الغناء قائلة .
المغنى حياة الروح ..يسمعه العليل يشفيه.
وهي الحقيقة الخالدة وسواها أكذوبة ورياء ووحشة درب وبخس ورخص وجفاف حياة. فالغناء والموسيقى عالم عذب غني ضاج بالفرح يدعوا للمحبة والسلام والطمأنينة.
كان وقع الأداء الغنائي لفرقة طيور دجلة  يدخل القلب بسلاسة ودون تكلف، والأذن تتنفس النغم المتكامل العذب المسترسل المكين الحافظ للنغم والدقيق في اللازمة ومخارج الكلمات، غناء شجي حافظ على قوالب الموسيقى وقواعدها وأصولها اللحنية والمقامية التي عرفناها سنوات السبعينات، وكان الأداء مكتملا بمصاحبة إيقاع موسيقي أجادت فيه الفرقة الموسيقية بعزف جماعي مسترسل يسموا في أجواء القاعة ويسمع مثل ماء نهر رقراق ، ساعة يناغم أمزجتنا بخريره وأخرى نستمع لمناجاته وتارة نتنصت لروحه وهي تحاكي الشواطئ والطيور، فيسحبنا معه في عالم بهجة وطقوس تجمل لنا العالم، فنستجيب لها بانفعالات وجدانية، ومعها نتذكر روح الأغنية العراقية الأصيل المترع بكلمات الحب والوفاء والعذوبة.
غفه رسمك بعيني من الصبا لليوم للمطرب الراحل سعدي الحلي وهذه الأغنية تعد من روائع الألحان وأعذب الكلمات العراقية،أيضا كان عتاب أمل خضير في أغنيتها لا لا زين عرفت غاياتك ، وسيتا هاكوبيان في رشاقة صوتها وأغنية بهيدة من تشبكَني، ثم رائعة الملحن مفيد الناصح وغناء فاضل عواد، يا لجمالك سومري ونظرات عينك بابلية،وحضرت لإمتاعنا عفيفة اسكندر في رائعتها بعيونك عتاب وبكَلبي جواب، وأيضا شنفت أسماعنا رائعة المطربة الرائعة أسمهان في أغنيتها يا جمال الورد.  وفيروز في أجمل أغانيها التي تغنت ببغداد والشعراء والصور، وهكذا كانت انفعالات القاعة تتجاوب وتتناغم مع اللحن الجميل الذي تؤديه الفرقة وتتلذذ النفوس بتنوعه بين الأغنية الكردية والأشورية والجنوبية والبغدادية والعربية فأرضت جميع الأذواق وأراحت الأنفس .
لن أوفي حق الفنان العبقري المبدع الأستاذ نصير شمة إن تحدثت عن ما قدمه من عزف منفرد على العود أو بمصاحبة الفرقة الموسيقية، فكل حديثي لن يحيط بتلك الطاقة التي فجرها أمامنا والقيم الفنية التي استعرضها، فإذا كانت فرقة طيور دجلة قدمت بأصواتها الرخيمة أجمل الألحان فإن عود وألحان نصير شمه ألهبت أحاسيس الجمهور وتفاعل مع أنامله وأوتار عوده بالانبهار والدهشة،حيث نقلتنا موسيقاه نحو طبقات عليا من العذوبة وبتنا في غمر واسع من سعادة وبهجة وكنا نود المزيد، وشعرنا بأن قلوبنا تتنفس جمال موسيقاه، وأنغام عوده الساحرة تتسلل نحو أرواحنا وكأنها تهمس محبة وتومض عشق . 
ولكن ومع كل الأسف، كان هناك حديث مختلف بعيد عن كل ذلك الإبداع والرقي الذي جادت به فرقة طيور دجلة وقائدها ومعهم الفنان نصير شمة والفرقة الموسيقية، والحديث عن هذا له وفيه الكثير من الشجون لا يعرف عنه الكثير من الذين حضروا الحفل. فالاستعدادات للحفل أخذت وقتا طويلا وجهد كبير من الفرقة وهيئتها الإدارية وقائدها المايسترو علاء مجيد. لم تحصل الفرقة على حجز لقاعة خلال زمن عام 2016 لعدم توفر قاعة لتقديم الحفل السنوي للفرقة، وبالصدفة وحدها جاءت الفرصة لتتفق الفرقة مع منظمة سويدية تقدم العون للأطفال من متضرري الحرب في سوريا،وبعد المداولات جرى الاتفاق على وضع مساعدة أطفال العراق ضمن منهاج هذه الجمعية لتقدم لهم أيضا المساعدة المناسبة من خلال ريع الحفل والتبرعات خلالها. وتبنت المنظمة السويدية ممثلة بالسيدة صوفيا وهي سويدية من أصول تركية التهيئة للحفل إداريا أي تهيئة القاعة وتوزيع المقاعد وتلبية احتياجات الفرقة وضيوفها وغير ذلك من توفير أجواء مناسبة لإقامة الحفل في ذلك المكان، وعلى فرقة طيور دجلة إعداد نفسها في هذا الإطار لتقديم فعاليتها السنوية مساء يوم 02 / 10 / 2016 .ولكن السيدة صوفيا أخلت بكل بنود الاتفاق وباشرت بتقليص الصرف لحد أسكان 6 أشخاص من الموسيقيين في غرفة واحدة في سكن جماعي والأستاذ نصير شمة في غرفة من دار للمسنين، مما اضطر الفرقة لتدارك الآمر ونقلهم لفندق مناسب.
كان زخم الحضور كبير جدا لم تكن لتستوعبه القاعة وهذا الآمر جعل إدارة الحفل تدخل وعلى شكل وجبات كراسي أضافية لتغطي العجز وحدث هذا أثناء تقديم الحفل مما شوش على المشاهدين وأيضا  على الفرقة. وعند الاستفسار عن ذلك أخبرنا بأن المنظمة وبشخص السيدة صوفيا التي تدير وتشرف على الحفل استبدلت القاعة الكبيرة بهذه القاعة المتوسطة الحجم، ربما الآمر يتعلق بكلفة إيجار القاعات إن أحسنا الظن.وقد بدا الإرباك وسوء الإدارة منذ الوهلة الأولى حيث كان المستقبلون لا يتمتعون بالمهنية، وليس لهم قدرة على إدارة وتسهيل دخول الجمهور بل كانوا مجموعة من الشباب  الصغار وظفتهم السيدة صوفيا، يقفون في استقبال المشاهدين ولا يعرفون ما يفعلون، لا بل كانوا سببا في حدوث كل ذلك الهرج والإرباك. وأول فشل رافقهم كان في مهام استلام البطاقات من الجمهور لدخول القاعة. حيث كانوا يأخذون البطاقة كاملة وعلى الجمهور حفظ أرقام مقاعدهم والذهاب إلى القاعة. بعد مضي ربع الساعة الأولى من دخول الجمهور بدأت الفوضى، حين عاد البعض من الجمهور ليشتكي من وجود البعض ممن يحتل المقاعد التي خصصت لهم. فالمشتكي حين يصل إلى رقم كرسيه يجده شاغرا من قبل غيره، بعد أن رفع رقم المقعد ورمي بعيدا أو أخفي، والمطالب برقم مقعده لا يملك ما يسند شرعيته وحقه بالمقعد، كون بطاقته قد أخذت منه كاملة في الاستعلامات. وحدث غبن كثير، فالبعض دخل وأحتل مقاعد مخصصة لغيره وبيعت بسعر 1000 كرون سويدي وكذلك بسعر 800 كرون ولكن المقاعد هذه احتلت من قبل من دخل أولا وسبق أن اشترى بطاقة بسعر 600 كرون. وكان هذا الوضع مربكا جدا مما سبب هرجا ولغطا ورافقه صراخ من قبل البعض لسوء تصرف إدارة الحفل ومن هؤلاء من سراق المقاعد.
 وقد تصرف البعض من الجمهور وكأنه يجلس في الأزقة الخلفية للمحلات الشعبية وأن عادات الريف لازالت عالقة في ذهنه. فالحديث الجانبي الغير معني بما تقدمه فرقة طيور دجلة من رائع الغناء وبديعه  وبتلك الألحان الشجية من التراث الأصيل للطرب العراقي أو العزف الجميل الخلاب للفنان نصير شمه والفرقة المصاحبة. والشيء الغريب يبدو لي إن البعض وليس الكل من الجمهور، كان يهوى التهريج ولم يكن حاضرا لسماع موسيقى أو تراث أغاني أو عزف شجي لآلة موسيقية، ولذا كان يبدأ بالانفعال ليصاحب الغناء والموسيقى بالتصفيق ويطغي تصفيقه على جميل العزف والغناء ، كنت حينها أقارن كيف يستمع ويستمتع الجمهور السويدي والأوربي بسماع الموسيقى الكلاسيكية والتراثية وكيف يتفاعل معها ثم ينتظر حتى النهاية ليحيي المطرب والموسيقي على أدائه. ولكني أيقنت إن البعض لا يهوى غير سماع أغاني  (  سارية السواس  ).
 ولكن أكثر ما آلمني هؤلاء الوحوش الذين لم يتعلموا ألف باء الثقافة ولم تمسهم الحضارة ولو بالشيء القليل وبقوا على عادات النهب والغنيمة، هؤلاء الذين دخلوا أولا واحتلوا كراسي غيرهم عنوة دون وازع أخلاقي أو محاسبة ضمير.فكيف تسنى لهؤلاء سرقة أماكن غيرهم بكل تلك الصلافة والوحشية واللؤم
وبعد أن شاهدت سوء الإدارة الذي أربك الجمهور، فأنا أتمنى على الفرقة وهيئتها الإدارية أن تأخذ مستقبلا على عاتقها مسؤولية الإدارة، حتى وإن استعانت بشخصيات لها خبرة في تنظيم وإدارة الحفلات وعملية التسويق.



 


110

كارل ماركس في العراق الجزء الثالث والعشرون

ــ خالي أبو عفيفة آني أدفع حساب الرجال هذا.
ــ عيوني أبو رجب مشكور.. بس الرجال عنده فلوس.
ــ حتى لو عنده.. آني أدفع عنه.
ــ منو يكول يقبل؟
ــ لا يقبل.. مو حبيبي أستاذ قادر تقبل مني أدفع عنك الحساب؟
نظر ماركس نحو الرجل وأبتسم له ابتسامة رضا وقال وهو يفرك راحتي يديه بعد أن أنهى التهام الطعام.
ــ عن ماذا تتكلم سيدي؟
ــ أستاذ قادر.. الحمد لله أني لكيتك سالم.. أنشاء الله مرتاح أستاذ.
ــ شكرا جزيلا ،ولكني لست الذي تنشده فأنا لست أستاذًا، وأسمي ليس قادرًا.. أنا اسمي كارل هنريش ماركس من ألمانيا.
ــ أدري.. أدري الله يكون بعونك... يا جماعة أنه أعرف الرجال حق المعرفة.
ــ مشتبه بيه لو تعرفه؟
بادر أبو داوود ومثله أبو عفيفة بسؤال أبو رجب عن حقيقة معرفته بشخص كارل ماركس أو مثلما سماه أستاذ عبد القادر.
ــ حبيبي أبو عفيفة ولا يهون أبو داوود، هذا أستاذ عبد القادر مله عطا آل مغامس، كان أحد أهم أساتذة كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة ومسؤول عن التقييم الجامعي والبحوث.. فد يوم بعهد صدام اجوي الأمن للجامعة وأخذوه، واختفى من ذاك الوكَت، وبعد منشاف، ومحد عرف السبب الصدك.. يكَولون طالب بعثي جان يغش بالامتحان، وأستاذ قادر لزمه ورسبه. وهذا الطالب شد عداوه وكتب موزين على أستاذ قادر وكَال عليه شيوعي.وأجوي بعدين الأمن وأعتقلوه خطيه..وهسه هو كدامكم.
ــ أكَول.. من هذا مسمي نفسه كارل ماركس.. بس أبو رجب انته منين تعرفه؟
 ــ آني جنت أشتغل بمديرية بريد النجف وكل أسبوع أمر لأقسام جامعة الكوفة أسلمهم البريد وبعض الكتب وجنت أشوفه لأستاذ قادر وادخل عليه لغرفته.. آدمي أبن أوادم.. وآني أميزه من بين ألف واحد رغم شكله شويه متبدل...مو كلش أبيض شعره مو أسود كلش ومشيب عيونه صفر ويوميه يلبس قاط جديد ورباط  وقميص منشه..هيبه وينوصف وصف.. ابن حلال مع كل الأسف.. نعله على روحه للكافر بن الكافر شسوه بالناس.. هذا العالم خلاه يصير بهذي الحال.. والله هذا يسوه ألف واحد مثل صدام وربع صدام.
ــ لا يا كفار ولد الكفار.. أي ليش من عمت عينه للوكت.. هذي الناس العلامة الفهامة يصير بيه هيجي شي.. وكرايبهم جابوهم من وره الهوش وسوهم ضباط وأساتذة أو وزراء وصارو يتحكمون بروس الناس.
ــ أغاتي أبو عفيفة هذا قدر العراقيين راح ذاك المجلوب وهسه انته تشوف أحنه همين وكَعنه بيا حال، هم هناك من يشبه صدام ومجاليبه وديلعبون  بالوضع لعب.
ــ أي والله قدر العراقيين كل فترة ينلعب بيهم طنب.. تدرون أني شنو أفكر..
ــ شنو تفكر أبو عفيفة؟
ــ أكَول لو يجينا فد طنطل.. طنطل خشن مصنع ومضبوط ويشد حيله  ويلعب خلقة بكل هذوله لعب ويكَطعهم من عرجهم، ويصفيلنه الجو، ويوكف بوجه كل ظالم وحرامي ويوفرلنه الأمن والكهرباء وبعده كلشي منريد ونبوس أدينه وجه وكَفه.
ــ أبو عفيفة عيوني... تتصور الأمريكان يحبون الطناطل لو همه أهل الطناطل .و.هذا طنطلك كَلي  شكد راح يقاوم ويه العراقيين وطلايبهم..شهر شهرين سنه سنتين؟ هذا يريد منه استقلال بعشيقة وذاك يطالب بانفصال عفج، والشطره تطالب بالفدرالية وذاك يريد بوري نفط يجي البيته،أو واحد يريد كهرباء خمسه وسبعين ساعة باليوم، وهذا يطلب منحة سفر سنوية لجميع المواطنين أسوة بأعضاء البرلمان،وذاك يصيح حرية حرية دولة مدنية، ويجاوبه اللاخ الحكم لله والموت للعلمانية، وهذا يريد وذاك يريد، إلى أن أطكَ حوصلة وفيوزات الطنطل وبعدين راح يندار على الشعب العراقي ويلعب بطراكَاتنه لعب.. انته من كل عقلك يجي أبن أوادم طنطل لو بنطل لو حنطل ويعدل حال هذي الآمة المسكينة.. أيس، وأخذه مني ماراح  ينعدل الحال أذا مو أحنه ننعدل.
ــ والله حجيك ذهب أبن عمي أبو رجب الورد.
قال  أبو داوود  ذلك وراح يلوك قطعة صمون صغيره سحبها من تحت الغطاء الموضوع في عربة الطعام دون استئذان من أبو عفيفة الذي لم يبد اهتماما للأمر فقد أعتاد على ذلك ومطعمه مباح لجميع أصحابه. كان ماركس يراقب حركات الرجال الثلاثة وينصت لحديثهم باهتمام وتمعن محاولا أن يلم ويستوعب جميع ما يدور فيه. كانت تفلت منه بعض الكلمات التي لا يفقه معانيها، ولكنه في العموم كان يفهم أغلب ما يتحدثون عنه. حديث الناس في هذا البلد لا يخلو من التباس في محاولة فهمه، ليس له فقط وإنما يشعر أن ذلك يحدث فيما بينهم أيضًا، هذا ما تلمسه ماركس عند جميع من تعرف عليهم. فالمشتركات في الحوار تتدهور فجأة وتقفز نحو عدة مواضيع، ثم تذهب بعيدًا، ويكون ذهابها سريعًا وجليًا دون ثبات على حال، فمن السهولة أن يصب الحديث في جوانب مختلفة ومتنوعة في آن واحد، حينها تبدأ معه سرعة التأويل وإطلاق الأحكام واستباقها، فاللحظة الراهنة لا تلبث أن تتشعب نحو الماضي والمستقبل ويضطرب معها الحديث ثم يختلط السلوك المنطقي بالغرائبي أو الهازل ويتحول إلى شيء مختلف أو بعيد عن الراهن. آلام الماضي تضغط على الحاضر فتجعله اشد عسرًا، وترحل نحو المستقبل لتجعله أكثر التباسًا وقلقًا. لا أدري إن كان ذلك جزء من ثقافة وخيار عام لهذا الشعب. الغريب أن ما يتحدث فيه هؤلاء الطيبون هو من هذا الصنف وباتوا مقتنعين بأني أنا الأستاذ عبد القادر. فالحجة التي يقدمها لهم هذا الرجل الواقف أمامي يتحدث ويحرك يديه وكأنه يقف وراء منصة خطابه، تبدو سليمة بمجملها، سليمة ومنطقية له ولهم، وهم لا يملكون سوى الموافقة على روايته التي يقرنها بالأدلة، وهاهم يراجعون الماضي ويتمنون شيئًا للحاضر ويجيبون عليه قبولاً أو نفيًا.
 ولكن أنا، أنا المعني بكل ما جاء في هذه الحكاية والذي يراد منه أن يماشي رغبة أحدهم، ما علي فعله الآن. أجد أن من الممكن أن أمسك هذه الحكاية من تلابيبها وأتوافق معها بشكل وآخر لأخرج من المأزق الذي وقعت فيه وأبعد عني الشبهات، قادر.. عبد القادر أستاذ كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة أو أي مسمى أو وجود آخر، يستطيع أن يمنحني فرصة أخرى أقفز معها نحو ضفة جديدة، وتغطي على شخصيتي ووضعي، ومن ثم تبعث عندي أملا جديدًا في العودة إلى لندن. هنا عليَّ أن أضع أو أختار ما يفي حالة عبد القادر. تدريسي أعتقل، الآن هو خارج السجن مطلق السراح ولكنه في حالة فقدان ذاكرة أو شبه مجنون، ولكن من الممكن أيضًا أن يدخلني هذا التقمص في متاهة ومأزق جديد أضيع فيه وأخسر كل شيء. حتما سوف أصاب بالذعر عند منعطف حاسم من هذه اللعبة. ربما لا استطيع الاحتمال إلى ما لانهاية وبالذات إزاء مشاعر الذنب التي سوف أشعر بها لاحقا جراء قبولي ومجازفتي بخداع الآخرين، فلم يسبق لي أن مارست خداع أحد. أعتقد أن الأمر قد أختلف في هذا الراهن، لا بل يتطلب قوة شكيمة وإرادة ومجازفة، فالقيام بمثل هذه الخدعة يكون دفاعًا عن النفس ضد تهديد أتعرض له وأنا في العراق، ولن يكون عيبًا ذاتيًا أبديًا إن فعلت مثل هذه الخدعة فهي جزء من مرحلة أجبرت فيها، وسوف يعد سلوكًا مشروعًا. ولتكن قدرتي تتوافق مع هذه اللعبة ولأبدأ بمجارات هؤلاء بشيء من الحذر وبكلمات مختصرة هلامية.
ــ أستاذ قادر عود صدك أنته وين جنت؟
قال ذلك ابو أبو رجب بينما كان ينفض عن كتف ماركس شيئا من التراب العالق.
ــ بالسجن.
ــ شفتو يا جماعه يتذكر خطيه. اتعذبت هواية استاذ قادر مو ..؟
ــ كثيرًا سيدي العزيز.. كانت أيام صعبة.
ــ شلون ويمته خلصت السجن، شلون طلعت؟
ــ لا أعرف..
ــ أبو رجب... هيه السالفة مال أستاذ قادر يرادله تفسير !!.
ــ هم صحيح والله ما يرادلها.
ــ من دخلو الأمريكان ما بقه واحد بالشماعية لو بالسجن... عمي أستاذ قادر أنته جنت بالسجن لو بالشماعية؟
ــ لا أتذكر شيئًا من هذا القبيل. ربما هناك أو هناك.
ــ يابه خلوه للرجال.. إي هسه شيفيد لو عرفتو جان وين.. جان عند الحكومة الظالمه وطلع.. يجوز خلص كل ذاك الوكت  مشي وتايه بالدروب.. عمي عندك أهل، عندك بيت؟
ــ كلا .. أو الأحرى لا أدري.
ــ زين وين خلصت كل ذاك الوكت؟
ــ بالسجن.
ــ من عهد صدام لهذا الوكت أنته بالسجن؟
ــ لا أعرف.. ألا أستطيع الحصول على وجبة طعام أخرى؟
ــ تدلل أستاذ قادر العزيز جنك على قوزي..
ــ رحم الله والديكم.. إنشاء الله.
 قالها ماركس وأشاح وجهه بعيدًا خافيًا ابتسامة ارتسمت على وجهه، فهو الآن يستخدم ما تعلمه لتمرير خدعة يشعر أنها تتسع وبدأت تكبر مع كومة الأسئلة التي راحت تنهال عليه، ولا يعتقد أنها سوف تختصر عند حدود هذه المجموعة، بل عليه أن يكون في قادم الأيام على كامل الاستعداد لمواجهة أسئلة متنوعة وربما صادمة تريد منه الإفصاح عن شخصيته، ولن تتركه دون أن تقتنع بما ينفعها، لذا عليه أن يختصر إجاباته قدر المستطاع ويجعلها تضع السائل في حيرة أو اقتناع، وهذا هو المهم في هذه اللعبة الكريهة لحين الوصول إلى نقطة يمكنه معها الحصول على حل لجميع مشاكله وفي مقدمتها الخروج من العراق.

ــ زين أنته وين جنت تنام وشلون تعيش؟
ــ بالشارع ورحمة الله واسعة.
ــ لعد شنو تكول اسمي كارل ماركس.. ليش أنته صدك شيوعي؟
ــ  أنا لست شيوعيًا.
ــ شوف أبو عفيفة هذا صار يتذكر زين.. الدنيه راح تصير مسه وين هذا يبات؟
ــ عمي استاذ قادر أنته عندك مكان تروحله؟
ــ ما أعرف..
ــ لعد شنو تفكر... وين راح تروح؟
ــ لا أدري.
ــ يابه هذا يبين ما عنده مكان... زين أستاذ قادر تكدر تبات هنا على الكرويتات مال الكهوة بعد ما أعزل.
قال أبو داوود صاحب المقهى وهو يناول ماركس كأس ماء جلبه له أثناء ما كان يأكل لفافة الطعام الثانية التي هيئها له أبو عفيفة.
ــ نعم أستطيع ذلك.


111

كارل ماركس في العراق / الجزء الواحد والعشرون

فجأة ومضت كتلة لهب برق ضوئها الخاطف داخل الغرفة. اخترق الفضاء المحيط صوت دوي قوي أرتج إثره كل شيء. قفز ماركس من مكانه مرعوبًا فأصطدم رأسه بكتلة أسمنتية صلدة. لقد اهتز المكان إثر صوت وحركة تشبه زلزال قوي تحركت معه أركان الغرفة برمتها. ارتجت الجدران بقوة إثر انفجار هائل رافقه دوي انفجارات متتالية وعتم المكان بالكامل.. غطت ماركس غمامة غبار سوداء فلم يعد يستطع رؤية ما حوله،ولم يكن ليدرك ما يحدث بالقرب منه. كان مرتبكًا، بل كان في لحظة رعب حقيقية، فتلمس جسده لعله جرح أو شيئا من هذا. لم يستطع بسبب الغبار والظلمة تمييز ما حوله، حتى أبو رمزي ورغم قربه، كانت الظلمة والغبار يغطيانه. جال بأصابعه المكان ولكنه خاف أن يقرب جسد أبو رمزي. تأوهات وهذر وصراخ وضجيج صادرة من قريب وبعيد ونداءات تطلب النجدة.
ــ أبا رمزي.. ما الذي حدث؟
ــ شمدريني.. خربت وأنلاصت، واكلنه خره حاشاك، هذا تفجير.. يمكن تفجير لبناية المركز.. أنته بيك شي مجروح لو سالم؟
ــ كلا فقط لا أرى من حولي بسبب الغبار والظلام. ظننت أنك ..
ــ  لا ..كلشي مابيه ..جيد.. خلينا ننتظر ونشوف شنو النتيجة. راح تروح الغبره.
ــ أسمع صوت تأوهات وطلب نجدة.
ــ أني بشكلك.. حتما هناك مجاريح.
ــ أعتقد أن الجدار قد انهار علينا.
ــ لو هيجي جان كتلنه!
ــ تلمس ما فوق رأسك .
ــ لك هاي صحيح هذا قالب بلوك نازل علينا.. لك ربك ستر.. جان رحنه بوله بشط..
ــ وماذا تعني بوله بشط ؟
ــ يمعود أنته صدك بطران.. هسه محله.. أحنه بيا حال دعوفنه خل انشوف دربنه.
شيئًا فشيئًا انقشع الغبار لتظهر بعض المعالم خارج الغرفة وانفرج المنظر عن فسحة فضاء تمتد خارج المكان نحو شارع أسفلتي قريب وثمة أناس يهرولون ويصرخون ويلوحون بالأيادي. كان جزء من سقف الغرفة قد سقط بالكامل ليغطي أرضيتها بما فيها من سجناء، الذين يسمع تأوه وصراخ بعضهم، وكانت قطعة كبيرة مائلة من الجدار أرتكز عليها السقف وهي التي حمت أبو رمزي وكارل ماركس من أن يهرسهم السقف عند سقوطه.
ــ ربك حليم كريم لو جان هذي الشكَفه من السكَف واكَعه علينه جان هسه أحنه ملطوشين بالكاع مثل الزولية.
ــ ما الذي نفعله الآن؟
مد أبو رمزي يده وأمسك يد كارل ماركس وسحبه بقوة ليذهبا عبر الجدار المنهار إلى خارج بناية المركز وراح ينفض عنه الغبار العالق بملابسه ومثله فعل ماركس .
ــ لنعود ونساعد الباقيين .
ــ أي باقين..؟ أمشي بابا أمشي.. هاي فرصة أجتي من السما.. ربك الأنقذنه من الموت هو ألي خلصنه من السجن وأطلق سراحنا. أمشي.. أنته مو تريد ترجع الأهلك.. يله أمشي.
كانت بناية المركز تبدو أنقاضا لا يظهر من معالمها غير جدران وسقوف سويت مع الأرض. قرب كومة حجارة وحديد ملتوي، شاهد ماركس عريف أحمد جالس يتوجع بصوت مسموع وثيابه ممزقة وجسده مغطى بالدماء، وهناك بقربه جثتان مطروحتان ميزهما ماركس، واحدة للعقيد لطفي الذي بترت أطرافه السفلى والأخرى مهشمة الرأس تعرف عليها ماركس من الملابس، كانت للسجين الذي أهداه الفراش. ألتفت ماركس نحو أبو رمزي الذي بدأ يبتعد متجهًا نحو الطريق الفرعي القريب. ارتبك في اتخاذ القرار وحار بين البقاء أو اللحاق بأبو رمزي. عند تلك اللحظة التي لم تأخذ منه الوقت الكثير، قرر اللحاق بأبو رمزي، فلعل ما حدث فرصة يتجدد فيها ألآمل في العودة إلى أهله.
***
سلكا طريقًا يفضي إلى زقاق قريب ولجا فيه مسرعي الخطى دون أن يلتفتا خلفهما. عند نهاية الشارع توقف أبو رمزي وأمسك بكف كارل ماركس ونظر في عينيه الزرقاوين وابتسم ابتسامة رضية وقال.
ــ هذا عمود الفجر طر وانتشر
وزال الظلام أو بين المحتجب
انتبه وانظر الحالك ابياهو صفه
إصبح وبروحك كل وكت مدفنه
مودعك أخ عزيز ماركس رفيق السجن الذي لن أنساه.
ــ ماذا تقصد بذلك صديقي ابو رمزي؟
ــ عزيزي ماركس .. لقد زال عنا ظلام السجن وأصبحنا أحرارًا وانته هسه عليك تنتبه الحالك، وخلي سرك أبروحك، لا تعرضه على غيرك، ولو أني أدري انته صابتك العدوه من العراقيين على قول المثل إلي يكول من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم، أنا أدري مراح تكدر اتخلي سرّك مدفون.
ــ أبو رمزي ليس لدي سرًا أدفنه أو أخفيه، فانا ماركس ألماني الجنسية وجئت إلى العراق كعالم آثار ومنقب عنها.
ــ شوف عيوني ماركس أبن هنروش.. هسه أحنه راح نتوادع هنا.. أنه أركب أروح الهلي خارج بغداد وأنته تلزم هذا الشارع وتطلع بيه كَبل لا يمنه ولا يسره، راح تلكي نفسك بنص بغداد وبالضبط بمنطقة الباب الشرجي.. مال تكَلي أنته عالم أثار و مدري شنو، تره شويه صعبه أصدك بيك.. خليه أبعبك أحسن.. تره أنه أخوك مكسر كحوف الدنيه على راسي.. وأقره الممحي.. أوكي حبيبي... 
لله درك حتى جذبك غير....
 الحيا يجبر مشاعرنا تصون وما تخون...
 والسمه لا ما تضيق إن كان يغشاها الغمام ... 
والصدر يبقى رحب لو يمتلي ضيق وشجون..
 مودعك الله مرة لخ وإنشاء الله تتوفق بمسعاك وأهم شي توصل الهلك سالم.
ــ أشكر لك جميلك أبا رمزي متمنيا لك الموفقية. فقط اسأل ماذا أفعل في منطقة باب الشرقي فربما سوف يتعرف علي جهاز الأمن أو لا أجد مأوى... هل هناك فندق التجأ إليه؟
ــ عزيزي ماركس الطيب..أني لو اكدر أخذك ويايه جان سويتها، بس شويه هناك تعقيدات وأنا مراح أبقه بالعراق أصلا..أخويه، حاول أن لا تكَرب من الشرطة.. وأبشرك همه ليهسه هم ما عدهم بجيوبهم صورتك.. واضبارتك أحتركت بالمركز.. وإذا تروح لفندق راح يطلبون منك هوية، وأنته ما شاء الله صلوخ، ولا ورقه تثبت شخصك..ولو بالعراق كلشي تايه ما تعرف حماهه من رجلها..شوف حبيبي هناك كَدامك أكو سوك كبير من تعبر الشارع، بنص السوك أكو كهوتين تلاثة من يصير الليل كله أتعزل، وتكدر تنام على القنفات مالت الكهاوي.. وهاي المنطقة بالليل حتى الشرطة ما تتقرب منه.. أبقه جم يوم لمن شعر راسك ولحيتك وشواربك يطولن... وهذاك الوكت وين ما تسرح محد يسأل عنك.. خوش لو مو خوش.. تره أحنه بالعراق نعمه من ألله كلشي ضايع وصايره سفرتح.
ــ أبو رمزي ماذا تعني بسفرتح؟
ــ هسه محله أخويه ماركس.. بعدين يجي وكت وتعرفه.. خوش     .
ــ نعم .. خوش ..
ضحك ماركس وهو يردد كلمة خوش بلكنة أرتاح لها أبو رمزي الذي دس يده وأخرج ورقتين حمراوتين من جيب سرواله. 
ــ دون مجاملات عزيزي ماركس أرجو أن تقبل مني هذا المبلغ البسيط بلكي ينفعك بهذولة اليومين الجايين.. آني عندي من خيرات الله جثير.. أعتبر هذي هدية من صديق رغم أننا لم نتعارف غير أيام قليلة.. وآني أعتبره ثواب ودفع بله،وهذا الشي أنته متعرفه، وفدوه أروحلك لتسأل عنه.
مد ماركس يده وأخذ النقود وصافح أبو رمزي فبادره أبو رمزي وأحتضنه بحرارة وراح يربت على كتف ماركس الذي بادله ذات الحركة فضحك أبو رمزي، عندها تذكر ماركس ذات موقف الوداع مع الرفيق جبار حين قام بنفس الحركة وودعه بعد أن أطلق سراحه من قبل عصابة أبو بشير.
ــ مودع ومحروس بالله...
ــ هاي أنته تتعلم عراقي بسرعة.. والله يا صاحب السجن آني أخاف عليك من هذني السوالف الفاينات.. تره بدايتها زينه بس نهايته كلش مخربطة.. مثل الفلافل أوله منافع وتاليه الله يستر..
ــ كانت فرصة جميلة أن أتعرف عليك.. رغم تعاسة الموقف والظرف.. فقط أود أن أشكرك من كل قلبي وسوف أتذكر لك جميع مواقفك.. أنشاء الله.
كرر أبو رمزي كلمة أنشاء الله مع ماركس وأطلق ضحكة قوية ومد يده مصافحًا ثم استدار وسار نحو رأس الزقاق القريب واختفى في نهايته دون أن يلتفت وراؤه. كان ماركس يقف متسمرًا يراقب أبو رمزي وهو يغذ السير مسرع الخطو ذاهبًا إلى حيث يمكنه السفر خارج العاصمة بغداد. ولن يكون لهما بعد هذه اللحظات لقاء آخر.



112
التكييف القانوني لسرقة المال العام

فرات المحسن

أصدرت هيئة النزاهة، بيانا لتوضيح "اللبس" الذي طرأ على موضوع الاستعانة بالخبراء الدوليين للتحقيق في قضايا الفساد، وقالت في بيانها، (( انَّ "فكرة الاستعانة ببعض الخبراء والمُحقّقين الدوليِّين هي فكرة هيئة النزاهة بالأساس وليس كما أدعى مجلس الوزراء، وقد طرحت الهيئة فكرة الاستعانة بالخبراء في العديد من المؤتمرات الدوليَّة التي شاركت فيها،  وبينت النزاهة في بيانها إنَّ رأي الخبراء والمحقِّقين الدوليّين منذ البدء كان، عدم إمكانية توليهم التحقيق في القضايا الداخليَّة ذات البعد المحليِّ.))
تبعا للتجربة التي خبرناها من متابعة عمل الهيئات في نظم عمل الدولة العراقية ومنذ أول تأسيس الهيئة المستقلة للنزاهة وهي حتما ليست كذلك، ليس فقط  في جانب النزاهة وإنما بإدعاء الاستقلالية أيضا، حيث يظهر عجزها المركب والمنهجي واضح في جميع الأعمال التي قامت بها.وخرج من بين ظهرانيها من هو مرتش أو سارق للمال العام. والهيئة في هيكلها الوظيفي وعموم طبيعة عملها والواجب المناط  بها، قاصرة قصورا مذهلا في القيام بمهامها ،ولم تقدم ما يعمل على تصحيح الخطأ أو الكشف عن الإساءات الموجهة إلى الدستور والقوانين والشعب العراقي، ومنها جرائم الفساد الإداري والرشا والسرقة ونهب المال العام.  ودائما ما أدعى قادتها العجز وغل اليد أمام قوى متسلطة عليهم، في محاولة  للابتعاد عن  الاعتراف بواقع الهيئة وحقيقة هيكلها الرسمي، وكونها لا تعدو غير جزء من لعبة إدارة السلطة في العراق، هذه الإدارة الخاضعة للأحزاب السياسية الحاكمة والمسيطرة على اغلب مفاصلها.والهيئة برمتها خاضعة لرغبات قادة الأحزاب الحاكمة التي تتحكم بنهج وعمل هيئة النزاهة حالها حال مفوضية الانتخابات والقضاء العراقي وباقي مؤسسات الدولة.
الاستعانة بالخبراء الدوليين للتحقيق في قضايا الفساد، إن كانت قد جاءت كفكرة من السلطة أو مثلما تدعي الهيئة بأنها من بنات أفكارها، لن تكون مخرجا لمعضلة بحجم معضلة الفساد في العراق. فما باتت لعبة تبادل الأدوار تنطلي على الكثيرين، وأصبح الناس يدركون بأن هذه المناورات صارت نمطا شائعا ومحببا لدى جميع قادة الحكومة العراقية وهيئاتها وبمختلف انتماءاتهم وعقائدهم. وصار طابع استخدام تبادل الأدوار وظيفة ذكية تستخدم للتمويه عن حدث بعينه ودفع الأنظار بعيدا عن أس الأزمة ومسبباتها،حيث يتم إثارة الاهتمام بجزئية الحل أو المشكلة والضجيج حولها بعيدا عن البحث في طبيعة المسبب الرئيسي أو الحل.
مهمة لجنة التحقيق الدولية لن تكون سهلة ولن تجد ما يتلاءم ويتواءم وطبيعة عملها والواجبات الملقاة على عاتقها ، وسوف تواجهها الكثير من العراقيل والمعوقات، لتجد إن المشاكل أو المواضيع المطلوب الوصول إليها ووضع اليد عليها، تفتقر إلى الدقة في المعلومة والتنظيم والأرشفة، و فجأة سوف تختفي من أمام اللجنة دلائل وقرائن تمنع الوصول إلى نتائج مقنعة، ولن تحصل هذه اللجنة سوى على سكن وطعام منتظم ورواتب سخية يقدمها الجانب العراقي بكل أريحية ورضا.
 فهذه اللجنة التي أفصحت بكل ثقل المعنى عن مهمتها الرئيسية، نراها قد قدمت للجانب الحكومي العراقي ما يطمئن ويثلج القلب. فواجبها لا علاقة له بجرائم فساد وسرقات داخل العراق وهي لن تحقق في قضايا فساد محلية. وبينت للجانب الحكومي وهيئة النزاهة منه وبشكل مباشرة، عدم إمكانية توليها التحقيق في القضايا الداخليَّة ذات البعد المحليِّ.
   إذن فلجنة التحقيقات الدولية وضعت لها حدود لن تجد معها الكثير مما يتعلق بواجبها التي قدمت إلى بغداد من أجله. فأغلب وأعظم قضايا الفساد ودعاوى سرقات المال العام في العراق، كانت ومازالت  داخلية وتترافق مع فساد إداري وقضائي ورشا مازالت المؤسسات الحكومية تئن من سعة انتشاره ووطأة فعله المدمر، وبلغ من الصعوبة والإيذاء بمكان، أن أنتشر في أصغر وحدة من وحدات مؤسسات الدولة وصولا إلى رأس السلطة فيها، وأصبح  الحاضنة الحقيقية للإرهاب، وبات يتكيف والقوانين والطرق الدستورية لتمرير السرقات وتلافي العقوبة.
أيضا سوف يعترض عمل لجنة المحققين الدوليين،  وجود كدس من القوانين والاعتبارات الداخلية ترجح فشل مهمتها ، فعمل اللجنة المهني لن يكون كافيا لكشف ملفات فساد توغل بعمق الاقتصاد العراقي وتقفز نحو الخارج بخيوط متينة تنتفع منها دول ومؤسسات عراقية وغير عراقية، ويسيطر عليها الغموض والتشويش والتداخل في المحلية والخصوصية العراقية. فرجال الدولة بنو لهم صروح  مالية كبيرة ليس على شكل أرصدة في بنوك وتداول نقدي، بقدر ما هي استثمارات وأغلبها بأسماء توابع من الأقارب.كذلك استفادوا من تملك أراضي الدولة وأملاك قادة العهد المقبور، أو السيطرة وشراء أملاك من هاجروا خارج العراق، لتشكل تلك الأملاك إمبراطورياتهم المالية.وهذه الأموال التي يتم سرقتها وتداولها داخليا وتوظيفها وبطرق ذكية، تشارك هيئة النزاهة والعديد من دوائر الدولة بالتمويه والتعتيم والتستر عليها.   
أيضا فالرواتب والمنح والمخصصات الخيالية أصبحت موارد كبيرة للنخب الحاكمة ورجال السلطة ، وتهيأ لهم قدرات كبيرة للتحصن ضد المسائلة والمحاسبة، وتوفر لهم أجواء وإمكانيات شراء الذمم  إن كان ذلك داخل سلطة القضاء أو مراكز الأمن والشرطة أو بين أوساط هيئة النزاهة ذاتها. وخير دليل التكييف القانوني لوضع السيد النائب مشعان الجبوري الذي استطاع بأمواله المسروقة أساسا، الوصول إلى رئيس الوزراء السابق السيد نوري المالي الذي بدوره أعطى الإيعاز إلى القضاء لتغلق جميع القضايا المرفوعة ضده.
وفي نظرة لكيفية سرقة المال العام وفق لعبة تقاسم المناصب والهبات والعطايا والتي تعتبر نهبا عاما لموارد الدولة وفي نفس الوقت تعد نهبا وسلبا لحقوق الشعب العراقي،  والتي لن تكون من مهام لجنة التحقيق الدولية ولم يتم لحد الآن النظر في وقائعها السارية، وتصمت هيئة النزاهة عن التطرق لها.
ففي الشهر التاسع من العام 2015   اصدر السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي مرسوما تم فيه إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء، وصادق مجلس النواب على هذا المرسوم بعد أن صوت عليه مجلس الوزراء، ولكن هؤلاء  نواب الرئاستين قدموا إلى المحكمة الاتحادية  طعنا بعدم دستورية القرار وأيضا عدم صحة الأجراء الذي اتخذه السيد رئيس الوزراء، ومنذ ذلك التأريخ ولحد الآن أي بعد مضي العام ، لم يصدر عن المحكمة أي قرار في شأن هذا الموضوع،ووضعت أوراق الاعتراض وبرضا الجميع عند رفوف المحكمة الدستورية الاتحادية،  وبسبب هذا الامتناع والتغليس وأيضا حسب التكييف القانوني،وباتفاق الجميع،  مازالت رواتب هؤلاء ومخصصاتهم وحماياتهم وصرفيات مكاتبهم وأرتال سياراتهم وسكنهم الخاص في المنطقة الخضراء سارية دون توقف وتستقطع من خزينة الدولة دون اعتراض. وهذا يوضح الكيفية التي يتبعها رجال الحكم في العراق وقدرتهم على التكيف مع الأوضاع ووضع الأطر القانونية لتمكنهم من سرقة المال العام وخداع أي مؤسسة تحاول كشف عمليات سرقاتهم .



113
كارل ماركس في العراق / الجزء العشرون
فرات المحسن
 
رفع ماركس باقي الفراش مع الوسادة ووضعه جوار أبو رمزي قائلا.
ــ أبو رمزي سوف أرجع لك الفراش فقد حصلت على فراش كامل.
ــ أعرف دا أشوف وأسمع من ساعة حجه وياك أبو شكرية قبل ما يطلع، لحد ما هذا العفطي أخذ منك البطانية الإيرانية... زين سويت ما أتكلمت وياه. هذا حرامي بيوت ومجرم وأدب سز.
ــ أدب سز! ماذا يعني هذا؟
ــ أحمق وأرعن وطايح حظه.
الناس كل منهم يعرفه
جذاب سليمه التكرفه
بالدقيقة الف كَلبه
اذا تحسب انقلابه
الملعنة والكذب فنه
من القشمره صار اكتسابه
قال ذلك أبو رمزي بصوت خافت ضاحك وهو يقرب رأسه من رأس ماركس ويطلب منه التحدث بصوت خافت كي لا يسمعهم أحد.
ــ كل تلك الصفات!؟
ــ نعم فهو من جماعة الميه وعشرين ألف.
ــ زدت في حيرتي ياسيدي.. ومن هم هؤلاء الجماعة؟
ــ هذوله السجناء العفطية الذين أطلق صدام حسين سراحهم من السجون قبل سقوط حكمه، وكلهم من المسجونين وفق جرائم قتل ونهب واغتصاب وخطف وتزوير، تصور بيهم مجموعة جبيرة من المساجين على قضايا الزنا بالمحارم، وعندك الحساب.
ــ أي حساب عندي؟
ــ هذا مثل بالعراقي.. يعني أنت تعرف باقي القصة.
ــ وكيف يتسنى لي معرفة باقي القصة
ــ أي مو دنكَول مثل عراقي لتلح عاد.. بلعراق كلشي عدنه أله عله ومعلول .
ــ ولماذا أطلق سراحهم؟
ــ صدام أراد الخراب للعراق من بعد حكمه.. وفعلا، فهؤلاء هم سادة الموقف في الشارع الآن؟
ــ غريبة رواياتكم!
ــ هذا جان نشال ومحتال ومسجون بسجن أبو غريب ومحكوم بمدة عشر سنوات وأطلق سراحه قبل دخول الأمريكان، بعدهه بده بتشكيل عصابة لسرقة البنوك.. بأول وكت قبضو عليه الأمريكان وحولو للشرطة العراقية، سجنو سنة بعد اتهامه بقتل رجل ثم أطلق سراحه وطلع براءة.. يكولون دفع فلوس هواية. وسجن سنة لخ ومثل السابق أطلق سراحه، والآن هو معتقل بتهمة القتل أيضًا وأوراقه أمام المحاكم من ما يقارب السنة وبعد ما اتخاذو قرار، ليش متدري، هذا سالفته مثل سالفة جني مو بشر.
ــ ولمَ لم يتخذ قرار، أو يطلق سراحه بكفالة لحين صدور الحكم؟
ــ سيدي روح أحجي ويا القاضي وقبل متروح  لهناك، روح أسئل العقيد لطفي وجماعته، فكل شيء متدستر وأله حساب.. العجيبة، بعضهم يكَول هذا المجرم يسوي سحر ويسيطر على القاضي ويلعب بأعصاب العقيد لطفي.
ــ أي سحر في هذا الزمن؟
ــ هذا حجي الناس من يخافون من واحد؟ ويتحاشون منه ، يكولون القاضي يلط عركَ.
ــ ولماذا يخاف الناس من هذا إذا كان هناك قانون؟
ــ  عمي ياقانون ..ما عندك واسطة ..ما عندك فلوس ظل مطمور بالسجن..عمي هذوله من رب العباد ما يخافون.. وهو هم سالكنا سلك وعايفهم يلعبون بالشارع طنب.
 ألاهي أقبل بحكمك ونارك
قريب أعله البشر أنته ونارك
عجيب المؤمن تحركه بنارك
وعلى أصحاب اللغف برد وسلام
ــ أرجوك أبو رمزي وضح ما تقول؟ لم أعد أفهم ما تعنيه.. هل يستغل السحر للتأثير على قرار القاضي أم ماذا؟
ــ أسمع اللكلاوات.. يكَولون يستخدم السحر ويجعل القاضي يتخربط ويرتبك.. ويكَولون إنه في أحدى المرات أغمى على القاضي قبل لا يقره أوراق الدعوى، ومن يجي قاضي لاخ يحدث وياه نفس الشي. آني ما أصدك.. هذا عنده فلوس هواية ويكدر يلعب بيهن لعب لا سحر ولا هم يحزنون.
ــ نعم.. السحر هو سد الثغرات في المعرفة السببية لظواهر الطبيعة وما غمض منها. نزوة السيطرة وعنصر القوة والبراعة التي تبهر البعض وتحوز إعجابهم وتجعلهم يخضعون خضوعًا مربكًا، له علاقة بالخوف والقلق، وهو شكل من أشكال الفعل التعويضي عن الضعف والمهانة.
ــ أستاذ ماركس.. لتوصله لهل درجة، من رحتلك فدوه، وأندار صدقه لهل جهره، تره آنه ما عندي قرصاغ لهذي السوالف.. احجيلي بيتين أبوذية أرتاح وياك وأتونس، مو تاخذني بفلسفة وحجي يدوخ ويفر الراس، تبهر.. وخضوعًا مربكا.. وتعويضي..هاي وين وذيج وين.
ــ لا فقط وددت أن أوضح لك أمر السحر..
ــ ميخالف حبيبي بس شويه على كيفك ويانه مو هيجي.. هسه دجرب تنام على مخده، تره صارلك أسبوع تنام على أيديك.. ريح راسك أخوي العزيز ماركس.
ــ مثلما تقول، عليّ الآن تجربة الفراش الجديد.. إنشاء الله أستطيع.
أمسك أبو رمزي كتف كارل ماركس وراح يهزه ببطء ويضحك بفرح طفولي
ــ هاي شنو سيد ماركس ما صارلك غير جم أسبوع بالعراق وتعلمت كلاواتنا، وصرت تحجي بإنشاء الله.. وبعد مدة راح تشتغل رحمة الله.. بالتوفيق مولانا.. وصار سيدنا.. ومقبولة أغاتي حجينه.. والله يحفظكم.. ورحمه الوالديكم أعيوني.. لعد هوايه راح تتوفق سيد ماركس ابن سيد هنروش ما ادري منو.
ــ كارل هاينريش ماركس إنشاء الله أغاتي.
ــ ورده بعرضي أنته أكبر ورده أبن خالتي ماركس.
ردد ماركس ذات الجملة وضحك ضحكة خافته لم يرغب بإسماعها للآخرين. ولكن أبو رمزي لم يستطع كتم ضحكته فأطلقها فاضحة في مساء غرفة الحبس، فصرخ أحد السجناء مازحًا.
ــ ضحكة خير أبو رمزي وشره يطفر على ألي بكَلبي..
انفرد ماركس ينشد الخلوة مع نفسه بعيدًا عما يحيط به، ولكنه وجدها لا تعاف ما حولها وتتوغل دون حذر داخل هذا المحيط البائس، بحثًا عن علله وأزماته، فهو يجد درجات مريعة من التساهل تجاه السلوك الشائن للقتلة وشذاذ الأفاق، وبعضهم لا يمانع من إعطاء أمثال هؤلاء دورًا ووظيفة اجتماعية لا بل مكانة يحسده عليها البعض أيضًا.. البنية الاجتماعية الاقتصادية للجماعات المغبونة المقهورة التي تتحكم بها التقاليد والعادات قبل القوانين، لا تستطيع امتلاك رؤية واضحة للحياة ووقائعها اليومية، وهي ترضخ لمعايير تقاليد تربت عليها وتشبعت بها ولا تود كسر أو التمرد على هذه المعايير. الخوف يعتمر القلوب ولا يسمح المساس بتقاليد تضمن الوجود رغم بؤسه وتعاسته، ومن يحاول خرق ذلك سوف يطرد خارج السرب ويتعرض للنبذ وربما التصفية. والبرجوازية ذات الامتيازات والمصالح الاقتصادية، تصنع وسائل عديدة لتعزيز تلك التقاليد والأعراف، وتبني لها طرق وأطواق قمع تقف في وجه أي حراك أو تفكير بالتغيير، وتجبر المجتمع على اتخاذ وسائلها وبرامجها وليس غيرها كمعايير لتفسير الأحداث والعلاقات والتراتيبية المجتمعية، ليقع الجميع في هذا الفخ ليصلوا في النهاية حد الاقتناع بأن قوانين وتوجهات البرجوازية وطفيلياتها هي التي يجب أن لا تمس، ومن يمسها فهو مجرم ينال أشد العقاب. والطبقات صاحبة الامتيازات تفرض على الناس التفكير بأن غنى الطبقات البرجوازية وفقر الكادحين هي قسمة طبيعية للمكانة الاجتماعية السياسية وتوزيع عادل للأرزاق، وعلى الجميع قبولها كأمر مفروغ منه، فليس هناك مغبون سوى الغبي والعاجز، وهو بالذات من يرغب بكسر القواعد العامة لتراتيبية العلاقة، ومن ثم التقاليد التي يعيش عليها المجتمع المطمئن القنوع البعيد عن التوترات. هذه هي فكرة البرجوازية في حكمها للمجتمعات. وفي هذا ومن خلاله يجدون وسيلتهم الناجعة لإقناع الناس المغلوبة على أمرها بما يواسيها ويهدئ خواطرها ويربت على أكتافها ويطمئن النفوس الثائرة المنفعلة، إنه الدين، الوصفة السحرية لكبح جماح المتمردين والمشككين. فالبرجوازية تظهر ما يتضمنه الدين من آيات وأحاديث لا يسمح أو لا مجال للشك فيها، وإن أعترض المرء فسوف يواجه عقاب المجتمع المتوافق وعقاب السماء، ويسدل الستار على باقي القيم الداعية للعدالة الاجتماعية والحريات العامة وتحرر الذات الإنسانية وحقها في الكرامة والعدالة. المجتمع الخائف المقهور يبقى يتمسك بكل ما هو تقليدي وسطحي، والعودة للتاريخ تبقى عدة يجد فيها ذخيرته التي يواجه بها الأحداث وحتى المصائب، فيرضى بما يقسمه له القدر ولا يريد رمي أي شيء على مضطهديه من الملاك أصحاب الامتيازات. عند هذه الإشكالية في المجتمعات الفقيرة المقهورة التقليدية لا يظهر التناقض بشكل حاسم بل بفورات سطحية تتصاعد ثم تخفت.

114
كارل ماركس في العراق / الجزء التاسع عشر


ما كان يراود تفكيره وبإلحاح هو سبب مجيئه إلى العراق ووضعه الآن في هذا المحبس الغريب ولسبب يبدو أكثر غرابة من المكان نفسه. ما الذي حدث وهل حقق الغرض الذي جاء من أجله، مهمة صعبة وعسيرة منذ  بدايتها.
حين أتخذ القرار بالسفر إلى العراق، لم يستمع لنصائح الأصدقاء الذين استغربوا بالمطلق تلك الرسالة التي استلمها، و دهشوا من نيته السفر إلى بلد لا ترد منه سوى الأخبار السيئة لا بل المخيفة.  ولكنه استسهل الآمر وظن بأنه بصدد الحصول على ذخيرة معلوماتية حية سوف يكتسب منها خبرات جديدة لم يكن على إطلاع سابق عليها، وسوف تكون تجربتها غنىً معرفيًا ربما يقدمه في النهاية بكتاب جديد يكمل مسيرة عمله وباقي كتاباته عن نضال الطبقة العاملة وطرق ووسائل الإنتاج في دولة من العالم الثالث مثل العراق.
الآن يجد أن الطريق قد أغلق في وجهه تمامًا، وما عاد يستطيع التحرك ومعاينة الواقع العراقي، وعليه أن يختزل الأمر عند حدود هذه الحجرة التي تضم بين جنباتها ثلاثة عشر سجينًا يزيدون أو ينقصون مع مرور الساعات.
ما النموذج الذي ممكن استحضاره ومن أي فلسفة وعلوم يمكن اشتقاقه لتوصيف حال العراق ووقائع مسيره اليومي، فهو ليس بكيان مجتمعي واحد، أيضًا فهذا الشعب يفتقد الهوية الوطنية الموحدة. طوائف وإثنيات مرت بحقب استبداد منذ آماد بعيدة شكلت عالمها الخاص، ورسخت في فكرها الجمعي  تقاليد تحبذ النفرة والتشرذم على التقارب والانسجام. إرث ثقافي وإبداع واسع وكبير تم تدميره بعشوائية الخيارات وازدراء الخبرة. ليس هناك ما يشي بصراع طبقي فالطبقة العاملة إن لم تكن مشتتة فهي قليلة العدد والخبرة وغير قادرة على خوض صراع أي كان نوعه. حتى القيم التي يتمسك بها العامل العراقي لا علاقة لها بصراع ومواجهة الطبقات المستغلة أو بناء وحدة طبقية ودفاع ذاتي لأجل المصالح، وإنما ترتكن أساسياتها وتتمسك بأكثر القيم تخلفًا ورجعية، هذا ما عرفه من خلال محدثيه ومعايناته ولقاءاته رغم قلتها ولكن حسه الطبقي جعله يكتشف كل تلك العلل والمساوئ دون بحث طويل ومضني.حتى البرجوازية ترها قد تعرضت لضربات موجعة أجهضت تطلعاتها وما عادت قادرة على بناء هياكل وأسس مادية اقتصادية، رغم إنها كانت سابقا تمتلك وسائل أنتاج ولكن تم إفقارها وتشتيتها من قبل العسكر ودعاة الاشتراكية الفوضوية.

***
لليوم الخامس لم يصمت أو يكف أبو رمزي عن الحديث والشعر والابوذيات، رغم علته التي تضعف قواه مثلما قالها يومًا ثم صمت ولم يفصح بعدها عن نوع المرض الذي ينهك جسده. بدا امتناع أبو رمزي عن الحديث حول مرضه وكأنه خجل شخصي لا يود معه الإفصاح عن مصيبته خوفا من معرفة الآخرين بضعفه. ولكن مثلما قال هو عن السر الذي يفشيه صاحبه وليس غيره، فقد عرف ماركس مرض أبو رمزي عندما التقى سجين أخر أثناء الذهاب إلى دورة المياه فوقف ذلك السجين ودار بينه وماركس حديث لبضع دقائق عن الكثير مما يجري يوميا في غرفة الحبس ومنه مرض أبو رمزي. وحين سأل ماركس السجين عن كيفية معرفته بإصابة أبو رمزي بمرض روماتزم القلب المتأزم.
ــ جا أنته ما تشوف الأدوية ..أتكول أنه أجنبي ..ويكولون عليكم مفتحين باللبن.
ــ ماذا ..نعم
عندها سارع الرجل بالدخول إلى دورة المياه دون أن يكمل الحديث مع ماركس.
لم يرغب ماركس في البحث عن المرض الحقيقي لأبو رمزي وراح في شك من حديث السجين، فلم يكن مظهره أو كلامه يشي بمعرفته لحقيقة المرض ولم يكن توصيفه غير فكرة عابرة ربما أخترعها ليدعي إلمامه بما يدور من وقائع في السجن. فأبو رمزي كان يخفي أدويته في كيس أسود ويحاول أن لا يظهرها للأخريين، فكيف تسنى لهذا السجين اللعين الإطلاع عليها.الضرب في الغيب عادة قبيحة ولكن خيارها يبدو نافعا للبعض في إثارة الحدث.
بعد ساعات من مظاهر الإنهاك والتعب التي تظهر فجأة على أبو رمزي تبدأ سحنة وجهه بالتغير وتظهر عليه علامات ارتخاء الجسد مع رجفة ظاهرة،عندها يتناول الدواء ثم يكور جسده بقرفصة شديدة،وبعد فترة ليست بالطويلة ، يجلس وكأنه يخرج من غفوة، ليبدأ بحديثه الذي لن يتوقف. لم يكن ليتخلى فيه عن أناشيده وأشعاره رغم خفوت صوته ومظاهر الوهن على جسده. كانت تلك الأشعار والأهازيج رصيد حي يستعمله كمطارق للتحدي والصراع مع المرض، ومظهر لقوة الشخصية معنويا وجسديا أمام الآخرين. كان يرفض أن يختطف المرض منه لحظة الحياة وبهجتها، فبعد أقل من ساعة عن تناوله أقراص الدواء يعاود صوته الارتفاع وتنشط حنجرته وتنطلق أحاديثه بسلاسة غريبة.
 في أحد المرات اجتاحته رغبة بالغناء فراح يغني بصوت خافت متموج ولكن رقيق وعذب،ورغم مظهر الفرح المرتسم على وجهه فقد حملت حنجرته حزنًا شفيفًا فضحته في النهاية دموع جرت بعفوية على خديه فاستدار ووضع وجهه في الوسادة وأجهش بالبكاء.
لم يكن الحزن الذي خيّم على قلب ماركس بقليل، فراح ينظر إلى أبو رمزي بعاطفة جياشة أراد معها إيجاد كلمات ولو بسيطة ليواسيه بها أو حتى يخفف عنه بعض ألم، ولكن ألمه الوجداني وعاطفته المهتاجة منعته من الكلام ولم تسعفه في إيجاد ما يرطب الأجواء في هذا الوضع الموجوع. شعر بأنه عاجز عن الوصول إلى كلمات تسعف الموقف وتجعل أبو رمزي يستعيد رباطة الجأش التي عرف بها، ولكن اللحظة كانت قاسية على كليهما فعاف ماركس محاولة البحث عن مخرج لموقفه ومد جسده فوق الغطاء الصوفي وأخذ يرقب نحيب أبو رمزي. فهو يعرف جيدًا طبيعة مشاعر الإنسان المريض الضعيف. فشعور الخجل من ضعفه سمة طبيعية، وتراه دائمًا في حالتين، إما التشكي واستدرار العطف، أو في حالة دفاع دائم ضد افتضاح أمره، يتستر بأشياء يجد فيها ما يستر عجزه وضعفه، وهذا ما يفعله أبو رمزي بروح المرح والإنشاد التي يجدها واقية من انكشاف خوفه من قرب نهايته للآخرين، وكرهًا منه لحالة استدرار العطف، وهو يخشى أيضًا أن ينهار أمام الآخرين ولذا تراه يلجأ لغمر رأسه في وسادته حين تنتابه الأوجاع وهو في ذلك يشعر بأنه في حالة امتحان دائم مثلما هو تهديد دائم من المرض غير الرحيم. لا يريد أن يفقد توازنه من خلال انكشاف علته وضعفه. تساءل ماركس عن سبب بقاء أبو رمزي في السجن إن كان يحمل مثل هذه العلة. ففي جميع دول العالم يطلق سراح مثل هؤلاء المرضى الذين يحملون أمراضًا صعبة ومميتة، فلم يبقون أبو رمزي سجينا؟
ــ أنته.. يول أنته.. شنو اسمك.. أني بعد ساعة راح أطلع من الحبس أخذ فراشي.. خوش؟
انتبه ماركس ليجد أحد السجناء يقف عند قدميه ويخاطبه بلهجة شبه آمرة. تفاجأ ماركس بوجود السجين القريب وكلامه الحازم، فتردد بعض الشيء ولكنه اغتصب ابتسامة ليعرضها على السجين عرفانًا بفعلته الطيبة.
ــ شكرا جزيلا.. ولكن ربما تحتاجه في مكان أخر.
ــ يول بيش طالبني.. فوك ما أساعدك تفاولني بالأذية؟
ــ لا أقصد إيذاءك وإنما قلت ربما تريد أخذه إلى البيت أو هناك سجين آخر يحتاجه.
ــ لا عيوني.. انته أخذه مو غيرك.. هاي صارلي سبع تشهر هنا وما أعتقد، لا بل ما شفت أكو واحد بين الجماعة يستاهل الفراش.
ــ على أي حال شكرًا ومبروك على أطلاق سراحك. متى تخرج؟
ــ هسه لو بعد ساعة.. حسب مزاج السيد العقيد لطفي الله يحفظه وينطي الصحة والعافية.
ــ عجيب.. أنت أول من أسمع منه كلمة إشادة بالعقيد لطفي.
ــ شوف صاحبي.. إذا حاجتك يم الكلب فسمي حجي جليب.
ــ ماذا يعني ذلك؟
ــ بالعراقي عدنه هذا المثل.. من الإنسان يخاف لو يعتقد بأن مشكلته معصعصة وصعبة على الحل لو واكَعه بيد واحد مثل عقيد لطفي، فعلينا أن نتوسل بذلك الواحد ونسميه بلطف وحنية.. فالكلب ولأنه نكس فنشبه ذلك الشخص بالكلب، ولمن حاجتنا تكون يمه نطلق عليه تسمية حجي جليب، يعني كلب زغيروني ويدلل علينه.
ــ وهل مثل هذا المثل جاء لكم أو تعرفتم عليه بعد الاحتلال؟
ــ يا احتلال يا بطيخ.. أنته مو عالم آثار؟ حسب ما تكول.
ــ نعم.
ــ عيوني.. هذا المثل من عهد نبوخذ نصر وزوجته الموقرة ما إدري شنو أسمه..
ــ أوكي.. مبروك مرة أخرى.
فتح باب غرفة الحبس وطلب من السجين الذي كان يتحدث مع ماركس المجيء لمقابلة العقيد.
ــ يالله صاحبي كوم أخذ الفراش مالتي. يا جماعة مودعكم الله، بس موكلكم، أبروني الذمة.
لم يجبه أحد من السجناء بل جميعهم أشاحوا وجوههم بعيدًا عنه وبعضهم دمدم بكلمات مكتومة.
نهض ماركس لجلب الفراش فسبقه سجين آخر وأخذ الغطاء الصوفي ذي الأوان المبهجة والموشى بورود حمراء كبيرة الحجم وعاف غطائين صوفيين آخرين ووسادة بقماش أزرق مائل للسواد.
ــ ولكنه أعطاني إياه كاملا!
هكذا قالها ماركس وصمت ناظرًا لهذا السجين وهو يسحب الغطاء نحو فراشه.
ــ أي ... وهسه أنته شنو تريد؟ ما عاجبك الآمر لو شنو؟
ــ ليس كذلك.. ولكن أعتقد أنه منحني جميع أجزاء فراشه.
ــ خوش تريد البطانية تعال أخذه بس تدري شنو راح يصير بيك.
ــ ماذا؟
ــ أذا مديت أيدك على البطانية أقره على روحك الفاتحة.. أخذ الباقي وروح أشرفلك.. أنته بعد جم يوم تطلع وأحنه باقين خايسين أهنا.. روح.. يله روح.
لم يرغب ماركس مواجهة هكذا لهجة وتصرف عدائي، فهو ليس بحاجة لمثل تلك المواقف العدوانية، وما كان يومًا يطيق عراك الشوارع حتى حين كان صبيًا. وهو يجزم أيضًا بقرارة نفسه، أن خروجه من الحبس سيكون بين ساعة وأخرى، فلا حاجة لخصومات، فليس هناك ما يعيق إطلاق سراحه غير عناد العقيد لطفي الذي قرر حبسه على ذمة لا شيء ودون مبرر عقلاني. لقد كان مختطفًا وليس مشاركًا بجريمة، وإن اتهمه عريف أحمد بالعمالة والجاسوسية لإسرائيل فقد كان ذلك باطلا وغير مقنعٍ حتى للعقيد لطفي. وها هي قد مضت الخمسة أيام دون أن يجد فيها تغييرًا ولم يرسل العقيد بطلبه ولم يسمع من الحراس أو من عريف أحمد ما يشير لأسباب بقائه معتقلا أو متى يطلق سراحه.


فرات المحسن

f_almohsen@hotmail.com

115
من ينتصر في صراع كسر العظام، وزير الدفاع أم رئيس البرلمان؟
فرات المحس

في جولة الصراع بين ما سمي حينها بجبهة الإصلاح البرلمانية ورئاسة البرلمان العراقي ممثلة برئيسها السيد سليم الجبوري ونائبيه، وقف القضاء العراقي موقفا وسطا لا بل خضع موقفه  لتراتيبية العملية السياسية وقواعدها المحاصصية، ولذا لم يكلف نفسه ليكون قضاءً نزيها، وهو بالأصل ومنذ عهد المجرم صدام كان بعيدا عن النزاهة بأشواط بعيدة.
اليوم نهض الإدعاء العام من سباته ليشكل لجنة تحقيقية حول حقيقة ما ورد على لسان وزير الدفاع خالد العبيدي في جلسة استجوابه، حين رمى أحجار كثيرة أصابت موجعا عند البعض وعلى رأسهم رئيس البرلمان السيد سليم الجبوري.رغم ان هذا الإدعاء هرب وأخفى رأسه أمام السيد نوري المالكي والسيد بهاء الأعرجي وغيرهم ممن أدعى امتلاكه ملفات تدين شخصيات بسرقة المال العام وأيضا الإرهاب والقتل.
السيد خالد العبيدي كان ضمن القوائم التي سمت نفسها سياسية واحتسبت طائفيا على أهل السنة ككيانات تعمل للدفاع ونيل أهل السنة لحقوقهم المغبونه مثلما أدعو. ويذكر إن ترشيحه تم من خلال التوافق داخل مكونات تحالف القوى الوطنية، وكانت تركيا والسيد أسامة النجيفي وقائمة سليم الجبوري المساند القوي لترشيحه لمنصب وزير الدفاع، رغم اعتراض بعض شخصيات تلك الكتل المنضوية تحت خيمة التحالف على ترشيحه، ولكن في النهاية حالف الحظ السيد خالد العبيدي ليكون وزيرا للدفاع ومن ضمن قواعد لعبة المحاصصة .
كان يوم 1 / آب / 2016 يوما حاسما بالنسبة للسيد وزير الدفاع خالد العبيدي ففي هذا اليوم جاء إلى البرلمان ليضع نهاية دراماتيكية لعلاقته بالتكوينات السنية وليتخلى عن مسؤوليته وتعهداته التي قدمها سلفا لاتحاد القوى الوطنية التي توافقت كياناتها على دعم ترشيحه.
ما حدث ليس غريبا على طبيعة العمل السياسي والمسؤوليات الإدارية في العراق. فعملية تغيير الولاءات إن كانت لا تعدو غير قفزة دون طعم ولون ورائحة عند البعض لذا يعدها جرعة ماء قليلة تروي عطشا طويلا، فهي عند البعض ترتبط بمصالح شخصية وطبيعة ميكافيلية من المعيب استغلالها للحصول على منافع . ودائما ما يقع الناس في العراق بالتباس بين أي الخيارين أوجب، ولكن الأول دائما ما يتقدم الخيارات.
بعد مرور عام على وجوده في مقعد وزير الدفاع قدم السيد خالد العبيدي من الأعمال ما يشي لقدراته ومهنيته في قيادة الجيش والعديد من المعارك،كونه سبق أن عمل كعسكري محترف على عهد حكم حزب البعث.
خلال العام الأول لوجوده على رأس وزارة الدفاع وقعت أحداث سياسية كثيرة، كان من بينها تصدع اتحاد القوى العراقية السنية واستشراء صراعات داخلية جعلت الكيانات السنية تعمل للنيل من بعضها البعض، وبدأت حرب ضروس بين قائمة متحدون ـ النجيفي ـ وأتلاف العراقية ـ المطلق ـ واشتركت في هذه المناورات والتسقيط  جبهة التوافق والتي يمثل الحزب الأسلامي ـ سليم الجبوري ـ وبعض البعثيين ـ ظافر العاني والكربولي ـ وبعض التجار قوامها.
ركزت حرب التسقيط داخل التحالف السني وكتله المتصارعة على من يحمل صفة رسمية  داخل الحكومة، أي من له موقع  وزاري من كتلة ما،لذا يكون عرضة لهجوم من قبل السياسيين من حلفاء الأمس، ووجهت السهام نحو الوزراء من جماعة التحالف السني وكذلك لرئيس البرلمان. ولكون رئيس البرلمان لديه من التحالفات ما تستطيع ان تصد عنه الكثير من السهام، فقد كان يناور بقدرة بائنة داخل حومة ذاك الاشتباك، وقد وجد له سندا من رؤساء وشخصيات مؤثرة داخل القوى الشيعية، ساعدت على اجتيازه أزمة احتلال البرلمان من قبل المتظاهرين، ومن ثم تدخل القضاء وحسم أمر جلستي البرلمان المعنيتين بإقالته ونائبيه، لصالح بقائه.
صراع الكتل السنية أثر كثيرا على طبيعة العلاقة مع السيد وزير الدفاع خالد العبيدي وجعله ينأى بعيدا عنهم ليقترب من عمله المهني وينشغل بالمعارك اليومية ضد داعش. وقد لعب السيد رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة دورا حيويا في سحب وزير الدفاع وجعله ضمن دائرة العمل المهني بعيدا عن التكتلات السياسية السنية، من خلال التوافق في طبيعة المهام العسكرية وتلبية جميع ما يحتاجه  وزير دفاعه ومنحه صلاحيات كثيرة وطمأنته بالوقوف إلى جانبه ومساندته بوجه شراسة الهجمات السياسية التي يتعرض لها من قبل حلفاء الأمس. وهناك ما يشير لاصطفاف وصداقات للكثير من الشخصيات الشيعية مع وزير الدفاع، بعكس العلاقة المتدهورة مع الأكراد والجفوة التي ما باتت تخفى عن العين، وقد صعد الوزير من حدتها بتصريح جاء بالضد من مشاركة البيشمركه في تحرير الموصل.
في استجواب وزير الدفاع داخل قبة البرلمان العراقي يوم 01 / 08  نفض السيد العبيدي أخر ما علق بردائه من بقايا علاقة مع اتحاد القوى العراقية وكتله، ووجه رصاصاته نحو صدور العديد من رجالاتهم ومن الجائر أنه سوف يفصح عن أسماء أخرى، وهو يخفيها اليوم مثلما أخفى لفترة غير قصيرة الأسرار التي أفصح عنها يوم 1 آب.
إن كان السيد خالد العبيدي سوف يحاسب وهو الشيء الضروري والحكيم لترضية الكثيرين ، وبالذات عن سبب إخفائه المعلومات التي كانت في جعبته، ومن ثم أطلقها يوم 1 آب ،فليس من المعتقد أن يفلت من كشف حساب قدمته السيدة عالية نصيف بالرغم من أنه كان بارعا في ردوده ودفاعه واستطاع أن يميل كفة الميزان لصالحه، ولكن دائما ما يكون حساب  الحقل غير حساب البيدر . فالقنابل التي رماها وسط البرلمان لم تنفجر بعد لتؤدي مهمتها، وهي اليوم ذخيرة في صناديق جهات عديدة أولها جبهات المحاصصة وتقيماتها للوضع السياسي ومن ثم تسلكاتها وفق نظام التكافل بين القوى لتقاسم الكعكة الكبرى ثم هناك جبهة المعارك بين أطراف العملية السياسية برمتها، يعقبها صراع الأخوة الأعداء داخل اتحاد القوى السنية. وبذات الشروط سوف يأخذ الإدعاء العام والقضاء العراقي بمجمل ما يقع تحت ناظريه  وفي مقدمتها طبيعة التكاتف الكتلوي السياسي أو نزاعاته في إدارة البلد ولن يكون الغرض من هذا مصلحة وطن بقدر ما يكون إرضاءً للقوى المشاركة في إدارة السلطة وعدم تصعيد حدة الارتجاجات.
خرج السيد سليم الجبوري بصوت عال معلنا بأنه لن يرأس البرلمان إلا بعد أن ينال براءته من التهم، وهنا مربط الفرس ورباطة جأش يحسد عليها. عند تلك اللحظة الفارقة يقفز ويقدم السؤال المحرج والكبير إلى السيد خالد العبيدي. هل تحمل من وثائق ورقية أو تسجيلات صوتية تسند فيها إدعاءاتك. فأن أجاب بنعم وقدم للقضاء ما يثبت أقواله فقد أنتصر وسوف يقف معه العديد من النواب وأيضا أعداد غفيرة من الشارع العراقي وتغفر له ذنوب كثيرة. وإن لم يستطع أن يقدم حتى ولو وثيقة واحدة  فعند ذلك ليتوقع بأن الجزارين باتوا يشحذون سكاكينهم قرب دكة داره، ولن تنفعه استعراض وقبلات الناس وسلفياتهم جوار الشيخ أبا حنيفة النعمان أو جوار الإمامين الجوادين ولا حتى دموع الطفل اليتيم الذي تبناه حين زار البيت العراقي الآمن للأيتام والمشردين برعاية السيد هشام الذهبي .

116
كارل ماركس في العراق الجزء الثامن عشر

ــ في خضم هذه الفوضى العارمة كل شيء يبدو ممكنا وغير مستبعد.

هكذا قال ماركس وهو يفرك يديه ببعضهما وأدار نظره متفحصًا بإحساس كئيب زوايا غرفة الحبس. شعر لحظتها بأنه بات جزءً من هذه الفوضى العارمة التي تلف العراق، يجعله الوضع يعيش وسط دوامة لا يستطيع الخروج منها. كل شيء فيها غريب ومتسارع وموجع، لم يعد يطيق احتماله وليس بمقدوره مسايرته أو اللحاق به. تأتي الحوادث فيه غريبة وصاعقة لتفرض نفسها عليه وتسحبه وتكبله بقيودها. لا يجد في هذه الأجواء ما يوحي بالاطمئنان، بل هناك دائما مجهول يخفي ملامحه ثم يظهر بشكل ما، أغلبه غير متوقع وغير مرغوب فيه، دائما ما يكون على شكل صدمة أو واقعة خارج نطاق المألوف. يتذكر كيف وقع حادث الفندق في تلك الليلة المظلمة التي أراد بها ملاطفة الحارس أبو شمخي، ولكن أبو شمخي سقط فاقد للوعي من شدة الخوف. كان من الجائز أن تنتهي حياته العملية في تلك الساعات، عندها عليه أن يتحمل ذنب موت ذلك الرجل، ودون أي مبرر مقنع للحدث المفاجئ ويكون مصيره عندها السجن لعدة سنوات،عندها تنتهي مهمته أو حتى حياته العملية وقدراته الفكرية وتذهب جهوده المضنية التي بذلها خلال كل تلك السنين هباءً منثورا. ثم توالت الأحداث دون أن يستطيع إيقافها أو تغيير مسارها. وها هو الآن وقد مضى الشطر الأكبر من الليل، يجلس جوار أبو رمزي السجين اللغز المريض، الذي لا يفصح عن سبب اعتقاله ولا عن مرضه ولن يروي حكاية أو حدث يقع في السجن أو خارجه إن كان في الحاضر أو الماضي دون أن تكون هناك مقدمة طويلة من الغاز أو قصائد شعرية، وما عاد يستطيع هو اللحاق أو التعرف بالكامل على معانيها ومكنوناتها، ولكنه يجد نفسه مجبرًا على الاستماع لها وحتى قبولها، فهو لا يريد أن يختلي مع نفسه ويفكر بوحدته وما تخبئ له الأقدار. يكفيه كل تلك السنين التي أضاعها وصار فيها ضحية لأجل الآخرين، وكان يضغط على حياته ويكرس يومه لموضوعة الطبقة العاملة وضرورة انتصارها المستقبلي الناجز.
 عند هذه اللحظة توقف ماركس وزجر نفسه معاتبا، كيف تسنى له الآن أن يبخس نضاله الطويل، كيف سمح لنفسه الوقوع في فخ الوهن هذا، ليذهب فيه بعيدًا ويقرع النفس على سنوات الكد والجهد الفكري الذي جاء بنتائج كبيرة لصالح الطبقة العاملة وأصبحت الشيوعية راسخة تجوب العالم وتهدد مصالح الطبقة البرجوازية وتعطي للعامل شعلة نور هادية تدله على طريق الصواب للحصول على حقوقه وحقوق طبقته وباتت الشيوعية حفارة قبر الرأسمالية.يا ترى ما الذي دفعه للوقوع في هذا المطب..إن التغييرات الظاهرة أو المظاهر الخارجية للحدث تظل نظرة قاصرة أن لم يحاول المرء معرفة الخصائص البنيوية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع، ويتعمق في دراستها. فالتغييرات الاستعراضية التي يشاهدها المرء أمامه لا تكفي لتلمس الحقائق، فلا بد من عمل وتفكير دءوب متعمق للوصول إلى مدى تأثيرها.
لم أستطع وتلك كانت لها أسباب ومصادفات لم تخطر على البال أو لم تكن متوقعة وموضوعة ضمن ما قررت معرفته،لم استطع أن أصل بعمق إلى الخصائص الأولية، ومنها طبيعة النمو السكاني الانفجاري للشعب العراقي رغم ما مرت عليه من حروب وصراعات، وما يرافق هذا الأمر من اختلال في التوازن بين العدد المتزايد للسكان و الموارد المتوفرة مما يسبب قصور كبير ومشاكل جمة اقتصادية اجتماعية، ومثل هذا الأمر يحدو بالمرء مراجعة هذا النمط من الفعل بين السكان والذي ممكن تشخيص أهم علة له وهو انخفاض المستوى الثقافي للشعب .
ياترى ما الذي جعلني أتخلى عن كل هذا الوعي لصالح فكرة انهزامية خطرت فجأة على بالي دون تمحيص.
ــ هاي وين رحت سيد ماركس؟
ــ عزيزي أبو رمزي. كانت جولة مراجعة خاطفة.
ــ هاي شغلة مو سهلة عليه.. آني ما عندي شي خاطف.. لو أخش بالسالفة طول بعرض لو أعوفه لغيري.
ــ ألم تنعس بعد؟
ــ إن نمت هسه لو بعد ساعتين لو باجر حتمًا راح أكَعد من النوم وألكَي نفسي بنفس المكان.. ويمكن أنام وبعد ما أكعد.. وكل هذا يك أحساب.
ــ أنا اشعر بالتعب والنعاس.
ــ أخذ راحتك.. بس قبل شويه قلت لي بانك غير راغب بالنوم.
ــ بت مقتنعًا بأن في العراق هناك ضرورة أن يخالف المرء نفسه في بعض الأوقات ليكون جزءً من الواقع. أعتقد إن المرء يحتاج أيضًا لبعض الأنانية وهذه ضرورية كي يخلو لنفسه ليكتشف خفاياها.
ــ حلو.. حلو أبن عمي هسة تمام.. هذا هو الصحيح.. كلمن عليه بنفسه مثل ما يكول الشاعر:
هالوكت شيخه وشبابه         كلمن يهفي الكبابه
يشتغل كلمن الشخصه         بشغل غيره ما يخصه
ينفصل عن  الأحبة          أولا تفيد وياه صحبه
ــ ولو أني لم أفتهم تماما ما عنيته بشعرك، ولكني لم أكن أقصد ما أنت تحدثت عنه، وربما أنا كنت سيئًا بالإفصاح عن ما أردت قوله.
ــ صاحبي، لتكوم تبيع بوزات وتتفلسف براسي بهذا الليل.. دور وجهك ونام وتصبح على ألف خير.. أوكي سيد ماركس أبن هنروش لو مو أوكي.
ــ أوكي ...تصبح على خير
مد ماركس جسده فوق الغطاء الصوفي لينهي الحديث مع أبو رمزي ويدخل في عالمه الخاص.
رغم النعاس الذي بدأ يراوده فقد ظهرت أمامه كومة من أحداث وأحاديث راح يلملمها ويبعثرها، متنقلاً هنا وهناك، فشعر بثقل كبير يضغط على رأسه. فرك فروة رأسه فشعر بشيء من رضا وهو يمرر راحة يده ويداعب الشعر الذي بدأ يظهر مثل دبابيس ولكن برؤس ناعمة رغم يباسها. فقد بدا له، ربما بعد فترة ليست بالطويلة ممكن له استعادة لحيته وشعره الجميل، اللذين كان يعتز بهما أيما اعتزاز. ولكنه عند هذه اللحظة شعر بضيق تنفسه وثقل في صدره وأحس بالخوف من رجوع المرض أليه، وبدء عودة علته من جديد، تلك العلة التي تجعله طريح الفراش لعدة أيام وتتطلب علاجًا مكثفًا.عسى أن يكون ظنه هذا خائبًا في مثل هذه الأوضاع السيئة. ففي مسيرته الطويلة تعرض لذلك مرات عديدة وواجه المرض بشجاعة ولكن لم يكن يتهيبه مثل هذه المرة، فهو يشعر الآن بعدم القدرة على المقاومة إن عاد له الربو المؤذي. تبسم ماركس ومسد شعر لحيته الخفيف محاولاً أبعاد ذهنه عن مثل هذا التفكير السيئ والمخيف.
ولكن ما كان يراوده الآن بإلحاح، هو البحث أو محاولة تفسير وتوصيف سبب مجيئه إلى العراق ووضعه الآن في هذا المحبس الغريب ولسبب يبدو أكثر غرابة من المكان نفسه. ما الذي حدث وهل حقق الغرض الذي جاء من أجله، مهمة صعبة وعسيرة منذ  بدايتها.


117

كارل ماركس في العراق الجزء السابع عشر

 
سار ماركس نحو غرفة الحبس بتثاقل ولكن عريف أحمد زجره ودفعه من كتفه وطلب منه الإسراع. دخل ماركس الحبس فوجد الجميع نيام ما عدا  أبو رمزي الذي كان مستيقظا يتكئ على يده ثم اعتدل في جلسته حين اقترب كارل ماركس منه.
ــ ها بشر شنو صار؟
ــ لا شيء.
ــ شنو لا شيء .. قابلت العقيد لطفي ..كلمك ..كلمته.. وما صار شي.
ــ نعم كلمني وكلمته وفي النهاية تغير مزاجه وراح يشتم ويصرخ فخرجت وعريف احمد من غرفته.
ـــ جان يشرب؟
ــ نعم ..
ــ أبن المنبوش .. هم دمج وهم يتعيقل برأس الأوادم ..
ــ ماذا تعني بدمج؟
ــ شوف سيد كارل ماركس ..أنته بديت تفتهم شنو نحجي بالعراقي؟
ــ أعاني الشيء القليل.. والغالب أتفهمه بشكل حسن.
ــ خوش ..أنا راح أحجي بشكل يساعدك حتى تفتهم .. بس قبل هذا خلي أكلك فد شي .. احنه بالعراق ما عدنا شي غريب لو عجيب ..كلشي يصير ويصح ..الاعوج يصير عدل ، والعدل يصير اعوج..
ــ كيف يتم هذا؟
ــ الواوي تفترسه الدجاجة            وينجبر كسر الزجاجة
   والخصي يفوز بزواجه          وغنم تسرح  وي  ذيابه
هذا ملخص الحجي بالعراق في هذا الزمن الطايح حظه.
ــ أوكي أستمع لك.
 ــ كتلي شنو دمج..هذا العقيد جانت رتبتة قبل على عهد البعثيين رئيس عرفاء شرطة.
ــ وكيف أصبحت رتبته عقيد ؟
ــ أني كتلك راح يصير كل الليل عشه ..يعني راح نسهر ونسولف ..يعني نحكي قصص.. أوكي أبو .. صدك بالمناسبة أنته بألمانية شنو يسموك ..أبو منو؟
ــ نحن فقط نكنى بأسمائنا وأنتم فقط من يستخدم هذه التسميات.
ــ خليني اسميك .. لآن أني أشوف مو لايقه أكلك كالساع ماركس .. وهم ما أكدر أكلك أستاذ ماركس خاف تطلع مثل ذولاك لو همين دمج.

ضحك أبو رمزي ثم كتم ضحكته وتلفت ليرى باقي السجناء الذين كانوا يغطون في نوم عميق وتصدر عن البعض منهم نغمات وحشرجات أصوات ترتطم بجدران الغرفة ويتردد لبعضها صدى.
ــ أرجوك دع هذا جانبا ونادني فقط بماركس وهذا يكفي.
ــ خوش براحتك سيد ماركس.
ــ لم تجبني عن معنى كلمة دمج.
ــ تريد تنام لو نحكي ..لان السالفة طويلة.
ــ تحدث بما نويت عليه فليس لي رغبة بالنوم.
ــ أوكي .. يا أبن الحلال ..ربك قسمه علينه ولا اعتراض على قسمته .إنما الدنيا مشيناها خطى كتبت علينا، ومن كتبت عليه خطى مشاها، ومن كتبت منيته بأرض، فليس يموت في ارض سواها ...أغاتي تره ربك كلشي فصله وسواه لبني ادم وكلمن ياكل حقه وقسمته.
ــ وما علاقة هذا بالعقيد لطفي؟
ــ راح اسولفلك قصة لطفي وأنته راح تعرف شنو معنى كل هذا الحجيته...
عزيزي ماركس هذا العقيد لطفي جان رئيس عرفاء بالشرطة على عهد البعثيين .جان متزوج امرأة أصل أهله من إيران بس هيه ولادتها بالعراق وحاصلة على الجنسية العراقية..البعثية صدروا  قرار ..أذا واحد عراقي موظف لو بالشرطة لو بالجيش ينهون خدمته الوظيفية، يعني ينطرد من الوظيفة أذا بقه متزوج من أجنبية، وبالتحديد إلي سماهم القرار التبعة الإيرانية. وجاء بالأمر الرئاسي بأن من يطلق زوجته يحصل على إكرامية.. رئيس عرفاء لطفي خاف على وظيفته وطمع بالإكرامية، طلك زوجته واستلم الإكرامية ..بعد فترة قصيرة قامت الحكومة بحملة جبيرة وسفرو أعداد كثيرة من العراقيين بحجة كونهم غير عراقيين، بل صنفهم القرار بأنهم تبعة إيرانية، من بين الذين سفروهم جانت مطلقة رئيس العرفاء لطفي مع ثلاثة من أطفالها.. ما راد لطفي الاحتفاظ بالأطفال وحين سألوه عن عدم ضم الأطفال أليه، أجاب بأنه يخاف أن تثار حوله مشكلة جديدة كون أمهم من أصل غير عراقي.. بقى لطفي في وظيفته وتزوج من امرأة أخرى.. الحرب العراقية الإيرانية طولت وشعرت الحكومة العراقية بأزمات وخسائر بشرية ومادية ..صدر قرار عن صدام حسين فرض على جميع الموظفين الحكوميين الذهاب إلى جبهات القتال ومن ضمنهم جهاز الشرطة..وأطلق على تلك المهمة أسم  المعايشة، أي الموظف يروح إلى جبهات القتال لمدة شهر أو أكثر ويعيش حياة الجنود في مواقع القتال، ويجرب يعتاد على أوضاعهم ويشاركهم في حياتهم اليومية.. أجبر رئيس عرفاء لطفي على الذهاب إلى الجبهة في قاطع الشوش القريب من مدينة العمارة..كانت المعارك في ذلك القاطع من الجبهة لا تتوقف ،بل كانت هجمات إيران شبه يومية في تلك المنطقة، والقطعات العسكرية تقدم يوميا خسائر كبيرة..وقتل بعض زملاء لطفي من الذين ذهبوا معه إلى ذلك الفوج. في أحد الأيام فكر رئيس عرفاء لطفي وللتخلص من مصير مجهول كان يتهيب منه، ومع تكرر المعارك واشتدادها،شعر بأن الموت يقترب منهم يوما بعد أخر،ويمكن أن يكون هو أحد ضحاياه في أية لحظة. فكر وقرر أن يهرب إلى إيران فاستغل اشتداد المعارك وفي ليلة ظلماء ارتدى قميص وبنطال مدني تحت ملابسه العسكرية وتسلل إلى أماكن بعيدة عن وحدته العسكرية أثناء اشتباكها بالقتال، وحين وصل مكان قريب من جبهة الجيش الإيراني أخفى نفسه في حفرة حتى بزوغ الفجر. بعد ذلك خلع بزته العسكرية وذهب وسلم نفسه إلى الجيش الإيراني مدعيا هروبه من العراق وأنكر كونه عسكريا في سلك الشرطة العراقية.
ــ كيف فكر بتلك المجازفة الخطيرة ..كان من الممكن أن يقتل.
هكذا قال ماركس وهو يقاطع حديث أبو رمزي.
ــ هاي السالفة بأوله ..
ــ هل حدث له شيء مؤذي؟.
ــ لا عمي جان أمجنص ومضبط شغله.
ــ ماذا تعني أمجصن ؟
ــ أمجنص مو أمجصن ،يعني إن حظه كان حسنا جدا..بعد اعتقال لشهر أو شهرين وتحقيق مو عميق أرسلوه إلى معسكر للاجئين العراقيين. تعاون لطفي بصورة كبيرة مع الاستخبارات الإيرانية فكانوا يطلبون منه مشاركتهم في التحقيقات التي يجرونها مع بعض العراقيين من اللاجئين والهاربين وحتى الأسرى.  وفي معسكر اللجوء لم يترك الوقت يمر دون أن يستفيد لذا ارتبط بالعمل السياسي مع فصيل معارض لحكومة صدام حسين وقد تحسنت ظروف معيشته بعد هذا الارتباط، وأصبح سريعا من رجال الصفوف الأولى في المعارضة الإسلامية العراقية. بعد سنتين فكر بأن يبحث عن أطفاله وزوجته السابقة أي طليقته التي سفرتها الحكومة العراقية إلى إيران. فسأل في معسكرات اللاجئين فلم يجد من يرشده على مكانها..سمع خبرا من أحد العراقيين بأن عليه البحث عن مطلقته وأولاده في مدينة بختران فهي تضم أعداد من المسفرين العراقيين، وبعد أن استقرت أوضاعه قرر الذهاب إلى مدينة بختران، وهي مدينة تقع غرب إيران.ذهب إلى هناك وبحث طويلا عن عائلته السابقة، وفي أحد الأيام لمح أبنه الكبير في أحد أسواق مدينة مروي. أقترب منه وتودد أليه ولكن الطفل قد كبر وبلغ من العمر الأثنى عشر عاما وكان قد سمع من أمه كيف عاملهم أبيه وكيف فضل نفسه دون الاحتفاظ بهم، فما كان من الابن غير رفض الحديث مع أبيه، لا بل قابله بالشتائم.تعقب لطفي ولده إلى حيث يسكن وحين عرف موقع دارهم، تهيأ ورجع في اليوم الثاني وطرق الباب فخرج طفله الأخر، وبسبب صغر سنه حين تسفيرهم إلى إيران، فلم يكن ليعرف أبيه.طلب لطفي من الطفل أن يخبر والدته بأن هناك شخص يريد التحدث معها، خرجت المرأة لترى لطفي ينتظر أمام الباب فما كان منها غير طرده شر طرده.
ــ وما كان يريد من مطلقته ؟

ــ طباكات ..لوكي حقير..كان يعتقد ممكن تحن عليه وترجع أله مرة أخرى ويستفاد منها كإيرانية..بس المرية جانت قوية ..تفلت بوجه وكالتله أذا تتقرب مرة لخ للبيت راح أخبر عليك الإيرانيين شنو ومنو أنته وشنو سويت بيه وبأطفالك.روح يا ساقط وأني مو بشكلك وأخلاقي مو بشكل أخلاقك ..روح والله راح يجازيك فد يوم. والله بالأخير صدك جازاه مجازاه ماكو منه، ورفعه عقيد وصار يلعب بالفلوس لعب.
ما علينه.. لطفي ما كذب خبر لم يبق في مدينة بختران فطلب من مسؤوله السياسي الانتقال إلى مدينة قم بحجة التقرب إلى المزارات الدينية ..وأصبح لطفي يتنقل من مدينة إلى أخرى لحين سفره إلى كردستان حيث شارك بقوة في العمل السياسي مع باقي الفصائل وأصبح عضو ارتباط بيناتها .ثم أنتقل إلى سوريا وهناك عمل في عدة مهن كان أخرها شغل قجق.
ــ ماذا يعني هذا العمل.
ــ تهريب بضائع بين تركيا وسوريا ولبنان ..بعدين طور عمله ليشتغل في تهريب البشر من سوريا إلى أوربا عبر أسيا. بعد سقوط صدام حسين على يد الأمريكان رجع إلى العراق ولكونه ينتمي لذلك الفصيل الإسلامي، فقد أعيد إلى الخدمة في الشرطة ومنح رتبة عقيد بعد أن احتسبت له جميع سنوات هروبه خدمة لأغراض العلاوة والترفيع والتقاعد وعوض بتمليكه دارا سكن ومنح مبالغ كبيرة تكريما له على سنوات غربته التي عدت له كسنوات جهادية ..وهسه أنته أتشوف المجاهد السيد لطيفي بالزي العسكري وبالدوام الرسمي وبالخفارة مالته وبأهم مركز للشرطة وسط بغداد يصلي الفرايض الخمسة يومية ويزور الأيمة بس بي سوله لازم يلط ليلية نص عرك لو أكثر، وبعد فد ساعة زمان من يطوخ يضل يبجي وينوح ..عليمن ما تدري ..يمكن على طيحان الحظ مالته..لآن ما أعتقد هذا يبجي ندامه على الماضي لو على أفعاله السودة.
ــ أبو رمزي كيف تسنى لك الحصول على كل تلك المعلومات.
ــ شوف أبن عمي ..مو يكولون أذا تريد يطش الخبر، أي يذاع السر للعلن ، فعليك أن تخرجه إلى شخص ثالث.. بالعراق ماكو هيج شي، أصلا ما يحتاج السر لشخص ثالث.. أحيانا العراقي وحده ما يصبر على سره، وتشوفه يحوص ويتحركص ويكَوم يهذري بالسر مالته، وبعدين تلكي الناس تحجي بي ..والشخص يتعجب شلون أنذاع الخبر وهو ما حاجيه لأحد. لا ويكول جان سري أبير، شلون طش أبين الناس؟
ــ أبو رمزي أذا أنا صدقتك القول وقلت بأني عرفت جميع ما تحدثت به في جوابك فتلك كذبة لا تغتفر. بالضبط أعيد سؤالي كيف حصلت على كل تلك المعلومات؟
ــ أغاتي ماركس .. العلمك هذي الرواية مسجلة بشريط .. وكل هذوله اليشتغلون بالمركز وأغلب المساجين عرفوها وحفظوها ..بس تعرف السيد العقيد لطفي محد يحجي وياه لأن هو قائد بالفصيل الإسلامي. في يوم ما هذا العقيد لطفي صار طلي أصلي مربوط للدنكَه، بعد ما شرب بطل ويسكي كامل، وجانت الدنيه حاره، وهو كاعد خطار يم واحد كَرايبة وصديقه من الطفولة وحباب كلش، وراح هذا الصديق يجر من لطفي حديث وره حديث ،وبنفس الوقت يسجله بكاسيت..يكولون هذا صديقة كام يبتزه للعقيد لطفي ويطلب منه طلبات كثيرة ولطفي ما يمانع جان يلبيله كل طلباته، بس فد يوم اختفى هذا الصديق الحباب كلش، بعد أسبوع وجدو هذا كلش ميت وذابينه فوك كومة زبل.
ــ يعني مقتول؟
ــ أي نعم مقتول .
ــ والتسجيل ؟
ــ التسجيل ظهر وتوزع بكل مكان قبل لا يموت الكلش حباب صديق لطفي، أصلا توزع حتى ويه الحصة التموينية.. مو أكلك العراقيين عدهم طرق عجيبة في الحياة. والسيد لطفي وفصيله السياسي يدعون أن التسجيل مفبرك ومقصود به تسقيط المناضلين والفصائل الإسلامية .
ــ في خضم هذه الفوضى العارمة كل شيء يبدو ممكنا وغير مستبعد.


118


كارل ماركس في العراق الجزء السادس عشر

رغم أنه أعار ماركس بطانية صوفية، ولكن السجين أبو جعفر منذ البداية لم يكن ودودًا بشكل كامل وقد أنتفض بوجه ماركس بسورة غضب غير طبيعية بعد أن سمعه يقول بأن الإنسان هو بالمعنى الحرفي حيوان سياسي وليس مجرد حيوان اجتماعي، ولكنه حيوان يحاول أن يميز نفسه وسط المجتمع وإن أفكاره هي خلاصة لحالته المادية.
عندها صرخ أبو جعفر بصوت تردد بقوة بين جدران الغرفة وجلب انتباه الجميع بمن فيهم الحرس.
ــ لك أنته يبين عليك فد واحد زنديق كافر ملحد ماكو مثلك.. كوم من هنا.. جيب البطانية لا هسه أشوفك النبي عربي والملائكة شهود.. كَوم.. الإنسان حيوان اجتماعي.. هاي هم جانت عايزة.. هاي أنته مو غيرك بهذا الشكل.. ساعة المصخمه الجابوك يمي..
أثناء الصراخ والتهديد سحب أبو جعفر الفراش الصوفي من تحت ماركس وتركه منبطحًا على الأرض الأسمنتية.
ــ تعال خالي.. تعال هنا يمي.
جاء صوت أبو رمزي وهو السجين الجالس قرب باب الغرفة وطاويا قدميه تحت عجيزته، خافتًا وكأنه يقول ذلك باستحياء.
ــ يمعود أبو رمزي خلي.. تره هذا زنديق راح يضوجك، وأنته رجال مريض.
ــ ميخالف عزيزي أبو جعفر هم خطيه مسجون مثلنا.. شوف شنو عنده من مشكله.
التفت أبو جعفر على ماركس وطلب منه الذهاب إلى جوار أبو رمزي، فلم يتردد ماركس وذهب إلى هناك حيث قدم له أبو رمزي بطانية صوفية أفترشها جواره فجلس ماركس عليها شاكرا أبو رمزي على صنيعه.
ــ لا يابه عليمن تشكرني كلنه بمحنه السجن..
ــ وهل أنت أيضا لك فترة طويلة في السجن؟
سحب أبو رمزي نفسا طويلا ثم أطلق حسرة أطول منه وتنهد وطأطأ رأسه وأجاب
ــ من ونيني الناس جارت      والأفكار اليوم حارت
   بالعكس دنياك صارت       وأصبح المتبوع تابع
ــ لم تجبني؟
ــ قدمت لك خلاصة الموضوع، لتلح عاد.
ــ سيدي العزيز لم أفهم الحديث بشكل واضح.. وما المقصود؟
ــ عزيزي الدنيا أفترت ودارت وتراني اليوم سجينًا وها هي الأشهر تمضي دون أن يفرج عني.
ــ وما سبب سجنك؟
ــ أخونا الطيب لتستعجل ..الكلام راح يجيك أُجن أُجن، سوف يطول بك المقام وتأتيك جهينة بالخبر اليقين. ُ
ــ وماذا يعني ذلك؟
ــ بالصبر كضيت العمر         والراس شيب من زغر
  العصفور ميصيد النسر           واللوم ميبرد جمر
ــ يظهر أن قصتك قصة..
ــ سوف تكون بيننا ليال طوال وأحاديث كثار وتفصح أنت عن وضعك وأحدثك عن وضعي لنتسامر بالروايات.. أليس ذلك أفضل.. يا صاحبي السجن، أما أحدكما فيسقى ربه خمرًا وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضى الأمر الذي فيه تستفتيان. وأنا وأنت واحد من هاذين السجينين.
ثم أطلق ضحكة طويلة ودفع بيده كتف ماركس مازحًا.
ــ أنك تزيد حيرتي يا سيدي.
ــ لا تحتار فأنا أعني أننا سوف نتسامر بالأحاديث في قادم الأيام ..أوكي؟
ــ حسنا لندع الآمر إلى أيام قادمة.

شعر ماركس باكتئاب حاد بعد أن اجتاز الوقت ما بعد الساعة السابعة مساء وقد عانى خلال فترة النهار من تخرصات باقي السجناء فبعضهم أتهمه علنًا بالجنون،وأخر بالجاسوسية. لا بل عده أحدهم كافرًا ملحدًا بعد أن سمع منه ما لا يقبله عن المجتمع وطبقاته، وكيف تستغل البرجوازية الكثير من الطباع والأفعال المتخلفة وحتى الدين لخدمة أغراضها والحفاظ على مكاسبها.
تفرس ماركس وجوه زملاء الحبس ثم أدار وجهه وحاول العودة إلى النوم وتركهم في حديثهم الهازئ الشاكي، ولكنه كان يركز سمعه على ما يتفوه به هؤلاء محاولاً معرفة ما يعنيه لهم وجوده بينهم، فشعر بنبرة العداء التي تفصح عنها جميع أحاديثهم دون أن يجد من بينهم من يدافع عنه سوى أبو معتز الذي راح في إغفاءة عميقة وكذلك أبو رمزي بصوته المعلول الراجف.
جميعًا وفي كل المنعطفات، من شاهدهم ومن واجههم وتكلم معهم ولاحظ تحركاتهم وتمعن أحاديثهم، تجدهم يتشابهون في الكثير من الطباع والتصرفات، الحدة، التطير، التشاؤم، الإدعاء وتضخيم الآمور، الخصومة، المناكفة والهزأ بالأخر وحتى تبخيس الذات. تذكر ما سبق أن وصل إليه من استنتاج حين دون في دفاتره أن الانكليز لديهم جميع الشروط المادية للثورة وما ينقصهم هو روح الحماس الثوري، ولكنه هنا يدرك الآن بأن العراقيين وبالمطلق هم عكس الانكليز تماما، لديهم الكثير من الشروط للثورة ويتوفر فيهم الحماس الثوري ولكن لهم قدرة غريبة عجيبة على بعثرة قواهم، وتغليب تلك الطباع عليه وتشتيت جهودهم في اللاجدوى.

***
 قبل منتصف الليل فتح باب غرفة الحبس ودخل العريف أحمد الذي لم يظهر طيلة النهار في مركز الشرطة. تقدم ناحية ماركس الذي كان نائمًا مكورًا جسده ومتخذًا من كفيه وسادة. لكز العريف أحمد بحذائه ساق ماركس فلم يجد استجابة منه، فكرر الآمر بقوة ولعدة مرات وبشكل سريع فاستيقظ ماركس ونهض فزعًا فاركًا عينيه محاولاً استجلاء الوضع مع الضوء الشحيح للمصباح المعلق في سقف الغرفة.
ــ أنهض يريدك العقيد.
ــ وبهذا الوقت من الليل!
ــ ليش حضرة جنابكم لازم أنته من يقرر المواعيد.
ــ أليس من المناسب أن يكون مثل هذا الأمر في النهار؟
ــ هذا ميخصك والعقيد هو من يقرر. وإذا تشوف عندك مانع كلي حتى نروح لغرفة الحمام ونشوف شلون تمانع بعد ما تلعب الصونده على ظهرك ورجليك لعب.
ــ وماذا يريد العقيد؟
ــ أمشي لك قشمر هلمرة تره حمضته.. أذا تستمر بهذا الشكل تره تشوف اللي ما شفته بحياتك وأخليك تقره زيزي وتغني أبوذيات... ومن جانبي ألغي قطعيا مقابلتك للعقيد وأختصره من يمي.
رفع ماركس جسده بتثاقل فشعر بألم حاد في قدميه وباقي أعضاء جسده ولكنه وقف معتدلاً وتحرك وراء العريف أحمد مجتازًا الممر الطويل حتى غرفة العقيد. طرق العريف الباب ثم فتحه وسحب ماركس من يده وأدخله الغرفة ووقفا أمام العقيد.
ــ أي هسه بيه مجال.. ظهرت خلقتك.. بينت أدمي... شنو أسمك كتلي؟
ــ ماركس.
ــ أسمك الكامل.
ــ كارل هاينريش ماركس.
ــ ألماني مو؟
ــ نعم ألماني.
ـــ وشلون نعرف أنو أنته صحيح هذا الشخص، مثل ما تدعي، والتقرير الليلي البارحة يكول أنه ماكو هناك دليل على صحة أدعائك.
ــ لا أدري..
ــ ما تقدر تثبت شي يحدد هويتك؟
ــ كلا أستاذ.
ــ لك مو علمتك.. كول سيدي
هكذا قال له العريف أحمد وهو يلكزه في ظهره
ــ لعد شنو تكول أني أسكن بانكلترا.
ــ سكني بعد أن غادرت ألمانيا هي لندن.
ــ يعني مآخذ جنسية بريطانية همين؟
ــ كلا أستاذ أنا مواطن ألماني.
ــ وتدعي عالم آثار؟
ــ أنا كذلك.
فجأة طلب العريف الحديث فوافق العقيد
ــ سيدي نقل لي الشرطي عباس شناوة.. كَال.. طول اليوم صارت لغاوي بين السجناء أبو جعفر يكول على ماركس كافر وزنديق أو سجين لاخ يكول عليه مخبل وطباكات، وشلاكَه الجايجي يكول عليه جاسوس..والأستاذ أبو رمزي قبله وخلاه يمه واشتغلت رحمة الله بالابوذيات والأشعار.. اليوم كله صارت غرفة السجن مثل طولة مال صخول وكله تمعمع والسبب هذا، لأول مره يصير عدنه هذا الشي. وحته من طب للحمام هم هناك نزع كل هدومه وسبح ربي ما خلقتني وما استحه.
ــ شوف ماركس، تره آني ما عندي خلك طويل.. أنته بالصحيح منين وشنو.. كول أحسنلك وفضه حتى هسه أندز أوراقك ونخلص، وبعد جم يوم ترجع الأوراق ونرحلك للجهة ألي تعود أله.
هكذا صاح العقيد وهو يقف ليتناول علبة السجائر من طارف المنضدة.
ــ أستاذ لا أعرف وهذه كل ما لدي من معلومات أقدمها، ولو كان جبار هنا لأوضح لكم حقيقة أمري.
ــ ومنو هذا جبار؟
ــ أنه الذي اقلني من الناصرية وهو يعرفني حق المعرفة.
ــ هو أقاربك؟
ــ كلا هو من كان يقود المركبة التي اختطفنا معها.
ــ وأنته تعرف اسم جبار الكامل وعنوانه.
ــ كلا.
ــ متعرف وين يسكن.. حته نكدر نساعدك؟
ــ حتى هذا لا أعرفه سيدي.
ــ لعد شلون مدكلي أنته منو... متأكد أنت ألماني وعالم آثار؟
ــ نعم.
فجأة قال العريف احمد
ــ سيدي تذكر الجاسوس الإسرائيلي الجان عايش أبيروت يكَدي بالشوارع ويسمونه أبو ريشه، تالي من أكتسح الجيش الإسرائيلي بيروت، مو طلع عقيد بجيش إسرائيل وركب دبابه وكَام يدور على القيادات الوطنية والفلسطينية. 
                 
ــ أي أذكر هذا الشي وشنو قصدك؟
ــ قصدي خاف هم يطلع الأخ جاسوس ويكول آني عالم بالآثار.
ــ عريف أحمد هسه حته لو طلع جاسوس شراح نكدر نسويله.. نحيل أوراقه للمحاكم بعدين يدخلون الأمريكان ويطلقون سراحه.
ــ هاي شلون سيدي؟
ــ أي هاي الحقيقة.. بالنجف اعتقلوا جاسوسة إسرائيلية دخلت للعراق بحجة صحفية وبوثائق أمريكية وجانت تسكن بفندق بالنجف، أسمها باراس تمر أفيفا ومكان ولادتها تل أبيب وعده هوية ورقم مال الجيش الإسرائيلي، وجماله عده جواز إسرائيلي وهمينه الجواز الأمريكي.. الامريكان تخبلوا ورأسا ضغطوا على الحكومة وخلوها تطلق سراح هاي الجاسوسة.. هاي هيجي صايره الأوضاع.. وهذا حتى لو كان جاسوس هم راح يطلع منه مثل الشعرة من العجين.
ــ الظاهر انكم انتهيتم للاعتقاد بأني جاسوس.. ولصالح من أتجسس؟
ــ لإسرائيل.
ــ حسب معرفتي فأن أكثر من عضو في البرلمان العراقي وباقي دوائر الدولة وفي حكومة إقليم كردستان يزورون إسرائيل دون ضجة، وهؤلاء يعملون ضمن دوائر إدارة السلطة العراقية فما الذي تريده مني إسرائيل.
ــ سيدي هذا حجيه مصفط.. هذا لو جان عالم جبير وعلى غفله صعد عده الضغظ وطكن وايرته  لو أنا أشويه ما أفتهم.
ــ يمكن الثانية هيه الصحيح.
ــ سيدي تره أكثر الالمانيين يكرهون إسرائيل واليهود.
ــ هاي شمدريك حمودي؟
ــ سيدي سوالف سامعه من الناس.
ــ يابه ماركس صحيح أنتم الألمان تكرهون اليهود ؟.
ــ ليس كرها سيدي.. فأنا لا أكره بشرًا ولا دينًا.
ــ هاي شلون عود.. هاي جديدة ما سامع بيه
قالها العقيد وهو يقهقه ويسحب كأسًا من تحت المنضدة ويرتشفه بعجالة ويمد يده ليتناول ملعقة من اللبن الموضوع أمامه في صحن صغير.
ــ تكدر تفهمنه شنو تقصد بجملتك الأخيرة ليس كرهًا وأني ما أكره بشر ودين. جنت جنك تريد أطكنه أبيت أبوذية لو جنجلوتيه  بالشعر يبين علمك عليه أبو رمزي.
ــ أستاذي العزيز .. أنا ارفض التعامل مع اليهود كقومية بل يجب أن يعاملوا كمواطنين في البلدان التي يعيشون فيها، وهذا الفهم يقودنا إلى ضرورة علمنة الدولة وتكريس حرية المعتقد، وهذا الموقف هو الذي أوضحته دائما للجميع ورفضته الرأسماليات الأوربية، وقامت بدل ذلك بإبعاد اليهود إلى فلسطين لتتحول المشكلة من مشكلة مواطنة أوربية إلى مشكلة عربية. في تفسير مفهومي هذا يمكنني القول، بأن على الحكومات إلغاء جميع الامتيازات الدينية ليكون جميع الناس متساويين كمواطنين ويتحرر المواطن ومعه يتحرر الوطن ويصبح دولة واقعية..
ــ لك هذا شد يخربط .. شنو دتحجي.. سيدي هذا كَلب مصاريني بهذي اللغوة.
ــ عريف احمد.. معليك أشو خلي يحجي حتى نفتهم شنو ومنو وشيريد..كول سيد ماركس.. كمل شنو تريد تكول.
ــ عند تلك المهمة والمرحلة يجب أن نكشف كيف يقف التحرر السياسي الكامل من الدين؟ حين ذاك ننظر إلى النتائج. فانعتاق الدولة من الدين وإلغاء امتيازات المؤسسة الدينية. وهذا يتطلب أن تتعامل مؤسسات الدولة بشكل ديمقراطي يكون فيه العمل على شرط احتساب الفرد كمواطن دون حساب هويته الدينية. وهنا تكون الدولة كوسيط وحين يتحرر الوسيط يتحرر الإنسان، لحين تهشم هذا الوسيط لتبنى المشاعة الاشتراكية الخالية من الامتيازات الطبقية. إن ما يسمى الدولة اليهودية هو في الأساس نفي للدولة، وفي ذات الوقت لا يحقق لها يهوديتها وهذه التسمية والسلوك يقود اليهود إلى الوهم. وتسمية الدولة اليهودية وسيلة لغايات غير حقيقية تكون الدولة فيها دولة نفاق. ولذا أقول إن هذه دورة تبدأ بتحرر الإنسان سياسيا حين ينفصل بالكامل عن روابطه المقيدة ومنها التقاليد البائدة والالتزامات الدينية.
ــ لك عريف أحمد أخذه رجعه المكانه بسرعة.. لا هسه أكوم أكطع عليه النطاق بهذا الليل.. أنعل أبو الجابه عليه.. هذا طير البيكين بالكامل.. لك هذا شنو مكينة مال لغوه.. وهاي السوالف وين ضامه.. امتيازات طبقية ومشاعة ودولة نفاق.. لك ما صدكَنه خلصنا من الرفيق ولغوة الحزب.. وشكال أبن القندره ميشيل عفلق لو الرفيق صدام، هسه هذا جاي يريد يرجعنه على ذيج الأيام.. أخذه وروح جيبلي ما عون لبلبي.. رجعه المكانه هذا أبن المسموط وخلي بالحبس خايس جم أسبوع قبل متدزون أوراقه.
أسرع العريف أحمد بسحب ماركس من ساعده ودفعه بقوة باتجاه باب الغرفة ولكن ماركس استدار ووجه كلامه إلى العقيد.
ــ وإلى متى سوف أبقى دون أن يفرج عني.
ــ دروح لك روح بول ونام.. دون أن يفرج عني.. خوش يطكطك بمنكاره.. يفرج عنه لاحقًا.. أي مو أحنه روضة أطفال تجي عدنه الصبح ويجي بابا يأخذك الظهر.. أنقلع من كدامي لا أجي أبيس بيك تبيس.
عند ذلك أبطأ العريف أحمد في سحب ماركس وحاول قدر الإمكان إبقائه في الغرفة عسى ولعل العقيد ينهض من مكانه ويأتي لضربه بالنطاق مثلما قال، ولكن العقيد كان ساهيًا عنهم منشغلا بتحضير كأس شرابه وحين رفع رأسه صرخ بأعلى صوته.
ــ بره أزمال مو كتلك أخذه من هنا.





119
كارل ماركس في العراق الحلقة الخامسة عشر


بدا النعاس يطرق عينيه ولكن الأحاديث المختلطة بين السجناء ومثلها ما يسمعه من أصوات عالية تأتي من خارج غرفة السجن كانت تضفي صعوبة على محاولاته.
***
مثل المرات السابقة دخل حانة ترير للمشروبات.كان يتأبط مجموعة أوراق وضعها داخل كراس بغلاف اخضر داكن. كان على موعد مع أحدى صديقاته الجديدات. أيضًا كان يشعر بشيء من المسؤولية تجاه هذا النادي بعد أن أصبح رئيسًا مشاركًا فيه، ولم يكن فقط حبه للشراب الدافع الأوحد لوجوده ومشاركته في النادي، وإنما الألفة وروح الشباب والنقاشات المستفيضة في شتى مجالات الحياة وبالذات الفلسفية منها. هبط السلم محاذرًا يتكئ بيده على الجدار المطلي بلون قهوائي غامق. درجات السلم دائمًا ما كان يحاذرها وهي مصدر قلق له، صغيرة ضيقة تربك الأقدام حين الهبوط عليها أو تسلقها. وصل عند الباب الداخلي للحانة ودخل وسط الصالة. دخان السجائر يغطي الكثير من ملامح المكان، ولم تكن الأنوار تكفي لتبيان ما يحويه الحان. عند الزاوية البعيدة جلست مجموعته. كان يكبرهم جميعًا ببضع سنين ولكن من بينهم من هو ناضج وعقلاني ويقدم الكثير من الرؤى والشرح الفلسفي بسلاسة ومقدرة يحسد عليها، ومنهم من يمتلك ملكة شعر حقيقية. اليوم جميعهم ينتظر منه أن يقرأ قصة قد أكملها حديثًا ووعدهم بذلك. حياهم فتهللت أسارير الجميع. جلس وسطهم وطالع الوجوه النظرة وهي تحدق به، كانت فتاته مثلما أعتاد عليه تنظر نحوه خلسة بين فينة وأخرى، ود لحظتها أن تلتقي عيناهما ليدعوها للجلوس جواره، ولكن الحياء كان يسيطر عليها. كان صاحبه أدولف روتنبرغ يراقب حديث العيون هذا وتعلوا وجهه ابتسامة رضا ثم غمز بعينه لصاحبه وأحنى رأسه إلى الأمام.
 فتح كارل ماركس كراسته قائلاً سوف أقرأ لكم قصتي الجديدة التي عنونتها بالعقرب وفيليكس. ران على الجميع الصمت، ويخال وكأن الدخان قد توقف عن الحركة أيضًا في انتظار قرأته للقصة. لم يطلق بعد جملته الأولى حين ضج المكان بأصوات غريبة وصراخ لم يفقه ماركس منه على ما يدل أو على من  تنادي تلك الأصوات. كانت هناك قامات رجال ترتدي ملابس سوداء وأقنعة تتسلل من الباب لتنتشر في أنحاء الحانة. كانوا يحملون أسلحة رشاشة وسيوف، دون مقدمات راحوا يطلقون الرصاص على الجميع. رائحة الدخان والموت بدأت تطغي على المكان فأصبح كل شيء أسودَ كالحًا لا يرى فيه غير ومض أطلاقات الرصاص، لحظتها كان أبو بشير يقف عند نهاية السلم يتكئ على أطار الباب ويوجه رجاله ويحضهم على قتل الجميع.
سلط أبو بشير نظره عليه ثم سحب مسدسه وسدد نحوه مباشرة، سمع صوت الاطلاقة ولاحقت عيناه مسارها فصرخ بأعلى صوته ولكنه شعر وكأن حنجرته قد تيبست مثل أرض بور عطشى، أراد التحرك تحاشيًا لمسار الرصاصة ولكنه لم يستطع الابتعاد وبقي مسمرًا مكانه وكأنه قد كبل بسلسلة حديد ثقيلة.
ــ يمعود..هاي شبيك.. أكعد.. أكعد مو خبلتنا.. هسه أحنا أطباكات وهلمرة أجيت أنته... أكعد!

كان أبو جعفر يهز جسد كارل ماركس بقوة ويطلب منه الاستيقاظ ولكن ماركس لم يكن يشعر بما يدور حوله وقد نز العرق غزيرًا من جبهته. فتح عينيه ليرى وجه أبو جعفر قريبًا منه وهو يناشده أن يستيقظ.
ــ هاي أنته بأول يوم وبديت تتخبل بنومك لعد من يمر عليك جم شهر شلون... ميه بالميه تلحك ويطكن عدك كومة فيوزات.. أكعد عمي أكعد وسمي باسم الرحمان.
ــ كان حلمًا مزعجًا.. إلى هناك لحق بي أبو بشير وعصابته.
ــ ما تكلي منو هذا أبو بشير؟
ــ هذا هو وجماعته.. هم من اختطفونا.
ــ بيا منطقة؟
ــ لا أدري فأنا لا أعرف المناطق.
ــ وما لزموه الشرطة؟
ــ لا أدري؟
ــ أشو أني ما أصدك أنته ألماني.
ــ لماذا لا تصدق؟ أقسم لك أني ألماني.
ــ شكلك وحتى من تحلم جنك مثلنه أحنه العراقيين.. نتخبل وننرعص من نحلم وعياطنه يوصل الذاك الصوب.
ــ يختلف البشر بطبيعة أحلامهم، ولكن بشكل وأخر هم حالمون في صحوتهم ونومهم.
ــ عمي أحنه العراقيين من الكماط والكوابيس تنام على قلوبنا.. جعفر أبني بساعة ما جابته أمه تكول جنه ذيل أبو بريص من ينكطع.. مرعوص ويخض بروحه وعشر دقايق ما يثبت. عوفنا من هذا.. كلي أنته متزوج؟
ــ نعم متزوج وعندي أبناء بس زوجتي متوفية.
ــ وأهلك هسه وين عايشين؟
ــ في لندن.
صاح أحد السجناء الجالس في الزاوية البعيدة وكان يراقب ويستمع لحديث أبو جعفر مع ماركس.
ــ حلو طلع كرخي وساكن بالرصافة... وبعد شويه راح يكول عندي عماتي ساكنات بفرنسا.. هاي شلون دبرها الأخ.. يابه وروحه الخالي أذا هذا ما طلع طاك عده فد جم كويل أني مو أبن أبويه، دشوف شلون يباوع وشلون يحجي.. جان بالحلم يرفس رفس أني كلت راح تطلع روحه. همزين أنته أبو جعفر لحكت عليه.
ــ علينه بتاليها وخلوه خطيه يجوز صدك متعذب والخوف بعده بقلبه.
ــ زين الشرطة خوب ما ضربوك لو هانوك.. تره أخونه أبو معتز.
وأشار بأصبعه نحو رجل يرتدي كنزة صوفية وقميص أبيض وبنطال رمادي ويجلس القرفصاء جوار باب الغرفة.
ــ أستاذ أبو معتز ميهتم بالحر لأنه يشتغل بحقوق الإنسان وصارله تسع تشهر معتقل ويوميه يأكل فلقة من الشرطة لئن يتعيقل بروسهم ويتوعدهم بعقوبات شديدة، يكول راح تجيهم من منظمة العفو الدولية شنو يابه، لآن همه ديخرقون حقوقه الإنسانية، وجماله ليهسه أهله ما يدرون وين هو مسجون ومحد سأل عليه.. هاي شلون واحد يشتغل بحقوق الإنسان وينشمر مثل هذي الشمرة.. وخطيه بعده مصدك أنو المنظمات الدولية راح أداعي بيه.
ــ عيوني حجينا أبو جعفر هاي المنظمات عده هوايه شغل.. فد يوم تشوفني بالتلفزيون وراح أجيب طاريك وأعرض مشكلتك.. تره داعيك مو هين وهذوله الشرطة راح فد يوم اراويهم منو أبو معتز واردلهم الصاع صاعين.
هكذا أجاب أبو معتز وهو يعتدل في جلسته ويتناول كتابا من تحت وسادته.
ــ عمي هسه أنته دير بالك على روحك.. وتعرف تره هذوله الشرطة هم مساكين.. مأمورين مو بيدهم.. شتكول أخونا ماركس؟
ــ حول ماذا؟
ــ عن هذولة الشرطة تره هم مساكين.
ــ نعم .. جهاز الشرطة اخترعته السلطات البرجوازية ليس ردًا على تفشي الجريمة بقدر إدراكها لتزايد الحشود الجماهيرية السياسية وبالذات المؤازرة للطبقة العاملة الذي باتت تهدد مصالحها الاقتصادية. سلطة البرجوازية في مسعاها هذا تضع نصب أعينها مهمة مراقبة الطبقة العاملة والتدخل في صلب إدارتها، مثلما اخترعت التعليم لتثبيت مفاهيمها وقيمها وسط المجتمع من خلاله، وهناك الكثير مما تقدمه الرأسمالية لقولبة المجتمع ووضعه على خطى خياراتها.. ولكن الحتمية التاريخية تقول إن للطبقة العاملة كلمة ومفاهيم أخرى وهي التي تنتصر في نهاية المطاف.
ــ يمعود على كيفك وين رحت وين وديتنه أحنه تره ما عدنه شغله بهاي السوالف.. دور وجهك ونام وأجفينه شرك.. عمي هسه محبوس على سالفة قجق يم الحاكم هينه.. داعملك واحد تدبر يم القاضي وبواسطة العشيرة تفض بجم دفتر.. عركة وبيه مجاريح ومفاشيخ.. دفتر دفترين نطلع بعدهن ونشتم هوه ربك.. سوالف السياسة ما تجيب غير الفاينات وكطعان الأرزاق.. وتعال وأثبت كون أنته ما عندك شغل بيه.. نام خالي نام.. أني كلت هذا الصماخ بي بلوه.. طلع شايل بلاوي.
ــ حجي أبو جعفر وروح الوالدة العزيزة تره هذا فيوزاته طاكات ومشخوط بالكامل.. عوفه لتبتلي.. تره هسه يكوم يغرد بعد أكثر... وتصير بينه دكة ما تنحجي، بشكل ذاك العهد، نطلع كلنه مشتركين لأن أحنه جنه نستمع أله وما خبرنه عليه وتعال هلمره خلص روحك.
ــ لا عمي راح ذاك الوكت بس مثل هذي السالفة لا كفه طين.. وأحنه ما عدنه خلكه.. شنو برجوازية شنو طبقه عاملة.. أشو العراق من شماله الجنوبه كل الناس بيه فد سوه.. كله تركض والعشه خباز.. وتسعة وتسعين بالمية من العراقيين يبجون ويلطمون من الصبح لليل وأمورهم لاكفة طين، ليش هو أكو برتواجية لو ما أدري شنو.
ــ هذا ليس حقيقًا..
ــ شنو قصدك.. شنو المو حقيقي؟
ــ قولك بأن الجميع سواسية وليس هناك فرق بين الطبقات.
ــ عمي أنته ليش متنام وتعوفنه.. أي هسه أنته منين الله جابك؟
ــ عزيزي أو الأحرى أعزائي جميعا.. إن تاريخ أي مجتمع حتى هذه اللحظة ليس سوى صراعات طبقية.. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة مختصرة ظالمون ومظلومون، وهم في تعارض دائم، خاضوا ويخوضون حربًا متواصلة، تارة معلنة وطورًا مستترة، حربًا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، أو هلاك كلتا الطبقتين.
ــ يا يابه.. يا بويه.. يمعودين رحمه لأجدادكم تعالوا طلعوا الهذه قبل ما يخبلنه.. صارلي سنة ونص بالتوقيف وراسي يوميه يريد ينفجر من طنين الذبان وهوسة المركز، هلمرة جبتولنه واحد مخبل ومستوي.. ويحجي سوالف ما نفتهمه.
صرخ أحد السجناء بعد أن استمع لما تفوه به كارل ماركس، وراح ينادي على الحرس الواقف جوار الباب أن يأتي ويأخذ ماركس بعيدًا عن غرفة الحبس.
ــ هاي شبيكم يمعودين تره يبين عليه حباب ويريد يسولف.. ما بيه شي.. خوب ما ضربله لو أعتده على واحد.. خلوه خطيه يدردم.. الحجي بفلوس لو مو بفلوس.
ــ عيوني أبو معتز شنو أحنه عايزين لغاوي، حتى يجي هذا الطباكات يفرغ لغوته براسنه. نسيت ذاك الشهر من جابولنه واحد كال أنو هو أستاذ بالجامعة وهم خرط براسنه أسبوع كامل تالي أبأول راشديين طلع يبيع جكاير وشخاط يم جامع الخلاني.
ــ أي ولله صحيح هذا همين بعد راشدي وجلاقين من عريف أحمد راح يبين من يا مله.



120


كارل ماركس فس العراق / الجزء الرابع عشر

تقدم أحدهم وأخذ بفك الحبل الذي كان يحيط بمعصمي ماركس. ثم سمعهم يتبادلون جمل التحايا والتوديع بعد أن أخذه أحدهم وأدخله بناية مركز الشرطة.


ــ تعال خالي يم العقيد.. أنته صدك ألماني.. صحيح أحمر أبرص بس ما مبين عليك من ذيج الديره.
صمت ماركس وكأنه لم يكن يسمع الحديث وتقدم جوار الشرطي ليجتازا الممر الطويل ثم توقفا عن باب خشبي مطلي بلون رمادي مائل للزرقة علقت في أعلاه قطعة خشب صغيرة خط عليها باللون الأبيض دلالة تعريفية، مدير المركز. طرق الشرطي الباب فسمع صوت من الداخل يأمره بالدخول. دفع الشرطي ماركس من كتفه وأدخله معه إلى الغرفة. كانت الغرفة ضيقة بعض الشيء مع كثرة في الأثاث وسرير نوم تتبعثر فوقه كومة ملابس وغطاء غير مرتب، وجواره على الأرض قدح ماء ونعلان ومجلة وصحن فيه بقايا قليلة من طعام.
دوى صوت قوي جراء ارتطام حذاء العسكري بالأرض وهو يأخذ تحية للعقيد الجالس خلف المنضدة، أرتعب ماركس واهتز جسده لسماع ذلك الصوت المدوي والمفاجئ.
ــ لك هاي شنو.. خطية هذوله شمسوين بيك.. بابا ليش انته بهذا الوضع.. جانو يعذبوك.
ــ نعم أستاذ كانوا يتلذذون بذلك.
ــ لعنة الله عليهم.. هذولة مو بشر؟ شوف أبني، أنته صدك ألماني؟
ــ نعم..
بدا ماركس في هذه اللحظة وكأنه أخذ يعتاد على اللغة الدارجة للعراقيين ويستطيع فك رموز أغلب ما يسمعه.
ــ عندك ما يثبت هذا؟
ــ كانت لدي وثائق في حقيبتي الصغيرة التي أمامك، ولكن الظاهر أن أبو بشير وجماعته قد أتلفوها أو وضعوها في مكان ما.
ــ وكيف تستطيع أثبات ذلك؟
ــ لا أدري.
ــ أبني عريف أحمد.. دخذه هسه وعدل حاله.. خطيه ساويله شعر رأسه وخلي يغسل.. ريحته تكتل.. وبلكي تنطو ملابس بدل هاي ملابسه المزكه والمطينه.. وأنطو أكل وخلي يبات عدنه جم ليلة، وكول للضابط أبو تغريد خلي يسويله محضر تحقيق ويقدمه أليه باجر بخفارتي.. حتى بعدين نشوفله صرفه وأنسفره.. ابني أنشاء الله فرجت كلشي يتعدل لتخاف.. أنت صرت بيد الشرطة العراقية وبعد لتخاف. دتفتهمني لو لا؟
ــ أفتهم أغلب الحديث.. شكرا لك أستاذ.
ــ شنو أستاذ .. قشمر ، كول سيدي.
ــ عريف أحمد على كيفك.. هسه مو وكته خل شيكول يكول.. هو مدني، ويجوز صدك ألماني وتزعل علينه خالتنه ميركل حفظها الله ورعاها.
قالها العقيد ضاحكا وأشار لعريف أحمد بالانسحاب فدفع بدوره ماركس وسحبه خارج الغرفة . 
 
***
 
مسد ماركس فروة رأسه فشعر ببعض الارتياح، فقد باتت خالية من الشعر لا بل ملساء تماما كراحة اليد، بعد أن ساواها موس الحلاق ببراعة دون أن يهدر قطرة دم واحدة مثلما فعل به أبو بشير ورجاله. فتح صنبور الماء وراح يرمي الماء على وجهه ويتذوقه بنشوة رغم حرارته التي سببها شمس الصيف اللاهبة الساقطة على خزان الماء فوق البناية.
لعدم وجود رتاج لم يستطع ماركس إغلاق باب غرفة الحمام الصغيرة ذات النور الكابي. تلفت قليلا ثم راح يخلع ملابسه قطعة بعد أخرى فلم يبق على جسده ما يستر حتى العورة. حاول أن يقف تحت الدوش ولكنه وجد أن الماء لا يصل إلى هناك. تحت صنبور الماء كانت هناك صفيحة كبيرة سبق أن كانت حافظة لدهن الطعام، هذا ما كتب على جدارها، وفي وسطها وضع قدح بلاستك كبير. راح ماركس يراقب الماء وهو يملأ الصفيحة، أنتظر قليلا ولكنه لم يحتمل المطاولة مع بطء جريانه، فأخذ قدح البلاستك وبدأ يصب الماء فوق جسده. شعر بنشوة غريبة وبانت على شفتيه ابتسامة رضا أفتقدها طويلا، راح يتلذذ بسكب الماء فوق رأسه وأخذ يداعبه وهو ينساب فوق شفتيه،  فيصدر صوت فرقعات خفيفة استطابها، فاستمر يمارس هذا الطقس بفرح طفولي.
 فجأة دفع الباب ودخل أحدهم دون سابق إنذار.
ــ لك هاي شنو.. شدتسوي.. ليش مصلخ ربي ما خلقتني وبحمام مركز الشرطة.. أنته مو الألماني لو أني متوهم؟
 ــ نعم أنا الألماني..
ــ أكول.. لعد منهيج يكولون الأجانب ما عدهم مستحه.. يله دكمل حتى أني أغسل وراك.
ــ عريف أحمد قال بأنه سوف يجلب لي ملابس أخرى.
ــ أوكي.. لعد راح أروح أخبره، وأني أرجع بعد شويه أريد أغسل لتتأخر..
عاد كارل ماركس للاغتسال، حاول بقوة وإلحاح أخراج رغوة من قطعة الصابون الصغيرة دون جدوى، ففكر بأن السبب ربما يكون عسر المياه، ولكونه قد خبر ماء لندن فقد أستبعد هذا عن الماء الذي يسبح فيه الآن بعد أن تذوقه. ثم وضع في باله الفترة الطويلة التي قضاها دون اغتسال منذ وصولهم الناصرية ولحد الآن. فقد صنعت فوق جسده طبقة من الدهون تمنع الصابون من أخراج رغوته، هكذا شعر ماركس مع استمرار محاولاته لدعك جلده، أصر أن يزيل عن جسده تلك الطبقة من الأوساخ فراح يفرك جلده بصبر وأناة. بعد عملية طويلة أحس ماركس بأنه أنجز الكثير في هذا الآمر، لذا أسند ظهره إلى الحائط وراح يسكب الماء على رأسه وجسده متلذذ بسماع صوت ارتطامه برأسه ثم جريانه على صدره وجسده، وأحس برغوة الصابون وكأنها يد سحرية تمسد جسده وترطبه، وكأنه في حفل موسيقي يستمع للسيمفونية الأربعين لفولفغانغ موتسارت فأغمض عينيه وراح بعيدًا في عالم مريح يسترخي فيه ولو للحظات دون خوف أو وجل. فجأة سمع صوت عريف أحمد.
ــ ها يول بشر أغسلت زين..؟
كور ماركس جسده أول الأمر ثم نهض وغطى عورته وذهب ليقف خلف الباب، عندما دخل عريف أحمد.
ــ هاي وينك؟
ــ هل جلبت لي ملابسي؟
ــ هاي أنته خاتل وره الباب.. هاك هاي دشداشة وستره ولباس طويل.. همزين الشرطي محمد بن شكرية، جان هذني الهدوم زايدات عنده.. يله ألبسهن بسرعة وتعال.
بعجالة أكمل ماركس ارتداء الملابس وخرج من غرفة الحمام يتعثر وهو يسير بالثوب الفضفاض.
ــ لك هاي شنو طلعت جنك راعي غنم.. وجماله يمشي جنه مطهر.
قال ذلك عريف أحمد وهو يطلق ضحكة تنبه لها جميع رجال الشرطة في الممر الطويل. ثم طلب من ماركس أن يسير أمامه لحين وصولهم غرفة الموقف ذي الباب الصغير المغلق الكالح اللون بفتحة كبيرة تبدأ من منتصفه ليظهر خلالها جوف غرفة حبس واسعة يجلس فيها بضع أفراد. أخذ عريف أحمد المفتاح من الحرس وأدار قفل الباب ودخل مع كارل ماركس. طالع ماركس وجوه الأنفار العشرة الذي سيكون الآن  شريكهم في هذا المكان، وأبتسم ابتسامة بلهاء وهو ينظر نحوهم بفضول، لم يجد بد من أن يحيهم بانحناءة رأس، ولم يكن يعرف السبب لفعلته هذه. لم يجد من أي واحد من السجناء ردة فعل سوى نظرات مستفزة باحثة ومستفسرة عن نوع هذا الجديد الذي جاء به  عريف أحمد.
ــ أبو جعفر أنطي بطانية من يطغك للأخ، أبين ما ندبرله فراش.. هذا خطار عدكم يوم يومين .. خطية جان مخطوف وهو تعبان.
ــ تدلل أبو شهاب ويدلل خطارنا.. تعال عمي تعال هنا يمي هاك هاي البطانية أفرشها.
قال السجين أبو جعفر ذلك ورفع الغطاء الصوفي ومده جواره فتقدم ماركس وجلس هناك.
ــ أبني شنو أسمك؟
ــ ماركس.. كارل ماركس؟
ــ هاي شنو أسمك أجنبي؟
ــ أي أبو جعفر هذا ألماني.
قال ذلك عريف أحمد وهو يخرج من الغرفة ويغلق خلفه الباب.
ــ شعدك بالعراق؟
ــ أبحث عن الآثار.
ــ آثار شنو؟
ــ نعم!
ــ يا آثار؟
ــ آثار سومر وبابل وغيرها.
ــ على الخير والبركة.. جا هيه بقت عليك؟ ذاك اليوم جان خطارنا تركي أيكول هو أبن عم أردوغان تالي طلع حشاش مضبوط معطب من كاعه.
أحد السجناء، الجالس قبالة أبو جعفر وكان يسند ظهره للحائط ويلف بكوفيته كامل رأسه ولا يظهر منه سوى العينين  قال وبنبرة عدائية.
ــ  هسه أنته ألماني ولابس دشداشه وستره وأكرع وأحمراني.. همزين ألماني مو كرايب عزت الدوري وتشتغل عليك رحمة الله بالجلاليق..
ــ نعم ؟
ــ أشوفك تعبان وراح الأيام أتطول عليك مثل حالي، صارلي تسع تشهر خايس هنا ويكولون أوراق التحقيق بعد ما رجعت من المحكمة.. تكدر تنام وترتاح بعدين نسولف، كل الليل عشه وسوالف.
هكذا بادر أبو جعفر طالبًا من ماركس أن لا يهتم للأحاديث وعليه الراحة في الوقت الراهن.
مد ماركس جسده المتعب فوق الفراش الصوفي ووضع كفيه تحت رأسه وسرح بعيدًا متذكرًا وضعه في زريبة بيت أبو بشير وكيف كانت توجه له التهديدات اليومية بالقتل والمعاملة القاسية التي كان آخرها حفلة التعذيب التي شاركت فيها البقرة. لقد كان  قاب قوسين وأدنى من الموت. ليس أمامه من مخرج بعد كل ذلك العذاب غير البحث عن الذي يخلصه من ورطته ويرجعه إلى بيته في لندن، ليس له حاجة بالمعرفة عن وضع العراق الاقتصادي والسياسي، بعد أن تيقن بشكل كامل بأن ليس هناك نظرية يمكن لها أن تتعرف على طبيعة صيرورته ومسيره ومآلاته. في نفس الوقت لم يعد يملك أوراقًا ثبوتية ليقدمها كدليل على مواطنيته الألمانية وسكنه الانكليزي، وتلك تكفي لوضعه في مأزق خانق لا يستطيع الخلاص منه، والطامة الأخرى أن ملامحه قد تغيرت كليا، كذلك لا يعرف بالضبط مكان الرفيق جبار وفي أي ناحية من نواحي بغداد يقع الفندق الذي يملكه، ويا ترى كيف يصل أليه، وقبل كل ذلك تساءل ماركس عن نفسه، أين هو بالضبط الآن؟ هل حقيقة أنه في أمان؟ بدا النعاس يطرق عينيه ولكن الأحاديث المختلطة بين السجناء ومثلها ما يسمعه من أصوات عالية تأتي من خارج غرفة السجن كانت تضفي صعوبة على محاولاته.



121
ندوة عن جدلية العلاقة بين الفن والعلوم

يقيم منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم ندوة حول جذرية وجدلية العلاقة بين العلوم والفن، يحاضر فيها الكاتب والإعلامي الأستاذ طالب عبد الأمير، الحاصل على شهادة الدراسات العليا في علوم المعلومات والاتصالات . يثير الأستاذ طالب تلك الجدلية عبر إثارة ومناقشة أسئلة ساخنة يحاول الإجابة عليها، من مثل.
ــ ما علاقة الفيزياء والكيمياء والرياضيات بالرسم ؟
ــ ماهي المشتركات بين أينشتاين وبيكاسو؟
وغير تلك الأسئلة التي تثار عن طبيعة تلك العلاقة التي تربط الفن بالعلوم كحقول معرفية.
 
تعقد الندوة في الساعة الخامسة والنصف من عصر يوم السبت المصادف 11 / 06 / 2016  في منطقة شيستا من العاصمة ستوكهولم وعلى قاعة    BLACKBOX   داخل المكتبة المركزية  الواقعة وسط السوق التجاري ( الكاليري ).
ملاحظة

أعزائنا، يأمل المنتدى الثقافي من حضراتكم تقديم المقترحات الخاصة بالحوار والنقاش التي ترغبون عقدها مستقبلا كحوارات ومحاور، وفي مواضيع ثقافية فنية أدبية علمية تاريخية، وأيضا مناسبات وشخصيات عامة نستطيع أن نضعها مستقبلا في برنامج المنتدى ، كذلك يهمنا جدا ويسعدنا أن نقدم للجمهور وزملائنا من  له القدرة والاستعداد على الخوض في غمار الطرح والنقاش.أو حتى اقتراح أسماء لتقديمها كمشاركة في بلورة حوار محدد.
  يسرنا ويسعدنا حضوركم




122

كارل ماركس في العراق الجزء الثالث عشر


شعر ماركس بالضيق وفضل الحوار الداخلي دون الاستمرار في الحديث مع هذا الشاب المسكين الذي من الجائز أن وضعه النفسي متوتر جدًا، ومشاكله لا حدود لها. فكر ماركس بأن من المناسب ألا يشغل نفسه بعيدًا عما هو فيه الآن، فمن الجائز أن يكون هؤلاء عصابة أخرى اختطفته من جماعة أبو بشير وهو الآن بضاعة متداولة بين أوباش لا أخلاق ولا ضمائر لديهم.
كان ماركس في وضع شعر معه وكأن حبالاً غليظة تحيط به وتطوّقه وتدفعه نحو بئر عميق. فهاهو وبعد أن تخلص من وضع الاختطاف عند مجموعة أبو بشير، لم يجد في ذلك مخرجًا لحالة الحزن التي خيمت على قلبه وكيانه، وكانت في حقيقتها امتدادًا لسلسلة من أحداث ربما يستطيع وضعها في إطارها العام ومسبباتها، فقد سيطرت عليه منذ تلك الساعة، عندما كانوا يهمون في الدخول إلى مدينة الناصرية وعند بوابتها الخارجية حين أكتشف وضع رفيق جبار المخادع. كانت الصور والأفكار تترى في خاطره مثل ومضات عجولة. فليس هو الشخص الذي يستطيع بعد كل تلك الهزات التخلص من التوتر. ربما كان ذلك يحدث معه سابقا، أما الآن فذلك يبدو عصيًا عليه. لا يستطيع إسقاط المسببات على الآخرين أو رميها على القدر ليتم تصريف انفعالاته وتشنجه، وما محاولته الفاشلة للحديث مع هذا الجندي غير واحدة من تلك. فقد حاول تشتيت توتره وانفعالاته رغبة في تمضية الوقت وبعثرة مشاعر القلق والتوتر. يتذكر الآن وهو يحاول جسديًا التماسك في مقعده مع ارتجاجات السيارة المؤذية. إنه دائما ما كان  يضع لنفسه خطة تقف في وجه طغيان الانفعالات لكي لا يلغي الواقع ومن ثم تنحسر لديه رؤية أفاق المستقبل. ما صادفه مع الرفيق جبار وصحبه وكذلك عند عصابة أبو بشير لم يكن غير مأزق في عقلانية الحياة، وما شاهده وتلمسه، كان عطلاً في ممكنات المنطق السوي وضربًا من الواقع المأزوم، حيث بدت الخيارات الإنسانية فيه خرافية وغبية حد اللعنة. حتى مع هذا العسكري المتطير المتشنج الجالس هنا ولكن روحه ذاهبة بعيدًا، فالواقع لا يمكن أن يكون عقلانيًا. ترى لماذا تجشم هذا العسكري عناء الدروس وأجتهد وتخرج ثم رمي هو ومستقبله مثل تلك الرمية الغبية بعيدًا عن خياراته واختصاصه العلمي، ليس هناك تبرير عقلي لهذا الذي حصل، وفي بحثنا عن مسببات هذه الوقائع غير المنطقية سوف نصطدم بقيم وأعراف كثيرة ومؤذية، وأولى تلك الملامح هو التخلف الذهني السائد والمسبب لكل تلك الإخفاقات والنكوص المجتمعي، أيضا ثمة أيادٍ أخرى تلعب أدوارًا فاعلة في هذا المضمار منها قهر السلطة والعشيرة والعائلة والأعراف والتقاليد وغير ذلك، جميعها يقف كموانع أمام أي رغبة في التغيير أو وضع الأمور في نصابها الصحيح. ومن نتائج ذلك زعزعة القيم والأخلاق والسلوك العام لتنعدم معها الحلول الايجابية، فيلجأ المرء حتى للخيارات غير المرغوبة عنده أو حتى المفروضة عليه ليواصل التزامه بوجوده كبشر، وهذا ما فعله هذا الجندي البائس في خيار انتمائه للسلك العسكري. ولكن هذا المنحى وكحدث جماعي يدفع للتغرب والانسلاخ والخيبة والسير في طرق وعرة وتسيد اللاعقلانية، وتظهر سوءة هذا في دورة الإنتاج المجتمعية ليعدم نضجها وتكاملها، ومن ثم يفضي لطغيان طابع أنتاج محدد مقصيًا قطاعات الإنتاج الأخرى عندها لن نجد غير اقتصاديات زائفة لا تجلب الرخاء للبلد وأهله ولا تستطيع تقديم أصلاح أو رقي وهذا ما يحدث في العراق اليوم.
ــ ها قد وصلنا تهيأ للنزول.
قالها العسكري منبها ماركس الذي كان سارحًا في البعيد يحادث نفسه.
ــ ألا تفك قيودي؟
ــ ما أكدر.. واجبي يتحدد ببقائك بهذا الشكل حتى يتم تسليمك لمركز الشرطة.
ــ وأين مركز الشرطة هذا؟
ــ أحنه كدامه الآن... هسه يجي السيد الضابط وهو يأخذك.
لم يكن في حوض السيارة غير نور خافت يضيء المكان، ولكن فتحة شباك صغير أعلى الباب الخلفي كان يخترقها الضياء، عرف ماركس من خلالها انبلاج نور الصباح. نهض من مكانه ولكن العسكري صرخ به أن لا يتحرك لحين مجيء الضابط. مضت دقائق ثقيلة من زمن لم يعد هناك من يستطيع حسابه، فبوصلته أضاعها ماركس منذ لحظة دخوله مطار العاصمة العراقية بغداد، وما كان ليعنيه أن يكون هدفًا لتوقيتات فرضت أو لم تفرض عليه فقد بات يتجنب فكرة مراقبة الوقت، فليس ثمة اجتماع مستعجل أو حاجة ملحة في هذا الزمن والمكان العجائبي غير المنضبط. ما الذي يمكن أن يفعله بعد أن اقترفت بحقه كل تلك القسوة. بشفاه يابسة تبسم ثم زمها وهز رأسه. كان حارسًا لبقرتين كانتا ترتجفان رعبًا حتى من نباح الكلاب، تأكد أنهما كانتا مسروقتين. حلم مرة بأنه أقتادهما نحو حقل واسع وعافهما ترعيان هناك، وجلس هو عند جذع شجرة يرقبهما ثم أخذته غفوة، فمضت البقرتان بعيدًا دون أن يلحظ ذلك، فكان عقابه على غفلته تلك حفلة تعذيب بالعصي الموجعة، رافقتها بهجة وفرح غامر من أبو بشير ومرتزقته الحقراء الموبوئين، وكأن ذلك يمنحهم انتعاشًا غريبًا بعد غنيمة دسمة، فأستيقظ فزعًا من حلمه. هذه اللحظة تذكر عصي أبو بشير فأقشعر بدنه وبعفوية صدر عنه صوت توجع.
ــ دفتحو الباب نعله على خيركم.
صرخ العسكري وهو يسحب رشفة قوية من سيجارته، فقد شعر بأن الوقت قد طال عليهم ولم يعد يحتمل الانتظار. أبواب حوض السيارة مغلقة ومفتاح أقفالها لدى الضابط وهنا تكمن المشكلة. ثم راح يتمتم بصوت خافت.
 ــ حتمًا الضابط أبن المشعول تلكاه كاعد هسه داخل مركز الشرطة يكمل أوراق الاستلام والتسليم، بس كاعد برهاوته يشرب استكان جاي، ويمكن يتريك مع ضابط المركز وعلى كيفه ويه المعاملة، وأنعل أبو الموجود بالسيارة ويضربهم طحيل.. شنو والله ضابط بالجيش العراقي يعني ملك أبن ملك أبن المهلوس.
ــ ما الذي تقوله؟
ــ متعوفني أنته بقهري.. تره والله أكوم وأبيس بيك وأطلع كل حر البقلبي.
ــ ماذا؟
صمت العسكري وراح في حواره مع سجائره التي يجد فيها خير رفيق ينقذه مما هو فيه.
مضى أكثر من نصف ساعة حين شعر ماركس بحركة مصراع باب السيارة الخارجي أعقبه فتح الباب وبزوغ نور نهار يحمل نسائم صباح مشرق. فتساءل ماركس هل حقيقة أنه قد تحرر أم تراها مرحلة أخرى من المرارة والعذاب سوف يواجهها هنا من جماعة أخرى أشد قسوة وعنف. نظر إلى مجموعة العسكر الذين تجمعوا أمام باب حوض السيارة وشعر بالتوجس والخوف وهو يراقب نظراتهم القاسية. وأحس بالإرباك وهو يسمع قهقهات يطلقها البعض من هؤلاء الواقفون أمام باب السيارة.
ــ لك هذا شنو الطويرني المهلوس؟
ــ خطية هذا شصاير بيه!!
ــ لا ياظلام.. شلاعبين بالرجال لعب.
ــ تعال خالي.. تعال أنزل.
رفع ماركس عجيزته بتثاقل فبدا وكأنه غير راغب بترك مكانه، فقد توجس شرًا من هؤلاء ووجد في طريقة استقبالهم له ما يوحي بكونهم من ذات طينة مجموعة أبو بشير وتوقع مستقبلاً زاخرًا بحفلات تعذيب لا نهاية لها.
ــ تعال خالي لتخاف، تعال.
تقدم ماركس إلى الأمام فتلقفته يد ساعدته على الهبوط من حوض السيارة وبعد وقوفه بين مجموعة العسكر التي أحاطته راح يتفحص وجوههم وفي داخله قرار بأن لن يستسلم بسهولة هذه المرة وعليه أن يرد لهم الصاع صاعين إن فكروا بإيذائه. تقدم أحدهم وأخذ بفك الحبل الذي كان يحيط بمعصمي ماركس. ثم سمعهم يتبادلون جمل التحايا والتوديع بعد أن أخذه أحدهم وأدخله إلى البناية.


123



كارل ماركس في العراق/ الجزء الثاني عشر

نهض كارل ماركس من نومه فزعًا على أصوات إطلاق نار كثيف دون توقف ودوي انفجارات شديدة قريبة من الدار. بدا كأن هناك اقتتال دامٍ بين جبهتي خصوم. كان صدى الاطلاقات والقذائف يتردد وسط الغرفة تكتمه جدرانها الكونكريتية فيضغط الصدى على أذني ماركس ويؤذيهما. كانت الظلمة حالكة لم يستطع معها أن يميز بسهولة شيئًا في الغرفة، وفجأة شعر باقتراب جسد أحدى البقرات منه وكأنها تريد أن يحميها من هجوم يستهدفها بالذات. اشتدت أصوات أطلاق الرصاص والانفجارات واقتربت من جدران الغرفة واختلطت أصوات بشرية عديدة ببعضها تصرخ بحدة، شتائم وسباب ونداءات وتهديد. لم يستطع ماركس أن يميز كل ذلك ولم يكن ليعلم شيئًا عما يحدث في الجوار. خمن وهو في عزلته الداكنة السواد بأن ما يحدث هو اقتتال شرس بين فريقين. قد يكون اقتتال بين هؤلاء الأوغاد، فالسلوك الجانح والعدوانية وبدائية التفكير والتناقض الظاهر في شخصياتهم ورغباتهم، كل ذلك يرجح اقتتالهم الداخلي. حالة التوتر الوجودي واضحة لديهم جميعًا. علاقاتهم مع أبو بشير وأيضًا فيما بينهم تبدو علاقات اضطهادية متوترة، ودائما تراهم في حالة نفسية تظهر على تصرفاتهم وفي عيونهم القلقة، وكأنهم على استعداد لخلق صراع أو معركة مع الأخر.
اشتدت وطأة الاقتتال وتزايدت معها أصوات أطلاقات الرصاص والانفجارات والضجيج والصراخ المبهم. فجأة شعر كارل ماركس بقوة اهتزاز باب الغرفة الحديدي. كانت هناك محاولات لفتحة أو خلعه دون جدوى. ثم فجأة دوى صوت رشقة رصاص باتجاه السلسلة الحديدية ليفتح الباب. سطعت حزمة أنوار سقطت عند جدار الغرفة المواجه للباب، بعد ذلك راحت أضواء مصابيح تتراقص داخل الغرفة رافقتها أطلاقات اخترقت الظلام فنثر اصطدامها شظايا من حجر الجدران وقع بعض منه فوق رأس ماركس وقريبة منه. دخل رجال مدججون بالسلاح شاهرين أسلحتهم ووقفوا جوار ماركس وكان أحدهم يصرخ بصوت عال.
ــ أبق مكانك لا تتحرك .. أرفع يديك.   
رفع ماركس يديه المكبلتين وأشار بهما نحو الرجال.
ــ منو أنت وشتسوي هنا.. ومن قيدك؟
ــ أنا مخطوف منذ أسابيع ..
ــ لا تتحرك من مكانك.
ــ ولكن من أنتم؟
ــ أحنه من الجيش العراقي ونبحث عن عصابات الخطف والجريمة في هذه البساتين. تعرف واحد منهم؟
ــ لا علم لي . أنا لست عراقيًا أنا ألماني.
ــ ألماني ...؟
ــ نعم ألماني الجنسية.
ــ ما أسمك؟
ــ كارل هاينريش ماركس.
ــ هل لديك أوراق ثبوتية؟
ــ أنها في حقيبتي التي أخذها مني أبو بشير.
ــ منو هذا أبو بشير؟
ــ هو رأس المجموعة التي خطفتني. وهو من يمتلك هذا البيت ويدير مجموعة الشباب التي ترتكب الجرائم.
ــ وفي أي شركة أو مؤسسة ألمانية كنت تعمل.. وكيف اختطفت؟
ــ أنا عالم آثار وأعمل لحسابي الخاص؟
ــ بيا منطقة خطفوك؟
ــ لا أعرف المنطقة.. كنت مع شخص أخر أسمه جبار خرجنا من الناصرية باتجاه بغداد حين أعترضتنا سيطرة عسكرية وهم من اختطفنا.
ــ ملازم سامي، هذا مو وكت تحقيق.. حتما هناك أشخاص آخرين سوف نعثر عليهم داخل هذه المناطق من البساتين.
ــ أوكي سيدي.. شباب.. أخذوه لسيارة الطوارئ، لا تفكوا قيوده وخلوه تحت المراقبة لحين تسليمه إلى الشرطة الاتحادية، خلي نائب ضابط طارق يدرج المعلومات عنه في تقرير المعركة مع باقي الموجودات.   
لم يكن كارل ماركس مصدقًا ما حدث، ففجأة تغير كل شيء وبدت الأمور تأخذ منحىً جديدًا لا يدري ما الذي يخفيه له القدر في المرحلة المقبلة. قبل صعوده إلى جوف العربة طلب من الضابط أن يجلبوا له حقيبته الجلدية الموجودة في غرفة أبو بشير كونها تحتوي على جميع وثائقه، جواز سفره وما يثبت شخصيته. دفع العسكري جسد ماركس داخل السيارة بعد ذلك أشار الضابط لأحد الجنود بالدخول إلى الغرفة والبحث عن الحقيبة، بعد قليل جاء العسكري بحقيبة صغيرة كالحة السواد.
ــ هاي هيه حقيبتك؟
ــ نعم هذه.
تحت نور المصباح اليدوي فتحها الضابط بحذر ومد يده وأخرج بضعة أوراق كتب فيها بخط مرتبك وبلغة غير العربية.
ــ هذه الأوراق كل محتويات الحقيبة... ماكو شي لاخ.
ــ جواز سفري هوياتي التعريفية.
ــ ما كو أي شي.
ــ أرجوك لعلهم وضعوها في مكان ما من الغرفة أو في المنضدة؟
ــ أوكي .. أبني جواد روح دور بالغرفة زين لتخلي مكان ما أدور بي.
لم تنقطع لعلعة الرصاص والانفلاقات وضجيج الأصوات والنداءات ولكنها ابتعدت في عمق البستان المجاور. كان ماركس يطالع المكان وكأنه يراه للمرة الأولى. ليس مثل المرات السابقة، فقد حاول هذه المرة التعرف على المكان بدقة فراح يجول بناظريه. ورغم ضوء القمر الشحيح وشبه الظلمة التي تلف المكان، يبدو منظر البستان القريب جميلا. نخيل وأشجار وبيت بعدة غرف، كانت الغرفة التي وضعوه فيها تأخذ الطرف الخلفي منه. أمام البيت ساقية ماء صغيرة تذهب إلى ما خلف الدار، يعلوها جسر خشبي صغير وهناك طريق ترابي يمتد بعيدًا نحو عمق البستان. لم يكن ضوء القمر الباهت بكاف لرؤية الكتل الصغيرة المرمية هنا وهناك ولكن فضوله كان يدفعه للتمعن بدقة بما حوله.
ــ سيدي ما لكيت كلشي.
ــ بكل مكان؟  بالجرارات بغيره؟
ــ والله سيدي بحوشت كلشي.
تنبه كارل ماركس لكلام العسكري فطلب معرفة ما دار بينهم فأخبره الضابط بأن الجندي لم يجد أي متعلقات له في الغرفة قائلا.
ــ يمكن أخذوها وياهم أو تلفوها.
ــ لقد أخبروني بأنهم أرسلوا صورة من جوازي إلى السفارة الألمانية لطلب الفدية.
ــ كلش زين تستطيع مراجعة السفارة الألمانية وتحصل على نسخة جديدة.
ــ نعم .. عسى أن ينفع ذلك.. هذا يحتاج إلى جهد ومثابرة وضربة حظ سحرية.
ــ ماذا؟
ــ لا شيء ..متى نذهب؟
ــ ننتظر انتهاء العملية وعودة الجميع، بعدها نحصي الموجود ونتائج العملية.. أعتقد أن هذا لا يستغرق وقتًا طويلا ربما بضع  ساعات أخرى.

***
في هذا الموقف الذي وقع فيه ماركس وبعد أن شعر بالحرج والضيق والخيبة من الذي حدث لأوراقه الشخصية ، وجد أن ليس أمامه غير خيار التوازن، التوازن بين الانفعال والعاطفة بين المنطق والعقل، فرغم القلق ومشاعر انعدام الأمن، فان المرء يحتاج الركون إلى العقلانية في التعامل مع الوقائع رغم الخسارة، فالإفراط بالانفعال وتأجيج العواطف في مثل هذه المواقف لن يجدي نفعا، وحتما سوف يؤدي إلى انهيار القدرة على التركيز، عندها تفلت من الإنسان الكثير من القوة والحقائق.
تنبه ماركس لحركة السيارة البطيئة ووجود العسكري الجالس بجانبه الذي يدخن سيجارته بشراهة دون أن يلاحظ عليه أي اهتمام لوجودهم جوار بعض، فالعسكري يبدو في عالم أخر، بعيد عن هذا المكان بل بعيد كليا حتى عن سلاحه. كان كمن يهيم في فضاء ويحلق مع دخان سيجارته ، وهذا ما يظهر عليه من خلال استنشاقه ونفثه لدخان سيجارته. كان يريد أن يلتهم من الدخان أكثر مما تستطيع أن تمنحه تلك السيجارة الصغيرة الضائعة بين أصابع كفه الغليظة الخشنة، ولذا يحاول إبقاء الدخان في صدره أطول وقت ممكن، ثم ينفثه بحدة يصاحبها صوت صفير غريب يأتي من صدر موجوع منخور.
ــ كم من الزمن وأنت في الخدمة العسكرية؟
تنبه العسكري واستدار لرؤية وجه ماركس القريب، فالضوء الشحيح في حوض السيارة لا يساعد على وضوح الصورة.
ــ وأنته شيخصك؟
ــ مجرد سؤال .. أراك ضجرًا.
ــ وأنت شعليك ضايج مشتعل سلفه سلفاي.. شنو راح ينفعك؟
ــ العفو مجرد سؤال إن كان ذلك يزعجك فأرجو المعذرة.
ــ قبل تلث تيام كملت عامي الخامس. وليش بالضبط تسأل مثل هذا السؤال؟
ــ شيء من الفضول فأنا أراك قلقًا مكتئبًا وربما أنت بعيد عن طبيعة مهنتك أو تعاني من مشاكل عائلية.. هل تحصل على راتب جيد؟
ــ الحمد لله، أطيك هويتي حتى ترتاح.
ــ هل أزعجك بأسئلتي.. أريد فقط أن نقضي الوقت وأنت شاب عراقي وأنا مهتم بأوضاع الشباب.
ــ يا شباب يمعود خليه سكته.. وحضرتك تريد هسه أتكضي وقتك براسي مو.... صحيح أنته إلماني؟
ــ نعم إلماني.
ــ لعد يحظي شجابك لهذا المهجوم؟
ــ ماذا تقصد؟
ــ يعني لماذا جئت إلى العراق؟
ــ أردت دراسة الآثار والأحداث.
ــ وبدل ما تدرس آثارنا خطفوك مو؟ يجوز جانو عصابة تبيع آثار ورادو يستفادون من خدماتك.
ــ نعم... ماذا تقول؟.
ــ ما كو شي.. وشنو راح تسوي بعد ذلك؟
ــ سوف أحاول العودة إلى بلادي.
ــ أي نعم هذا المنطق الصحيح.. مو جاي أتضيع وقتك وعمرك ويانه... كلي هذا منو زينك؟
ــ ماذا تقول؟
ــ منو حلق شعرك؟.. أملخك تملخ. 
ــ  أبو بشير وعصابته هم من فعل ذلك.
ــ الله يطيح حظهم على هذي الدكة العوجة.
ــ هل لديك تحصيل دراسي؟
ــ أنا خريج جامعة.
ــ خريج جامعة!
ــ نعم خريج كلية الإدارة واقتصاد.
ــ وهل من الموجب على خريجي الكليات الخدمة في الجيش.
ــ هذا كان قبل على عهد صدام .. أما الآن فلا.. لا تكليف وأنا من تطوع للخدمة في الجيش.
ــ ولمّ لم تعمل باختصاصك؟
ــ حاولت ألف مرة ودورت على وظيفة ودفعت فلوس لأجل ذلك، ولكن باءت محاولاتي جميعها بالفشل.. أو وصلتني محاولاتي لحالة من اليأس وحاولت بعدها الانتحار.
ــ الانتحار؟!
ــ نعم.. بعد ما كدرت أوفر الطعام لعائلتي.
سحب سيجارة أخرى وأشعلها من بقايا الأولى وراح ينفذ الدخان بعجالة وظهر عليه الحنق والضيق فاستدار معطيا ظهره لماركس.
ــ متخليني بقهري.. هسه أنته متكلي منين الله جابك عليه؟ من أحترك أبو الخلفني على هذي القسمة الكشرة بهذي الليلة السودة.



124



كارل ماركس في العراق/ الجزء الحادي عشر


قبل أن يهبط المساء ويرخي الليل سدوله، ولم تغب بعد حمرة الشمس من فوق تيجان النخيل، دفع الباب الحديدي بقوة وظهر أبو بشير ومجموعة من رجاله ليتوسط الغرفة صارخًا.
ــ قشمر حقير عميل، والله لأريك اليوم أنجوم الظهر.. تجذب على أبو بشير.. انته تعرف منو أبو بشير.. أني خبلت الأمريكان ودورياتهم وما خليتهم يكدرون يوصلون للمنطقة.. تويتهم توي، وهسه الحكومة تتوسل بيه.. آنه أبو بشير ما يتحرك نفر بالديرة إذا ما أعرف وين رايح ومنين جاي ..شدو  بالحبال زين لهذا الاطكع العميل.
ــ ما الذي حدث.. أليس من حقي أن أعرف..
ــ قشمر شنو حقك ليش أنته كاعد بالبرلمان لو بالكهوة.. شوف حقير.. اتصلت بالسفارة الألمانية جاوبني على التلفون واحد كلمته عنك وعن العرض إلي أخبرناهم بيه لمبادلتك، فراح يضحك ويستهزئ مني وأغلق التلفون بوجهي.. اتصلت مرة أخرى فرد علي نفس الشخص وحين سألته عن موضوعتك ضحك مرة أخرى وقال بالحرف الواحد صحيح هذا صاحب الصورة ألماني الجنسية، ولكن هذا الذي تحتجزوه يضحك عليكم وربما زور الجواز الذي بحوزته أو سرقه.. فالرجل الحقيقي صاحب الجواز هذا مات بلندن عام 1883 ودفن هناك.
 أفتهمت شنو صار؟  إنته مو نفس الموجود بالجواز، جاي تريد تلعب على العراقيين والحكومة، وهسه إنته هل مره جاي تلعب علينا بحجة عالم آثار.. وبهاي السنة راح تكشف للعالم شلون السومريين فتحو شط الناصرية وسوو بالشطرة مراجيح..وآشور بانيبال جان ياكل تبسي دجاج لو ثريد باكله بالدهن.. اليوم راح أراويك شلون تتعرف على نفسك وأطلعك صحيح طالع من الآثار، جنك نبوخذ نصر لو آورنمو مزوهر ومشعوط، اليوم راح أعرفك صدق على هذا صاحبك ماركس الميت والي إنته منتحل شخصيته.
ــ جيبو الخيزرانه ومكص جز الصوف ومكينة الحلاقة... بسرعة يله.. شاكر أنته وقاسم اربطوا هذا بالحبال زين وشدو ويه الهايشه الجبيرة.. يله..
تقدم المسلحان وأخذا الحبل وقيدا ماركس ثم  أحاطا وسطه بالحبال أيضًا، وسحباه بالقرب من البقرات ثم ربطا الحبل الملتف على جسده بلجام أحدى البقرات. وقف أبو بشير وبيده عصا خيزران وراح يضرب بها ماركس بكل ما أوتي من قوة، تلوى ماركس أثرها من الألم،ثم أشار أبو بشير لأحد المسلحين وناوله العصا، فانهال هذا بعصاه بضربات سريعة وقوية جعلت جسد ماركس يتلوى ويلتف على نفسه ثم ينتفض من شدة الألم.  تقدم أبو بشير وأخذ العصا من فتاه وراح يضرب بشدة ظهر وعجيزة البقرة فاندفعت راكضة نحو الزاوية الأخرى يلاحقها أبو بشير بعصاه. أخذت تدور في الغرفة وتسحب وراءها جسد ماركس ممرغة إياه بالروث والتراب. كان أبو بشير يمعن في إيجاعها بضرباته فتهرب وتخور في مساحة الغرفة الضيقة ليصطدم جسد ماركس بالجدران .تفجر الغضب عند كارل ماركس فراح في موجة من شتائم تختلط بها العربية والانكليزية والألمانية وبكل ما استطاع من تعابير كي يوصلها لأسماع هؤلاء. ولكن أبو بشير كان يوغل في تعذيبه، يضرب البقرة لتهرب منه ثم يوجه ضربات سريعة ومتتالية لماركس.
 رغم هذا الألم المضني دار في خلد ماركس لحظتها ما يحاول به تفسير ما يجري له. لم يكن يحمل من الذنوب الكثير ليغسلها على طريقة السيد المسيح بتحمل هذا العذاب والألم. ها هو بعد أن أمضى 47 عامًا مناضلاً لأجل الطبقات المسحوقة والفقراء تراه يرزح اليوم لتعذيب همجي من قبل شذاذ الآفاق دون أن يعرف سبب مقنع أو ما يبرر فعلهم هذا عدا كونهم هواة جرائم وقتل وسرقات. ما نوع الحقد الذي يحمله هؤلاء، كيف ارتقى عقلهم لمثل تلك البشاعة، ما العمق الروحي لهؤلاء؟ لماذا يمارسون الإذلال لغيرهم من البشر؟ لا شيء لهم في هذا العالم غير الشقاء وعبودية الجريمة. هذه العقوبة التي يتلظى بها الآن  تجعله يصر على أن الدافع المادي والمنافع المادية هي عقدة البشر المستحكمة في خيرها وشرها وهي بالذات من يستعبدهم ويتحكم في صيرورتهم.
حين توقفت البقرة شعر ماركس وكأن جميع عظامه قد هرست وتفكك جسده ولم يكن ليشعر بالقدرة على تحريك أعضاءه وانتابته حالة من الغثيان وأحس بالحاجة للتقيؤ، كتم أنفاسه ولكنه لم يحتمل كل ذلك الوجع والغثيان، فاندفع فجأة سائل اصفر من فمه وأنفه.
ــ شنو هذا أتكول شارب عرك ومطوخ فد نوب.
ــ هذا بشكل خلقتك ذاك اليوم.. لعبت نفسنا وكل ما جنت شاربه بيكين.
ــ غير جنت ضايج وماكل تمن وفوكاهه متعارك ويه المره.
ــ وروحه الخالك هذولة يشربون بطلين وما يبين عليهم .. الله حلله عليهم وحرمه علينه .. هم هاي قسمة وعدالة..ليش ربي ليش؟
ــ أي مو تريده تصير سفرتح حتى النسوان والرياجيل بالعراق يكومون يلعبون شناو بالشوارع .. متخليه مستوره وجوه رحمة ربك.
ــ عمي هذا أبو أشتعل.. أنخضت مصارين معدته وتريده ما يزوع.
صرخ أبو بشير بوجه الجميع موبخا
ــ كافي عاد.. كافي لغوة ..جيبوه... جيبوه يمي.. آني أعرف دواه لهذا الجاسوس القذر.
سحب جسد ماركس وقد تلطخت ملابسه ووجهه بالقيء والتراب وتمزق قميصه وما عاد هناك لون لملابسه غير لون التراب المخلوط بروث البقر. كان جسده مطوقًا بالكامل بالحبل الذي التف حول يديه وخصره فلم يعد يستطيع تحريكهما. أجلسوه أمام أبو بشير وكان يشعر بدوار يلف رأسه، ولم يعد يقوى على رؤية ما حوله بوضوح فكان يترنح إلى الخلف ثم الأمام. قبض أبو بشير على خصلة شعر من رأس ماركس الكثيف وراح يجزها بالمقص، انتزع كومة الشعر من الخلف وصولا إلى باقي الأماكن فظهرت خارطة مشوهة من بقع للشعر مبثوثة بعشوائية في رأسه. ثم استخدم أبو بشير ماكينة حلاقة صغيرة ليكمل الشوط ويقضي كليًا على شعر الرأس فظهر رأس ماركس خاليًا من الشعر سوى بقع تتناثر هنا وهناك. نادى أبو بشير على أحد مساعديه وطلب منه حلاقة لحية ماركس. قفز الشاب من مكانه فرح ثم بدأ يمارس عمله في غاية الخفة ولكن بمحاولات خبيثة لإيذاء ماركس فبدء وجه ماركس ينز دما من بعض الأماكن. استمر الشاب في عمله دون مبالاة لتوجع ماركس وصراخه، وحين انتهى قفز وكأنه نال جائزة على عمله وراح في موجة ضحك هستيري وهو يومي على ماركس، شاركه الآخرون الضحك.  طلب أبو بشير أن يأتي أحدهم بجردل ماء ويسكبه على رأس ماركس فجيء بجردل الماء من الساقية القريبة. بدأ أحدهم يصب الماء ببطء شديد فأخذ ماركس يهز رأسه محاولة منه لتلقي جميع أماكن رأسه بعض ما يسكب، ورغم أوجاعه شعر ببعض من الراحة.
 بطلب من أبو بشير تقدم أحد الرجال ليرخي الحبال عن جسد ماركس. لم يكن ماركس بقادر على تحريك جسده رغم تحرره من القيود فمال عفويًا وتمدد على الأرض محاول أن يسيطر على أعصابه ويأخذ حالة من الاسترخاء. نظر إلى سقف الغرفة وأغمض عينيه من شدة الإجهاد الذي أنهكه.
ــ عمي أبو بشير هذا شلونه .. طلع جنه عتوي مهلوس.
ــ كَبل جان أحله.. جان أيبين رجال أكابر  وهيبة، هسه صار أبرص أحمر جنه ديج هراتي، الأجانب  ولد المداس تكول أبد ما شايفين شمس.
ــ لا يابه هذا أيبين عليه ترف أبن نعمه.. أمه ما جانت أتخلي يشتغل..قابل بشكل حظي، عمري ثمن أسنين وأبويه سوالي جمبر جكاير وعلج.. ويوميه قبل لا أطلع عيطه وكفخة ومن ارجع مثلهن.
ــ  شعبالكم..هذولة الأجانب عدهم سبع أشكال مثل البزازين بسبع أرواح..
ــ ها شلونك عمي ماركس.. هذا التمرين الأول.. بعد كل يوم راح تأخذ تمرينين، واحد الصبح والثاني بالليل إلى أن تستوي.
ــ دفكو ياخة من هذا هسه، خلصونه، وخلي نشوف دربنه ويه ذيج السالفة مال الليل. خوب ما نسيتو؟
ــ لا عمي أبو بشير.. شلون ننسه.. يله بينه، يله.

لم يجب ماركس وفضل الصمت رغم ما كان يختزن صدره من شتائم ممكن أن يوجها لهؤلاء الحقراء، ولكنه فكر بقدرة هؤلاء على الإيذاء وطبيعتهم الوحشية. أحس بتعب شديد سلب منه كامل قواه، وما عاد يشعر بالقدرة على الجلوس، وبعض من أعضاءه ما عادت تقوى على الحركة. سمع السلسلة الحديدية وهي تسحب لتغلق الباب خلف هؤلاء ذوو السحنات القميئة. فكر في صورته الجديدة وكيف يكون مظهره بعدها، ليته يقف الآن أمام المرآة ليشاهد ما فعله هؤلاء السفلة بتلك اللحية والشعر اللذان حافظ عليهما منذ أكثر من أربعين عاما ،معهما كان يحلو له أن يكون متميزًا، معروفًا أمام الناس، محبيه، مناصريه، السائرين في طريق أفكاره، ليس سوى تلك اللحية والشعر غير علامة فارقة تجعلهم يعرفون أي طريق يختاروه ويواظبون السير عليه، تذكر ذلك البرجوازي المعتوه الذي عرض عليه مبلغ كبيرا لغرض حلاقتهما وكان يسميه رجل الغابة المتوحش، ترى ما مقدار الفرح والغبطة التي يصاب بها حين يراه على هذه الحالة. 
راح في تفكير عميق وكأنه في غيبوبة أو يمارس ضربًا من الطقس الصوفي، فقد بدت عيناه تدوران بسرعة في مآقيهما وكور جسده.  حاول أن يلملم دقائق ما حدث وما يترقب حدوثه، يا ترى هل يتحمل جسده التعذيب مرة أخرى، ليتهم يتعجلون في قراراتهم ويأخذونه جهة النهر وتنتهي هناك تلك المشاهد، لتختم الرصاصة القاتلة حياته ومعها الرغبات السادية لهؤلاء. هل أن وحشيتهم متأتية من بدائية نفسية؟  هل تتلبسهم في الكثير من الأوقات روح رجل الغاب البدائي، أم ترى أن ممارساتهم وليدة وضع مأزقي سببه بنية القهر التي يعيشونها، لذا فهم عدوانيون متوترون يفتقرون للعقلانية ولا يرغبون في الحوار المنطقي. ليس لهم رغبة بحوار إن لم  يجعلهم وفي جميع الاحتمالات منتصرين، فهم دائمًا يشعرون بالإحباط والإهمال، يصنعون لهم عالمًا متفردًا غير قابل للتهشيم حسب ما يعتقدون، وفي هذا الجو الملتبس تنشأ المصالح المشتركة بين أفراد يجدون في الاحتيال والعنف ما يضمن لهم حقهم أمام الآخرين، عالمهم أشبه ما يكون عالم حيوانات وسط الغابة. الآخر عندهم مهما كانت طبيعته هو الخصم الذي يهدد المصير ويريد الاستيلاء على الحقوق حتى وإن لم يبدر منه شيء.
أحس ماركس بعد جولة التعذيب القاسية وهذا الجهد والتعب الجسدي والفكري، بالنعاس يتسلل لعينيه فراح في نوم عميق.


125


كارل ماركس في العراق/ الجزء العاشر

فرات المحسن

رغم إن كارل ماركس قد أعتاد خلال الثلاث ليال الماضية على لسع الحشرات والرائحة القبيحة وأصوات الحيوانات، ولكن في هذه الليلة لم تغمض له عين فقد أبت أفكاره أن تتوقف عند محطة واحدة. راح يتساءل، يبحث ويتذكر بعض محطات من حياته، داهمه هاجس غريب جعله يتساءل عن الذي سوف يرثيه أو الأحرى من الذي يمشي في جنازته إن استطاعوا استرداد جسده الذي من الجائز أن يكون عن قريب وليمة طازجة لأسماك النهر الذي يهددونه به هؤلاء كل يوم.. تسيس بالشط، حاول تلفظها بشكلها الصحيح بعد أن أخبروه عن معناها اللئيم البشع، ولكنه لم يستطع مثلما وردت على ألسنتهم، أبناء العاهرات يستسهلون كل شيء.. تسيس بالشط.. يا لها من ميتة بشعة وجريمة قذرة.. الغريب أن مسؤولهم يتحدث عن دين وطهارة وخير في مواجهة الشر والكفر وإلالحاد والجواسيس وقرود وخنازير، وهو أقذر وألعن من براز بهيمة، فئران البيت الذي أسكنه في منطقة تشوكفارم الفقيرة شمال لندن، أنبل وأطهر من هؤلاء القتلة السراق. غضب الفقراء ضد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج يتحول عمليًا إلى الإطاحة بالقوانين الجائرة وفي نفس الوقت يهمش الدين فالدين عملية سحرية لتنويم الفقراء والعبيد. أما هؤلاء الذي يواجههم اليوم فهم لا يملكون جوع الفقراء ولا غضبهم، وبقناعة هازلة يوظفون الدين كغطاء لعوراتهم وإقناع أنفسهم والآخرين بحقهم على اقتراف الجرائم. الشخص الخبيث الفاسد يعتبر جميع الصفات البشرية خبيثة وفاسدة وهؤلاء من تلك العينات المتلبسة بتلك اللوثة. معادلة منصفة لهؤلاء، فكما يكون الإنسان في الدين محكومًا من قبل نتاج دماغه المعقد المتخلف، كذلك تتحكم فيه وسائل الإنتاج وهي نتاج يديه. ولكن شتان بين وعي هؤلاء وذلك الآخر الباعث للفطنة والمحرض على الخلاص والدافع للارتقاء، ولذا فأن الدافع الأساس للثقافة ليس الإيمان بل المنفعة المادية المباشرة أي العملية الاقتصادية. وأرى أن هؤلاء القوم توطنوا الجريمة دون سواها فأصبحت متن ثقافتهم وطريقهم للمنفعة المادية.
 كأنه يمسك النجوم بيديه ويرجها. يتذكر الآن هذا الوصف الذي أطلقه عليه صاحبه أنجلز . وصف أطربه حين سمعه، وربما جعله يتمسك بهذا الصديق حد التشابك الفكري والأخلاقي رغم تباينهما ووضعهما الطبقي. أن يأتي المديح من أحد الصناعيين الذين انسلخوا عن طبقتهم ليقترب من الطبقة العاملة ويبحث عن حلول لأجل تحررها ونيل حقوقها. كان يقول، إن هذا الرجل حين يرفع ذراعيه أراه وكأنه يمسك النجوم بيديه و يرجها. هل ما قاله رفيقي كان حقيقة أم ترى نهايتي قد عقدت في هذه الغرفة دون أن أمسك نجمًا واحدًا.
وهو في هذه الظلمة ووسط الروائح الكريهة والحشرات تطن في أذنيه، تخطر على باله رسالة والده التي بعثها له حين كان يدرس في بون، قال له يا ولدي أشعر وكأن مارد يسكن داخلك، لا أعرف هويته، هل هو ملاك أم تراه من ذلك النوع الذي تحدث عنه غوته في فاوست. بين مديح صاحبه ومقولة أبيه وبعد كل ذلك الزمن الذي أشتغل وكد فيه دفاعًا عن الفقراء والطبقة العاملة يجد نفسه في هذه الغرفة الملعونة، مقيدًا وسجينًا بيد أوغاد، وقد ترنح فكريًا واهتزت لديه قناعاته فبات يحمل ذات التساؤل الذي طرحه أبيه. ما طبيعة المارد الذي يسكن داخله؟
خالجته فكرة أن يطلب من سجانيه وليقل خاطفيه وهو التوصيف الأفضل والأدق، يطلب منهم حقيبته الجلدية ففيها بعض الأوراق والأقلام ربما يجد في ممارسته الكتابة شيء من سلوى أو تزجيه وقت أو حتى تدوين بعض الأفكار عن ما شاهده أو تعرض له في العراق. لم لا أكتب رسائل لمن لهم مكانة في قلبي، بعض من كانوا معي في نادي الشعر أو من جماعة نادي حانة ترير للمشروب، أو حتى من الهيغلين الشباب وبالذات صاحبي أدولف روتنبرغ، ولم لا أراسل رفيقي أنجلز، ولكن قبل كل هؤلاء زوجتي جيني، حبيبتي جيني. رسالتي لها تجعلني على قناعة بأن يوم خلاصي سوف يكون قريبًا. فقبل وفاتها دائما ما كانت تقول إنها تؤمن بي فكرًا وأني لقادر على تجاوز المحن والمصائب، وكنت أجد في قولها ذلك ونظراتها ما يطمئن قلبي ويجعله يستكين ويرتاح، أنظر في عينيها لأستمد قوتي، فلم لا أحاورها وأسمعها وجعي، أبعث لها رسالة، حتمًا سوف تصل لروحها وهي في رقدتها الأبدية داخل قبرها البارد، سوف أكتب لها وأبثها أشواقي ولوعتي.
 يا حبيبة قلبي ها أنا اكتب إليك ثانية لأنني وحيد ولأنني لا يخجلني الآن أن أحاورك في الخيال، دون أن تعرفي أو تسمعي شيئا ما، سوف أحاورك، أعرف إنك لا تستطيعين الرد عليّ. ولكني أراك أمامي الآن، أراك رغم عتمة المساء في هذه الغرفة الرطبة القذرة الموحشة، وحيد تتناهبني الأفكار وتحيط بي كومة ذئاب تتربص لقتلي. جيني الحبيبة أحملك الآن فوق يدي وأقبلك من الرأس حتى القدمين، وأركع أمامك، وأتنهد.. مادمت أحبك ... إنني في الحقيقة أحبك أكثر من حب المجنون عطيل رجل البندقية اللعين لزوجته ديدمونة. حبيبتي تذكرين كل تلك الأحداث التي عشناها سوية. مشوهو سمعتي وأعدائي ذوو ألسنة الثعابين، قد اتهموني مرة باني مؤهل لان أؤدي دور العاشق الأول في مسرح من الدرجة الثانية؟ ولكن هذا هو الواقع، ولو كان عند الأوغاد ذرة من مزاج المزاح لرسموا "علاقات الإنتاج والتبادل" في جانب، وفي الجانب الآخر رسموني وأنا عند قدميك، وكتبوا على قصاصة ورق، انظروا إلى هذه الصورة، ثم إلى الصورة الأخرى، غير أنهم أوغاد أغبياء، وسيظلون أغبياء أبد الآبدين. الفراق الآني جيد للتمييز بين الأشياء التي تتشابه أثناء الحضور، الزهيد واليومي يأخذ بالتنامي لدى مراقبته عن كثب. وهكذا الأمر مع العواطف. فالعواطف الكبيرة التي تأخذ عند قربها شكل عادات صغيرة تنمو وتأخذ حجمها الطبيعي ثانية بتأثير سحر الفراق، وهكذا هو حالي حبيبتي، يكفي أن تبتعدي فقط في المكان فأعلم أن الزمن قد خدمه مثلما تخدم الشمس والمطر النبات، أي للنمو. إن حبي إليك يبدو، على حقيقته، عملاقًا تركزت فيه كل طاقات فكري، وكل خواص قلبي، وإني لأحس ثانية بأنني رجل، لأنني أحس بالعواطف الكبيرة. ستبتسمين يا قلبي الحلو، وتتساءلين من أين لي فجأة كل هذه الفصاحة؟ ولكني لو استطعت أن أضم قلبك الناصع الحلو إلى قلبي لصمت وما تفوهت بكلمة، ولما كنت لا استطيع أن أقبلك..ولكن ...
عند تلك الكلمة توقف وارتبك ذهنه وسالت دمعة رقراقة فوق شيبة لحيته فمسد بيد مرتعشة شعرها المجعد الكثيف.
***
درج الصبح متسللاً عبر فتحات الجدار وشباك الباب العلوي الصغير. سمع ماركس ضجة خلف الباب رافقها نباح ملحاح لجوقة كلاب قرب جدار الغرفة، ثم سحبت السلسلة الحديدية وفتح الباب على مصراعيه ليدخل منه جسد بقرة ضخم ثم تبعته بقرة أخرى واندفعتا بهياج وارتباك باتجاه زاوية الغرفة البعيدة. تحامل ماركس على نفسه ودفع جسده رغم يديه المكبلتين ووقف محدقًا في هذا المنظر الغريب. كانت البقرتان تخوران وتلتصقان ببعض وكأنهما مرعوبتان تتوقعان اقتراب ساعة الذبح. دخل المسلحون يتضاحكون ويلوحون بأسلحتهم إلى أعلى.
ــ ها يويل .. جبنالك خطار حتى لتضوج.
لم يجبهم وإنما راح يرقب الحركات المرتبكة للبقرات. كانت واحدة منهما عجفاء صغيرة الجسد، ترتسم عظامها تحت جلد يابس مجعد والأخرى سمينة بعض الشيء وأكبر حجمًا.
ــ الهايشتين راح أنته أتداريهن بالأكل والماي وتراقبهن حتى ما يسون وكاحة.
ــ ماذا ..لا أعرف ما تتحدث عنه.
ــ شوف لك لتبيع كلاوات علينه وتسوي نفسك ما تفتهم عراقي.. أنتم أدزون واحد جاسوس لبلادنا بالخالي بلاش..إذا مو يحجي عراقي مضبط وبكل اللهجات.
ــ ثق بأني لا أفهم كلامكم.
ــ هاذتين البقرتين أنت مسؤول عنهم ولازمون توكلهمن يوميا وتشربهمن المايا.
راح جمع المسلحين في موجة من الضحك الهستيري.
ــ لك هاي شنو.. أيباه بلجي تعيده مرة لخ..فدوه داد أعد رجاءا.. هذا منو معلمك صدقه أندار لهذا اللسان الفالت.. لازمون توكلهمن وتشربهمن المايا. وينه عمي أبو بشير حتى يشبعك كفخات.. لازمون.. خوش عليك لازمون.
استمرت موجة الضحك والسخرية ولم تتوقف حتى عندما سأل ماركس عن طبيعة الطعام وعدم وجود جردل للماء.وفجأة صاح أحدهم وبسخرية أثارت موجة جديدة من الضحك.
ــ شنو يابه شنو.. جردل النوب شنو.. خوش عليك جردل.. هذا شنو ينوكل قلي لو شوي..
ــ يعني سطل للماء. أجاب أحدهم على تساؤل زميله.
ــ لك داد اليوم أنته اتبدع.. لعد يحظي ليش جريست بسادس أبتدائي أربع سنوات صباحي ومسائي.
ــ ليش جان بيدي.. إذا دائما أسئلة الانكليزي تجي شبحية..
ــ أشتغل التمضرط والتمسلت... شبحبة.. ما يكول آني دجه دبنك.. شبحبة؟
طلب أحدهم ويظهر أنه يترأسهم بجلب كومة حشائش وكيس من الخبز اليابس فجيء بما طلب ووضع الأكياس جوار كارل ماركس.
ــ هاي للهوش، ولتطيهن كل العلف، شويه شويه.. زين، ومو تشاركهن بأكل الخبز.

صمت ماركس وطالع وجه هؤلاء متأملاً سحناتهم الداكنة التي لوحتها الشمس وأياديهم المعروقة الخشنة.أجسادهم توحي بالصلابة والقوة وحيوية الشباب.
ــ ألديكم غير هذا العمل؟
ــ شنو تقصد؟
ــ أعني ألا تعملون في أعمال غير خطف الناس والتهديد بالسلاح أو القتل.
ــ لا بابا هاي شغلتنه مال الخطف هواية.. فقط للونسه مو شغل.. نتونس بيك وبأمثالك.. أحنه عدنه أشغال رسمية قبل كل شي.
ــ إلا تخجلون من أنفسكم.. من عوائلكم.. إلا تمتلكون ضميرًا يؤنبكم؟
ــ  إنجب لك تره أترس حلكك دخان وأنعل أبوك لابو كل الألمان لا بو حته ميركل وهتلر. هسه أسويك منخل.
وهو يصرخ بوجه ماركس اتخذ وضع التهيؤ وسحب أقسام بندقيته ووجهها نحو ماركس ولكن مسؤولهم أزاح فوهة البندقية جانبًا وقال له بصوت ناهٍ.
ــ يمعود لتسوينه مشاكل ويه أبو بشير.. تره وربك إيأذينا.. أبو بشير متأمل خوش حصة من هذا الأرول.. جيبوله سطلة الماي وخلي نطلع.. يالله يالربع.. كلكم بره. أبو بشير على جيه بلجي عنده أخبار زينه عن هذا الأرول أبو كفشه.


126
محاولة اغتيالي

محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز /الجزء 9

التقاه : فرات المحسن
محاولة اغتيالي
بعد انتهاء لقاءاتي الأربعة مع الرئيس البكر طلب مني أن أتوجه إلى البصرة لزيارة ميناء البكر لمشاهدة الإنجاز الكبير للقيادة العراقية، كذلك أخبرني بأنهم أعدو لي سفرة إلى شمال العراق، وقال أنك سوف تتمتع وعائلتك بزيارة المناطق السياحية وخاصة مصيف صلاح الدين الجميل، وهناك سوف تلتقي بقائد الوحدات العسكرية التي من مهامها محاربة العصاة ( يقصد البيشمركة الأكراد) .فأجبته بأن لا رغبة لي بمثل هذا اللقاء ولا أجده ضروريا.فقال الرئيس البكر، بالعكس إن ذلك مهم لك ويجب أن يكون ضمن ما تخبر به القيادة السوفيتية عن طبيعة الأحداث في العراقي.
في اليوم التالي ذهبت بالطائرة إلى مدينة البصرة ونقلت باليخت إلى ميناء البكر. كان يختا جميلا فخما قيل لي بأنه من ممتلكات الملك فيصل الثاني .استقبلت هناك استقبالا بديعا وطيبا من قبل المسؤولين الإداريين والمهندسين والعمال. أطلعت على أعمال الميناء وكيف تتم عمليات نقل النفط وتحميله، بعدها دعوت إلى جلسة مع كادر العمل تناولنا فيها الحلويات والمرطبات. كان ميناء البكر وهو لسان بحري يمتد في عمق شمال الخليج مكتمل بمنشآته وكادر العمل فيه يبدو عليهم الإرهاق والتعب ولكنهم كانوا مخلصين وجادين في عملهم. وبسبب بعد الميناء عن المدينة وطبيعة المناخ هناك، فالعاملين فيه كانت لهم مطالب كثيرة دونوها في ورقة، حملوني مسؤولية إيصالها إلى الرئيس البكر كوني ضيفه القادم من الاتحاد السوفيتي، حسب ما سمعوه عني. وكانت مطالبهم تتعلق بظروف حياتهم الاجتماعية وأوضاعهم المعيشية .استغرقت رحلتي لبضعة ساعات عدت بعدها إلى بغداد فوجدت هناك من يخبرني بأن الغد سوف يكون موعد سفرنا إلى شمال العراق.
طلبت من الرئيس البكر أن أزور الموصل لأقابل والدتي ، كوني لم التقيها منذ حوالي
العشرين عاماً، دهش الرئيس من طلبي هذا وقال، كيف يتم لك ذلك، فهو لا يستطيع ضمان سلامتي لو ذهبت هناك، كوني مشارك في أحداث الموصل بعد فشل حركة الشواف. فقلت له كيف تراني أزور بلدي بعد كل تلك السنوات، دون أن أرى والدتي. فقال الرئيس فكر جيدا بالآمر فنحن بلد تحكمه العادات والتقاليد العشائرية وأنا لا استطيع الوقوف بالضد منها أو الاعتراض عليها، وعندها سوف تتعرض للانتقام من شخصيات تطالب بدية الذي حدث، وتسعى لتصفيتك جسديا.ولكن استطيع أن أمر بجلب والدتك إلى بغداد لتلتقي بها. ولكني تمسكت برأي وطلبت منه أن يلبي طلبي بزيارة مدينتي والالتقاء بوالدتي، فأخبرني بأنه سوف يدرس طلبي هذا ويعطيني غدا جوابا. في اليوم التالي أخبرني بموافقته وقال أنه أتصل بالمسؤولين في الموصل وطلب منهم تأمين الحماية لي ولعائلتي .
في مطار الموصل استقبلني مسؤول منظمة الموصل لحزب البعث مع مجموعة من المسؤولين المحليين، وحال هبوطي من الطائرة تقدم نحوي المسؤول الحزبي وبادرني القول ، خليل إلا تذكرني ؟ فأجبته أسف جدا لا أتذكرك. فقال أنسيت كيف ضربتني حين كنت معتقلا لديكم في أحداث الموصل. لم أجبه وساد بيننا بعدها الصمت قطعه هو قائلا لننسى ذلك فأنت ضيفنا وضيف رسمي للعراق وللرئيس البكر وهو من وجهنا لتأمين حمايتك وتنظيم لقاء بينك ووالدتك. بعد ذلك تم نقلي إلى فندق يقع على ساحل نهر دجلة في الضفة اليسرى من مدينة الموصل. ثم أمنوا لي تحت حراسة مشددة زيارة لبيت العائلة المتواضع وهناك التقيت والدتي التي كانت مرعوبة ولذا كانت جملتها الأولى والتي أسرتني بها هامسة . أبني لا تثق بهؤلاء أنهم مجرمون ويستطيعون الغدر بك. ولم تدم زيارتي إلى مدينة الموصل غير أقل من 24 ساعة سافرت منها إلى اربيل ثم انتقلنا إلى مصيف صلاح الدين، فوصلنا هناك عصرا ، وبتنا في الفندق.
صباح اليوم التالي أخبروني بأني مدعو مساءا لوجبة عشاء في مدينة أربيل وبحضور المحافظ ومسؤول المنظمة الحزبية وغيرهم من المسؤولين الحكوميين والحزبيين، وعلينا أن نكون هناك عند الساعة الخامسة. وأبلغوا مرافقي بهذا الموعد وعليه تجهيز السيارة للسفر إلى أربيل. بعد ساعات جاءني المرافق وأخبرني بأنه أستلم سيارة أخرى غير التي نتنقل بها فسألته عن السبب في إعطاءه سيارة أخرى، فأخبرني بأنه سوف يكون في هذه السيارة والسيارة الأولى تفرغ لي والعائلة، وانه يلحق بنا بسيارته الجديدة. عند ذلك قالت له طفلتي ورجته أن يكون معنا في نفس السيارة فأجابها بأنه مكلف بحمايتنا وفي سيارة سوف تتبعنا .
خرجنا من صلاح الدين باتجاه اربيل وكنت مع زوجتي وطفلتي في سيارة بقيادة سائق، وكان مرافقي خلفنا في سيارة أخرى. عند منتصف الطريق نبهنا المرافق من خلال أشارات بضوء المصابيح بأن نتوقف فتوقفنا، فسألته عن الذي حدث فأخبرني بأن مسؤول منظمة أربيل الحزبية والذي من المفترض أن يكون من ضمن الأشخاص الذين سوف يستقبلونا في أربيل ، قد شاهده في سيارته وهي متجه نحو صلاح الدين ولا يرى سببا لذلك. فقلت له هل
علينا العودة إلى صلاح الدين فقال المرافق كلا بل علينا الاستمرار في طريقنا إلى أربيل. بعد مسير ليس بالقليل وعند منعطف حاد وضيق ويطل على وادي عميق أنفجر أطار السيارة الأمامي ثم أعقبه انفجار أطار أخر . كان السائق ذكيا وقويا ولحسن الحظ انحدرت السيارة نحو حفرة صغيرة كانت عند حافة الطريق وتوقفت هناك ، كان منظر الوادي العميق مفزعا وشعرنا بقرب سقوط السيارة لولا تلك الحفرة التي علقت بها الإطارات وأمسكت هيكل السيارة، ووجدت بأنا كنا على مقربة من موت محقق.كانت مشاعر الخوف والرعب تجتاحني وزوجتي وحتى طفلتي التي تمسكت بحضن أمها وتمثل الرعب على وجهها الصغير. جاء مرافقنا وفتح باب السيارة الخلفي لنخرج من خلاله، وعند تلك الدقائق التي مرت برعب وخوف جاءت ثلاث سيارات هبط منها بعض الرجال وهم يرددون الترحاب والتهاني بسلامتنا . دهشت من سرعة وتوقيت مجيء هؤلاء وكيف وصلوا بهذه السرعة، وبعدها أقلونا بسياراتهم إلى أربيل، وتركنا سيارتنا العالقة في الحفرة. وحين دخلنا الفندق جاء خلفنا مسؤول المنظمة الحزبية ورحب بنا وهنئنا على سلامتنا من الحادث، فتبادلت النظر مع مرافقي واستغربنا طبيعة ما حدث بعد أن كان هذا المسؤول قد اجتازنا عند منتصف الطريق ذاهب نحو صلاح الدين، وكيف عاد أدراجه بتلك السرعة الغريبة. بعد تناولنا العشاء وعودتنا إلى الفندق استطعت الاتصال بالسيد غفوروف فدهشت حين استفسر مني مباشرة عن طبيعة الحادث وهل جميعنا بخير، وأخبرني بأن خبر الحادث قد وصل السلطات السوفيتية عن طريق السفارة العراقية، التي روجت بأني وعائلتي قد قتلنا في حادث على طريق أربيل، فأجبته بأننا فعلا نجونا من حادث الكثير مما فيه يبعث على الريبة. بعد ذلك قمت بكتابة رسالة وجهتها إلى الرئيس البكر وصفت فيها الحادث وبينت له الانطباع، بأن ما حدث لم يكن شيئا عابرا ولو كان حصل ما كان يراد لنا، فسوف يتحمل وحده نتائجه أمام السلطات السوفيتية، لسبب وجيه كونه صاحب الدعوة وليس شخص آخر، وسلمت الرسالة إلى المرافق وطلبت منه إيصالها إلى الرئيس البكر فوعدني بتسليمها إلى طارق حمد العبد الله.
وعند عودتي إلى موسكو أخبرني السيد غفوروف بأن مصدر معلوماتهم عن الحادثة والإدعاء بمقتلنا كان السفارة العراقية وظهر وكأنهم كانوا على يقين بنجاح المحاولة . وكان هذا دليلا قاطعا على إن الحادث كان مدبرا ومن هذا يمكن القول بأنه ليس من المعقول الوثوق بالبعثيين مهما كانت طبيعة العلاقة معهم والتعهدات التي يقدمونها. وكانت لدينا قناعة كاملة بأن هناك عدة كتل وعديد من الرجال في صفوف حزب البعث يعملون بمنهجية وروحية التآمر ضد جميع من يخالفهم الرأي والمعتقد، وهؤلاء يعملون بشكل منظم، للطعن بأية علاقة أو موضوعة يعدونها لا تخدم مصالحهم، وأعتقد بأن ما حدث لنا كان من إعداد وترتيب جماعة جهاز حنين التابع لصدام حسين

    
   

127
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز /الجزء 8

التقاه : فرات المحسن



محاولات اغتيال عبد الحليم خدام



 

في لقائي مع الرئيس البكر كنت أحمل دفتر ملاحظات أخرجته ورحت أدون بعض الكلمات والجمل في الوقت الذي كان يتحدث معي. فجأة توقف وسألني  عن الذي أفعله، فأجبته بأني أسجل بعض الملاحظات  والمعلومات عن حديثنا. فقال أترك ذلك الآن، فأنك لن تستطيع اللحاق وتدوين كل شيء وعليك أن تفعل هذا حين تعود إلى السكن، ثم طلب مني أن أريه ما دونت، فناولته الدفتر فأبتسم وهو يطالع الحروف والعلامات المسجلة من مثل أـ س ،ن غ س ، فدهش البكر وبادرني بالسؤال عن معنى حرفي أ س فأخبرته بأن المقصود هو الاتحاد السوفيتي وأن غ يعني غفوروف وهكذا ، فقال وهل تستطيع أن تفكك رموز كل تلك الحروف، فأجبته سيدي الرئيس هذه هي مهنتي وأخبرته بأني أحتفظ بتفاصيل الحديث بين السطور والرموز والذاكرة وسوف أقوم بإعادة كتابة كل ذلك حين عودتي إلى موسكو. وقد كتبت تقريرا عن لقاءاتي مع الرئيس البكر وغيره من المسؤولين العراقيين بما يقارب 320  ورقة قدمتها إلى معهد الاستشراق وطلبت منهم أعادتها لي أو نسخة مطبوعة عنها، ورغم وعودهم لي فأنهم حجبوها لصالحهم ولم يرجعوها وأيضا لم استطع الحصول على نسخة منها.
من المواضيع التي كان علي إثارتها مع الرئيس البكر والحصول منه  على إجابات شافية عنها حسب طلب السيد غفوروف،هي المحاولات المتكررة لاغتيال عبد الحليم خدام الوزير في الحكومة السورية وعضو القيادة القطرية والقومية للجناح السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي، ولم يكن الغرض من ذلك البحث في طبيعة العلاقة بين الطرفين، وكذلك ليس استيضاحا عن طبيعة تلك المحاولات، بقدر ما كان الغرض من السؤال هو التيقن واثبات صحة القيام بتلك المحاولات ،لذا وجهت له سؤالا مباشرا عن أسباب إلحاح القيادة العراقية على اغتيال عضو القيادة السورية عبد الحليم خدام وهو بعثي مثلكم. فأجابني البكر دون تردد بأنهم سوف يستمرون في المحاولات لحين التخلص منه والمرة الثالثة قادمة وستكون فيها نهايته. فعبد الحليم خدام رجل مرتشي ونحن بالذات من قدم له الرشوة وتقبلها بدونية. فأثناء المفاوضات بيننا مع الوفد السوري بقيادة خدام حول عوائد خط أنابيب النفط عبر الأراضي السورية إلى البحر الأبيض المتوسط ، طرح الوفد السوري المفاوض شروطا تعجيزية وبالذات في مسألة الرسوم المالية لعبور الخط، وقد قدمنا لهم الكثير من التنازلات ولكنهم كانوا يذهبون بعيدا في طلباتهم الابتزازية، وظهر وكأنهم ساعون للاستحواذ والحصول على مبالغ كبيرة، وكأن النفط المار عبر الأنابيب من حصتهم وهم أصحابه وليس العراق. وفي وقتها أرسلنا السيد عامر عبد الله وأشخاص آخرين إلى سوريا كوفد في محاولة لتليين موقف الجانب السوري وإقناع عبد الحليم خدام بالتقليل من حدة طروحاتهم وعلو سقف مطالبهم، ولكن الوفد عاد إلى بغداد دون أن يحقق نتيجة. عند ذلك اجتمعنا كقيادة وفكرنا بأن نقدم لعبد الحليم خدام رشوة حين يأتي إلى بغداد في جولة المفاوضات القادمة، وهذا ما حدث فعلا، حيث وضعنا في غرفته وعلى سرير نومه في الفندق حقيبة مليئة بالدولارات، وحسب ما صورته الكاميرات فقد دخل وشاهد الحقيبة وفتحها ثم أغلقها ووضعها جانبا.وفي اليوم التالي وعند ذهابه إلى المطار عائدا إلى سوريا  كان يحمل بيده الحقيبة ذاتها وصعد إلى الطائرة. هذا الذي يدعي انتمائه لحزب البعث، ولكنه يقبل الرشوة فهو على استعداد لآن يأخذها من إسرائيل وكذلك القوى الامبريالية . ولهذا قررنا أن يقتل وقمنا بمحاولتين لاغتياله وكانت الأخيرة في بيروت حيث حاولت مجموعتنا اغتياله ولكن القدر أنقذه، فقد كان هناك رجال يقودون دراجات نارية أطلقوا على موكبه الرصاص بكثافة ولكنه فلت من الموت بأعجوبة.

اللقاء بوزير الثقافة طارق عزيز


 

التقيت الوزير طارق عزيزة للمرة الأولى في موسكو، وكان اللقاء بتكليف من السيد غفوروف مدير معهد الاستشراق. حضر السيد طارق عزيز إلى موسكو بصفة مفاوض باسم القيادة القطرية لحزب البعث والحكومة العراقية، وكان وقتها وزيرا للثقافة. في ذلك اللقاء حملت شيئا محددا يجب على السيد طارق عزيز سماعه، قبل أن يخوض غمار الحديث حوله مع القيادة السوفيتية. اتصلت بالسفارة العراقية وبالسفير السيد صالح مهدي عماش وطلبت مقابلة الوزير طارق عزيز. ودون أبطاء حصلت من سكرتير الوزير على موعد في الثانية عشر ظهرا في دار الضيافة الرسمي وهو سكن الضيف العراقي. قبل الموعد كنت جالسا في دار الضيافة الرسمي، وكان هناك بعض أعضاء الوفد المرافق للوزير. كان الجميع مشغولا بأحاديث جانبية . سمعت أحدهم يتحدث عن رغبة الوزير عزيز بشراء جهازي تلفزيون ملون وهي أجهزة ظهرت حديثا. رن جهاز الهاتف، أخبرني السكرتير أثره بأن السيد الوزير سوف يتأخر قليلا بالمجيء، ثم ظهر نائب الملحق العسكري السيد فاضل البراك ليسألني بعد التحية عن سبب حضوري إلى دار الضيافة، فأخبرته برغبتي مقابلة الوزير عزيز. بعد ذلك استمعت لحديث دار بين فاضل البراك وسكرتير الوزير حول موضوعة نشرت في أحدى الصحف، ضج جميع الجلوس بالضحك بعد أن سمعوا بمحتوى الموضوعة.عند تلك اللحظة دخل الوزير عزيز فتساءل عن سبب الضحك هذا فاخبره السكرتير بأن هناك أحد الانكليز وضع كرسي في ساحة الطرف الأغر وسط لندن ورفع لافته كتب عليها، لن أغادر هذا المكان أن لم تعلن السيدة تتاشر استقالتها، ضحك الوزير وقال مباشرة، على هذا الرجل أن يأتي إلى بغداد، فضحك الجميع. كنت انظر للوزير وأراقب حركته وحديثة ثم وجدته يلتفت نحوي حين أخبره السكرتير بوجودي وسبب حضوري والجهة التي أمثلها، عندها دعاني الوزير للدخول معه إلى غرفة جانبية وسألني عن الذي أريد الحديث حوله، فأخبرته بأني أعمل في معهد الاستشراق السوفيتي ومرسل من قبل رئيس المعهد السيد غفوروف  وهو يود أخبارك بأن لا حاجة لكم لطرح موضوعة طلب الغواصات على الجانب السوفيتي، فتقديمكم لمثل هذا الطلب سوف يواجه بالرفض القاطع، ذهل الوزير عزيز وقال، لا أريد أن أناقش الأمر معك ولكني لا أعرف ما دوافع السوفييت من ذلك، ففي الوقت الذي يملك الشاه الإيراني غواصتين في الخليج العربي فأن مثل هذا لا يدخل في حسابات السوفييت عن سباق التسلح والإخلال بالتوازنات ورفع وتيرة التسلح في الخليج، وعندما يطلب العراق غواصات تثار كل تلك المسائل في وجهه، أمريكا وحلفاؤها يزودون إيران بمختلف الأسلحة ودون قيود ، وأصدقاؤنا السوفييت يتهيبون من سباق التسلح وتصدع الأمن في المنطقة، أي منطق هذا، هل تستطيع أن تجيبني على ذلك. فأخبرته بأني موظف مكلف بنقل المعلومة ولست خبيرا عسكريا وأيضا غير قادر أو مخول بمناقشة أية موضوعة ، وحسب علمي فأن وزارة الدفاع وليس فقط القيادة السياسية غير موافقة على طلبكم ورغبتكم تلك.
دخل السكرتير وأخبر الوزير  بجاهزية مائدة الطعام فدعاني الوزير لتناول الطعام معهم فذهبنا وجلسنا حول المائدة وجلس معنا فاضل البراك والبعض من الموظفين ودار حديث عام،كان منه عن طبيعة وأعمال معهد الاستشراق والحياة في موسكو ولم نتطرق لموضوعة الغواصات. بعد أكمالنا وجبة الغداء طلبت من الوزير السماح لي بالذهاب فقال لي ، قبل أن تذهب يجب أن أقول لك بأني أستغرب جدا من هذه المعلومة التي بلغتني بها، ودهشتي كبيرة أيضا للسبب الذي جعلهم يكلفونك بالذات أخباري بموقفهم هذا . فأجبته باني موظف وجزء من مؤسسة سوفيتية، وأكلف بمهام حالي حال باقي الموظفين، أما لماذا كلفوني شخصيا بهذا فلا علم لي به غير ما أخبرتك عنه.
ولكن وبعد ساعات حصلت على معلومة بان الوزير عزيز طرح الطلب على القيادة السوفيتية خلال لقاءه بالرفيق برجينيف بوجود وزير الدفاع  كريشكو، وعندها طلب برجينيف من الوزير كريشكو الحديث مع الوزير طارق بما يخص الطلب ومثلما كان متوقعا فقد انصب حديث الجانب السوفيتي حول عدم الرغبة في سباق التسلح ومهام الحفاظ على التوازنات وأبعاد شبح النزاعات. ولكن مهام تسليح الجيش العراقي بباقي أنواع الأسلحة نال موافقة السوفييت ورضا الجانب العراقي.   

أما لقائي الثاني بالسيد طارق عزيز فقد جاء وفق حيثيات ترؤسي للوفد السوفيتي والعلاقة التي بنيت على أسس الحوار والإعداد  لمهرجان الفارابي. ففي لقائي مع الرئيس البكر تطرقنا للحديث عن مهرجان الفارابي وهي المهمة التي قادتني إلى بغداد، فأخبرني الرئيس البكر بأنه قد كلف وزير الثقافة طارق عزيز بأن يكون مسؤولا عن ملف المهرجان في الجانب العراقي لذا من الموجب أن يلتقي بالوفد السوفيتي ويعد التحضيرات للمهرجان. ولهذا السبب أخبرني الرئيس البكر بأن علي مقابلة الوزير طارق عزيز. ذهبت في اليوم التالي إلى وزارة الثقافة والتقيت بالوزير وكان لقاءا متشنجا بعض الشيء ولم اشعر بالراحة وأنا أتحدث معه، فقد واجهني مباشرة ودون مقدمات قائلا : خليل لدي سؤال لك .وقبلها عليك أن تعرف بأننا والاتحاد السوفيتي على علاقة قوية، وهنالك قنوات دبلوماسية كثيرة أن كانت من قبل وزارتنا أو وزارة الخارجية أو غيرها، ولدينا سفارة هناك ولهم مثلها في بغداد وكل شيء يدار عبر تلك القنوات دون شوائب وبأبواب مشرعة، ولكني للمرة الثانية أستغرب من دوافع السوفييت بتكليفك شخصيا لمهام من صلب عمل الدبلوماسية وأن تكون اليوم ممثلا وحيدا لوفدهم المعني بالإعداد لمهرجان الفارابي وبعيدا عن جميع تلك القنوات الدبلوماسية. وأنا أريد أن اعرف ما هي الصفة الرسمية التي جعلتهم يكلفونك بالمهمة دون غيرك وتأتي لتتحدث وتتفاوض باسمهم مع أعلى السلطات في العراق.
كانت إجابتي مثلما السابق ودائما تؤكد كوني موظفا في معهد الاستشراق وهذا المعهد تكفل بأن يأخذ على عاتقه التحضير والأعداد لمهرجان الفارابي، وأنا منسب ومخول من قبل المعهد لأكون مفاوضا ومنسقا مع الجهات العراقية لغرض التهيئة والأعداد للمهرجان. ولكن الوزير طارق عزيز قال وبشيء من الحدة ، بأنه ينظر للأمر بغير تلك الصيغة، ورأيه دون مواربة بأني ودون ريب عميل للسوفيت ليس إلا.وهو على خلاف تام مع رأي الرئيس البكر حولي وأيضا في طريقة التعامل معي. ففي اعتقاده بأن الوضعية التي ترتب عليها قدومي إلى بغداد وطبيعة الوفد الذي اختصر بشخصي وعائلتي فقط، وما حملته من أسئلة سياسية أردت منها الحصول على أجوبة ومعلومات لصالح الإدارة السياسية السوفيتية ،كل ذلك لا يحتمل غير تأويلا واحدا وهو ما أخبرتك به.
أستمر حديثنا عن التحضيرات لمهرجان الفارابي وطلبت من الوزير أن يكون هناك وفدا لجمهورية العراق، ليشارك في الإعداد والتهيئة للمهرجان، على أن يكون حاضرا في موسكو في اقرب فرصة، فأخبرني بأنه سوف يؤلف هذا الوفد ويرسله إلى موسكو، وفعلا وفي اليوم الثاني عرفت بأنه تم تأليف الوفد، وبعد عودتي ومضي بضعة أيام جاء الوفد إلى موسكو وكان مؤلفا من السيد محمد جميل شلش وهو شاعر ومدير عام في وزارة الثقافة والسيد الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي . 
حين لقائي في اليوم التالي بالرئيس البكر سألني إن كنت التقيت بالوزير طارق عزيز، فأجبته بنعم وحدثته عن الذي دار بيننا من حديث . وشعرت بأن من المناسب أن أثير الأمر مع الرئيس البكر، فسألته عن رأيه بما اتهمني به طارق عزيز. فراح الرئيس يحدثني عن شخصية طارق عزيز وكيف وصل إلى هذا الموقع المهم قائلا، بأن طارق عزيز وفي بداية ثورة 17 تموز كان يود وبإلحاح أن يُقبل كمراسل لجريدة الثورة في العاصمة اللبنانية بيروت، ولم يكن هناك أجماع في القيادة على تكليفه بتلك المهمة. في وقتها كانت بينه وبين صدام حسين علاقة متوترة بل متشنجة دائما. وكان صدام وحين يذكر طارق عزيز، يطلق عليه تسمية أبو ريشة، وكان هذا تلميحا لكون عزيز مسيحي من طائفة الكلدان ومن منطقة تلكيف، وهذا يعني لدى صدام بأن عزيز من بقايا جيش الليفي الذي شكله المستعمر البريطاني وكان هذا الجيش يضع على غطاء الرأس ريشة ، وحسب قول الرئيس البكر فأن صدام وفي أحدى المرات وجه لطارق عزيز مباشرة شتيمة مهينة ولم يجد منه ردا. ولكن فجأة تبدل الحال لتصبح بينهم علاقات جيدة وباتوا على توافق تام، ما الذي حدث فلا علم له بذلك.
لم أترك الآمر يمر بسهولة ورغم لف ودورا الرئيس في الإجابة فقد كررت عليه استفساري، عن ما اتهمني به طارق عزيز بصيغة العمالة للسوفيت .ومثلما المرة السابقة راح في حديث جانبي ولم يجب على سؤالي.

                                
مع عزيز محمد السكرتير السابق ل م ح ش                    الدكتور خليل عبد العزيز مع زملاء الدراسة

   



128
محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز/ ج 6


التقاه فرات المحسن




فرات المحسن ودكتور خليل عبد العزيز أثناء اللقاء


مفتاح سحري ينعش آمالي برؤية الوطن


كان مهرجان الفارابي مفتاحا سحريا لمسألة تتعلق بحياتي الشخصية وعلاقتي بوطني العراق. وكان حكم الإعدام الصادر بحقي على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم مازال يشكل حاجزا قويا بيني والذهاب إلى العراق. وقد عزز تلك الفرقة والبعاد مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1963 وإصدارهم أحكام جديدة بالإعدام علي وباقي الرفاق، وتأكيدهم المطالبة برأس جميع الذين شاركوا في قمع مؤامرة الشواف. ثم كان مجيئهم الثاني وسيطرتهم على الحكم بانقلاب 17 تموز عام 1968 حين ذاك بات من المستحيل العودة إلى الوطن بوجود هؤلاء.
 كان ذلك يوما غير عاديا،حين دخل السفير صالح مهدي عماش غرفة رئيس معهد الأستشراق السيد غفوروف وتحدث عن مشروع إقامة مهرجان الفارابي، لم يكن ليخطر في بالي أن تكون موضوعة المهرجان مفتاحا لعودتي لوطني ورؤيتي لأهلي بعد كل تلك السنين. فبعد حديث طويل للسفير العراقي عن رغبة العراق بإقامة مهرجان للفيلسوف الفارابي ومناقشة هذا الآمر مع السيد غفوروف وتوصلهما إلى نتائج ايجابية عن طبيعة وأماكن المهرجان وعند نهاية ذلك اللقاء وبعد خروج عماش من الغرفة بادرني السيد غفوروف قائلا :
ــ خلاص ..انتهى أمرك.
استغربت جملته وسألته أن يفصح عن ما يفكر فيه. فقال بأنك سوف تكون رئيسا للوفد السوفيتي الذي سوف يتوجه إلى بغداد لترتيب الأمور والتحضير للمهرجان. دهشت وأنا اسمع هذا القول، فكيف يتسنى لي زيارة بغداد وأنا المحكوم بالإعدام. فأجابني بثقة مفرطة لا عليك دع الأمر لي. في اليوم الثاني طلب مني السيد غفوروف الاتصال بصالح مهدي عماش والطلب منه المجيء إلى المعهد . وعند حضور عماش استقبلته واصطحبته إلى غرفة المدير. وقبل دخولنا الغرفة سألني عماش، إن كان استجد شيء في الأمر،فأخبرته بعدم معرفتي. وأني كلفت فقط الاتصال وطلب حضوره.  في لقاء عماش بالسيد غفوروف اخبره الأخير بموافقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي على أقامة المهرجان في ثلاث مدن هي بغداد وموسكو وألماآتا وباسم الفارابي فيلسوف الشرق، وإبعاده عن إيران . والمهرجان يحتاج لبحث جدي ومحادثات لتحديد طبيعته وإعداد الترتيبات الخاصة لإقامته، لذا سوف نرسل وفدا سوفيتيا رسميا لمقابلة القيادة العراقية لبحث الإجراءات وطبيعة الترتيبات الموجب اتخاذها لعقد المهرجان، على أن يقابل وفدنا في بداية الأمر الرئيس أحمد حسن البكر، كون فكرة ومبادرة عقد المهرجان قد قدمت من قبله مباشرة. ظهرت الفرحة على أسارير صالح عماش وقال بحماس، نعم ونحن مستعدون لتوفير أي شيء يتطلبه عمل الوفد، وأيضا نتحمل جميع تكاليف سفر وتنقلات الوفد السوفيتي، ونقدم له جميع التسهيلات، وما عليكم غير تزويدنا بأسماء الوفد وممسكاتهم الرسمية وصورهم كي يتسنى لنا إجراء اللازم الذي يسهل عليهم مهمتهم. مع ابتسامة ماكرة قال السيد غفوروف،  نعم لقد أصبح الأمر واضحا لدينا ولدى القيادة السوفيتية لذا كلفنا الدكتور خليل عبد العزيز القيام بالمهمة وترؤس وفدنا للتباحث مع القيادة العراقية. انتابت عماش حالة من الذهول عقدت لسانه بداية الأمر. وكان حينها يبتلع لعابه بصعوبة، ثم وبجهد ظاهر قال : كيف يتم ذلك ، فالدكتور خليل محكوم بالإعدام ، لذا من الصعوبة أن يترأس الوفد ويسافر إلى بغداد. فأجابه غفوروف بسرعة ووضوح، بأن الأمر أصبح من مهامكم وضمن مسؤوليتكم وهو قضية الحكومة العراقية وليس قضيتنا أو ضمن حدود مسؤولياتنا . فهو مازال مواطنا عراقيا وفي نفس الوقت ليس مواطنا سوفيتيا ولا يملك جوازا سوفيتيا، وعليك أن تعرف بأن هذا القرار صادر عن الجهات الرسمية العليا. عند ذلك طلب عماش الكلام لتوضيح وجهة نظره فتوجه لي بحديثه قائلا: أخ خليل أنا أتوجه أليك بنصيحة وأرجو منك الأخذ بها وتقدير الظروف وطبيعة المهمة، لذا أرجو أن تنسحب من هذا التكليف لتبعد عنك وعنا وأيضا السوفيت التعقيد السياسي ومشاكل جمة يمكن أن تعيق عملنا .فأجبته مباشرة ودون تردد، كيف يتسنى لي الانسحاب من المهمة والتكليف وأنا موظف رسمي في معهد الاستشراق، ودائما كنت مخلصا في عملي ومنفذا للمهام وما يترتب علي من مسؤوليات، واليوم كلفني المعهد بهذه المهمة فكيف تراني أستطيع  الرفض، العمل الرسمي والمهنة لا علاقة لها بعواطف وصداقات.أجابني وبشيء من الحدة بأنهم مستعدون لدفع جميع مستحقات وظيفتي وما أطلبه وبما يضمن توفير جميع احتياجاتي المادية طيلة حياتي وإقامتي في الاتحاد السوفيتي. فأجبته بجواب كان حاضرا عندي، وهو الرفض التام لطلبه، فطلب مقابلتي للحديث في الأمر بعد انتهاء اللقاء مع مدير المعهد، فقلت له بأني أعطيته جوابي القاطع ولا حاجة للنقاش حوله بعد الآن. كان سعيد كاميلوف يترجم حديثنا لمدير المعهد السيد غفوروف،  لذا التفت غفوروف إلى صالح عماش وقال أذا كانت لديكم رغبة حقيقية بإقامة مهرجان الفارابي في بغداد فعليكم أن تحلوا الإشكال المتعلق بالدكتور خليل عبد العزيز فهو من صلب مهامكم. عند ذلك قال عماش بأن عليه الاتصال بالرئيس البكر وعرض الأمر عليه.
في اليوم التالي أتصل بي عماش وطلب لقاء مدير المعهد في الساعة العاشرة صباحا فأخبرته مباشرة باستطاعته القدوم إلى المعهد في تلك الساعة بالرغم من عدم معرفتي بارتباطات السيد غفوروف ذلك النهار. وما دفعني لاتخاذ ذلك القرار دون الرجوع إلى السيد غفوروف كانت قناعتي بان في جعبة عماش قرار ما  ينطوي على حالتين تتعلقان بي شخصيا، فإما رفض استقبالي في بغداد أو العكس القبول بذلك، وكنت متلهفا لسماع النتيجة بشكل سريع ومع هذا الهاجس المتوتر المترقب قررت الاتصال بمدير المعهد السيد غفوروف في بيته وأخبرته بالذي حدث، فقال هل أنك أخذت برأيي مسبقا، فأجبته بنعم لآني أعرف بالضبط ما يدور في ذهنك وما تصبو أليه، عندها وافقني غفوروف وقال بأنه سوف يكون في المعهد عند الساعة العاشرة.



 

صالح مهدي عماش


في تمام الساعة العاشرة كان صالح مهدي عماش  وسط المعهد وقابلته ودخلنا سوية ودون حديث إلى غرفة المدير.و بعد أن قدم التحية قال مباشرة بأنه تحدث مع الرئيس أحمد حسن البكر وينقل لكم تحياته ويشكركم على تعاونكم وموافقتكم على إقامة مهرجان الفارابي، وإن الرئيس أخبره بأنه أمر باتخاذ الإجراءات المناسبة استعدادا للاحتفال وكذلك حصلت منه على موافقة بأن يترأس وفد الاتحاد السوفيتي الدكتور خليل عبد العزيز ، وبعد ساعتين من الآن سوف يصدر القرار الرسمي بإلغاء أحكام الإعدام الصادرة بحقه ورفاقه وأيضا الموافقة على منحه جواز السفر ويستطيع السفر إلى العراق خلال يومين من الآن وعلى متن الطائرة العراقية. عند ذلك سأله غفوروف عن المطلوب من الدكتور خليل فقال عماش ما عليه سوى جلب صور فوتغرافية ليتم إصدار جواز السفر والموافقة على الزيارة لباقي أعضاء الوفد فأخبره غفوروف وابتسامة ظاهرة ترتسم على شفتيه، بان الدكتور خليل عبد العزيز هو رئيس الوفد وهو أيضا يمثل باقي أعضاء الوفد .وسوف يصطحب معه زوجته وطفلته ، وهو لحد الآن لا يستطيع دخول السفارة العراقية قبل أن يصدر قرار إلغاء حكم الإعدام بحقه ، فقال عماش بأنه يضمن بالكامل سلامة الدكتور خليل ولكن السيد غفوروف أخبره بأن علينا الانتظار لحين صدور القرار في جريدة الوقائع العراقية. وفعلا وبعد ساعات وحسب السفارة السوفيتية في بغداد ، صدر القرار ونشر في الجريدة الرسمية وشمل العفو جميع رفاقنا الذين وجهت لهم التهم في أحداث الموصل وحكموا بالإعدام حينها.  العدد 3348  في 16 شباط

مقتل صالح مهدي عماش

فجأة ودون مقدمات وبعد عدة سنوات قضاها صالح مهدي عماش سفيرا لبلاده في موسكو صدر أمر نقله إلى باريس عام 1974 وتعينه سفيرا لبلاده هناك ولكنه لم يكمل العام في فرنسا حين صدر أمر نقله سفيرا لبلاده في فنلندا عام 1975. كان عماش في أقصى حالات الانزعاج والعصبية وهو يتلقى هذا الآمر، وكالعادة علله بضغوط صدام حسين على رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر. وقد أفصح عن هذا حين جاء إلى موسكو لبعض الوقت متجها عبرها إلى فنلندة والتقى بالسيد غفوروف في زيارة لمعهد الاستشراق حيث قال أنه أتصل بالرئيس البكر فأجابه بضرورة الالتحاق بوظيفته الجديدة لحين ما تستجد بعض المسائل. وصل عماش إلى هلسنكي عاصمة فنلندا فلم يجد هناك مقرا لسفارة عراقية، فالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين كانت في طور البداية، لذا سكن في أحد الفنادق بشكل مؤقت. بعد فترة استطاع شراء بيت ضخم وبدأ بتجهيزه ليكون مقرا لسفارة العراق هناك. وقدم طلبات عديدة إلى وزارة الخارجية العراقية لدفع مبالغ تأثيث السفارة ورصد الموظفين لإكمال طاقم العمل.
لم يكن صالح مهدي عماش ليخفي امتعاضه وعداءه لصدام حسين واستمر على ذات المنوال بعد انتقاله إلى فنلندا وتأسيسه لسفارة عراقية في العاصمة هلسنكي .ورغم التحذيرات الكثيرة التي وجهت له من الجانب السوفيتي فأنه كان واثقا بأن صدام وأجهزته لن تتمكن من اغتياله ، وكان حذرا ويتخذ كافة الاحتياطات لتجنب أي محاولة لاغتياله خلال وجوده في موسكو. وفي هذا الجانب فموضوعة التخلص منه داخل الاتحاد السوفيتي ربما لم تكن في وارد المخابرات العراقية لحساسية الموضوع المتأتي مع عمق العلاقة مع الاتحاد السوفيتي التي تجعل صدام يتجنب اغتيال عماش هناك، فحدوث مثل هذا الآمر وتحت أعين المخابرات السوفيتية سوف تكون له ردود فعل غير مستحبة ويمكن له أن يوتر بشكل كبير على العلاقة بين الطرفين، لما يمثله من تحد للسلطة السوفيتية وأجهزتها الأمنية. وما كان انتقال عماش إلى فنلندا غير محطة جديدة تختلف كليا في نمط تعاملها مع عماش. فللمرة الأولى تفتح سفارة عراقية في هلسنكي وطبيعة العلاقة الجديدة لم تكن تفرض على المخابرات الفنلندية توفير حماية خاصة لصالح عماش، وتلك الأجهزة تختلف كليا عن سابقتها السوفيتية، وهي ليست على دراية بخفايا العلاقات السياسية وطبيعة الحكم في العراق مثلما كان الاتحاد السوفيتي محيطا بها. ورغم جميع التحذيرات التي سبقت انتقاله فقد كان عماش غير مبال بأخذ الاحتياطات اللازمة بل والموجب عليه اتخاذها.فقد كان  يمارس عمله في العاصمة الفنلندية بشكل منفتح ودون محاذير، وكانت تحركاته ونشاطه وبرغبة صادقة ومهنية، واسعة وحيوية لأجل بناء هيكل لسفارة بلاده.
في الثلاثين من يناير عام 1985 كان عماش كعادته ولغرض توطيد العلاقات الدبلوماسية والمهنية فقد أقام مأدبة عشاء لبعض الشخصيات الرسمية في مقر إقامته في العاصمة هلسنكي وكان هذا المقر لا يبعد عن السفارة العراقية سوى عشرات الأمتار. في نهاية الوليمة غادر الضيوف وبقي السفير صالح عماش وبعض أصدقائه وعدد من موظفي السفارة يواصلون سهرتهم، فجأة شعر عماش بألم حاد في بطنه تم إثرها نقله إلى المستشفى الجامعي في العاصمة هلسنكي. في بداية الآمر وبعد التشخيص الأولي أعتقد الأطباء بأن عماش قد تعرض لذبحة صدرية، ولكن بعد ذلك نفى الأطباء حدوث ذلك، وبينوا بان السبب في سوء حالته الصحية ربما يعود إلى تسمم في معدته. بعد ساعات من الفحوص الطبية ، توفى صالح مهدي عماش، عند ذلك قرر الأطباء تشريح الجثة ولكن أحد الموظفين في السفارة المدعو طه محمد أخبرهم بأن مثل هذا لا يجوز في الشرع الإسلامي، والسلطات العراقية وحدها سوف تكون مسؤولة عن فعل هذا إن أرادت عائلته ذلك، وبالفعل لم يتم تشريح الجثة في هلسنكي، وتقرر نقل جثمانه إلى بغداد بناء على طلب من عائلته وإصرارها على دفنه في العراق. تم نقل جثمانه إلى فرانكفورت في ألمانيا أولا ومن هناك إلى بغداد. كان في استقبال الجثمان في المطار عائلة عماش والوزير طارق عزيز ومجموعة من موظفي وزارته. بعدها نقل جثمان عماش إلى بيته في منطقة صليخ في الأعظمية وفي الصباح أقيمت الصلاة على روحه في جامع الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، وبقي طارق عزيز خارج الجامع ولم يدخل للمشاركة في الصلاة، كونه من أتباع الديانه المسيحية وحين نقل الجثمان إلى المقبرة لدفنه فوجئ الجميع بعدم وجود قبر مهيأ للدفن، وعلى عجل تم حفر القبر ووري جسد صالح عماش فيه. لم تبدي في وقتها حكومة صدام حسين أي اهتمام بما حدث، ولم يتم تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، بل إن أجهزة الأمن ورجال صدام لم يكن ليخفوا فرحهم بالتخلص من أحد المناوئين والخصوم الحقيقيين للطاغية صدام حسين، وحسب الكتاب الذي صدر في العاصمة السويدية ستوكهولم بعنوان(بمهمة من بغداد ) فإن المدعو طه محمد كان لا يخفي فرحته بالحدث وبابتسامة عريضة ظاهرة شارك في توديع الجثمان حين نقل إلى بغداد. وكتاب بمهمة من بغداد الذي صدر في السويد نهاية عام 2011  من تأليف الباحث ماتس إيكمان، يتحدث عن مؤامرات عملاء صدام وعمليات الاغتيال التي قاموا بها في الدول الاسكندنافية وبرعاية وإشراف السفير العراقي في ستوكهولم حينذاك محمد سعيد الصحاف، حيث يشير الباحث لوجود أكثر من مائة عميل كانت أكثر عمليات الاغتيال التي تتم على أياديهم يستعمل فيها الثاليوم وتقطيع جثث الخصوم، ويتطرق الكتاب لعملية الاغتيال التي تعرض لها السفير العراقي في فنلندة السيد صالح مهدي عماش ويؤكد على إنه قد تعرض للاغتيال بواسطة دس السم في طعامه. وهكذا انتهت وحسب التقاليد البعثية حياة أحد أهم رجالهم.



129
في أربعينية أخي الراحل زهير الدجيلي

تجمع محبو الكاتب والشاعر الراحل زهير الدجيلي وأصدقاؤه، بعد مرور أربعين يوماً على رحيله، لتأبينه ولتذكُّر مآثره.

أقيمت أمسية تأبينية للكاتب والشاعر العراقي الكبير زهير الدجيلي في مقر جمعية الخريجين الكويتيين، أمس الأول، بتنظيم من لجنة الصداقة الكويتية - العراقية.
وحضر الأمسية عدد من الشخصيات الثقافية والسياسية، منهم النائب السابق عبدالله النيباري والكاتب عبدالمحسن مظفر والأديبة ليلى العثمان وغيرهم.
قدمت الأمسية إيمان حسين التي تناولت مآثر حياة الراحل زهير الدجيلي، وما شكل للأغنية العراقية من مرحلة جديدة، عبر كلمات مفعمة بالأمل والفرح، رغم أنها تحمل بين ثناياها الشجن العراقي المهووس بالاشتياق والحنين للوطن والأهل والأحباب، كأغنيته «الطيور الطايرة»، وأغنية «البارحة» و«نجوى» و«الهودله» و«مغربين» و«صار العمر محطات» وغيرها من الإشراقات التي أضاءت سماء الأغنية العراقية.
وتابعت أن الدجيلي عندما رفض الظلم ناضل ضد الاستبداد الذي حل بالعراق وشعبه، وحط ركابه في الكويت التي احتضنت أيضا الفنان الراحل فؤاد سالم وغيره من المبدعين العراقيين، وبقي وفيا حاملا معروفها رافضا بكل قوة غزو صدام للكويت، ومن ثم أخذ يدافع عنها بطريقته حيث أسس إذاعة موجهة مع الإعلامي إبراهيم الزبيدي، ثم انضم إليها الفنان الراحل منصور المنصور وحسين المنصور وفؤاد سالم، وبقي مناضلا حتى تحرير الكويت، مقارعا النظام الصدامي.

قصيدة الدجيلي

وكان أول المتحدثين من الحضور صديقه عبدالرزاق خيون، الذي قال عنه إنه عالم كامل متنوع الإبداع والمواهب ومتعدد القدرات، عايشه منذ أن كانا أبناء مدينة الشطرة وبعمر متقارب، ففي بداية خمسينيات القرن الماضي بدأ الدجيلي مسيرته النضالية والشعرية، متأثراً بتلك البيئة، والمدينة السومرية التاريخية التي لم تعر التعصب والتكاره، وهي حاضنة للغرباء، فكان لها التأثير الأول، إضافة إلى مدينة الناصرية، على بناء القصيدة الدجيلية، التي تتفرد بروعة العبارة وجمالية الصورة وبرقة الأحاسيس وسمو الخيال.
وكان من أكثر الناس قرباً من العمل الفلاحي، والتفاعل مع مشاكل الفلاحين وهمومهم، كما تأثر بالمرأة في حياته، فأمه شاعرة وقوالة وهازجة للشعر، وزوجته أم علي مدرسة لغة عربية، يذكرها حتى في أواخر أيامه بأنها ملهمته ومستشارته وناقدته، فجاءت قصيدة الدجيلي مبنية على ثلاثية المرأة، النضال، وحب الوطن.

الإنتاج البرامجي

ثم اعتلى المسرح، المدير السابق لمؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لمجلس التعاون لدول الخليج العربية إبراهيم اليوسف، الذي أكد أن الراحل قدم لوطنه أكثر مما قدمه في الفن والشعر، وكان معارضا للنظام الهمجي البعثي بشكل موضوعي، رافضاً حتى تجديد جوازه لدى سفارة النظام.
وأضاف اليوسف أن المؤسسة كانت تبحث عن كتاب متميزين عند إنشائها في 1976، ومن بينهم الدجيلي، وتم البدء بكتابة البرنامج التربوي «افتح يا سمسم» عام 1977، الذي يتكون من 130 حلقة تلفزيونية، وشارك الدجيلي بكتابة ثلث مشاهد البرنامج، إضافة إلى مجموعة من أغنياته حيث شعره يتميز بالسلاسة ولطف الكلمات.
ثم أنتجت المؤسسة البرنامج الصحي التوعوي «سلامتك» الذي ساهم في كتابة بعض حلقاته وكلمات الأغنيات، بعدها أخذت مجموعة من الروايات الكويتية لكتابة مسلسل «للحياة وجه آخر»، وكان الدجيلي مشرفاً على ترتيب الحلقات الدرامية وعددها 13 حلقة، كما أشرف على عمل عن الزراعة في المنطقة بالاتفاق مع وزارات الزراعة الخليجية، لكنه لم ينفذ لمشاكل في الأبحاث وظروف فنية.
 وتابع اليوسف بأنه كان يستشيره في بعض الكتابات الفنية في برامج المؤسسة.
عــــــــــرض فيلــــــــم قصيـــــــــــــر مدتـــــــــه 6 دقائق من إنتاج مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك، تقديرا للكاتب المبدع زهير الدجيلي، يتناول أعمال الراحل معها بشكل مركز، من بينها «افتح يا سمسم» و«أرضنا والغذاء» و«قف» و«سلامتك»، إضافة إلى إحدى أغنياته لبرنامج «افتح يا سمسم» بعنوان «أطفالاً نخرج إلى الدنيا».

العلاقة الأخوية

وانتقل الحديث إلى أحد رموز صداقاته عبدالمحسن مظفر الذي وجه حديثه في البداية إلى زوجة الراحل أم علي، «أنت الإنسانة الصابرة التي وقفت مع هذا الإنسان الرمز الشامخ في الثقافة العربية، في أصعب أيام حياته، لك أنت يا سيدتي كل الشكر والتقدير، وما رثاؤنا إلا محاولة لإعطاء هذا الرمز الشامخ جزءا مما يستحقه علينا، بعد هذا الجهد العظيم الذي بذله في سبيلنا نحن».
ومضى مظفر بالقول إن الدجيلي كان يحمل هماً في قلبه، ويحاول أن يشركنا فيه بكل إصرار ومثابرة، حيث همه الأساسي أن يعيد العلاقة الأخوية الصادقة بين الشعبين الكويتي والعراقي بعد الدمار الذي أصاب هذه العلاقة بسبب الغزو والاحتلال، ولم يكن هذا الأمر سهلاً على الإطلاق، بدأ زهير مع مجموعة من أصدقائه الكويتيين والعراقيين بإنشاء جمعية الصداقة الكويتية العراقية، التي لها دور في تلطيف الأجواء وفي إعادة الألفة والوئام بين الكويتيين والعراقيين، ولم يكتف بذلك بل سعى إلى إنشاء موقع إلكتروني هو «الجيران» الهدف منه تغطية كل الأخبار والموضوعات المتعلقة بالعلاقة بين الشعبين العزيزين، ومحاولة متابعة كل ما يطرأ في القطرين من أحداث، بهدف إعادة دمجهما بروح أخوية حقيقية صادقة.
أما عامر التميمي فقد تحدث عن علاقة الصداقة التي جمعته بالراحل، إذ تعرف إليه عن طريق الاستشاري د. نبيل رياض، ثم توطدت العلاقة إلى عائلية بالتزاور، مضيفاً أن الراحل ينتمي إلى مدرسة اليسار، لكنه يختلف عن الكثير من اليساريين بأن لديه مرونة فكرية، وكان يعتقد أن التعامل مع الأمور يتم بعقلانية وموضوعية، لم يؤمن بأن الفكر السياسي يصبح مثل الديني مقدسا لا يناقش، وهو ما يذكره أيضاً بالراحل د. أحمد الربعي الذي يتسم بصفة العقلانية وعدم الجمود وعدم التفكير المقولب، فآفاقه تتسع.
وتابع التميمي: «كان الدجيلي من هذه المدرسة، التعامل مع الأمور بحلاوتها ومرارتها ومحاولة الوصول إلى نتائج واقعية».
وذكر أن الدجيلي عندما حدث الغزو أراد الخروج من الكويت لأن القوات العراقية تبحث عنه، فتم تأمين خروجه إلى السعودية بمساعدة نسيبه المخرج محمد سعود المطيري، حيث أنشأ هناك إذاعة العراق الحر كمحطة موجهة بدعم من السعودية والكويت.
من جهته، تطرق السفير الكويتي لدى بغداد السابق علي المؤمن إلى صفحة إنسانية من حياة الراحل، إذ شاءت الأقدار بعد تقاعده من رئاسة الأركان العامة في الجيش الكويتي أن يكلف بمركز العمليات الإنسانية لرفع المعاناة عن الشعب العراقي أثناء حرب تحرير العراق، وخلال استلامه المركز التقى بشخصيتين عراقيتين هما إيمان حسين التي كانت مهتمة بالجانب الإعلامي فيما يتعلق ببعض المحطات العراقية، والراحل الدجيلي، وبعد التعامل معه اكتشف أنه ثروة لأداء عمله الإنساني، ولديه روح كويتية لاهتمامه بمصلحة الكويت مثل العراق، فاستعان به لرأيه السديد لإيصال المساعدات إلى المحتاجين، وفي تلك الفترة أمر صاحب السمو الأمير بمساعدة مالية قدرها 5 ملايين دينار كويتي، فطرح جانبا من البنية الأساسية مثل الكهرباء وبناء 17 مدرسة ريفية ومستشفيات ميدانية، وفكرة بناء مجمع سكني كويتي كوقف ورمز، حجة وقفية تضمن لليتيم والأرملة الاستفادة منها.
أما الزميل الصحافي حمزة عليان فطالب بعمل كتاب عن ابن المهنة الصحافية، بدعوة كل أحبة زهير بتوثيق أعماله وإصدارها في كتاب أو أكثر، لما يستحقه فعلاً وليس فقط رثاء، وأبدى استعداده للمساعدة في هذا الإطار، مشيراً إلى أن الراحل بدأ في مهنة الصحافة منذ عام 1950، فهو مهني من رأسه إلى أخمص قدميه، وباحث يلتزم بأصول العمل البحثي، وأثناء تواجده في الكويت عمل في جريدة القبس وأيضاً في «الطليعة» و«الزمن» وتبوأ العديد من المناصب من محرر إلى رئيس تحرير، وشاء القدر أن يرحل عنا وهو كاتب وصحافي.
وفي الفقرة الأخيرة من الأمسية غنى الفنان فيصل خاجة «الطيور الطايرة» للفنان سعدون جابر، وهي من كلمات الدجيلي وألحان كوكب حمزة، ثم أدى فيصل الظاهري «مغربين».


فكر انفتاحي


قال عبدالله النيباري «إننا نفتقد في غيابه هامة كبيرة وعظيمة بغزارة فكرها الانفتاحي، والتزامه بخط وطني تقدمي، الذي يميل إلى اليسار بمعناه الحالي».
 وتابع «إننا نمر الآن في مرحلة هجين ثقافي، والأطفال لا يتحدثون العربية خاصة من ولدوا في الألفية الثانية، فهم في خطورة في التعامل مع مجتمعه لغة وحضارة وتاريخاً، وبالتالي فمثل برنامج «افتح يا سمسم» نحن في أمس الحاجة إليه، إذ بذل فيه زهير كل جهده وأعطى عصارة فكره».
ونوه النيباري إلى ملف منحه الجنسية، لتيسير أمور حياتية، لكن يبدو أن هذا الملف قد تعطل رغم أنه كان يحظى بالتعاطف من الديوان الأميري، وكان المفروض مع أحد الأصدقاء السعي نحو استكمال الموضوع، لكن فوجئنا بمداهمته المرض وهو في مرحلة متأخرة، فتوقفت هذه المسألة.

130
محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز 5

التقاه فرات المحسن

آلما آتا المحطة الأولى لمهرجان الفارابي

في حقيقة الآمر فإن السيد صالح مهدي عماش كان قد قدم نفسه إلى المجتمع الروسي كونه أديبا أكثر مما هو دبلوماسيا وسفيرا لبلاده، فكان يحبذ دائما الاختلاط بجمهرة الأدباء السوفييت ويدخل معهم في نقاشات كثيرة حول الأدب والشعر. وعندما بدأنا الإعداد لمهرجان الفارابي، نشط عماش وكان فاعلا وايجابيا، ويذهب بعيدا في نقاشاته وأسئلته ويحاول معرفة المعلومة الدقيقة عن المهرجان، إن كان ذلك أثناء علاقة  التحضير للمهرجان مع معهد الاستشراق في بادئ الآمر، أو مع أكاديمية العلوم السوفيتية التي تبنت لاحقا وبشكل كامل التحضير والإعداد للمهرجان.وقاد السيد عماش الوفد العراقي الذي حضر المهرجان الذي جرى في آلما آتا عاصمة جمهورية كازاخستان السوفيتية .
ففي احد الأيام أتصل صالح مهدي عماش بمعهد الاستشراق طالبا لقاءا مستعجلا مع مدير المعهد السيد غفوروف، وحين جاء دخل غرفة المدير وتحدث بعجالة وقوة مشيرا إلى كون شاه إيران يسعى لإقامة مهرجان بالذكرى الألفية للعالم والفيلسوف الفارابي، ويطلق عليه تسمية العالم الفارسي، وهذا لن نرتضيه ولن نوافق عليه فنحن أحق من غيرنا بهذا الرجل العالم وهو عالم عربي في كل الأحوال، لكون بحوثه باللغة العربية وليس بغيرها. ولن ندع شاه إيران يختطفه منا، ولذا أطلب من الجهات السوفيتية العمل على منع الشاه القيام  بذلك وتبني موقف الجمهورية العراقية ومساعدتها على إقامة المهرجان الذي استعدت له وزارة الثقافة العراقية . وعرض عماش على غفوروف تسهيلات كثيرة في حالة تقديم السوفيت المساعدة على إقامة المهرجان، وقدم عدة مقترحات منها توفير خط طيران خاص لنقل أي وفد سوفيتي وأجنبي يرغب المشاركة في المهرجان، وأية تسهيلات ومطالب أخرى يرغب بها أو يقدمها الجانب السوفيتي، بشرط أن يقام المهرجان في بغداد وباسم العراق وبمشاركة واسعة للاتحاد السوفيتي .وقدم اقتراح بأن من المناسب أن يعقد المهرجان وبنفس التوقيت في بغداد وأيضا في موسكو دون غيرهما. ولكن غفوروف استغل طبيعة طرح صالح عماش فأضاف على المقترح شرط أخر بقوله بأن المهرجان سوف يعقد في بغداد وموسكو وآلماتا عاصمة كازاخستان وتحت اسم الفارابي فيلسوف الشرق. وأضاف بأن المسألة تحتاج لموافقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. وجاءت الموافقة بعد ذلك بما أملاه السيد غفوروف.
لم تكن هناك أية لقاءات بمعنى مفاوضات بين الجانب العراقي والسوفيتي الذي مثلته حين ذهبت إلى بغداد، وحين عدت إلى موسكو، ومن ثم عند قدوم الوفد العراقي إلى آلما آتا ، فالوفد العراقي الذي ترأسه  صالح مهدي عماش وعضوية الشاعر محمد جميل شلش والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان قد وجد كل شيء جاهزا ومعدا من قبل السوفييت، لذا قدم  موافقته كاملة على جميع ما عرض عليه ، وهذا ما أخبرني به السيد محمد جميل شلش وأعتبر إن حضوره وباقي الوفد ليس سوى تنفيذ لبروتوكولات رسمية ليس إلا.
 

ترأس الوفد العراقي السفير السيد صالح مهدي عماش وقد أستقبل بشكل رسمي في المطار من قبل الدبلوماسيين الكازاخستانيين ونقل الوفد إلى الفندق حسب البروتوكولات المعدة. ولم يمض على وجود الوفد في الفندق سوى وقت قصير حين جاء من يخبرني بأن السيد صالح مهدي عماش يبحث عني، فدهشت لذلك، وذهبت حيث غرفته فوجدته وسط الممر مرتبكا متوترا، وفاجأني بسؤال غريب ، خليل من أكون أنا ، فأجبته بأنك رئيس الوفد العراقي لمهرجان الفارابي فقال ، حسنا تعال معي حيث الغرفة، فذهبنا سوية ودخلنا الغرفة، عندها قال بعتاب ظاهر هل من المعقول ذلك، أنا رئيس وفد العراق يضعوني في هذه الغرفة الضيقة، أيعقل هذا. كانت الغرفة عادية في كل شيء مثل باقي غرف الفندق، لذا قلت له لا أعتقد أن الغرفة ذات أهمية، فنحن لن نبقى في الفندق سوى ثلاثة أيام، فقال بعصبيته المعهودة، أنا رئيس وفد وسوف استقبل رؤساء وأعضاء وفود فكيف يتسنى لي استقبالهم في مثل هذه الغرفة. وأصر عماش على منحه غرفة خاصة تليق برئاسته لوفد العراق. شعرت بالإحراج والحيرة من أمري ولم أجد حلا لهذا سوى الذهاب إلى استعلامات الفندق والحديث معهم في محاولة لاستبدال الغرفة بأخرى أوسع. ولكن استعلامات الفندق أخبروني بشكل جازم بأن أمر توزيع الضيوف على غرف الفندق لم يكن من اختصاص موظفي الفندق وإدارته، فهناك لجنة خاصة أشرفت على ذلك التوزيع. فسألتهم عن اللجنة وكيفية الوصل لها ومقابلتها فأنكروا معرفتهم باللجنة وطبيعة عملها.ذهبت أبحث عن السيد غفوروف لاستشارته ولعله يساعدني في حل هذا الإشكال. فوجدته قد ذهب لمقابلة رئيس جمهورية كازاخستان. فعدت أدراجي إلى غرفة صالح عماش فوجدته في حالة حنق وضجر وأصر على عدم بقاءه في هذه الغرفة وقال بأنه سوف يهبط إلى صالة الفندق ويجلس هناك حتى الصباح. ومع ما وجدته من إصرار قررت أن أخذه إلى غرفتي وأمنحه إياها، وبحماس وسرعة رفع حقيبته وجاء معي ليدخل غرفتي ويحتلها، وكانت الغرفة واسعة قدمت لي كوني عضوا في اللجنة التحضيرية للمهرجان.وبدوري انتقلت إلى غرفته راضيا بالذي فعلته.
صباح اليوم التالي وعند وقت الفطور جلست عند أحدى الطاولات أتناول فطوري وإذا بأحد الرجال يطلب مني المجيء معه ، فأخبرته بأني على استعداد لذلك، ولكن بعد إنهاء فطوري، ولكنه وبشكل آمر اخبرني بوجوب الذهاب معه الآن دون أبطاء ، عندها سألته من يكون وعن الجهة التي ينتمي لها فقال بلغة جافة، بأنه سوف يخبرني بذلك لو ذهبت معه الآن ودون تأخير لكون الآمر مهم جدا.ذهبت معه ودخلنا غرفة مجاورة لاستعلامات الفندق وكان هناك رجل يجلس خلف منضدة عريضة وجه لي كلامه بصيغة رفيق وطلب مني الجلوس. ثم بادرني بالكلام. رفيق هل أنت مخول بإبدال غرفة صالح مهدي عماش بغرفة منحت لك؟ ، فأجبته أعتقد ذلك فأنا حتما مخول بالغرفة التي منحت لي، فأجابني ، كلا يارفيق فنحن فقط المخولون فيما يجري ويحدث في الفندق ومنها التصرف بالغرف. وأنت لا تملك أي حق بمنح غرفتك إلى رئيس الوفد العراقي. فأجبته بأني عضو الوفد السوفيتي وكذلك لجنة التحضير للمهرجان وأعتقد بان ما قمت به لا يؤثر  في طبيعة عمل اللجنة أو أعمال المهرجان. فقال الرجل كلا رفيقي وعليك أن تعلم بأن ما فعلته كان فيه الشيء الكثير من الإشكال لنا، وقد فاجأنا، وأنت في هذا قد ارتكبت خطأ كبيرا ، نرجو أن لا يتكرر مثله مستقبلا. وضع في بالك بأننا وحدنا من يشرف على ويدير مثل هذه الأمور في الفندق وأيضا في قاعة المهرجان. عندها سألته من أنتم فقال لي نحن دائرة الأمن، عندها قدمت اعتذاري عن الذي سببته وأضفت بأن تصرفي كان عاديا وأني مقتنع بأن ما فعلته لا يضر أحدا وكان تصرفا عاديا. فشكرني مبتسما .
خرجت من الغرفة منزعج ومتوتر وبالصدفة الغريبة قابلت السيد غفوروف في الممر الجانبي فبادرني دون مقدمات بالسؤال عن الذي جعلني أفعل مثل هذا الآمر. شعرت بأنه على علم بحيثيات الحدث، فأجبته بأني لم أفعل سوى ما ارتأيته مناسبا  فصالح عماش رئيس وفد وسفير العراق واعتقد من المناسب معاملته بما يليق به وأن يحصل على غرفة تليق بمنصبه لذا تصرفت بما وجدته مناسبا ولم أفعل سوى منحه غرفتي ولم يكن هناك أمرا سيئا. فأخبرني غفوروف بأن ما فعلته كان خاطئا فرجال الأمن يضعون أجهزة تصنت وإرسال في غرف من يريدون مراقبتهم والتصنت عليهم وما فعلته أنت أفشل خططهم.ويأتي ذلك محاولة لمراقبة صالح عماش بسبب ما يقال عنه، فأخبرته بأن لا علم لي بكل هذا ، فأجابني بأن لا أقلق، فرجال الأمن سيفعلون ذات الشيء في غرفة عماش الجديدة  أثناء انشغال الجميع بوقائع وأعمال المهرجان.
في نهاية اليوم الثاني من أعمال المهرجان قررت أكاديمية العلوم في جمهورية كازاخستان إقامة دعوة عشاء تكريما لرؤساء الوفود المشاركة وهم قادمون من أغلبية الدول العربية وإيران ومنظمة اليونسكو، وكنت أنا ضمن المدعوين كوني عضوا في اللجنة التحضيرية ولوجود وفود عربية أيضا. ومن غرائب الصدف أن يكون مقعد السيد صالح مهدي عماش جوار مقعد رئيسة الوفد الإيراني، وهي امرأة جميلة وقورة ووظيفتها الرسمية مديرة لمكتبة قصر شاه إيران، والمعروف عنها في الاتحاد السوفيتي بأنها تأتي إلى موسكو سنويا وتحمل معها مبالغ مالية كبيرة لغرض شراء ما يناسب من إصدارت في موسكو وأيضا في جمهوريات أسيا الوسطى السوفيتية ودائما ما كانت تلتقي بمدير معهد الاستشراق. وكانت تلك السيدة تتمتع بنباهة عالية وثقافة واسعة ومهنية ظاهرة وحين تتحدث في مجال السياسة لا تتعرض بالسوء لآي شخصية أو بلد وإنما تصوغ جملها بإتقان وحكمة وحنكة دبلوماسية .
في ذلك الحفل ألتكريمي جلست هذه المرأة جوار صالح مهدي عماش وجلس خلفهما سيدة أخرى وهي المترجمة. مع الطعام قدم الشراب لجميع الحضور ولكن رئيسة الوفد الإيراني امتنعت وأعلنت بأنها لا تتعاط الكحول وسوف تكتفي بكاس عصير. مضت ساعات وكان الضيوف في نقاشات وارتياح ظاهر، حين بدأت المترجمة خلف عماش تلوح لنا نحن أعضاء اللجنة وكأنها تستنجد بنا، وبعد برهة بدأت رئيسة الوفد الإيراني بالبكاء  ثم وقفت  وغادرت القاعة بعجالة ودون عودة، وعندما سألت المترجمة عن الذي حدث، أخبرتني بأن رئيسة الوفد الإيراني كانت تريد المغادرة لتذهب إلى المرافق الصحية ولكن رئيس الوفد العراقي كان يجبرها على البقاء، وبشكل غريب  يلح عليها بأن تبقى جواره، ولم يكن ليستمع لأعذارها وتوسلاتها وطلبها المغادرة ولو لوقت قصير، لحين شعرت المرأة بتعرضها لضغط هائل من قبل عماش لذا بكت مما كانت تتعرض له. وكنت ارقب عماش فلاحظت التغيير الذي طرأ على سحنة وجهه حين غادرت السيدة مكانها. فقد بدا الضجر والنرفزة واضحين على تصرفاته.فقد كان مستمتعا بمجالسة المرأة وربما أعتقد بأن الحديث الطويل الذي دار بينهما سوف يكون بابا لاستدراجها وجعلها صيدا دسما ذلك المساء.
في اليوم التالي ذهبت إلى السيدة الإيرانية وقدمت لها اعتذارا باسم اللجنة التحضيرية للمهرجان وبينت لها إن ما حدث كان سلوكا شخصيا لا علاقة له بمجمل الأحداث الأخرى ولم يكن متعمدا وضع مقاعد الوفدين جوار بعض. وكانت تلك واحدة من نزوات مهدي صالح عماش.




131
محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز الحلقة الرابعة



صالح مهدي عماش سفير للعراق في موسكو


في أحد أيام عملي في معهد الأستشراق أتصل بيّ مدير المعهد السيد غفوروف وأخبرني بوصول نائب رئيس الجمهورية ووزير داخلية العراق  السيد صالح مهدي عماش صباح اليوم إلى موسكو ، وقد طلب عماش مباشرة بعد وصوله الحضور إلى معهد الاستشراق. ولذا هاتفني المدير وطلب حضوري فورا إلى المعهد لمناقشة أمر السيد صالح مهدي عماش.
 حين حضوري سألت مدير المعهد عن سبب الطلب المستعجل والسريع للسيد صالح عماش وبالذات لمقابلتك شخصيا، فأجابني بأنه على علاقة شخصية سابقة بالسيد عماش، ونشأت تلك العلاقة حين زار غفوروف العراق على رأس وفد لجنة التضامن الأفرو أسيوي لمقابلة المسؤولين العراقيين، وكانت للوفد مقابلات ونقاشات كثيرة مع الساسة العراقيين ومنهم السيد عماش.  كذلك فغفوروف يعتقد بأن صالح مهدي عماش لديه رسالة يريد تمريرها إلى القيادة السوفيتية عبر المعهد، بعد أن تسربت قبل قليل أنباء عن عزله من مناصبه كنائب لرئيس الجمهورية ووزيرا للداخلية وتعيينه سفيرا للعراق في موسكو. وسألني السيد غفوروف عن رأيي في هذا الشأن، فأجبته بأهمية الآمر وضرورة استجلاء الوضع ومعرفة حيثيات ما حدث، لما لها من خطورة وتأثير في طبيعة الحراك السياسي في العراق.
عندها اخبرني السيد غفوروف بعدم استطاعته استقبال السيد عماش بصفة رسمية كون مرسوم تعينيه كسفير لجمهورية العراق في موسكو لم يصدر بعد بشكل رسمي. في هذه الأثناء طلب مني السيد غفوروف الخروج من الغرفة كي يتصل بالخارجية وجهاز المخابرات السوفيتي ليخبرهم باللقاء المرتقب ويستوضح منهم الجوانب الموجب اتخاذها في هذا اللقاء . وكان ذلك الاتصال وبحكم السياسة المتبعة،يتطلب السرية، لذا لا يمكن إجراءه  بحضوري.  بعد ذلك عدت إلى الغرفة فأخبرني غفوروف بأن الجهات العليا وافقت على المقابلة، على أن أخبر السيد عماش بأن المقابلة خارج برتوكولات العمل الرسمي، كونه لم يقدم بعد أوراق اعتماده سفيرا لجمهورية العراق.وكان وصول السيد صالح مهدي عماش إلى موسكو وعلى متن طائرة عراقية خاصة، مفاجئة غير متوقعة لدى الجهات الرسمية السوفيتية.
بعد ذلك طلب مدير المعهد السيد غفوروف من السيد سعيد كاميلوف الاتصال بالسفارة العراقية وأخبار السيد عماش بأن مدير المعهد ينتظر حضوره . ووجه مدير المعهد كلامه لي طالبا مني عدم الخروج من الغرفة لاستقبال السيد عماش حين حضوره، وكذلك علي الجلوس والاستماع للحديث دون تدخل أو تعليق. وكانت تلك عادة اتبعناها حين المقابلات الرسمية، حيث أجلس أنا مستمعا ثم بعد انتهاء اللقاء نجلس أنا والسيد غفوروف لمناقشة ما دار من حديث. وهو دائما ما كان يطلب رأيي الشخصي في تلك اللقاءات ووقائع ما دار فيها. وقد أسرني السيد غفوروف بأنه يسعى من مقابلة صالح عماش الحصول على معلومات واضحة ودقيقة عن الذي يجري في العراق وبالذات بين صفوف حزب البعث.
جاء صالح مهدي عماش بمشيته العسكرية الموحية بحيوية ونشاط وجسد قوي. دخل الغرفة وصافح غفوروف وكذلك سعيد كاميلوف ومن ثم صافحني. وبدء حديثا وديا مع السيد غفوروف، بعدها سأله غفوروف عن سبب قدومه إلى موسكو فراح عماش يروي السبب في مجيئه، شارحا بالتفصيل ما حدث قائلا، البارحة مساءا أخبرت بأن هناك دعوة لي على العشاء من قبل النائب  صدام حسين في مطعم يطل على ساحة الجندي المجهول ، فسألت عن المناسبة لمثل هذه الدعوة فلم أحصل على جواب. بعدها ذهبت إلى هناك بصفتي نائبا لرئيس الجمهورية فوجدت أمامي السيد عبد الكريم الشيخلي الذي سبقني بالحضور واخبرني بأنه مثلي مدعوا كضيف على العشاء عند الرفيق صدام حسين. جاء صدام حسين فجلسنا ثلاثتنا نتناول العشاء ودار بيننا حديثا عاما حول الأوضاع العامة في العراق ولم نتطرق طيلة العشاء إلى حديث خارج سياق ذلك. قاربت الساعة الثانية عشر ليلا عندها ودون مقدمات استدار صدام نحوي قائلا : رفيق أبو هدى لقد تقرر تعينك سفيرا للعراق في الاتحاد السوفيتي ، أما أنت رفيق عبد الكريم فقد تقرر تعينك مندوبا للعراق في الأمم المتحدة. سألت الرفيق صدام عن السبب لمثل هذا القرار فلم يجبني سوى بجملة واحدة قائلا، أمامك للتهيؤ والسفر إلى موسكو ساعة واحدة من الآن. وامتنع عن الرد على تساؤلي وتساؤل الرفيق عبد الكريم الشيخلي، عن نوع وسبب القرار وكيفية صدوره ومتى، وقال وبشكل حاسم بأن عليكم السفر خلال ساعة من الآن. وفجأة نهض واخبرنا بأن هناك سيارة تنتظرنا سوف تقلنا إلى بيوتنا لتجهيز حقائب السفر ثم تأخذنا إلى المطار، بعد ذلك خرج وتركنا في حيرة من أمرنا ولم نصحو من المفاجأة إلا حين جاء المرافقون ليخبرونا بضرورة التحرك وتنفيذ أمر الرفيق صدام حسين. ذهبنا إلى بيوتنا تحت حراسة مشددة ومن هناك إلى المطار حيث أقلتني الطائرة إلى موسكو مباشرة دون أن أحصل على أي تفسير لأسباب ما جرى. وحين وصلت لم أجد مرسوما أو كتابا رسميا يشير لتعيني سفيرا في موسكو. بعد ذلك بدا بسيل من السباب والشتائم المقذعة والطعون الشخصية الموجهة لصدام حسين، عندها قاطعه السيد بابا جان غفوروف ليذكره بأنه جزء من السلطة في العراق وعليه عدم النسيان بأنه سوف يكون ممثلا للدبلوماسية العراقية بصفته سفيرا لها، وكل ما ينطق به له حسابات خاصة، والذي يشتمه هو نائب لرئيس الجمهورية العراقية وأنه أي عماش ممثل له وكذلك للدولة العراقية. بدا حديث السيد غفوروف وكأنه أثار واستفز السيد صالح عماش لذا قال أن مثل هذا الآمر لا يعني له شيئا ولا يؤثر فيه، وراح مرة أخرى  في موجة جديدة من الشتائم لصدام حسين .بعد ذلك اخبره غفوروف بأن لقائهما هذا لا يحمل أي صفة رسمية وأن موافقته على اللقاء كانت شخصية ولكن ما دار من حديث بينهم سوف ينقله بأمانة إلى الجهات الرسمية السوفيتية العليا، فوافقه صالح عماش على ذلك. وكان واضحا إن هذا الآمر هو ما سعى أليه صالح عماش وهو إخبار القيادة السوفيتية وإطلاعها على مجريات ووقائع الأحداث في العراق.
في نهاية المقابلة قدمني السيد غفوروف لصالح مهدي عماش باسمي وصفتي كموظف في المعهد. عندها طالعني عماش بنظرات غاضبة قائلا أليس أنت المحكوم بالإعدام في العراق بسبب جرائمك. فأجبته بنعم فقال: لو أننا التقينا في مكان أخر لكان لي معك حديثا يختلف كليا عن الآن، فأجبته بأن ذلك صحيح وسوف يحدث ذلك من جانبي أيضا. وقبل أن يخرج من مكتب غفوروف طلب مني مرافقته فاعتذرت معللا ذلك بطبيعة وظيفتي في المعهد التي تمنع الأحاديث الشخصية الخاصة. وبعد هذا اللقاء جلست والسيد غفوروف لمناقشة ما دار فيه، فكنا على اتفاق كامل بأن ما حدث هو إقصاء للسيد عماش عن مراكز القيادة وعزله ووضعه خارج معادلة السلطة.
بعد مضي أسبوع وبعد أن جاء الآمر الرسمي وأنجزت مراسيم تعيين عماش سفيرا لجمهورية العراق في موسكو. رن هاتف استعلامات المعهد وطلب السيد صالح مهدي عماش مقابلة مدير المعهد السيد غفوروف مرة أخرى. ومثلما المقابلة السابقة تكرر الحديث السابق ولكن عماش توعد هذه المرة  بأخذ استحقاقه والثأر من صدام حسين شخصيا. عندها حذره غفوروف من تلك اللعبة الخطرة فمن الممكن لمجموعة صدام حسين أن ترصده ثم تغتاله. فمثل هذا الكلام والتهديد ربما يصل إلى صدام حسين، عندها سوف يوجه رجاله للعمل على اغتياله، ونحن نعرف جيدا بأن لصدام أياد كثيرة ومنها داخل سفارة العراق، بالرغم من إن لنا قدرة على منع حدوث مثل هذا في الاتحاد السوفيتي كونك تحت حمايتنا. ولكني كسياسي ومطلع على خفايا السياسة في العراق أنبهك لهذا وأرجو ولمصلحتك أن تحد من تسرعك وشتائمك وتهديداتك. ولكن السيد صالح مهدي عماش كان دائما متماديا في شتائمه وتهديداته ويعتقد جازما بأنه قادر على تحدي قوة صدام والعودة إلى العراق وأخذ الثأر منه. وكان يردد على أسماعنا، بأنه شخصيا والرئيس البكر من الجناح العسكري الذي نفذ مهام ثورة 17 تموز واليوم يجد أن صدام يعمل بالضد من هذا الجناح، متناسيا بأن من جاء به إلى السلطة هو هذا الجناح ، أي هو والرئيس البكر. وإن من يطيح به ويبعده عن الحكم هو الجناح العسكري هذا وليس غيره. وكان في حديثة يحمل نبرة ثقة كبيرة بانتصار جناحه والبكر في نهاية المطاف، وأن صعود صدام حسين ظاهرة خارج سياقات العمل السياسي والعسكري الرصين.
كان السيد صالح مهدي عماش رجل دولة وعسكريا من الطراز الأول وموظفا شديد المراس، دقيقا ومهنيا، لذا غير كثيرا في وأوضاع السفارة العراقية وعمل موظفيها، فكان صعبا في تعامله وأسلوب عمله، وفرض على موظفيه إعداد تقرير شهري عن عمل كل واحد منهم. وكانوا جميعا يخشونه أيما خشية، لذا ينفذون أوامره بحرفية. وكان يشرف بنفسه يوميا على عمل السفارة بالإضافة لممارسته الرياضة اليومية. 
في أحدى المرات تطرق غفوروف في حديثه  عن شخصية مساعد الملحق العسكري في السفارة العراقية فاضل البراك وتساءل عن طبيعة علاقة عماش به، فأجابه صالح عماش بأن علاقتهما متوترة ووصفه بصفات سيئة وشتمه واتهمه بكونه جاسوسا لصالح صدام حسين ولا عمل له في السفارة غير جمع المعلومات عن أعضاء السفارة وكتابة التقارير المسيئة عنهم وكذلك ممارسة ذات العمل مع الطلبة العراقيين ومنهم 2300 عسكري يتدربون في المعاهد السوفيتية وينتشرون في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي وخاصة الجمهوريات الجنوبية منه.
 نشط صالح عماش بشكل كبير كسفير للعراق وراح في حراك متسارع لعقد الصداقات وتوطيدها مع المسؤولين  وكذلك مع أدباء وفنانين سوفييت . وكان دائما ما يوجه لأغلب هؤلاء دعوات عشاء داخل السفارة العراقية، و يكرر ذلك بين فترة وأخرى. وبعد أن تعرف على موسكو ومعالمها ومن بينها المطاعم الفاخرة، أخذ يقيم تلك الولائم في البعض منها. وكانت علاقاته مع المسؤولين السوفيت مهنية وجيدة ، وأي خلاف أو إشكال يحدث يتم حله بسهولة ويعود السبب في هذا لارتباطه المباشر بالرئيس العراقي أحمد حسن البكر الذي حرص دائما على تسهيل المهام وحسم المشاكل وخاصة في مجالات التعاملات الاقتصادية والعسكرية,
ولم يكن ليولي اهتماما في جلب عائلته إلى موسكو. وفي أحدى المرات ، حين سأل عن سبب عزوفه عن ذلك، برر الآمر بأنه يتعلق بترقبه العودة القريبة إلى بغداد، وهذا ما اتفق عليه مع الرئيس أحمد حسن البكر مثلما أسر غفوروف بذلك. وفي مرة من المرات جلب زوجته في زيارة إلى موسكو، ولكنه بدا وكأنه ليس حريصا على بقائها. فلم يكن يحتاج لها في موسكو، فهو زير نساء بامتياز، وكان يذهب يوميا إلى المطاعم كي يجالس الفتيات ويتناول الخمر، ولم يكن ليبخل على النوادل بالنقود ليكسب ودهم ويجعلهم حريصين على تلبية طلباته بتوفير الأماكن البارزة والقريبة من فسحة الرقص. ولم يكن ليبقى في السفارة أو دار السكن بعد نهاية الدوام، ودائما ما شوهد يتجول في العاصمة موسكو وفي الأخير يختار له مطعما يقضي فيه أمسيته .

 موسكو عاصمة الثلوج 

في أحدى زياراته إلى معهد الاستشراق والتي كان يحرص على تكرارها بين فترة وأخرى، تحدث عماش عن إعجابه الشديد بالعاصمة موسكو ورغبته الكتابة عن جمالها وطبيعتها الخلابة وأبنيتها التاريخية وأنه سوف ينقل في كتاب يعده مشاهداته عن معالم العاصمة.  أستحسن غفوروف رغبته تلك ووعده بالمساعدة بعد أن بادر عماش بالقول بأنه لا يملك مصادر تساعده على أنجاز المطبوع، وهو لا يرغب تضمينه موضوعات سياسية. شجعه غفوروف وحثه على انجازه بأسرع وقت وإن المعهد يدعم هذا التوجه وبالذات حين يصدر عن دبلوماسيين غير سوفييت، ومن سفير دولة صديقة، والمعهد لديه رغبة في التعرف على مضمون ومحتوى الكتاب والمفاهيم التي ينطلق منها في رؤيته لعاصمتنا عند صدوره.
مضت ثلاثة أشهر جاء بعدها السيد السفير صالح عماش يحمل فصلا من كتابه المنوي طباعته ، وقد عرضه على مدير المعهد السيد غفوروف وخلال أيام تم الاطلاع على ما دونه عماش فوجد بأنه يخلو من المعلومات الدقيقة وقد كتب بعيدا عن التقرير الصحفي أو المنجز البحثي، والطريقة الأدبية التي كتب فيها، تحتاج إلى الكثير من التعديلات، يضاف لذلك افتقار بعض الملاحظات للدقة والموضوعية. فحديث عماش عن أحياء وساحات وأبنية ومترو موسكو كان يفتقر للكثير من المعلومة الصحيحة والدقيقة. فقد أخذ الجانب الوصفي للمكان دون البحث في تأريخه وتشكيله المعماري وأهميته. فمحطات مترو موسكو تعد من أجمل وأروع محطات العالم وهي متحف فاخر لما تحويه من تماثيل ورسوم وزخرفة ، وكتابة عماش عن هذا المترو افتقرت لمعلومات مهمة عن تأريخ أنشاء هذا المترو والتوسعات التي حدثت فيه والكيفية والمراحل والأعمال التي وفقها تم إنجازه، والعدد اليومي للبشر الذين يستقلونه في تنقلاتهم، ومعلومات عديدة أخرى كان من الموجب أضافتها  لو أريد النجاح للكتاب وإظهاره بطابع فني ومهني يليق باستعراض لعاصمة كبرى من عواصم العالم . وملاحظات المعهد وبالذات السيد غفوروف صبت في هذا الجانب وقدمت للسيد عماش بالكامل. عندها أبدى عماش رغبته بأن يتدخل المعهد في إنجاز الكتاب من خلال الإرشاد حول طريقة الكتابة وتدقيق المعلومة. ولكن السيد غفوروف طلب من صالح عماش القيام بإكمال الكتاب وتقديمه إلى المعهد كاملا للاطلاع عليه وتدقيقه وتدوين الملاحظات حوله وتنقيحه. وبعد أن أنجز السيد صالح مهدي عماش مسودة كتابه جاء وسلمها إلى السيد غفوروف، الذي بدوره كلفني والسيد سعيد كاميلوف بقراءة المسودة وتنقيحها وتقديم ملاحظاتنا  حولها. وبدورنا قمنا بذلك ووجدنا فيما كتبه الرجل الكثير من المعلومات غير الدقيقة والناقصة وبالذات التاريخية منها عن الصرح والأبنية،وكذلك حول الشخصيات. وبعد فترة زمنية ليست بالقصيرة أعدنا كتابة بعض الفقرات وتصويب المعلومات. وكانت رغبتنا ودوافعنا في ذلك تصب في محاولة لإخراج الكتاب بشكل جيد وموثق بالمعلومة الدقيقة عن موسكو. ولكون عماش قد اخبرنا بأن الكتاب سوف يطبع في العراق فأردناه أن يظهر بحلة تليق بتلك العاصمة وتظهرها على حقيقتها التاريخية والجمالية أمام القارئ غير السوفيتي.وسبق للسيد عماش أن أبدى رغبته بطباعة كتابه في مطابع وكالة نوفوستي أو أحدى دور النشر السوفيتية فقدمت له معلومة عن كون المعهد لا يشارك في مثل تلك الأعمال، وإنه يختص فقط بطبع البحوث الخاصة بالمعهد دون سواها، وليس لديه الاستعداد للمساعدة في طباعة كتب خاصة بأشخاص من خارج المعهد، والمعهد يتعامل مع أي كتاب فقط من خلال وجوده في مكتبة المعهد.
بعد أكمال التدقيق والإضافات والتعديلات على مسودة الكتاب سلمت  للسيد صالح عماش الذي لم يبد أي اعتراض على الذي أجريناه من تغييرات لا بل فرح أيما فرح. وقد عرفنا قبل هذا وبطرقنا الخاصة رغبة السيد عماش الملحة لإصدار هذا الكتاب عن موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي كمحاولة منه التمويه أو أبعاد الشبهات العالقة بشخصه، والتي تدور حول علاقته بالمخابرات المركزية الأمريكية، التي أشيعت، مذ كان ملحقا عسكريا بسفارة العراق في الولايات المتحدة الأمريكية.ودائما ما كانت الأوساط السياسية السوفيتية تنظر نحو عماش بريبة وتشير لتلك العلاقة المشبوهة، ويظهر أنها كانت تتابع وترصد علاقته بالمخابرات الأمريكية وتمتلك دون شك المعلومة عنه. وفي مثل تلك الحالات لن تسرب المخابرات السوفيتية معلومة أن لم يكن لها جانب كبير من الصحة.
عندما استلم عماش المسودة كاملة مع التعديلات فاجأنا بقبوله المباشر على ما أجريناه من تعديلات وقال بأنه سوف يأخذ الكتاب معه في وقت قريب إلى بغداد ويعمل على أنجاز طباعته، فأخبره السيد غفوروف بضرورة أخذ الكتاب وتدقيق ما أحدث فيه من إضافات أقترحها المعهد ومن ثم إعطاء رأيه ولكن عماش بدا مصرا على قوله الأول . وبعد فترة زمنية أخذ كتابه وذهب إلى بغداد وقدمه إلى شخص وزير الثقافة آنذاك السيد طارق عزيز الذي وافق على طباعته وتولت وزارة الثقافة الطباعة.
صدر الكتاب بعنوانه الجميل ( موسكو عاصمة الثلوج )  فكان لظهوره صدا طيبا بين أوساط الإعلاميين والمثقفين وحتى الدبلوماسيين في العراق والعالم العربي، وكذلك بين أوساط الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت أدبياتها تفتقر لمثل هذا الكتاب بمعلوماته وصياغة جمله ووصفه لجمال موسكو . ولم تكن هناك إصدارات تماثله سبق وأن قدمتها وكالة نوفوستي التي أصدرت العديد من الكتب والنشرات عن مدينة موسكو  ولم تصل في محتوياتها لما جاء في كتاب صالح مهدي عماش موسكو عاصمة الثلوج.
وبعد أن صدر الكتاب جاء السيد عماش حاملا مجموعة كبيرة من النسخ قدم للمعهد أعداد منها، فقام المعهد بدوره ووزعها على المكتبات العامة.  كذلك قام السيد عماش بتوزيع العديد من نسخ كتابه على الوزارات والمؤسسات والاتحادات والنقابات وكذلك شمل التوزيع مؤسسة التضامن الأفرو أسيوي واتحاد الكتاب السوفيت والمجلات الأدبية وأرسله أيضا إلى شخصيات ومكتبات في جمهوريات الاتحاد السوفيتي وخاصة الجنوبية منها.كان الكتاب ونشره وتوزيعه على جميع تلك المؤسسات والشخصيات العامة منفذا ومتنفسا للسيد عماش ومحاولة للبروز بين أوساط المجتمع السوفيتي. ولكنه لم يكن على دراية بطبيعة التركيبة المجتمعية والتأثير السياسي على تلك المؤسسات والشخصيات ، فليس من السهولة في الاتحاد السوفيتي أن ينال أحد رضا المجتمع ويكسب التقدير وينال الشهرة إن لم تقف خلفه مؤسسة أو واحدة من أجهزة السلطة والحزب العليا ، ولم يظهر أو يسطع نجم أديب أو فنان أو عالم ويحتل مكانة مرموقة في المجتمع السوفيتي دون أن يحظى بموافقة الأجهزة السلطوية أو الحزبية المتنفذة.
كان السيد عماش سعيدا جدا بظهور كتابه وسماع الانطباعات الحسنة والإطراء حول محتواه وعرضه لجوانب وطبيعة الحياة لمدينة موسكو، وأزداد فرحا حين علم بأن كتابه قد نفذ من الأسواق ولذا فكر مباشرة بإعادة طباعته، وفعلا لم يألو جهدا لذلك، وفي أقرب فرصة ذهب إلى بغداد واستطاع إعادة طبع الكتاب مرة ثانية. وبعد أن شعر بلذة النجاح ، انفتحت شهيته ففكر بطبع كتابه مرة ثالثة وذهب إلى بغداد لهذا الغرض، ولكنه عاد أدراجه إلى موسكو هذه المرة منزعجا ومتطيرا ومتوترا جدا وقد أفصح عن ذلك حين سألناه في زيارته إلى معهد الاستشراق عن نتائج زيارته الأخيرة إلى بغداد، فبدأ بشتم صدام حسين، وقال بأنه قابل طارق عزيز، فأخبره الأخير، بأن صدام حسين قد أرسل بطلبه وسأله عن الذي سمح له بأمر طباعة كتاب صالح مهدي عماش موسكو عاصمة الثلوج ووبخه وأمره بمنع إعادة طبع الكتاب مرة أخرى، وعليه أن يخبره في القادم من الأيام بأي موضوعة تتعلق بصالح مهدي عماش. كان هذا الآمر صدمة حقيقية للسيد عماش لم يستطع هضمها بسهولة فراح ينفس عنها أمامنا بموجة عارمة من سباب مقذع وشتائم ووعيد لصدام حسين.
في أحد المرات وبعد ان توطدت العلاقة بيننا وأصبحت زيارته إلى معهد الأستشراق شبه روتينية أخبرني السيد صالح مهدي عماش بأنه وجد صلة شخصية بأحد أعضاء لجنة التضامن الأفرو أسيوي وهو السيد أناتولي سفرونوف الذي كان يرأس تحرير مجلة أكَنيوك وهو شخصية إعلامية مشهورة على مستوى الاتحاد السوفيتي، وقد تحدث معه حول كتابه عن موسكو وتداول معه في بعض شؤون الأدب ومنها الشعر، الذي كان السيد عماش يعد نفسه واحدا من شعراء العراق المهمين ويشير في بعض الجلسات واللقاءات الأدبية إلى مديح وإطراء وإشادة بشعره صدر عن الشاعر محمد مهدي الجواهري. وفي ذلك اللقاء والمحادثة مع السيد أناتولي سفرونوف عرض عماش بعض قصائده الشعرية وهي قصائد محاورها مجالات حياتية مختلفة . أتصل السيد سفرونوف بمدير معهد الاستشراق السيد بابا جان غفوروف مستفسرا عن شخصية السيد صالح عماش الأدبية، وطلب رأيه فيما يكتب من شعر. كان رأي السيد غفوروف ايجابيا وأشار على رئيس تحرير مجلة أكَنيوك بضرورة نشر بعض القصائد الشعرية التي يكتبها صالح مهدي عماش ملحق مجلة أكنيوك. عند ذلك استدعى رئيس التحرير السيد سفرونوف مجموعة من المترجمين، عملوا على ترجمة بعض أعمال السيد عماش الشعرية، ونشرت في الملحق الشهري لمجلة أكَنيوك.كانت تلك المجلة تصدر بأربع ملايين نسخة ويصدر عنها ملحقا شهريا يطبع بما يقارب المائة ألف نسخة، ومثلما جرى مع محمود درويش، فقد صدر الملحق الشهري حاويا أشعار السيد عماش. حينذاك ارتفعت معنويات السيد عماش ووصلت إلى الذروة وشعر بالفخر ووضع نفسه بمصاف شعراء العرب الكبار. 


132



هل يكون مصير بشار الأسد كمصير حفظ الله أمين ؟

فرات المحسن

في عموم المعضلات السياسية والعلاقات الدولية دائما ما يعاد القول بأن لا صداقات دائمة في السياسة وإنما مصالح وهذا هو الصحيح. وهنا يطرح التساؤل عن شكل ونمط تلك المصالح ومآلها، وهو سؤال حيوي وكبير.
 كان ومازال السياسي العربي في اغلب الأوقات وفي المفاصل التاريخية من حياته، يتغافل عن تلك الحكمة، ويفضل استدرار العواطف ووضعها كأحد شروط اللعبة السياسية، ومثل هذا الفعل غالبا ما كان مشهدا كوميديا في العلاقات الدولية حين يمارسها السياسي العربي،وبمقدار ما يكون كارثي فأنه يبعث على الأسى والتأسي على طبيعة الأداء المتهافت والبائس وغير الواعي في السياسة العربية.
فاجأ الانسحاب الروسي من الأراضي السورية كثير من المتابعين وبالذات أصحاب الشأن العربي فراحوا في موجة من التحليلات والاستنتاجات في محاولة للوصول إلى حقيقة وطبيعة القرار الروسي، وفي ذات الوقت متناسين خلفيات وأجندات قرار المشاركة الروسية في تلك الأزمة التي سوف يعبر عمرها حاجز الخمس سنوات.
تسجل وقائع العلاقة الروسية السعودية مؤشرا مهما في مجريات الحرب في المنطقة، فالمباحثات لم تكن لتقتصر فالبحث في وقائع المعارك على الأراضي السورية، وإنما في عموم المنطقة وخاصة العربية منها. فتكرار الزيارات الدبلوماسية السعودية للعاصمة موسكو ومثلها الروسية للعاصمة الرياض إن كانت في العلن أم في السر، فمفرداتها تتشعب لتتقدمها العلاقة الاقتصادية فوق الاعتبارات الأخرى، ودائما ما سجلت وقائع تلك الجلسات سخاء في شراكة اقتصادية لجمت أو حيدت الجموح الروسي وروضته بكميات هائلة من الاستثمارات والمعونات والمشتريات التي تصب في صالح إنعاش الاقتصاد الروسي.
كل ذلك ظهر جليا في الموقف الصامت للروس من الأزمة والحرب التي قادها تحالف غربي سعودي قطري للإطاحة بالعقيد القذافي، وفي نهايتها وزعت حصص البترول الليبي بين الحلفاء ولم ينل الروس غير حفنة من المساعدات القطرية السعودية ورضي بالصمت. وعلى ذات المنوال باع الروس صمتهم إلى الحليف السعودي وبلعوا لسانهم بالكامل بعيدا عن جرائم القتل اليومي وتهديم البنى التحتية التي تقترفها السعودية وحلفائها بحق الشعب اليمني الفقير والبطل.
المحادثات بين الجانب الأمريكي والروسي حول سوريا، تسيطر عليها بشكل ناجز، نزعة المنافسة والتشنجات وغالبا ما تخلو من أي وعود بتقديم تنازلات، يكون فيها الرابح قويا مسيطرا لا بل صاحب للقرار أو محرك للوقائع على الأرض. وكان خوف الولايات المتحدة الأمريكية من التورط المباشر في الحرب داخل سوريا قد دفعها بعيدا ليقتصر فعلها على مناوشات بالطائرات ومناورات بالدبلوماسية. ولذا خرجت روسيا في المنازلة رابحة بجميع القياسات السياسية والدبلوماسية والعسكرية.
ولكن اللاعب السعودي أستطاع بقوة المال إن يعيد تركيبة الأحداث بعد أن غيرتها المشاركة الروسية الواسعة في المعارك على الأرض وفي السماء، والتي جعلت الجانب الحكومي السوري ينجح في استعادة الكثير من الأراضي التي كان قد فقدها لصالح المعارضة وأيضا لصالح قوى الإرهاب.
المال السعودي في مواجهة الطمع الروسي استطاع أن يضع خطة طريق يعتقد بان نجاحها يضمن بالكامل  الإطاحة ببشار الأسد، ومن ثم التمهيد لوصول المعارضة إلى سدة الحكم ، وبالذات منها التي أأتلفت في مؤتمر الرياض. البند الأول من خطة الطريق هو وضع الضوابط الكفيلة بجعل التوازنات على الأرض، إما أن تكون متساوية بين الطرفين، المعارضة وسلطة بشار أو ترجيح كفة المعارضة فيها. لم يكن الجانب الروسي أو بالأحرى اللاعب الروسي حريصا جدا على  كفة من تكون الراجحة، بقدر حرصه على أن لا تقترب خطة الطريق السعودية من خطوطه الحمراء المتمثلة بقاعدتيه العسكريتين في طرطوس وحميميم الجوية ويمكنه التخلي بعد التسوية عن باقي القواعد غير ذات النفع مثل حماة وطياس والشعيرات. ومثل هذا الآمر وحسب الاعتقاد السعودي الأمريكي سوف يوفر الأجواء المناسبة لنجاح المفاوضات في جنيف بين الجانبين المعارض وسلطة بشار، ويفتح الكثير من النوافذ المؤدية إلى تسوية يمكنها إنقاذ المشروع السعودي الأمريكي بإيصال المشهد السياسي إلى مرحلة تشكيل حكومة ما يسمى بالإنقاذ الوطني.
ولكن أمام خطة الطريق السعودية هذه هناك الكثير من المتاريس التي تعترضها بقوة ويمكن لها إن تبطل مفعولها أو تحدث تغييرا فعالا في طبيعة المشهد الذي ترغب السعودية وأمريكا تركيبه فوق الأراضي السورية. أولى تلك المصدات يتمثل في الوجود الكثيف لقوى إرهاب تمسك مدن ومساحات كبيرة من الأرض السورية وتقاتل بضراوة لبناء دولة حسب خيارها العقائدي. ومع هذا يمكن لواضع الخطة السعودي ومن خلال علاقاته التعامل بإيجابية ولجم بعض تلك القوى ولكن ليس أغلبها.أيضا هناك الأكراد الذين أعلنوا أدارتهم الذاتية لمناطق تواجدهم وهي مساحات ليست بالقليلة.ولاعب أساسي أخر هو الطرف الإيراني ومجاميعه القتالية وحزب الله، وجميع هؤلاء ليس لوجودهم تأثير في ساحات المعارك فقط وإنما لهم صوتهم الفاعل والمؤثر في القرار السياسي وهيكلة الدولة السورية إن أريد أعادة تركيبها. وهناك وهذا هو المهم في المعادلة، الجانب الحكومي المتمثل بسلطة الرئيس بشار الأسد وممانعته منذ بداية الأزمة ولحد الآن، في عدم التفكير بالرحيل وإنما التمسك بالرئاسة والتعامل مع المعارضة بقوة النار والحديد.
فيما يخص الرئيس بشار الأسد فأن مصيره يتعلق بقرار الجانب الروسي وهذا المصير مؤجل إلى حين ويعتمد على مقدار التزمت والمساومة الروسية. ولكن انسحاب الجيش والطائرات الروسية من معركة سوريا يشي باقتناع الروس وبالذات الرئيس بوتن بأن ليس بالضرورة التمسك ببشار ووضع شرط بقاءه في السلطة ضمن المساعي لنجاح خطة الطريق السعودية التي وافق عليها. فقد سبق أن صرح الرئيس بوتن وبدلالة واضحة بأن وضع بشار الأسد لن يكون أصعب من أدورد سنودن عميل الاستخبارات الأمريكية الذي لجئ إلى موسكو وأحدث مشكلة دبلوماسية بين البلدين أحتاج الجانب الروسي إلى وقت ليس بالقصير لحلها وقبول بقائه في روسيا. كان هذا التصريح تلميحا مباشرا من الرئيس الروسي بإمكانية التخلي عن فكرة بقاء بشار الأسد في دست الحكم لو نجحت محادثات جنيف. ولكن ما الذي يضمن قبول بشار لهذه الخطة. فهو وأركان حكومته يرفعون راية التعنت التام والممانعة في طرح مسألة تنحي بشار على طاولة المفاوضات ويذهبون في وضع خطة لإجراء انتخابات رئاسية في هذا العام .وهذا الموقف يظهر طبيعة الخلط بين العاطفة والدبلوماسية السياسية التي يفضلها الحكام العرب ولا يجيدون ممارسة سواها. فهم يتمسكون بمقاعدهم حتى قيام ساعتهم ولا تعنيهم أوضاع شعبهم. والسؤال المطروح: في حالة تعنت الرئيس بشار، ما هو موقف الجانب الروسي الذي قبل تراتيبية خارطة الطريق السعودية بعد الإغراءات التي قدمت له، وواحدة من أولى التراتيبيات هي وجوب أخراج بشار الأسد من اللعبة .
في مثل هذه الحالة ليس هناك أمام الرئيس بوتن وقادته غير تطبيق خطة  التخلص من الرئيس بشار الأسد على شاكلة ما تم في أفغانستان في 27 ديسمبر 1979 حين تم خلع  الرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين بالقوة. ففي ذلك اليوم حاصرت قوة من عملاء الكي جي بي مرتدين الزي الأفغاني قصر الرئيس . استمرت المعركة بين الحرس الرئاسي والقوات المهاجمة مدة  45 دقيقة قتل فيها العديد من الحرس الرئاسي. وفي اليوم التالي وبعد التخلص من الرئيس أعلن تحرير أفغانستان من سلطة حفيظ الله أمين. حول تلك العملية قال السوفيت بأنهم كانوا يطبقون معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعت بين البلدين في عام 78 .حينها أعتقد السوفيت بأن الإطاحة بالرئيس حفيظ الله سوف ينهي الصراع الداخلي، ولكن معادلة الدولة الأفغانية وبناء السلطة كانت لها حسابات أخرى وتطور المشهد وتشعب لمشاهد مرعبة لازالت تتمثل في ارتدادات خارجة عن سياقات المنطق. فهل ياترى وضعت السعودية أمام الروس مثل هذا الخيار وطلبت من الرئيس الروسي بوتن أن يأخذ على عاتقه مسؤولية الحل المباشر حال ممانعة بشار الأسد ويعد خطة تقتلع بشار عن كرسي السلطة مثلما فعلها سلفه بريجنيف مع حفيظ الله أمين


133


لجنة للتعرف على مطالب الجماهير أم لتسويفها ؟!

فرات المحسن
 
لم يهدأ غضب الشارع العراقي منذ يوم الاحتلال الأمريكي في مارس عام 2003 ولحد اليوم. فكانت هناك موجات متتالية من احتجاج واعتصام جماهيري لأسباب عديدة جلها يتعلق بسوء أدارة السلطة من قبل الحكام الجدد.ولكن تاريخ 25 / 2 / 2011 كان مفترق طرق بالنسبة للجماهير وكان أيضا يوما لانبثاق وعي جديد لطبيعة الحراك الجماهيري وأساليب نضاله ووضوح مطالبه. ففي ذلك اليوم رفعت الجماهير شعاراتها تطالب بإصلاح شامل للنظام السياسي وأول تلك المطالب، نبذ أسلوب المحاصصة الذي أفضى إلى تقاسم جائر لسلطة إدارة الدولة والمال العام، كذلك المطالبة بتحسين المستوى المعيشي للشعب وإيجاد فرص عمل للعاطلين والقضاء على الفساد وتقديم الخدمات وترميم خراب البنى التحتية.
 في ذلك اليوم عمت التظاهرات أغلب محافظات العراق باستثناء كردستان، وقد جوبهت بالقمع الشديد من قبل سلطة رئيس الوزراء السابق رئيس حزب الدعوة الإسلامي نوري المالكي، وقتل على يد القوات الأمنية ما يقارب 30 مواطنا في عموم العراق.وكان خطاب السلطة تجاه المتظاهرين خطابا متشنجا لا يقبل حتى النظر في أسباب خروج التظاهرات، وإنما اتهم المالكي في خطاب تلفزيوني المتظاهرين بأنهم بقايا حزب البعث ومعادون للديمقراطية وينتمي بعضهم لتنظيم القاعدة. وجرت العديد من المداهمات لبعض البيوت والأحياء وأعتقل الكثير بتهمة المشاركة بالتظاهرات والتحريض ضد الحكومة.
كانت تلك التظاهرات الشرارة ونقطة انطلاق جديدة ظهرت على شكل تظاهرات منظمة منذ العام 2013 ولحد اليوم ورغم ما تخللها من خروق وتشنجات وبعض الأفعال البعيدة عن روح ومهام النضال الحقيقي ،فأنها اتسمت غالبا بطابعها السلمي ونضوج البعض من قياداتها وقولبة وتقنين شعاراتها لتتبلور بشكل واع وحضاري لمهام محددة، لتحصر في المستحقات الحيوية للجماهير والمتمثلة بإعادة بناء الدولة وفق الأطر العصرية لدولة المواطن بعيدا عن الفساد والمحسوبية وأيضا تقديم الخدمات وإيجاد فرص عمل للعاطلين.ولكن حتى هذه المظاهرات السلمية نجدها قد جوبهت ومنذ البداية بممارسات جائرة  للسلطة من قمع منفلت وأحيانا منظم ، ولكنها استمرت بشكل متصاعد عند كل يوم جمعة حيث يخرج الناس ليعلنوا مطالبهم ويسمعوها للسياسيين الذين يقودون السلطة بفروعها الثلاثة . ورغم ظهور بعض الشعارات المتطرفة والصبيانية والفردية ولكن الشعارات استقرت وتبلورت عند ذات الشعارات التي ظهرت في 25 /2 / 2011 وبات القاصي والداني يعرفها وهي حديث الجميع حتى البعض من القائمين على أدارة مؤسسات الدولة.
مجيء السيد العبادي كان محاولة لتقديم الانطباع للشعب بأن مرحلة جديدة  سوف تبدأ معها مرحلة التغيير، التي تستلهم وترفع شعار القضاء على الفساد وتحسين أوضاع الجماهير وكذلك تقديم الخدمات وترميم البنى التحتية. ولكن مع مرور الوقت ظهر أن عملية تبديل الوجوه كان يراد منها امتصاص الغضب الجماهيري وتسويف المطالب. وأثبت العبادي وحزب الدعوة قدرتهم الفائقة على التمويه والمراوغة واللعب بالوعود ومحاولات تخدير الناس مستغلين الدين كشعار ومعولين على مساندة الكتل السياسية التي تشاركهم في تقاسم السلطة ونهب المال العام.أيضا استطاعت الأحزاب السياسية ممارسة أقذر اللعب الشيطانية وصل بالبعض منها القدرة على رفع الكارت الأحمر بوجه المؤسسة الدينية ليجبروها على الصمت والابتعاد عن التدخل بالشأن السياسي ومنعها من توجيه رسائل النصح والمساندة للمتظاهرين.
 من كل هذا يبدو إن خيار القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية كان خيارا صائبا بالنسبة لها حين اختارت العبادي كشخصية قادرة على التسويف والمماطلة واللعب بالتعابير وتقديم الوعود وفي نفس الوقت نكثها والتخلي عنها.
ومنذ تشكيل الحكومات الأولى لعلاوي والثانية للجعفري والثالثة والرابعة للمالكي والخامسة لحيدر العبادي كان تشكيل اللجان واحدا من أكثر المهام فسادا وتمويها وقذارة وقبحا في فعل السلطة تجاه جميع المشاكل والجرائم والإخفاقات والخيبات ويتوافق ذلك مع فساد مستشري في جميع مفاصل الدولة دون استثناء.
الاجتماع الأخير للرئاسات الثلاثة ورؤساء الكتل وبعض رؤساء الأحزاب السياسية يوم 18ـ 19 /3 / 2016 وكما العادة جاء لتسويف المشاكل وجرها ومن ثم يتم وضعها على رفوف العزل التاريخي والنسيان. شكل المجتمعون لجان عدة، كان أغربها لجنة للاستطلاع ومعرفة مضامين مطالب الجماهير المعتصمة.مع تشكيل هذه اللجنة ظهر بأن الشعب في واد والسياسيين في واد أخر. وكأن سنوات من أصوات بحت وشعارات رفعت وضحايا قدمت قرابين على مذبح مطالب الجماهير، لم يكن كل ذلك ليصل أسماع قادة العملية السياسية على مختلف تلاوينهم ومن بينهم الدينمو الحقيقي الذي يدير الحكومة وهو حزب الدعوة بجميع قادته وعلى رأسهم المالكي والعبادي.
والأدهى في تشكيل هذه اللجنة أن السيد المنتهية صلاحياته محمود المشهداني وبدهائه ومكره الثعلبي، طلب ترشيح السيد الدكتور ضياء الأسدي رئيس كتلة الأحرار البرلمانية والسيد حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي لعضوية اللجنة، وهذا الترشيح يتوافق بالتمام والكمال وأعراف المماطلة والتسويف ويصطاد عصفورين بحجر واحد. فهما قادة في منظمتهما السياسية، وجماهيرهم تعد من أقوى المشاركين في التظاهر والاعتصام، ولذا سوف يوضعون في حالة المشاركة في تلك اللجنة، في حرج أمام جماهيرهم، وسوف يعمل ذلك على تفكيك بعض التلاحم وسط جماهيرهم.
 السيد ضياء الاسدي كان أذكى من أن يقع في هذا الفخ فتخلى رأسا عن المهمة، ولكنه قال بأنه يضع نفسه في خدمة هذه اللجنة. وإن كنا لا نهتم لباقي أعضاء اللجنة ومنهم يوناديم كنا وكاظم الشمري لأسباب يعرفها الجميع منها الرغبة القاتلة التي تستجدي الحضور السياسي والمشاركة في أي تكليف وهذا ما يختص به السيد يوناديم كنا. فإن موافقة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي جاءت مفاجأة للجميع، وعدها البعض طعنا بنضال جماهير الحزب وتميعا لشعاراته وخلافا لمشاركة جماهيره في التظاهرات.وبدلا من أن يكون أبو داوود مندوبا ومحاميا ومدافعا عن الجماهير المتظاهرة والمطالبة بحقوقها نجده يتحول مشاركا في لجان السلطة ووكيلا ومندوبا عنها وأداة من أدواتها، وشاهدنا على ذلك ليس فقط القبول بعضوية اللجنة وإنما لم نجد من السيدين حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي والسيد ضياء الأسدي ورغم انتمائهما للجماهير المتظاهرة والمعتصمة حسب ما يعلن في وسائل أعلامهم، فإنهما صمتا ولم يواجها الحقيقة ويعلنا داخل الاجتماع وبقوة الادعاء الثوري التقدمي الحضاري الديمقراطي (حسب التوصيفات الحزبية) بأن لا حاجة لوجود هذه اللجنة من الأساس، وإن المطالب الجماهيرية واضحة وصريحة، لا تقبل التسويف والمماطلة والمساومات ولم تكن بعيدة او غريبة على أسماع الساسة . وأن يستغل السيد حميد مجيد بالذات وليس غيره، منبر الاجتماع ليعطي قادة سلطة الفساد المثل في قوة الشكيمة والبسالة التي توسم الشيوعيين وأن يذكرهم بمسؤوليتهم وفق الاشتراطات الوطنية وليس غيرها، وأن يقول لهم بعالي الصوت ، أن من يرغب في امتصاص غضب الشارع وإنقاذ الوطن العراقي من محنته وانحداره نحو الهاوية. فمطالب الجماهير واضحة أمامهم وتتحدد وبشكل ناجز وحسب ما ظهر منذ تاريخ أولى التظاهرات.وهي نبذ أسلوب المحاصصة الذي أفضى إلى تقاسم جائر لسلطتي إدارة الدولة والمال العام وذهب بهيبة الدولة وأفلس الخزينة، وأن يتم إعادة هيكلة الوزرات بإيجاد وزراء ومدراء عامين تكنوقراط وأصحاب اختصاص وخبرات بعيدا عن أسلوب التدوير ضمن الحصص. أيضا المطالبة بتحسين المستوى المعيشي وإيجاد فرص عمل للعاطلين والقضاء على الفساد بتقديم المفسدين إلى محاكم نزيه وتوفير الخدمات وترميم خراب البنى التحتية.
ولكن الغريب ولكون المشاركة في السلطة دائما ما كانت هاجسا يسيطر على البعض فيجعل الصمت سيد الموقف، أجد وكأن ما حدث يذكر بورط وانتكاسات شبيهة باتت ذكراها توجع القلب.

134

محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز

التقاه فرات المحسن


الحلقة الثالثة

المفاجأة في أطروحة فاضل البراك

لم تمض غير فترة قصيرة حين فاجأني فاضل البراك بتقديمه للجزء الثاني من الأطروحة. فقد جاء إلى المعهد وبيده ملف سلمني إياه على أنه الفصل الثاني. استلمت الملف وبعد حديث قصير خرج فاضل من المعهد فجلست في غرفتي أتصفح محتوياته، فجأة عثرت وسط الأوراق على قصاصة ورق صغيرة . كانت القصاصة عبارة عن رسالة قصيرة من منظر حزب البعث وعضو القيادة القومية فيه اللبناني الياس فرح .الرسالة تقول، الرفيق العزيز فاضل البراك المحترم أرفق لكم الجزء الثاني وسوف اتبعه بالجزء الثالث راجيا لكم الموفقية مع فائق التحية والتقدير.
لم تكن تلك القصاصة غير رسالة واضحة عن المسعى والرغبة الحقيقية لحزب البعث وقياداته وبأية وسيلة كانت في الحصول على شهادة الدكتوراه لأحدهم من معهد الاستشراق. أخذت الملف وذهبت إلى مدير المعهد السيد  بابا جان غفوروف وقدمته له . كان السبب في توجهي إلى السيد غفوروف دون الذهاب إلى السيد كاتلوف وعرضها عليه، هو خشيتي أن يثير الأمر السيد كوتولوف، عندها سوف يرفض الاستمرار بالأشراف على الأطروحة ويقوم بقطع علاقته بمناقشة البراك وتقديمه للدكتوراه. وبعد حديث طويل مع السيد غفوروف طلب مني عدم ذكر أو اطلاع  كاتلوف على محتوى رسالة الياس فرح كي لا يتخذ أجراء ما بحق فاضل البراك، أيضا قال بأن الرسالة سوف تبقى بحوزته، فطلبت منه صورة مطبوعة عنها، فرفض ذلك قائلا، هذا لن يحصل وطلب مني وبشكل رسمي أن لا أتحدث مع أي شخص حول الرسالة. أصبحت الصورة واضحة أمامنا. قدمت ملف الجزء الثاني إلى السيد كاتلوف، وبنفس الطريقة السابقة تداولت بالموضوع معه فراح يغير ويقدم الملاحظات ويعدل في نصوص الجزء الثاني من الأطروحة. وبدوره جاء فاضل البراك وبقناعة تامة ورضا واضح ووافق على جميع التعديلات وذهب حاملا الملف لإعادة طباعته وإرجاعه لنا كي نؤشر ما أجرى عليه من تعديلات. وخلال حديثي مع السيد كاتلوف حول أجزاء أطروحة البراك وكذلك نقاشنا معه حول ما كتبه في الجزئيين الأول والثاني، كنا قد بتنا على قناعة بأنه غير قادر على كتابة مثل هذا البحث، وتيقنت أنا من ذلك عند العثور على رسالة الياس فرح. وفي الوقت ذاته أصبحنا على يقين بضرورة تثبيت رؤية معهد الاستشراق ومنهجيته في متن الأطروحة وكان هذا هو المهم لدينا. _
أكمل فاضل البراك أطروحته، وطْلبَ منه أن يعد لها خلاصة باللغة الروسية، فناشدني شخصيا مساعدته في كتابة هذه الخلاصة، فاعتذرت بسبب وضعي الوظيفي في المعهد الذي لا يسمح لي القيام بمثل هذا العمل، فطلب مني أن أتحدث إلى السيد كاتلوف لإيجاد شخص ما من خارج المعهد يساعده على كتابة الخلاصة فأخبرته بأن مثل هذا العمل ليس من اختصاص كاتلوف أو المعهد فنحن نقوم فقط بالأشراف وتدقيق وتصحيح هذه الخلاصة بعد تقديمها. بعد فترة قدم فاضل البراك الخلاصة باللغة الروسية، ودققتها وناقشتها مع السيد كاتلوف. واستكمالا للإجراءات وبعد موافقة كاتلوف طبعت الخلاصة في مطابع وزارة الداخلية السوفيتية.
عند اكتمال أطروحة الدكتوراه لفاضل البراك ظهرت إشكالية إدارية أمام مناقشتها. فحسب نظام المعهد وقواعد الدراسة فيه، فإن كان الطالب مسجلا للدراسة في المعهد عبر المراسلة، فلا يحق له مناقشة أطروحته أو بحثه إلا بعد مضي عام كامل على تسجيله للدراسة. وبعد أن عرض الموضوع على إدارة المعهد، أخبرني مدير الإدارة هناك، بأن فاضل البراك لم يكمل هذه المدة، وقدمت الدائرة الإدارية بدورها هذا الاعتراض إلى مدير المعهد السيد بابا جان غفوروف. ناقشت هذه العقبة القانونية مع السيد غفوروف فأخبرني بأن اعتراض الإدارة صحيح وقانوني، ولكن في حالة البراك يمكن التجاوز عليها، فاستغربت وسألت عن الكيفية والسبب ولم هذا الاستثناء، فأخبرني غفوروف بأن هناك تعليمات صادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي بضرورة المساعدة والإسراع في إعداد الأطروحة للبراك ومن ثم تحديد يوم لمناقشتها. ولم يقتصر الآمر عند ذلك بل صدرت تعليمات من الجهات السوفيتية العليا بوجوب مساعدته أثناء مناقشته لأطروحته.
قدم فاضل البراك يوم المناقشة بصفة باحث علمي، وبسهولة ودون اعتراض أو تقاطع منح درجة النجاح، وكل ذلك جرى في وقت قياسي بالنسبة لباقي الأطاريح التي قدمت من خلال معهد الاستشراق.
في نهاية المناقشة وحصول البراك على درجة النجاح وبعد برتوكولات التهنئة والترحاب خرجنا جميعا من القاعة، فتوجه البراك نحوي وسألني عن الزمن الذي سوف يحصل فيه على الشهادة، فأخبرته بأن الرسالة سوف تحال إلى الأكاديمية العلمية، وبدورها تحيلها إلى وزارة التربية والتعليم العالي، وأن موضوعة التصديق هذه تستغرق وقتا ليس بالقصير، ربما يستغرق أكثر من شهرين، عندها كرر سؤاله التقليدي عن رغبته بالحصول على مساعدة معهد الاستشراق، واليوم يريد هذا في سرعة إنجاز التصديق على شهادته، فأخبرته بأن الآمر خرج من يد المعهد وأصبح في كنف جهة علمية رسمية أخرى، عند ذلك فاجأني البراك بطرح غريب،بسؤاله عن السبب في منح الدكتور مكرم الطالباني لشهادة الدكتوراه في وقت قصير وقياسي، فأخبرته بأن أطروحة السيد مكرم الطلباني كانت علمية عن الإصلاح الزراعي وطابع وأساليب الحياة الزراعية في العراق منذ العشرينات ولغاية ثورة 14 تموز، ونالت الأطروحة أعجاب أساتذة المعهد لما احتوته من معلومات وبيانات إحصائية علمية دقيقة، ووجد فيها المعهد الكثير من المعلومات التي تهمه ويستفاد منها في بحوثه التي يجريها المختصون عن بلدان الشرق العربي وأنها مرت بجميع مراحل التصديق وحسب القوانين في هذا الشأن. ولكن فاضل البراك وبشيء من الصلف، تساءل عن السبب الحقيقي وراء منح الشهادة لمكرم الطلباني في ذات يوم تخرجه، فأخبرته بخطأ معلوماته عن هذا الآمر، كون المعهد لا يمكن أن يفعل هذا مطلقا، وقواعد عمله ترتكز على مناقشة البحوث والأطاريح لتذهب جميعها بعد ذلك إلى الأكاديمية العلمية ثم يعهد أمرها إلى وزارة التعليم العالي وهي بالذات من يقرر منح الشهادة. عند ذلك قال فاضل البراك بعصبية ظاهرة، لن يكون لدي شارب إن لم أمنع وزارة التعليم العراقية من المصادقة على شهادة مكرم الطلباني، فسألته عن سبب غضبه وقوله هذا فأجابني، إلا يكتفي الحزب الشيوعي وأعضاءه من نيل الشهادات والدرجات العلمية. وفعلا فقد سألت بعد مضي وقت، عما جرى لتصديق شهادة السيد مكرم الطلباني بعد أن قدمها في العراق، فأخبرت بأن وزارة التعليم العالي تماطل في المصادقة عليها في الوقت الذي صادقت الوزارة بعد حين على شهادة فاضل البراك خلال فترة قصيرة جدا بعد سفره إلى العراق .
من المفارقات إن فترة إعداده ومناقشته لأطروحة الدكتوراه توطدت علاقته معي وبات من السهل أن يتصل بي ويطلب مساعدتي أو المشورة حتى في شؤونه الشخصية. فبعد المصادقة على شهادة الدكتوراه من قبل وزارة التعليم العالي السوفيتية كان يهاتفني في بعض الأمور ومنها طلب مساعدته لشراء شقة وسيارة لصديقته الروسية فسألته عن طبيعة علاقته بتلك الفتاة وما هي مواصفاتها فاخبرني بأن أسمها لودا وهو تصغير لأسم لودميلا، وبأنها جميلة وطيبة ومخلصة جدا له. فأجبته بأن ليس لي علاقات شخصية تؤهلني لمساعدتك، وليس مركزي الوظيفي يسمح لي بذلك. بعد ذلك  قمت بإخبار غفوروف عن الموضوعة، فقال لي غفوروف إن هذا البراك رغم مهامه المخابراتية ووضعه وطبيعة عمله الوظيفي، فهو يبدو غبيا جدا، فهذه الفتاة نعرفها وهي تعمل لصالح المخابرات السوفيتية، فاستغربت بدوري هذا الآمر، وسألت غفوروف عن الكيفية التي عرف بها عن هذه الفتاة وعلاقتها بالبراك، فأجابني بأن موقعه الحزبي والوظيفي يتطلبان معرفة ما يدور حولنا. وحسب ما عرفت بعد ذلك، فأن البراك قد أشترى فعلا لعشيقته هذه شقة وسيارة. وفي ذات الفترة ذهب أيضا إلى العراق ليتزوج من امرأة من أهالي بلدة العوجة وقد جلبها معه إلى موسكو وأقام حفلة لزواجه في أحد مطاعم العاصمة ودعاني وغفوروف لهذه الحفلة فاعتذرنا عن حضورها. وسبق له أن حدثني عند نهاية مناقشة أطروحته، عن رغبته بإهدائي سيارة كان يملكها،وذلك لما قدمته له من مساعدة في مراحل أعداده للأطروحة أو أثناء نقاشها، فشكرته على هذا الشيء وأخبرته بشكل جاد ورسمي، بأن ما قمت به وبذلته من مساعدة في ذلك الوقت ، لا يعني على الإطلاق وجود علاقة شخصية بيننا أو مع الآخرين في المعهد، ونحن لسنا في العراق لنتقبل الهدايا على جهود وظيفية قدمناها، فأنا كنت مكلف بتلك المهام، وكل ذلك تم بحضور مدير معهد الاستشراق بابا جان غفوروف.
خلال إعداد أطروحة الدكتوراه من قبل فاضل البراك أجرى الحزب الشيوعي العراقي احتفالا بذكرى تأسيس الحزب، ووجهت دعوات من ضمنها دعوة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي تنظيم الاتحاد السوفيتي، وعند ذلك حضر فاضل البراك ممثلا عن حزب البعث . قبل بدا الحفل أخبرني خليل الجزائري الذي كان مسؤولا آنذاك عن تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي، بحضور فاضل البراك وطلب مني الجلوس بالقرب منه، فسألته عن السبب في طلبه هذا، وما هي الأسباب التي تتطلب مني الجلوس بالقرب من البراك، فاخبرني الجزائري بأن هذا الآمر هو مهمة حزبية أكلف بها، لذا جلست بجوار البراك ورحنا في حديث متشعب جله كان عن أطروحته. أثناء الحفل عرضت للمزاد صورة للرفيق فهد ، فأخبرني البراك بأنه سوف يشارك بالمزاد وأنه سوف يسعى لأجل الاستحواذ على صورة فهد مهما بلغ الثمن، عندها سنحت لي الفرصة لإبلاغ خليل الجزائري بهذا الآمر، وطلبت منه رفع قيمة المزايدة. وفعلا أخذ البراك برفع قيمة المزايدة إلى ثمن كبير جدا أوصله في النهاية إلى مبلغ 200 روبل في الوقت الذي كان راتب رئيس الوزراء حينذاك يبلغ 400 روبل. جيء بالصورة فوضعها البراك جوار المنضدة، ثم نادى على السائق وطلب منه وضعها في حوض السيارة، وبفضول سألت البراك عن سبب رغبته الحصول على صورة الرفيق فهد وما سوف يفعل بها، فقال بأنه سوف يتلفها، فدهشت واستنكرت ما سوف يقوم به، فأجابني وهل تريد مني أن أقوم بدعاية خاصة للرفيق فهد بين أوساط حزب البعث.
من خلال معرفتي بفاضل البراك وجدت إن الكثير من أفعاله تبعث على الريبة، فقد استطاع بناء علاقات ليست بالبسيطة أو العابرة مع بعض رفاقنا في الحزب الشيوعي العراقي،  ولوحظ تقربه ولقاءاته الكثيرة بالبعض من هؤلاء، وبالذات خليل الجزائري وحميدة سميسم.
كان فاضل البراك ومنذ بداية قدومه إلى موسكو قد وضع نصب عينيه شخصية خليل الجزائري وكان يكن له حسب ما يدعي كرها شديدا، وقد ألمح لذلك أمامي، وكانت هناك فعلا مماحكات كثيرة بين الشخصين، رغم أن تلك الفترة كانت فترة الجبهة الوطنية بين البعث وحزبنا الشيوعي. بعد فترة ليست بالقصيرة أخبرني بعض الرفاق في المنظمة الحزبية برؤيتهم لفاضل البراك جالسا في أحد مطاعم العاصمة مع خليل الجزائري، عندها سألت خليل الجزائري عن تلك الجلسة فأخبرني بأن فاضل البراك قد دعاه على وجبة طعام فلبى دعوته، ودار الحديث بينهما عن طبيعة العلاقة بين الحزبين، والتطورات السياسية في العراق، وسألت فاضل البراك عن تلك الدعوة، فأخبرني بأنه أراد منها أن يكسر جناح خليل الجزائري ونعته بالسافل. بعد تلك الجلسة راح خليل الجزائري يتقرب من البراك ويدخل ويخرج من السفارة العراقية، ثم خرج من تنظيمات الحزب الشيوعي وسافر إلى براغ وهناك عمل مع مجموعة النهج ثم سافر إلى بغداد  وشكل هناك مع خالد السلام وماجد عبد الرضا مجموعة أراد حزب البعث تسويقها بديلا عن الحزب الشيوعي، ولكن بعد مقتل فاضل البراك أعتبر صدام حسين هذه المجموعة من نتائج العلاقة مع فاضل البراك ومن عوائده وخاصته. ومثلما أطاح البراك بخليل الجزائري وجعله عميلا لحزب البعث، استطاع الوصول إلى حميدة سميسم وضمها إلى خانته. كانت شخصية حميدة شخصية ضعيفة متملقة وصولية، لذا فهي بالذات من بادر بالتعرف والتقرب من فاضل البراك داخل الملحقية العسكرية العراقية في موسكو، وكان من نتائج تلك العلاقة أنها وبعد رجوعها إلى بغداد،فقد عملت مباشرة مديرة لمكتب فاضل البراك حين أصبح رئيسا لجهاز الأمن العام، واعتقلت حميدة سميسم لفترة بعد أن أقيل البراك ثم أعدم.
أيضا فأن كتاب فاضل البراك عن شخصية القائد الكردي السيد مصطفى البرزاني قد استقى المعلومات التي جاءت فيه عبر علاقته التي بناها مع الشخصية الكردية عز الدين رسول، والبراك هو من جعل عز الدين رسول أحد المقربين من احمد حسن البكر.
بعد حصول فاضل البراك على شهادة الدكتوراه وتصديقها من قبل وزارة التربية والتعليم العراقية لم يستمر البراك في وظيفته كمعاون للمحق العسكري العراقي في موسكو ونقل بعد ثلاثة أشهر إلى بغداد ليعين مديرا لجهاز الأمن العام العراقي.


من هو فاضل البراك       
ولد فاضل البراك في مدينة بيجي العام 1942 وأكمل دراسته الثانوية في تكريت العام 1960 ودخل الكلية العسكرية. بعد انقلاب 17 تموز 1968 منح البراك رتبة نقيب والحق في حماية الرئيس احمد حسن البكر.ثم بعد خلافه مع زوجة البكر، نسبه صدام في حماية مقر الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية. بعد فترة تم تعيينه معاونا للملحق العسكري العراقي في موسكو، ومسؤولا عن تنظيمات البعث في الاتحاد السوفيتي. في العام 1976 وعاد البراك إلى بغداد بعد حصوله على الدكتوراه من معهد الاستشراق السوفيتي وعين مديرا للأمن العام وعضوا في المكتب العسكري لحزب البعث. كان للبراك الدور الكبير في انقلاب وردة حزب البعث عن الجبهة الوطنية، وقيامه بقيادة الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي العراقي، وقتله وتشريده للعديد من أعضاء الحزب. وبعد فترة طويلة من عمله الوظيفي القي القبض عليه واقتيد إلى مبنى الحاكمية في شارع 52 ببغداد، ووجهت إليه تهمتان، الأولى اعتباره جاسوسا لألمانيا الشرقية والاتحاد السوفيتي، والتهمة الثانية: إثراؤه غير المشروع، والحصول على عمولات من تجار ورجال أعمال.أمضى البراك عامين في السجن وأصيب بالشلل ومن ثم اعدم نهاية عام  1993 .





135

محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز
الحلقة الثانية
التقاه فرات المحسن

 


في معهد الاستشراق 

في أحد الأيام علمت بانعقاد مؤتمر لصحفيي أسيا وأفريقيا في يرفان عاصمة أرمينيا السوفيتية، وبلغت بأني سوف أكون عضوا باللجنة التحضيرية التي تهيئ للمؤتمر، ومهمتي فيه تتركز بمتابعة ولقاء ومرافقة الصحفيين العرب الذين سوف يكونوا ضمن وفود المؤتمر. ذهبت بحماس إلى يرفان وكنت خلال المؤتمر أبذل جهودا ليست بالهينة وأحاول بذل ما استطيع لأفي ما كلفت به حقه، ولذا لاحظ البعض نشاطي داخل المؤتمر. في اليوم الثالث من المؤتمر أقترب مني شخص وقال لي أن ذلك الرجل وأشار بأصبعه نحو المنصة، يريد مقابلتك خلال الاستراحة، فسألته من يكون ذلك الرجل فأخبرني بأنه نائب رئيس منظمة التضامن الأفرو أسيوي ورئيس معهد الاستشراق الرفيق بابا جان غفوروف .ذهبت إثناء الاستراحة لمقابلته فسألني مباشرة هل أنا أوزبكي فقلت لا. أذن من أين أنت فقلت له أنا من العراق. فقال والدهشة بادية عليه، معقولة أنك من العراق.فقلت ولم لا . قال لأنك نشط وفعال، وتتكلم اللغة الروسية بإتقان . ثم راح يسألني عن طبيعة عملي في المؤتمر وما هي المهنة أو الموقع الوظيفي الذي أتبوئه الآن، فأخبرته بوضعي الدراسي وأني بعد شهر من الآن سوف أدافع عن أطروحة الدكتوراه في كلية الصحافة بجامعة موسكو، وأطروحتي بالتحديد عن الصحافة المصرية وقانون تنظيم الصحافة هناك. أستمر حديثنا لفترة ليست بالقصيرة وسألني في نهايته عن المشاكل والمعوقات التي أعانيها فأخبرته ببعضها وكان منها بعض المشاكل العلمية والمنهجية مع السيد بريماكوف، تتعلق بطبيعة المعلومات التي قدمتها في أطروحتي. وأخبرت السيد بابا جان غفوروف بأن السيد بريماكوف كان عاملا مساعدا في تجميد أطروحتي للدكتوراه لفترة بسبب خلاف سياسي وفكري. فأنا أعتقد بأن التوجه السياسي في مصر لا يعدو غير توجه وطني محلي، لا علاقة له بالاشتراكية، وليس في وارد تفكير القيادة المصرية بناء الاشتراكية حسب المفهوم الشيوعي، وقد تولدت عندي هذه القناعة خلال لقاءاتي بالرئيس جمال عبد الناصر وشعراوي جمعة وآخرين من القادة المصريين. وهذا الرأي قد ذكرته في أطروحتي ، لذا جمدت مناقشتها ومن ثم حولت إلى معهد الماركسية اللينينية لدراستها وتبيان الرأي. وقد أخبرت من بعض الرفاق بوجود ملاحظة تقول بأن ما جاء في الأطروحة فيه الكثير من الصحة، ولكنه يبتعد بشكل وأخر عن توجهات ورؤية الحزب الشيوعي السوفيتي، حيث يعتقد البعض بأن القيادة في مصر تتخذ خطوات سياسية واقتصادية وتسير في الطريق الصحيح  لبناء الاشتراكية . فقال لي السيد غفوروف، لا عليك في هذا الشأن. وأخبرني بأنه سوف يرسل وفدا من مؤسسته ( معهد الأستشراق ) لحضور مناقشة أطروحتي للدكتوراه . وقد بر بوعده وحضر المعهد يوم المناقشة وفد من معهد الاستشراق. وكنت أنا في كامل الاستعداد للدفاع عن أطروحتي ونيل الدكتوراه، لذا حاججت المشرفين على أطروحتي بشكل دقيق ومسهب. وفي نهاية المناقشة نلت درجة الدكتوراه. وبعد انتهاء دفاعي أخبرني وفد معهد الاستشراق بأن السيد غفوروف يريد حضوري غدا إلى المعهد فذهبت في اليوم التالي إلى هناك وقابلت رئيس المعهد السيد بابا جان غفوروف الذي هنأني على النجاح،وبعد حديث طويل فاجأني برغبته أن أكون موظفا في المعهد وبدرجة باحث علمي أقدم بالوكالة، وليس باحث علمي مبتدأ، فطلبت منه إيضاح ذلك ولماذا بالوكالة، فقال بأنه لا يستطيع تعييني بوظيفة باحث علمي أقدم، لأنه لم يمض علي بالوظيفة أكثر من عشر سنوات، وأنه ذهب إلى هذا الخيار ليكون لي راتبا جيدا ، فالباحث العلمي يأخذ 150 روبلا في حين إن الباحث العلمي الأقدم يأخذ 180 روبلا في الشهر .


مع ثمينة ناجي يوسف زوجة الشهيد سلام عادل في يوم افتتاح
شارع سلام عادل  وسط موسكو


كانت المقابلة مع السيد غفوروف مليئة بالمفاجئات وذهلت من حديثه، ولم أجد أمامي سوى الموافقة مباشرة على ما طرح علي من موقع وظيفي، وهو في أحد أهم المؤسسات العلمية الرصينة في الاتحاد السوفيتي.
 في اليوم التالي قمت بأخبار الحزب بما جرى من وقائع مع السيد غفوروف،وكانت تلك الأحداث في أعوام السبعينات من القرن العشرين وكان الرفيق عزيز محمد فيها سكرتيرا للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. فأخبروني الرفاق بأن هناك قرار قد اتخذ بشأن الرفاق الذين يحصلون على الشهادات الدراسية النهائية وحسب الشعار الذي وضعه الحزب وهو( التفوق العلمي والعودة إلى الوطن) وهذا الآمر يشملني وعلي العودة إلى العراق. لم التزم بقرار الحزب وذهبت إلى معهد الأستشراق وحسب تعليمات السيد غفوروف استلمت هوية المعهد وسلموني شقة مؤثثة بالكامل وبأربع غرف وباشرت بعملي هناك. ولكن الرفاق في الحزب كانوا يضغطون علي بشدة وأبلغوني بضرورة السفر إلى سوريا ومن ثم عبور الحدود السورية العراقية والدخول إلى كردستان العراق للعمل مع الأنصار في الجهاز إلا علامي للحزب.فأجبتهم بأني أرى إن العمل في معهد الاستشراق أفضل لي وأنفع للحزب.فأجابوني الرفاق، بأن العمل في معهد الاستشراق يتطلب موافقة الحزب الشيوعي السوفيتي بعد تقديم طلب من الحزب الشيوعي العراقي، ومن المستحيل أن نخطو مثل هذه الخطوة، كون هناك قرارا حزبيا بالعودة إلى الوطن يشمل كافة الرفاق. عندها أخبرت الرفاق ببدء عملي في معهد الاستشراق وعرضت عليهم هوية المعهد عندها أصيبوا بالذهول.
كان عملي في معهد الاستشراق فرصة ذهبية لي ولم تكن لتتوفر لغيري في ذلك الوقت، ولذا سعدت أيما سعادة ودخلت في لجة العمل بكل طاقة كنت أحملها. ولا أنكر بأني استطعت من خلال المعهد  بناء وتوطيد علاقاتي بشخصيات حزبية ودبلوماسية سوفيتية وكذلك من باقي الشخصيات من مختلف البلدان. وقد سافرت وقابلت الكثير من رؤساء وملوك ورجال سياسة وحكام عرب وغيرهم. كذلك أتاح لي معهد الاستشراق الاطلاع على خبايا ومكنونات سياسية ودبلوماسية واسعة وكثيرة، كنت ومازلت أحملها في خاطري وكأنها حدثت البارحة. لذا أود أن أدونها ليطلع عليها الناس. وأجد في نفسي اليوم كشاهد حقيقي على تلك الوقائع ما يدفعني لوضعها أمام رفاقي وأصدقائي بكل دقة وصدق وأمانة في محاولة لأن ينصف التاريخ الجميع ومنهم أنا.


فاضل البراك وأطروحة الدكتوراه



مع مدير معهد الاستشراق السيد غفوروف والباحث سعيد كميلوف وفاضل البراك


وصل فاضل البراك إلى موسكو ليعين كمعاون للملحق العسكري في السفارة العراقية وليكون أيضا مسؤولا حزبيا عن تنظيمات حزب البعث في الاتحاد السوفيتي. في نهاية عام 1971 وبداية 1972 وأثناء عملي في معهد الاستشراق السوفيتي أرسل مدير المعهد السيد بابا جان غفوروف بطلبي لمقابلته، حيث أعلمني بضرورة حضوري في اليوم التالي إلى غرفته  كون هناك شخص أسمه فاضل البراك وهو معاون الملحق العسكري العراقي في سفارة العراق سوف يأتي إلى المعهد. كنت قد سمعت بهذا الاسم وسبق لي أن قابلته بشكل عرضي، أيضا حصلت من خلال رفاقنا في الحزب الشيوعي العراقي على معلومات مفصلة عن وظيفته ومهام عمله الحزبي في الاتحاد السوفيتي. أخبرني السيد غفوروف بأن مجيء فاضل لبراك إلى المعهد كان بطلبه، وهناك موافقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وذلك لتسهيل رغبته ورغبة قيادة حزب البعث في كتابته لأطروحة دكتوراه، يكون معهد الاستشراق بالذات مشرفا على أعدادها.وقال لي السيد غفوروف بأن علي حضور المقابلة دون التدخل، فقط عليَّ مهمة الاستماع لما يدور بينه وبين فاضل البراك وكان السيد سعيد كاميلوف وهو باحث علمي في المعهد  يترجم الحديث.

حضر فاضل البراك في اليوم الثاني وبالموعد المحدد، وقدمني له رئيس المعهد السيد غفوروف كوني موظفا بالمعهد بدرجة باحث علمي. كانت مقابلتي الأولى له متشنجة بعض الشيء،ولكن بعد برهة فاجأني بسؤال: هل سبق أن التقينا فأجبته بنعم ، فقال لي وكان يريد أن يضفي على اللقاء جوا من المزاح، ربما استطيع أن أوجه لك رصاصة تنهي حياتك، وكان يعني في ذلك، بأنه ينفذ حكم الإعدام بحقي، والذي سبق أن صدر ضدي في العراق على عهد عبد الكريم قاسم. فأجبته، وما يمنعك من تنفيذ تهديدك الآن، فقال لقد رغبت التعبير عما أفكر فيه هذه اللحظة وليس قتلك الآن. واجهته بنظرات سخريه وبقيت جالسا مكاني أتابع هيئته وطريقة حديثه.
بادره غفوروف بالسؤال عن الموضوعة التي اختارها لأطروحته، فأجاب البراك بأنه اختار حركة رشيد عالي الكيلاني كموضوعة أساسية للدكتوراه. ففاجئه غفوروف بأن نبهه قائلا إن هذه الحركة كانت من الحركات القومية في محتواها وتوجهاتها، وحتى قيامها لم يأت في الوقت المناسب. وقد استرسل غفوروف بالشرح لطبيعة ودوافع قيام تلك الحركة، وكان حديثه ينم عن معرفة معمقة وكاملة بحركة رشيد عالي الكيلاني. وبدوري شعرت بأن الرفاق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي قد نبهوا مسبقا السيد غفوروف عن الموضوعة التي أختارها البراك لأطروحة الدكتوراه، لذا بذل غفوروف جهدا ليس بالقليل للاطلاع على معلومات وافية عن تلك الحركة. بعد ذلك قال غفوروف بأن اتجاهات معهد الاستشراق في تناول مثل هذه المواضيع هي اتجاهات علمية، والمعهد يعتمد في بحوثه وتحليلاته على النظرية الماركسية اللينينية، وإذا أردنا دراسة وتحليل حركة الكيلاني فسوف نأخذها في سياق معاداتها للامبريالية، ونهمل نهجها وتوجهاتها القومانية. عندها أجاب فاضل البراك بسرعة ودون تردد، بأنه مستعد للتعاون مع المعهد بأقصى ما يمكن، وأنه سوف يطرح دراسته وما عليكم غير أبداء رأيكم وتشذيب ما ترتئون تشذيبه أو حجبه. بعد ذلك قال السيد غفوروف للبراك بأن هناك شخص قدم دراسة عن ثورة العشرين في العراق وهو الرفيق كاتالوف،وهذا الرفيق باحث في المعهد مختص بأوضاع العراق، وكتابه هذا مترجم إلى العربية، ويعد من أهم الكتب التي صدرت حول ثورة العشرين وعلى البراك الأخذ بما جاء في كتابه. بعد هذه المعلومة وجه للبراك سؤال عن معرفته بذلك الكتاب أو مؤلفه، فأجاب البراك بأنه يعتقد بسماعه أسم المؤلف ولكن لا توجد لديه معلومة عن الكتاب ومؤلفه، عندها أخبره غفوروف بأن مؤلف الكتاب كاتولوف هو واحد من الباحثين العاملين في المعهد، وسوف يكون مشرفا على أطروحته التي ينوي تقديمها، أما المسؤول الثاني عن ذلك فهو الأستاذ خليل عبد العزيز وهو المسؤول الإداري عن جميع ما يتعلق بإعداد أطروحتك ولا علاقة لك بمعهد الاستشراق إلا من خلاله، وأي شيء يتعلق بالأطروحة  فعليك مراجعة دكتور خليل عبد العزيز.بعد ذلك اللقاء أعطاني فاضل البراك رقم هاتف الملحقية العسكرية في سفارة جمهورية العراق وبدوري أعطيته رقم هاتف المعهد.
واستكمالا للإجراءات قمت بالاتصال بالسيد كاتلوف وأخبرته بموضوع أطروحة الدكتوراه لفاضل البراك، ولكنه فاجأني بكونه على اطلاع بتلك الإجراءات، بعد أن أخبر من قبل الجهات العليا في الحزب الشيوعي السوفيتي، بإن موضوع الأشراف على الرسالة قد أتفق على أمره بين الحزب الشيوعي السوفيتي وحزب البعث في العراق، وهذا الأخير وحسب معلومات الحزب الشيوعي السوفيتي، له رغبة في إعداد كوادر علمية وثقافية تبز في إمكانياتها كوادر الحزب الشيوعي العراقي. في ذلك الوقت أخبرني كاتالوف رغبته مقابلة فاضل البراك في بيته وليس في مكتبه داخل المعهد، وبرر ذلك بأنه يحتاج إلى أن يأخذ حريته في الحديث مع فاضل البراك. بدوري  طلبت من فاضل البراك الحضور لمرافقتي والذهاب إلى بيت السيد كاتلوف. جلسنا في غرفة الضيوف وبدء السيد كاتلوف الحديث مع فاضل البراك حول طبيعة ما يسمح تناوله في الأطاريح التي تقدم من خلال معهد الأستشراق، وضرورة أن تحمل توجها أمميا اشتراكيا، ولا يسمح على الإطلاق أن تكون الأطاريح والرسائل حاملة لمفاهيم وتوجهات قومية، وكان كلام كاتلوف صريحا واضحا ومباشرا. بدوره كان البراك يصغي لما أترجمه له بكل جدية واهتمام. عند نهاية حديث كاتلوف، سألت بدوري فاضل البراك عن ما أنجزه من أطروحته، فأخبرني بأنه أنجز منها الكثير، وسوف يسلمني الفصل الأول منها بعد أسبوع.دهشت من قوله، فكيف استطاع أنجاز الفصل الأول في هذه المدة القصيرة، على أن تتوافق مع ما طرح عليه في معهد الاستشراق،ولم اخف استغرابي من ذلك لذا أخبرت كاتلوف لاحقا بهذا الأمر، فتساءل أن كان البراك وجماعته قد أعدو ذلك مسبقا. وتوجه لي بالقول إن علي شخصيا قراءة الفصل الذي يقدمه فاضل البراك جيدا، وأن أقدم له خلاصة مفصلة حوله، على أن يقوم هو بعدها بمناقشته مع البراك دون تدخل مني. بعد مضي شهر من تلك المقابلة اتصل بي فاضل وقدم لي الفصل الأول من أطروحته وكان باللغة العربية، وبعد أن قرأته وجدته وكأنه أعد من قبل الجهاز الحزبي البعثي ، حيث قدم فيه تصورا عن حركة رشيد عالي الكيلاني وكأنها حركة قومية لا بل كانت تحمل بذور فكر حزب البعث العربي الاشتراكي. عندها اتصلت بفاضل البراك وناقشته بالأمر وأخبرته بأن ما كتبه يخالف ما اتفق عليه مع مدير المعهد غفوروف والمشرف السيد كاتلوف، وهذا يعد خروجا عن نهج المعهد الذي يمنح ويصادق على الشهادات، فأجابني فاضل بأن هذا الأمر صحيح، وأنه سبق ومنحنا صلاحية التدخل وتغيير ما نرتئيه ويتوافق ورؤية المعهد ومنهجيته، وأضاف بأن من حقي أن أضيف وأنقح وأغير حسب ما أريد،  فأخبرته بأن مثل هذا العمل ليس من اختصاصي ومهامي، ومن يقرر ذلك هو السيد كاتلوف لأنه المسؤول الأول والمشرف العلمي على الأطروحة.
قدمت الفصل الأول وخلاصته إلى السيد كاتلوف وأخبرته بما دار بيني وبين فاضل البراك من حديث. وبعد أن قرأ كاتلوف هذا الفصل قرر بأن ما جاء فيه لا يصلح، كونه لا يتوافق والمناهج العلمية التي تسير عليها سياسة المعهد، وهي الأسس الماركسية اللينينية، وأخبرني بأنه لن يدخل تعديلات على هذا النص بغير حضور البراك، في اليوم التالي جاء البراك فقدم السيد كاتلوف ملاحظاته بدقة متناهية عن جميع المعلومات والحوادث التي كتبها فاضل البراك، مؤكدا على ضرورة أن تتغير الكثير من المعلومات بما يتوافق ومتبنيات معهد الاستشراق وسياسة الحزب الشيوعي السوفياتي، وبين للبراك الكيفية التي يتم فيها الابتعاد عن الحس والنوازع القومية العروبية، وقدم له الملاحظات في الكيفية التي يتم بها أجراء التغييرات على الصفحات، وكان كاتلوف قد حددها بالأرقام والأسطر والصفحات.كان فاضل البراك يسجل تلك الملاحظات وبدوري كنت أسجلها أيضا. بعد خروجنا من مكتب كاتولوف، قال لي البراك معاتبا ألم أخبرك بأنكم تستطيعون تغير ما ترتئون تغييره، فأكدت له مرة أخرى بأن التدقيق والتغيير ليس من صلاحياتي، والمشرف هو السيد كاتلوف وهو من يقدم الملاحظات ويأمر بالتغيير، وفي النهاية سوف يكون لوحده معرض للمحاسبة عن مجمل ما تكون عليه أطروحتك للدكتوراه كونه المشرف العلمي عليها.
قمت والسيد كاتلوف بأجراء التغييرات على الفصل الأول من الأطروحة واستدعينا فاضل البراك وقام كاتلوف بقراءة التغييرات عليه. ودون أي اعتراض أو ملاحظة أعلن فاضل البراك موافقته التامة على جميع التغيرات.وكان كاتلوف قد أضاف إلى الفصل بعض الاستدلالات والفقرات من خطاب الرفيق برجنيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وكذلك بعض مقررات المؤتمر العشرين، وهذا الأمر كان من الموجبات في أية رسالة أو أطروحة أو دراسة تصدر عن المعهد في ذلك الوقت. وبعد أن استلم فاضل البراك النص المعدل أعاده بعد أيام مطبوعا وقد أجرى عليه جميع التعديلات التي طلبها منه كاتلوف.
كنت وكاتلوف ونحن نناقش بعض الشأن بأطروحة فاضل البراك وموافقته دون شروط على ما نجريه من تعديلات في نص الأطروحة وبإضافات واضحة من النهج والفكر الاشتراكي للسوفيت، كنا قد ارتأينا وتوافقنا على الرأي، بأن غاية فاضل البراك من التقديم للدكتوراه، ليس البحث العلمي بقدر ما كان يريد الحصول على السمعة المهنية وبالذات من معهد الاستشراق السوفيتي بأي سبيل كان


136
محطات وشخوص في  حياة الدكتور خليل عبد العزيز
الحلقة الأولى

 

التقاه فرات المحسن

ولد الدكتور خليل عبد العزيز في مدينة الموصل من عائلة متوسطة الحال 

ساهم في الحركة الوطنية منذ أعوام الخمسينات حيث بادر بتشكيل اتحاد الطلبة العراقي العام في مدينة الموصل وأصبح رئيسا له. وشارك في تظاهرات انتفاضة عام 1952 . في العام 1954 أصبح ممثلا للطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي شكلت آنذاك وخاضت الانتخابات النيابية، وعلى أثر قيام حكومة نوري السعيد بحل المجلس النيابي، شارك في التظاهرات الاحتجاجية وعندها صدر أمر بإلقاء القبض عليه، لذا تقرر انتقاله إلى بغداد، حيث أصبح عضوا في اللجنة العليا لاتحاد الطلبة العراقي العام. كما عمل في تنظيمات الطلبة التابعة للحزب الشيوعي العراقي. في عام 1956 ألقي القبض عليه في بغداد وصدر قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة عام واحد قضاها في سجن بعقوبة، وبعد انتهاء فترة الحكم ، أبعد إلى مدينة بدرة الحدودية التابعة للواء الكوت. بعد ذلك سيق إلى معسكر الشعيبة جنوب العراق لأداء الخدمة العسكرية بعد أن تم فصله من الدراسة وزوال أعذار تأجيله من أداء الخدمة العسكرية. وكان معسكر الشعيبة يضم أكثر من 150 مناضلا وطنيا من جميع أنحاء العراق. وأثناء خدمته في ذلك المعسكر قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.

 بعد ثورة 14 تموز عاد إلى الموصل وتقلد مركز رئيس اتحاد الطلبة العراقي العام هناك. أعتقل ليلة مؤامرة الشواف وأودع في الثكنة الحجرية. أطلق ضباط وجنود كتيبة الهندسة الموالون للجمهورية سراحه مع بقية المعتقلين. ساهم بنشاط في عمليات قمع حركة الشواف. في عام 1959م صدرت بحقه عدة أحكام بالإعدام بتهمة المساهمة في القتل وقمع مؤامرة الشواف، هُربَّ إلى موسكو من قبل الحزب الشيوعي، ليبدأ صفحة أخرى من حياته. أنهى فيها الكلية التحضيرية للغة الروسية، ثم درس وحصل على الماجستير عن رسالته حول الحزب الوطني الديمقراطي العراقي. نال بعدها شهادة الدكتوراه في الإعلام، وعمل باحث علمي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو، يعيش حاليا في العاصمة السويدية ستوكهولم.

 

 يتذكر الدكتور خليل عبد العزيز الكثير من تلك الأحداث التي سبقت ثورة الرابع عشر من تموز وما تلاها أيضا :

 

بعد تسريحي من الخدمة العسكرية في قاعدة الشعيبة جنوب مدينة البصرة إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز،ذهبت إلى بغداد، حيث قابلت هناك الرفيق جمال الحيدري الذي اخبرني بضرورة ذهابي إلى مدينة الموصل لاستلام قيادة اتحاد الطلبة العراقي العام هناك، والذي كنت في الأساس المؤسس الفعلي له عام 1952 ،على أن تقرر منظمة الحزب الشيوعي في الموصل مستقبلا مركز عملي داخل الحزب. عند مقابلتي للرفيق جمال الحيدري اخبرني بضرورة الذهاب إلى مكتبة السيد يعرب البراك والتي تقع في ساحة الأمين، وهناك سوف يقابلني الرفيق عزيز الحاج ويسلمني التعليمات وأجور السفر.عندها ذكرت الرفيق جمال الحيدري بحادثة سابقة وقعت في سجن بعقوبة عام 1956 حيث التقانا مسؤول التنظيم الحزبي آنذاك الرفيق كريم أحمد،وقابلني والرفاق نافع يونس وعدنان عبد القادر، وأخبرنا  بضرورة الانتباه للرفيق عزيز الحاج والاعتناء به، وقال أن الرفيق الحاج على وشك الانهيار، ويجب علينا مراقبته وأيضا رفع معنوياته.لذا سألت الرفيق جمال الحيدري  عن  الذي تغيير اليوم ليطلب مني استلام التعليمات من عزيز الحاج، فأجابني الرفيق الحيدري بأن ذلك أصبح من الماضي، وعليَّ أن أنسى ذلك الموضوع وأبعده عن ذهني كليا، فعزيز اليوم أحد قادة الحزب،  والمهمة الملقاة على عاتقي هي الذهاب لمقابلة عزيز الحاج وأخذ التعليمات منه. وفعلا ذهبت إلى هناك ووجدت الرفيق عزيز الحاج فسألته عن التعليمات فأخبرني بعدم وجود تعليمات محددة، وأعطاني نصف دينار وطلب مني شراء بطاقة سفر للذهاب إلى الموصل وهناك سوف تحدد طبيعة عملي.

 

اتحاد الطلبة العراقي العام في الموصل

 

بعد وصولي إلى الموصل عقد اتحاد الطلبة العراقي العام اجتماعا اُنتُخبت خلاله رئيسا لهيئته القيادية. كانت الأجواء السياسية في مدينة الموصل عند نهاية عام 58 وبداية عام 1959 متوترة ومشحونة بالضغينة ومعاداة ثورة 14 تموز وكانت الأوضاع مرتبكة وحساسة جدا. كنت قد وصلت الموصل في أيلول عام 1958 وكان أعضاء اتحاد الطلبة العراقي العام ومثلهم الشيوعيون شجعانا وصداميين، رغم قلتهم، لا يتهيبون أعدائهم من القوميين والأخوان المسلمين وقوى الرجعية والمؤسسة الدينية وأغلب ضباط الجيش في المواقع العسكرية داخل المدينة.

وفي محاولة لجس النبض أو هي محاولة للإحاطة بالحدث وكشف بعض خيوطه قبل حدوثه، لذا قررنا في قيادة اتحاد الطلبة العراقي  العام تشكيل وفد للذهاب ومقابلة آمر موقع الموصل العسكري العقيد عبد الوهاب الشواف، وكان موقعه العسكري يجعله أعلى سلطة إدارية وسياسية في المدينة. وبعد طلبنا المقابلة جاءنا بعد أيام الجواب بالموافقة، فذهبنا لمقابلته. في المقابلة طلبنا من العقيد الشواف المساعدة لإيجاد مقر ثابت للاتحاد، فكان رده هادئا وكيسا، حيث قال .

ــ أبنائي .. يقال عنكم أنكم شيوعيون ، وأنتم دائما تلتقون في مقهى عبد هبراية. فأنكرنا ذلك وأخبرناه بأننا اتحاد للطلبة ولا علاقة لنا بالحزب الشيوعي، ونحن منظمة مفتوحة لجميع طلبة العراق، أما جلوسنا في ذلك المقهى، فنحن نضطر أن نتخذها مقرا لنا لعدم امتلاكنا مقرا حقيقيا.

  بعد هذا الحديث تعهد العقيد الشواف بإيجاد مقر لاتحادنا مؤكدا على أن الغرض من تعهده هذا هو أبعادنا عن المشاغبين والمخربين. وبارك جهودنا كمجموعة طلابية ثم دعانا للركوب معه بسيارته العسكرية وتوجه بنا إلى مكان قريب من مطار الموصل، وهناك أشار وحدد لنا قطعة أرض قال أنها سوف تكون ناديا ومقرا لكم وأنا أمنحكم إياها، فأخبرناه بأننا لا نملك ما يساعدنا على بنائها، فقال لن تتكفلوا انتم ببنائه وإنما سوف أوجه أمرا لإمرية الهندسة العسكرية للمباشرة بالبناء. وعندما كان يعرض علينا قطعة الأرض وموقعها كان هاجسنا وظننا إن الشواف يريد أن يضع الاتحاد وقيادته تحت المراقبة والسيطرة.

أثناء وقوفنا مع العقيد الشواف عند قطعة الأرض، جاء مقدم اللواء في معسكر الموصل المدعو محمود عزيز، وكان هذا ضابطا مساعدا للعقيد الشواف في الكثير من المهام التي يكلفه بها. كان المقدم محمود عزيز وهو محسوب على القوميين العرب، ضابطا شرسا يحمل حقدا كبيرا على الحزب الشيوعي وقادة ثورة 14 تموز، ولعب دورا أساسيا في التحريض على قيام مؤامرة الشواف.

بعد أن أدى المقدم محمود عزيز التحية تفاجأ العقيد الشواف بحضوره وتساءل عن سبب مجيئه، فطلب المقدم محمود الانفراد بالعقيد الشواف ليخبره بشيء خاص.فسمعنا بعضا من حديثه الذي ركز على كوننا شيوعيون، فتساءل العقيد الشواف عن الذي يدعي هذا، فأجابه المقدم محمود بأن هذا الطالب خليل عبد العزيز شيوعيا وكان سجينا في العهد الملكي،وإن اتحاد الطلبة العام واجهة من واجهات الحزب الشيوعي. وكان جواب الشواف بكلمة واحدة ـ ميخالف .. ميخالف . ثم عاد ألينا ليقول هذا هو مقركم وسوف يبنى لكم هنا ناديا. وعدنا معه أدراجنا إلى المدينة .

في تسارع للأحداث كانت مدينة الموصل تغلي والوضع يوحي بالكثير من التداعيات. جاء قرار إقامة مهرجان أنصار السلام في المدينة وبلغنا كاتحاد لطلبة العراق بالتهيؤ لتنظيم ما يليق باستقبال الوفود القادمة من مدن العراق للاحتفال في مدينة الموصل. ومع وصول خبر المهرجان هاجت مشاعر العداء بين القوميين العرب والأخوان المسلمين والكثير من الضباط المعادين للثورة وللحزب الشيوعي وحركة أنصار السلام، وبدورنا اكتشفنا أن جميع هؤلاء قد أعدوا العدة للانتفاض والعمل على تخريب احتفالات المهرجان و قبلها منعه من القيام بفعالياته في المدينة.وبدورنا فقد جهزنا كوادرنا للوقوف بوجه تلك النوايا الخبيثة.   

تطورت الأحداث وقام العقيد الشواف بحركته العسكرية التي سببت قتل الكثير من المناضلين الشيوعيين والوطنيين، ووقعت حوادث مؤسفة لم يكن لأحد القدرة على تجنبها.

 بعد انتهاء التمرد وحصول تغيير في سياسة الزعيم عبد الكريم قاسم وبسبب الخوف والذعر الذي أصابه جراء نشاط الشيوعيين وتصاعد شعبيتهم، وفي محاولة منه لإيجاد نوع من التوازن بين مجموعة الشيوعيين وحلفائهم من الوطنيين في مواجهة العناصر القومية والإسلامية. أصدرت سلطة الزعيم عبد الكريم أحكام بالإعدام على مجموعة من أبناء الموصل كنت واحدا منهم. حينذاك قرر الحزب الشيوعي تهريبنا خارج العراق، فكنا مجموعة من شباب الموصل وزعنا على بلدان عديدة، ذهب قسم منا إلى ألمانيا الديمقراطية وقسم أخر إلى بلغاريا والبعض إلى جيكوسلفاكيا وكنت أنا من المجموعة التي ذهبت إلى موسكو.

حين وصولي موسكو، وكان ذلك في ديسمبر عام 1961 .حينها وجدت إن الرفاق السوفييت قد قرروا أن أقوم بدراسة اللغة الروسية في موسكو، وبعد انتهاء دراسة اللغة علي الالتحاق بالمدرسة الحزبية العليا في طاشقند عاصمة جمهورية أوزبكستان.

في موسكو التقيت بالرفيق سلام عادل، وفي تلك المقابلة أكد علي الاحتفاظ بالاسم الموجود في جواز سفري المزور، والذي حملته حين عبرت الحدود متوجها إلى موسكو وكان باسم ( يوسف الياس يوسف ). كان هذا الاسم والجواز عائدين لشخص حقيقي من أهالي تلكيف، وأخبرني الرفيق سلام عادل بأن الرفاق السوفييت هم من طلب أن أحتفظ أنا بهذا الاسم. وكان علي أن أنهي كلية اللغة وأذهب بعد ذلك  إلى طاشقند حيث مدرسة أعداد الكوادر الحزبية.

 بعد مضي شهر على وجودي في مدرسة تعلم اللغة علمت بقدوم لجنة من وزارة التعليم العالي السوفيتية مهمتها مقابلة الطلبة. وفعلا جاءت اللجنة وقابلت الطلبة، وحين جاء دوري وبعد أسئلة عديدة وجه لي سؤال عن المهنة التي سبق أن امتهنتها في العراق، فأخبرتهم بأني لم أكمل الدراسة الإعدادية ولكني مارست الصحافة، فاخبروني بعدم أهمية شهادتي الدراسية في العراق، ومن الضروري أن أعرف بأني الآن طالب في الكلية التحضيرية لدراسة اللغة وسوف أكون مستقبلا وبعد موافقتي طالبا في كلية الصحافة بجامعة موسكو,وإثر ذلك ثبت ليَّ مقعدا دراسيا هناك. 

وبعد أن أنهيت فترة دراسة اللغة في الكلية التحضيرية ذهبت لمقابلة الرفيق سلام عادل الذي بادرني القول بأن قيادة الحزب قد حجزت ليّ بطاقة سفر وعلي الذهاب إلى طاشقند. لم أعترض ولم أخبره بموضوعة المقعد الدراسي في كلية الصحافة، وسافرت إلى طاشقند.

قابلني هناك نائب مدير المدرسة الحزبية وطلب مترجما للحديث معي، فأخبرته بعدم الحاجة لمترجم فأنا أنهيت دراسة اللغة وأجيد الروسية، فاستغرب من ذلك فأخبرته باني خريج المدرسة التحضيرية لتعلم اللغة في موسكو. فاجأني معاون المدير بسؤال محرج. أذن ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فأجبته بأن الحزب الشيوعي العراقي قرر ذلك.  فقال لي والدهشة ترتسم على وجهه، هذه المدرسة ليست لكم فهي مدرسة حزبية خاصة بالكوادر الفلاحية.  فنبهته بوجود رفاقي من الذين سبقوني في هذه الدورة، فقال لي أنه يعرف ذلك، ثم أخبرني بأن مدير المدرسة الحزبية سوف يأتي غدا ويقابلني. أخبرت رفاقي في الدورة بما دار بيني وبين نائب المدير فقابلوني بالصدود وطلبوا مني نسيان الآمر، وكان ردهم صريحا واضحا بأن مجمل الآمر يتعلق بقرار حزبي ، علينا تنفيذه حرفيا. عندها وجهت سؤالي إلى الرفيق عطشان الأزيرجاوي عن سبب وجوده في هذا المكان وهو أصلا ضابط في الجيش، فرد علي بأنه ينفذ قرار الحزب، وليس لديه خيار في ذلك. أصر الرفاق على التمسك بقرار الحزب والبقاء في المدرسة الخاصة بالكوادر الفلاحية. لم أترك الآمر ليمر بسهولة لذا اتصلت بالرفيق سلام عادل هاتفيا وأخبرته بحديث معاون المدير فكان جواب الرفيق سلام عادل مثلما السابق،بأن القضية تتعلق بقرار حزبي اتخذ بالاتفاق بين حزبنا الشيوعي والرفاق السوفييت وهما الجهتان اللتان قررتا ذهابك ورفاقنا إلى طاشقند وعليك أن تبقى في الدورة وعدم إثارة المشاكل والاعتراضات.

                                     

 

بعد مدة، ومن حسن الحظ أخبرونا بأن اجتماع للكوادر الحزبية في جمهورية أوزبكستان سوف يعقد خلال الأيام القادمة، ونحن كمجموعة طلبة عراقيين في المدرسة الحزبية مدعوين لحضور الاجتماع كضيوف، والرفيق رشيد رشيدوف، وهو سكرتير اللجنة المركزية في أوزبكستان ومرشح لعضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وضمن كلمته التي سوف يلقيها في ذلك الاجتماع، سيشيد بمجموعتنا، ومن الموجب علينا أن نهيأ كلمة قصيرة لا تتعدى الخمس دقائق نشكر فيها رفاقنا الأوزبكيين على حسن الضيافة. وقد اتخذت مجموعتنا القرار بأن يقوم الرفيق عطشان الازيرجاوي بكتابة وإلقاء الكلمة، وقد فوجئنا بأن الرفيق عطشان قد أعد الكلمة،  وعند قراءتها، قرر الرفاق التصويت عليها فنالت موافقة الجميع وكنت أنا المتحفظ الوحيد عليها، وأخبرت الرفاق نيتي عرض مشكلة وجودنا في مدرسة الكوادر الفلاحية على الرفيق رشيد رشيدوف، فرفض الرفاق بشكل جماعي مثل هذا الآمر، وأتخذ قرار بأن لا أحد يحق له الحديث عدا الرفيق عطشان الازيرجاوي . ذهبنا إلى الاجتماع  وتحدث الرفيق رشيدوف ومدحنا في كلمته. جاء دور الرفيق عطشان فقدم كلمة المجموعة وبعد أن أنهى كلمته، رفعت يدي طالبا الكلمة، عندها حاول الرفاق منعي من ذلك، حينها أنتبه رشيدوف لما كان يجري في مجموعتنا، فقال ما الذي يحدث ، ما الذي تريد قوله، فأجبته بأني أطلب مقابلتك فقال حسنا، ثم استمرت وقائع الاجتماع . في نهاية الاجتماع جاء نحوي رجلان وطلبا مني مرافقتهما ، اعتقدت بادئ الأمر، أنهما من رجال الأمن، وأن هناك أمر قد دبر ضدي. ذهبت معهم وصعدت إلى سيارة كانت متوقفة عند الباب. سألتهم عن الجهة التي سوف ينقلوني أليها، فأخبراني بأنهما مكلفان بنقلي إلى مكان ما، وهذا كل ما يعرفانه. بعد فترة قصيرة وقفت السيارة أمام قصر ضخم كان رشيدوف يقف عند بابه الرئيسي. رحب بي ترحيبا طيبا وسألني عن اسمي ثم جلسنا على بسط مفروشة على الأرض حسب تقاليد وعادات أهالي أوزبكستان، عندها بادرني رشيدوف بالسؤال عن المشكلة التي أريد عرضها عليه، فأخبرته بما نحن عليه في المدرسة الحزبية وأوضحت له بأننا كوادر عراقية حزبية متقدمة ومتعلمة ولا علاقة لنا جميعا بالحياة الفلاحية.أصيب رشيدوف بالدهشة، وشاطرني الرأي بأن هذه المدرسة الحزبية ليست لأمثالنا .بعدها أتصل رشيدوف مباشرة بجهات حزبية عليا في موسكو وتحادث معهم في هذا الشأن، فأخبروه بأن هذا يتعلق بقرار من الحزب الشيوعي السوفيتي وافق عليه الحزب الشيوعي العراقي، وأن أريد تغيير المدرسة الحزبية فعلى الحزب الشيوعي العراقي تقديم طلب بذلك، عندها نقوم نحن، أي الجهات الحزبية السوفيتية، بنقلهم إلى دورات ودراسات أخرى تختار لهم حسب الاختصاص، ونستطيع نقلهم إلى مدرسة غوركي الحزبية والتي تعد مدرسة عليا لإعداد الكوادر المتقدمة، ولا مانع هناك من اتخاذ هذا الموقف لو جاءت الموافقة والطلب عبر الحزب الشيوعي العراقي. وطلب مني الرفيق رشيدوف في نهاية اللقاء الاتصال بالرفيق سلام عادل، ليتخذ رسميا مثل هذا الأجراء. في نهاية اللقاء أعادوني إلى السكن فاستقبلت هناك بالأسئلة من قبل رفاقي عن اللقاء والمكان الذي نقلت أليه، فأخبرتهم بطبيعة اللقاء وما دار فيه من حديث ووقائع، فكانت ردود فعلهم متباينة وكان بعضها مستنكرا. ذهبت بعد ذلك لأتصل هاتفيا بالرفيق سلام عادل وأخبرته بتفاصيل ما حدث في لقائي بالرفيق رشيدوف وحصوله على موافقة القيادة العليا للحزب الشيوعي السوفيتي.  فأجابني الرفيق أبو أيمان بعدم التحرك أو فعل أي شيء، وعلينا البقاء في المدرسة الحزبية في مدينة طاشقند، وأن الحزب الشيوعي العراقي لن يفعل أي شيء ولن يخاطب أية جهة لتغيير موقعنا في المدرسة الحزبية في طاشقند. بدوري وبعد إلحاح طويل سألته عن سبب ممانعتهم في نقلنا إلى مكان أخر، فأجابني الرفيق سلام بأن حزبنا قد وقع اتفاقية مع الرفاق السوفييت وهذه الاتفاقية تعد نهائية ولا يمكن تغييرها، وانتم جماعة الموصل بالذات، يجب بقائكم في طاشقند، وعلى الجميع تنفيذ هذا الأمر دون نقاش. وحين عودتي إلى موقع السكن في المدرسة الحزبية أخبرت الرفاق بمحادثتي والرفيق سلام عادل فأجابوني بصوت واحد، ألم نقل لك ذلك.

 

خلال فترة وجودي استطعت أن أقيم علاقة بسيطة مع مدير مزرعة للكلخوز تقع في ضواحي طاشقند، وهي مزرعة للتعاونيات، وكان هذا المدير مثلنا طالبا في المدرسة الحزبية ذاتها. وقد اتخذت قرارا منفردا كنت أعد له دون أن أخبر أحدا من رفاقي،  لذا توجهت إلى الرفيق مدير التعاونية الزراعية وطلبت منه المساعدة في تنفيذ ما كان يدور في ذهني. فاتحته بحاجتي لمساعدته وطلبت منه أن يكلف سائقه بأخذ حقيبة ملابسي بسيارته ويخرجها خارج المدرسة الحزبية، فسألني مدير الكولخوز عن السبب في ذلك، فأخبرته عن وجود طلب خاص يدعوني لزيارة موسكو، وطلبوا مني أن لا أخبر رفاقي عن هذه الزيارة، ولكوني لا أود أن أثير الأمر مع رفاقي فارتأيت أن أطلب مساعدتك لإخراج حقيبة سفري مع سائقك ونقلي إلى المطار. بروح رياضية وافق المدير على مساعدتي وكلف سائقه بذلك. ذهبت وابتعت بطاقة سفر إلى موسكو وركبت الطائرة متوجها إلى موسكو مودعا طاشقند والمدرسة الحزبية للكوادر الفلاحية.

 

القبول في كلية الصحافة، جامعة موسكو

 

بعد يوم من وصولي موسكو ذهبت مباشرة إلى كلية الصحافة ودخلت إلى الإدارة وقدمت نفسي، فدهشوا وسألوني أين كنت طيلة تلك الفترة، وقد بحثنا عنك في القسم الداخلي، وتلقينا جوابا بأنك سافرت خارج موسكو. بدوري أخبرتهم بأني كنت مريضا ودخلت أحد المستشفيات. بعد استفسارات عديدة أخبروني بان الدوام قد بدأ منذ فترة ولكن لا ضير في ذلك بالنسبة لي، وأن علي الذهاب إلى القسم التعليمي كي يجهز  لي أوراقي الرسمية في الكلية ويعيدون ترتيب وضعي بما يشير لبدئي  الدراسة في الكلية. لم أكذب الخبر وذهبت وأنا فرح جدا إلى القسم التعليمي، وهناك تمت الإجراءات بشكل سريع وأكملت دون أبطاء، وأدرج أسمي في سجل الطلبة، وأعدت هناك أوراق تشير إلى كوني طالب في كلية الصحافة بجامعة موسكو، ثم أصدرت لي هوية انتماء للكلية ، وخصصت لي كطالب غرفة في الأقسام الداخلية التابعة للجامعة. دهشت حين أخبرت أيضا بأن علي الذهاب لاستلام رواتبي المتراكمة. وضعت النقود وهوية الكلية في جيبي وبدأت المباشرة في كلية الصحافة جامعة موسكو كتلميذ وليس كادرا حزبيا في مدرسة لإعداد الكوادر الفلاحية.

بعد أيام من مباشرتي في الكلية اتصلت بالرفيق سلام عادل فسألني مباشرة أين أنت الآن، الرفاق أخبرونا بأنك تركت المدرسة الحزبية في طاشقند، دون أن تخبر أحدا، فأخبرته بصحة ذلك، وأني الآن في موسكو، وأدرس في كلية الصحافة، فاستغرب الرفيق سلام، وقال لي، هل أن هذا الآمر هو برسم خيالك أم شيء أخر، فأجبته بأن هذا هو الواقع بعينه، وسبق لي أن أخبرتك بأن المدرسة الحزبية في طاشقند هي للكوادر الفلاحية وهي لا تتواءم وطموحي وتطلعاتي، وهي في نهاية الآمر ليست لأمثالنا. ظهرت بعض العصبية في ردود الرفيق سلام عادل وفي النهاية أخبرني بأن الرفيق عضو المكتب السياسي هادي هاشم ألأعظمي سوف يأتي ليقابلني ويتفاهم معي حول الذي جرى، فأخبرته بأن الرفيق هادي هاشم يستطيع أن يلتقي بي جوار بالشوي تياتر ( المسرح الكبير) وسط موسكو.

قابلت الرفيق هادي هاشم الذي راح يوجه لي الأسئلة تلو الأخرى، ثم قال لي بشيء من الحدة بأني قد خرقت التعاليم والتوجيهات الحزبية، وعليه وحسب توجيهات الرفيق سلام عادل، علي العودة إلى المدرسة الحزبية في طاشقند، ومن الموجب ترك  كل تلك الأفكار،  فأنت كادر حزبي والواجب عليك قبل غيرك الالتزام بجميع ما يصدر لك من توجيهات دون جدال أو تردد، والحزب قد وقع أتفاق مع الرفاق السوفيت في مسألة أعداد كوادرنا الحزبية. عند ذلك أسرعت في عرض هوية كلية الصحافة عليه ، وقلت له أن السوفيت في جامعة موسكو كلية الصحافة، هم من عمل لي هذه الهوية، ولن أتنازل عن هذا الأمر. بعد أن أصطدم بعنادي قال علينا الذهاب إلى الرفيق سلام عادل. عندها ذهبنا إلى هناك وقابلنا الرفيق أبو أيمان وتكرر معه ذات الحديث وعرضت عليه هويتي فبدا الاحمرار يغطي وجهه ، وقال حسنا سوف نتخذ بحقك عقوبة حزبية، فقلت له بدلا من معاقبتي أعيدوني إلى العراق، فاستغرب موقفي هذا، وقال كيف نعيدك وأنت محكوم بالإعدام .

بعد ثلاثة أيام أخبرني الرفيق هادي هاشم بصدور قرار حزبي بحقي ، وهو تجميدي من العمل الحزبي لمدة ثلاثة أشهر ولحين إعادة النظر في قضيتي وموقفي. بدوري شعرت بشيء من الراحة. بعد فترة اتصل بي رفاقي في المدرسة الحزبية في طاشقند ليسألوني عن الذي جرى معي فأخبرتهم بالذي حدث وأني الآن طالب في كلية الصحافة بشكل رسمي فأصيبوا بالدهشة.

بعد مضي عقوبة الثلاثة أشهر من التجميد أخبرت من قبل الرفاق بأني أعدت إلى الحزب لأصبح مسؤول خلية، وأن موضوعة خرقي للتعاليم الحزبية مازالت مطروحة داخل قيادة الحزب. وبعد فترة طويلة أتصل بي الرفيق سلام عادل وأخبرني رغبته في لقائي فذهبت والتقيته،  فأخبرني بأنه يريد العودة إلى العراق وطرح علي العودة معه إلى هناك، فأجبته دون تردد بالموافقة، فأنا جئت إلى موسكو بطلب من الحزب وأعود إلى العراق أن قرر الحزب ذلك. وخلال اللقاء شعرت بشيء من الراحة، ودار بيننا حديث متشعب تطرقنا فيه لعدة أمور وبالذات حول طبيعة دراستي، وأخبرته بأني أحد الطلبة المتقدمين في الكلية. وتطرق الرفيق سلام في حديثه عن العلاقة مع عبد الكريم قاسم حيث أشار لرغبته بابتعاد الحزب عن الزعيم قاسم، وعدم تأييد سياسته، ولكن الرفاق السوفييت يمانعون في ذلك. وعلى أثر هذا الموقف تقرر تكليف الرفيق جورج تلو عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الذي كان متواجدا في موسكو للسفر إلى بغداد ونقل وجهة نظر الرفاق السوفييت.

 

في كلية الصحافة     

أثناء دراستي في الكلية بدأت أنشط في مجالات مختلفة وبالذات عالم الصحافة وتوطدت علاقتي بوكالة نوفوستي للأنباء حيث اتصلت بهم فطلبوا مني كتابة مقالات باللغة العربية، وقد زودتهم بذلك فكانت تنشر في أغلب مطبوعات الوكالة، مثل مجلة المدار التي تصدر في بيروت وجريدة الأخبار في بغداد ومجلات أخرى في دمشق والقاهرة، حيث كتبت مواضيع عن حياة المرأة وأوضاعها في العراق. وكنت أيضا أغطي وأحرر مقالات حول طبيعة العلاقات السياسية والثقافية بين البلدان العربية والاتحاد السوفيتي، وغالبا ما كلفت من قبل وكالة نوفوستي بمقابلة الوفود والشخصيات العربية التي تأتي إلى موسكو ، وكنت أجري مع تلك الشخصيات اللقاءات والحوارات الصحفية لصالح وكالة أنباء نوفوستي، وحافظت على نشر جميع كتاباتي باسم يوسف الياس يوسف، وكنت أجلس طوال ساعات وخاصة أثناء الليل لأحرر المقالات والتحقيقات الصحفية، ولغرض ذلك ابتعت طابعة خاصة، وقد كتبت ما يقارب 800 مقالا لوكالة نوفوستي وحدها. ومن خلال نشاطي وتحركاتي كونت علاقات عديدة بمنظمات وشخصيات فاعلة في عالم الصحافة والسياسة .

 

يتبع

 



137


كارل ماركس في العراق/ الجزء الثامن

شعر كارل ماركس بأنه وُضع وسط حديقة حيوانات لما كان يسمعه من أصوات. لم تغمض له عين فخرشة الحشرات يشعر وكأنها تحيط به من كل جانب. دندنة البعوض لم تفارق أذنيه ولسعها أخذ منه ما أخذ، ولكن ما كان يستفزه في هذا الظلام الدامس شيئان، صرير الجنادب وشخير الرفيق جبار.فكان طيلة الوقت يهشّ الحشرات عن وجهه ويديه ويدفع دبيبها بعيدًا عن قدميه. وبين فينة وأخرى يضغط على كتف الرفيق جبار ليجعله يكف عن الشخير ولكن جبار يعاود الكرة بأقوى من السابق. سمع حديث هازل ترافقه ضحكات متقطعة لمجموعة رجال تأتي أصواتهم من بعيد.
في هذه الأيام القليلة التي قضاها في العراق لم يستطع أن يجد تقيماً حقيقياً لما آل إليه الوضع، فالمفاجآت دائما ما كانت تعترض لا بل تثلم التقييم. في هذه الساعة وهذا الظلام ورائحة روث البقر التي تملأ الغرفة  تذكر كيف ألح عليه رفيقه فردريك أنجلز وبعض الأصدقاء من الأطباء للذهاب إلى الجزائر. كان سفره يتعلق بحالته المرضية قبل أي شيء آخر، فهو يشكوا دائماً علة في الصدر، ولكن في الجزائر وبعد التقائه بذلك الطبيب الفرنسي حاول أن يدرس الملكية المشاعية عند العرب. تلك كانت محاولة لا طائل منها، بل عدها تضليل لا يمكن الخروج منه بنتائج تستحق الاحتفاظ بها، فليس للعرب ملكية مشاعية وفي نفس الوقت لهم من ذلك الكثير. حينها شعر بالتناقض العجيب والغرائبية في المزاج العام والطباع المتناقضة. فكلما توغل المرء في تلك العوالم المتضادة يجد في التوريات عالم خاص للفرد ومثله للمجتمع. وفي العموم فقد كان منهجاً غالباً لدى هؤلاء. فالعربي يضمر الكثير قبل أن يفصح عما يريد. يناقض نفسه بنفسه وفي ذات الوقت يوافقها ويرضيها، ازدواجية ليست بعيدة ولا غريبة عن ثقافة عامة دجنت دينيا ومجتمعيا. فعاف الجزائر وعاد إلى لندن دون أن ينال فائدة تذكر غير ذلك الانطباع السيئ جدا. وهو اليوم وفي هذه الغرفة المظلمة ومع مزيج من النباح وطنين الذباب ومأمأة وثغاء الخراف وخوار البقر ونهيق الحمير لم يصل لأية محصلة يستطيع من خلالها الحصول على ما يسعف المرء للتعرف على طبيعة المجتمع العراقي والقوانين والأخلاقيات التي تتحكم في مسيرته.ولذا يأسف بأن تتكلل سفرته هذه ولقاءاته ليعود بذات الحصيلة التي غنمها في الجزائر، وهي الحيرة قبل أي شيء آخر، ومن الممكن أن يسمى فشلا. وفي هذه الحيوات الغريبة وانصهار البشر فيها،تراهم يتوحدون معها ولن يجدوا أنفسهم دونها، عالم متصارع متناقض ولكنه متوافق ومتوائم مع كينونتهم، ولذا لن يزهر بينهم غير البؤس، ودائما ما تهرب عنهم السعادة ويتوطنهم الضياع.
دفع الرفيق جبار شخرة قوية اختلطت بحسرة أفرغها صدره وكأنها كانت حبيسة سنوات.ثم استيقظ واستدار واضعاً يده تحت خده الأيسر .
ــ رفيق ماركس ..هل أنت مستيقظ ؟
ــ لم أستطع النوم فالسرير لم يكن يوائم جسدي.
ــ كنت في حلم مزعج جدًا .. لقد أخذوني نحو النهر وهناك قيدوني وأحاطوا جسدي بالحبال وعلقوا معي صخرة كبيرة وثقيلة وهموا بإلقائي في النهر . كنت أنت واقفاً تنظر نحوي ببرود، لا بل ترتسم على شفتيك ابتسامة ماكرة .والغريب إن هيئتك كانت غريبة جدا، فرأسك حليق بالموسى ووجهك دون لحية وشاربك فقط هو الباقي. سألتك رفيق ما الذي حدث لك من الذي حلق لك شعرك ، فأجبتني بضحكة قوية قائلا، لا عليك ..لا تهتم للأمر اذهب وارم نفسك في النهر ولا تدعهم يفعلون ذلك بدلا عنك . فقلت لك .. رفيقي ألا تستطيع إنقاذي فأنا سوف أموت؟  فأجبتني بحدة .. يضربك قزولقورت .. فسحبوني نحو النهر فشعرت بالاختناق وصحوت.
ــ هذا كابوس وليس بحلم.. أعتقد أنه جراء الوضع الذي نحن عليه. فقط أتساءل عن معنى يضربك قزو  وهكذا ..
ــ قزولقورت.
ــ نعم هذه الكلمة ....
ــ  الكلمة تعني أني غير معني بما يصيبك .
ــ رغم أنه حلم ولكن لا أعتقد بأني سوف أقف معك ذلك الموقف .. وهل رميت نفسك في النهر ؟
ــ لم أكمل ذلك .. لقد استيقظت قبل أن يحدث الآمر.فلن أدعهم يفعلون بي ما يتمنونه لذا استيقظت.
بدأت صياحات مجموعة من الديكة تترنم على التوالي مع نباح جوقة من كلاب. وعند  أولى معالم الفجر التي ظهرت شم الرفيقان رائحة الخبز المخلوط بالدخان تتسرب إلى الغرفة فراحا يحلمان بفطور قادم .
 بزغ نور الصباح فامتلأت الغرفة بالضوء. فطالع الرفيقان بعضهما بعضا. فجأة وبمصاحبة ضحكة خفيفة ودهشة ظاهرة راح الرفيق جبار يطالع وجه كارل ماركس:
ــ ما الذي حدث لك رفيق ماركس لقد تحول وجهك إلى خارطة عجيبة.
ــ حتما فقد بت ليلتي في صراع مع البعوض .
ـ رفيقي .. البعوض في العراق يعشق لحم الأجانب.
ــ ربما سحب مني قنينتي دم في هذه الليلة المشئومة.
ــ البعوض العراقي يحب الدم الأجنبي، ولكن المصيبة أنه يتلذذ أيضا ويعشق دم أبناء العراق وتراه يمتصه بصمت وهدوء ودون إثارة، وهو في عمله هذا لم يعد ورفيقه الذباب يحسبان لنوع دمنا حساب، إن كان شيعيا أم سنيا. ورغم ما ينقلانه من أمراض،فقد توطنا فينا ومعنا، وهما مصيبة صغيرة جدا من مصائبنا. ألم أقل لك أن الجميع يلعب بنا شاطي باطي.

أطلق كارل ماركس ضحكة، سرعان ما كتمها بيده. عند تلك اللحظة، انزلقت السلسلة الحديدية، عن أطار فتحة الباب مصدرة أصوات صرير مزعج. انفرجت فتحة الباب ودخل أحدهم وطلب من الرفيقين النهوض، ثم أصطحبهما خارج الغرفة وأشار عليهم الجلوس عند تخت متهالك وضع قرب الباب.
 أمامهما يمتد بالعمق بستان نخيل كثيف،  وثمة امرأة في الجانب الأيسر من الساقية الصغيرة تقف خلف تنور وقربها يقف رجل يلتهم رغيف خبز وينظر نحوهما بتركيز بائن وكأنما ينبههم لوجوده كمراقب. وثمة ثلاثة كلاب منسدحة عند حافة الساقية، يبدو أنها في إغفاءة نوم بعد أن كانت تصول وتجول وتنبح طوال الليل. تحرك ماركس محاولا لملمة جسده فقد شعر بلسعة برد الصباح رغم إن الموسم كان صيفاً، ثم سأل رفيقه جبار.
ــ أليس باستطاعتنا الهروب الآن ..؟
ــ وإلى أين نتجه رفيق ماركس.. هل تستطيع أن تدلنا على طريق.
ــ إلى أي مكان يمكن أن نحتمي به من هؤلاء الأوباش.
ــ إنهم سلسلة من عصابة خطف تمتد أذرعهم بين أبناء جلدتهم في هذه المناطق، التي هي مجموعة كبيرة من بساتين. وإن كنا اليوم بيد هؤلاء فربما يضعنا هروبنا بيد أوباش أشد منهم قسوة.
ــ وهل نستسلم ؟
ــ وهل لديك طريقة للخلاص..رفيقي أن أردت الهروب فيضربك قزولقورت، وأنا باق هنا لحين ما يجد أهلي مخرجا.
ــ وعدنا لهذه الكلمة قزوزوق..
ــ نعم قزولقورت وتعني أني غير معني بما يصيبك أن هربت.
ــ أشعر أن معناها.. ليس بمثل ما تدعيه ..
فضحك الرفيق جبار ضحكة تنبه لها الرجل الواقف جوار التنور، فتحرك ثم رفع طبق معدني كبير وضع فيه صحن يحتوي على لبن رائب وقطعة زبد وأربعة أرغفة خبز ثم تقدم نحو ماركس وجبار ووضع الطبق بينهما وانسل بعيدا ليشعل سيجارة راح ينفث دخانها بكثافة ويراقب كيف كانا ينهشان الخبز ويأكلان بنهم.
ــ كلي رحمه الوالديك .. يمته يجي حجي أبو بشير
سأل الرفيق جبار الرجل الذي يقف بعيداً وهو يطالعهم.
ــ ليش شتريد منه ؟
ــ مو جماعتك البارحة كَالو .. هو راح يقرر شيسوي ويانه.
ــ أي هوه يقرر..
ــ زين وهوه يمته يجي...
ــ أي هسه أنته ليش مستعجل.. هيه شكَتين لو طريقين مو غيرهن..
ــ شنو طريقين الخاطر الله.
ــ شوف أنته وصاحبك هذا أبو كفشة الأجنبي.. لو تسيسون بالنهر وهاي طريقة .. لو أتطلعون سلامات بعد ما يدفعون ربعكم المقسوم.
ــ أي غير يجي الحجي حتى يحجي ويه أخويه .. أني مو أنطيتكم التلفون.
ــ عمي لتدوخني .. الحجي أبو بشير اليوم من الفجر راح للجامع  وما راح يرجع إلا بعد صلاة الظهر. أي هسه أكلو أو وصوصو وبعدين فكروا شراح نسوي بيكم.. ترى التفكير الهواي يأثر بالأعصاب .
ــ أي ماكو غير أبو بشير يقرر.
ــ حجي أبو بشير  وما كو غيره .. كافي عاد لتدوخني.

***
مضت ساعات ثقال قضياها في النظر لما يدور حولهما. تلك الحياة الفلاحية البسيطة الخشنة، تخفي خلف ستائرها الثقيلة، عالماً غريباً متوحشاً تنفلت أطرافه بتنافر عجيب، ولم يشهد إنتاج قيم ثابتة يرتكن لها على مدى عقود طويلة، لا بل العكس، فقد سحبته أقداره نحو أنماط غريبة من علاقات مشوهة، أربكت الأرواح وجعلتها تتخبط في دوامة لا نتائج يرجى منها. فكل شيء في هذا المجتمع متصدع وهزيل ومحطم، والهويات تتغير بل تُركب بفعل الخوف المجتمعي أو السياسي ويتقدم عليهما اليوم الخوف الطائفي .قفزة أو خطوة نحو التمدن والحضارة ولكن أعقبها ارتكاسات بقفزات واسعة نحو التخلف. تراني لم أجد الوقت أو لم أبذل جهداً كافياً في البحث داخل الطبقات الاجتماعية بتشكيلاتها وانحدارات فئاتها البدائية، واعتقد أني لم أبذل جهدا طيبا في تفكيك خاصية الوعي المحلي الديني والطائفي الراسخ في طبقات المجتمع الدنيا، وبالذات العمال منهم، وهل تراني غفلت عن ولم التفت بعناية لخصوصيات المجتمعات المركبة المتعددة الديانات والطوائف والمتناحرة بالرغم من كونها من عرق واحد وتعيش في رقعة جغرافية موحدة مثلما أراه الآن. هل كان هناك قصور في جدلية المادية التاريخية،وإنها لم تستطع بشكل كامل وناجز اكتشاف الأسس الموضوعية المادية لمجمل الحياة الاجتماعية ولم تصل لقدرة إيضاح جوهر وقوانين المجتمعات البشرية المتعددة والمتنوعة.أم ترى هؤلاء الذين أعيش بينهم اليوم، من طينية أخرى غير التي عرفتها.
 هكذا فكر ماركس وهو يتعقب دبيب طابور نمل يسير برتابة ودقة قرب حذائه ليختفي في جحره الصغير جوار الجدار، لم يرغب في تحريك قدمه خوفاً من أن يؤثر في مسيرة هذا الطابور ويشتت نسقه الجميل. سُمعَ صوت سيارة قادمة ثم توقفت في الجانب الأخر خلف الساقية التي مروا بالأمس فوقها. جاء الحاج أبو بشير برفقة ثلاثة رجال لم يكن أي منهم يحمل سلاحاً. ساروا نحو البيت المجاور وسمع ماركس ورفيقه جبار جلبة ثم ضجيج أصوات أعقبه ضحك عال خرج معه الحاج أبو بشير ورجاله وجاء ليقف أمامهم قائلا.
ــ جبار هاي تكول ما عندي، وشدعوة، وأني خطية كاسب فقير... أشو طلع عندك فندق ومحل عطور ومحل كارتات تلفون والله يعلم شنو بعد. شوف أني حجيت اليوم ويه أخوك.. أذا ما يدفع باجر عشر دفاتر راح يلكَيك مسيس بالماي. وأنته كله وشجعه على الدفع لأن هاي المصلحتك . هاك التلفون وأحجي وياه.
أخذ جبار الهاتف وراح يضغط ببطء  أزرار رقم أخيه، سمع صوت أخيه وكان الارتباك ظاهرا فيه.
ــ منو ؟
ــ أني جبار .. يابه شيردون أدفعلهم بس خلصني تره هذوله ناويه على شر.
ــ زين اني كلتلهم أنطيكم ست دفاتر بس ميرضون ..
ــ يمعود أنطيهم شنو يردون.
ــ خوش .. صار .. معليك  أني أدبره وياهم...أنته اشويه أصمد والله كريم.
ــ يمعود مو محل أعناد أني أكَلك أطيهم.
ــ أي مو كتلك صار ..
سحب أحد رجال الحاج أبو بشير جهاز الهاتف النقال من يد الرفيق جبار وسلمه للحاج أبو بشير الذي قال مهاتفا.
ــ ها سمعت أخوك.. أنته تريده مسيس بالشط لو يمك بالبيت.
ــ يمعود الخاطر الكعبة بروح النبي عوفوه .. أني محضرلك ست دفاتر .. هاي الكدرت أجمعهن .. يا به وربك المعبود ما كدرت أجمع غيرهن.
ــ الظاهر أنته مو أدمي .. وأنته تريد أخوك يموت حتى تحوش على كلشي.
وفجأة أغلق الهاتف  وضغط زر الإطفاء .. فسأله جبار أن يفتح جهاز الهاتف لعل أخاه يعاود الاتصال فقال الحاج أبو بشير
ــ هذا مو شغلك .. أحنه نتصل أذا ردنه..
أنسحب ورجاله تاركاً كارل ماركس والرفيق جبار مكانهما وكان المساء قد بدأ بالهبوط ومعالم الغسق يضرب حمرته فوق هامات النخيل، وضج المكان بنباح الكلاب وثغاء ومأمأة الخراف ونهيق الحمير فدندن ماركس مع نفسه.
ــ ليلة أخرى في السيرك .
ــ ماذا قلت رفيق ؟
ــ لا شيء .. هذا لا يعنيك ويضربني قزوزوق.
ضحك الرفيق جبار لما بدر عن الرفيق كارل ماركس، ولكنه تسمر فجأة وهو ينظر نحو رجال الحاج يتقدمون نحوهم شاهرين أسلحتهم . تقدم أحدهم وسحب رفيق جبار من يده وطرحه أرضاً ثم جاء الأخر وشده من قميصه رافعاً إياه ثم سحبه معه. عند تلك اللحظة تشبث ماركس بجسد الرفيق جبار وطلب من الرجل المسلح أن يتركه لحاله ولا يأخذه أو يؤذيه، ولكن الرجل المسلح الآخر استدار وضرب ماركس بقوة بأخمص البندقية فوق ذراعه الأيسر، فشعر ماركس بشدة الضربة فمال جانبا وسقط فوق التخت.سار الرجل ساحباً الرفيق جبار باتجاه الغرفة المجاورة حيث كان الحاج أبو بشير. وقفوا عند مدخل الغرفة بانتظار أن يرفع الحاج أبو بشير جسده وينهي صلاته . بعد عدة دقائق أنهى صلاته وسلم على ملائكة الرحمة القاعدين عند كتفيه.
ــ أتقبل الله حجي .. قالها الرجال المسلحون
ــ شكرا ولدي.. ها جبار شدكول
ــ حجي ... شكول هي الدنيا وحياتي صارت بيدك .. بس بجاه الله ألي صليتله أنته قبل شويه.. أني صاحب جهال وعائلتي جبيره .. بجاه هاي المسية عليك وأنشاء الله يتقبل صلاتك وأعمالك.
ــ ليش أحنه ما عدنه عوائل .. بس أنته .. تقبل أحنه نموت من الجوع وأنتم تتونسون بالولاية.. تقبل أنتم تلبسون قوط وتركبون سيارات وأحنه حسرة علينا المي الصافي. تقبل أنتم تنامون جوه المبردات وأحنه كاتلنه الحر .
ــ أي حجي قابل أني سببه ..
ــ شمعرفني منو سببه .. كله الأخيك الجماعة يقبلون بثمانية دفاتر، والباجر إذا ما وافق فأحنه ما نتحمل ذنبك وخطيتك بركَبة أخوك هو اللي سبب موتك.
ــ حجي هاي مثل سالفة مقتل عمار أبن ياسر... أنذبت براس الفئة الباغية ..
ــ أنجب لك لتتفلسف وتصير براسنا مطي روزخون .. أنته وعمار شنو .. راح أطيك التلفون وأحجي ويه أخوك.. كله الجماعة يكولون ثمانية دفاتر بالتمام والكمال لو أنطكك بالدهن ..وهذا آخر أنذار..  خوش.
تحدث جبار مع أخيه وكان الأخ يصر على الستة دفاتر وجبار يتوسل به أن يجعلها ثمانية، وبعد نقاش ليس بالقصير، أخذ حجي أبو بشير التلفون وراح يتحدث مع أخ الرفيق جبار وطال بينهما الحديث ثم أغلق الحجي التلفون قائلا.
ــ هذا شلون حقنه ..زمال  يابس مثل سير النعال.. ما قبل وعاند.. بس ميخالف اتفقت ويه هذا الطايح حظ على سبعة دفاتر.. وباجر راح أنشوف شلون نتفاصل وياه على التسلوم.
أعاد الرجال المسلحون الرفيق جبار إلى الغرفة ليلتحق بالرفيق كارل ماركس ثم رجعوا إلى غرفة الحاج أبو بشير.
ــ حجي من نستلم الفلوس نسلمه ألهم مطبوخ لو مسلوك..
ضحك الحاج  ضحكة قوية .
ــ ولك أنته شكد أتحب القتل .. ما شبعت.. أي دعوف هاذي السالفة ..نأخذ حاجاتنا ويأخذون رجالهم .. خلي رحمه الله بقلبك.
ــ حجي مو شافنه ويمكن عرف المكان.
ــ خلي يروح أوين ما يريد يشتكي .. اشو نص الحكومة ربعنه .. بعدين أذا أشتكى أخلي يزوع فلوس وره فلوس، فصل عشاير وره فصل.. أنه منو  ولك ؟  نسيت سالفة المقاول أبو غانم .. مو خليناه ليهسه يدفع عيديات.
ــ حجي والنعم والتلاث أنعام عمي أبو بشير.. أني كَلت كَص راس موت خبر .
ــ لا ..مو بكل الحالات..أذا نريد نوجع لو من تعصه.. هذاك الوكت ميخالف.

***
عاد الرفيق جبار وجلس جوار الرفيق ماركس وكان شبح ابتسامة يرتسم على محياه. دفع بظهره ليلتصق بالحائط ومد قدميه وأرخى جسده. فكر بالذي حدث وشعر ببعض الراحة ولكنه لم يكن مطمئناً لما سيئول له الآمر. فمن الساعة حتى الغد هناك الكثير من التقلبات. فقد كانت بادية على وجوههم علامات الشر وعباراتهم متعصبة وسمجة لا بل كانت جارحة تصدر عن شراذم لا صلة لهم بالبشر.أما ما سمعه من أتفاق مع أخيه ما كان حتى هذه اللحظة ليتوافق مع حديث هؤلاء المفرط بالقذارة والبشاعة واحتقار الناس. لم ولن يكون مطمئناً حتى يرى الشوارع ويعود حراً منطلقاً فيها وليجد في أحضان أهله دفء الحرية التي يشعر أنها بعيدة جدا عنه.
ــ ما الذي حدث رفيقي جبار.
ــ أتفق رئيسهم مع أخي .
ــ بماذا أتفق؟
ــ أن يعطيهم سبعون ألف دولار مقابل إطلاق سراحي.
ــ جيد .. وأنا ماذا سيكون مصيري؟
ــ والله رفيق لا أدري كيف أجيبك ..فهؤلاء يتعاملون بالنقود .
ــ ومن يملك النقود ليفتديني بها..
ــ سوف أخبرهم بضرورة الاتصال بالسفارة الألمانية .. عسى ولعل يستطيعون المساومة  معهم على حياتك .
ــ تعتقد ذلك..؟
 قالها ماركس وانفرجت أساريره عن ضحكة شاحبة ارتسمت فوق وجهه الأحمر المطرز بالعديد من لسعاة البعوض. ولكن جبار بادر قائلا.
ــ نقول عسى ولعل... وأنا تلمست عند هؤلاء الأوباش وجود شيئاً  ولو ضئيلاً من ارتخاء، أعتقد.. المبلغ سوف يجعلهم يتخلون عن قتلنا.
ــ وهل أنت متأكد من ذلك؟
ــ لا .. لست جازما .. لنرى ما يفعلونه غدا.
وكمن كان يريد أن يبعد عن ذهنه ذلك الغم الذي خيم على صدره بثقل غير عادي ،دس أصابعه في جيب سرواله وأخرج طرف رغيف لين احتفظ به منذ الظهر. راح يكوره بين أصابعه ويصنع منه كرات صغيرة وتارة مكعبات ثم يعيد تركيبه على شكل مربعات، ولكن مثل تلك اللعب الصغيرة لم تكن لتجعله يبتعد بتفكيره عن هذا المكان الموحش الضاج بالحشرات والروائح العطنة، ولم تدع تفكيره يسرح بعيدا عن يوم غد الذي يتقرر فيه مصير الرفيق جبار، وربما يكون هناك حلا لوضعه هو أيضا.هل تراه ينجو من الموت أم سيكون قدراً مكتوباً عليه. ترى كيف يكون وضع الغد معه بالذات..ما الذي يفعله هؤلاء الأوباش لينهوا حياة نضال كرسها لأمثالهم ، واحتضن قضيتهم وعاف كل شيء ليجلي لهم معالم طريق، وياترى على هذا سوف يعاقبونه؟ يجرجرونه نحو النهر ثم يفرغون فيه ثلاث طلقات ويرمونه في نهرهم القذر. أنه ثمن بخس لتلك الحياة التي كرسها وجهد فيها ليصنع للناس غدا مشرقاً أفضل. لقد جبل قلبه وقدّ من قرميد ولذا فهو لا يهابهم، سوف يقف قبالتهم ليلقنهم درساً بقيم النبالة والشرف . ولكن مثلما قال الرفيق جبار هؤلاء من طينة أخرى غير طينة البشر التي يعرفها، ليس يدري إن كان هذا ينفع معهم أم إن الدم كان بالنسبة لهم مثل الجاذبية الأرضية لا فكاك منها.هؤلاء مثلما بحث اليهودي عن قدر اللحم الفرعوني هربا من تعاليم موسى،فهؤلاء يسرقون وينهبون ويقتلون ويوغلوا في فواحشهم ولوثاتهم لكي يهربوا من دونيتهم وذلهم الذين ينكشف ويتعرى أمام الآخرين، ليجدوا في الجريمة ما يشفي غليلهم ويعطيهم الثروة وفي الوقت ذاته يشعرهم بعدم الحاجة لمفاهيم النبالة وقيم الشرف .
 كانت الحجج والأفكار عن الاعتقاد والممكن ومثلها الآمال تهبط عليه مثل قطرات مطر ثقيل يقرع رأسه دون فكاك.الساعة تحضره زوجته برتا. فقد كانت محبوبته والنموذج المميز في حياته، فهي الوحيدة التي كانت تعلم مسبقاً بأنه شخص غير عادي وسوف يكون بسبب أفكاره مضطهداً مطارداً، وكانت شاهداً على كونه مطارداً من السلطات، ولكنها لم تعافه أبداً. ولكن لم يخطر في بالها على الإطلاق أن يكون حبيساً لدى لصوص قتله يتاجرون بحياة البشر، مثلما هو عليه اليوم.
 هرب إلى باريس ثم طرد منها فانتقل إلى لندن فكانت رفقتها مفعمة بالحب الصلد الموثوق. عندما توفيت ذهب برفقة أولاده الستة يحملون جنازتها ، كان منكوباً يعتصره الألم وتمزق صدره اللوعة. عند قبرها تعثر ووقع في حفرة فأصيب برضوض في أجزاء مختلفة من جسمه بقي طريح الفراش لفترة طويلة، ذلك اليوم شعر بتصدع في روحه، فقد فقد برتا حبيبته وسنده وشعر مثلما الآن بأنه فقد منبع سعادته ومصدر قوته وهو بحاجة أليها الساعة بكامل جوارحه لتدله وترافقه في هذا الطريق الوعر.إن ذكرى برتا لا يمكن أن تفلت من ذهنه وقبل ذلك من قلبه.
 إنه يعرف جيداً بأن هؤلاء اللصوص الذين يختطفونه والرفيق جبار، مثلما غالبية الفقراء في العالم هم نتيجة الطبيعة اللا إنسانية للاستغلال من قبل رأس المال، وبدلا من أن يكون نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي بناء وفي خدمة المجتمع، يخلق الرأسماليون في سعيهم وراء الربح مثل هذه النماذج التي تمارس الصراع وتفرضه فيما بينها وكذاك بين الفقراء.ولكنه حتى وهو يبحث ويفكر في هذا تراه الآن يشعر بالحيرة أمام سؤال كبير واجهه في العراق منذ اليوم الأول لوصوله ، يا ترى هل هناك رأسمالية ورأسماليون في العراق وأين الطبقة العاملة من كل ذلك، ويا ترى ما طبيعة التركيبات الطبقية ، وأين يكمن أو ينفجر الصراع الطبقي .
كان كارل ماركس يتنقل بفكره من محطة إلى أخرى دون رحمة لنفسه، كان كمن يريد أن يستحضر شريط حياته ليجد في هذا وداعاً أخيراً لمسيرة ما شعر بغير حرارتها وعنفوانها والتي تلبسته ومازالت. طلع الفجر وارتفعت بعده الشمس عاليا وتسرب ضوءها الساطع من خلال شقوق الجدار وفتحة الباب.
 كان جبار مازال يعزف نشيد الإنشاد في عزف منفرد على الشخير الذي ما أنقطع طوال الليل.ولم يكن لنغماتها القدرة على قطع سلسلة أفكار الرفيق ماركس ولكن سطوع الشمس أجبر جبار على الاستيقاظ. كان وجهه متجعداً مثل أرض بوار قطع عنها الماء فعاشت يباساً. كانت عيناه مسبلتان لا تريدان ترك النعاس. لقد أعطوا أخاه الحق في اختيار مصيره، بين أن يموت أو يطلق سراحه، كان فرحاً بعد أن اتفق اللصوص على قبول الفدية فراح في نوم عميق . أستيقظ الآن ويود بأن ينفذ الاتفاق دون أبطاء. ولعل ما يحز في نفسه الآن أنه خيب آمال ذلك الرجل الذي جاء صادقاً يحمل نوايا طيبة ليشاطرهم آلامهم وأحلامهم ويضع لهم حلولا لمحنتهم وعثراتهم، ولكن القدر دفع به إلى أحضان عتاة المجرمين. سحبت السلسلة الحديدة ثم فتحت الباب ودخل رجلان يحمل أحدهم رغيفي خبز وضع فيهما قطعتي جبن سلمتا إلى الرفيق ماركس والرفيق جبار.
 لم يكونا في عجالة من أمرهما وليس هناك ما يفتح الشهية لذا تيبست أصابعهما وهما يمسكان بلفتي الرغيف.
ــ أتزقنبو .. جبار أنته بعد شويه تجي ويانه أسلمك الأخوك .. بس أذا لعب بذيله لو الفلوس مو جاهزة خلي صاحبك هذا أبو كفشه يقره الفاتحة عليك بالانكليزي .
ــ لا أنشاء الله أخويه دبرها...خلي نروح هسه .. ما أريد أكل ..
ــ بكيفك ..خاف الشغله أطول وتموت من الجوع.
ــ ميخالف بس رجعوني الأهلي.
ــ زين كَوم ..توكل على الله ..
سلم جبار رغيف الخبز لكارل ماركس وعانقه وأطال عناقه .. تسللت دمعة حرى من عينيه وانسابت لتسقط على كتف الرفيق ماركس ..شد بساعديه وطوق رقبة ماركس وهمس في أذنه..
ــ أعذرني رفيقي العزيز.

       
.

فرات المحسن
f_almohsen@hotmail.com


138
المنبر الحر / هجرة
« في: 20:01 26/12/2015  »
نص فرات المحسن
هجرة
في البعيد حيث المدن ترتاب من الغرباء
كنت أغذ السير وحيدا.
مسربل بخوفي ..مهزوم أنتظر هزيع الليل ليمضي، مخلفا ورائي نذور أمي
وأراجيف البرابرة التي ما عافتني يوما.
ها أنا ذا أتنصت ضجيج عربات القطار..ها هي قادمة تشق صدر الغيم.
أمسكت سحب دخانها وركضت
وكان لهاثي يلاحقني.
من حيث لا مكان كنت قادما أرقب العشب الندي النامي في مدن تفترشها البهجة.
عجزت عن أن أعد العربات، ولكني اجتزتها جميعا، وأعدت لها أصوات صفاراتها ودسست دخانها في حجراته.
فالمدن البعيدة تخشى الغرباء، ولكنها لا تستحي من قرع عجلات القطارات مادامت لا تصدر صريرا.
عند العربة السادسة وفي جوفها ، لم أكن أعرف ما أفعل، فوضعت فردتي حذائي تحت رأسي وغفوت.
ملابسهم الداكنة تخفي هراوات علقت بالأحزمة الجلدية، وأكتافهم طرزتها خيوط.
تسلقوا دكتها اليابسة.
كنت في الزاوية القصية بملابس مبللة أرتجف، وصوت نحيبي يلتصق بجدار العربة البارد.
تعال.. هلم أقترب.. تعال لا تخف ..
بأصواتهم المبحوحة المتشنجة جعلوا جسدي يتفصد عرقا، وأطرافي ترتعد بإفراط .
اقترب ..تعال
كانوا يتبادلون نظرات من خبث حاد.
قالوا جميعا بصوت حازم جاف
ليس لك أن تجتاز مدننا، فعد من حيث أتيت.
تحسستني أياديهم الثقيلة ثم أطبقت على جسدي بخشونتها
حشروني في زاوية قصية عند العربة السادسة لقطار كان عائدا نحو مدني القاحلة الملوثة بطنين الهجرة.
وهناك حيث أراجيف البرابرة تدوس في طريقها ببسالة شيطانية نذور أمي وأدعيتها.
فغفوت أحلم بمدن تفترشها البهجة.


139
                         


حوارية جديدة لمنتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم

استكمالا لما طرحه منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم في حواريته السابقة التي عقدت في 24 / 10 / 2015 وركز البحث فيها حول صراع الهويات العراقية، وشخصت أكثر المداخلات الظروف الذاتية والموضوعية، تأثير العوامل الداخلية والخارجية، الطبيعة الجغرافية والتاريخية، العوامل النفسية والثقافية، كمسببات للشروخ الواسعة التي صيرت الصراع وساعدت على استشراءه، ليكون في الوقت الراهن وعند البعض تنكرا مجحفا للانتماء التاريخي والاجتماعي، وللقيم والعيش المشترك، ورضوخ سوداوي بانعدام الجامع وقبول الأخر، وإن الوطن يدخل مرحلة الاحتضار ولن ينقذه غير التقسيم.
وعلى وفق تلك الحيثيات عقدت حوارية جديدة يوم 28 / 11 / 2015 على أحدى قاعات المكتبة المركزية في منطقة شيستا وسط العاصمة ستوكهولم حضرها نخبة من المهتمين والمثقفين وأدارتها بتميز ودراية ونجاح السيدتان وفاء فرج وميلاد خالد.
كان صلب الحوار الذي أمتد لأكثر من ثلاث ساعات قد ركز حول سؤال محدد وهو : ما هي قدرة الإنسان العراقي على صناعة وتشكيل أو إعادة بناء هويته الوطنية الموحدة ؟ الكيفية، القدرات ، الدوافع ، الغايات.وأن تؤخذ وقائع الوقت الراهن الذي يمر فيه العراق كمسبب لاستشراء الإمراض السياسية والمجتمعية التي طعنت وتطعن في الهوية الوطنية وتدفع لاضمحلالها. وفي صلب هذه الموضوعة خاض جميع الحضور غمار الإجابة على السؤال، وقدموا تصوراتهم واستنتاجاتهم عن هوية عراقية ممكن تشكيلها في دولة يعاد بنائها من جديد بعد أن عمل المحتل الأمريكي على تفكيكها وجارته بعض التكوينات السياسية والمجتمعية العراقية.
تطرق المتحدثون إلى جملة محاور حاولت الاقتراب و الإجابة على السؤال الخاص بالحوارية، لذا قدم البعض تصوراته مكتوبة والبعض الأخر ناقشها شفاها . وتلخيصا لما طرح فقد أشار البعض إلى إن ظاهرة الانقسامات الطائفية والعرقية التي يعيشها العراق الآن هي تعبير عن أزمة وعي وغياب الفهم الصحيح للدين وللهوية الوطنية والقومية ، فمسألة الهوية هي قضية سياسية - اقتصادية - ثقافية - اجتماعية - تاريخية رافقت مراحل تأسيس الدولة العراقية لحد اليوم ، وكان بنيان الدولة العراقية فيها مرتبك متصدع، أساسه هش، وعملية الترميم إن أريد أجرائها ربما هي حل رومانسي ترقيعي. فالهوية الوطنية صناعة بالغة التعقيد ترتبط بطبيعة النظام السياسي - الاقتصادي وتأثير الصراع الطائفي - العرقي . وهناك أطراف كثيرة داخلية - خارجية تغذي حالة الانقسام حسب مصالحها وأغراضها وأيضا هناك عجز سياسي - ثقافي يعيق إنتاج هوية وطنية عراقية جامعة. ويظهر دائما بأن الإرادة العامة العراقية صاحبة المصلحة في بناء الدولة والهوية العراقية كانت دائما مغيبة وبالذات في المفاصل التاريخية الكبرى.
فعلى مر فترات طويلة وحاسمة من عمر الدولة العراقية كان العامل الخارجي يشكل الثقل الحقيقي في تشكيلة وبناء الأحداث ومن ثم تركيب الهوية الوطنية العراقية. فمنذ تأسيس الدولة عام 1921 ولحد اليوم , لم تبنى أو تكون هيكلية الدولة نتاج تعبير حر وطوعي لإرادة المواطنين العراقيين الذين يعيشون على الأرض العراقية، وإنما وبشكل غالب كانت نتاج قوة وتدخل خارجي. فالنظام الملكي ومن ثم ثورة 14 تموز وبعدها اغتيال الزعيم قاسم ثم توالي الانقلابات العسكرية لحين سقوط نظام حزب البعث في 2003 ،كل تلك الوقائع كانت في جميع مراحلها منظومة من طبخات أعدت أو جاءت تعبيرا عن ضغوطات وتدخلات من خارج الأرض العراقية ، ويلاحظ فيها بأن هيكلة السلطة دائما ما كانت تأتي دون خيار حقيقي للشعب العراقي. ولذا نرى إن نوايا الاحتلال الأمريكي تعمل بشكل ناجز على تفتيت المكونات العراقية. وقد بعثت الإدارة الأمريكية ومنذ خمسينات القرن الماضي رجالها إلى العراق، ومنهم حنا بطاطو لدراسة الحركة الثورية في المجتمع العراقي . ودائما ما كانت محاولات التفتيت هذه تترافق بموافقة وتواطأ بعض القوى السياسية العراقية.
وقد علل البعض تشتت أو ضعف الهوية الوطنية بمبرر ثقافة المواطن العراقية بمختلف أشكالها، مشيرا لكون المواطن قد أعتاد على التعامل الصارم معه كي ينفذ أو يلتزم بالقانون. وأيضا فهو أعتاد على وجود مؤسسات دولة تقدم له الخدمات دون أن يشاركها أو يقدم لها يد العون لإنجاز ما يوفر له وللمجتمع خدمات جيدة، وهذا بدوره ينعكس على فحوى الشعور بالمواطنة وروح الشراكة .فالهوية الوطنية هي وعي متطور يرتقي فوق الهويات الفرعية، والمواطنة مسؤولية ووعي وسلوك اجتماعي قبل أي شيء أخر. ولذا يتم التأكيد على إن احترام القانون يجب أن يكون تبادليا أي القانون يحترم المواطن بمنحه حقوقه كاملة دون انتقاص ليكون المواطن في موقف مجبر فيه على احترام القانون والنظام. ولذا فان الوطن العراقي يحتاج من نخبه المثقفة العمل على أعادة تركيبة الثقافة والذهنية العراقية، وذلك يأتي من خلال الجهد الفني والثقافي والعلمي، وعبر حملات توعية وتثقيف وبخطاب واع ومركز، يتم من خلاله إعادة تركيب ذهن المواطن وجره نحو مواقع الشعور بالمسؤولية الوطنية وقبلها الاجتماعية. ومن هذا تطرق بعض الزملاء إلى كون بناء الهوية الوطنية لا يمكن أن يتم أو يستقيم دون بناء دولة مدنية ضامنة للحقوق المدنية والمساواة أمام القانون وحرية المعتقد واعتماد الكفاءة والنزاهة في تولي الوظائف العامة وحصر السلاح بيد السلطة ونشر ثقافة التسامح، مما يضمن الولاء للدولة وللهوية الوطنية ويبعد المرء عن تضخيم هوياته الفرعية. ولذا فأن الدستور وبشكل واضح كان وسوف يبقى مصدرا للعديد من الخلافات لكثرة الثغرات والعيوب التي تساعد على ثلم الهوية الوطنية.
واستعرض البعض حقيقة تشابه المجتمعات والشعوب في مشاكلها، فجميع شعوب الأرض ومختلف المجتمعات تبرز وسطها انقسامات داخلية، وهذا الآمر يبدو في المدونات التاريخية للبشرية شيئا طبيعيا. فالسكان دائما ما ينقسمون إلى جماعات وطوائف مختلفة الانتماءات الدينية والعرقية، وهذه المكونات تتصارع فيما بينها وتظهر وسطها نعرات مؤذية، وهذا التباين والتضاد يظل كامنا أو ينفجر في لحظة ما. وهنا تحضرنا مهمة البحث عن من يلجم تلك الصراعات ويمنع الأحقاد أو الأحرى من يصنع التغيير في هذا الواقع المر والظرف المؤلم الذي يمر فيه العراق مع انحسار مستلزمات بناء الهوية الوطنية وفي مقدمتها الثقافة والشعور بالمسؤولية الوطنية وتبادل الثقة. فالمحتل الأمريكي زرع قواعد لعبة تبدوا من العسر أن يتجاوزها الجميع أو يكسر قيودها إن لم تتوفر لدى الجميع النوايا الحسنة والاستعداد للتضحية لأجل الوطن.ومع ضعف القوى المطالبة بالدولة المدنية وتشتتها يطرح السؤال المهم عن الذي يحمل لواء التغيير وبناء الدولة المدنية وإعادة اللحمة الوطنية والهوية الجامعة.
وأشار البعض لوجود تقسيم فعلي طائفي وعرقي على الأرض لا يمكن إنكاره أو القفز فوقه والتغاضي عنه وهناك ثلاثة حلول دائما ما جاءت من خارج العراق ثم ساعدت بعض القوى السياسية إلى دفع شرائح كبيرة من الشعب العراقي للنظر بجدية لهذه الحلول والبحث فيها، وأولها التقسيم الطائفي والعرقي المتمثل بالتكوينات الثلاثة الشيعي الكردي السني أو تشكيل الفدراليات أو الأقاليم التي نص عليها الدستور كحق للجميع، ومن ثم الكونفدرالية.ولكن جميع هذه الحلول يعترضها التداخل السكاني والجغرافي بين المحافظات ولن يتم الأخذ بأي من تلك الخيارات أن لم يحسم ملف هذه التداخلاتز وفي جميع تلك الاحتمالات فأن أي خيار سوف يكون مبعثا لصراع دموي يجر الويلات على الجميع، وقدم أقتراح أن تكون لا مركزية المحافظات الحل والخيار السليم للإبقاء على وحدة العراق وبناء هوية وطنية لأبنائه، مع احتفاظ إقليم كردستان بحق تقرير المصير والانفصال عن العراق وبتسوية رضائية على الأراضي المتنازع عليها.
وأقترح البعض إلغاء تركيبة الدولة الحالية وإعادة البناء وفق أجراء انتخابات شفافة وعادلة تبنى وفقها دولة قائمة على اتحاد حر يضمن للفرد تقرير شكل علاقته بالوطن وبالآخرين، ونوع وطبيعة الشراكة المبتغاة. وعلى أن تكون هناك مؤسسات وهياكل دولة قائمة على التوازن ومحصنة بالضد من قدرة أحدها على تغيير ذلك التوازن. أو أيجاد حل أخر وهو عقد مؤتمر لحوار وطني شامل يعاد من خلاله النظر بجميع العيوب التي انتابت العملية السياسية وإدارة الدولة وفي مقدمتها إعادة النظر بالدستور ليتلاءم ومعطيات دولة مدنية، على أن تتوفر لهذا المؤتمر أجواء الثقة والنيات الحسنة.
وفي محاولة للاقتراب من أيجاد حلول لواحدة من أشكال أزمة الهوية الوطنية والمتمثل بتوسع شقة الخلاف بين الكتل السياسية في رؤيتها لعموم الحدث العراقي، فقد تطرق البعض لجوهر المشاريع الكثيرة التي دفعت لما آل أليه الوضع في العراق وفي مقدمة ذلك مشروع تقسيم العراق الموجود في جعبة القوى الدولية والإقليمية.لذا أقترح أن يتم أجراء إحصاء سكاني عام ومن ثم أجراء استفتاء شعبي لتقرير مصير المناطق المتنازع عليها على أن يجرى هذا الاستفتاء بعد مضي عشر سنوات من تأريخ التعداد السكاني. وفي هذا الأمر ما يضمن حقوق الجميع في الأرض العراقية.
ومن كل هذا وغيره تتولد القناعة بضرورة البحث في القواعد والمسلمات التي من الموجب أن تبنى عليها أية هوية ثقافية اجتماعية وطنية. وعلينا أن نكون مبادرين للجم النعرات العدوانية وجسر الخلافات وتوظيف التمايزات الثقافية لصالح الاندماج المجتمعي. وخرج الجميع بالتأكيد على إن هذا لا يمكن إيجاده وظهوره ونضوجه ولن يترسخ، دون بناء دولة مدنية ، دولة القانون الضامنة للديمقراطية وللحريات المدنية.

منتدى الحوار الثقافي في ستوكهولم

140
منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم في حوارية جديدة

الحوارية القادمة يوم 28 / 11 / 2015 في الساعة الرابعة عصرا وعلى قاعة  ليروسالن     Lärosalen  في المكتبة المركزية في شيستا ( الكالري الرئيسي )


لا يخفى على المرء بأن جميع شعوب الأرض ومختلف المجتمعات تبرز وسطها انقسامات داخلية، وهذا الآمر يبدو في المدونات التاريخية للبشرية شيئا طبيعيا. فالسكان دائما ما ينقسمون إلى جماعات وطوائف مختلفة الانتماءات الدينية والعرقية، وهذه المكونات تتصارع فيما بينها وتظهر وسطها نعرات مؤذية، وهذا التباين والتضاد يظل كامنا أو ينفجر في لحظة ما. وهنا يحضرنا السؤال المهم، ليس فقط لغرض الإلحاح في البحث عن المسببات ومن يغذي هذه النعرات المضرة، وإنما المهم والملح أيضا، البحث عن من يلجم تلك الصراعات ويمنع الأحقاد.

 السؤال : كيف نجسر الخلاف ؟ كيف نقمع النعرات العدوانية؟ . ما القدرة المتوفرة لتوظيف التمايزات الثقافية  لصالح الاندماج المجتمعي. ومن ثم، ما هي قدرة أبناء العراق على صناعة الهوية الوطنية العراقية الموحدة ؟ أو الأحرى، وبعد هذا الخراب العام الذي أصاب العراق كوطن وشعب، كيف وبأي أسلوب وطرق نستطيع إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية ؟ وهل يأتي هذا ضمن مشروع بناء الدولة المدنية، دولة القانون الضامنة للديمقراطية وللحريات المدنية التي ينادي بها البعض من شرائح المجتمع.

وهناك من يرى أن الفيدرالية أو الكونفيدرالية هي الحل الأنجع لحسم الخلافات والصراعات. في الوقت الذي يجد آخرون إن التقسيم على وفق الطائفة والقومية ممكن أن يحسم الكثير من الخلافات ويعطي للجميع حقوقه.

 أم ترانا كما يدعي البعض الأخر، شعب يعاني من فقر ثقافي بائن ،وكان ومازال منقسما اجتماعيا وطائفيا وقوميا، ويتواطأ رجال السياسة المحليون فيه على إبقاء وفرض هذا الحال لتثبيت وتسيير مصالحهم،، ويترافق ذلك بنهب منظم لثرواتنا، والتفنن في أساليب ثلم الحريات المدنية. لذا نحن بحاجة لحكومة مركزية قوية عادلة، تحمي الوطن من التهديد والتدخل الخارجي وتفرض سيطرتها، وتستبدل مشاعر العجز والإحباط والقهر المستشرية بين أوساط الناس كإرث من الماضي، بمشاعر الثقة بالنفس والقوة والوجود المشترك والهوية الموحدة.

 

 من كل هذا وغيره تتولد القناعة بضرورة البحث في القواعد والمسلمات التي من الموجب أن تبنى عليها أية هوية ثقافية اجتماعية وطنية.

لذا فكرنا أن يصاغ  للحوارية القادمة التي سوف تعقد يوم 28 / 11 / 2015 في الساعة الرابعة عصرا وعلى قاعة  ليروسالن     Lärosalen  في المكتبة المركزية في شيستا سؤالا محددا : ما هي قدرة الإنسان العراقي على صياغة أو إعادة بناء هويته الوطنية الموحدة ؟ الكيفية، القدرات ، الدوافع ، الغايات.على أن تؤخذ وقائع الوقت الراهن الذي يمر فيه العراق، كمسبب لاستشراء الإمراض السياسية والمجتمعية التي طعنت وتطعن بالهوية الوطنية وتدفع لاضمحلالها. وليس في ذكر هذا ما يجعلنا بالضرورة نرغب مرة أخرى تكرار استعراض الأسباب التي أدت لتشتت وتشرذم الهوية الوطنية . مع التأكيد على ضرورة أن تكون الحوارية القادمة حول هذه الموضوعة ليست بما عرف عن النمطية التي تدار بها المحاضرات ، فسوف يكون لكل من الحاضرين الحق في أن يقدم تصوره مكتوبا ويقدمه للنقاش ولا يوجد محاضر بذاته، بقدر ما يتحدد لكل متحدث فترة زمنية يتفق عليها، يخوض الجميع فيها غمار الإجابة على صلب السؤال، ليقدم تصوره واستنتاجاته لهوية عراقية ممكن تشكيلها في دولة يعاد بنائها من جديد بعد أن عمل المحتل الأمريكي على تفكيكها وجارته في هذا بعض التكوينات العرقية والطائفية العراقية.

 

 

منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم

 

141


كارل ماركس في العراق/ الجزء السابع

قيدوا يديه إلى الخلف بخرقة ملابس وغطوا وجهه بكوفية فلم يعد يرى شيئا.سحبوه بقوة ثم رفعوه من يديه وحشروه في حوض السيارة الخلفي جوار الرفيق جبار الذي لم تعد تصدر عنه كلمة واحدة وبدا وكأنه جثة هامدة، بل كان صوت تنفسه مثل فحيح أفعى. انتابت ماركس حالة من غثيان جراء رائحة العطن التي تحملها الكوفية التي عصبوا بها عينيه وشعر بحاجة للتقيؤ. كان جسديهما يرتفعان ويهبطان ويرتطمان ببعض مع اهتزاز السيارة التي شعر بسرعة سيرها على طريق غير معبدة ومليئة بالحفر. بعد مضي ما يقارب النصف ساعة توقفت السيارة فسمع ماركس ضحكات أطلقها من كان يجلس في مقاعد السيارة ودار حوار بينهم ورجال كانوا خارج السيارة.
ــ الله يساعدهم
ــ  هله بولد العمام ..هاي سيارة جديدة.
ــ أي والله اليوم الصبح اشتريناها من معارض البياع .
ــ  عدكم ممنوعات؟ رافق السؤال قهقهة بصوت عال  صدر عن الجميع.
ــ يابه والله أنت سيطرة مضبوطه.. تريد تفتش السيارة ، ننزل وفتش ملابسنه الداخلية.. حتى أسولف العمي حجي رشيد شلون السيطرة صارت تلعب بقلاقيلنا.
ــ لا عمي شراح يخلصنه من الحجي ،مو هيج عمي أبو بشير.
ــ عفيه وليدي ولله أبن حموله وتعرف الأصول، بس عمي تكدر تقوم بواجبك الرسمي وتفتش السيارة.
ــ مو عيب عمي .. شنو أنكلبت الدنيه .. جلمتك كافية عمي الحجي.. الله وياكم محروسين.
ــ شكرا وليدي.
تحركت السيارة ببطء وبدأ الاهتزاز يزداد ويسبب ألما حادا في مواضع كثيرة من الجسد. في هذه اللحظة أراد ماركس حصر تفكيره بما يدور حوله، في محاولة لمعرفة السبب الذي جعلهم يقعون بيد هؤلاء. وتساءل، ياترى من هم هؤلاء؟ وإلى أين يأخذونهم؟ وإذا كانوا من العساكر الحكومية، فلماذا يعاملونهم بهذا الشكل السيئ. ما الذي جعل الرفيق جبار بهذه الحال، لماذا لم تصدر عن جبار أية كلمة . دفع بجسده بقوة نحو جسد الرفيق جبار ولكنه لم يجد منه ما يوحي بالاستجابة. وبصوت خافت سأل .
ــ رفيق جبار ما الذي حدث؟
لم يسمع جوابا من الرفيق جبار لذا راح ينادي صارخا
ــ أين نحن.. ماذا تريدون منا .             
فأجابه أحدهم بحدة.
ــ أنجب لك أثول تره أجيك وأطشر مخك ..
عندها سمع صوت جبار الخافت يقول .
ــ اترك هذا الآمر،لا تتحدث هكذا معهم .. سوف يقتلوننا أن عاندتهم.
ــ ومن هم هؤلاء ..
ــ عصابة خطف.. نحن اختطفنا.. اختطفنا وسوف نعرف ما الذي يفعلوه بنا بعد حين.. وعلينا الصبر لعلنا نجد مخرجا أو حلا قريبا.
صمت ماركس وما عاد يفكر بالألم الذي يولده اهتزاز السيارة وارتطام رأسه بسقف الصندوق. شعر بأن فكره أبتعد قليلا ولم يعد يكترث لمكانه الضيق الذي حشر فيه مع جبار. فكر بالقدرة اللانهائية للطبيعة البشرية على البقاء بلا مشاعر إنسانية، بلا وعي للآلام التي يلحقونها بالآخرين.فهو يعرف الساعة بل هو على يقين بأن قول تيمون الأثيني كان صوابا ويقينا كاملا، وهو بالتحديد يعني هؤلاء المصابين بلوثة المال، حين قال إن العهر المشترك للجنس البشري هو المال ، المال لعنة الإنسان التي لا تضاهيها لعنة، فهو الذي يدمر المدن ويغوي ويفسد أجمل ما في الروح من معاني، أنه طريق الفجور والعار، وهؤلاء سائرون في هذا الطريق. كان يعتقد بأن مضي كل تلك العقود من السنين التي دون فيها ما يكفي من خبرات ونظريات وصنع ما استطاع تقديمه هديا للبشرية على طريق خلاصها من العبودية ربما كان كافيا، ولكنه أحس اللحظة، بأنه لازال بعيدا جدا عن الانتهاء من مهمته، فالحالات تظهر وتتوالد أمامه دون نهايات، ويجد نفسه يتقدم ببطء شديد جدا نحو اكتشافها، وتتطلب منه مزيدا من التفكير والبحث . فهذا الشعب العراقي منذ تأسيس سلطته الوطنية عام واحد وعشرين بالقرن الماضي ولحد الآن، تركت الأحداث فيه إن كانت صعودا أو هبوطا، نجاحا أم خيبة،آثارا هائلة طبعت تشكيلاته الاجتماعية بالكثير من السوء والشك والريبة والقسوة،ولم تمنحه ما يكفي لبناء طباع خيرة نقية متكاملة، ولذا لم يعد قادرا على الاستقرار على حال واحدة، فمسيرته صعودا نراها تتعثر ثم تهوي، دون ظهور لمن يهتم برؤية عميقة لمصالح الناس الحيوية ودوافعهم المادية ليلجم تلك الصراعات التي باتت تسحب الجميع نحو الفرقة وتدفع بهم لتشكيل عوالمهم الخاصة المغلقة والقاسية والأنانية .
 توقفت السيارة فسمع ماركس  أحدهم  ينادي من بعيد يطلب جلبهم إلى البيت. أنفرج سقف صندوق السيارة وامتدت أيادٍ لتسحبه والرفيق جبار خارج الصندوق، ثم رفع أحدهم الكوفية عن رأس ماركس وفعل هذا مع جبار . نظر ماركس نحو جبار فشاهد خط خفيف من الدم يهبط من أنفه نحو فمه.جال بنظره المكان، فوجد نفسه  يقف أمام ساقية ماء وضع فوقها جسر خشبي صغير وثمة بيت مشيد من الطابوق الأسمنتي يقع في الجانب الآخر من الساقية، تحيط به أشجار فواكه كثيفة وثمة بستان نخيل يغطي المكان ويمتد عميقا خلف البيت. وفي الخلف كان هناك الطريق الترابي المتعرج الذي اجتازته السيارة، يخترق بستان ظليل بنخيله وأحراشه. كان المسلحون المدججون بالسلاح يحيطون بماركس وجبار وينتشر البعض الآخر بعيدا قرب البيت.عدهم فكانوا سبعة مسلحين.
ــ ودي السيارة يم بستان حجي رشيد وسلملي عليه وكله أبو بشير يكول خليه يمك أمانه فد جم يوم.
ــ صار حجي .
تحركت السيارة عائدة نحو الطريق الترابي بينما سحب آخرون ماركس وجبار من فوق القنطرة الخشبية عبورا إلى البيت  ، ثم أدخلوهم إحدى غرف البيت الضيقة الرطبة الخالية من الأثاث، بابها حديدي أصابه الصدأ، يصدر صريرا عند فتحه، وأرضها رصفت ببلاط أسمنتي مترب.  جلبوا لهم بطانيتين فرشوهما أرضا ثم فكوا قيودهما وطلبوا منهما الجلوس.
ــ هذه أبو كفشة جوازه يكول ألماني.. زين وأنته الآخر عقيد جبار وبديوان الرئاسة.. شنو علاقتكم بعض.
ثلاثة رجال يقفون شاهرين بنادقهم نحو الرفيق ماركس والرفيق جبار وراحوا يوجهون أسئلتهم ويرقبون ردود الفعل .
ــ أي لك عقيد جبار سولف..منيلك هذا الطير المكلش..هم عسكري مثلك.. لو جاسوس لو مدرب ..شنو يشتغل وياكم بالقصر الجمهوري لو بغير مكان؟
ــ جنت عند أصدقائي بالناصرية وكلفني أحدهم بنقل هذا الأخ الألماني إلى بغداد، وأحلف بالقرآن ما جانت عندي سابق معرفة بيه . وهذه الهوية مالتي مزورة أني مو عقيد ولا حته جندي.. شوفوا هويتي الثانية شتقره.. مو موظف حكومي.
 هكذا أجاب جبار على السؤال. وكان ماركس صامتا ينظر أليه بتعاطف فهو يرثي لحاله المزري ويرى دمه وقد سقطت على قميصه بعض نقاط منه ، وفكر بأن جبار يكذب الآن ليبعد عن نفسه شبهة ما يظنها خطر عليه، ولكنه تساءل لم يفعل هذا أن كان الأمر يتعلق بالنقود وليس شيئا أخر، مثلما أخبرني. 

ــ لك قشمر  .. هذي مو مشكلتنه .. صديقك ..تعرفه ما تعرفه ما يهمنه .. أنته هسه أطينه تلفون رئاسة الجمهورية لو رقم تلفون نتصل بيه وأحنه نعرف شلون ندبره وياهم.. خوش .
 ـ وخير البر عاجله..نريد منك توقعلنه على أوراق بيع وتحويل ملكية السيارة، وراح نشوفلنه صرفه بصاحبك الألماني لان شغلته دسمه باليورو مو بالدولار. .
ــ يابه والله العظيم أني مو عقيد وهاي الهوية مزورة والسيارة مو باسمي ..وهي منيفست  .. تكدرون تأخذوه، وفكوني خلوني أروح الأهلي.
ــ خوش هم زين كلتنه راح نسويله أوراق جديدة .. أكلك قشمر.. شنو يابه فكوني أروح الأهلي.. ليش شنو  كالولك عدنه مدارس ومن تصير الحلة تروح الطلاب لبيوته. شوف أذا ما تتعاون أنته وأهلك تره البستان جبير ويوصل لحد نهر دجله وهناك راح أتسيس جثتك .
ــ زين أنتم مو أخذتوا السيارة... فلوسه ما تكفي.
ــ أنته مو تكول السيارة مو أبسمك .. أي شعليك بيه.. هي حصة غيرنه.
فجأة صرخ رجل آخر هازئا. 
ــ لك هاي شنو اللغوة .. أنته هذا الحلو المريش هيج رخيص تتقيم بفلوس سيارة .. والله عيب عليك ما تستحي طول بعرض وجهامه، هسه لو مره جان كلنه ميخالف..كصه بكصه نأخذ السيارة ونرجعك ألأهلك.
أطلق المسلحون ضحكات هازئة وقدم أحدهم هاتف جبار النقال إليه، طالبا منه أظهار رقم هاتف أحد ما يستطيعون الاتصال به. فعل جبار مثلما طلب منه وأعاده لهم.
ــ هذا تلفون أخويه رضا .
ــ أوكي الحجي هو اللي راح يقرر شنسوي وياكم .. وهذا الألماني عندك معرفة بتلفون جماعته.
ــ لا ما عندي.. ومثل ما كلتلكم، صدفة كلفني صديق بالناصرية لنقله إلى بغداد.
ــ لكم أنتم تدرون ..هذا بس لحيته تسوه مليون يورو .. وراح نطلب من السيدة  أنجيلا ميركل ادزلنه فصلية خمس نسوان مجكنمات مسنعات ألمانيات مو بشكل الخشبة العندي ... يايمممممه ... فدوه للنبي.
ــ ولك هاي منين أنجيلا ميركل ؟
ــ حبيبي أبو رزوق ما عليك بهذي السوالف.
ــ لا بروح الوالدة هاي منو أنجيلا مياكل.
ــ هاي رئيسة ألمانيا وبيده كلشي وأم الكول.. ومن تحجي تغرد..تقره وتكتب...وأتدير دولة جبيرة مو مثل جماعتنه مخربطين ما يعرفون غير طيحان الحظ.
ــ صدك لو كَال عنك عمي الحجي .. لعبي وبراسك ألف شيطان.
ــ دمشي أمشي بس هاي تعرفه .. أكو واحد ما يعرف ميركل
ــ لوتي .. انته أسم بيبيتك ما حافظة .. أنوب مياكل.

خرج المسلحون من الغرفة يتضاحكون وأغلقوا الباب ورائهم ووضعوا سلسلة حديدية ربطت بأحكام دفتيه من أعلى. ساد صمت بين الرجلين، ولم تكن هناك رغبة ملحة لدى ماركس للحديث مع الرفيق جبار الذي مد جسده فوق البطانية وراح يطالع سقف الغرفة. كان ماركس يريد إدخال شيئا من الطمأنينة إلى نفسه ففكر بحصانته الشخصية كونه أجنبي وليس عراقيا، وهذا يكفي لجعل هؤلاء يحذرون التعامل معه بقسوة ورعونة أو إذلال. ولكنه وكمن يبحث عن ملاذ أو ملجأ ليجد نفسه في نهاية المطاف واقفا في فضاء مفتوح مكشوف دون سقف يحميه، وقد جرب ذلك حين عومل منذ البداية بابتذال وقسوة لم تكن لتهتم بكونه أجنبيا غريبا، ولذا عليه إعادة حساباته وعدم الاطمئنان. فربما تكون أجنبيته وبالا عليه، ودافعا حقيقيا لهم، ليهملوا  وضعه ثم يفكروا بالتخلص منه. نظر نحو جبار ووجه له الكلام.
 ــ لماذا كذبت عليهم .. ما الذي دفعك لهذا الفعل.
فأجابه جبار هامسا.
ــ نعم ليس لي معرفة بك .. فقط كلفت بنقلك إلى بغداد.أنت لا تعرف كيف يفكر هؤلاء .. علينا أن لا نظهر لهم علاقتنا الشخصية والرفاقية، فذلك حتما سوف يكون دافعا رئيسيا لتهور أحدهم وتسرعه بقتلنا. فأغلب هؤلاء يكنون عداءا مستحكما للشيوعية، فكيف بهم لو عرفوا من أنت وما علاقتك بي. ليفكر كل منا بوضعه الخاص دون خلط الأمور . أفهمت ذلك .
ــ حسنا ربما تكون على حق...وما الذي جعلنا نصمت حين وصلنا السيطرة العسكرية.
ــ حسنا فعلنا .. فهؤلاء ما كانوا ليتورعوا حين يكتشف أمرهم بقتل الجنود وقتلنا أيضا.

لم تمض غير ساعة واحدة حين تحركت السلسلة الحديدية لينفرج بعدها الباب ويدخل الرجال المسلحون ذاتهم. كان المساء يهبط رويدا فبدا الظلام يحيط بالمكان، لذا حمل أحد المسلحين مصباحا يدويا سلط ضوءه عليهم ثم ركزه على وجه الرفيق جبار قائلا.
ــ سوف أسلمك التلفون حتى تحجي ويه أخوك رضا .. أذا كتله شي عن المكان، لو شنو صار وياكم، أعتبر نفسك ميت .. خوش .. كله أني زين وخلي يطي المطلوب منه حتى نطلق سراحك.. أوكي أبن عمي..
ــ ميخالف .
أجاب جبار ورفع يده ليأخذ جهاز الهاتف ، فكان صوت أخيه المضطرب على الجانب الآخر .لم يظهر له مخاوفه، وتجنب الإفصاح عن مشاعره الحقيقية، وطلب من أخيه التماسك وتلبية ما يطلب منه، وان يطمئن العائلة ويبعد عنهم مشاعر الخوف
ــ حبيبي رضا لا تهتم.. الأخوة ديعاملونه بشكل زين.. شوف شيريدون ونفذ طلباتهم . لتخلي العائلة بقلق طمأنهم وكَلهم أنشاء الله قريبا أكون بيناتكم.
فجأة سحب أحد الرجال الهاتف النقال من يد جبار وأسرع بغلقه ووجه ضربة خفيفة من كفه لرأس جبار.
ــ هذا أخوك أغبر وقشمر..صارله ساعتين يماطل ويعتعت..ويسأل هواية.. تره أذا ما ينفذ طلبنا راح انطكَك بالدهن .
ــ ليش أنتم شنو طلبتم منه؟
ــ عشرة دفاتر.
ــ عشرة دفاتر ! هاي منين راح يجيبوهة..
ـــ ليش ما عدكم بيت .. كاع.. معارف .. تره أحنه مو قليل ..باجر راح نعرف عنك  كلشي .. وعشر دفاتر ما تسوه شي.. خوش ..راح باجر أخليك تتكلم ويه أخوك مرة لخ.

خرج المسلحون وأوصدوا الباب ورائهم فخيم الظلام على الغرفة . تلمس ماركس مكانه ثم اتكأ على الحائط  وشعر بثقل يرزح فوق صدره العليل. أحس بدبيب حشرة فوق ساقه فقصعها بإصبعه دون أن يعرف نوعها. وبدء طنين وصرصرة الحشرات يملأ الغرفة ونقيق الضفادع في الساقية القريبة يتعالى وكأنه ضجيج لبدأ معركة طاحنة. تسربت إلى أنفه رائحة شواء فتقلصت معدته جراء الجوع الذي بدأ يعتصر أمعائه. أثارته تلك الرائحة وتمنى اللحظة لو أنه في بيت أبو نداء يتناول الرز واللبن وهذا ما يكفيه الآن لا بل يغني عن جميع أنواع الأطعمة التي تناولها في حياتها.
ــ رفيق جبار هل تعرف أين نحن الآن ؟
ــ ليس بالتمام رفيق ولكن أعتقد أننا كنا قريبين جدا من منطقة الصويرة . وربما نحن في أحد بساتينها. وهي ليست بالبعيدة عن بغداد.
ــ  أتعرف أن مثل هؤلاء لا يفاجؤني بأفعالهم ، صحيح أنك تكتشف لديهم شيئا من أفعال غرائبية، ولكنهم مثلما عند باقي الشعوب وفي مراحل عديدة وفي فترات شيوع العلاقات الاضطهادية يتضح للناس المقهورة أن العنف المسلح هو السبيل للتعبير عن النفس والحصول على الحقوق والمنافع، ولا تنسى إن تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام.

ــ رفيق هاي وين وذيج وين.. رفيق ماركس هؤلاء عصابات جريمة ، قطاع طرق سراق وهم جزء من قوة التسلط المتنفذه في المجتمع اليوم.
ــ ربما مثلما تقول، ولكنهم اختاروا هذا الطريق كرد فعل لمعاناتهم من البطالة أولا ثم كخيار ضد الفناء الاقتصادي والمعنوي،  وطالما ظهر أمامهم باب للنجاة من الفاقة فهو يقصي عن تفكيرهم كل ما يوجه لأفعالهم من تهم وتشنيع.. وأيضا يتحول ضعفهم الذاتي إلى شعور بالقوة ويتخذ السلاح دلالة سحرية بما يملكه من قدرة على الحسم وجلب الغنائم.

ــ رفيق ماركس، شكرا على هذه المحاضرة القيمة ..رفيق كلامك على راسي وأحترمه، ولكن ثلاثة أرباعه لا علاقة له بهؤلاء، ولو حاولت التعرف عليهم جيدا فسوف تكتشف بأن من يترأسهم أو يقودهم كفصائل للسرقة والنهب والقتل سبق وأن كان مصدرا لقهر الآخرين ويمتلك السطوة والجاه، فالبعض منهم ملاك أراضي وضياع وربما رؤساء عشائر أو رجال دين وحتى أعضاء في أحزاب سياسية  ربما هم اليوم ركن من أركان السلطة في العراق، ومثل هذه الأفعال ليست أعمال جرائم عادية فقط وإنما الكثير منها جزء من عمليات ترهيب وتشويش، ولي أذرع وضغط ولمأرب عديدة. رفيقي أتمنى لو خرجنا سالمين من هذه المحنة، أن توافقني وتبقى في العراق وتدخل بقوة بين أوساط الشعب ، بين الناس المسحوقين وكذلك المترفين لتكتشف كم يحمل الفرد العراقي من هويات ووجوه يرغب أحيانا أو كثيرا ما يضطر لارتدائها أو تغييرها واستبدالها مرات عديدة على مدار يومه.. هناك سوف تكتشف العقد الذاتية، الخوف والاستكانة،الجبروت والعنف والعواطف والرقة، التنكر للذات والجماعة، تبخيس الذات ثم تضخيمها، التحدي والتذلل،الحب المرادف للحقد أو الممزوج به، التمجيد والرفعة في مواجهة الضعة.. كل ذلك ينسف الكثير مما تعرفه ونعرفه أو نريد الإمساك به.
ــ لا غرابة في ذلك رفيقي العزيز .. فالفوضى والعشوائية والمحاولات غير المدركة للمهام، دائما ما تميز البشر حين يصابون باضطراب مناهج التفكير وسوء الفهم في محاولاتهم لاكتشاف الواقع أو سبر أغواره، وهكذا بدلا من العمل على تنظيم الوقائع وتسييرها بالسيطرة عليها، نرى البشر ينجرفون نحو حلول غير منطقية، وهذه الحالة ليست خاصية للطبقات المسحوقة أو الأمية بل تظهر بين أوساط المتعلمين ومن يطلق عليهم بصناع القرار، فالعقل كان دائما موجودا ولكن ليس دائما في شكل متزن.
فجأة سُحبت السلسلة الحديدية وانفرج الباب ودخل رجل قصير القامة برأس ضخمة يحمل مصباحا يدويا. تقدم وبيده طبقا وضعت فيه قطعتي رغيف وبعض خضروات وصحن كبير من اللبن.
ــ هذا عشاكم .. أعذرونه الباجة بعده ما مستويه، والبزونه باكت السمجه..أكلو وتريعو.. وبعد جم يوم هم راح تكولون ما احترمونا وموتونا جوع وأضطهدونه .
ــ لا عمي ..خلفله عليكم وكثر الله خيركم .
هكذا أجاب الرفيق جبار ومد يده وتناول رغيفا راح يلوكه بعجالة.
ــ أكول .. أني جنت وره الباب أتنصت على حجيكم ، هاي شنو جنتوا ترطنون .. أشو جبتوه خبط ولبط ولغوه ما بيه معنى ..ذكرتوني بمعلم الحيايتة من جنه بالمتوسطة، يلغي ويلغي ويدردم ساعة ساعتين وأحنه محد مفتهم منه شي.. وكلنه بالأخير رسبنه وجلقونه من المدرسة.. شوفو تره هذه اللغوة ما تنفعكم .. أولا أزقنبو ..  ولمن أتطلعون بعد ما يدفعون ربعكم المقسوم.. هناك عد أهلكم أخرطو شكد ما بيكم  خريط ولغوه.   
أدار ظهره لهم وذهب وأوصد الباب خلفه لتعم الظلمة الغرفة، فراحت أياديهم تتخبط لتختطف ما تصل أليه من محتويات الطبق.



فرات المحسن

f_almohsen@hotmail.com

142

كارل ماركس في العراق / الجزء السادس

كانت السفرة القصيرة إلى مدينة أور ممتعة جدًا غيرت المزاج المتعب الضجر الذي انتاب ماركس عند نهاية اجتماع الظهيرة في بيت عبيّس. المدينة الأثرية الممتدة في عمق برية واسعة تجعل المرء يفكر بذلك الوجود المكين لتلك الحضارة العميقة التي قدمت للبشرية انجازات طبعت بصماتها ومازالت في حركة وحياة البشرية، أنها علاقة الإنسان بالإنسان مثلما علاقته بالطبيعة. تلك الأحجار رغم صممها فأنها تروي حضارة سادت وتسيّدت، كان صراع الطبقات فيها متصاعدًا ومستمرًا. كان هناك فئات الناس من المنتجين وهناك في مواجهتهم ملاك الأرض أو وسائل الإنتاج كل هؤلاء تشي بوجودهم عظمة هذه الزقورة الرائعة الذاهبة بارتفاعها نحو السماء العليا، لتصنع لربها دينه وتقدم له قرابينها عند مذبحها. لقد حول الإنسان الطبيعة بجلالها وجمالها إلى ربّ حاكم مرهوب رغم تغزله بها ومناجاته لها.
ــ رفيقنا ماركس ما الذي أوحت لك زيارتنا لزقورة أور؟
سأله الرفيق جبار عند مدخل بيت أبو نداء وهم يهبطون من السيارة بعد عودتهم إلى المدينة.
ــ كنت في حلم من فنتازيا.. تخيلت سيرة حياة هؤلاء البشر الذين أبدعوا وأعطوا كل ذاك الإرث المادي والمعنوي، دائمًا وأبدًا الإنسان يصنع التأريخ بحرفية عالية، يصيغ فصوله المادية مثلما الروحية، إنه يشيد تأريخه وإنسانيته بحرفية مذهلة. هؤلاء قفزوا فوق منظومة المشاعة البدائية، ولكن العبودية كانت تطغي على روابط البشر وقتذاك. التاريخ البشري واحد تشترك فيه جميع الحضارات ودائمًا كان التطور الارتقائي سمة لوجودها الفعلي. هناك دوائر حضارية لم تعرف العبودية ولكن تلك الزقورة في مدينة أور توحي بذلك مثلما الأهرامات في مصر، والبشر هناك في سعيهم الجمالي استندوا على طابع التطور والتناقض، وأرى في ذلك علاقة بنمط الإنتاج المادي حينها .
ــ هاي شلون طركاعة يالله؟! أنه أظل دوم مسطور وأثول ومثل أطرش بالزفة.
ــ هاي شبيك أبو راهي أي هسه مو تونسنه وغنينه بالسيارة وأكلنه خبز عروك من أيد أم نداء، شنو صار؟
تساءل الرفيق جبار وهو يسمع جملة التذمر والضيق التي أطلقها الرفيق أبو راهي الذي رافقهم في زيارة مدينة أور التاريخية، وكفلهم شخصيًا عند نقطة التفتيش العسكرية حين ذهابهم إلى آثار مدينة أور ومن ثم عودتهم إلى مدينة الناصرية.
ــ رفيق جبار، الحجي أبيناتنه الموضوعة مو يم السفرة ولا يم خبز العروك، ولا صوت عبيس من جان يغني مشيت ويا للمكير أودعنه.. رفيق أني أنسطرت من جواب رفيقنا ماركس على سؤالك.. أي هسه هاي السوالف منين يجيبه ما أدري؟ الله يساعد مرته وجهاله عليه، إذا شهر أمشي ويا، راح أتسودن.
ــ رفيق هاي المتعبتك؟ كلشي واضح وما يرادله تفسير.. رفيقنا ماركس يكول الإنسان سوه العمايل ولعب طوبه بالدنيا وخلق ولايات وبنه بيوت والرفيق متونس وفرحان بما شافه هناك.
ــ هاي هيه رفيق؟ جبته من الأخير.. جا شني روحية وفصول مادية وطابع التطور والتناقض.. وروح أبوك رفيق جبار، لو مو شويه واكفه، ويكولون سوه خرق بالرفاقية، وجان ما ملتزم بالتسلسل الحزبي، جان كتلك والحمزة أبو حزامين أنته هم مسطور مثلي ومضيع صول أجعابك.
أطلق الرفيق جبار ضحكة مجلجلة وأحاط جسد الرفيق أبو راهي بيديه ودار معه دورات كاملة وراحا في موجة من ضحك عالي. كان ماركس ينظر لهما مبتسما ويحاول تجنب ارتطامهم به. والتفت نحو أبو نداء وكأنه يحثه على إنهاء هذا الوضع والسماح لهم بالدخول إلى البيت بعد هطول المساء ومشاعر التعب التي أحس بها ورغبته في شيء من الراحة.
كان عبيس يتكئ على حافة الباب ويطالع رفيق جبار وأبو راهي بابتسامة رضية تستحسن مزاحهم تلك اللحظات. حين فاجأهم قائلا.
ــ من رخصتكم رفاق نص ساعة وأرجع .
ــ وين رفيق عبيّس وين رايح؟
ــ أبو نداء.. حبيبي أكو شي جوه إيدك حتى أبقه ما أروح.
ــ لا رفيق منين... آخر شي خلص على إيدك بكعدة الجمعة الفايته.
ــ جا ليش تكول وين رايح رفيق تريده كعدة يباسي؟ عليك حضر المزة وآنه راح أجيب لبن وطرشي.
ــ عبوسي حبيبي لا تنسه الخس.
ــ جا بويه شنو إبيتكم بس الماي؟ وهم راح تعشينه تمن ومركه. لو جاي وخبز؟
ــ لا كلت لأم نداء تسويلنه زوج خضيري .
ــ رفاق تسمحولي أتبرع بسمجة مشوية.
قال ذلك أبو راهي وهو يخرج بعض النقود من جيبه .
ــ هاي روحية عالية للمشاركات والمبادرات النضالية.. حس متفوق بالتضامن ونكران الذات ألرفاقي. مو بيده مناضل عضوي هيه كوه.. جيب لعب أيدك عشرين ألف دينار بوجه الرفاق تره متضيع، وعلى الأقل رفيق ماركس يكول ضكت سمج بالناصرية.
هكذا قال الرفيق عبيس مادًا يده نحو الرفيق أبو راهي ليأخذ النقود، بعدها استدار وذهب بعيدًا. دخل بعدها الرفاق بيت أبو نداء وجلسوا في غرفة الضيوف التي بدت معالم الرطوبة ظاهرة على جدرانها. تتوسطها منضدة صغيرة وثلاثة مقاعد جلدية وكرسي من الخيزران، وصورة مؤطرة لرجل مسن يرتدي العقال والكوفية علقت فوق الجدار المقابل للنافذة التي تطل على باحة الدار الداخلية. جلس ماركس في الزاوية القريبة من النافذة وجلس الباقون قبالته. طرق باب الغرفة وسمع صوت امرأة تنادي على أبو نداء الذي ذهب وعاد حاملاً صحنًا كبيرًا من الرز وضعه فوق المنضدة ثم كرر جلبه لباقي الطعام، بعدها جلس داعيًا ضيوفه البدء بالأكل، عندها طلب الرفيق جبار الانتظار لحين رجوع الرفيق عبيّس وسأل إن أمكن الاتصال به هاتفيا لمعرفة وضعه، فأجابهم عبيّس بأنه قريب من بيت أبو نداء. لم يستمر انتظارهم غير دقائق معدودات حين طرق عبيّس الباب ودخل حاملاً حقيبة سوداء كبيرة بيده اليمنى وكيس آخر بيده اليسرى. جلس ووضع الحقيبة جانبًا وأشار بإبهام يده نحو الأعلى علامة تحقيق النجاح. ناول الكيس لأبو نداء منبهًا عليه باحتوائه على سمكة مشوية ورأس خس، بعد ذلك فتح الحقيبة وأخرج كومة ملابس ثم لفافة من قميص غطى بها قنينة ويسكي ثم أخرج أخرى فضج الرفاق بالضحك والمديح للمحصول الوافر والجهود العظيمة والبطولة التي يبديها عبيّس دائمًا لأجل توفير السعادة لرفاقه.
ــ هاي شلون دبرته رفيق عبيّس ثنين مو واحد وبالممنوع.
ــ ليش رفيق مو آني عبيّس لو غيره؟ رفيق ماركس خطارنا وتريدني أجيب واحد.. شني بويه تريدنه نتمضمض باستكانات وأحنه خمسه.
ــ خوب مو مغشوش.
ــ هاي سوالفك أبو راهي دائمًا عندك قاعدة إثارة الشكوك وصولاً للقناعة والحتميات.. ديكارتي مو بيدك (1).. إنته دضوكه وبعدين قرر.
ــ جا مو قبل شهر حصلت واحد وطلع مغشوش.
ــ أي نعم.. إنته تتعامل ويه صغار القوم.. أحنه نتعامل ويه رأس الأبي.. تعرف شنو ومنو رأس الأبي.
ــ لا والله عبيس ..منو هذا؟
ــ سيدنا ومولانا أبو حوراء .
ــ لا .. ابروح أبوك.. صدك جذب.. أبو حوراء.. مو سيد أبن رسول الله وخاليه مسؤول جبير ويحكم بشرع الله بمنطقة السديناوية.
ــ بويه التجارة والفلوس تعمي العيون.. يا سيد يا حُمَيد.. وهسه إنته شعليك أذا سقيت رويحتك العليلة من إيد سيد لو من أيد عامي.. بالمرة الجايه أجيبلك بطل من وزير الحصة التموينية.
كان رفيق ماركس يبدو غير معني بما يدور حوله من حديث، فالتقطيبة بدت فوق جبينه وكان يسلط نظره على مائدة الطعام، ذاهب بفكره في أزقة لندن وعند عائلته التي شعر اللحظة باشتياق حاد لها سيطر عليه بالكامل. رفع رأسه حين سمع نداء الرفيق جبار له .
ــ رفيق ماركس أين سرحت.. لنبدأ بالأكل.. ألا تشعر بالجوع؟
ــ نعم رفيق، ولكن قبل ذلك أحتاج لكاس يعدل المزاج.
ضج الرفاق بحيوية وحبور بسبب طلب الرفيق ماركس هذا، وراح عبيّس في موجة صراخ وكلمات سريعة متتالية.
ــ حيهم بويه حيهم.. حيهم.. ألف رحمه على ابيهم.. هذولة العذبوني.. هذولة المرمروني وعلى جسر الهولندي عذبوني.. دائما البدايات الثورية تخليني أروح بعيد، عاشت أيدك رفيق ماركس.. يابه وروحه الخالي أحله ماركس أنته.
استمر الحديث وتشعب وكان خليطًا من حديث شخصي وعام تخللته نكات وغناء حسب الطلب، أداه عبيّس بمزاج رائق جدا. كل ذلك بينما الرفيق ماركس كان بين فينة وأخرى يسرح بعيدًا ولكنه يحاول اغتصاب ابتسامة يجامل بها ندمائه. فهو بعيد عن فهم ما يدور بينهم من حديث، لا بل لم يكن حديثهم في حقيقة الآمر ليستحوذ اهتمامه، فهو يفكر في ساحات قصية عن مكانه الآن. هناك في أوربا ومن ثم أسيا ليعود بعدها ويحاول مقاربة ما يحدث هنا بتلك العوالم. منذ دخوله العراق لحد هذه اللحظة وهو يدقق ما شاهده ويشاهده وسمعه وقرأه، وتلك الجلسات التي جمعته برفاق يطلقون شكواهم وشكوكهم بين جملة وأخرى. ينظر إلى وجوههم التي ظهر عليها التعب وبانت آثار الكدح والهموم عليها. هؤلاء الذين يحاولون دائما أن يوعزوا كل خلل وخيبات أحاطتهم، لجهات بعيدة عنهم، سلطت عليهم كل تلك العذابات. يرمون مشاكلهم ويطردونها ليلصقونها بعوامل بعيدة عنهم، نافين أية تهمة توجه لذواتهم، إنه مرض الفصام الذي يقبع داخل الإنسان المضطهد. حيث يسقط مسؤولية التقصير الذاتي على الآخرين، أي التخلص من كل ما هو سيء ومؤذ بمحاولة اتهام الغير به، دون البحث في الفعل الخاص والسلوكيات الفردية والعدوانية التي تتحكم في أفعاله، لتكون في النهاية مقدمة للقناعة بوجود حالة عامة من الرضا بما يقع كونه مقدر ومكتوب. وتلك هي حالة البؤس المستعصية التي تحتاج لتفجير من الداخل وليس غير ذلك.
ــ رفاق أشعر بالحاجة للنوم.. ممكن تناول كأس أخرى لأذهب بعدها إلى السرير.
هكذا بادر الرفيق ماركس منهيًا تفكيره الذي شط بعيدًا عن أجواء الصحبة والرفاقية، وذهب بعيدًا في محاولة لسبر غور الأزمة والأحداث ولكنه لحد الآن لم ينل جوابًا مقنعًا يرضي النفس.
ــ تستطيع ذلك رفيقنا العزيز.. وربما أحاديث رفاقنا الخاصة وغير الذكية سببت لك بعض الإزعاج .
ــ كلا أيها الرفيق جبار فأنا أشعر بالتعب بعض الشيء.
ــ لك ما تريد عزيزنا الرفيق كارل هاينريش ماركس.. بصحتك يا أحلى رفيق.. إن ينصركم الله على أعداء الماركسية من الرأسماليين والبرجوازية الكومبرادورية فلا مانع لدينا.. تصبح على خير يا وردة الورود.
أبتسم ماركس بتثاقل وارتشف كأسه جرعة واحدة وذهب خلف أبو نداء متوجهًا إلى غرفة نومه التي يشاطره فيها الرفيق جبار منذ ليلة أمس. جلس وحيدًا يطالع الجدران مثل ليلة البارحة فشعر بثقل الهواء وحرارة الغرفة الخانقة. مد جسده الثقيل فوق الفراش وراح يستمع لصخب الرفاق وضحكهم العالي وجدالاتهم التي أقتنع بكونها عقيمة وليست ذات جدوى، لم يطل التفكير حين بدأ النوم يتسرب إلى عينيه فراح في سبات عميق.
أستيقظ الرفيق ماركس من نومه على صوت الرفيق جبار وهو ينبهه بأن الساعة تجاوزت التاسعة صباحًا وعليهم تناول الفطور والمغادرة نحو البصرة. دهش الرفيق ماركس من كلام الرفيق جبار، فهو لم يخبره بنية السفر إلى البصرة .
ــ رفيق لم تعلمني سلفًا بجهة سفرنا.
ــ رفيق مثلما أخبرتك سابقًا فلنا أنا وأنت جولات في المدن العراقية للالتقاء برفاق يودون اللقاء بك والتحدث إليك.
ــ حسنًا ليكن ذلك .
ــ رفيق أبو ستار الورد مناسبة حلوه أروح وياكم للبصرة. قالها الرفيق عبيّس باستحياء.
ـــ وماذا تفعل هناك.. هم قجق لو ممنوعات.. ليش ما تبطل سوالفك الفاينات؟
ــ لا والله رفيق.. نشتري بضاعة بسعر مناسب.. يعني بزبز رفيق.
ــ قصدك بسنز تجاره .
ــ بالضبط رفيق رحمة لهذاك الجد المات وماضايك الفانتا. وأطلق ضحكة لم تنل استحسان رفيق جبار فظهرت على محياه معالم غضب.
ــ رفيق عبيّس أعرف حدودك.
ــ العفو رفيق حبيت ألطف الجو..
ــ لطف الجو بس أعرف حدودك إنته رفيق.. وآني منو.. هم رفيق.. مو كاعدين دنلعب دومنه.. صح لو مو صح..
ــ والله صح رفيق.. أعتذر منك رفيقي.
كان الجو مغبرًا حارًا رطبًا حين استقلوا السيارة وودعهم عند الباب الرفيق أبو نداء ومعه الرفيق أبو راهي. خرجت السيدة أم نداء التي توشحت بعباءتها السوداء وكانت تمسكها من طرفيها لتطبق بهما حول صدرها وتحت حنكها، وفي يدها الأخرى حملت وعاءً مملوءً بالماء، سكبته حين تحركت السيارة بعيدًا نحو الشارع الرئيسي المفضي إلى الطريق الذاهب نحو مدينة البصرة، وقالت بصوت مسموع محروسين بسور سليمان أبن داوود رفاق.
داخل السيارة ساد صمت مطبق لا يسمع خلاله غير صوت خفيف للمحرك، وكان الهواء باردًا منعشًا داخلها. استرخى جسد عبيّس. ودون مقدمات راح في إغفاءة مكينة وكأنه في فراش وثير من ريش نعام. صوت جهاز التسجيل يبث أغنية طويلة لأم كلثوم راح يدندن معها الرفيق جبار ناظر إلى الأمام، سارح في خياله، حين رن جرس الهاتف النقال، أخذه الرفيق جبار وكان أبو شمخي على الجانب الآخر.
ــ ها أبو شمخي.. شتريد، خوب ماكو شي؟
ــ هاي هم أجه آمر القاطع وهل مره يريد ميت ألف .
ــ شنو.. ميت ألف.. قندره عتيكة لتنطو كلوله من يرجع الرفيق جبار.
ــ رفيق جبار هذا معاند وراكب راسه.. يكول لو اليوم أستلمهن لو أغلق الفندق.
ــ خوش.. بلغ شمخي كله يكول عمك جبار، روح يم الربع بحي الدوره وكلهم الخمسين ألف حاضره، وهمه يتكفلون بالباقي. افتهمت لو هم مخك ثكيل مثل الباقين؟ خبر شمخي هسه خلي يروح للدورة بالعجل.. يالله ابني السبع.
أغلق الهاتف ونظر نحو الرفيق كارل ماركس الذي بدا وكأن الصمت يجلله فراح يضغط على أطراف أصابعه بحركات لا إرادية، وينظر نحو الصحراء الرملية الصهباء الممتدة في البعيد. كان يشعر بشيء من الندم المخلوط بالضجر والملل ويلوم نفسه بسبب انقياده لقرارات الرفيق جبار التي لم تكن في الكثير منها مبعثا للتفاؤل والسعادة، ولم يحصل منها أو يستخلص ولحد الآن، نتائج إيجابية تنفعه في دراسته، رغم أن مجيئه إلى العراق كان قرارًا طوعيًا، ومن المفترض ومنذ البداية كان عليه أن يملي شروطه بما يحقق له ولبحوثه النجاح، ويمكنه الحصول على توثيق لتجربة يعرضها لرفاقه وجمهوره في لندن بعد العودة. ولكن جبار ورفاقه و الوضع الهلامي غير المستقر دفعاه للانقياد والرضا عن خطط هذا الرفيق الأناني الغامض.
عند الاقتراب من مدينة البصرة وعند تقاطع طريق محمد القاسم مع طريق المطار أوقفتهم دورية عسكرية وكانت تقف ليس بالبعيد عنها دبابة أرامز وثلاثة عجلات مدرعة.
ــ إلى أين ذاهبون..
ــ إلى البصرة عزيزي أبو خليل الورد.
ــ يمعودين أرجعوا أحسن ألكم تره ممنوع، الوضع خطر جدًا، أهناك معركة تدور بين عشيرتين ويستعملون بيها كل الأسلحة وجميع الطرق إلى البصرة مقطوعة.
ــ هسه تفض حتمًا. الخيرين هوايه وهسه يحلوه.
ــ يا خيرين يا ميرين. صار من أول البارحة العصر وليهسه والهاونات ركع.
ــ لا بربك هاونات؟
ــ جا بويه ما تسمع الهبد صوته يوصل لهنا.
استيقظ عبيس من غفوته وسأل عن الذي يحدث وكان ماركس يحاول بدوره الإنصات ومعرفة ما يدور من حديث بين العسكري والرفيق جبار.
ــ ها رفيق جبار شنو ما شنو.. خوب ما صاير انقلاب لو تمرد .
ــ أشو رفيق ما تسكت خل نفتهم زين.. أي أبو خليل والحرب هذي شنو سببه .
ــ والله خالي يكولون خروف طاب بمزرعة عشيرة ألبو حميره وجهال العشيره لازمينه وذابحينه وصار ما صار. وهاي من أول البارحة ولحد اليوم تتفاوض الناس.. بس القتال ما وكف.
ــ أي هذوله مو تعاركو العام على تلث نخلات.. شنو بس يردولهم حجة حته يتقاتلون.. يبين عدهم وفرة بالسلاح.
ــ لوين وصل طيحان الحظ بهذي الناس. لو أبن صبحه المشعول بعده عايش جان عرفو شلون يتكاتلون.. جان هجم بيوتهم على روسهم وخلاهم يبوسون أديناته ويركضون حتى يقبل منهم يتنازلون عن حقهم.
قال ذلك الرفيق عبيّس وهز رأسه الرفيق جبار موافقًا على ما تحدث به. ثم توجه الرفيق جبار إلى الرفيق ماركس شارحًا له الوضع والحادث الذي يعترض ذهابهم إلى البصرة، وعليهم أن يغيروا خط سيرهم والاتجاه إلى مدينة العمارة بدلاً من العودة إلى الناصرية.
ــ هذا هو حال العراق عزيزنا الرفيق كارل ماركس فما نحن فاعلون.
هكذا قال الرفيق جبار بتذمر وضجر ظاهرين
ــ دائما حين تهزل السلطة وتضعف مؤسسات الدولة وتزول الملاحقات القانونية تتفجر مختلف النوازع الجرمية العدوانية وتطفح نحو السطح مختلف أشكال العنف والاعتداءات وخرق القانون دون مراعاة لأي حقوق للإنسان، وحقه الطبيعي بالسلامة الشخصية والعيش الآمن. يحضرني الكاتب فراز فانون (2) حين ذكر في كتابه معذبو الأرض، أن البشر الذين خضعوا للغة القسوة ولزمن طويل، لا يمكن لهم أن يفهموا غير لغة القسوة، ولذا عندما يريدون أن يحزموا أمورهم تراهم يعبرون عن أنفسهم بلغة القسوة، وهذا ما يفعله هؤلاء اليوم. وهذه الظواهر المتخلفة في بلدكم اليوم هي نتاج القسوة التي مورست على الناس في مختلف الأزمنة، تبدو اليوم مستعصية، ولكن يجب أن تقاوم ويكون هناك نضال شرس ضدها والعلاج يجب أن يكون شموليًا ولا يقتصر عليها بل يشمل جميع المفاسد والعاهات الاجتماعية.
قال ماركس ذلك وهو ينظر بتوجس نحو الجنود الذين تجمعوا جوار الآليات العسكرية الواقفة عند تقاطع الشوارع الذاهبة إلى البصرة لمنع الناس من الدخول إلى منطقة النزاع العشائري.
ــ هاي هم قسمة مو زينة، مثل ما يقول السيد فافون.. مراح نحصل شي.. بس هم بيه صالح، أذا تروحون للعمارة أروح وياكم، أبقالي يومين يم عمامي.. رفيق جبار راح نروح للعمارة مو هيجي؟
تساءل الرفيق عبس.
ــ خوش تعال ويانه نذبك هناك وبعدين نقرر شنو نسوي. أحنه هم عدنه جم رفيق بالعمارة يمكن أنشوفهم.
استدارت السيارة وأخذت الطريق الضيق الذاهب شمالاً نحو قضاء المدينة حيث يرتبط في النهاية بالطريق العام المؤدي إلى مدينة العمارة.
ــ شوف رفيق شلون سوه بينا الاحتلال وين جانت كل هذه المعارك والخصومات.
قالها الرفيق جبار بحسرة وكان ينظر في المرآة الأمامية ليطالع الرفيق عبيّس الذي بادله النظرة وهز رأسه موافقًا على ما قاله.
ــ ولكن رفاقي، لا يمكن أن يعزى كل خلل وخطأ وفعل مؤذ للاحتلال، لابد من الابتعاد عن هذه الصورة المفرطة بالتبسيط ورمي كومة الخيبات والجرائم على مفردة واحدة، فمثل هذا الذي يحدث لا علاقة له بمحتل بقدر ما يتعلق بطبيعة ونمط التفكير الذاتي السيئ، وهذه الممارسات والنوازع الجرمية لها أسبابها الذاتية المجتمعية وعلاجها يتطلب جهدًا استثنائيًا على المدى البعيد .
كان لقول ماركس هذا صدى غير حسن عند الرفيق جبار الذي زم شفتيه بتذمر بائن .
ــ ولكن رفيقنا العزيز لم يكن ليحدث هذا قبل أن تدخل قوات الاحتلال الأمريكي .
ــ نعم لقد فكك المحتل مؤسسات الدولة وبالذات منها المؤسسة العسكرية بمختلف صنوفها، أي هشم المحتل أجهزة القمع السلطوية ولم تتكون بعد قوة بديلة تحل محلها. ونشأ نموذج جديد من تشكيلات اجتماعية سياسية برزت في هياكلها وتشكيلاتها أنماط مستحدثة لسلطات وليس سلطة واحدة، ومافيات استغلت هذا الفراغ لتبني عروشها وهذا ما ينخر جسد الدولة العراقية اليوم ويطعن في وجودها وهويتها الفعلية..
ــ أيباه رفيق جنك بقلبي.. والله قبل سنتين جنت أكول للرفاق مثل هذا الحجي بس ميصدكوني.. يكولون عبيّس يقره جرايد ويكَوم يثرم براسنه بصل.
ــ أنته كلشي وجنك تعرفه.. عبيّس بطل سوالف هاي مو علينه تره حتى ثلج كَلينه .
ــ جاهيه حزوره رفيق.. هاي السوادين الصابت كل هذي الناس.. شنو جانت، أبره لو كبسوله أنطاهه إلهم الأمريكان.
ــ خوش رفيق عبيّس.. مو تنسه من ترجع عود خبر رفاقنا بلي صار .
ــ ليش ما تخابر إنته هسه أبو نداء وتشرحله، وهم بالمناسبة يخبر أمي يكله آنه راح أبات بالعمارة عد عمامي.
ــ أي مو عندك تلفون ما تخابر إنته.
ــ رفيق جبار والحمزة ما عندي بي رصيد .
ــ عبيس.. يوميه تشلع من جيوب الناس الآلاف وهسه تبجي وتكول ما عندي رصيد. أشو أطيني تلفونك.
ــ رفيق كون على ثقة.. ليش متصدكدني .
ــ أصدكك رفيق.. ما بيه شي أنطيني التلفون .
ــ ما جذب عليك.. والخوه الرصيد مصفر.
ــ والله أكبر جذاب وسختجي.
ــ رفيق جبار شني السالفة.. تشاقه لو صدك تحجي؟!
ــ لا ما أشاقه.. آنه أعرفك لعبي وسختجي.
ــ هسه تريدني كدام الأجانب أفضحك فضيحة.. آنه السختجي لو أنته.. كافي عاد!
ــ عبيس تره إتجاوزت حدودك.
ــ رفيق جبار انته البديته واعتديت عليه .
ــ شوف عبيس لوما رفيق ماركس ويانه جان راويتك انته منو ..
ــ أيباه.. مو أطلع الخياس مالتك كله ..
ــ يا خياس ولك؟
ــ لا تكول ولك.. أبن الركاع .
ــ لا يا نغل ابن الحفافة.
ــ حفافة مو حفافة أشرف من النهيبة.. مو رفيق جبار.
ــ ولك أنته صدك مو آدمي وما بيك حظ.
فجاة ضغط الرفيق جبار على كابح السيارة وأوقفها في منتصف الطريق ثم جعلها تميل نحو الحافة الترابية للطريق وطلب من عبيّس النزول من السيارة. كانت حالة غضب وانفعال شديدين يسيطران على كليهما ولم يجد الرفيق ماركس ما يفعله معهما. فهو لم يكن ليعرف شيئًا عما دار بينهما بقدر ملاحظته لسورة الغضب التي انتابتهما، إما أسبابها فكانت بعيدة عن فهمه، فحوارهما باللغة الدارجة والسرعة بالكلام كانت تمنع عنه معرفة الأسباب.
فتح عبيس باب السيارة وترجل منها ونظرات الغضب كالشرار تتطاير من عينيه.
ــ شوف جبار أبن الركاع .. خلي ابالك بعد ما ألك طبه للناصرية. والخاطر الرفيق ماركس الكاعد يمك راح اعوفك هسه. رفيق ماركس تره جبار أكبر لعبي وحرامي.
ــ يله سد الباب أو ولي.. صرخ الرفيق جبار بقوة وضغط على كفة الوقود لترتفع السيارة عن حافة الطريق وتسير بأقصى سرعتها تاركًا الرفيق عبيّس وحيدًا في طريق شبه مهجور تغطيه عاصفة ترابية خلفتها عجلات السيارة.
ــ ما الذي فعلته رفيق جبار أوقف السيارة فلا يمكن تركه في هذا المكان، على أقل احتمال، عليك مسؤولية إيصاله إلى مدينة قريبة.. ربما يتعرض إلى خطر الحيوانات أو شيئ آخر.
بادر الرفيق ماركس بصوت غاضب متهدج بالحديث وكان قد استدار برأسه نحو الخلف ناظر نحو الرفيق عبيّس الذي بدأت صورته تبتعد كثيرًا عن الرؤية.
ــ أتركه أنه لا يستحق أن تهتم به فهو فوضوي وصبياني وخبيث ولن تجد فيه نفعًا.
ــ ولكن لا يمكن أن نتركه لوحده في طريق مهجور.
ــ الطريق ليس مهجورًا وسوف يجد من يقله معه.. رفيق لا تهتم بمثل هذا فهو حثالة كذاب ومنافق لا بل تافه.
صمت الرفيق ماركس مع هذا العناد الذي أبداه الرفيق جبار. ولم يكن ليستطيع استيعاب انهيار تلك العلاقة الحميمة بتلك العجالة. ربما أن لهذا الموقف سوابق أو كوامن طفحت فجأة لتتحول إلى شر وسوء وإثم كبير اقترفه الرفيق جبار وحتى لو كانت للرفيق عبيّس يد فيه. استنكر ماركس مع نفسه ردود الفعل المفرطة في شدتها التي مارسها الرفيق جبار وجاءت بما لا يتناسب حسب ظنه مع ما أقترفه عبيّس من مخاشنة، وشعر لحظتها بتعاطف مع شخصية عبيّس، هذا البرولتاري الرث الذي يمسك الدنيا من تلابيبها بقوة ويلوي ذراعها ويدجنها بنكاته ومرحه وروح الجماعة التي تتلبسها شخصيته، إنه لا يستحق ما فعله به الرفيق جبار.. والرفيق جبار بتصرفه هذا يدل على امتلاكه طيش منفلت وروح عدوانية. فالخلاف اللفظي لا يستحق منه مثل هذا الانفجار العنفي، ومع من، مع رفيق مقرب منه. ومن الجائز أن هذا الموقف غير المنطقي والملتبس سوف يعتمل في نفس عبيّس فيجعله يرتد ويبتعد عن رفاقه وحزبه.
ــ رفيق أني لا أجد في فعلتك شيئًا من الحكمة.
ــ اترك الأمر.. فأنا لا أرغب في الحديث عنه.
ــ أعتقد أن عليك مراجعة نفسك والعودة إلى حيث تركنا الرفيق عبيّس.
ــ أعود لجلب عبيس!؟.. أعوذ بالله، هذا مستحيل.. لقد خرق جميع الأعراف الحزبية والاجتماعية.. شتمني وحاول الحط من قيمة عائلتي.. لقد تصرف بحقد وعدوانية.
ــ كان من الممكن حسم الأمر بالسكوت عن حديثه وعدم الحوار معه وتأجيل ذلك لوقت أخر، وأنت المسؤول الحزبي، ومن ثم، وهذا هو العقلاني في الآمر، إيصاله إلى أقرب مدينة من هنا، وليس تركه في منطقة نائية.
ــ رفيق ماركس أنت لا تعرف ما الذي حدث، وبحدود فهمك الماركسي وليس الحزبي، وبسبب عدم ارتباطك بتنظيم حزبي، لا تعلم كيف استغل عبيس الوضع وخرق التعاليم والتراتيبية الحزبية. أرجوك رفيق ماركس لا تتحدث بما ليس لك معرفة فيه.
لم يرغب الرفيق ماركس باستمرار هذا النقاش حول سلوك الرفيق جبار الجانح، وما عادت لديه بعد ما سمع جملة الرفيق جبار الأخيرة، الرغبة في استمرار الجدل حول هذا التصرف الذي عده غير سويًا، فقرر الصمت وترك الرفيق جبار لتوتره وعدوانيته، فهو الآن في حالة تعبئة نفسية استعدادًا للمواجهة أو الصراع، وربما أنفجر الموقف بينهما ومن ثم يصعب بعدها ضبطه وتهدئته.
ــ رفيق جبار بعد الذي حدث أرى من المناسب العودة مباشرة إلى بغداد.
ــ نعم رفيق ماركس، ولكن سوف نتوقف قليلا لتناول الغداء في مدينة العمارة.
ــ لا أعتقد أننا بحاجة للغداء ونستطيع الذهاب فورًا إلى بغداد دون حاجة للتوقف.
ــ حسنا رفيق.. مثلما تحب وهناك أمامنا أيضًا مدينة الكوت ثم الحلة ويمكننا تناول الطعام في أحداهن إن شعرنا بالجوع.
ــ لا.. لا أرغب في تناول الطعام لنذهب مباشرة إلى بغداد.
ــ مثلما تحب رفيق..
حاول الرفيق ماركس بكل ما استطاع من قوة روحية أن يدع جسده يسترخي وأيضًا أن يبعد عن ذهنه تلك المشاجرة وصورة الرفيق عبيّس وهو يقف في الطريق الموحش البعيد. طال عليه التفكير فأحس بالتعب والعطش ولكنه وفي قرارة نفسه قد صمم أن لا يتناول شيئا لحين الوصول إلى بغداد، وهناك سوف يكون له حديث مع الرفيق جبار، ثم بعدها يجمع أغراضه ويعد حقائبه اختصارًا للسفرة واستعدادًا للعودة إلى لندن. فضيق الأفق والعجالة والعصبية يبدو أنها وضع مأزقي يعيشه الرفيق جبار، وهو لا يود الاستمرار معه لكي يضمن عدم الاصطدام به، فربما وبعد وقت قصير سوف يعامله ذات المعاملة التي عامل بها رفيقه عبيس. في حواره الداخلي الذي استمر طويلاً كان الضيق وشيء من الهم يسيطران على روحه، خلال ذلك تسرب النعاس إلى عينيه فراح في إغفاءة عميقة.
ــ رفيق ماركس.. نعيمًا.. لقد نمت طويلاً.
ــ شكرا رفيقي.. أين نحن ؟
ـــ رفيق لقد اقتربنا من بغداد.. أنا أشعر بالجوع.. هل لديك رغبة بالطعام.. هناك مطعم جيد عند مدخل مدينة الصويرة نستطيع تناول الطعام فيه.
ــ ومتى نصل بغداد؟
ــ ساعة أو أقل.. ليست بعيدة من هنا.
ــ ولماذا لا نذهب مباشرة إلى بغداد إذا كنا ليس ببعيدين منها. أفضل تناول الطعام في بغداد.
ــ مثلما ترغب.. اعتقدت بأنك تشعر بالجوع مثلما أنا عليه .
ــ لا أشعر بالجوع.. يمكنك تناول الطعام حينما تشاء واتركني جالسًا في السيارة.. فأنا أستطيع الانتظار.
ــ لا لن يكون هذا يا رفيقي.. لنذهب إلى بغداد مثلما ترغب.
البساتين تبدو متراصة ومتداخلة بكثافة نخيلها الممتد على جانبي الطريق. بقرة عجفاء تجتاز الطريق بتثاقل أجبرت الرفيق جبار على تخفيف سرعة السيارة. عربة خشبية يجرها حصان متهالك وقفت جانبًا لوح سائقها بيده في الوقت الذي كان يتكلم بهاتفه النقال. كان الرفيق جبار مثلما عادته حين يشعر بالتوتر يعبث بمفتاح جهاز المذياع ولا يستقر عند محطة بعينها وكان ذلك مبعث ضجر للرفيق كارل ماركس. عند انحناءة الطريق وفي أرض مكشوفة وقفت دورية عسكرية طلبت منهم التوقف. فتوقف الرفيق جبار وسلم عليهم. كانوا خمسة أشخاص أحاطوا بالسيارة شاهرين أسلحتهم الرشاشة. أقترب أحدهم ووجه كلامه بحدة إلى الرفيق جبار، وكان أخر قد جاء من جهة الرفيق كارل ماركس وفتح عنوة باب السيارة صارخا به أن يترجل من السيارة.
ــ بسرعة يله أنزلو من السيارة.. بسرعة .
ــ شنو.. شنو الصار.. يمعودين.. هاي شكو.. قال الرفيق جبار
ــ انزل لك أثول مخربط.. أنزل .
ــ لتغلط.. أي ليش تغلط..
فجأة بادره العسكري القريب منه بضربة قوية على وجهه ووضع فوهة الرشاش على صدغه صارخًا فيه أن يترجل وينبطح أرضًا دون كلام ففعل الرفيق جبار مثلما أمر به. أمر العسكري الأخر الرفيق ماركس بالانبطاح على الأرض فرفض، فبادره العسكري بضربة قوية من أخمس بندقيته على ظهره جعلت ماركس يترنح ثم يقع أرضًا وشعر بألم شديد يجتاح جسده من أعلى حتى قدميه وزاغ بصره وشعر بشيء من الغثيان. لم يكن يدري ما يفعل، وتساءل مع نفسه لمَّ يتعامل معهم هؤلاء الجنود بهذا الشكل الفظ. راح العسكريون يعبثون في الصندوق الداخلي للسيارة ثم سحب أحدهم محفظة الرفيق جبار وراح يفتش فيها. عثر على هوية ديوان رئاسة الجمهورية. فصاح بأعلى صوته مناديًا على أحدهم الذي وقف بعيدًا يراقب الوضع.
ــ عمي أبو بشير.. حجي تعال هنا.. محصول دسم.. سيارة وفلوس وعريس بس بقت العروس .
ــ يله لتطولوها.. لتسولنا مشاكل.. صعدوهم بالسيارة وجيبوهم.. خلونه نمشي بسرعة، قبل ما تجي الدوريات.
فرات المحسن
f_almohsen@hotmail.com
(1) ـ الشك الديكارتي منهج للتوصل إلى اليقين، وهي فلسفة أبتدعها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وسميت باسمه.
(2) فرانز فانون طبيب نفسي وفيلسوف من مواليد جزر المارتينيك الفرنسية .أنظم كطبيب إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية وتوفى عن عمر 36 عام بمرض السرطان في 6 ديسمبر 1961


143
حوارية جديدة لمنتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم
تعقد الحوارية يوم 28 / 11 / 2015 في الساعة الرابعة عصرا وعلى قاعة  ليروسالن     Lärosalen  في المكتبة المركزية في شيستا ( الكالري الرئيسي )


في حواريتنا  التي جرت وقائعها يوم السبت الموافق 24 / 10 / 2015   على أحدى قاعات المكتبة المركزية لمنطقة شيستا في العاصمة ستوكهولم، كان جميع أعزاؤنا من الحضور ومنهم أعزتنا الدكتور عقيل الناصري والدكتور رياض البلداوي،  قد تناولوا بتفاصيل كثيرة وواقعية، العديد من أسباب ومسببات ضعف وتشرذم الهوية الوطنية العراقية الجامعة. بل أشرت الكثير من التشخيصات التي بينها المشاركون  في الحوارية، طبيعة الصراع الظاهر والمستتر  بين شرائح وطوائف وأعراق تعيش في الوطن العراقي الواحد، ولكنها دائما ما تتبنى بشكل وأخر نزعات تمرد ونفرة بالضد من الوطنية العراقية مثلما بالضد من شركائها في الوطن. وهناك تغذية لأحقاد دائما ما كانت وسوف تكون المسبب للانقسام المجتمعي، وسعيا جادا لتشتيت الجهود الذاهبة لتوطيد الوحدة الوطنية، لوطن يستوعب الجميع دون تمييز.
أشارت جميع المداخلات في الحوارية السابقة، للظروف الذاتية والموضوعية، للعوامل الداخلية والخارجية، للطبيعة الجغرافية والتاريخية، للعوامل النفسية والثقافية، كمسببات للشروخ الواسعة التي سببت بدء الصراع واستشراءه وليكون في الوقت الراهن وعند البعض تنكرا مجحفا للانتماء الوطني التاريخي والاجتماعي، وللقيم والعيش المشترك، ورضوخ سوداوي بقناعة انعدام الجامع، وإن الوطن يدخل مرحلة الاحتضار ولن ينقذه غير التقسيم.
لا يخفى على المرء بأن جميع شعوب الأرض ومختلف المجتمعات تبرز وسطها انقسامات داخلية، وهذا الآمر يبدو في المدونات التاريخية للبشرية شيئا طبيعيا. فالسكان دائما ما ينقسمون إلى جماعات وطوائف مختلفة الانتماءات الدينية والعرقية، وهذه المكونات تتصارع فيما بينها وتظهر وسطها نعرات مؤذية، وهذا التباين والتضاد يظل كامنا أو ينفجر في لحظة ما. وهنا يحضرنا السؤال المهم، ليس فقط لغرض الإلحاح في البحث عن المسببات ومن يغذي هذه النعرات المضرة، وإنما المهم والملح أيضا، البحث عن من يلجم تلك الصراعات ويمنع الأحقاد.
 السؤال : كيف نجسر الخلاف ؟ كيف نقمع النعرات العدوانية؟ . ما القدرة المتوفرة لتوظيف التمايزات الثقافية  لصالح الاندماج المجتمعي. ومن ثم، ما هي قدرة أبناء العراق على صناعة الهوية الوطنية العراقية الموحدة ؟ أو الأحرى، وبعد هذا الخراب العام الذي أصاب العراق كوطن وشعب، كيف وبأي أسلوب وطرق نستطيع إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية ؟ وهل يأتي هذا ضمن مشروع بناء الدولة المدنية، دولة القانون الضامنة للديمقراطية وللحريات المدنية التي ينادي بها البعض من شرائح المجتمع.
وهناك من يرى أن الفيدرالية أو الكونفيدرالية هي الحل الأنجع لحسم الخلافات والصراعات. في الوقت الذي يجد آخرون إن التقسيم على وفق الطائفة والقومية ممكن أن يحسم الكثير من الخلافات ويعطي للجميع حقوقه.
 أم ترانا كما يدعي البعض الأخر، شعب يعاني من فقر ثقافي بائن ،وكان ومازال منقسما اجتماعيا وطائفيا وقوميا، ويتواطأ رجال السياسة المحليون فيه على إبقاء وفرض هذا الحال لتثبيت وتسيير مصالحهم،، ويترافق ذلك بنهب منظم لثرواتنا، والتفنن في أساليب ثلم الحريات المدنية. لذا نحن بحاجة لحكومة مركزية قوية عادلة، تحمي الوطن من التهديد والتدخل الخارجي وتفرض سيطرتها، وتستبدل مشاعر العجز والإحباط والقهر المستشرية بين أوساط الناس كإرث من الماضي، بمشاعر الثقة بالنفس والقوة والوجود المشترك والهوية الموحدة.
 
 من كل هذا وغيره تتولد القناعة بضرورة البحث في القواعد والمسلمات التي من الموجب أن تبنى عليها أية هوية ثقافية اجتماعية وطنية.
لذا فكرنا أن يصاغ  للحوارية القادمة التي سوف تعقد يوم 28 / 11 / 2015 في الساعة الرابعة عصرا وعلى قاعة  ليروسالن     Lärosalen  في المكتبة المركزية في شيستا سؤالا محددا : ما هي قدرة الإنسان العراقي على صياغة أو إعادة بناء هويته الوطنية الموحدة ؟ الكيفية، القدرات ، الدوافع ، الغايات.على أن تؤخذ وقائع الوقت الراهن الذي يمر فيه العراق، كمسبب لاستشراء الإمراض السياسية والمجتمعية التي طعنت وتطعن بالهوية الوطنية وتدفع لاضمحلالها. وليس في ذكر هذا ما يجعلنا بالضرورة نرغب مرة أخرى تكرار استعراض الأسباب التي أدت لتشتت وتشرذم الهوية الوطنية . مع التأكيد على ضرورة أن تكون الحوارية القادمة حول هذه الموضوعة ليست بما عرف عن النمطية التي تدار بها المحاضرات ، فسوف يكون لكل من الحاضرين الحق في أن يقدم تصوره مكتوبا ويقدمه للنقاش ولا يوجد محاضر بذاته، بقدر ما يتحدد لكل متحدث فترة زمنية يتفق عليها، يخوض الجميع فيها غمار الإجابة على صلب السؤال، ليقدم تصوره واستنتاجاته لهوية عراقية ممكن تشكيلها في دولة يعاد بنائها من جديد بعد أن عمل المحتل الأمريكي على تفكيكها وجارته في هذا بعض التكوينات العرقية والطائفية العراقية.

تعقد الحوارية يوم 28 / 11 / 2015 في الساعة الرابعة عصرا وعلى قاعة  ليروسالن     Lärosalen  في المكتبة المركزية في شيستا ( الكالري الرئيسي )

منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم


144
تقرير عن الحوارية حول صراع الهويات في العراق

ضمن برنامج منتدى الحوار الثقافي في ستوكهولم عقدت على إحدى قاعات مكتبة شيستا المركزية في العاصمة السويدية يوم السبت  الموافق  24 / 10 / 2015 وفي الساعة الرابعة عصرا، ندوة حوارية حضرها نخبة طيبة من المثقفين والمهتمين بالشأن العراقي . أدار الحوارية بجدارة السيدة وفاء فرج حيث تطرقت في البداية لفحوى الحوارية التي يسعى المنتدى أن يستعرض مع الحضور  بعض اشكالياتها . ومن ثم استعرضت السيرة المهنية والأكاديمية لكل من الدكتور رياض البلداوي أستاذ وباحث في مجال الطب النفسي والمجتمعي وأيضا الباحث في التاريخ العراقي المعاصر الدكتور عقيل الناصري.
بعد ذلك أعطت السيدة وفاء الحديث للدكتور عقيل الناصري ليستعرض إشكالية الهوية الوطنية العراقية بناء على معطيات ووقائع تاريخ الصراع السياسي في العراق الحديث، مركزا في حديثه على التناحر والتقاطع بين كتل وشرائح مجتمعية مثلت تضاد أو نفرة بين عروبية العراق أم عراقويته ليكون ذلك الصراع محاولات لبناء هوية للعراق الحديث. ثم أعقبه في الحديث الدكتور رياض البلداوي الذي استعرض بعض مسببات الخلاف والصراع في الهوية العراقية معللا البعض من ذلك للتطاحن الذي ولدته طبيعة التشكيلات الاجتماعية العراقية ذاتها، وشرح فكرته في هذا الأمر، مستندا على خصوصية صراع البداوة والحضارة وتأثير مد الهجرات الوافدة على التركيبة السكانية، ومن ثم الآثار التي ترتبت جراء الغزو الثقافي للثقافة الفارسية والتركية وأيضا البدوية. وأرفق في الأسفل خلاصة  لما استعرضاه في هذا الشأن. وبعد استراحة قصيرة عاد الجميع لمناقشة ما تحدث فيه وحوله كلا الدكتورين.
أشارت مداخلات الحضور لإدراك عميق لموضوعة صراع الهويات في العراق، أن كان ذلك يتعلق بالتسلسل التاريخي  لحوادث الصراع ، أو تنازع الأضداد سياسيا واقتصاديا أو اجتماعيا. فقد أشار البعض لتغافل كلا الدكتورين، التطرق لدور ثورة العشرين وأيضا الأحزاب السياسية في تشكيل الهوية الوطنية، ومن ثم إهمال البحث فيما أضفته الحربين العالميتين وكذلك دخول وسائل الإنتاج وأضافتها خصوصيات جديدة على تركيبة بعض شرائح المجتمع العراقي وعموم الآمة العراقية. وأشار البعض لوجود نقص فيما استعرضه كلا الدكتورين فهما قدما لمحات تاريخية، ولم يجيبا عن السؤال المهم المتعلق أصلا بوجود الهوية العراقية من عدمه . فتأسيس الدولة العراقية كان ومنذ البداية خاطئاً ومازالت تعتوره تلك الطبيعة المغلوطة، لذا يمكن القول بأن لا وجود لهوية وطنية عراقية موحدة، وليس هناك ظهور بائن لدولة مؤسسات،أيضا من الصعوبة حل الخلافات على الحدود الجغرافية المتنازع عليها.ومن الضروري البحث في القواعد والمسلمات التي من الموجب أن تتأسس عليها أية هوية ثقافية ومن المهم أن لا نتغافل عن وجود صراعات بين مكونات الشعب العراقي ولذا نرى هذا الصراع طال وبشكل تدميري شرائح مجتمعية باتت بحكم الاندثار والاختفاء من الوسط العراقي من مثل المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم. ويفتقر العراق عكس لبنان لوجود هوية ثقافية واضحة الملامح ومكينة، رغم إن لبنان يتشابه مع العراق في سمات كثيرة اجتماعية كانت أم سياسية أو طائفية وحتى أثنية. وتطرق البعض لهجرة العراقي وتأثير ذلك على تركيبته النفسية، وأيضا وضعه الاجتماعي، فهو يخرج من محيطه الذي تكون بهوية محددة ترتبط بمنطقة ذاتها ودين ومجتمع وتقاليد وعادات وسلوك عام، ليدخل في خضم مجتمع جديد يختلف كليا عن السابق، حينها يفقد هويته الوطنية ويصبح تحت واجهة ألا هوية. فنحن من جيل رخو الهوية وأبناؤنا يفتقدون الرابط الوطني ولا علاقة لهم بالهوية العراقية. وجاء حديث أخر يؤشر لعمق أزمة الهوية الوطنية العراقية، حيث يفتقد العراق للسلطة المركزية ذات السطوة والقوة والقدرة على السيطرة لمسك الأرض والحدود وفرض الأمن الذي يشكل واحدا من أهم أعمدة تركيبة الدولة واستقرارها ووحدة أرضها وهوية شعبها الجامعة. وتساءل هل إن ضعف السلطة في الوقت الراهن أضاع على العراقي هويته الوطنية؟
 وكان هناك حديث أشار لقصور في عرض الأسباب التي استعرضها الدكتور البلداوي، حيث وضع أثناء العرض فواصل بين البداوة وأهل الريف، في الوقت الذي يخبرنا التاريخ الحديث أن سكان الريف هم امتداد طبيعي للهجرات البدوية التي قدمت إلى العراق، حيث بدا الاستيطان ثم الزراعة والاستقرار وشكلت تركيبات وملامح المجتمع الريفي. وأيضا تطرق المتحدث مشيرا إلى كون ثورة العشرين لم تكن ذات سمات عراقوية مثلما وسمها الدكتور الناصري فهي ثورة غلب عليها الطابع الديني . وأيضا لم يتطرق الباحثان لموضوعة الصراع الديني الذي حمل دائما ما هو ثالم وسالب وطاعن في محاولات تشكيل الهوية الوطنية. وكان هناك للبعض طعن في وجود تاريخ حقيقي للعراق كوطن، ولذا لن تكون هناك هوية وطنية أو ثقافية، وتساءل عن المكون الذي كان دائما ضحية للسلطة التي شكلها الاستعمار. وذهب آخرون في تلمس ملامح الخلاف في الهوية الثقافية العراقية، عبر تناول الموسيقى والغناء مشيرا لعدم وجود وحدة متكاملة لهوية موسيقية ممكن أن يطلق عليها بالعراقية الجامعة الخالصة، فلكل مدينة عراقية طابعها الغنائي والموسيقي المميز، ولذا فهناك هويات ثقافية موسيقية متعددة، ولكن الحال أنها تجتمع في تشكيلة الوطن العراقي لتكون خصوصية لطابع الأغنية العراقية. وتطرق أخر لنزوع عدواني لدى بعض التشكيلات القومية أو الطائفية لسحق أو إذابة أحدها للأخر، واستعرض مذكرا بصراع الحضارات والدول على أرض العراق، واستمرار ذلك إلى الوقت الراهن، وكل ذلك صب ويصب في مشاريع تفكيك تشكيل الهوية الوطنية. ولكن وفي الحديث عن محاولات التأسيس ومن خلال التتبع التاريخي، نرى أن بناء الهوية في العراق لم يأخذ دوره الفعلي، ولذا لم يحدث فعل تراكمي تستقر بعده تلك الهوية.وتمت الإشارة لضرورة البدء بتعريف الهوية الوطنية قبل كل هذا الحديث، وما هي المشتركات في الهوية ، هل هي المكان، الاقتصاد، المواطنة ، العادات والتقاليد والموروث وغير ذلك، وعند هذا أشير أيضا وبرغم سمات الاختلاف والتنازع الظاهر في الهويات المجتمعية، فكل ذلك يقع ضمن هوية واحدة هي الهوية الوطنية العراقية، وهذا ينسحب على وحدة الهوية الثقافية .وأشار آخرون لمحاولات جادة تبذل من قبل جيران العراق والمحتل وغيرهم لطمس الهوية العراقية وتشتيت لحمة أبناءه، كذلك لا تخلوا مشاريع البعض من حكام وسياسيي العراق من مثل هذه الغاية.
وقدم للحضور مقترح حول تبني دعوة إلى تسامي الإنسان العراقي وترفعه فوق الطائفة والقومية ومختلف التشكيلات التي تسبب الصراعات وأن يبدأ السعي الجاد من قبل الجماعات والأفراد بترديد  شعار ( أنا عراقي وأفتخر ) ليكون لازمة وطنية راكدة في ضمير الإنسان. لنساهم ومن خلال هذه الدعوة  لبناء الإنسان العراقي في الداخل والخارج وفق منظورين الأول الإنسان المثالي : وهو ما يتطلبه الضمير الفردي، وما تؤكده الأديان والأعراف والتقاليد، أما الثاني وهو الإنسان الآلي: حيث تقع عليه مسؤولية تؤكد حقيقة وعيه بسلوكه العام وانتمائه الوطني حين يحترم وينفذ القوانين الوضعية ويضع الالتزام بها في سلم أولوياته. وفي مجرى النقاش أشار البعض لأسباب شكلت دائما عوائق مهمة في عدم وضوح بل تهشيم وحدة الهوية الوطنية العراقية، بدأ من سعة وتشظي التشكيلات المجتمعية التي تنحوا دائما لإثبات هويتها الثقافية والاجتماعية دون الاهتمام بوحدة الوطن والهوية الوطنية الشاملة الحاوية له. وأيضا اختفاء مشروع السوق الاقتصادية العراقية الموحدة، حيث لم يتبلور بشكل ناضج هذا النموذج الذي يشكل أهم عصب وقاعدة مكينة للروابط المجتمعية ووحدة هوية الشعب الوطنية. كذلك ما تعرضت له الطبقة الوسطى العراقية من تهميش وطعون وخسائر على يد السلطات الحاكمة ولعدة مرات. تلك الطبقة التي تعد الرافعة الأساسية في بناء الدولة المدنية الحديثة والداعية والمؤسسة لوحدة الهوية الوطنية.
أعطي الوقت للدكتورين الباحثين للرد والتعقيب على بعض الأسئلة وما أثير من خلاف حول بعض المعلومات التي وردت في المعلومات التي قدماها. ومع وأثناء تلك الردود تجدد وأثير التساؤل عن ما توصلت له الحوارية من نتائج. حيث بين البعض بأنه كان يترقب أو يود أن يجد حلول لهذه الإشكاليات العميقة حول اختلاف الهويات أو صراعها، وكان من المفترض التطرق لكيفية العمل على جسر الخلافات التي نجدها اليوم، ونراها وقد رحلت إلى خارج العراق، لتكون واحدة من المشاكل المسيئة والمؤذية التي تواجهها أيضا الجاليات العراقية في بلدان الشتات. عند ذلك بادر الجميع لوضع تصور عن حوارية قادمة لا تتعلق فقط باستعراض سبب ضعف وتشظي الهوية الوطنية العراقية، وإنما يصاغ للحوارية القادمة سؤال محدد: ما هي قدرة الإنسان العراقي على صناعة وتشكيل هويته الوطنية الموحدة ؟ الكيفية، القدرات ، الدوافع ، الغايات ، طبيعة التشكيلة .وأن يؤخذ وقائع الوقت الراهن الذي يمر فيه العراق، كمسبب لاستشراء الإمراض السياسية والمجتمعية التي طعنت وتطعن في الهوية الوطنية وتدفع لاضمحلالها. مع ضرورة أن تكون الحوارية القادمة حول هذه الموضوعة غير نمطية، فلكل من الحاضرين الحق في أن يقدم تصوره مكتوبا ويقدمه للنقاش ولا يوجد محاضر بذاته، بقدر ما يتحدد لكل متحدث فترة زمنية يتفق عليها، يخوض الجميع فيها غمار الإجابة على صلب السؤال، ليقدم تصوره واستنتاجاته لهوية عراقية ممكن تشكيلها في دولة يعاد بنائها من جديد بعد أن عمل المحتل الأمريكي على تفكيكها وجاراه بعض التكوينات العراقية والطائفية العراقية وكذلك سبق ذلك العديد من الأسباب التي استعرض بعضها وليس جميعها المشاركون.   
قدم الشكر والامتنان ومن ثم الورود إلى الدكتورين رياض البلداوي وعقيل الناصري والسيدة وفاء فرج لأدارتها الناجحة للحوارية.
ملخص لما طرح من قبل الدكتور عقيل الناصري والدكتور رياض البلداوي

من تاريخية صراع الهوية في العراق

ملخص لمشاركة الدكتور عقيل الناصري
 منذ الحضارات الأولى وانتكاساتها وإلى الغزوات الخارجية وبخاصة منذ سقوط بغداد في 1258، دخل العراق في الحلقة المفرغة للتخلف، وتشتت قواه الاجتماعية وهدمت القاعدة المادية التحتية.. وتكاثرت النكبات الطبيعية والاجتماعية والحروب الداخلية والخارجية، مما عمق المشاكل الاجتصادية وتراجعت المؤسسات الاجتماعية وساد الجهل والتخلف وتوقفت بغداد عن عملية الإبداع المعرفي وتوقف العقل العراقي عن الجدل والسجال للمسائل الفلسفية واللغوية والكلامية. بمعنى أنهم لم يستطيعوا إنتاج وإعادة الإنتاج للقيم المادية والفكرية.. وكان من نتائج ذلك الانشطار الاميبي للمكونات الاجتماعية والتقوقع على الذات العشائرية الشبه مستقلة والمكتفية ذاتياً.
يعتبر صراع الهوية من أهم القضايا المؤثرة في الوعي الاجتماعي وفي تجلياته الفلسفية والسياسية والحقوقية والجمالية وتمثل وسيلة للتطور والغاية للتوحد والحفاظ على الذات الجمعية. لدورها الحاسم في توحيد أو تشتيت القوى في مرحلة الانتقال نحو الدولة/الأمة وهو بمثابة صراع مستمر على تحديد مسارات المجتمع السياسي وتوجهات التغيير الاجتماسياسي، طالما "... لا يُطرح سؤال الهوية بقوة إلا حين تجد أمة ما نفسها في حالة تحوّل حضاري حاسم، أو حين تكون فكرة الأنا عن نفسها غائمة وملتبسة. أو حين تواجه تحديات كبرى لا قبل لها بها. وقد أصبحت الهوية اليوم في القلب من اهتمامات البحث النظري، وكذلك في القلب من ساحات الصراعات والحروب في ميداني الواقع والتاريخ. .. علينا أن نعي أن اتخاذ الموقع المركزي لموضوعة ما، في زمن ما، داخل الحقل المعرفي تفرضه مقتضيات السياسة والمصالح والصراعات القائمة أكثر مما تفرضه الضرورات المجردة للمعرفة. كما أن التعاطي مع تلك الموضوعة معرفياً يمكن أن يكون، في إطار أجندات معينة، استراتيجيه سياسية في نهاية الأمر، لها آثارها في حقل المعرفة، وفي حياة المجتمع ومستقبل البلاد، على حد سواء. وبذا يستدعي مفهوم موقع الهوية في سياقنا النظري وأفق فهمنا الكلام عن الممرات والتخوم المشتركة ومناطق التفاعل ".
 وهكذا كان العراق عند تأسيس حكومته المركزية في مطلع عشرينيات القرن المنصرم حيث كان الصراع الخفي لتحديد هوية البلد بكل مكوناته . واعتقد أن جدل هذه الإشكالية وتحديد هوية البلد، كانت من المسببات الأرأسية لعدم الاستقرار الاجتما سياسي طيلة فترة ما بعد تأسيس الدولة العراقية وبخاصة في الجمهورية الأولى( 14 تموز 1958- 9 شباط 1963) وما بعدها، عندما تنازعت النظرتان أعلاه فكريا وإضعاف المقابل عمليا بغية استمرارية الهيمنة. وتأسيسا على تاريخية الصراع هذا، يمكننا رصد، حسب رأي المستنبط والمستنتج من تاريخية الحركة السياسية لعراق القرن العشرين وإلى الوقت الراهن، ظهور مدرستان وسمتا هذا الحراك السياسي وصراعاته مع ذاته أو مع السلطة انطلقت:
- الأولى : من أولوية عراقية العراق ذو المكونات الاجتماعية والاثنية المتعددة ؛
- الثانية : قد انطلقت من أولوية عروبة العراق .

لمحات حول تطور الهوية الاجتماعية والثقافية  بعد تأسيس الدولة في العراق المعاصر

ملخص لمداخلة الدكتور رياض البلداوي

كان لتأسيس الدولة العراقية الحديثة بداية عشرينات القرن الماضي، أثار عميقة في تطور الوعي الوطني وتجميع العراقيين تحت مظلة الوطن الجديد. ولكن هذه الولادة للوطن الجديد، لم تستطع ولفترة طويلة أن تحل المشاكل المترتبة عن تجميع هذا النسيج المتنوع من مختلف الأعراق والديانات والأصول في هوية مشتركة واحدة تضم الجميع تحت مظلة وطن جديد موحد.

بحثي هذا سوف يتناول إشكاليات وتحديات تكوين الهوية الاجتماعية والثقافية في العراق الحديث. وبرأيي المتواضع، فأن الهوية الاجتماعية كانت دائما مشدودة تتجاذبها ثلاث قوى اجتماعية، هي الحضر أي سكان المدن القاطنين على ضفاف النهرين الخالدين والبدو أي قبائل البدو في غرب الفرات والجزيرة ومن ثم عشائر الريف بما فيهم فلاحون وملاك أراض وسراكيلهم أي وكلائهم.
الاختلافات في طبيعة العلاقات الاجتماعية لكل هذه المكونات انعكست كمحصلة لتأطير المحتوى الاجتماعي العراقي وأدت إلى تكوين الهوية الاجتماعية بكل تناقضاتها وخصائصها.
 أما الهوية الثقافية فأنها ولدت أيضا تحت تأثير وتجاذب ثلاثة مصادر ثقافية وهي على التوالي، الثقافة الفارسية والتركية والعربية البدوية.
هذه الثقافات تداخلت مع بعضها لتكوين هذا التمازج الثقافي الذي لازال يؤطر وبشكل ما المكنون الداخلي للهوية الثقافية العراقية هذه المشاركة سوف تتناول وبشكل ما هذه الفرضيات وأصولها الثقافية ونتائجها كذلك التأثير الكبير للجغرافية  والتاريخ على جميع خصائص وتكوين الهوية الاجتماعية الثقافية العراقية


145


كارل ماركس في العراق/ الجزء الخامس

فرات المحسن


اقتربت السيارة من نقطة التفتيش، فأشار العسكري بيده وطلب من رفيق جبار التوقف، ثم أقترب من نافذة السيارة وسأل من أي مكان قدمتم فأجابه الرفيق الجبار من بغداد.
ــ ما الغرض من مجيئكم إلى الناصرية ؟.
ــ زيارة لأصدقاء .
ــ عدكم تصريح بالزيارة.. يعني أهناك من يكفلكم حته اتدخلون المدينة.
ــ شنو أحنه نحتاج لمثل هذه الكفالة ..أحنه عراقيين.
ــ أعرف خالي انتم عراقيين..
قال ذلك وهو يركز نظره على الرفيق ماركس الذي بادله النظرات وابتسامة مودة ترتسم على محياه.
ــ أي وهسة ما راح نروح؟
ــ لا خالي ما تكدرون أذا مو كفيل..
ــ كفيلنه الله ورسوله..
ــ خالي لتلح.. أطبك على صفحة وأنزل من السيارة.
ــ ليش؟
ــ سمعت شني كتلك.. لتخليني أسوي غير شي.
ــ شنو تسوي.
ــ استغفر الله.. بويه ما تطيني هويتك .
مد الرفيق جبار يده وسحب محفظته من جوار كابح السيارة اليدوي وبحث داخلها ثم اخرج هوية سلمها إلى العسكري الذي ما أن طالعها حتى وقف بالاستعداد وكأنه مس بتيار كهربائي، فقد تيبست يده وبارتعاشة ظاهرة أعاد الهوية وهو يتطلع إلى وجه الرفيق جبار قائلا.
ــ العفو سيدي .. العفو.. ما جان قصدي.. تعرف التعليمات سيدي.. أنه أقوم بواجبي سيدي.
ــ ما صار شي أبني.. زين تسوي.. الواجب أهم من كلشي.
ــ تفضل سيدي الله وياكم .. محروسين.
أعاد الرفيق جبار الهوية إلى مكانها في المحفظة، وودع العسكري بابتسامة رضا وتمنى له مساءً طيباً. كان العسكري يقف متخشباً جوار السيارة، وفجأة تفوه بصوت متهدج متوسل موجها كلامه للرفيق جبار، فضغط جبار على كابح السيارة وراح يستمع لحديث العسكري.
ـ سيدي رحمة لوالديك.. لو تكدر تساعدني.. سيدي أني مظلوم وأمي مظلومة، وما ادري شنو أسوي.. سيدي انه ما أريد أكلك ماكو راتب صار شهرين.. بس انه من أهل الحلة وصارلي سنتين ونص هنا بالناصرية، وأمي تعيش وحده ويردون يشيلوه من بيتنه، يكولون هيه ساكنة بالعشوائية.. سيدي الله يجعلك بكل خطوه سلامة انته تكدر تساعدني. آني ما معترض وأكَدر أبقه هنا طول عمري بس أمي سيدي.. دخيلك.
ــ انطيني أسمك ورتبتك والفوج والفرقة التابع اله، ونشوف شنكدر انسوي. ها ولتنسه تنطيني عنوان بيتكم بالحلة.
سحب الرفيق جبار دفتر ملاحظات صغير وقلم من صندوق السيارة الداخلي، وطلب من العسكري المعلومات وراح يدونها في دفتره. تعذر على العسكري تقديم عنوان دارهم، كون المنطقة غير مدرجة في سجلات بلدية مدينة الحلة كمنطقة سكن، ولكنه قدم للرفيق جبار وصفاً عن المنطقة، كان الرفيق جبار يهز رأسه مبدياً اهتماماً ظاهراً بتلقي المعلومة.
ـ أنشاء الله من أرجع أشوف شنو أكدر أفيدك.. ادلل أبني ... بس حافظ على واجبك وخليك متيقظ.
تحركت السيارة بهدوء متجهة صوب الشارع الخارجي المفضي إلى مدينة الناصرية.
ــ الله وياك سيدي محروس بالعباس أبو فاضل.
كانت عينا الرفيق ماركس طيلة الوقت تدوران في محجريهما، وعلامات الدهشة والتساؤل باديتان على وجهه. ولم يترك الأمر يمر دون أن يبادر بالاستفسار عن الذي حدث.
ــ ما الذي حدث وجعل العسكري بتلك الهيئة من الارتباك وهو يطالع هويتك، ثم يطلب منك مساعدته.
ــ لا تشغل بالك أيها الرفيق العزيز فلكل مقام حديث، ولسوق مريدي جاذبية لا تضاهيها جاذبية الأرض.
ــ رفيق جبار منذ اليوم الأول وأنت تتحدث معي بالألغاز.. أفصح معي عن ما تقوله وتفعله.. ألست شيوعياً ثورياً.
ــ نعم رفيق لن تجدني غير شيوعي من الطراز الأول.
ــ ومع هذا تستخدم معي الألغاز والأحاجي.. مرة شاطي باطي و الآن سوق مريدي.. من تراني، لأكتشف ماذا عنيت بقولك سوق مريدي.
ــ لن أخفي عليك مثل هذا الأمر.. رفيقي العزيز.. سوق مريدي هو سوق شعبي يقع في إحدى مناطق بغداد الفقيرة، وفيه تجري عمليات تزوير واسعة لمختلف الوثائق الرسمية الحكومية وغير الحكومية، والهوية التي قدمتها إلى العسكري كنت قد عملتها في سوق مريدي.
ــ أتسمح لي بمعاينتها؟
ــ نعم رفيق .
اخرج الرفيق جبار الهوية من المحفظة وسلمها إلى كارل ماركس الذي أطلق زفيراً قوياً متقطعا وهو يقرأ محتوى الهوية
ــ هذا يعني أنك برتبة عقيد في ديوان رئاسة الجمهورية.. هل هذا صحيح؟
ــ رفيق مثلما أخبرتك أنها هوية مزورة.
ــ وكيف تسمح بذلك وأنت الشيوعي، مثلما تدعي.
ــ رفيقي العزيز في العراق اليوم أن لم نسلك هذه الطرق فسوف تأكلنا حتى الفئران وليس القطط السمان.. ولكل حالة مخرج، وإن لم نفعل هذا فلن ندخل مدينة الناصرية وغيرها.
ــ ولكنك خدعت الرجل ووعدته زوراً.
ــ كلا رفيقي العزيز.. لدي الكثير من الأصدقاء في جميع الوزارات العراقية، يمكن بواسطتهم حل مشكلة هذا العسكري المسكين.
غرق الرفيق كارل ماركس بصمت تام وراح يطالع الأفق دون تركيز أو اهتمام بما يظهر أمامه، شعر بأن هناك ما هو غامض في هذه الرحلة، وهؤلاء الذين قابلهم وتحدث معهم، باتوا يوحون له بغير ما يظهرون. شعر بغرابة المواقف والأحداث التي تكررت منذ أول لقاء في مطار بغداد ومن ثم اجتماع الفندق، وخروج سامر وتهديداته، وتعابير وحركات الرفيق جبار، كل هذا يشي بالشك والريبة. وتساؤل مع نفسه إن كان يستطيع إكمال الشوط بمثل ما يريد، ومن ثم يعود إلى لندن بحصيلة من النتائج المفيدة له، وما النفع الذي يستطيع تقديمه لهؤلاء الأوباش. ضحك في سريرته وهو يطلق عليهم تسمية الأوباش، أعتقد أنهم لا يستحقون مثل هذه التسمية، فالأوضاع فرضت عليهم أحكامها فرضاً، وهم لا يملكون القوة لتغييرها، بل يحاولون تطويع ذواتهم وتدجين أنفسهم داخلها، هكذا ورد في خاطره، فجبار يتعامل أحيانًا مع الآخرين برقة وروح رفاقية عالية، ويحنو عليهم ويقدم لهم المساعدة، وفي ذات الوقت نراه يتعالى، مانحاً نفسه مكانة عليا ومقدما ذاته على الآخرين، ويلعب معهم دور المتسلط.. يبدو أنني أمام نموذج لسلوك محير لمسته أول الأمر في المطار، مثلما تكرر عند بعض رفاق جبار، فالجميع يستخدم ألفاظ مبهمة وسلوك يوحي بالغرابة، ويفتعلون القوة رغم مشاعر الخوف وعدم الثقة.
ــ تفضل رفيق لقد وصلنا.
توقفت السيارة أمام دار بابها الخشبي صبغ بلون أزرق فاقع. والجدار الخارجي للبيت تساقط عنه الكثير من غطائه الأسمنتي، فظهر بعض الطابوق الكالح اللون جراء الرطوبة والأملاح، وكأن منظر الجدار يبدو مرقعا بخرائط لجزر تتوزع صغيرة فوقه. جوار الباب وقف رجل أسمر البشرة بوجه مليح يرتدي بيجامة رصاصية اللون بخطوط طولية خضراء ويلوح بيده وترتسم على وجهه ابتسامة عريضة.
ــ هله ومية هله بالرفاق .. هله والله.. زارتنه البركة.. صدك بويه جذب.. ماركس ابيناتنه.. او يوم المبارك علينه وعلى الناصرية.. لا بويه موبس الناصرية.. على العراق كله.. هل ومية هله.
ثم أخذ ماركس بالأحضان وراح يقبله في موجة من القبل السريعة المصحوبة بصوت يشبه الفرقعة، ويردد.. هله وميت هله.. هله بالزين النشمي. لم يفعل الرفيق ماركس شيئا بل عاف جسده للأيدي الثقيلة التي كانت تلتف حوله وتعتصره بقوة.
استطاع الرفيق جبار بشيء من الجهد سحب الرفيق ماركس من أحضان الرفيق أبو نداء وأبعده بضع خطوات.
ــ رفيق ماركس.. الرفيق أبو نداء من رفاقنا القدماء ونحن نعتز بوقفاته الثورية مع الجماهير المسحوقة، وكان منذ فترة طويلة نواة لتجمعنا في هذه المدينة الباسلة.

ــ أهلاً وسهلاً بك رفيقنا أبو نداء.. نداء، ياله من اسم جميل.
ــ أهلاً وسهلاً بالرفيق ماركس..
ــ نعم رفيق ماركس اسم نداء يجلب الخير ويبعد الضرر عن الناس. ولعب بينه شاطي باطي بالكويت.
هكذا تكلم الرفيق جبار معقباً.
ــ ها رفيق جبار بدت رحمة الله.. إي هذاك يوم وهذا يوم ... تره جنه مجبرين .
ــ صحيح ابختي وحظي صحيح ..مجبرين .
ــ أي هسه دفوتو جوه حتى تستراحون.. وبعدين شغل بساميرك رفيق جبار .
كانت نظرات الرفيق ماركس تتنقل بين شفاه الرفيقين في محاولة لفهم الحوار الدائر بينهما، وفي الوقت ذاته كان يفكر بكلمتي شاطي باطي التي تكررت أمامه مرة أخرى، ولم يجد لها تفسيراً. ياترى لمَ يستعملهما الرفيق جبار بهذا الشكل المفرط، وماذا تعني عنده. كان هذا السؤال الأول الذي بادر بطرحه الرفيق كارل ماركس على الرفيق جبار وهم يجلسون عند طاولة الطعام التي أعدت لهم في بيت الرفيق أبو نداء.
ــ رفيق ماركس.. لنتعشى أولاً وبعدها سوف أشرح لك الشاطي باطي.
ــ رفيق جبار.. لن أتناول الطعام إن لم أجد هناك جواباً شافيا عن الشاطي بالطي.
ــ كن على ثقة رفيقي العزيز أنه معنى مجازي لا يستحق منك كل هذا التفكير والتطيّر والضجر.
ــ حتى ولو.. عليك الآن الإفصاح عنه، إن أردت مني مشاركتكم الطعام.
ــ أيباه .. الرفيق ماركس غير عنودي.. وصعب المراس.. مثل كتبه .. مو سهل واحد يفتهمه، أقره بيها ليل ونهار وأريد أدبر حالي وياهه وما أكدر.. تجيبني منا وتوديني منا.. أيباه شكد صعب رفيق ماركس حتى بالأكل.
قال ذلك الرفيق أبو نداء ثم أطلق ضحكة خجولة وهو يطالع وجه ماركس الذي راح بدوره يحدق بالرفيق جبار وتقطيبه ظاهرة ترتسم فوق جبينه.
ــ رفيقي العزيز .. لا بأس سوف أشرح لك الأمر.. الشاطي باطي هو تعبير عن خلط في الأمور، وترميز عن فعل الإيذاء. أي أن الوقائع السيئة والأحداث الخطرة والجرائم الكبرى والآثام والخدع ونذائر الشؤم والمصائب والحروب والموت المجاني والقحط والجوع والأمراض والعوز والأمراض كلها اجتمعت على العراق وشعبه بسبب وآخر، ونحن نختصر كل هذا في تأويل مجازي هازل للمحنة، لنقول لعب بنا الدهر والدنيا شاطي باطي.
ــ رفيق جبار فدوه أروحلك، تكدر تعيده مره لخ تره شويه صعبه عليه.. ما افتهمت شنو كلت..
هكذا بادر الرفيق أبو نداء بالاستفسار والطلب.
ــ هاي شنو رفيق أبو نداء دا تخجلنه يم الرفيق ماركس .
صمت ماركس وتناول الملعقة وراح يعبث بصحن الرز الذي وضع أمامه. يا للتهويل الموحش الذي سطره الرفيق جبار. إنه يدعم قناعاته بدوافع الخوف والضيق والميول غير الواعية، بحوادث تقترن بمسببات ولها نتائج يمكن أو من غير الممكن ردعها، ولكنها تبقى حاضرة وللإنسان إمكانية للسيطرة عليها عبر قدراته على التغيير. ليس هناك من أمر جبري في هذا الكون، ويبقى الخيار الإنساني هو من يبتكر الكثير من الطرق التي تقف في وجه كل تلك المصائب وعلى الأقل التقليل من أهوالها.ولكن الملاحظ وحتى في حادثة ليلة البارحة الظلماء، أن هذا المجتمع يعيش على قاعدة القدرية والاستسلام أو الرضا عن الواقع وبما تجود به المصائب.
ــ ماذا رفيق ماركس .. أراك بغير شهية للطعام.
ــ يجوز عشانا ما يعجبه، لو ما متعود ياكل تمن ومركه بالعشا.. رفيق تره أحنه على كد حالنه.
ــ كلا أيها الرفاق الأعزاء.. لا عليكم فلنبدأ بالأكل.. شكرا لك رفيق أبو نداء.
كانت الليلة مقلقة بل ثقيلة ومتعبة جدًا، أبعدت النوم عن عيني ماركس. فالرطوبة في الغرفة مرتفعة شعر معها بضيق التنفس وثقل كبير يقبع فوق صدره العليل أصلاً. كان للحشرات القارصة وصرصرة الصراصير حضوراً طاغياً، هذه الحشرة الغريبة في طباعها وحياتها ذكرته بمدرسة ترير العليا التي كان يديرها صديق أبيه هوغو فيتنباخ، حيث تعرف هناك على الطالبة ماجدولين الظريفة، كانت تسبقه بعام دراسي، وكانت شغوفة بالبحث عن الصراصير في كل زاوية من زوايا المدرسة والأقسام الداخلية، لتضعها في زجاجات بأغطية مثقبة، وتقدم لها الطعام المناسب وتجلس ليلاً تتنصت أصواتها. كانت تشعر بالزهو وغبطة وهي توصف النغمة الليلية التي تصدر عن تلك الحشرة، وتتحدث بفخر وفرح وكأنها بالذات تنتمي لقبيلة الصراصير. ثم تقدم المعلومة برضا وقناعة عن قدرة تلك الحشرات العيش دون طعام لمدة شهر كامل. وحسب دراستها لحياة هذه الحشرة، كانت تقول بان الصرصور يستطيع أن يتوقف عن التنفس لمدة 45 دقيقة دون تأثير على حياته، ويستطيع كذلك العيش دون رأس لمدة أسبوع. كان البعض يهزأ من تلك المعلومات،والآخر لا تهمه الموضوعة من أساسها
فالحديث يتعلق بحشرة ليست ذات قيمة، أو كريهة ومقززة له. سواه كان يتقبلها على علاتها ليضيفها لمعلوماته، رغم ما يساوره من شك أحيانا. ومع هذا كان يثق بماجدولين كونها طالبة جادة ومتقدمة في الدروس. حين انتقل إلى جامعة بون وهو في السابعة عشر، نسي صوت الصراصير ومعها ماجدولين وزجاجاتها، ولكنه وجد الحشرة هذه حاضرة الآن بشكل مفزع وقريب، ويسمع أصواتها وكأنها ناقوس يطرق رأسه، وشعر وكأنها تسكن بين طيات الفراش. سهد ماركس يتنقل من موضوعة لأخرى. ومن خلال استحضار أحداث الماضي، وكذلك التفكير بما ستؤول عليه الأوضاع في لقاء الغد، حاول إبعاد ذلك الطنين وإهمال ما يتعرض له من لسع الحشرات وضغط رطوبة الهواء على صدره. لم تغمض له عين وعجز عن التوطن داخل هذه الغرفة الساخنة والرطبة، وبدأ الإرهاق يأخذ منه وطراً ليس بالقليل، ففتح ضلفة النافذة المطلة على الزقاق. كان الظلام تاماً في الخارج، حتى القمر اختفى كلياً، وكأنما السماء أفرغت أيضاً من نجومها، فبدا الزقاق في عتمة مفزعة. تذكر ماركس حادثة الفندق ليلة البارحة وصراخ أبو شمخي، فضحك بسره ووجه لنفسه مرة أخرى بعض اللوم على ما حدث. شيء من نسيم بارد تسلل بخفة عبر الشباك جعل ماركس يشعر ببعض راحة، فجلب كرسياً وجلس جوار النافذة، بعد قليل أحس بالخدر يدب في جسده والنعاس يطرق جفونه.
عند التاسعة صباحاً وبشيء من العجالة تناولوا الفطور وخرجوا من الدار بصحبة أبو نداء الذي أخبر الرفيق جبار عن مكان اللقاء، فتوجهوا بالسيارة نحو وسط المدينة، ثم انحرفوا إلى الشمال حيث حي الطناطلة *. ضحك الرفيق جبار وهو يستمع لهذه الكلمة، وسأل الرفيق أبو نداء عن هذه التسمية الغريبة.
ــ رفيقي.. لأن هذي الأرض أصلا جانت مقبرة مهملة، وأجو الناس وبنو بيوتهم فوقها ، والناس بسبب واقعهم البائس وقسوة حياتهم اضطروا للسكن هناك، ومن خوفهم واعتقاد البعض منهم برؤية أشباح تتجول ليلا بين البيوت، لذلك سموه حي الطناطلة..
ــ يالها من مفارقة غريبة.
ــ أية غرابة رفيقي.. تصدق بأن هناك حي أخر في مدينتنا يسمى حي الزراب أي الغائط ويعني فضلات الإنسان.
ــ لا.. لا بربك.. ما اصدق.
ــ من أنخلص اللقاء أخذك ونروح أهناك .
ــ بس رفيق أنته كتلي راح تحجز قاعة للأجتماع.
ــ رفيق الوضع بقاعة وبنص الولاية مو أمان، يروح يضربونه بصوتيه مثل ما سووهه بحفلة حسين نعمه.
ــ أها هيج.. خوش.. زين سويت رفيق.
كان ماركس صامتا لا يصدق ما يسمع من حديث. تذكر الإحصائيات والقوائم والمعلومات التي استقاها من بعض الأصدقاء في لندن، وكذلك التي قدمها له الرفيق جبار عن واردات العراق المالية وتشكيلات الإدارات الحكومية وأوضاع الطبقة العاملة وحاجات البلد من الخدمات. فتساءل مع نفسه وهو يشاهد وضع البيوت المتداعي والأزقة المتربة المليئة بالحفر والنفايات، أين تذهب تلك الواردات الهائلة وعلى وفق أية شاكلة تم أنفاقها.
توقفت السيارة جوار بيت يبدو حاله أفضل بكثير من باقي البيوت القريبة منه، وطلب أبو نداء أن يترجل الجميع لاستطلاع مكان لقاء الرفاق بالرفيق ماركس. دفع الرفيق أبو نداء الباب ودخل دون استئذان، فسمع صوت نسائي صادر عن الداخل.
ــ ها يمه أبو نداء.. تفضلوا هله بيكم.. تره عبيّس بعد شواي ويجي.. هوه وصاني بيكم من قبل يوم.. وأنه جمعت شكو كراسي عد الجيران وصفطتهن بغرفة الخطار.. هله بيكم خاله ومرحبه.
ــ تسلمين أم جواد والله يوفقج ويوم نوكفلج بعرس حبيبنه أخونا عبيّس.
ــ يايمه.. هذاك اليوم جا مو يصير يوم عيد. أحنه أبخت جدك.. كون الزهرة أم الحسين تهديه لعبيّس ويثكل.. جا صارت فرحتي مثل يوم شوفتي لأبو جواد.
ــ ها أم جواد حنيتي ليوم عرسج..
ــ لا يمه هذا يوم وراح.. بس شسوي أريد أفرح بوليدي..عبيس يطارد مثل الحصان وماكو نثية تلجمه.
ــ وسفه ولله وسفه.. تره من ينلجم وتربطه المره.. بعد متشوفين من خيره.
ــ بس كون أشوفه سعيد، هم ميخالف.
ــ خاله أم جواد بدون زحمة سويلنه جايات وأحنه راح نطب ونكعد بغرفة الخطار.
ــ تدللون يا بعد خالتك..هذا بيتكم يمه.
دخل الثلاثة غرفة الضيوف من بابها المطل على الممر الخارجي. أخذ ماركس ينظر لما حوله حيث وضع بشكل عابث عدداّ كبيراً من مقاعد مختلفة الألوان والأشكال وبعضها متهالك يبعث على الأسى. فوق الجدار المواجه للنافذة العريضة، علقت صورة كبيرة ملونة لشخص يرتدي غطاء رأس أخضر وتغطي جسده الضخم عباءة بنية اللون ويجلس على الأرض ويضع سيفه المشطور في حضنه، وجواره قبعت ثلاثة أسود ضخمة مستسلمة لقوة إرادته. جلبت انتباه الرفيق ماركس تلك الطلة البهية والعيون الذكية الجميلة الواسعة لصاحب الصورة، فراح ينظر فيهما بتمعن. وقال في سره لقد أجاد الرسام في إيصال تأثير الصورة على المشاهد. تلك اللحظة طلب الرفيق جبار من الرفيق ماركس الجلوس قرب باب الغرفة وراح والرفيق أبو نداء يعيد ترتيب المقاعد وهو يدندن بأغنية خطرت على باله الآن. طالع ساعته ثم سحب كرسياً وجلس جوار الرفيق ماركس، ثم دخلت أم جواد وبيدها طبق نحاسي فوقه ثلاثة أقداح شاي .
ــ ما هذا ؟ قال كارل ماركس بدهشة.
ــ هذا شاي .
ــ عجيب وبهذا اللون الفاحم؟
ــ الجماعة هنا يحبون تناوله بهذا الشكل، أيضاً هناك مصيبة، فالشاي توزعه الحكومة مع الحصة التموينية الشهرية وهو مغشوش أي مخلوط بالخشب المحترق.
ــ واو! ما هذا الفعل القذر؟   
ــ لو حدثتك عن ما تمنحه الحكومة وتوزعه شهرياً على الناس لجزعت أكثر..
في تلك الأثناء سمع طرق على الباب الخارجي، فذهبت أم جواد لترى من الطارق.. بعد ترحيب المرأة، دخل ثلاثة أشخاص أحدهم كان يلبس ثوبا فضفاضاً ويضع على رأسه كوفية وعقال، والآخران يرتديان البنطال وقميص بنصف كم.. استقبلهم الرفيق أبو نداء عند باب الغرفة وتبادل معهم القبل ثم دخل الجميع وتوجهوا مباشرة نحو الرفيق ماركس وحيوه بحرارة وجلسوا قربه يتهامسون ويتبادلون الابتسامات، ثم توالى مجيء الرفاق حيث جاء خمسة منهم ثم خمسة آخرون ولحقهم بعد ذلك سبعة. فجأة دخل الرفيق عبيّس، حيث دفع الباب الخارجي بقوة وهو يصرخ بصوت عال تصاحبه ضحكة قوية.
ــ أم جواد فدوه أروح لذيج الكصايب الحلوة والرصعة والخدود الحمر.. وين الغده يمه.. راح أخرب من الجوع.
ــ يمه عبيّس ربعك إلتمو ..
ــ أفا .. عيوني رفاق أعتذر حسبالي بعدكم ما جايين ..
تقدم عبيّس وصافح ماركس بحرارة وقبله على وجنتيه بقبلتين سريعتين، ثم اتجه نحو رفيق جبار وضمه بقوة إلى صدره وراح يقبله بقوة وشوق.
ــ هذيج الليلة ولا تتنسه رفيق جبار.. طعمه بالحلك ليهسه.. جانت ليلة ليلاء مثل ما يكول رفيق شكر.. عاشت الناصرية حرة ديمقراطية تحت نير الظلم والاستعباد..
أطلق ضحكة قوية وضج الجميع بالضحك المجلجل الذي استمر لوقت غير قليل، كان فيه ماركس يطالع الوجوه بدهشة ظاهرة وبغيض مكتوم.
ــ رفيق لا تتعجب فالجميع يعرف نكات وقفشات رفيق عبيّس.. في تلك الليلة وبعد أن تناول الكثير من الكحول راح يهتف بهتافه المعتاد.. عاشت الناصرية حرة، والذي يصرخ به كلما شعر بدبيب الكحول يسري في جسده، ثم بعدها يغفو عند أقرب كرسي.
ــ هز ماركس رأسه وأغتصب ابتسامة خفيفة أراد بها أظهار اقتناعه بحديث الرفيق جبار .
ــ هل نبدأ رفيقنا العزيز.
ــ أنتم تقررون ذلك لأنكم أصحاب الدعوة.
ــ حسنا رفاق سوف نبدأ.. أرجو من الجميع الجلوس .
ــ رفيق جبار ولا يهون رفيق ماركس.. أكدر أكل لقمة طعام زغيره وأجيكم بعدين.. تره ميت من الجوع..
ــ أوكي رفيق.. بس لا تتأخر .
ــ أوكي ورحمة الله وبركاته.. عيوني.. طلقه .
وضع الرفيق جبار منضدة صغيرة أمامه وجلس خلفها والرفيق كارل ماركس، وجلس باقي الرفاق قبالتهم على المقاعد التي رصفت في الغرفة.
ــ يقول الرفيق دريدا بأن ليس هناك ثمة مستقبل بدون ماركس، وأننا سوف نرى تفويضاً شعبياً للاشتراكية في المستقبل.
هكذا بدأ الرفيق جبار حديثه لإدارة الندوة وتقديم الرفيق ماركس للمجموعة.
ــ الواقع أن هناك وبعد حدوث الأزمة الاقتصادية في العالم الرأسمالي شعر الناس بأن هناك عودة قوية لماركس والماركسية. أشار دريدا مثلما آخرون إلى كون تأريخ العالم وحقبه العديدة، ما كانت لتخلو من شبح الشيوعية الذي يتجول داخلها.. ونحن يا رفاقنا وإثر هذه الأحداث العالمية التي انعكست بدورها على واقعنا العراقي، طلبنا من رفيقنا كارل ماركس الحضور للإطلاع على أوضاع العراق وبناء تصور عن الحقبة التي يعيش بها أبناء شعبنا، ثم تقديم ما ينفع من حلول.
ــ رفيق جبار ممكن سؤال بروح أبوك؟ بصوت خشن وبحة واضحة سأل صاحب الكوفية والعقال.
ــ بعدين رفيق أبو مزعل.. الأسئلة بعدين.
ــ لا رفيق جا تريده تعبر وأنا ما مفتهم منه شي.
ــ خوش رفيق.. تكدر تسأل بعد ما أخلص.
ــ أي شني.. ليش ما تقبل.. مو أكلك راح تفلت مني حجاياتك أذا ما أسال؟
ــ شنو رفيق.. بس أختصر.
ــ رفيق هيه جلمه كلته أنته ودوختني ..
ــ شنو هيه؟
ــ هذا دريد منو؟
ــ أها .. تقصد دريدا.. رفيق هذه اسمه جاك دريدا فيلسوف فرنسي من مواليد الجزائر وهو صاحب نظرية التفكيك.
ــ شني تفكيك.. جا هيه براغي.
ضج الرفاق بالضحك وساد بينهم جو من المرح .
عندها تدخل ماركس وطلب من الرفيق جبار الحديث ليوضح للرفيق السائل من هو جاك دريدا.
ــ دريدا فيلسوف طرح فكرة الصعوبة في فهم استراتيجيات النص دون تفكيكه، حيث يكمن في طبيعة الفلسفة العلمية وفي متن النص ذاته هذا التناقض، وجاك دريدا أراد استجلاء هذا الخطاب لتفكيك استراتيجيات النص لإثبات تناقض نموذج النص ذاته.
ــ رفيق لو خاله على سكف العام أحسن.. بويه بطلت من السؤال.
ــ لماذا رفيق ألم تستوعب ذلك.
التفت الرفيق جبار وهمس بأذن الرفيق ماركس، أن دع الأمر لي ولا حاجة لك بالرد أو الشرح لحين ما ننتهي.
فجأة دخل الرفيق عبيس مسرعًا دون أن يطرق الباب وأصبح وسط الغرفة بين الرفاق ثم راح يلوح بيده وبدا بالإنشاد.
*كضيناها مشي عله النار
واليسحك جمر شيصير بجدامه
كضيناهن سهر والنوم طبع الذيب
عين وعين ما تتفرزن أحلامه
وكضيناهن ركض متعوب
كلما يهم روحه أيطيح
ما يلحق الجدامه
هو المالكه الزاد اليسد الجوع
كوه أيفوت بصيامه
عاشت الشيوعية.. عاش العراق.. عاش الرفيق ماركس.. فلتحيا وحدة الطبقة العاملة العالمية.
كان الجميع منفعلاً يردد كلمات الرفيق عبيس بجد وإخلاص، عاشت.. عاش.. وكأن الكلمات كانت تخرج من الأفئدة، والتصفيق على أشده مع لغط وضحك، وانطلقت من خلف الباب هلهولة رنانة لأم جواد مشاركة منها فرح رفاق أبنها عبّيس.
قفز صاحب الكوفية من مكانه وصدح بأعلى صوته موجهاً كلامه للرفيق ماركس .
مطلوبين احنة وجينة نوفي الدين
جيت ومعتني يا كارل أدورك
وانشد الصوبين
يل كلك فهم وعلم وتسوة ماي العين.
قاطعه الرفيق جبار بحدة وكان يضغط على أسنانه وكأنه يزمجر. وبنبرة صارمة تساءل .
ــ رفاق يمعودين.. رفاق نستمر لو لا. هذا تره مو محله؟
ــ طبعا رفيق نستمر.. أجابه بعضهم.
ــ رفاق الهدوء مهم لجلستنا.. والرفيق ماركس يود أنتكونوا أنتم بمستوى المسؤولية الرفاقية.
بصوت هامس سأل الرفيق ماركس رفيقه جبار عن ما يحدث، ولماذا يفعل الرفاق مثل هذا اللغط والضجيج.
ــ أنها عادة عراقية متعارف عليها في حالات تجمع الناس لغرض الاحتفال أو التشييع أو الفواتح فهناك من يخرج من بينهم ليلقي بعض الأبيات الشعرية وكلمات التمجيد قبل أن يتحدث المحاضر أو الخطيب.
ثم قطع حديثه وبادر موجهاً كلامه لمجموعة الرفاق أن عليهم الهدوء. عند تلك اللحظة وقف الرفيق أبو مزعل صاحب العقال والكوفية مرة أخرى ووجه كلامه إلى رفيق جبار .
ــ وسفه جبار ما جان عهدي بيك هيج.. تقطع هوستي.. ليش بويه شني أحنه مو بعينك.. شني صاير اليوم قبغ مال احلوكّ.. كالولي الرفاق عليك، شايف نفسه شوفه.. من رخصتكم رفاق، أنه طالع وبعد طريقي مو وياكم من هل يوم.
ضجت الغرفة بالأصوات، تنادي عليه البقاء، ولكنه أبى وخرج وأغلق الباب وراءه دون أن يستمع حتى لصوت الرفيق جبار الذي كان ينادي عليه ويعتذر منه ويترجاه البقاء. هرول عبيّس وراءه محاولاً إرضائه دون جدوى، فودعه عند الباب الخارجي وعاد إلى الغرفة. حيث وجد الرفيق جبار قد انتقل مع الرفاق إلى حديث جاد .
ــ رفاق.. فيما يتعلق ببرنامج اللقاءات مع الرفيق ماركس فهي سوف تكون على شكل جولات في المحافظات تدور فيها حوارات، نحاول أن نستخلص منها ما ينفع شيوعيتنا وعراقنا. وأنا هنا لا أريد استخدام تعابير تربك البعض وتقود إلى فهم قاصر لما يريد أن يقدمه الرفيق ماركس لنا، واعتقد أن من المناسب لنا جميعاً أن نخرج عن نمطية المحاضرات ونبدأ بنموذج جديد ومقنع للمخاطبة، إلا وهو طرح الأسئلة من قبلكم والرد عليها من قبل الرفيق ماركس. وقد بدأها الرفيق بالجواب على سؤال الرفيق أبو مزعل ولنبدأ بما يشغل بالكم وندونه ثم يرد عليه رفيقنا كارل ماركس.
ــ اسمحلي رفيق بسؤال.. بادر أحدهم بالقول
ــ تفضل رفيق.. ولو بعدنه ما سجلنه أسماء الراغبين بتوجيه الأسئلة.
ــ رفيق ماركس بروح الوالدة.. متكلي أحنه أنضل هيج نركض والعشه خباز؟
ــ رفيق ماركس.. رفيقنا يسأل إلى متى يبقى حالنا على هذه الشاكلة التي رأيتها، فقر وعوز في كل شيء.
هكذا بادر الرفيق جبار لتقريب لغة السؤال للرفيق ماركس، وكان في كل مرة يستخدم هذا الشيء لتسهيل أمر الحوار بين ماركس والآخرين .
ــ رفيق ،عندكم أفكار ومشاريع الطبقة الحاكمة وهي المهيمنة الآن، وهي من يملك القوة المادية ودائما تحاول فرض منظومة أفكارها على للمجتمع، وتاريخ البشرية منذ الخليقة هو تاريخ صراع الطبقات، وهناك ظالمون ومظلومون، وهم في تعارض دائم، ويخوضون حروب متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، ومثل هذه الحرب حتماً سوف تنتهي إما بتحول ثوري للمجتمع ككل، أو هلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين.
ــ أي رفيق وتاليه مو أنشعل سلفه سلفانا، ونركض ونرجع كري. وأشو هسه ما تشوف غير اللطم والبجي والسبحة السودة أم المية أواحد، والتفجيرات ذبحتنا ذبح، وجوع وخدمات معدومة.
ــ الرفيق يقصد أن المجتمع العراقي ناضل كثيراً ولكن في الأخير رجع كل شيء إلى الوراء وسيطرت عليه مافيات تحكم باسم الدين و امتلاك الحقيقة. رفيق يعني لعبت بينه شاطي باطي مثل ما شرحت لك ذلك سابقًا.
ثم أطلق رفيق جبار ضحكة وهو يحاول جهده ترجمة الأسئلة وتوضيحها للرفيق ماركس.
أجاب ماركس قائلاً بعد أن أنهى تدوين السؤال في ورقة أمامه.
ــ رفاق علينا أن ندرك الطابع المؤثر لكل معطيات ووقائع الحاضر، وقدرتها على الوقوف بوجه التغيير وقوى الديمقراطية، وتلك المعطيات بالذات من يسهم في تثبيت بنية المجتمع الكلية ذاتها وتكفل ديمومة الأوضاع السيئة الاقتصادية والسياسية الاجتماعية وفي هذا لا ننسى أن الدين في مثل هذه المجتمعات يعني عجز عقل الإنسان على التعامل مع حوادث لا يمكن فهمها أو يتعذر عليه تحليل كنهها.
ــ رفيق ولو أنا مو كلشي أفتهمته.. بس أحنه شنو نكدر أنسويه؟
ــ رفاق، الإنسان بواسطة العمل، وبالعمل وحده يستطيع تغيير ذاته وكذلك تغيير ما حوله، ولأجل خلق ظروف أفضل لحياته وللمجتمع. وأعتقد أن هذا الشيء هو ما يحتاجه الشعب العراقي بشكل ملح. ورغم أن العمل في النظام الرأسمالي يصبح وسيلة وأداة لاستلاب الذات وقهرها، ويكون نشاط مستهلك في ظل شروط إنتاج يتم فيها شراء قوة العمل وهنا يكمن الخطر حين يكون الإنسان العامل جزء من وسائل الإنتاج وغير مالك لها، لينقلب إلى مجرد قوة تباع وتشترى.
قفز عبيّس من مكانه وبصوت واضح قوي وجه كلامه للرفيق ماركس.
ــ رفيق ماركس متكلي هو شنو العمل.
طالع ماركس وجه عبيًس الأسمر المملوح والذي يشي بمقدار وقوفه تحت أشعة الشمس اللاهبة، وتمعن أيضا بقميصه المزركش، فضحك في سره بسبب صور أشجار الغابة التي تغطي القميص، وأيضا العبارة التي تتوسط الجهة العليا منه وكانت باللغة الانكليزية، والتي طرزت بخط ناعم أخضر ولكنه واضح للعيان ( اغتصبني أيها الملعون).
ــ رفيق من أين لك هذا القميص الجميل؟
ــ رفيق من اللنكة.
ــ وماذا تعني لنكه.
ــ يعني من محلات بيع الملابس المستعملة.
ــ أرجو أن لا ترتديه بعد الآن فهو قميص لا يليق بك.
ــ رفيق جماعتي كلهم متخبلين عليه.

ــ رفيق هذا القميص في أوربا ترتديه بعض الفتيات المراهقات تحديا لتقاليد مجتمعاتهن.
ــ ليش أحنه مو ثوريين هم أني أريد أتحدى مجتمعنا وأكسر خشم تقاليده.
ــ حسنا ولكن العبارة التي خطت عليه مخجلة في مجتمعك.
ــ وشنو هاي العبارة .. أشو هيه باللغة الأجنبية.
ــ نعم وحاملها يدعو الآخرين لاغتصابه.
ــ شنو .. كول غيره رفيق ... أشو صار شهر من لبسته ومحد كالي بهاي الحسبة.
ــ مثلما أخبرتك.
هرول عبيّس خارج الغرفة وكأن حية لدغته، ثم عاد وهو يرتدي قميص ابيض وجلس في مقعده يتلفت إلى وجوه الرفاق التي كانت جميعها تحمل ابتسامات خفيفة شعر إن بعض منها كان شامتًا.
ــ رفيق تكلمت عن العمل.. نستطيع أن نعرف ما هو العمل؟
ــ رفاقي الطيبون.. العمل هو الأفق وهو الحياة، هو من يبعث الأشياء من بين الأموات، والشغل فاعلية مرتبطة بماهية الإنسان، وهو مجهود جسدي وبواسطته ينمي الإنسان مواهبه وملكاته وقدراته. وقيمة أي سلعة تظهر في السوق يعبر عنها بعامل واحد هو مقدار العمل الإنساني المبذول لإنتاجها، وقيمة السلعة تقاس بمقدار العمل الذي يقتضيه أنتاج السلعة، أي بعدد الساعات التي يستغرقها العمل في إنتاج تلك السلعة، وتقاس هذه القيمة بالزمن الاجتماعي لا بالزمن الحقيقي.
ــ رفيق يعني أم غانم هم شغلته تنقاس بالزمن الاجتماعي مو بالساعة.
قالها أحدهم فضجت الغرفة بالضحك واللغط ووجهت للرفيق عبارات اللوم والسخرية وترددت جملة، عيب رفيق عيب، هذا مو سؤال، عيب رفيق مع قهقه عالية.
ــ رفيق وما نوع العمل الذي تقوم به تلك المرأة.
تساءل الرفيق ماركس
ــ أترك هذا رفيقنا العزيز.. الرفيق أراد ترطيب الجو فأطلق أملوحة.. أم غانم تشتغل والعياذ بالله.
وبعد موجة من الضحك طلب الرفاق استراحة قصيرة، جلب عبيس خلالها كليجة وشاي وتبادل الرفاق أحاديث جانبية كان أغلبها هامساّ.
ــ رفيق أبو سناء، أكول منو يكول هذا هو صدكَ كارل ماركس؟.. هذوله أبأوربا نغولة يلعبون علينه لعب.. يجوز كالو خلي اندز لهذوله الزواج، واحد نسويله كفشة ولحية مثل كارل ماركس، وراح يحجيلهم شيريد ما يريد، ويثرم برأسهم بصل، وهمه غشمه خيرهم ما يعرف شنو ما شنو الماركسية.
ــ هاي شلك بيه رفيق لعد هذا الحجي إلي حجاه هذا، منو يكدر يحجي غير ماركس.
ــ وهو أنته أفهمت منه فد شي.
ــ تريد الصحيح.. والله ما أفهمت منه غير جملة لو جملتين.
ــ ها أني جا أشكَول..
ــ رفاق أعتقد من المناسب العودة لنتحاور مرة أخرى.
كانت هذه جملة الرفيق جبار التي نبههم بها ودعاهم لمعاودة الاجتماع فجلس الرفاق في مقاعدهم .
ــ رفيق خصم الحجي أحنه شنسوي بهذا وضعنا. صحيح سأل رفيقي نفس السؤال قبل قليل.. ولكني أريد الآن وقبل أن أغادر.. أريد جوابا حاسماّ يشفي القلب.
أطلق أبو رقية جملته وهو واقف ومتهيئ وكأنه يريد إنهاء الاجتماع والخروج دون انتظار جواب.
ــ مثلما قلت في ردي الأول.
ــ أعرف رفيق بس أكول ما ممكن في هذه المرحلة بناء الاشتراكية بقوة سواعد أبطالنا.
ــ دون نضوج الظروف الموضوعية والذاتية لا يمكن الوصول إلى تلك المرحلة. فالعراق يمر بفترة عصيبة اقتصاده ريعي أحادي الجانب، خزينته تعتمد على مادة واحده هي النفط ، وعنده اقتصاد فلاحي متخلف ومجزأ، وبلد متخلف صناعيا، وهناك فائض كبير في الوظائف الحكومية، وليس هناك طبقة عاملة واسعة وناضجة تعي طبيعة وظيفتها التاريخية وتعمل ككيان اجتماعي سياسي واع لتميزه عن الطبقات الأخرى، وهذا هو المهم. وفوق كل هذا وذاك البلد تديره أحزاب إسلامية طائفية تراهن على تخلف المجتمع لتسويق برامجها، ومن هذا لا يمكن أن تنضج في هذه المرحلة مسالك حقيقية للديمقراطية أو بناء يقترب من الاشتراكية حتى بنموذجها المبسط.
ــ رفيق أنته أشو  حيل مظلمه علينه.. ليش ما يمكن حرق المراحل  ؟
عند تلك الدقيقة وقف الرفيق جبار وصاح
ــ يمعودين.. يا حرق مراحل يا بطيخ.. والله عدهم استعداد يحركون الأخضر واليابس لو واحد قال لهم شويه وخرو. لو تحرش بمصالحهم.. رفيق ماركس صار الحديث خارج نطاق التغطية... دعنا نذهب لنستريح بعض الوقت فينتظرنا سفر طويل لمدينة أخرى.
فض الجمع تجمهرهم، وذهب كل واحد لحال سبيله. وصعد الرفيق كارل ماركس والرفيق أبو نداء في سيارة الرفيق جبار التي انطلقت نحو وسط المدينة حيث بيت أبو نداء.
ــ رفيق جبار ما تريد تشوف حي الزراب.
ــ ليش أكو بعد أكثر من هذا الزراب؟!




فرات المحسن
f_almohsen@hotmail.com
* الكلمات للشاعر لفته الباني
* حي الطناطلة وحي الزراب مناطق سكن عشوائية حقيقية أنشأها الفقراء قرب مدينة الناصرية



146
كارل ماركس في العراق : الجزء الرابع
فرات المحسن
طيلة الليل لم تغمض لماركس عين، بقي مسهدا يفكر بنظرات الغضب والتهديد التي توعده بها سامر، وما كان يعنيه بقوله ،راح نراويه أحنه مو غيرنه شنو الماركسية.
كان مجمل ما حدث يلح في خاطر كارل ماركس، وفكر لو أنه استطاع تصحيح الآمر مع الرفيق سامر من خلال وسيلة تقنعه باستمرار الحوار، لما حصل ذلك الانشقاق أو سوء الفهم. ولكن لجبار أيضا كان دورا غير مفيدا على الإطلاق، لا بل كان مفرطا بالعجالة وهو يقرع سامر ويوجه له اللوم. فكر أن ثمة مواقف ممكن أن يكون التحاور الحل الأمثل لحسمها أو جسر الخلاف فيها.
أراد الاستحمام فربما ينعشه الماء ويهدأ خاطره بعض الشيء ، بعد أن شعر بأن الليل تجاوز منتصفه. ولكن حنفية الماء كانت تصدر صفيرا خافتا دون أن تأتي بالماء. بحث في الغرفة عن علبة ثقاب أو شمعة أو قداحة فلم يجد لهذه الأشياء أثرا فالظلام كان دامسا ولذا كان يتلمس الأشياء والجدران في سيره.
هبط السلم وهو يلاصق جداره محاذر السقوط. كان يضع أقدامه بحذر وبطء فوق درجات السلم، واحدة أثر أخرى،يتلمس أرضها ثم يضغط، كل ذلك بسبب الظلام الذي غطى غرف الفندق وممراته. بعد عدد غير قليل من درجات والتفافات السلم، وجد نفسه أمام صندوق خشبي عال أو منضدة الاستعلامات، يصدر من خلفها صوت شخير قوي. طرق بأصابعه طرقا خفيفا فوق سطح الصندوق الخشبي، فتوقف الشخير ومن ثم عاود مرة أخرى، فعاود ماركس بدوره النقر بأصابعه، فتوقف الشخير للحظات ثم تصاعد مرة أخرى. استهوت اللعبة كارل ماركس، فكررها لعدة مرات، بعد أن شعر بقدرتها على أبعاد الضجر والكآبة التي تعتمر قلبه، ولعلها لعبة تضمر عنده بعضا من الشعور الكاسح بالوحدة الذي لم يفارقه منذ مساء البارحة، وجعل النوم يجافيه. طق طق ثم يتوقف الشخير .. طق طق وهكذا أستمر يمارس لعبته مع الشخير دون أن يرى مصدره. ضحك مع نفسه وفكر لو أنه صاح على صاحب الصوت وأنهى اللعبة، عله يجد لديه حلا للظلمة أو انقطاع الماء، وربما جلس معه يتبادلان الحديث. بعد مضي ما يقارب العشر دقائق، هوى ماركس بقبضة يده وبكل ما أوتي من قوة فوق منضدة الاستعلامات. تلك اللحظة هب أحد ما من خلف الصندوق وهو يصرخ
ــ الله وأكبر .. الله أكبر.. بويه لحكولي أنكتلت .. بويه شمخي بويه جويسم ألحكولي ... الله واكبر .. لخاطر الحسين شتريد اخذ بس لا تكتلني.. اروح فدوة لاترميني .. لا ترمي عليك أبو الحسنين .. تره صاحب جهال فدوه لا ترمي .ألحكولي يبالله عليكم راح أموت..بويه شمخيييي.
تشنج جسد ماركس وهو يتشبث بزاوية منضدة الاستعلامات. فجأة خرجت عن الممر الخلفي حزمة من أنوار لمصابيح كاشفة وجهت أنوارها نحو المنضدة، وأضيء المكان بعد أن جاء ضوء ساطع لمصباح يدوي كبير من الباب الداخلي المجاور لطاولة الاستقبال، فكشف عن المكان برمته. كانت هناك منضدة الاستعلامات يقف جوارها كارل ماركس بلحيته وشعره المنفوش وهو يمسك بقوة أحد طرفيها وينظر نحو الأرض القريبة من قدميه. على الأرض تمدد جسد رجل في الستينات من عمره يرتدي دشداشة بيضاء كالحة وكوفية مرقطة تلتف حول رقبته ، ينسدح بجسده الضامر الطويل على الأرض، ضاغط بيديه على رأسه ويصدر عنه شخير مسموع.
ـ يمعود أبو شمخي كلشي ماكو.. هذا خطار رفيقنا جبار .. أبو شمخي هذا مو حرامي .. أبو شمخي كول غيره خويه ... ما تصحه .. ياوسفه.. أي والله يا وسفه على الزلم.. أبو شمخي.
لم يحرك أبو شمخي ساكنا وبقي مسمرا ممدا دون أن تنم عنه حركة أو يصدر عنه صوت سوى شخير خفيف.
ـ يمعودين دخيل الله شويه ماي.. صرخ أحدهم
تناول الرجل الجالس جوار أبو شمخي قنينة الماء وسكب بعض منها بيده ثم مسح به وجه أبو شمخي، كرر العملية عدة مرات فوق الرأس وعند الرقبة وعلى الوجه، فلم تنم عن أبو شمخي حركة تعطي الانطباع بصحوته، أستمر الوضع لأكثر من نصف ساعة دون حركة من أبو شمخي عندها قرر الرجل المسعف وطلب من الموجودين استدعاء سيارة إسعاف لنقل أبو شمخي إلى المستشفى .
ــ يمعود تره أولا منع تجول، بعدين كلمن يكلك سايق إسعاف يطلع بهيج وكت كله جذاب.
ــ أي هسه أنحاول.
ــ شتحاول ... أكو سايق إسعاف شارب نفط بهذا الليل.. الجيش لو الشرطة من خوفهم راح يشبعونه كتل .. وليش أكو واحد بشعبة الإسعاف راح يسمعلك ... خوش عليك إسعاف..
ــ خوش لعد خابرو رفيق جبار ..
ــ أي خوش فكره .
ــ أي والله ما يحله غير رفيق جبار
كان كارل ماركس مازال مسمرا مكانه يرقب الوضع ويشعر بقوة هائلة لتأنيب الضمير تكتسح كيانه، فربما تسبب بموت هذا الرجل في هذه الليلة المنحوسة، وهذا ما لا يغتفر عنده. وراح في حالة تأنيب ضمير وكيف سمح لنفسه بهذا الفعل الهازل. كان يطالع الوجوه التي يعتري بعضها الاصفرار ويغطي عيونها النعاس، وهي تجد نفسها مجبرة تنتظر نتائج الحدث، والبعض منها لم يرفع عينيه عن ماركس وكأنهم يوجهون له نظرات لوم وتقريع، شعر ماركس معها بقوة ضغط تكتسح كيانه وتدفعه للغثيان.
ــ ألو رفيق جبار .. أسف رفيق أسف كعدتك من النوم .. رفيق عدنه مشكله .. رفيق ما تتحمل للصبح .. رفيق والله أبو شمخي .. رفيق ما يتحمل للصبح ...الخاطر الله رفيق .. بغيبوبه مدى يصحه... شلون أذا مات ... أي مو توكع براس خطارك أبو لحية وكفشة أذا مات أبو شمخي.. رفيق .. يمعود رفيق..
سده للتلفون.. يكول نيموه بغرفة من غرف الفندق للصبح وبعدهه خابرو إسعاف.
تقدم ماركس من جسد أبو شمخي وأخذ يده اليسرى وراح يفرك الكف المتيبسة ثم مسد بشيء من القوة جبين أبو شمخي وصدغيه ووضع قطرات خفيفة من الماء فوق شفتيه فندت تنهيدة قوية عنه ثم شخرة ثم حسرة بعدها فتح عينيه وأغلقهما ثم فتحهما ثم صاح بصوت خافت متقطع بويه شمخي بويه جويسم وينكم.. ضجت القاعة بالتكبير وردد الجميع بصوت واحد..
علي وياك علي ... علي وياك علي.. علي وياك علي .. ثم صاح أحدهم بصوت جهوري شق به عنان سماء القاعة.
ها خوتي ها
النجم يفگد نشعته لو يغيب سهيل
ولو غاب الگمر موحش يصير الليل
وفگد الزين أبو شمخي مو هين يهد الحيل
ها وفگدك ... ها وفگدك
حز بينا.. وهاي الماتتسوه
وأخذ الجمع بترديد ( وهاي الماتتسوة و وفگدك حز بينا) والدوران والردح قرب جسد أبو شمخي الممدد، وكانت أنوار المصابيح اليدوية تلتمع وتومض في سقف القاعة مع هرولة ودوران الرجال. حاول كارل ماركس إسناد جسد أبو شمخي محاولا مساعدته للنهوض من رقدته، فدفع أبو شمخي يد كارل ماركس، ونهض دون مساعدته، وكان ينظر لماركس شزرا، فتأثر ماركس كثيرا من هذا الإعراض والغضب، فقدم اعتذاره لأبي شمخي وأمسك يده شادا عليها. ولكن أبو شمخي كان في حالة من الكدر والبغض لا يحتمل معها النظر في وجه ماركس أو تقبل اعتذاره، لذا سحب يده بحدة ظاهرة زادت من شعور ماركس بالذنب.
طالع ماركس جوقة الرجال وهم في مرحهم وضحكهم، وكأنهم يعوضون عن زمن طويل من حزن يلف أجسادهم وأرواحهم، والساعة الآن تضيئها المصابيح اليدوية فتجد الوجوه المتعبة فرصتها لسرقة فرح طفولي لم يكن ليخطر على بال، فرح بعد خوف وحزن ينبثق من وسط الظلمة، هكذا هي ساعات يومهم تمضي بين جنونين وكل شيء لا يقبل أن يكون طبيعيا.
هدأ الرجال وتفرقوا وعاد أبو شمخي إلى مكانه خلف منضدة الاستعلامات ولم يعد يظهر من جسده سوى رأسه المدور الصغير المتلفع بكوفيته، وكان قد وضع أمامه شمعة صغيرة بدا ضوئها المرتج ينير وجهه الأسمر وتظهر على جبينه تقطيبه عبوسه. حاول كارل ماركس التقرب من المنضدة واستدراج أبو شمخي إلى الحديث، لتسنح له فرصة تجديد اعتذاره، ولكن لم تكن محاولته لتجدي نفعا مع أبو شمخي، فاستدار وذهب نحو قاعة الانتظار حيث انتبذ ركنا قصيا، وراح يحدق في الظلام الذي لف الشارع خلف زجاج النافذة المغبر.
ــ أستاذ .. أستاذ ماركس .. هاي شنو أشو رايح بسابع نومه.. وليش مو بغرفتك.
أستيقظ كارل ماركس على صوت رفيق جبار وهدهدة يده. فتح عينيه وجال بهما المكان، وتذكر ليلة البارحة فتوقف عند وجه أبو شمخي الذي راح بدوره يمسح سطح المنضدة بقطعة قماش دون أن يرفع عينيه. جلس الرفيق جبار جوار ماركس وراحا بحديث يبدو هازلا. كان ماركس يشرح لجبار بشيء من الأريحية الظاهرة ما حدث ليلة البارحة، فكان الرفيق جبار يطلق بين فينة وأخرى ضحكة مجلجلة تجبر أبو شمخي على النظر نحوهم وعلامات الغضب بادية عليه، ثم يعود لقطعة القماش يضغط عليها بقوة ويمررها فوق الخشب بعصبية ،ومع تكرار ضحكات الرفيق جبار لم يعد أبو شمخي يحتمل الآمر فقال بصوت قوي وواضح.
ــ وروح أبوك رفيق جبار .. لوما انته توكف بعيني ذيج الساعة، جان أنه خاش بخطيته، وراصه بوحده حاره رص بين عيونه، وحده مو أثنين من أم التلاثين.
ــ أفه عليك أبو شمخي .. غير تنكَلب علينه الدنيا، الأحزاب الشيوعية وتفرعاتها ومنظمات المجتمع المدني ونقابات العمال، حتى تنظيمات حرب العصابات ابوركينا فاسو وسوك الشيوخ وخليج عدن وملاوي وكمبوديا والنمور الحمر والصفر والصقر الجارح والهواء البارح.
ــ رفيق جبار هم دخلته بزواغير ما أدري شني من شني.. خلف الله عليك .. جان البارحة أتيتمو العيال على أيد صاحبك، وأنت هسه تضحك ويه هذا الكافر أبو كفشه.
****
أستغرق طريق الخروج من العاصمة بغداد ما يقارب الساعة والنصف لشدة الزحام في الشوارع وإغلاق بعضها إثر انفجارات دوت أصوتها وترافقت مع أذان الفجر. الهواء مترب خارج السيارة، ومدى الرؤية جراء الغبار لا يتجاوز العشرة أمتار. جهاز التكييف في سيارة اللازكس يبعث بصمت هواء منعشا، وثمة رائحة عطر نسائي ينساب مع الهواء البارد ليبعث في النفس شيء من البهجة والراحة. راح الرفيق جبار يعبث بمفتاح المذياع دون التوقف عند محطة بعينها.أنتبه كارل ماركس لهذا الآمر فبادر بالسؤال.
ــ هل هناك أخبار مهمة تبحث عنها.
ــ نعم رفيق .. كل شيء في العراق مهم، وفي كل يوم مئات الأخبار الجديدة، أغلبها يبعث الأسى والحزن وبعض أخر نجد فيه شيئا من أمل .. ولكن الخوف والألم هما سيدا الموقف.
اقتربت فتاة صغيرة رثة الثياب متسخة الوجه من زجاج النافذة القريبة من كارل ماركس ولوحت له بعلبة مناديل ورقية. كان وجهها الطفولي الكسير وأصابعها الصغيرة يرسلان له إشارة استعطاف وتوسل، طالبة منه فتح زجاج النافذة لابتياع بضاعتها، ألحت وهي تسير مع حركة سير السيارة البطيء. نظر ماركس إلى وجهها الطفولي فأعتصر قلبه الألم،وراح يعبث بجيب بنطاله محاولا أخراج النقود. حاول فتح النافذة حين وجد الرفيق جبار يميل بجسده ويمسك يده راجيا منه عدم فتح النافذة.
ـــ رفيق من تفتح النافذة سوف يدخل الغبار ويملأ حوض السيارة ويتلف لنا الجو والمقاعد.. هذه وغيرها الآلاف سوف تشاهدهم في كل مكان، وإذا أردت شراء بضاعتهم فتحتاج إلى خزينة دولة لتسدد أثمانها. دعها لي ولا تشغل بالك بها.
ــ ولكن هذه طفلة والفقر يدفعها للمجازفة بحياتها بين العجلات وعلى أهلها الاعتناء بها، وعليها أن تكون في المدرسة الآن.
ــ أعرف ذلك وهناك مثلها الآلاف .. أصبحنا ثالث بلد في العالم بنسب الفقر والفقراء.. رفيق دعنا من ذلك الآن .. هل تعرف إلى أين نتوجه.
ــ أخبرتني البارحة بأننا سوف نسافر إلى مدينة الناصرية .
ــ في البداية لي أقارب في مدينة النجف نزورهم ونتناول الغداء عندهم ثم نكمل طريقنا نحو مدينة الناصرية. بالمناسبة هل ترغب بزيارة الزقورة وأثار سومر ومقام النبي إبراهيم.
ــ أود ذلك ولكن دع مقام إبراهيم ليوم أخر.
راحت السيارة تلهب الأرض متجهة صوب مدينة النجف ومنظر بساتين النخيل على جانبي الشارع يجعل الطريق مثل غابة لا نهاية لها، ولكن منظر غابات النخيل لن يستمر طويلا، فتظهر أراض مهملة قاحلة جرداء وأنهر وسواق جافة، وهياكل بيوت خربة وأكواخ طينية تجاور بنايات لمؤسسات تبدو من هيكلها أنها كانت شركات أو مصانع أو دوائر حكومية.
كل ما اقتربت السيارة من المدن كانت الشوارع خارجها مكتظة بالبشر السائرة على الأقدام. بشر كثر يحملون رايات وأعلام ملونة، صغار وكبار،البعض منهم حفاة، والنساء تتلفع بعباءاتها السوداء، وأقدامها تلهب الأرض، تغذّ السير في هذا الفضاء المغبر ودرجات الحرارة غير المعقولة. تساءل كارل ماركس عن هذه الحشود من الناس وهي تسير تحت لهب الشمس الحارقة، وإلى أي غاية يتوجهون. كان ينظر إلى جهتي الشارع بالتناوب ويود الحصول على إجابة تقمع فضوله الذي تصاعد مع منظر الناس وكثرتهم.
ــ رفيق جبار ما هؤلاء الناس وإلى أين هم ذاهبون؟.
ــ هذه يارفيقي العزيز شعيرة من شعائر الطائفة الشيعية .. أنت لديك معلومة عن الطائفة الشيعية أليس كذلك؟
ــ نعم .. نعم .
ــ هؤلاء يذهبون مشيا على الأقدام للوصول إلى مدينة كربلاء حيث قبر الحسين وهو أحد الأئمة من أبناء نبيهم محمد، وهذه الحشود تتوجه مشيا على الأقدام نحو قبره تبركا، وفي الوقت نفسه اعتقادا بالوصول أليه ونصرته، وأيضا يظنون أنهم يفعلون هذا تكفيرا عن مشاعر ذنب يحملونها ويتوارثونها جيلا عن جيل وبالذات الفقراء منهم، أما أغنياؤهم ومشايخهم فهم أسياد الموقف وهم المنتفع الأول من كل تلك المشاعر والشعائر، ويوظفونها لكسب الأرباح المادية والمعنوية.
ــ هذا ما قلناه في الكثير من مجالات بحوثنا وكتاباتنا، وما يفعله المنتفعون من الدين بتخدير البشر بنصوصه لتطويعهم وإفقارهم..
ــ رفيق ماركس أعتقد أنك والعزيز فردريك أنجلز بحاجة لأكثر من سنة، تعيشون في المدن المقدسة أن كان في العراق أو في السعودية وبلدان الإسلام الأخرى لتخرجا بحصيلة غنية عن الشاطي باطي الذي يملخ هذه الشعوب.
ــ رفيق ما هذا الشاطي باطي .. أفصح لي عنه!.
ــ الشاطي باطي رفيق لن ينفع معه حديث ساعة ونحن في طريق سفر .. الشاطي باطي .. رفيق هو كلشي وكلاشي صار ويصير بينه .. طراكيع مال الله وأعباده.
ــ رفيق جبار ليس الوقت وقت مزاح أو أحجيات وحزورات وتوريات.. حدثني أولا عن الشاطي باطي بعدين هاي طراكيع ماذا تعني أيضا.. عزيزي ربما معلومة جديدة أستطيع تضمينها كتابي الذي سوف يصدر عن الهوية القومية للدين.
تلك اللحظة ظهرت في الأفق القريب نقطة سيطرة عسكرية، فخفف جبار السرعة وقال لماركس بأن علية أن لا يحدث أحد من العساكر في نقطة التفتيش، فقط ترك الآمر له وهو من يتكفل بكل شيء، فوافق الرفيق كارل ماركس دون تمحيص أو اعتراض أو حتى الاستفسار عن الأسباب.
ــ رفيق ماركس هل لديك قطعة نقود بعشرين دولار؟ أنا أملك فقط نقود عراقية.
ــ نعم رفيق جبار يوجد عندي.
ــ رفيق ضع بيدك ورقة العشرين دولار، وحاول أن تبدو وأنت تقلبها بين أصابعك، على أن تظهر قيمتها جيدا.
ــ ولماذا أفعل هذا ؟
ــ ليس وقت أسئلة، وعليك أن تفعل ما أقول لنتجاوز هذه السيطرة وأسئلتهم واستفساراتهم، فربما أوقفونا لساعات بحجة وجودك معي كأجنبي، وسبب سفرك باتجاه الجنوب، وما الغرض منه،وإلى أي منطقة، ومن تعرف هناك، ومتى تعود، ولديهم هناك وفرة من الأسئلة لا طائل لها، وفي النهاية سوف يرتضون بما نمنحه لهم ويفرجون عنا، أما المحاولة التي أطلبها منك فأنها تختصر كل ذلك.. أعرفت ذلك رفيقي العزيز.
ــ كلا .. سوف أحاول ذلك، وعليك بعد عبورنا شرح ما تفضلت به الآن.
ــ أوكي رفيق.. سوف تتعرف على ذلك دون شرح مني.
توقفت السيارة جوار نقطة التفتيش، تقدم رجل طويل القامة ببزة عسكرية مجعدة وجاور السيارة عن قرب، ثم سار من أمامها حتى نهايتها. كان يمسك بيده اليمنى جهاز الكشاف الأسود بمجسه المدبب، ثم عاد وتوقف جوار نافذة الرفيق جبار.
ــ هل لديكم ممنوعات ؟.
ــ هاي شنو أحنه شكول ممنوعات الله يحفظك.
ــ سلاح أو قناني عطر .
ــ قناني عطر نعم بس سلاح لا .. منحتاجه بوجودكم الله يحفظكم.
جلبت حركة يدي ماركس مع ورقة النقود انتباه العسكري، فقرب جسده من النافذة وأدخل جزء من وجهه ليمعن النظر جيدا بما كان ماركس يضعه بين يديه.
ــ الأخ من الكاكية اليضربون درباشه ؟.
ــ لا هذا صديق من السادة آل مسيعيده، يومهم كله يقضونه بالصلاة والصوم.
ــ أها خوش وهاي شنو بيده ؟
ــ هاي ورقة دولارات.
ــ أي أعرفه بس جم دولار؟
ــ عشرون دولار وبس هاي عنده، وطول الطريق يلعب بيه..ممصدك .
ــ أخاف مزورة.؟
ــ بعدنه ما وصلنه للنجف حتى نزوره بالحضرة.
ــ ههها ههها .. كون أكدر أشوفه ..خاف مزورة .
مد جبار يده وسحب ورقة العشرين دولار من بين أصابع كارل ماركس ودسها بيد العسكري الذي بدوره أسرع وأخفاها في جيب بنطاله قائلا.
ــ عمي عساها أبختكم وأبو الحسنين يأخذ حوبتي وحوبة جهالي منكم، أذا طلعت مزورة.
ــ عزيزي أخذ رقم سيارتي ومن تطلع الورقة مزورة تكدر أتدور علينا وشتريد سوي بينه.
ــ الله وياكم طريق النجف على اليسره.. مودعين.
اقتربت السيارة من مدخل مدينة النجف الشمالي وتوقفت قرب حاجز سيطرة عسكرية كبير. فتشت بذات الجهاز الكشاف الذي يشبه المسدس بمجسه المدبب الذي راح يهتز مثل ذنب كلب. أقترب الجندي من النافذة وطلب أوراق جبار والرفيق ماركس الثبوتية. شعر جبار بالحرج فأوراق ماركس سوف تسبب لهما استفساروحوار طويل وإشكال لن يحل بسهولة، وخذ وهات لوقت طويل مع هؤلاء، وهذه السيطرة لا ينفع مع رجالها أي نوع من النقود، فهناك مفتش عام يقف ليس بعيدا يرقب ما يحدث بين الركاب وجنوده وكاميرات ترقب محيط ووسط السيطرة، وأيضا هناك دوريات تتعقبهم، فبوابة النجف تعني الكثير للحكومة المركزية والمحلية واختراقها يعني كارثة إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة وقطع للأرزاق وأضرار بالغة بالسياحة الدينية وانخفاض عوائد وواردات مجلس المحافظة وفوق كل هذا وذاك استخفاف بقدرة الحكومة على ضبط الأمن حتى في مناطق نفوذها.
ــ نقيب أبو زينب موجود.
ــ أي موجود .. شنو تريد منه؟
ــ كرايبي أريد أسلم عليه ..
ــ أي أطيني هوياتكم وبعدين أصيحلك نقيب أبو زينب.
ــ هسه قابل أحنه متهمين لو هاربين.. مو دا أكلك أبو زينب كرايبي .راح أطبك على صفحة وأنزل أحجي وياه.
ــ خوش عمي .. اذا أبو زينب كرايبك .. جا بويه أنه راح أندهر .. أتفضل أطبك على صفحة وطفي.
أوقف جبار سيارته جانبا وترجل منها، تاركا الرفيق ماركس جالسا فيها، يرقب بعينين قلقتين ما يدور حوله. عاد الرفيق جبار ومعه نقيب الشرطة أبو زينب وكان الأخير أنيقا ببدلة منشاة، حاسر الرأس وعلى كتفيه نجوم مطرزة بيضاء. كان مسرعا نحو السيارة، فتح بابها وراح في ترحاب حار للرفيق ماركس .
ــ أهلا بالرفيق العزيز .. أهلا بكاشف مستقبل البشرية، أهلا برب البنيوية والعقلانية والمادية والتاريخانية، يا أب البروليتاريا الثورية وهاديها لغدها الأفضل.
أصبح وجه كارل ماركس قرمزيا وهو يستمع لهذا المديح غير المتوقع من أحد عساكر الشرطة العراقية وبرتبة نقيب. فتبادل والرفيق جبار النظرات، شعر عندها جبار بالحرج الذي أصاب ماركس، فبادر وحسم الموضوعة بتدخل لبق.
ــ رفيقنا العزيز ماركس،أقدم لك رفيقنا الطيب أبو زينب، سبق أن كان محبا للشيوعية على عهد الدكتاتورية، وكان برتبة عريف بالجيش، أعتقل ثم طرد من وظيفته بتهمة الشيوعية، وبعد سقوط الفاشية البعثية أعيد إلى الجيش بعد الدمج وبرتبة ملازم ثان، واليوم هو نقيب ويحسب على جماعتنا، وهو ثوري تستطيع أن تضعه على يمينك عند الشدائد مثلما يقول المثل.
أبتسم الرفيق كارل ماركس ابتسامة عريضة ومد يده نحو أبو زينب مصافحا وقائلا.
ــ أهلا وسهلا بالرفيق العزيز أبو زينب.
تهلل وجهه أبو زينب فرحا وصرخ وهو يقفز جوار نافذة الرفيق ماركس.
ــ الله أكبر اليوم أصبحت شيوعيا حقيقيا .. اليوم ولدت من جديد، لقد صافحت أبو الشيوعية وهو أعترف بوجودي وإنسانيتي، وأبعد عني جميع تهم المغرضين والحاقدين. رفيق جبار لن أنسى لكم هذا الجميل ما حييت، بارك الله وجدي أبو الحسنين هذه الساعة. التقيكم في بيت عمي أبو زامل بحي الزهراء اليوم العصر مو هيج، لوما بعد ساعة عندي دورية تفتيش، جان أجيت وياكم أتبارك برفيقنا ماركس.
ــ رفيق أبو زينب تره أحنه ماراح نتأخر بالنجف بس نزور عمي أبو زامل ونتغده عنده ونشلع للناصرية ما أريد أوصل ليغاد بالليل.
ــ وسفه رفيق جبار مراح نلتقي بالرفيق .. مو خوش حسبه.
ــ بالرجعه راح أمر عليكم، وتسويلنه كعده مضبوطه تره عمك ماركس خلي على يمناك، دن ما ينترس عبه.
ــ يمعود بس تعالو.. بس تعالوا.. وفرحو روحي العذبتني تريدكم ..بس تعالو ... لو أجيتو كل عزيز بعمري أطشنه فدى لعيونكم ... بس تعالوا .
كان أبو زينب فرحا مثل طفل، لم يصدق بعد أنه التقى ماركس وصافح يده، فأصابته نشوة غريبة أفرغها حين راح يقبل الرفيق جبار ويضمه إلى صدره. ثم فتح له باب السيارة وقبله قبلة أخيره ..
ــ رفيق جبار الله عليك تره أنتظركم .
ـ أوعدك رفيق أبو زينب.
ارتفعت السيارة نحو الشارع الإسفلتي بعد أن كانت عند الجانب الترابي واستدار بها الرفيق جبار نحو الطريق الخارجي، متوجها إلى وسط المدينة ثم حي الزهراء وبيت العم أبو زامل. أخبر الرفيق جبار رفيقه ماركس بأنه سوف يخبر العم أبو زامل بأن ماركس موفد من الأمم المتحدة كعالم أثار، وبدوره فإن عليه أن لا يطيل أو يتعمق بالحديث، حين يحاول أبو زامل إثارة أي نقاش، فأبو زامل من النوع الفضولي وسوف يمطرهم بأسئلة لا نهاية لها، وأن عرف من أي بلد قدم ماركس فسوف يستعرض قدراته ومعارفه عن العلاقة مع الانكليز والألمان منذ مجيء فيصل الأول كملك على العراق حتى يومنا هذا.
استقبلهم العم أبو زامل والدهشة ظاهرة على قسمات وجهه المجعد. كان رجلا ممشوق القوام ووجه ميال إلى الحمرة رغم علائم الشيخوخة، ويبدو الوقار ظاهر عليه. يرتدي العقال والكوفية المرقطة. يلتف على خصره حزام جلدي عريض يضغط على طرفي الزبون الحني البراق.
ــ هله عمي جبار شلون الأهل، شنو هل غيبة ، وعدتنه على العيد الفات أشو ماجيت.
ــ والله عمي مشاغل، بس كون عله ثقة أني ما ناسي موعدي وأفكر دائما أجي أشوفك، واليوم أني كنت متوجه للناصرية بشغل ضروري، بس لكيته فرصة وكلت خلي أشوف عمي أبو زامل.
ــ يا أهلا وسهلا ومرحبة بيك وبصديقك .أم زامل خلي البنات يفرشن بغرفة الخطار، اليوم جبار أبن أخويه يبات يمنه وياه صديقه.
ــ عمي والله أنا جيت بس أشوفكم وأروح.. مكلف بشغله مهمة بالناصرية ولازم أوصله قبل ما يصير المسا.
ــ هاي صايره دايره .
ــ والعباس لوما شغلتي جان بتت يمكم، وصاحبي هذا لازم يكون بالناصرية اليوم قبل باجر.
أقترب العم أبو زامل من الرفيق جبار وبصوت هامس حدثه.
ــ أكلك بويه هذا منيلك.. أشو مو شكول عراقيي ، يصير من غير ديرتنه.
ــ لا عمي هذا مو عراقي، ويدكش بالحجي أدكش، وشويه يفتهم بالعربي ويتكلم بس انكليزي.
ــ جا اشعده بالناصرية ؟ .
ــ مكلف من الأمم المتحدة يروح يشوف الآثار .
ــ ليش ما يكدر يروح باجر.. شنو متوازي.
ــ عمي هذوله عندهم الشغل يعني شغل مو بشكلنه تمسلت.
ــ أي والله عمي.. أم زامل صبينه الغده الزلم ما ناويه تبقه هواي .
جلس الجميع القرفصاء على سجادة غطت أرض الغرفة، أبو زامل وثلاثة من أبناءه وجبار. لم يملك الرفيق ماركس القدرة على تقليد جلستهم، فأثنى قدم ووضع الأخرى تحت عجيزته. كانت أنظار أبناء أبو زامل تتوجه نحو ماركس، وراحوا يتبادلون الإشارات عن هيئته، أحدهم يغمض عينيه ويسدل يده عند فكه مشيرا إلى لحية ماركس، والأخر يشير بيديه لتهدل الشعر، ولم تهدأ تلك الحركات والإشارات لحين صرخ بهم أبو زامل.
ــ شنو سالفتكم .. شواذي..خوب مو شواذي.. ما تكعدون راحة وتتزقنبون.
لم يأكل الرفيق ماركس غير الشيء اليسير جدا، وكان يجد صعوبة حتى في ذلك. كان أبو زامل يدفع لماركس بقطع صغيرة من السمك، ويضعها في صحن الطعام الذي أمامه. كان ماركس يركز نظره نحو يد أبو زامل وهي تعبث بجسد السمكة وباقي صحون الطعام، ليقوم بتوزيع ما يريد على الجميع، ثم يأخذ بمص أصابعه بصوت مسموع. شعر ماركس بثقل يعتصر صدره وشيء من الغثيان ووجع حاد في معدته. شيء يندفع من أسفل معدته إلى أعلى ثم يرتد، شعر برغبة في التقيؤ فطلب همسا من جبار الذهاب إلى المرافق الصحية، فأرشده جبار على مكانها. واجهته هناك مسالة عصية على الحل، فتوقف قرب الباب ناظر إلى الفتحة التي تتوسط مستطيل مقعر قليلا. لم يفقه الرفيق ماركس كيف يمارس الاستفراغ في مثل هذا الوضع، فشعر بفورة من شيء حامضي تصاعد نحو حنجرته، عندها دفع ماركس رأسه نحو الأمام وأفرغ معدته من كل ما تناوله منذ الصباح حتى الآن.
تناول حديث الطريق بين الرفيقين وهما يتوجهان إلى محافظة الناصرية،مدينة النجف وقبابها الذهبية والسياحة فيها. وأبتعد ماركس عن التطرق لما كان عليه حاله أثناء وجبة الغداء في بيت أبو زامل. بدوره استطاب الرفيق جبار الحديث فراح يشرح لماركس ما يعرفه عن مدينة النجف، تأريخها وحواريها وأزقتها وقبائلها، ثم عرج ليشرح لماركس بشكل مسهب حكاية الحكام الفعليين للمدينة اليوم، وكيف تدر السياحة الدينية مبالغ مهولة على خزينة المحافظة، وأيضا هناك أموال الزكاة وغيرها، لكن بقيت المدينة حالها حال باقي المدن الدينية في العراق دون عناية واهتمام، ينتشر فيها الجوع وتعتمر أزقتها النفايات، وخراب البنى التحتية ظاهرة عامة، وانعدام الخدمات الصحية وغيرها، وقادة الحكم فيها يمعنون في الاستحواذ على الأموال ويشعلون الصراع السياسي والشخصي بينهم للتمويه عن السرقات. ثم وبنوع من الفخر تحدث الرفيق جبار عن الأمام علي بن أبي طالب، مسميا إياه أب الفقراء والاشتراكي الأول، معددا مناقبه ومستعرضا بعض أقواله. كان الرفيق ماركس صامتا ساكنا ساهما، وكأنه في حومة من تجلي تاركا للرفيق جبار ما يلذ له من حديث لحين اقترابهم من المدينة التي ظهرت معالمها عن بعد.
ــ سوف نصل مدينة الناصرية .. أنا أطلت بحديثي وربما ولد ذلك لديك بعض الضجر.
ــ لا قطعا كان حديثا شيقا. سوف أحتفظ من خلاله ببعض الملاحظات أقدمها لك وعليك أن تجيبني عنها لاحقا.
ــ جيد رفيقي العزيز.
خفض الرفيق جبار سرعة السيارة وأخرج هاتفه الجوال وضغط على بعض أرقام، ثم جاء الصوت من بعيد.
ــ نعم رفيق جبار ..هله وميت هله... هاي أنته وين...
ــ أني ورفيق ماركس قريبا سوف نصل الناصرية .. أعتقد ما يحتاج تجي ويه الرفاق حتى تتلكونه.
ــ بكيفك رفيق.. السيطرة راح يطلبون منك كفيل من المدينة.
ــ هاي شنو.. شغله جديده.. ليش شنو الناصرية صارت أقليم؟
ــ هاي بلاتيق مجلس المحافظة .. يقولون حفاظا على أمن المدينة.
ــ على أي حال راح أدبره وإذا ما دبرت، اتصل بيك تجي تتكفلنه.. بالمناسبة حجزت قاعة للقاء باجر؟.
ــ نعم رفيق كلشي جاهز .. فدوه لقلبك سلملي على رفيقنا كارل ماركس وكله الشباب على لهفة للقائكم.
ــ صار رفيق.. وهوه هم يسلم.. أوكي حبيبي أبو الشباب إلى اللقاء.
f_almohsen@hotmail.com


147

حوار حول منتدى الحوار الثقافي في ستوكهولم

بتاريخ 25 / سبتمبر استضافت الجمعية المندائية في ستوكهولم مشكورة، الحوارية الأولى لمنتدى الحوار الثقافي. حضر اللقاء مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي، حيث دار حوار حول الورقة التي قدمت لتعريف الغاية من تأسيس المنتدى، وبعد كلمات قليلة تعريفية قدمها أصحاب الدعوة، وهم المجموعة المبادرة في طرح المشروع، دار حوار مفتوح أثيرت فيه العديد من الأسئلة والطروحات، صبت اغلبها في محاولة لإجلاء ما هو عسير في علاقة منتدى الحوار مع باقي الفعاليات الثقافية العراقية أو غير العراقية وأيضا الرابط الجوهري بين السياسي والعلمي والتاريخي والأدبي، وصولا لتحديد اتجاهات الحوارات المستقبلية للمنتدى وهل أن المصطلح أو التسمية تتواءم وواقع النشأة والمرتجى منه.
الشغف والمقاربة والانتقاء ومحاولة بناء الهيكل لمعنى الثقافة ومن ثم مجريات وطبيعة الحوار الذي كان على المنتدى أن يبلغه كغاية مرجوة وعلى المدى البعيد. كل هذا أعطى الكثير من الانطباع عن الفهم الصائب لمحتوى الورقة التي قدمت، وأظهر شغف الحضور واهتمامهم في تشكيل هذا المنتدى، واستعدادهم لرعايته مشاركة ودعما، متحملين مسؤولية تبنيهم لمنتدى الحوار . وانطوت الآراء في هذا المجال على مواضيع كثيرة أثير فيها نقاش حيوي، شفاف وواقعي، دون اشتراطات أو تقاطعات مسبقة .وتركزت مجمل النقاشات والملاحظات حول جوهر الثقافة والسعي لبلورة الحوار فيها ومن ثم منهجية عمل المنتدى. ولذا بادر العديد من الحضور في طرح استفساراتهم المقترنة بالرغبة في صيغ بذاتها ومسالك تراتيبية يرتجونها وعلى المنتدى أن يقاربها أو يتخذها منهجا في مسعاه لتطوير الحوار في عموم المعرفة. واسهم الحضور في بلورة أفكار في مجملها تدعم الغاية من تأسيس منتدى الحوار. وكانت أيضا بحيويتها بؤرة لتجليات مستقبلية يمكن من خلالها إنعاش أجواء لحوارات تكتسب تماسكا أساسيا في التطوير والنهوض بالمشروع الثقافي المعرفي الذي يرجى له أن يلاقي صدا كبيرا لدى أبناء جاليتنا في مدينة ستوكهولم وضواحيها وربما خارجها.
الكثير من الآراء ركزت حول علاقة منتدى الحوار الثقافي بالجمعيات والاتحادات العراقية وكان هناك اتفاق عام بأن لا تكون هناك تحفظات أو موانع تجاه مثل تلك العلاقات، ولن تكون لنا أراء مسبقة حول أي من تلك التنظيمات والتجمعات أن كانت بطبيعتها ثقافية أو مهنية وبعيدا عن صيغ التكتل والشخصنة. على أن ينفرد المنتدى بشخصية معنوية تركز على طبيعة توجهاته الثقافية المعرفية دون ارتباطات مهنية أو أيدلوجية. وفي هذا المجال اتفق غالبية الحضور على حيادية المنتدى في جميع الخلافات تحديدا( المهنية والسياسية والشخصية منها)على الساحة السويدية إن وجدت. وأكد الحضور أيضا على البعد المعرفي الثقافي للمنتدى بعيدا عن تأطيره على شاكلة جمعية أو تنظيم،مع ضرورة الوصول إلى لقاءات موسعة يستدعى لها عموم المهتمين بالشأن الثقافي وخاصة الشباب منهم،وأكد الحضور على ضرورة وجود منسق للفعاليات ومسؤول عن المالية،كشكل ضروري وأولي للهيكلة، وفي هذا الشأن اختير لهذه المهمة منسق للمراسلات والحوارات يقوم بترتيب العلاقة ما بين المهتمين والمشاركين في هذا الشأن،وكذلك أمين مالي توضع عنده مبالغ التبرعات للتسيير الذاتي دون طلب معونة مالية من جهات أو هيئات رسمية أو اعتبارية، وقد قدم بعض الزملاء تبرعا أوليا للمنتدى بلغ 2500    كرون سويدي. وفي ذات الشأن قدم مقترح لوضع صندوق للتبرعات النقدية الكيفية أثناء الحوارات. وأكد البعض على ضرورة الإعلام من خلال استخدام المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي وكذلك الصحف للنشر والدعاية لمنتدى الحوار الثقافي وفعالياته واستغلال العلاقات المهنية والشخصية للحصول على أماكن مجانية للقيام بالفعاليات الحوارية وبالذات التوجه إلى المكتبات العامة وقاعات المنظمات الثقافية السويدية.
أتفق الجميع في رؤيتهم لتفاعل منتدى الحوار الثقافي مع الطروحات السياسية وعلاقته بهذا الأمر، على إن المنتدى ورغم عنوانه التعريفي فهو في حواراته لا يمكن أن يفصل بين الثقافي الأدبي والعلمي والتاريخي من جانب والمفاهيم السياسية من جانب أخر،والتي ممكن لها التوحد في هاجس المعرفة والعلوم في مشاريع الحوارات التي يقدمها المنتدى. وهذا ما أكد رغبة الحضور بجعل الحوارات مفتوحة تعتمد صيغ تقترحها عموم الشخصيات المشاركة في المنتدى، كمشاريع لحوارات ثقافية مستقبلية. وفي هذا الآمر أتفق الجميع على قيام الراغب في تقديم حواره المعرفي ملخصا أوليا عن الموضوعة المقترحة، لتعمم على الجميع ويتم بعدها مناقشتها في حوار قادم،كنص مفتوح ومتاح للجميع لمقاربة المنجز بروح التقييم واكتشاف معاييره المعرفية لنصل سوية لمكنونه الإبداعي والهوية الأدبية أو البحثية العلمية للمعلومة التي يقدمها الشخص.
ودار الحديث عن أمكانية عدم حصر الحوارات في جوانب الانجاز والإبداع العراقي وإنما التواصل المعرفي مع المنجزات الثقافية والعلمية للشعب السويدي وباقي شعوب العالم. وقدم آخرون رؤيتهم حول ضرورة تعريف منتدى الحوار الثقافي بهويته الوطنية وجعل عنوانه ( منتدى الحوار الثقافي العراقي ).
وأعلن عن حوارية تقام يوم 23 أكتوبر المقبل يعلن عن ساعتها ومكانها لاحقا. يقدم فيها الزميلان دكتور رياض البلداوي ودكتور عقيل الناصري رؤيتهما في موضوعة مهمة وحيوية تتعلق بـ( صراع الهويات في العراق المعاصر بين التجاذب والتناحر ) وسوف يقوم منسق المنتدى بعرض خلاصة بحث الزميلين على رواد المنتدى قبل فترة زمنية ليتسنى للراغبين بإثارة الأسئلة ومناقشة الزميلين حول متن بحثيهما .
كانت أمسية حوارية حيوية بأفكار جديدة ومنظور شامل، بعيد كليا عن المعنى الضيق للثقافة. وأعلى الحوار في معظمه من شان الشغف بروح المعرفة وقيم الحوار الحضاري. وكان هناك سعي جاد لدى الجميع ليكون المنتدى قوة تضاف إلى قوى أخرى تتماثل معه في البحث الجاد عن الوقائع الثقافية المعرفية التي تشكل غذاءً روحيا، لا يمكن أن يكون بعيدا عن طابعه الإنساني التنويري، وكانت الثقافة فيه لا تكف دائما عن تقديم ما هو جميل ونبيل وأخلاقي.
 وإلى لقاء قريب قادم.



   

148

كارل ماركس في العراق الجزء الثالث
فرات المحسن

لم يكمل كارل ماركس حديثه مع سائق التاكسي حين سمع ضجة  وأصوات قادمة من الباب الأمامي لساحة عباس بن فرناس لوقوف السيارات . سبعة أشخاص بأناقة تامة رغم الحر القاتل، أحدهم يرفع راية حمراء والآخرون راحوا بموجة من تصفيق يترافق وهتاف مدوي متكرر.

ـ هله بيك هله وبجيتك هله ... هله بيك هله وبجيتك هله ...هله بيك هله  يشيخ المرجله..

راح ماركس يتلفت يمينا ويسارا وشعر بشيء من الارتباك، بعد أن تيقن بأن الأشخاص السبعة يتوجهون وأنظارهم شاخصة نحوه. لم يستطع فعل شيء سوى الوقوف والدهشة ترتسم على وجهه. وأخيرا اجبر نفسه على الابتسام، حين وجدهم يلتفون حوله يهتفون بذات النغمة المكررة، ثم قفز أحدهم وطوق عنق كارل ماركس وراح يقبل وجنتيه وهو يردد
ـ عيوني فدوه اروحلك.. ماركس ماكو غيرك ... أنت أتدلينه على الطريق.. هل بيك هله .. هل بيك هله يميل المكحلة. 
بيد قوية تمكن احدهم من سحب الرجل وفك اسر رقبة ماركس منه، صارخا بوجه الجميع.
ـ رفاق .. رجاءا مركزية ...أخوان بدون خروقات ... خلونه حسب ما متفق عليه .. لا عناق وقبل دون موافقات مسبقة .. الالتزام حرفيا بما اتفق عليه.. رفاق رجاءا.. تذكروا رفيقنا متعب.
بنظرات متوسلة من عينين ذابلتين شكر كارل ماركس الرفيق صاحب البذلة الداكنة بلونها الأرجواني الضارب للسواد. ثم بادره بالسؤال بعد أن أوحى مظهره الأنيق لماركس بأنه مسؤول المجموعة.
ـ هل الرفيق مسؤول المجموعة التي أرسلت لي طلب المجيء إلى العراق  ؟
ـ نعم رفيقنا الغالي نحن من أرسل بطلبك. وأنا لست بالمسؤول الأول .. ولكني باسم الجميع أرحب بك في أرض الرافدين .. أرض التأريخ المجيد والعنفوان، البلد الذي ظهرت فيه أول حروف الأبجدية  ومنه انطلقت العلوم والتكنولوجيا، حيث صُنعت العجلة لتنقل العالم من مرحلة إلى مرحلة مجد حضاري عتيد تليد.. أهلا بك أيها الرفيق العزيز في بلد التحديات الكبرى أرض العمال والفلاحين والكادحين صناع الفجر الأحمر.. حللت أهلا ووطأة سهلا.
اقترب أحدهم من رفيق أخر وهمس وهو يخفي بيده ابتسامة ماكرة.
ـ أسمع الرفيق سعدي.. من هسه بده يغرد ... بعدنه ما تعرفنه على الرجال كَام الرفيق يحجي جنجلوتيات .. اليوم شراح يخلصها..
ـ يمعود دعوفه ... قابل هاي أول مره تسمعه منه. أجابه الأخر هامسا.
 
لم يكملا حديثهما حين بادر أحد الرفاق بمسك كف كارل ماركس وراح في موجة ترحاب اضطر ماركس لسحب كفه بقوة وعلائم الضجر بادية عليه،فقد شعر بقوة الشد التي تسحبه دون رحمه. راح ماركس يجول بنظراته في وجوه الرفاق ثم وجه سؤاله دون تركيز على شخص محدد.
ـ يمكننا إكمال الحديث في مقر حزبكم ، أعتقد إن هذا أفضل من الوقوف هنا.
تلاقت نظرات الرفاق وظهر وكأنهم في حيرة وارتباك من السؤال الذي لم يكن متوقعا. أحدهم بادر وهو يمسح العرق من فوق رقبته بمنديل أحمر طرز علي أحد أطرافه رسم المنجل والمطرقة.
ـ رفيق لا نملك مقرا ثابتا .
ـ ولكني عرفت أنكم تملكون مقرا ثابتا.
ـ ليس نحن من عرفت عنهم.
ـ ولكن هذا ما أُخْبرت به من رفاق لي في لندن قبل مجيئي.
ـ ربما أُخْبرت عن آخرين .
ـ إذن هناك غيركم.
ـ نعم وهناك خلافات واختلافات أيدلوجية بيننا ونحن لا نود اللقاء معهم.
ـ حسنا ومتى سوف نذهب من هنا وإلى أين نتوجه.
ـ رفيق ماركس نحن بانتظار رفيق جبار وهو المسؤول عن كل شيء، بعدها نذهب إلى الفندق.
ـ وأين رفيق جبار.
ـ رفيق جبار تأخر بعض الشيء وهو في الطريق ألينا.
التف الرفاق حول كارل ماركس، أحدهم يرحب والأخر يوجه له استفسار عن لندن وكيف هي المعيشة هناك،وأحدهم سأله عن طريقة الهجرة إلى هناك، وأخر عن عدد أفراد عائلته، وأخر سأله عن صحة الأنباء التي تحدثت  عن مرض الرفيق فردريك أنكليز،وعن مشاريعهم المشتركة، أخر سأل عن طبيعة الاختلاف بين النظام الاقتصادي الانكليزي والألماني، فأجابه ماركس بأن الوقت لا يتسع لجواب مثل هذا السؤال الآن. بصوت خافت خجول بادره أحد الرفاق وهو يفرك راحتي يديه ببعضهما،بسؤال ظريف عن عدد عشيقاته وهل يفضل واحدة منهن دون الجميع. زم ماركس شفتيه ثم هز رأسه وأبتسم وهو ينظر لهذا الرفيق الصفيق. توجهت أنظار الرفاق نحو رفيقهم وبدأت كلمات التقريع والاستهجان توجه أليه من قبلهم ، وكان بعضها جارح، فابتعد الرفيق عن الجمع وهو يمسح قطرات العرق التي غطت وجهه دون أن يترك لراحتي يديه متسعا من وقت.
هبت سحابة تراب صاحبت قدوم سيارة سوداء ضخمة نوع لكزس ياباني حديث، توقفت بمحاذاة تجمع الرفاق، فاستدار الجميع وبوجوه تفيض بشاشة، راحوا يحيون صاحب السيارة بحرارة.
ـ هلو رفيق جبار .. هلو بيك ..هلو ورده .. هلو حبوبي.. رفيقنا كارل ماركس متشوق للقائك.

فتح باب السيارة ليظهر جوارها رجل أنيق ببدله ضاربة إلى السواد وربطة عنق زرقاء غامقة وقميص بصبغة سمائية اللون. كانت نظراته تتسقط الرفيق ماركس الذي وقف خلف الجميع. كانت ابتسامة رفيق جبار عريضة ترتسم فوق وجهه الحنطي المائل للحمرة، وتظهر أسنان ناصعة البياض. ودون النظر أو الحديث مع أحد من رفاقه، مد يده لمصافحة الرفيق ماركس. كانت أنظار الرفاق تنظر بشيء من الاعتزاز والفخر لهذا اللقاء التاريخي في هذا الزمن العصي. أدار رفيق جبار رأسه نحو الرفاق وقال:
ـ  هيا رفاق ارفعوا حقائب الرفيق ماركس وضعوها في حوض السيارة.
بعد هذا سحب الرفيق جبار الرفيق ماركس من يده وفتح باب السيارة وطلب منه الركوب جواره في مقعد السيارة الأمامي، ثم أنطلق مسرعا بعد أن نبه الرفاق إلى ضرورة اللقاء مساءا في الفندق. وصلت السيارة إلى الفندق وأوصى الرفيق جبار عمال الفندق بالاهتمام بالضيف والاعتناء بغرفته ونبههم بتحضير حاجات الرفيق لأخذ حمام ثم التهيؤ وتحضير العشاء في مطعم الفندق.
بدأ اللغط بين الرفاق يتصاعد وبدا وكأنه شجار،بعد أن ذهب الرفيق جبار منفردا مع كارل ماركس ولم يكلف نفسه  حتى الالتفاف لهم، أو السماح  للبعض منهم مرافقته وماركس. وكان سامر أكثر الرفاق تذمرا وبدت كلماته الغاضبة المتقطعة السريعة تنحوا منحى شتائم بحق الرفيق جبار.
ـ أي هسه أبن المهلوس.. أبن المداس..أحنه مو رفاق،هذا دائما يبقه ما عنده أصول ، لكن هو منين أله أصول أبن العربنجي ، عمت عين الوكت أي والله عمت عين الوكت.
ـ أي هسه شلك بهذا الحجي رفيق، مو هو رفيقنا ودائما عنده وكفات ويانه لو نسينه. هسه صار كخه وغلط.. يمكن راد يريح رفيقنا ماركس ويفتهم منه منفردا بعض الأشياء.
ـ ليش أحنه مو كلنا رفاق .. ليش دائما يميز نفسه.
ـ هسه دخليه سكته مزين مرات ....؟
ـ كَول ليش أسكتت..
ـ مرات غده وعشه و يلفيك بالفندق.
ـ أهو.. بدت رحمة الله .. أحسن اسكت وأنجب من هذي الدهرة.
ـ صدك بالمناسبة، شنو كلت من هتفنه لوصول الرفيق كارل ماركس .. هله بيك هله يميل المكحلة.. شنو هاي سالفة ميل المكحلة؟
ـ والله أني سامع هذا من بيبيتي .. جانت تهوس الجدي لمن يجي من البستان بالمسا. وجان أبويه يخرب ضحك من يسمع الهوسة.. فسألته يوما.. بويه شنو يعني ميل المكحلة .. جان يكَول أنته شايف المكحلة مال بيبيتك، مو بيه راس مثل القبغ، فأجيبه بنعم. فقال لي هذا هو الميل، والمكحلة بدون الميل ما تسوه زبانه.. وإذا الميل ما يدخل بالمكحلة.. العيون ما تصير وساع وتشوف الدنيا زين.. بس المدوخني أنه بعد ما شرحلي هذا الموضوع، راح بموجة هستيرية من الضحك.. هسه أني فكرت أنه بدون ماركس أحنه ما نكَدر نشوف وضعنه زين.
ـ أي رفيق ما كتل حبوبتك وموته غير ميل المكحله..
ضج الرفاق بالضحك وهم يتوجهون لأخذ سيارة أجرة للحاق برفيق جبار في الفندق.وصلوا هناك وكان الرفيق جبار وكارل ماركس يجلسان حول طاولة منفردة يتناولان الطعام في صالة مطعم الفندق.
سلم الرفاق وجلسوا عند طاولة قريبة وراحوا في نقاش وضحك وكانوا يتوقعون أن يدعو لهم الرفيق جبار بشيء يأكلوه ولكنه بادرهم بالقول.
ـ ألم تتناولوا العشاء.
ردوا سريعا وبصوت واحد.
ـ لا رفيق .
ـ لماذا لا تذهبوا وتتناولوا شيئا في المطعم المجاور للفندق.
فبادره الرفيق سامر بالكلام
ـ رفيق جبار أستطيع المبيت بالفندق اليوم .
ـ ليش بعدك متزاعل مع أم عشتار.
ـ أي والله رفيق.
ـ أوكي  شوف الاستعلامات وخبرني.
خرج الجميع واحدا اثر الأخر وهم يطالعون ماركس المنشغل بالطعام.
ـ هاي شبي الرفيق جبار أشو صاير بخيل .
ـ يمعودين شنو يوميه ... البارحة تغدينه عنده.
ـ انته ورفيق عباس وسعدي مو احنه.
ـ وذاك اليوم وقبله..؟؟
ـ أي هسه أنته صاير قبغ مال حلوكَ .. شنو نحجي أتذكرنا بالماضي..
حين أتم الرفيق جبار وكارل ماركس عشائهم وتناولوا كأس الشراب سأل الرفيق جبار كارل ماركس عن استعداده للغد، فهو أي الرفيق  جبار سوف يجمع بعض الرفاق والأصدقاء هنا في باحة الفندق، للتعرف وسماع بعض الآراء من كارل ماركس. وافق ماركس على مقترح الرفيق جبار واستأذن للذهاب إلى غرفته لشعوره ببعض التعب، ويحتاج أن يأخذ قسطا من الراحة. شكره الرفيق جبار ورافقه حتى باب الغرفة ثم عاد إلى الصالة وأتصل بالرفيق سعدي وأبلغه بضرورة الحضور للتهيؤ ليوم غد وإبلاغ جميع الرفاق والأصدقاء بالموعد لمقابلة الرفيق كارل ماركس والتحدث معه .
كانت درجة الحرارة التي أعلن عنها في أخبار الصباح، قد بلغت 49 درجة ولكن مثل هذا الإعلان يبتعد كثيرا عن واقع الحال. هذا ما أحسه كارل ماركس وهو يقف في شرفة الغرفة. فرغم وقوفه في الظل فقد أضطر للدخول مسرعا إلى الغرفة لشدة الحرارة التي يدفع بها الهواء لتلفح وجهه، وقرر البقاء في الغرفة تحت هواء المروحة السقفية أو التمتع بالحمام رغم سخونة الماء، ولكن ترطيب الجسد بالماء يبعث شيئا من الراحة.
 طُرق الباب، فرفع ماركس جسده عن السرير بتثاقل، فقد كان في طريقه نحو إغفاءة بسيطة جراء القيظ الذي يلف المدينة ويبعث على الخدر والنعاس. ذهب وفتح الباب ليجد الرفيق جبار واقفا يطلب منه القدوم لحضور الاجتماع المعد للقائه في صالة الفندق.ارتدى كارل ماركس قميص أصفر بنصف كم مرقط بنقط صغيرة أرجوانية خفيفة وربطة عنق شذرية اللون وبنطال قطني حليبي اللون عريض. هبط السلم باتجاه القاعة وهناك وجد حشد من الناس يربو عددهم على أكثر من الثلاثين شخصا.

جلس الرفيق كارل ماركس خلف طاولة أعدت له في زاوية من زوايا بهو الفندق واصطفت أمامه مجموعة رجال كانت تجلس معهم امرأة واحدة لا غير. جلسوا على كراسي غير متشابهة رصفت أمام الطاولة التي يجلس خلفها كارل ماركس.
بعد ضجة ولغط كثيرين أشار الرفيق جبار للجميع بالهدوء والانتباه لحديث الرفيق ماركس. بدت ملامح الانشراح على وجه ماركس وتوردت وجنتيه، وارتسمت ابتسامة خفيفة فوق محياه، وتنهد وهو يسحب كرسيه ليقترب جيدا من حافة المنضدة التي وضع فوقها بعض الأوراق في ملف بلاستيكي داكن الحمرة.
بادر الرفيق ماركس فحيا الجميع وشكرهم على الحضور وتكبدهم مصاعب الطريق بعد أن استيقظت العاصمة بغداد ومنذ الصباح الباكر على أصوات انفجارات عديدة هزت العاصمة، قطعت إثرها الطرق وبالذات شوارع جانب الرصافة الذي يقع الفندق عند أحد أطرافه. بادر الرفيق ماركس بالقول:
رفاقي وأصدقائي الأعزاء تحية رفاقية .. أسمحوا لي في البداية أن أشكر الرفاق الشيوعيين العراقيين على دعوتهم وضيافتهم الكريمة راجيا أن نستطيع خوض غمار تجربة معرفية نستطيع بها التعرف على مشاكل العراق وبرامج الرفاق وطرحهم للحلول المناسبة للخروج من الأزمات .
رفاقي الأعزاء، يجب وفي المقدمة أن ندرك قبل أي شيء أخر، وبشكل ناجز إن ما سوف أطرحه عليكم لا علاقة له بالماركسية الكلاسيكية، حيث كنت والرفيق فردريك انكليز عهد ذاك نرى أن التاريخ مجال مكشوف أمامنا بالكامل، ومهيأ أن نتناوله بما نرغب أو نعتقد، وكنا نتصور امتلاكنا القدرة على استحواذ الماضي والحاضر ومن ثم المستقبل. وحددنا خطوط التطور حصرا بالصراع الطبقي، وتفسير هذا الصراع وصياغة شروطه وتفكيكها يقع على عاتق الطبقة العاملة دون غيرها.
رفاقي الطيبون، صحيح أن الكثير مما حدث في العالم من تغيرات كان ثمرة تأثير الماركسية الكلاسيكية، وبالذات جانب التحليل العلمي للمسيرة الإنسانية. واستمرت البشرية تنظر للماركسية الكلاسيكية على أنها منهج للتحليل ورؤية فلسفية للتاريخ والمادة، وفي الوقت ذاته حركة سياسية تحررية. وكان يحدونا أنا والرفيق فردريك من خلال بحثنا المتجرد والمتأمل والمفعم بالأمل، أن تعم مفاهيمنا العالم وبالذات الثورية منها ، وأن تنهار قوى الرأسمالية أمام بياننا الشيوعي، وتكون استنباطاتنا وتحليلاتنا  الفلسفية الفكرية والمادية منهجا لثورة عارمة للطبقة العاملة التي سوف تتوحد قواها العالمية وتجعل مهمة التغيير سهلة المنال.
ولكن أيها الرفاق. وبعد تاريخ طويل وبناء متهافت لاشتراكيات متنوعة وأطروحات دخيلة ألصقت بماركسيتنا وبما طرحناه، واختيرت تعاميم وأطر ومناهج لتفسير ما قدمناه، واستعملت نظريتنا بإفراط منفلت، وبدت الغشاوة تحيط بأصل الفكرة وجوهرها. وكان هناك أيضا، وهذا مهم، ويجب أن يتوضح لجميع من يؤمن بالطرق العملية والمناهج السلمية في الوصول إلى ما يصبو الجميع أليه. فقد ظهرت أبحاث كانت قد خرجت من رحاب الماركسية، أو الأحرى جرت وطوعت الماركسية نحو حقول حضارية متنوعة، خلطت نظريتنا بالحاجات الآنية للشعوب، وبالذات الخصوصيات الوطنية وقضايا قبل وبعد حروب التحرير ثم الاستقلال، واقتصاديات التنمية وعلم السياسة الحديث، والعلاقات الدولية،ولذا تغيرت أساليب النضال وتنوعت طرق تفكيك المراحل في التأريخ البشري الساعي لصناعة الحضارة والمعرفة واليقين بأهمية السلم والرفاه الاجتماعي. وعند هذه التغيرات وقبل كل شيء أو أن أُعرج معكم على مفصل مهم أحدث قفزة كبيرة غيرت طبيعة ووجهة الاشتراكية، هذا الخرق الكبير الذي أدار العجلة دوره كاملة غيرت الكثير من المفاهيم والمعارف عن دكتاتورية البروليتاريا، والعلاقة مع الطبقة البرجوازية ورأس المال، وطبيعة الصراع الطبقي وكيفية وضرورة ومراحل تصعيده، والتي كنا نرى من الموجب استمرارها بتطوير وتغذية واستعار جذوة ذلك النضال. الخرق الذي أتحدث عنه اليوم كان بداية لزعزعة قناعات الكثيرين للحفاظ على حقول الماركسية. لا بل إن اطر فلسفية ونظرية في السياق العام لحياة الشعوب قد انهارت معها متاريس وسدود.هذا الخرق أو لنسميه على حقيقته بالصدمة أو التفكيك، وسمي لاحقا بالصلح التاريخي، حين عقد هذا الصلح بين نقابات العمال وأصحاب رؤوس الأموال، وكان هذا الصلح كافيا لدفعنا جميعا لإعادة التفحص من جديد في أسس النظرية، وأن نقف عندها ونوسمها بكونها كانت في تاريخ محدد تشكل وعي البناء النظري الفلسفي للعالم، ولبت الكثير من الطموح لتفسير علمي للمادة والتاريخ، ولكن اليوم فأن الكثير من الحاجات الإنسانية، من المحال أن تقف عند تخوم النظرية الماركسية، بقدر ما باتت تستطيع الابتعاد عنها .
التفت رفيق قيس نحو الرفيق سامر الذي يجلس جواره في الصف الثاني من مجموعة المقاعد، ومال بجسده الضخم ليقرب فمه من أذنه وهمس بعصبية.
ـ لك رفيق سامر .. دتسمع هذا شديكول.
كان سامر يعبث بجهاز التلفون وكأنه يكتب رسالة .
ـ لا والله رفيق الجمل الأخيرة ما انتبهت أله ... داد هاي الفختاية خبلتني.. ملختني تملخ .. من ساعة رحنا لساحة عباس بن فرناس لمقابلة ماركس  ولحد هسة ادز رسائل وما تلحك.
ـ شتريد ؟
ـ هاي مو شافتني أسوق بسيارة الرفيق جبار تخبلت، حسباله السيارة مالتي .. تلح تعال نتزوج، ألحك تره أجو عليه خطابه..بنت المشعول متدري أني يومية أنام بدون عشه، وجماله متزوج وحده غضب مال الله.
ـيعني أنته ما سمعت شكال الرفيق كارل ماركس.
ـ مو كل السوالف ...يابه مو أكثرهن  سامعيهن من غيره وقارينه بكتبه.. قابل عنده شي جديد.
ـ عيني رفيق أنتم متأكدين أنو هذا هو كارل ماركس نفسه.
ـ هاي شنو رفيق بدت رحمة الله،هاي شبيك مكبسل !؟ سؤال غريب متشوف الكفشه مالته واللحية .. هو ماركس بدمه ولحمة.
ـ زين أنته أنتبهت شكال؟
ـ مو كتلك مو كلشي سمعته... دحجي شنو شكال ؟
ـ لك داد شي ما معقول.. أتخلى عن الماركسية الكلاسيكية وطعن بيها.
وكأنه لدغ من عقرب صرخ الرفيق سامر بأعلى صوته وكان يضغط بقوة على مقابض الكرسي.
ـ لا.. ما ممكن .. مو بكيفة.
سكت كارل ماركس وتطلع ناحية الصوت، وران صمت عميق على القاعة. كانت أصوات سيارات إسعاف تأتي من بعيد وهي تمخر الشوارع بسرعتها الجنونية.التفت بعض الرفاق صوب الرفيق سامر وبادره الرفيق جبار بالسؤال.
ـ ما الذي يجعلك تصرخ هكذا؟
فجأة وقف الرفيق سامر وقد شحب وجهه ، وأخذت شفتاه ترتعشان، ويداه تدوران في الهواء، وهو يوجه كلامه نحو كارل ماركس.
ـ الرفيق العزيز كارل ماركس، أعتقد أن عليك وفي هذا الأمر أن تقف عند حدودك وتعتذر ،الماركسية الكلاسيكية هي منهجنا وطريق حياتنا وليس من حقك أن تتنكر لها وتتجاوز عليها ... لن نسمح لك.
ضجت القاعة باللغط والصراخ وكأن الرفاق كانوا على موعد مع خلاف مبيت يظهر أنه لن ينتهي بسلام فقد أنشطر الجمع بين مؤيد ومستنكر، ولم يستطع الرفيق جبار السيطرة على الموقف، لذا طلب من ماركس الذهاب إلى غرفته عسى أن يستطيع هو أن يضع حلا لهذا الإشكال الذي أثاره الرفيق سامر. لم يرغب ماركس المغادرة وبادر بالحديث رغم اختلاط صوته بالضجيج الذي يقوم به بعض الرفاق.
ـ رفاقي الأعزاء ،رفاقي الأعزاء..أعتقد أن هناك اجتزاء أو سوء فهم حدث عند الرفيق في الغاية أو التوصيف والمدخل الذي أردت أن أبدا فيه لقاءنا. وكان الأفضل الانتظار لما بعد أكمال حديثي ثم البدء بطرح الأسئلة والنقاش .
ـ يانقاش رفيق، أنته خليت طريق مفتوح حتى نتوافق مع ما صرحت بيه.. رفيق هاي رده وتحريف واحنه ما مستعدين نسمع مثل هذا.
كان حديث سامر حاسما وكانت الكلمات تخرج من فمه وكأنها حجر بركان يتساقط فوق رؤوس الحضور لذا بدء الضجيج والأصوات تتعالى ثم أخذ البعض بالتسرب من الجلسة والذهاب للخروج من القاعة.
ـ ما الذي تعرفه عن الماركسية أيها الأخ العزيز.
بادر ماركس بتوجيه السؤال إلى سامر وكانت عيناه قد ظهر عليهما الاحتقان وأخذت أصابعه تنقر بحدة فوق المنضدة.
كان سامر قد استدار بقامته الفارعة جانبا وراح في نقاش حاد مع رفيقه الأخر الجالس على الكرسي المجاور، ولكنه تنبه لصوت كارل ماركس فألتفت أليه وطلب منه أعادة السؤال فهب الرفيق جبار من مكانه وصرخ بأعلى صوته .
ـ رفيق سامر أنت تريد إثارة المشاكل ليس إلا، ولو كنت مهتما للأمر لانتبهت لسؤال الرفيق ماركس.
ـ أنا منتبه رفيق، بس بنفس الوقت رفيق عيسى وجه لي نقدا غير مبرر، وودت أن أشرح وأوضح له بعض ما خفي عليه. الرفيق كارل ممكن تعيد سؤالك.
أعاد كارل ماركس طرح سؤاله عن ما يفهمه سامر في الماركسية .
ـ رفيق.. منذ الصغر وأنا أطالع الكتب الماركسية، كتابك نقد مذهب هيغل في الدولة إلى بؤس الفلسفة والبيان الشيوعي ورأس المال والعمل المأجور وصولا إلى العائلة المقدسة وغيرها من الكتب. وكنا دائما نحاول من خلالها تماثل وضعنا في العراق وقدرة ما طرحته والرفيق فردريك على تحليل الواقع العراقي بمختلف تجلياته.
ـ وهل وجدت في كل تلك الكتب ما يوصلك إلى نتائج حاسمة .
ـ بعض الشي، ومو كلشي..
ـ حسنا وهل استمعت لحديثي اليوم وفهمت الغاية منه.
ـ الحقيقة رفيق لم أكن أستمع للحديث فقد كنت مشغولا بأمر عائلي على الهاتف, الرفيق قيس شرح لي كل شيء.
نهض رفيق جبار من مكانه وصرخ بصوت جهوري واضح في وجه الرفيق سامر .
ـ رفيق سامر هذا حجي لو اتخربط ، مشغول وما سمعت ورفيق قيس شرحلي .. شنو أحنه زعاطيط.. شنو هذا التخربط .
ـ رفيق لتغلط .. تره أتحملتك صار سنتين ..أشو هوايه شايف نفسك.. تره أنا عمري ما أعترف بتسلسل حزبي وما يهمني أنته منو، وما تكدر تفرض عليه أوامرك، وهذا رفيقكم الجايبي من الغرب.. تره مو كارل ماركس.. هذا تحريفي، وكَالب عكرف لوي على الماركسية، وراح نراويه أحنه مو غيرنه  شنو الماركسية.
وبعصبية رد عليه رفيق جبار وكان يؤشر له بسبابة يده وكأنه يوجه تقريع لأحد تلامذته.
ـ لا مكان لك في الفندق بعد هذا اليوم، ولن تستطيع المبيت فيه حتى وأن طلقتك أم عشتار بالثلاث. شنو أنته رب مشاكل ولغوة.
 
خرج سامر مسرعا من القاعة والتحق به كل من الرفيق قيس والرفيقة ساهرة والرفيق شاكر والرفيق غني، وعند خروجهم كانوا جميعا يوجهون نظرات حادة نحو الرفيق كارل ماركس والرفيق جبار.
لم يدع الرفيق جبار هذا الآمر يمر دون أن يبادر لتهدئة الأجواء فطلب من الرفاق الباقين الانتقال إلى قاعة الطعام لتناول الشاي و العصائر ثم وجه كلامه إلى كارل ماركس الذي راح بدوره يقلب الأوراق التي أمامه محاولا أن يبعد عن ذهنه هذه اللحظات التي مرت وتمر بتثاقل دون أن يستطيع حل الإشكال بنقاش مثمر يخرج الموضوعة بما يتوافق مع منهجه في نقد الحالة والكشف عن المستجدات في الفلسفة أو الاقتصاد السياسي وظروف ومستجدات الصراع الطبقي وحتى التغيرات في العلوم والمادة. لحظتها سمع الرفيق جبار يوجه له الكلام وابتسامة شاحبة تعتلي شفتيه. 
ـ رفيق ماركس لا تهتم فالمراهقة السياسية دائما ما تواجهها جميع الأحزاب والتنظيمات، وهي واحدة من المعوقات لا بل المؤذيات في العمل. غدا سوف نسافر إلى مدينة الناصرية فهناك لدينا رفاق رائعين وقد نسقت معهم حول هذه الزيارة قبل قدومك ألينا.
   
 

149
حيدر العبادي يخوط بره الاستكان

فرات المحسن

تزداد الهجمة من قبل قوى الإسلام السياسي والموجهة بالضد من التظاهرات الواسعة والكبيرة التي اجتاحت مدن العراق. فهناك محاولات خطيرة وليست بالقليلة لا بل واسعة النطاق، سوف تنطلق في الأسابيع القادمة لاختراق التظاهرات ومن ثم حرفها عن مسيرتها السلمية وتغيير الكثير من أهدافها ثم العمل على إجهاضها، وها هي مظاهر الحملة قد بدأت تظهر بشكل سعار واتهامات بائسة، ووصل الأمر لحد استغلال أجواء التظاهر والقيام بأعمال قتل وطعن بآلات جارحة وتوجيه شتائم وسباب وتلفيق روايات كاذبة .
منذ البداية أريد تجير التظاهرات لصالح قوى الإسلام السياسي، ويبدو أن هذا الأمر أعد له مسبقا، ليكون هناك أطار يحيط بالتظاهرات ثم يعمل من داخله على إحباط مطالبها مستقبلا، ووضع أغلب أهدافها وشعاراته تحت وصاية تلك المؤسسات السياسية الدينية، ومن ثم يتم لجمها وترويضها لتكون لسان حال تلك القوى. فالشعارات الدينية بدت تنافس المطالب الملحة للجماهير المعذبة والكادحة، وظهر من يكفر أي شعار يدعو لحياة ديمقراطية وحريات مدنية وخدمات إنسانية. وتقدمت وقائع الحرب على داعش كحجة للتحذير من التظاهرات كونها تضعف الصف الوطني والجهد الحربي، لذا تسابق رجال الدين لإعلان موقفهم المضاد للتظاهرات، أو الطلب بأن تقتصر شعارات التظاهرات على مطالب لا تمس بل تبتعد شوطا عن مصالح الهيئات والقوى المرتبطة بهؤلاء الرجال وقواعدهم المؤسساتية. وبعد هزيمة القطعات العسكرية أمام داعش في منطقة بيجي وللمرة السابعة، برر قائد تلك العمليات بأن التظاهرات الجماهيرية كان لها الأثر الفعلي على عزيمة العسكر وجاء انكسارهم بسبب عدم ورود التعزيزات بالجنود والمواد، والسبب في ذلك كون الجيش مكلف بحماية التظاهرات. ولا ندري كيف استساغ هذا القائد مثل هذه الحجة المتهافتة وتناسى أيام المناسبات الدينية التي توظف فيها لحماية الزائرين فرق عسكرية بعدتها وعديدها. ويبدو أن صخرة عبعوب وكيزر الفهداوي متواليات من التلفيق غير المستساغ في عراق العجائب ليضاف لها هذا التصريح للسيد القائد العسكري.
الهدف من مثل هذه المواقف يذهب لتفريغ الساحة من زخم المطالبات وجعلها شعارات سياسية تستطيع المؤسسات السلطوية وبالذات السيد حيدر العبادي وحزبه وبالاشتراك مع باقي رجال ونساء قوى الإسلام السياسي ومعهم جوقة المنتفعين من عمليات نهب المال العام من شخصيات نافذة ومشاركة بالسلطة، تسويفها والقفز عليها أو تدويرها داخل لجانهم ليضيع دم القضية بين القبائل.
الملاحظ أن السيد رئيس الوزراء مازال بعيدا جدا عن طبيعة الإصلاح الذي تنادي به الجماهير الشعبية. ولحد اليوم يؤشر له مثلما يقول المثل العراقي ( يخوط خارج الاستكان ). فالتظاهرات الجماهيرية إن بدأت بالكهرباء والخدمات ومنذ عام 2008 وقبل أن تستيقظ قوى الإسلام السياسي وتروج لمشاريعها المشبوهة، فقد باتت مطالب الجماهير اليوم واضحة يدركها الجميع، وهي تشير بصريح العبارة لمخاتلات ومنافع أعضاء البرلمان وأعضاء مجالس المحافظات والبلديات والوزراء والمدراء العامين وما يتعلق برواتبهم ومخصصاتهم وامتيازاتهم الفلكية الجنونية، وطرق النهب في دوائر الدولة. كذلك شخصت التظاهرات من هو السارق والقاتل والذي من الموجب إدانته ومحاسبته ومحاكمته، وأيضا وجهت التظاهرات إدانة صريحة للسلطة القضائية واتهمتها بالفساد وخيانة الضمير وشرف المهنة، والسلطة القضائية لم تعترض على ما جاء في شعارات الجماهير، لا بل ازدادت في غيها وعزتها بالإثم، وأصرت على عدم قبول طلب مدحت المحمود الإحالة على التقاعد، لذا أبقته على عرش القضاء تأسيا بفعلة عمر بن العاص مع سيده معاوية بن أبي سفيان أثناء التحكيم في معركة صفين مع الأمام علي بن أبي طالب. وبفعلها هذا أكدت تمسكها بمشروع تخريب العراق والسير به نحو هاوية سحيقة، وتسليط قوى وعصابات المافيات والمليشيات لتحل بديلا في إدارة الدولة عن سلطة القانون. كذلك فأن السيد العبادي مازال يتمسك بذات الوزراء والمدراء العامين في إدارة مجال وأنشطة الخدمات والذين شكل وجودهم على رأس هرم تلك المؤسسات أتعس وأفشل وأقسى فترة مرت ولحد الآن على مدن وبلدات العراق جميعها.
قام السيد حيدر العبادي الذي تفتقد تشريعاته الحزم، وتثار حول نواياها آلاف الشكوك، بتقليص طاقم مجلس الوزراء وقبلها الاستغناء عن نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء،وجميعهم لا يشكل ثقلا في التصدع الذي أصيبت به ميزانية الدولة العراقية. ولم يكن ليخرج هذا الأمر عن مزحة شعر بها بعض من مسهم الضرر، واستغفلت مثل تلك الإجراءات الكثيرين من أبناء الوطن من المتعبين الذين يبحثون عن بصيص أمل في نفق حالك الظلمة. فمن استغنى عنهم السيد العبادي سوف يحتفظون برواتب ومخصصات ضخمة، ولن تمس المنافع التي حصلوا عليها، ولم ولن يستطيع السيد حيدر العبادي غير تطمينهم كشركاء للحفاظ على وضعهم المالي، وهذا ما صرح به في لقاءه مع نخبة من الشباب حيث أعلن، بأنه، لا يمكن لشخص وضع لصرفياته سقف محدد، تأتي أنت فجأة لتستقطع منه أكثر من نصف ذلك المصرف.
الرواتب والمخصصات والمنافع الوظيفية والشخصية، المحاصصة والقضاء الفاشل المرتشي، التزوير بالشهادات المدرسية والوثائق الرسمية، سرقة المال العام، المشاريع والخدمات المتلكئة والمنهوبة والمعدومة، طواقم المستشارين في رئاسة الوزراء وغيرها من المؤسسات، الجيش والشرطة المخترقة من قوى الإرهاب والرشوة، المليشيات وآلاف الفضائيين في جميع دوائر الدولة ووو وآلاف المشاكل والمعوقات، جميعها كانت وتبقى عقد العراق ومقاتله وجوعه وأمراضه وعذاباته . ولحد الآن لم يقترب السيد حيدر العبادي منها، وإنما نجده يهاب مسها، ويهرول بطيئا ليلف ويدور خارجها، وهو فرح يستطيب صوت الشارع الذي يحيي ويمجد أفعاله على علاتها وعوقها. ولعله في النهاية سوف يشعر بالدوار والغثيان وهو يلهث قرب كومة المشاكل وينظر لها بطرف عينيه ولا يجد في السلطة وقوى الإسلام السياسي من يسانده للولوج وسطها وتفكيكها. عندها يبقى محاذر من أن يثير هواجس شركائه الذين شحذوا سكاكينهم استعدادا ليوم الواقعة الكبرى. وسوف يكون مثل هذا الفعل وبجميع تجلياته وصفحاته سلبا أم إيجابا رهان السيد حيدر العبادي على مستقبله الشخصي. فإن أراد دخول حومتها بشكل جاد وحقيقي فليتوقع أن يكون شهيد وطن، وإن تردد فسوف يُصْرع خارج تلك الدائرة ويريح شركاؤه من غير القلقين والمهتمين بمستقبله، ويضيف لكومة أوجاع الناس وجع أخر أكثر أيلام.


150

صاحب موقع ويكيليكس - لو أنك تفضح جميع الملفات

فرات المحسن

عدت مراحل سيطرة حزب البعث في عام 1963 ومن ثم عام 1968 ولغاية 2003 من أخطر مراحل التدخل الأجنبي وشراء الذمم والتخوين والعمالة المكشوفة والمستترة التي مر بها العراق.فقد توالت الفضائح بعيد استلامهم السلطة، ليأكل قادة الانقلابات بعضهم بعضا، وكانت الخيانة والتآمر والعمالة للأجنبي التبرير الدائم لإعدام العديد من قادة البعث وشركائهم لحين الاحتلال الأمريكي الذي جاء بسبب عمالتهم وخياناتهم وانعدام وطنيتهم.
لم تكن سلطة البعث وقياداتها لتنفرد بتلك الميزات والمفردات القذرة، فالكثير من قوى المعارضة لسلطة البعث وقتذاك، عانت من تلك  الأمراض، وظهر بين أوساطها قادة وأعضاء مثلوا أحط النماذج للعمالة وبيع الذمم، ليس فقط بارتباطهم وعمالتهم وتعاونهم مع سلطة البعث العراقي، وإنما كان للبعض منهم ارتباطات وعمالة مكشوفة مع مخابرات دول عديدة. وبمرور الوقت تكشف ومازالت الكثير من طرق العمالة والارتزاق للعديد من رجال السلطة الحالية، وأيضا بين أوساط مختلف القوى والفعاليات والأحزاب العراقية، وبات الارتزاق الداخلي والخارجي ظاهرة  بارزة لا يجد البعض فيها عيبا أو غضاضة.
فحين يمارس المرء السرقات من المال العام أو حين لا يجد ضيرا من التنصل والتنكر لقيم الوطنية العراقية ويمارس دون حياء طقوس الكذب والافتراء اليومي، فهو مستعد أن يكون مرتزقا لمن يقدم له فتات الخيانة ويزقه بسوءة العمالة.
قبل أيام قدم موقع  الويكيليكس وهو جزء من ظاهرة على الانترنت لها سلطة إعلامية غير عادية، تنشر تقاريرها في وسائل الإعلام الخاصة والسرية، وتستقي معلوماتها من مصادر صحفية وتسريبات إخبارية مجهولة أو معلومة. ومديرها هو السيد جوليان أسانج وهو الصحفي  والناشط المدني ومبرمج الأنترنيت من أصل أسترالي. وتعد والولايات المتحدة وحلفاؤها موقع ويكيليكس ماكنة  لترهيب الأنظمة والأشخاص، بسبب ما تسربه من وثائق، تكشف الكثير من الوقائع عن سياسات الدول ودور الشخصيات في الحراك السياسي والاقتصادي العام.
يوم 9 حزيران بدأ موقع ويكيليكس بنشر أكثر من نصف مليون وثيقة ومستند  مستلة من أرشيف وزارة الخارجية السعودية، وأغلب تلك الوثائق والمستندات عبارة عن مراسلات سرية بين مختلف السفارات السعودية حول العالم ووزارة الخارجية والديوان الملكي السعودي. واحتلت موضوعة العراق جزء ليس بسيطا من تلك الوثائق، وكان البعض منها وثائق تشير لوضاعة وعمالة بعض الشخصيات السياسية العراقية وارتباطها بالمخابرات السعودية أو استجدائها وزارة الخارجية السعودية من أجل مفاتحة الديوان الملكي وطلب مقابلة الملك السعودي ومن ثم  استجداء هباته.
 ومثلما هو معتاد أنكر الساسة من النخبة العراقية كل ما جاء في الوثائق التي عرضها موقع  ويكيليكس، رغم تأكيد السعودية صحتها وكونها مستلة من أرشيف الخارجية السعودية بواسطة الهاكرز والسطو وحتى الشراء.
 وحسب ما متفق عليه بين النخب السياسية العراقية، ووفق قواعد المحاصصة ومختبرات طمطملي وأطمطملك، فأن السيد جوليان أسانج وفريق عمله لن يجد في وثائقه ما يحرك الماء الراكد في العراق، ولن يجد لها ذاك الصدى في غير بلدان العالم. فهي في عرف السياسة  وفي جميع الحقب السياسية التي مر بها العراق، حالها حال الكثير من وثائق ومستندات العمالة والخيانة، أوراق قابلة ليس للطعن بقدر ما هي جاهزة لوضعها في أقرب تنور لتكون نارا لشواء دسم يغني ويشبع جياع الساسة وكفى الله المؤمنين شر القتال.
بعد كل هذه الفضائح التي لا ولن يستحي منها أحدا من سياسيي الصدفة، أجد أن على السيد جوليان أسانج وموقعه المسمى ويكيليكس، ومن ضمن مسؤولياته الضميرية والأخلاقية،  أن يضع في حساباته أن يكون جزءا من الحالة العراقية. أي يكون له اهتمام خاص بحال السياسة في عراق اليوم، ويعرض مستنداته ووثائقه وفق مبدأ المحاصصة. وهذا يفرض عليه أن ينصف الجميع ويوزع وثائقه بالتساوي، لنجد أن سياسي العراق يتقاسمون تلك المستندات والوثائق بنفس النسب وبذات المستوى، دون أن تستثنى من ذلك جهة سياسية دون أخرى أو طائفة أو قومية دون غيرها.
فأن أستطاع موقع ويكيليكس الوصول إلى ذخيرة مكاتب المخابرات السورية وبالذات فرع المخابرات الخاص بشؤون العراقيين والمرقم 279 وبالذات الوثائق والمستندات القديمة على عهد محمد الخيري ونائب ض أبو صفوان، وكذلك فرع العلاقات الوطنية ومسؤولها مهدي العبيدي أبو صلاح صاحب مكتب شؤون العراق لحزب البعث على عهد الأب حافظ الأسد وما تلاه من تواريخ، لوجدنا ما يشفع لنا اليوم فيما نذهب أليه من تعرية وشتم البعض بأقذع الكلمات. ولو توغل ويكيليكس في ثنايا وزوايا جهاز المخابرات الإيرانية لكانت تلك المستندات والوثائق تفضح وتعري ليس فقط حاسري الرؤوس بقدر ما تطيح بعمائم وتجعلنا نبصق فوق جباه وضعت وشما أسود قربة إلى صنمها المعبود ولأجل خداع الناس. وأن تسلل موقع ويكيليكس نحو دهاليز مخابرات المملكة الأردنية ودولة الكويت ومصر وتركيا فسوف تظهر فضائح لن ينجي منها الكثير، ولتكون طعنات نجلاء في قلب العراق لما تحمله من فضائح تسود لها وجوه كثيرة، وتفصح عن الرخص والابتذال الذي يعتمر ضمائر هؤلاء الذين يجولون ويصولون اليوم في ربوع العراق ويهرجون ويضجون وينافحون يوميا بعبارات الوطنية ونبالة الأخلاق.
سيدي جوليان أسانج سادتي جميعا من العاملين في موقع ويكيليكس، استحلفكم بربكم الذي هو اطهر من جميع الآلة التي ينافح ويبسمل ويحوقل بأسمائها ساسة العراق، أن تعرضوا ما لديكم من وثائق ومستندات وتفضحوا من سرق ومزق وشوه وتلاعب وآذى وقتل أحلامنا وأمانينا وآمالنا.   



151
اتفاقيات جانتلمان بين السياسيين وداعش

فرات المحسن


في أعراف الحرب، وفي سياق المعارك على جبهات القتال، وعند حالة التأكد من كون القطعة العسكرية لن تستطيع الصمود أمام عدوها، حينذاك يكون قائد الوحدة العسكرية أمام ثلاثة خيارات، الأول المقاومة حتى الشهادة، أما الحالة الثانية فأنه  يأمر جنوده بالانسحاب المنظم، وفي هذه الحالة عليهم اخذ قطع السلاح والعتاد والمعدات والآليات وإن تعذر سحب الآليات والمعدات الثقيلة يصار إلى تفكيكها أو تعطيلها أي إتلاف محركات الآليات والمعدات العسكرية الثقيلة وتخريب أو سحب صواعق الأسلحة والاعتدة.والحالة الثالثة الاستسلام وتلك تعد خيانة في الأعراف والقوانين العسكرية.
ولكن الذي حدث في الرمادي وقبله في الموصل، جاء مغايرا لجميع قواعد الحرب وأعرافها وسلوك القادة، فإخلاء الأماكن وتسليم السلاح تم باتفاق جنتلمان بين قادة الوحدات العسكرية و قادة الإرهاب، ليصل الأمر وبترتيب دقيق،جعل الوحدات العسكرية تترك مفاتيح تشغيل الآليات فوق الدشبول أو عند مكان التشغيل، كي لا يتعب الرفاق من الدواعش في فك كهربائية تلك الآليات وتشغيلها بواسطة الجطل، مثلما يطلق عليه بلغة أهل ميكانيك السيارات، وأيضا تم تسليم الدواعش صناديق العتاد وجميع الذخائر وأرزاق المعركة، وكانت جميعها في حالة جيدة لا بل لم تفتح بعد، أي سر مهر وصاغ سليم.
وحسب الاتفاقات الجانتلمان، بنسخها الأصلية المصادق عليها بين قادة العملية السياسية في العراق الحديث ورجال عصاباتهم من قادة الجيش والشرطة، فليس هناك حاجة لمحاسبة أو محاكمة أو إدانة لجريمة سياسية أو عسكرية. وحتى أن وجدت مثل هذه الجرائم،  فالحكم على المذنب غيابيا، قرار مريح ومقنع وتوافقي للقضاء العراقي، الذي هو جزء من الصفقة الكبرى، ويأخذ الحكم عند صدوره الدرجة القطعية مسبقا، لينتهي الآمر عند هذا الحد.ولأن القضاء العراقي متواطئ وهزيل، فكردستان دائما ما تكون ملجأ أمن وعيش رغيد. وصدور الأحكام غيابيا يعني أنه قابل للمساومة، والمال يفقأ العيون.
 وفق قواعد اللعبة وتقاسم السلطة بالمحاصصة وعلى وفق قاعدة طمطملي وأطمطملك، وشيلني وأشيلك،  لن يخرج هناك خاسر، ولن يقدم كبش فداء أو يعلن قرار حكم وقطعا لن يوجه اتهام، ولن يدان شخص حتى وأن تسبب بمقتل الآلاف وسقوط مدن. ولتدارك الوضع سوف يتم أخراج مسرحيات تستوعب ثقل الحدث وتعمل على تفتيته، وتغلق أذانها عن الخبثاء من مثيري الشغب ومروجي الإشاعات والباحثين عن الإثارة. ولا ضير هناك من وجود عدد كبير من الضحايا، فلكل حادث قرابين كي يسمى حادث وتضاف له كلمة مروع، بعدها يستفاد السياسي من الحادث ليتخذه شعار استعراضي وصورني وأني ما ادري. ولا يخلو مثل هذا الحادث المسمى بالمروع من وجهات نظر تفسر الواقعة بما تشتهي الأنفس، ولن تعتمد نتائج التحقيقات وقبلها مساراتها على غير تلك القواعد. فيستطيع أي شخص يستدعى لأخذ إفادته أمام لجان التحقيق، الامتناع عن تقديم شهادته، وحتى الطعن بدستورية اللجان أو مخاصمتها وتوجيه الاتهام لها بالتحيز والمغالاة والتطرف . فهو شخصيا أكبر من أن يطلب منه حضور جلسات مسائلة أو إدلاء بشهادة. فهو فوق الشبهات لذا يترفع أن يسأله أحد عن واقعة ليست في وارد اهتماماته ، ولن يجيب على أسئلة توجه له من قبل من هم اقل  شئنا منه وأدنى رتبة من معاليه. وإن تعاطف مع الأحداث فيستطيع أن يستدعي اللجنة للحضور أمام معاليه،  ليسألها بدوره عن نتائج التحقيق التي توصلت أليها.
بعد كل هذا وذاك فالمخرج الوحيد لأبعاد كل هذا الضجيج عن حوادث وجرائم راح جراؤها آلاف من البشر وضاعت مدن، يعتمد على ذاكرة العراقي المثقوبة لا بل المتهرئة، التي لا تحتفظ بسجلات لموتاها وتنسى بكل بساطة فواجعها. ومثلما تجرعت ورمت وراء ظهرها جرائم صدام وحزبه الكبرى، نجدها  اليوم تتلذذ بنسيان حتى أماكن ووقائع الجرائم التي ارتكبت بحقها . وهذه الذاكرة المعطوبة استطابت مرض الزهايمر الذي ينخر ليس فقط العقول بل مجمل تأريخ بلد أسمه العراق.
ولنا معكم  في الانتخابات القادمة موعد، لنختبر فيه ليس فقط ذاكرة شعبنا، إنما قيمه وأخلاقه، و لنشهد التاريخ على ذاكرة وقيم هذا الشعب. 


152
واقعة الرمادي قوة المثل عن سذاجة السلطة العراقية وهزالها.

فرات المحسن

منذ احتلال مدن الموصل وصلاح الدين وقبلهما الانبار، يعتمد الإرهاب المتمثل بأذرع البعث الفاشي من دواعش وجيش الرحمن والنقشبندية والمجلس العسكري وجيش محمد وغيرهم، على طريقة ذكية تتمثل باستدراج الجيش العراقي لمعارك في محاور عديدة مختلفة ومتباعدة يتم خلالها استنزاف قواه وعديده.  ودائما ما تكون القسوة و القوة المفرطة التي يستخدمها الإرهاب، مقدمة حاسمة  لخلخلة مواقع وعزائم القطعات العسكرية. و بات بحكم  التقليد أن يبدأ الإرهاب هجماته بسيارات مفخخة يعقبها هجوم بانتحاريين ومن ثم أعداد ليست بالكثيرة من الرجال المدربين جيدا على حرب العصابات.
في أغلب المعارك ظهر جليا إن التنظيمات الإرهابية كانت لها معرفة  مسبقة وجيدة بمكامن ضعف وقوة وحدات الجيش العراقي، ولديها معلومات يقينية بأعداد الوحدات العسكرية النظامية والشرطة الاتحادية، وعن قدراتها واستعداداتها الحربية وتجهيزاتها القتالية. ووفق تلك المعلومات نجدها تختار الزمان والمكان المناسبين لبدأ صولة الهجوم، ودائما ما نجدها تختار في هذا الآمر، المناطق الرخوة في تلك التشكيلات.ولم يأتي ذلك اعتباطا أو وفق استطلاعات جانبية يقوم بها رجال تلك العصابات أنفسهم، وإنما تأتيهم المعلومة بدقة وحرفية من داخل الجيش وعبر ضباط لهم مراكز تأثير وقرار في قيادة الجيش وقوى الشرطة، يوفرون لقيادات الإرهاب بيانات وإحصائيات وخرائط وشروح لطبيعة قطعات الجيش وقوى الأمن، وأوضاعها السوقية وتحركاتها وأعدادها وأماكن تجحفلها.
وبحكم سيطرة العديد من هؤلاء العملاء على مراكز ومفاصل مهمة في الجيش وقوى الأمن الداخلي العراقية، باتت لهم قدرات ليست بالهينة، للتأثير في إدارة وسير المعارك، وتكيفها وجعلها تتخذ طابع ليس النصر الناجز لقوى الإرهاب، بقدر ما تكون مهمة  تمهيدية تذهب في عمق استراتيجيه الإرهاب وأذرعه السياسية لتغير واقع العملية السياسية، ويتم ذلك عبر مهمة  استنزاف رجال الجيش ومعداته، وصولا لهدف أكبر يتمثل بدفع الدولة العراقية نحو أقصى حالة الانكسار والتردي على جميع المستويات، وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي والعسكري، لتسهل بعدها مهمة الانقضاض على السلطة وإعادة تركيب العملية السياسية.
يبدو أن السلطة بشكل أو أخر لا تتوفر لديها القدرة على حماية ظهرها ، لا بل ظهر بشكل مخزي ومذل، إن جميع مفاصلها وإداراتها مكشوفة ومترهلة، وهناك من يعمل من داخلها على مؤازرة الإرهاب ارتباطا ودراية وتطوعا أو لمنفعة شخصية أو فئوية  وفي بعض الأحيان  بسبب سذاجة وغفلة وانعدام المهنية والخبرة.
تمثل حركة القطعات العسكرية وتحشدها احد أهم صفحات إدارة المعارك، وهي في السياق العام تكون ضمن مهام القيادات الميدانية وتصوراتها وحساباتها عن طبيعة المعارك وكيفية إدارتها بالعدد الكافي من الوحدات والمعدات، وليس لمكاتب القيادة العليا غير الأخذ بما يرد لها من تقارير ومعلومات من القيادات الميدانية . ووفق تلك التقارير تصدر مكاتب القيادة  أوامرها بتحريك القطعات أو تزويدها بالعتاد والآليات. عبر هذه القاعدة والآلية يتم التلاعب بالقوات العسكرية والشرطة، ووضع ترتيبات تسهل على الإرهاب اختراق الوحدات العسكرية ومن ثم احتلال المواقع و المدن. وحسب الخطط التي يضعها هؤلاء المندسون في مفاصل القيادة،  استطاعت قوى الإرهاب وفي مرات عديدة استدراج السلطة العراقية، وتوجيه ضربات موجعة لمؤسساتها، وظهرت السلطة في تلك الوقائع في أقصى حالات الهشاشة والسذاجة. وما زالت تتكرر تلك العمليات.
ظهر للعيان وبالذات منذ عملية هروب سجناء أبو غريب الذي أعقبه  سقوط مدن الأنبار ثم تلاه سقوط الموصل وصلاح الدين ، بأن جميع هذه الوقائع كانت  مؤشرات  ودلالات بينة لخيانات بين أوساط القيادات العليا للجيش العراقي وقوى الأمن والشرطة. واليوم لن تكون واقعة الرمادي أخر عمليات الطعن والاستدراج والاستهزاء بالسلطة ومؤسساتها،  وما يؤسف له أن يترافق هذا مع ضعف وانعدام  قدرة القائد العام للقوات المسلحة على إحداث تغيير في هياكل قيادات الجيش وتنحية المشكوك في ولائهم من المتسببين في انهيار المعنويات وانكسار الوحدات العسكرية وهزيمتها، والأدهى من ذلك سيطرة الإرهاب على سلاح ومعدات وعتاد تلك القطعات. وسوف يبقى الجيش منخورا ممزقا لا يستطيع الصمود أمام داعش وغيرها من قوى الإرهاب، أن لم تجرى له عملية قيصرية، تزال عبرها ومن مختلف صنوفه جميع الدرنات العالقة بجسدها والمتمثلة بقيادات بعثية معروفة، أن لم تكن باقية تعمل وفق أجندات حزب البعث، فأنها مسيرة  وتخضع للتهديد والابتزاز اليومي لها ولعوائلها من قبل حزب البعث واذرعه من المجاميع الإرهابية، وهذا ما يدفعها لتقديم الطاعة والولاء والمعلومة لتلك العصابات.




153

كارل ماركس في العراق

فرات المحسن
* التحضير والوصول
الرسالة تبدو واضحة وضوح الشمس في هذا اليوم المشرق، هكذا فكر كارل ماركس وهو يعيد قراءة مضمون الرسالة التي وصلته من بعض مريديه في العراق . دعوة صريحة وكريمة لا لبس فيها، تظهر حاجتهم لوجوده بينهم في العراق، وتستعرض الرسالة بفيض من العبارات المشوقة والمشجعة الغرض من الزيارة، وفي مقدمتها رغبة حقيقية من المشايعين  في الوصول لمعرفة متكاملة عن طبيعة الأحداث ومقارباتها من خلال تحليل نظري مطابق وسليم للواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي  الثقافي الحاصل في العراق.وهم يعتقدون وهذا هو الصواب، بان منهجية تحليلاته وبمقاربات المادية الجدلية والتاريخية، سوف تظهر بصورة جلية طبيعة الحدث العراقي ، مسبباته ووقائعه ثم مخارجه وأيضا استخلاص النتائج وتقديم الحلول. 
في الرسالة  شيء من طلب غريب، لم يعره ماركس اهتماما جديا بادئ الآمر، بل وبشكل أولي فكر بإبعاده عن تفكيره في الوقت الحاضر على الأقل، فدراسة كتب الدكتور علي الوردي مثلما يطلبها منه مريدوه العراقيون، لن تكون بذات جدوى لملامسة الحدث اليومي وتحليل الواقع العراقي في الراهن من الوقت، وفي أجواء الرأسمالية المتوحشة التي تغلغلت في حياة الكثير من شعوب الأرض. فالموضوعة بوقائعها وطبيعتها العامة، لها مقاربات وتداخلات ومتجاورات ومتضادات، تتطلب الغوص في أبعاد مكنوناتها بروية وأناة، دون المجازفة والعجالة والتسطيح . لا بل أن بعض الإشكالات تتقاطع حتما وفكر علي الوردي ومنهجيته بالتحليل. هكذا خطر في بال ماركس وهو يقلب الرسالة ثم يدسها في جيب بنطاله. ورغم عدم اطلاعه على تحليلات ورؤى المكنى بالدكتور علي الوردي ، فأنه لم يترك لهذا الآمر أن يشغله طويلا، لذا اتصل هاتفيا بزميله فردريك أنجلز الذي يعيش في الطرف البعيد من مدينة لندن وطلب منه معلومات كاملة عن العراقي علي الوردي، فزوده فردريك بمعلومات موجزة عن مجموعة أسماء لشخصيات بحثية عراقية تشترك جميعها باسم علي ، اكتفى كارل بانتقاء شخصيتين منها،يبدو أنهما باحثان اجتماعيان قبل أي شيء أخر، واكتفى بسيرتيهما الموجزة  وأهمل الباقين، بعد أن تيقن بأن حيرته في الآمر ليست أكثر من حيرة فردريك في هذا المضمار، وقرر أن يجهد مستقبلا للتعرف على  شخصية علي الوردي بتفاصيل أخرى من خلال مريديه حين يصل بغداد.
الرسالة التي وصلته كانت واضحة وشاملة، لم تهمل حتى الأشياء والمستحقات الصغيرة وهذا ما جعله يغمط مريديه دقتهم ومنهجيتهم في الإعداد والترتيب لرحلته القادمة إلى بغداد،وحسب هواه وطبيعته المنفتحة والمؤمنة بقيمة الإنسان وفطرته الطبيعية الطيبة، فقد ابعد عن ذهنه مطالبتهم في الوقت الحاضر بأجور رحلته واكتفى بالرضا من تعهدهم بدفع جميع مستحقات الرحلة له حين وصوله  إلى بغداد.
لثلاثة أيام شغل ماركس تفكير عميق وهو يلملم حاجياته. وضع جهاز الكومبيوتر في حقيبته الصغيرة وأعد حقيبة السفر الكبيرة، وضع فيها ملابس تكفي لفترة عشرة أيام .
 عشرة أيام تكفي وسوف لن يضيع فيها وقته.هكذا حدث نفسه. من الطبيعي إن مشايعيه قد استعدوا لزيارته استعدادا جيدا، وسوف يقدمون له من الاستبيانات والإحصائيات والوقائع ما يغني عن جهد كبير عليه أن يبذله في محاولات التحليل والاستنتاج لواقع الحدث في العراق، هذا ما خطر في  باله وهو يضع بعناية وخفة ربطات العنق المنتقاة من قبل رفيقته روزا جوار بدلته الكحلية  وقمصانه الصيفية الخمسة بألوانها المختلفة. دس تحتها ملابس داخلية ومنشفة وساعة منضدية اعتاد أن ترافقه في مختلف سفراته وتجواله خارج أقامته وسط العاصمة البريطانية الصاخبة، بعد أن أتخذها  مجبر دون تردد مقرا  لسكناه، بعيدا عن أجواء الكراهية التي واجهها في بلده ألمانيا. لم يهمل أو ينسى أن يضع قنينة العطر التي أهديت له قبل أسبوع مضى عند احتفالهم بعيد ميلاده الذي يحفظه الكثير من الرفاق ويهمله هو عن عمد. وضع جوارها تحت الملابس قنينة المطهر البلاستيكية،  ربما لن يجد في العراق ما ينفع لتطهير الأكف. هذه واحدة من مصائب الرأسمالية المتوحشة، هكذا فكر كارل في الآمر، مطارات العالم بدأت تأخذ الاحتراز الشديد والحذر والتحوط، وتمنع  ركاب الطائرات، وبحجة الحذر والتوجس من الإرهاب، أن يصطحبوا معهم حين يصعدون إلى الطائرة ، قناني العطر أو أي علبة سوائل أخرى وحتى أدوات حلاقة أو الملاعق والسكاكين والقداحات،  بدعوى أن ذلك  يمنع احتمال تعرض الركاب أو الطائرة لعمليات خطف أو تهديد بالتفجير . هكذا هي الرأسمالية الخائفة المرتجفة بعد أن حققت أعلى مراحلها  الامبريالية،  باتت اليوم ترتجف من وليدها المشوه القاتل الذي ولدته سفاحا بعد اغتصاب خيرات الشعوب. على أية حال حقيبة السفر كبيرة وتتسع للكثير، ولن أحمل معي في الطائرة سوى جهاز الكومبيوتر وحقيبة اليد واكتفي بأخذ كتابين مهمين من الجائز أن أجد فيهما ما ينفع أو ينشط في ذهني بعض الأفكار والدالات، هذا ما دار في خلده وهو يقوم بترتيب حاجياته في جوف الحقيبة.
 الكتاب الأول الذي فكر بحمله، كان بعنوان المتخيلات الاجتماعية الحديثة لشارلز تايلر، فهو وبمحتوى جدا راقي وذكي يتحدث عن تشكيل الهوية الوطنية، ومنابع الذات والحداثة والعولمة والدين، عبر فكرة المتخيل الاجتماعي ، هذا سوف أنتفع منه في استنباط الطرق لمعرفة الكيفية التي يتخيل فيها شعب ما الحال الذي عليه، ربما الشعب العراقي يقارب معرفة وجوده الاجتماعي أن تطابق ذلك مع الوقائع والحراك اليومي والعام للعراقيين. أيضا سوف أحمل معي كتاب المجتمع الشبكي  The network Society   لدارن بارني الذي يتحدث فيه عن اقتصاد المعرفة والعولمة، وحال الدولة القومية والثقافة والجماعة، ومعنى العمالة والبطالة في العصر الرقمي. تلك جميعا سمات مشتركة لجميع شعوب العالم. هكذا حدثته نفسه تلك الساعة وهو يقلب مجموعة الكتب فوق المنضدة التي تتوسط الغرفة ذات الأثاث المزدحم والمرصوف بغير عناية.
بقناعة نافذة تيقن أن دارن بارني وشالز تايلر يتوصلان في آن واحد وبخطوط مشتركة رغم تباينهما في الاتجاه، إلى اكتشاف تلك  السمات التي  تبلورت كفكر متجدد يفرض نفسه لتحليل المسيرة التاريخية  للرأسمالية ونتاجها المتبلور في العولمة المتوحشة التي قلبت موازين أعراف الحياة العامة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية وفي المقدمة  منها السمات والهياكل الثقافية، وباتت الكثير من شعوب العالم تترك مصائرها للمجهول، وتفقد سماتها العادية والمألوفة لصالح تشكيلات متوحشة تدفع بها وتحيطها بالخوف والاضطرابات. فالأسواق المفتوحة وهيمنة الشركات الكبرى وعمالة الفقراء والنساء المستلبات والأطفال ، والتفاوت الطبقي والتهديد اليومي للرعاية الاجتماعية وتخريب البيئة والتلوث وهيمنة ثقافة الابتزاز والربح والتسطيح الفكري.
 ليس هناك أدنى شك بأن كتاب دارن بارني سوف يمتعني جدا بمحتواه. وهو يحاور نفسه راح ماركس يضغط ويفرك الإبهام في يده اليسرى ، وتلك عادة يمارسها حين يضغط عليه التفكير وتدور في رأسه الرؤى والحسابات المتسارعة، وقد اكتسب تلك العادة جراء القلق والتوتر الدائمين الذي عاشهما  طيلة حياته وبالذات خلال الضغط المتولد على النفس أثناء البحث والتحليل وتكثيف الأفكار حول وحدة صراع المتناقضات وقانون نفي النفي، وأيضا العمل المعرفي المضني في محاولة مقاربة وتحليل تحول الكم إلى كيف، والبحث في المسيرة التاريخية والتطور الحتمي للبشرية، وفق المنطق الجدلي وبالأدوات الثورية وتلك أس النظرية الشيوعية العلمية التي وضعها مع صديقه الوفي فردريك . راح ماركس في صمت طويل ينظر لأرضية الغرفة ساهما يحدث نفسه عن طبيعة العولمة المتوحشة التي أستعرضها وفصلها دارن في كتابه وكيف انه يقاربه بالفكرة وفي الكثير من الاستنتاجات والمخارج.
 وضع حقيبة السفر جوار السرير وتركها مفتوحة، فهناك احتمالات كثيرة واردة، ربما تتطلب منه وضع بعض الحاجيات التي سوف يحتاجها خلال العشرة أيام التي عليه أن يقضيها في العراق. لحد الآن لم يفكر بجلب هدايا لمريديه ومشايعيه في العراق، وقد أبعد عن ذهنه مثل هذا الآمر، فهو لا يعرف عنهم شيئا محددا. لا عن طبيعتهم وطباعهم، و لم يشاهدهم أو يلتقي بهم، وهو بالمطلق لا يملك أي تصور عن أحجامهم وأشكالهم وأذواقهم ورغباتهم، سوى حديث عابر لبعض الأصدقاء عن المظهر الخارجي للعراقي وبعض طباعه العامة، وكان الوصف غير مجدي وليس محببا بل كان منفرا ومزعجا. ولذا لن يجازف حتى بشراء قناني عطر من النوع الرخيص لتقديمها هدايا لمستقبليه في مطار بغداد الدولي، وهو وفي حقيقة الآمر غير ميال لتبادل الهدايا ولا حتى لمثل تلك البروتوكولات والمجاملات التي يجدها غير مجدية ومنافقة في بعض الأحيان، ويعتقد أنها تكريس لتقاليد برجوازية ليس إلا.
قضى يومه في البحث عبر جهاز الكومبيوتر بين مواقع كثيرة منها الموسوعة الحرة ويكيبيديا وكذلك غوغل لعله يجد فيها ما ينفعه ويساعده خلال رحلته أو جولاته في مدن العراق. وجد الكثير من المعلومات المشوشة والمربكة، لا بل كانت هناك معلومات متضاربة ومتضادة لا يمكن للمرء معها أمساك الحقيقة. أصيب بالدهشة والحيرة وهو يطلب بعض المعلومات عن بغداد كمدينة. ففي خارطة لموقع غوغل  وجد إن اسم المطار يظهر في بعض الأماكن باسم مطار صدام، ثم يظهر في موقع أخر باسم مطار بغداد الدولي. وقد اضطر أن يجدد البحث لمرات عديدة في محاولة لمعرفة عدد المطارات الدولية في العاصمة العراقية، فلم يجد غير هذا المطار، ومطار أخر اندثر منذ زمن بعيد وكان باسم مطار المثنى. ولكن حيرته تحولت إلى  إرباك حين بحث في طبيعة أحياء مدينة بغداد ومحلاتها، فظهر له احد أحيائها الكبيرة مرة باسم مدينة صدام ثم مرة أخرى باسم مدينة الصدر وفي خارطة ثانية كان اسم ذات الحي مدينة الثورة ومن ثم نال في أعوام مضت تسمية الرافدين. أصابته الحيرة وهو يقلب الصفحات بحثا عن ثبات هوية لمدينة لا يستقر أسمها على حال، وتساءل عن السبب والدوافع لتلك التغيرات. أيعني هذا أنه أمام مزاج متقلب أو مشاعر وعواطف مرتبكة مصابة بعِصاب وهلوسة اجتماعية سياسية،أم أنها ظاهرة ناتجة عن  عوامل قسر وترويع بسبب تنافس وصراع داخل أحياء تلك القصبات والمدن. أم هناك ظروف قاهرة خفية تضطرهم للتمويه ومن ثم اختيار أسماء مختلفة لمكان جغرافي واحد.  أم تراه  حالة من تماهي الخائف مع جلاده. ومع استمراره في البحث والتقصي وجد أن هذه التغييرات والتحولات ليست مقتصرة على مدينة بغداد وإنما تطال الكثير من مدن العراق وأحيائها.
 
*   *   *   *   *   *
حطت الطائرة فوق مدرج مطار بغداد الدولي. كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهرا من يوم  جاف في شهر تموز. خارج نافذة الطائرة القريبة منه بدت ساحة مكشوفة يتقاذف الهواء فيها بقايا أكياس بلاستيكية وأوراق صحف. بدت ملامح بناية المطار غير واضحة بسبب الغبار الكثيف الذي ينم عن طقس عاصف ملبد بالتراب.كان  يوما عاديا من أيام قيض العراق اللافح.
 قبل أن يخمد هدير محركات الطائرة تصاعدت ضجة بين الركاب وكان وقعها عليه كبيرا: الله مصلي على محمد وآل محمد.سمع هدير الجملة يتصاعد ويتردد بنغمات مختلفة في أحشاء الطائرة ، كررها بعض الركاب ثلاث مرات مع مط نهاية الجملة بنغمة خاصة. مقدمة لم يستحسنها ماركس وبدت وكأنها تحدا لمشروعه أو هي استفزاز مقصود لشخصه،فهمس سرا وكأنه يحدث نفسه، الدين هو عجز العقل البشري على التعامل مع حوادث لا يمكن فهمها، ولا حظ وهو يلوك حيرته، أن هناك من يرفع عن عمد كفه ويفتح أصبعيه علامة النصر، فتساءل مع نفسه هل يعني لهم هبوط الطائرة انتصار، أم هو المعني بتلك الإشارة. 
فُتح باب الطائرة فاندفع هواء حار داخل جوفها . صاح شخص كان يجلس ليس بعيدا عن مقعد ماركس ، واوو... ما هذا الدفيء يا الهي، أنها شمس الوطن وحرارته التي تبعث النشاط والحيوية في الروح. تبسم له ماركس كأنما يشاطره القول، وشعر ببعض الاطمئنان حين تلاقت عيناهما.فالوطنية عنده تتبدى في كل ما يفعله أو يظهره المرء. وقف أغلب الركاب في الممر وراحت الأيدي تتسابق مسرعة في محاولة سحب الحقائب من الرفوف. تقدم البعض مسرع نحو مقدمة الطائرة ولكن فجأة  سمع صوت المضيفة وهو يرتفع ويطلب من الجميع العودة إلى مقاعدهم  والبقاء فيها لحين ورود معلومات أخرى. راح البعض يتململ ويثرثر في بداية الآمر بصوت مكتوم، وآخرون يشتمون ويصرخون  ويتذمرون من الحر.أستمر الحال لما يقارب النصف ساعة دون أن يبرر للركاب بقائهم وعدم مغادرتهم الطائرة . أصبح الوضع لا يطاق مع بكاء الأطفال وصراخ البعض وهذيان العجائز وشتائم الشباب وسبابهم على سلطة رئيس الوزراء ووزير النقل والبرلمان، لا بل كانت كمية الشتائم تغطي وتطال جميع من هو مشارك في السلطة. كان ماركس يدير رأسه في جميع الاتجاهات يراقب حركة الركاب ويستمع لأحاديثهم وصراخهم ويدقق في نوع الشتائم وطبيعتها في محاولة منه أن يلم بالحدث بشكل دقيق. كان يود أن يجد علاقة بين رئيس الوزراء ووزير المواصلات وأعضاء البرلمان بالحالة التي وضع فيها ركاب الطائرة. كان صبورا دقيقا في بحثه عن سبب تلك الهستيرية التي انتابت البعض من الركاب، فسأل الراكب الذي يجلس جواره عن الدوافع لمجمل تلك الشتائم التي صبت على رأس الحكومة فلم يجد جوابا شافيا وإنما أزداد الوضع غموضا مع جملة الراكب التي تكونت من ثلاث كلمات لم يجد ماركس معها بدا من الصمت وهز الرأس علامة جهل مفرط، ولكنه رددها مع نفسه ووجد فيها ما يرفع من مستوى ارتباكه، فتمتم وهو يمسد لحيته الكثة.
ـ عمي حكومة فاكسه..
عشرون دقيقة أخرى مضت وسط الضجيج وارتفاع درجة الحرارة والروائح العطنة التي نزت عن بعض أجساد الركاب المتعرقة.  أعلنت المضيفة عن انفراج الأزمة والسماح بالمغادرة، فاندفع الركاب وكأنهم سجناء أطلق سراحهم للتو، فراحوا يتدافعون للوصول إلى باب الطائرة بضجيج وشتائم لم تهدأ أو تستكين. كان الطيار والمضيفات يودعون الركاب بابتسامات مغتصبة وتقطيب وجه ظاهر، وسمعهم ماركس حين اقترابه، يلوكون من وراء أسنانهم وبصوت خافت جملة غريبة،ود  لو يسألهم عن معنى  الكلمات التي جاءت فيها.
ـ دفعت مردي  بعصا كردي..روحة بلا رجعه.
مضت بهم سيارة الباص نحو بوابة المطار، وعرف الركاب من سائقها بأن حجزهم في الطائرة كل ذلك الوقت، كان سببه مصادفة وصولهم مع وجود وفد حكومي ينوي السفر بمهمة سرية ومستعجلة خارج العراق. ولأجله أفرغت قاعات المغادرة والوصول، ومنع وجود أي مسافر في ساعة مغادرة الوفد. ضج الباص بهستيريا الشتائم والصراخ والتذمر وكان أشدها قسوة صوت عفطة طويل جعلت عيون الجميع تتلفت دهشة بحثا عن مصدرها.
 سلم كارل ماركس جواز سفره  للموظف الجالس داخل الكابينة، فطالع الرجل ماركس بشيء من الفضول وكانت ثمة ابتسامة شاحبة تظهر فوق شفتيه، ثم طلب من ماركس  النظر في الكاميرا الصغيرة التي وضعت في الجانب الأيمن من الكابينة، وهي التي تلتقط صورة العين للدلالة والكشف. بعد ذلك سائل الرجل كارل ماركس عن أسمه الكامل ثم راح مرة أخرى يتملى به بتمعن وفضول ظاهر بعدها قال:
ـ سبق أن جئت إلى بغداد، أليس كذلك ؟
ـ كلا يا سيدي، أنها المرة الأولى.
ـ مستحيل، فأنا شاهدتك سابقا، شعرك ولحيتك  ليست غريبة عني. متى كانت أخر زيارة لك إلى بغداد.
ـ مثلما أخبرتك، هذه زيارتي الأولى إلى العراق.
ـ لا تمزح معي ، أنت من أي بلد؟
ـ أنا ألماني الجنسية.
سحب الموظف جهاز الهاتف ونادى على شخص بكلمة سيدي.
ـ هنا شخص ألماني الجنسية قادم من انكلترا . يدعي إن  زيارته هذه هي الأولى للعراق. وأنا اشك في هذا، فسبق لي أن شاهدته لمرات عديدة وهو يدخل عن طريق المطار بذات اللحية والشعر الكثيف، وحتى أسمه سبق أن تكرر أمامي، أعتقد أن الأمر يتطلب التحقق من شخصه.
سحبته من كفه بشيء من الخشونة يد ثقيلة شديدة السمرة مثل وجه صاحبها بثيابه العسكرية المرقطة، بعد أن قال تفضل معي إلى غرفة المقدم. تقدم العسكري برفقة ماركس نحو باب غرفة موارب قليلا يخرج عنها دخان سجائر كثيف يحمله هواء بارد رطب. كان الضابط يحمل فوق كتفيه صورة نسر ونجمة، ويجلس متشنج متوفز متوتر وراء منضدة عريضة تحتل الجهة اليمنى من الغرفة، وثمة لوحة معلقة على الجدار خلف الضابط كتب عليها بخط عريض ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) تبسم ماركس وهو يقرأ الخط بلونه الذهبي  فوق رقعة القماش الحمراء داخل برواز خشبي أسود اللون ودندن مع نفسه بصوت مكتوم، قد يوجد العقل لدى الإنسان ولكن ليس دائما بشكل عقلاني.
أمام وجوار المنضدة سبعة كراسي بمساند غلفت بقماش فاقع الألوان يشغلها سبعة من العساكر ببزاتهم المرقطة ولكن دون رتب عسكرية ظاهرة، وثمة تلفزيون معلق فوق جدار الغرفة المواجه لمنضدة الضابط. الجميع ومعهم الضابط كان مشدودا نحو شاشة التلفزيون. كان هناك عرض للعبة كرة قدم ، عرف ماركس أنها تجري بين فريقي برشلونه وخصمه العتيد ريال مدريد. لم يكن ماركس يهوى كرة القدم بقدر هوايته للكتب والفلسفة ودائما ما كانت رياضته المفضلة هي المشي . راح بفضول يطالع محتويات الغرفة والضابط ومجموعة العساكر الذين يحتلون الكراسي السبع، ويضجون بالصراخ بين فترة وأخرى. يتفاعلون بعفوية ويغيبون عما يحيطهم مع دحرجة الكرة بين أقدام اللاعبين. تقدم الجندي وقدم نفسه للضابط بعد التحية، وقال بصوت عال أنه قد جلب الشخص المطلوب. لم يرفع الضابط عينيه عن شاشة التلفزيون وأشار لماركس بصوت مسموع أن يجلس عند زاوية الغرفة البعيدة فوق السرير الذي رصف هناك. كان الفراش مبعثرا وكأن أحدهم قد استيقظ من النوم للتو وترك فراشه في حالة إهمال شديد. جلس  ماركس عند طرف السرير وراح ينظر نحو الضابط لعله يتجاوب مع وجوده ويلتفت ليحدثه . كان الضابط منفعلا ومتشنجا وهو يراقب أحداث المباراة ،وعند لحظة أهدار هدف لفريق ريال مدريد ضرب الضابط بكفه الثقيلة فوق المنضدة وأطلق سيل من شتائم وكفر صريح لم يسبق لماركس أن سمع به حين كان داخل الطائرة ولا حتى من الشباب العراقي في الأحياء الخلفية لمدينة لندن.
ـ أستاذنا العزيز، هناك من ينتظرني خارج المطار وعليَّ أن أأخذ حقيبتي أيضا.ما المشكلة التي تعترض مغادرتي؟
هكذا ناشد ماركس الضابط وهو يقترب منه.
ـ عد إلى مكانك ، لم يبق على المباراة سوى القليل، أجلس فأنت ضيفنا وسوف تحل مشكلتك بسهوله، أجلس ولا تتعب نفسك بالتفكير، بالمناسبة من تتوقع له الفوز في هذه المباراة؟
عاد ماركس إلى جوار السرير وترك الضابط دون أن يجيب على سؤاله. وبدوره عاد الضابط يشارك أصدقاءه متابعة المباراة دون أنتظار الحصول على جواب عن سؤاله.  أستمر الوقت يسير بتثاقل والجميع لاه بالمباراة. وأخيرا فاز ريال مدريد ومع فوزه تهلل وجه الضابط وراح في موجة من فرح غامر وصراخ وتصفيق ثم لوح بيديه في الفضاء وراح يهتف. علي وياك علي .. علي وياك علي .. علي وياك علي .. ثم صرخ بفرح ونشوة
ـ خرخش .. عيوني خرخش ، شنو حسبالك رونالدو فلس فلسين، هذا حلال المشاكل أخو أخيته.
بدوره اخرج أحد العساكر رزمة من نقود وضعها فوق المنضدة أمام الضابط وكان وجهه يكتسي بعلامات حزن مكين.
 أدار الضابط وجهه نحو ماركس قائلا.
ـ كَصتك حلوه علينا أستاذ ماركس ، تدري لو خسران الريال جان مشكلتك أنلاصت وأتأجل حله الباجر، أي سولف أستاذ شنو مشكلتك؟.
ـ لحد الآن لا أعرف السبب وأي مشكلة تعترض دخولي العراق.
ـ سبق لك أن زرت العراق .
ـ كلا هذه هي المرة الأولى.
ـ ولكن ضابط التفتيش يقول أنه سبق وإن شاهدك تدخل العراق وهو يعرف شخصكم جيدا.
ـ ربما أن الضابط شاهد صوري في بعض الأماكن أو قرأ لي بعض الكتب. فانا صاحب كتاب رأس المال ونظريتي عن مستقبل العالم معروفة يتداولها الملايين من البشر، والطبقة العاملة في العالم أجمع ترفع صوري وتتداول كتبي.
ـ وما هي نظريتك باختصار أستاذنا الفاضل، تكدر تنورنا رجاءا؟
 قال جملته ترافقها حركة خفيفة من الرأس توحي بنوع من الاستخفاف. ولكون ماركس لم يواجه أو يتعرف على مثل هذه الحالة سابقا، في جميع لقاءاته، ولا حتى في جداله مع أعدائه،  لذا لم تكن لتعني له حركة رأس الضابط العراقي وطريقة طرحه السؤال وابتسامته المتخابثة الصفراء، حالة من السخرية أو شيء من الهزأ.
ـ أنا كارل ماركس قدمت نظرية في النظام الاقتصادي العالمي ومستقبله الاشتراكي وحتمية انهيار الرأسمالية وانتصار الشيوعية، ولدي تحليلات فلسفية في وحدة  صراع الأضداد وقانون نفي النفي.
ـ يعني .. لتخوفنا بهذه الانهيارات والصراعات، هسه أحنه بيا حال،  وأنته دخلتنه بالفلسفة، وقانون ما أدري شنو ما شنو، كَول من البداية أنته شيوعي وفضه.
ـ لا ..
ـ بس شلون أنت تكول مألف كل هذه الكتب ومو شيوعي.
ـ لم نصل بعد لمثل هذه المرحلة لندعي بأننا شيوعيون... نحن ممهدون.
ـ يمعود تره أحنه ما عدنه خلك لهيجي سوالف.  هسه قل لي.. شنو تريد؟.
ـ لا أريد سوى أن أحصل على جوازي واذهب إلى بغداد فهناك من ينتظرني.
ـ عمي تفضل ، أعذرنا من التقصير.
ثم نادى على الجندي الواقف وراء الباب وطلب منه أن يأخذ معه ماركس لإكمال معاملة دخوله العراق.ثم أردف قائلا:
ـ  هسه عرفت شنو سالفة ضابط التفتيش أحمد .. هذا يعرفك زين لأن هو شيوعي، ويريد يغطي على نفسه.. خوش والله خوش .. بنصنه ملحد وما ندري.
       
     

أسئلة مشروعة

 1 ـ ما الذي سوف يواجهه ماركس في العراق؟
2 ـ هل يتمكن ماركس من الإلمام  بالوضع العراقي ويتوصل لتحليله وفق معطيات النظرية الماركسية ؟
3 ـ  كيف يقدم السياسي والمواطن العراقي العادي المساعدة لماركس كي يتسنى له النجاح في مهمته؟
4 ـ ما هي نتائج زيارة ماركس للعراق ؟
كل ذلك مشروع لوقائع وأحاديث قادمة
 

154


هل الحشد الشعبي عراقي ؟
فرات المحسن

الصراع السياسي في العراق وليد انعدام الثقة بين جميع الكتل والقوى السياسية. واليوم يدفع لجعل تشكيلات الحشد الشعبي في وضع المراوحة ومن ثم المطالبة بحله، ومن خلال محاصرته بالاتهامات والمثالب، رغم ما خرج به من نتائج  مبهرة ومعززة للحمة الوطنية في محافظة صلاح الدين،  اعتمادا على قوة وبسالة وجهادية رجاله، وإثر تقديمه للعديد من الشهداء دفاعا عن أرض عراقية اغتصبتها مجموعة قتلة شواذ، وأيضا تفنيده لمختلف الأكاذيب والافتراءات التي أختلقها وروج لها المناوئون .
تأسيا بالعلاقة القائمة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية، والذي واحدة من معالمها مبني على وفق القاعدة التي وضعتها حكومة إقليم كردستان في منع دخول أي قطعة عسكرية عراقية أو فصيل من فصائل الحشد الشعبي إلى مناطق إقليم كردستان. فأن القوى السياسية من المكون السني تريد الأخذ بمثل هذه الممارسة ووضع أسس جديدة للعلاقة مع المكون الشيعي، من خلال الدفع للإقرار، بأن هناك خصوصية للأراضي التي تقطنها أغلبية سنية، ولن تستطيع قطعات الجيش العراقي والحشد الشعبي الدخول أليها دون موافقة المراجع السياسية للسنة. ووفق هذه الرؤية يرفضون وجود تشكيلات الحشد الشعبي ويصرون على احتساب تركيبته وسراياه مليشيا طائفية، وأنها ذراع للجمهورية الإيرانية ليس إلا. وبمثل هذه الطعون، تحاول تلك القوى ترسيخ عدم عراقية وشرعية الحشد الشعبي  في أّذهان الناس.

رغم المناشدات التي ترد لحكومة العبادي، من قبائل وتجمعات من أبناء مدن الأنبار، تطالبه بإشراك الحشد الشعبي في تحرير مناطقهم، فإن تردد الحكومة في اتخاذ القرار يأتي من جراء خضوعها لمزايدات القوى السياسية والحليف الأمريكي،مما يجعلها تقر لا بل تؤكد وقبل أي شيء أخر، بأن مناطق السنة لها خصوصية مثلما لإقليم كردستان، وهناك حدود سياسية وجغرافية لا يمكن للسلطة في بغداد، كسر قواعدها واستحكاماتها، وإن خرقها عنوة سوف يترتب عليه اصطفاف جديد من الجائز أن يدفع سكان تلك المناطق لرفع السلاح بوجه الحكومة المركزية .
 هذا الموقف التصعيدي، يضع  الحكومة المركزية في موقف لا تحسد عليه،لا بل يعطي انطباع  أولي، بأنها  تتوافق وتعترف باشتراطات وهواجس الذين يتخندقون وراء دعوى انتساب الحشد الشعبي لإيران قبل أن يكون عراقيا، ويروجون بأن جل قياداته هم من الجنسية الإيرانية أو من رجال إيران في العراق، وإن دخولهم لن يكون لتحرير الأرض من سيطرة داعش بقدر ما هو  السعي للانتقام من أهالي المدن السنية.
السيد العبادي الذي أعلن رسميا وضع الحشد الشعبي تحت قيادته، مازال يحذر أن يثير عليه غضب حلفائه وشركائه في السلطة، لو استبق الآمر ودفع بالحشد الشعبي في معارك تحرير مدن محافظة الأنبار. ولكنه لم ييأس، ولحد الآن يحاول تجميع ما يمكن من أصوات لحلفاء بين ذلك الوسط المشكك بالحشد،في محاولة  لتغليب  خيار مشاركة الحشد الشعبي في تحرير جميع مدن محافظة الانبار، وكسر استحكامات باقي الشركاء من الممانعين وحلفائهم داخل القوائم السياسية للمكون السني.
منذ سقوط سلطة البعث الفاشي لم تتوقف المعارك داخل مدينة الرمادي ومحيطها، وهي عمليات كر وفر كانت سابقا بين منظمة القاعدة وحواضنها من العشائر وبالضد من السلطات المحلية المساندة للحكومة الاتحادية وبعض العشائر المتحالفة معها وبرعاية الأمريكان وأموالهم .  ثم حلت منظمة داعش بديلا عن القاعدة لتستقطب بدورها اغلب  رؤوس وأبناء عشائر الانبار.
قضاء الرمادي يبعد عن بغداد 180 كيلو مترا، ولكن بعض الاقضية والنواحي التابعة لمحافظة الانبار تجاور بغداد وتتداخل مع بعض مناطقها، لتشكل بامتداداتها الجغرافية والسكانية خاصرة رخوة للعاصمة العراقية . فناحية الكرمة وقضاء الفلوجة والكثير من قرى محافظة الانبار تتداخل جغرافيا وسكانيا مع العاصمة بغداد من جهات أبو غريب،التاجي ،المشاهده ،ناحية النصر والسلام ثم اليوسفية وهذه المناطق تعد مناطق سكن بغالبية سنية.
أذا كانت مدينة الرمادي بعيدة جدا عن بغداد والمعارك فيها لا تشكل خطرا على بغداد، فأن خطر وجود البعث ـ داعش وحواضنه في الأماكن القريبة من العاصمة وبالذات قضاء الفلوجة وعامرية الفلوجة والكرمة، يفرض على الحكومة المركزية ممثلة بشخص السيد رئيس الوزراء العبادي، أن يضع لهذه المناطق خصوصية وأولوية في دائرة القرار الذي يتقدم على باقي القرارات، بجعلها خطا احمرا، لا يمتلك قرار السيطرة عليها أو تحريرها سواه، وان يمنع ويقف بوجه جميع التخرصات والمزايدات والضغوط التي تفتعلها بعض القوى السياسية والطائفية داخل السلطة ، وينهي حالة التردد والحياد والتجميد التي وضع الحشد الشعبي فيها، ولتكون بيده الحجة والدليل القاطع حول ضرورة ووجوب إبعاد الإيذاء والتهديد اليومي عن العاصمة بغداد حيث تتعرض بعض مناطقها ومطارها الدولي بشكل مستمر لصواريخ وهاونات الإرهاب المسلح.  وهذا لوحده كافي للإسراع في دفع الحشد الشعبي لإثبات عراقيته ووطنيته الخالصة. وإن من يعترض على اندفاعه لتحرير تلك المناطق وتأمين العاصمة بغداد وأبعاد الشر عنها ، فهو يسعى لسقوط بغداد بيد  حزب البعث  الفاشي وتفرعاته من عصابات داعش والنقشبندية وجيش محمد  والمجلس العسكري والبعض من المؤازرين لهم  في داخل العملية السياسية والسلطة .
 وفيما يتعلق بإشراك الحشد الشعبي وباقي فصائل المقاومة في تحرير باقي مدن الانبار، فيفترض أن تسبقه  مشاركة للقوى السياسية السنية وفصائلها المسلحة وكذلك عشائر المنطقة حيث تكون في مقدمة  صولة التحرير ورأس الحربة فيها، على أن يكون الحشد الشعبي مساندا لها وليس العكس.

 

155



حلف عسكري عربي لخنق تطلعات الشعوب
فرات المحسن
تتعرض المنطقة العربية لمخاطر جمة ليس اقلها وجود ظاهرة الإرهاب المتفشي في مفاصل جميع بلدانها، وعلى مستويات إدارات ومؤسسات وقادة،كذلك نظم تعليم ومعارف وثقافات وصولا لعلاقات اجتماعية. ويبذل الحكام ومؤسساتهم الكثير من الجهود ويسفحون الأموال الطائلة في عمليات ممنهجة لوضع شعوبهم في حالة غيبوبة، وإجبارها على البقاء في مستنقع الفقر الثقافي والمعرفي، الذي يعالج مظاهر الحياة وحراكها سطحيا وضمن استحكامات مفروضة، لا تتواصل مع حقائق ومستجدات الأوضاع بواقعية بقدر ما تذهب بعيدا عن مستجدات الحقائق العلمية ومظاهرها اليومية، وتتبلور بتوصيفات متطرفة صبيانية متطيرة أو محافظة غارقة برجعيتها، وهذا يجعلها الذهاب لتبرير الأوضاع القائمة باللجوء للغيبيات، وهذا يمنع المساس بجوهر وطبيعة السلطة الحاكمة، أي سلطة ولي الأمر الذي يحرم الدين خروج الأفراد عليه.
في جميع الأحوال لا يمكن أدراج سلطة عربية بعينها مهما كانت طبيعتها السياسية اليوم، في خانة الحكومات التقدمية الديمقراطية، حتى وأن أجريت في بلدانها انتخابات. فالجميع دون استثناء يندرج تحت مسمى السلطات الرجعية أو الحكومات الشمولية أو في أبسط التوصيفات يمكن وسمها بالمحافظة والتقليدية. وبمختلف المستويات فجميعها قامعة لشعوبها بشكل أو أخر، وفي الوقت نفسه خائفة منها، وتمارس عملها بعيدة كل البعد عن روح العصر وحضارته التي من صلبها الديمقراطية.
يبدو أن إرهاب الإخوان المسلمون ثم القاعدة ومن بعدها الوليد الجديد والوريث الشرعي لهما (داعش ) وتهديدها لنظم الحكم العربية القائمة (بعد انقلابها على رعاتها) أثار الفزع بين تلك السلطات، مثلما تثير فزعها التغيرات الحاصلة لصالح الديمقراطية والحراك المدني والحداثة في العالم، والتي باتت مستحقاتها تقترب وتتداخل بشدة في مجالات حياة شعوب الشرق، وأصبحت الشعوب تشعر بأن لا مناص من تغيير طابع الحياة الكهنوتية التي تفرض عليها.أيضا ظهر بشكل حاد عامل التهديد المذهبي المتصاعد المتمثل بمشروع إيران التوسعي وارتباطاته الإقليمية .
  إن استشعار الخطر المندفع من كل الجهات جعل تلك الحكومات تبحث عن صيغ تكفل أبعاد شبح التهديدات الكثيرة، والتي أضحت بروابطها وحركاتها وأعلامها تضرب أطنابها في صميم ورحم دواخل الشعوب ومؤسساتها السياسية والاجتماعية، وتخلق تأثيرات وارتجاجات غير هينة بين أوساط الناس، وبالذات الشباب منهم، وهم عصب التغيير ودعاته اليوم.وأمسى ذلك تهديدا جديا يقترب شيء فشيء من عصب السلطة، لذا لم تجد تلك السلطات الحاكمة غير سلوك التآمر والقوة والقمع للحفاظ على تركيبتها ومكاسبها، فدون ذلك فهي تستشعر بأن حياتها السياسية باتت معلقة بخيط واه لا يمكن أن يصمد أمام المخاطر الخارجية والداخلية المتصاعدة والمتسارعه بتأثيراتها.
 من كل هذا، استدعت نوازع التطير والخوف من الحكومة السعودية، التحريض والطلب من وليدتها الحكومة المصرية بقيادة المشير السيسي لطرح مشروع الحلف العسكري العربي، الذي تلقفه البعض كمشروع للإنقاذ ومتراس للصد، يمكن له أن يكون حلا مناسبا للسيطرة على طفح بعض التمرد والانفلات الشعبي، ولمنع أي تغيير ديمقراطي وحضاري يهدد مستقبل الحكومات الرجعية في عقر ديارها. وأخيرا طرح المشروع من قبل الأمين العام للجامعة العربية، في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في شرم الشيخ، وباحتفاء ومباركة جميع الحكام العرب، الذين تلقفوه وكأنه مشروع الخلاص من الخوف القابع في الجوار والداخل.
 ولكن يبدو أن السعودية وهي صاحبة الفكرة الرئيسية لهذا المشروع، كانت قد استبقت الآمر، وبما تملكه من قوة مالية وسياسية، لطرح المشروع عمليا وتطبيقه على الأرض، بإشراك ما يمكن إشراكه من تلك الحكومات العربية، لتكون هي نواة وقائدة هذا الحلف العسكري القادم، ولذا دفعت من أأتلف معها في اختبار قوة عبر خوض الحرب في جمهورية اليمن، وحشدت له قوة عسكرية ذاتية كبيرة لم تكن تجازف السعودية لإشراكها في حروب دائما ما كانت قريبة منها جغرافيا وسياسيا ، لا بل كانت تمس عصب السيادة الوطنية السعودية، ومثلت في بعضها تهديد حقيقي لمصالح الدولة وجغرافيتها.  فلم تفكر السعودية في يوما ما بدفع مثل هذا الجيش العرمرم والسلاح المتطور لتحرير مثلا الجزر السعودية التي سلبتها منها إسرائيل ومازالت، والمشرفة على المدخل الشمالي للبحر الأحمر وتمثل عصب الملاحة في المنطقة، بل نجدها صامته ونسيت أن لها أرض مسلوبة.
 ولكننا نجد إن كل ذلك الحشد المؤلف من 150 ألف عسكري سعودي ومئات الطائرات وبشراكة التوابع، يأتي لإزالة التهديد المتمثل بالحوثيين الزيدية. وهؤلاء يمثلون أحد التهديدات التي باتت السعودية تتخوف من أن يصل سعيرها لعقر دار المملكة. والمملكة السعودية دائما ما كانت تجد في اليمن وشعبه ما يهدد حياة ملوكها. وعملت بمثابرة ودون حدود لتكون هناك قوى تلجم حركته الناهضة وتحد من تطلعاته نحو التحرر والديمقراطية. أيضا فان الزيديين اليمنيين الشيعة بعد انقلابهم، مابرحوا اليوم يمثلون خطرا عقائديا مدججا بالسلاح، وهم أشد باسا من باقي الخصوم، ولا يمكن غض النظر عنه، ومن الواجب استباق الأمر وكبح جماحهم قبل أن يستشري وباءهم ويصبح تهديدا خطيرا، ليس فقط للسلطة الحاكمة في السعودية ولمجلس التعاون الخليجي، بقدر ما يمتد خارج شبه الجزيرة العربية ليغزوا جميع البلدان العربية، ويكون ذلك عبر ارتباطاتهم بمشروع  التوسع المذهبي الإيراني ونصرا له .   

156
الحذر الحذر من خطة أمريكا لتحرير الموصل

فرات المحسن

"أكد مسؤول في قيادة المنطقة المركزية الأميركية أن خطة تحرير الموصل هدفها تحرير المدينة من تنظيم داعش في عملية برّية واسعة تبدأ في الفترة بين شهري أبريل ومايو المقبلين. وقال إن تنظيم داعش لم يعد قادراً على احتلال مناطق جديدة، بل يخسر مناطق كان يسيطر عليها، وإن قدرة التنظيم الإرهابي على قيادة عناصره أصبحت ضعيفة، ولم يعد قادراً على حشد قوات في منطقة من دون التخلي عن منطقة أخرى. لافتا إلى أن التنظيم وعلى الأغلب سيقوم بتعزيز عدد عناصره تحت تهديدات الهجوم على الموصل.
 وأكد المسؤول في المنطقة المركزية أن العدد الأكبر للقوات التي ستقوم بالحملة يصل إلى 25 ألف جندي عراقي موزّعين على خمسة ألوية ستقوم بالهجوم فيما تتولى 3 ألوية دور الدعم والاحتياط، وتقوم ألوية أخرى بأعمال حماية الأمن بعد تحرير المناطق. وشدد المسؤول الأميركي على أن الخطة تسير بسرعة أكبر مما كان مخططاً لها، لكنه أشار إلى تحديات حقيقية تواجه هذه العملية. وتابع المصدر أنه ومن الناحية النظرية فإن قيام خمسة ألوية عراقية بقتال شوارع ضد التنظيم في الموصل سيرجح كفتهم.
من جهته صرح وزير الدفاع الأمريكي، آشتون كارتر تعقيبا على تصريحات مسؤولين أمريكيين الذين أدعوا  بأن عملية استعادة الموصل ستتم إما بشهر ابريل/ نيسان أو مايو/ أيار المقبلين قائلا: من المهم أن تبدأ العملية في الوقت الذي يضمن نجاحها، والمهم هو إنجاح العملية. وحول تحديد موعد العملية، قال: “حتى لو كنت أعلم بالضبط موعد هذه العملية لن أبوح به.
من جهة أخرى قال توم فونتيس، المساعد السابق لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" إن نتائج كارثية، على حد تعبيره، ستترتب على عدم تمكن الجيش العراقي من طرد تنظيم "داعش،" من مدينة الموصل. ولفت في مقابلة مع CNN إلى أنه ومن وجهة نظره فإن هذه النتائج الكارثية سيصعب تخطيها على المدى البعيد."
ما تقدم هو خلاصة التقارير الصحفية عن معركة الموصل المرتقبة والتي خططت لها قيادة المنطقة المركزية في الجيش الأمريكي وأفصحت عن بعض ملامحها على الأرض. وفي الوقت نفسه تحذر من وجود مخاطر وعثرات يمكن أن تواجهها هذه الخطط وربما تفشلها.
المعتقد أن الإدارة الأمريكية تسير وفق نهج مرسوم لعموم المنطقة حتى من ما قبل ولادة داعش، ومثل هذه الخطط التي وضعت لمستقبل جغرافيا المنطقة لن يكون هناك حياد فيها،وسوف تستمر بصراعات   وحراك لحين ظهور الخارطة الجديدة والمعدة سلفا في دهاليز البنتاغون.
على مدى ثمانية أشهر مضت منذ احتلال داعش للموصل ومناطق أخرى في الرمادي وصلاح الدين وديالى لم نلحظ  لفعل قوات التحالف ما يضمن أضعاف قوى التنظيم الإرهابي، بل ظهر بان القصف الجوي جعل تنظيم  داعش  يوما بعد أخر يكتسب القدرة على التخفي، في حرب عصابات يبدو من المستحيل فيها اصطياد أعضاءه في أوكار تكون أما شعاب ووديان أو مغارات وبساتين أو بين أوساط السكان والعديد من الحواضن. أيضا ساعد قصف طائرات التحالف على دفع أعداد جديدة من الشباب للانضمام للمنظمات الإرهابية بدوافع مختلفة من بينها المغامرة والمقامرة والارتزاق أو محاربة الولايات المتحدة الأمريكية ويختلط مع كل هذا وذاك الإيمان بالإسلام كعقيدة مستوحاة من فكر بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب .
 ولكن ما يدفع لإثارة التساؤل حول حقيقة التعامل مع داعش من قبل قيادة التحالف الدولي وبالذات الولايات المتحدة، هو المشهد اليومي لداعش وهي تحرك قواتها بيسر وسهولة في جميع الاتجاهات دون حذر من الطائرات الأمريكية أو طائرات التحالف الأخرى، ويلاحظ أيضا قدرة داعش على القيام بغزوات شبه يومية على الكثير من المناطق وفي مختلف جبهات القتال،أن كانت في المناطق المجاورة لإقليم كردستان ومحافظة كركوك وصلاح الدين أو مناطق ديالى والرمادي حتى محيط ووسط بغداد، دون أن يستطيع طيران التحالف المساند للقوات العراقية إيقاف زحفها إلا بشق الأنفس، ويقدم الجيش العراقي في تلك المعارك خسائر كبيرة في المعدات والأشخاص. فمدينة الفلوجة التي مضى على احتلالها ما يقارب السنة والنصف، فإن الجيش العراقي يبدو غير قادر بالمطلق على استعادتها، وقدم خسائر كبيرة حول محيطها. أيضا فإن قيادة التحالف لم تقدم أي عون يذكر لتحرير المدينة رغم أن الفلوجة تقع في خاصرة بغداد، ودائما ما شكلت وعامريتها ومنطقة أبو غريب التهديد الحقيقي للعاصمة. وفي الوقت  نفسه نجد أن جبهات ساخنة عديدة تشتعل كل يوم وهي في وضع كر وفر بين القوات العراقية وتنظيم داعش المسنود من بعض العشائر. فحزام الموصل حاله حال محيط تكريت وبيجي وأغلب مناطق الرمادي، حيث تستمر المعارك الضارية هناك والتي تفصح عن قدرة تنظيم داعش وحلفاؤه على خوض معارك في عدة مناطق، وبصفحات متعددة بنفس الوقت، وليس كما تدعي الإدارة الأمريكية بان قدرات داعش لم تعد بذلك الزخم الذي يجعلها تستطيع  حشد قوات في منطقة من دون التخلي عن منطقة أخرى. فاحتلال منطقة القائم وباقي مناطق غرب الرمادي حتى المركز، ومعارك البغدادي وبيجي وحزام الموصل ومناطق صلاح الدين وشمال العاصمة خير دليل على تلك القدرات التي يتمتع بها التنظيم. وفي الوقت نفسه فإن تلك المعارك تدلل بشكل لا يقبل الشك وبما يؤسف له، على عدم جاهزية الجيش العراقي لمعارك كبرى رغم دخول الحشد الشعبي في الكثير من المعارك كرأس حربة أو ظهير لهذا الجيش.وتفصح أيضا عن بؤس وعدم جدية وتواطأ وتحايل من قبل قيادات التحالف الدولي لأغراض ما عادت تخفى على الحليم. فطيران التحالف يسيطر ويبرمج أو في أغلب الأوقات يمنع الطيران العراقي من إسناد الجيش في مناطق الرمادي وصلاح الدين. ويقوم طيران التحالف بإسناد قطعات البيشمركه فقط وقصف داعش عند الحدود الأردنية والسورية في عملية يظهر أنها تحمل أهداف بعيدة. ولكن بعض القادة في الجيش العراقي يدركون جيدا بأن الغاية من هذا الأمر، تتعلق بنية الولايات المتحدة وحلفاؤها أبقاء قوة داعش وحلفائها في صلاح الدين والمناطق الغربية ندا للجيش العراقي، ولتكون تلك القوى نواة جيش خاص للمنطقة السنية المقبلة بعد انتهاء المعارك ووهن الجيش بتشكيلته الحالية.
إن عدم جاهزية الجيش العراقي وتشتت قواته في العديد من الجبهات، يضعنا أمام مشهد محير، تثار فيه شكوك حول حقيقة نوايا الإدارة الأمريكية، في الحث على دفع هذا الجيش لتحرير مدينة كبيرة بمساحتها ونفوسها، مع وجود قوات لداعش لم تستطع المخابرات الدولية والمحلية التأكد من حقيقة أعدادها ومعداتها داخل المدينة، وكذلك لا توجد لحد الآن قوات عسكرية أو محاولات ضغط جدية تمنع القذارة السياسية الدولية التي يمارسها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مما يمنع  تدفق رجال منظمة  داعش وإمداداتها عبر الحدود. فمازالت تركيا مضافة وخزين لا ينضب لتوافد الإرهابيين ومثلها سوريا وحدود الأردن والسعودية. 
أن خوض معركة تحرير الموصل قبل التحرير والسيطرة على المناطق القريبة من العاصمة بغداد ، وكذلك قبل استعادة جميع مناطق محافظة الرمادي وصلاح الدين وديالى وكركوك،وبذل جهود حقيقة ومهنية قاسية لبناء جيش محترف، يسيطر ويمسك بقوة تلك المناطق الشاسعة ويؤمن استقرارها،  فمن غير ذلك لا بل من المستحيل خوض معركة بحجم معركة لتحرير مدينة مثل الموصل. ولن ينفع مع هذه المعركة أسلوب حشد القوات عبر الفزعات العشائرية. فالواقعة حجمها كبير، تتداخل فيها عوامل ليس فقط عسكرية وإنما سياسية وطائفية وخفايا مبطنة يضمرها الجانب الأمريكي وحلفاؤه. وإن خاضها الجيش العراقي حسب الرغبة الأمريكية فسوف  تقع كارثة كبيرة، تعرض الجيش لهزيمة تقصم ظهر ما تبقى منه . فمعركة الموصل التي يعد لها الأمريكان، سوف تترافق ومعارك طاحنة تندلع في جميع الجبهات مع داعش ومعاضديها، لغرض المشاغلة والضغط وتشتيت  جهد الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، ويرافقها أيضا أرباك سياسي على جميع الأصعدة داخل السلطة وخارجها تتهيأ له بعض القوى السياسية، لتكون نهاية معركة الموصل خسارة وطنية كبرى، تتبعها نتائج كارثية يصعب السيطرة عليها أو تخطيها مثلما يتوقع لها توم فونتيس المساعد السابق لمدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي، وهذا ما تسعى وتتهيأ أليه وتعمل عليه الإدارة الأمريكية. وأولى نتائج الخسارة ستكون مباشرة، دعوة العشائر السنية وقادتهم السياسيون لتدخل عسكري مباشر للولايات المتحدة الأمريكية بحجة القضاء على داعش، وهذا ما سوف تفعله أمريكا على وجه السرعة، لتنشأ بعد الهزيمة، خارطة جغرافية سياسية جديدة يبدأ معها وضع مشروع تقسيم العراق على الطاولة وأمام جميع الأطراف ويفرض بقوة وبشروط المنتصر وتنازلات المخذول . تلك هي غاية المعركة ولحمتها وسداها التي تدفع الإدارة الأمريكية الجيش العراقي لخوضها في مثل هذا الوضع الهش والمقلق،وفي الزمن غير المناسب والمصاعب السياسية والاقتصادية التي تكتنف عمل السلطات العراقية.   



157
استشهاد الطيار الأردني معاذ الكساسبة والموقف الرسمي العراقي

فرات المحسن

درجت السلطة العراقية على اتخاذ نهج تصالحي لتوطيد العلاقات مع جميع دول العالم حتى التي تعمل على إيذاء الشعب العراقي، إن كان تلك الدول تقوم بالتحريض على إسقاط السلطة عبر عملية سياسية أو الدفع لاستشراء وتصاعد عمليات الإرهاب من خلال تمويل المنظمات الإرهابية وتسهيل عمليات الالتحاق بها لمن يرغب بالقتال داخل العراق. ودائما ما مثلت محاولات تحسين وتوطيد العلاقات التي تقوم بها السلطة العراقية، باب واسع لتقديم تنازلات سخية، سياسية كانت أم اقتصادية، أرضاء لتلك الدول وحكامها، ولكن الملاحظ إن جميع تلك المحاولات لم تؤتي اكولها حتى اليوم ،ولنا في العلاقة مع السعودية مثال لا تحسد عليه حكومتنا.
واحدة من تلك الإجراءات التي تلجأ أليها تلك البلدان وتستغل بها رغبة السلطات العراقية بإعادة العلاقات أو توطيدها هو الضغط في موضوعة رعاياها الملقى القبض عليهم والمودعين في السجون العراقية. حيث تطالب العديد من  تلك البلدان ، وبالذات العربية منها،بتسليم رعاياها والسماح بعودتهم لأوطانهم مهما بلغت درجة الأحكام الصادرة بحقهم وبغض النظر عن الأسباب التي تم بموجبها إيداعهم السجون .بالرغم من عدم وجود معاهدات واتفاقيات مع الجانب العراقي لتبادل السجناء.
يوجد في السجون العراقية عدد ليس بالقليل من مختلف الجنسيات، ولم تنفذ الأحكام الصادرة بحقهم لحد الآن ومنهم أعداد من الأردنيين المتهمين بالإرهاب، صدرت بحقهم أحكام ثقيلة منها الإعدام، على خلفية مشاركتهم في تنفيذ عمليات إرهابية راح ضحيتها العشرات من العراقيين، ورغم صدور تلك الأحكام بعد تدوين الاعترافات والتحقيق الذي استغرق فترة طويلة وتم خلاله كشف الدلالة. فان السلطات الأردنية  لا تعترف بهذه النتائج وبقرارات القضاء والقانون العراقي، ولا تقبل بما يصدر عنه. وبشكل مستمر حالها حال باقي الدول العربية. وتصر على وجوب إطلاق سراح هؤلاء وتسليمهم للحكومة الأردنية، التي تدعي أنها فقط وليس غيرها من يمتلك سلطة القرار على أبناء بلدها، حتى وهم يتواجدون خارج بلدهم، وان واجب الحكومة العراقية الاعتراف بهذا الحق.
الحكومة العراقية تفتقد مثل هذه الأعراف وليس في وارد مؤسساتها الدبلوماسية العمل بذات المنطق الذي يجعلها قادرة على مواجهة مثل هذا الموقف من قبل الأردن أو غيره ، ليس فقط في مسألة المطالبة بالسجناء أو الرعايا، وإنما بما يتخذه من إجراءات أخرى غير معنية بالأعراف والتقاليد الدبلوماسية وحسن الجوار.  فالتعامل الأردني دائما ما يتعدى حدود اللياقة ويتجاوز بالمطلق أية أعراف للتعامل والتعاون بين بلدين يجمعهما الكثير من المتشابهات. والشعب الأردني مثل حكوماته غير راضي عن ما يقدم له من مساعدات ومنح وهبات يغدقها العراق عليهم مثل السعر التفضيلي للنفط وتنشيط التجارة عبر ميناء العقبة واستيراد البضائع وتشغيل رؤوس الأموال، لا بل يعد كل ذلك نوعا من ضرائب واستحقاقات توجب العراقي على دفع فواتيرها، ودون ذلك فسوف يقوم الأردن بفتح أبواب جهنم عليه.   ودائما ما واجه العراق إصرار، وتعمد على إنكار تلك الهبات والعطايا، ومواجهة الكرم العراقي باحتضان جميع ومختلف أعداء العراق، وتقديم التسهيلات لهم للعمل على تقويض العملية السياسية والإضرار بعموم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكأن هذا الموقف يبنى على حقد  تاريخي متأصل وردة فعل راكدة في العقل الأردني تشكلت على خلفية الإطاحة بالنظام الملكي في العراق عام 58 ومن ثم إعدام عراب وراعي السلطة والنقابات ووسائل الإعلام والعشائر الأردنية المقبور صدام حسين.
في مقابل المطالبات الأردنية برعاياه في السجون العراقية رغم تلطخ أياديهم بالدم العراقي، لم نجد من السلطات العراقية ما يواكب الأحداث ويتعامل بذات النهج ويطالب بالرعايا العراقيين القابعين في السجون الأردنية، وخير مثال ما حدث لساجدة الريشاوي وزياد الكربولي. فبالرغم من كونهما استحقا الإعدام، كان المفترض أن يقوم العراق بالمطالبة بهما  لينالا عقابهما فيه كونهما من رعاياه، ولكن لم يكن للعراق وحكومته أي تدخل أو محل للإعراب في مشهد محاكمتهما وأخيرا إعدامهما، فهل يا ترى تستطيع الحكومة العراقية معاملة السجناء الأردنيين من المحكومين بالإعدام بمثل ما عومل ويعامل السجين العراقي في الأردن. وبعد الجريمة البشعة التي ارتكبها رجال داعش بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة فهل يتغير إيقاع التعامل الأردني مع العراق، ويكون هناك أيضا عدم ممانعة من إعدام المجرمين القابعين في السجون العراقية وجلهم من حثالة منظمات القاعدة وداعش .
 
 



158
حقيقة المساعدات الأمريكية لمنظمة داعش

فرات المحسن

بين فترة وأخرى يظهر في الإعلام العراقي متحدث من هذا الحزب أو تلك القوى، يشير لوجود معلومات ووثائق تؤكد أن طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تخرق السيادة العراقية، وتقدم مساعدات عسكرية ومواد غذائية لتنظيم داعش الإرهابي، ويشار إلى الغاية من تلك المعونات، وهي إطالة أمد الحرب .

أخر تلك المعلومات قدمها المرشح الدائم لرئاسة لجان التحقيق البرلمانية ورئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب السيد حاكم الزاملي، المحسوب على التيار الصدري، حيث صرح في مؤتمر صحفي عقده في قاعة المؤتمرات المجاورة لقاعة مجلس النواب،  أن لديه وثائق وصور ومعلومات وتقارير تثبت قيام طائرات التحالف الدولي بالهبوط في مطارات عديدة داخل المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش، من مثل مطار الموصل وملعب الفلوجة  ومطار يثرب وصحراء الأنبار لترفد التنظيم الإرهابي بالأشخاص والسلاح والمؤوون . ويؤكد السيد الزاملي توفر الكثير من الصور والتقارير لديه والتي تثبت مثل هذا الأمر.

وبعد أن دخلنا العام الثاني عشر من بعد سقوط فاشية حزب البعث، يحذر السيد الزاملي من خطورة هذا الأمر على أمن العراق وجيشه، مطالبا الحكومة العراقية برصد حركة هذه الطائرات ونصب كمائن لإسقاطها، ويطالب بإصدار أمر حكومي للعمل بموجبه والتصدي لتلك الفعلة الشنعاء، وهو المدرك بان مثل هذا الأمر يصعب على الحكومة العراقية القيام به، وهي التي سلمت مجبرة أجواء العراق للطيران الأمريكي.

يبدو أن السيد الزاملي يتناسى بشكل متعمد وهو رئيس لجنة الأمن البرلمانية بان سيادة العراق مستباحة حتى من مخابرات وجيوش بوركينا فاسو، فكيف والحال مع الولايات المتحدة، وهي عراب العملية السياسية ومبرمجها. وبدورنا فنحن نعرف جيدا أن السيد حاكم الزاملي حاله حال الآخرين مسكون بالرعب الأمريكي،  مهما ادعى البطولة وتقدم صفوف المزايدات الكلامية.

 

أن كان السيد الزاملي يملك كل تلك الوثائق والصور والمستندات مثلما يدعي وهو أيضا رئيس لجان تحقيق عديدة، ورأس أعلى للجنة الأمن البرلمانية المباركة، وفوق كل ذلك عضو حكومي منتدب عن تيار يلوح دائما بقدراته الفائقة ومناصرته للحق ووقوفه بوجه التغليس والتدليس والباطل، وفوق كل هذا وذاك، يمتلك أفواج عسكرية مدججة بالسلاح الخفيف والثقيل تحارب في جبهات القتال باسم سرايا السلام، فما بال السيد الزاملي ومن خلفه تياره، خائف من عرض تلك الوثائق والمستندات ويعلن عنها باستحياء لا بل يشارك في إخفائها عن الشعب العراقي. وما الذي يجعله وتياره يتردد في ضرب وإسقاط تلك الطائرات، ويفضل أن يستجدي موافقة الآخرين للدفاع عن سيادة العراق وأمنه، أن كان متأكدا بشكل لا يقبل الشك من موضوعة تجهيز الولايات المتحدة أو غيرها لداعش بالعتاد والمؤون.

أعتقد بأن رئيس لجنة الأمن في البرلمان العراقي أول من يعلم بالخروقات المستمرة للسيادة العراقية، ليس فقط في الجانب الذي تقترفه الولايات المتحدة الأمريكية، بل يدرك جيدا أن سماء وأرض وحدود الدولة العراقية مستباحة من جميع دول الجوار وغيرها، فالطيران والجيش التركي لم يطلب بكتاب رسمي من السيد الزاملي أو قبله رئيس الوزراء السيد العبادي تنفيذ هجمات عسكرية منظمة داخل الحدود العراقية، فهو يقوم بذلك حسب خلافه أو اتفاقه مع أوجلان ورفاقه، وليس في وارد تفكير السلطات التركية الإنصات للهذر العراقي منذ ما قبل عهد المقبور صدام حسين. ولم يكلف الطيران السعودي نفسه لمخاطبة سلطة الطيران العراقية للسماح له بالتجول في سماء المحافظات الجنوبية وبالذات منها محافظة ذي قار، في استطلاع شبه شهري للسجن الذي يضم أعداد من مقاتلين سعوديين أوغلوا في الدم العراقي. ولم يطلب الطيران السوري أو حتى الإسرائيلي والأردني موافقة قيادة القوة الجوية العراقية كي يتجول في عمليات استطلاع أو تنفيذ واجب قتالي داخل الأرض العراقية.

وكان الأجدر بالبرلمان العراقي  ولجانه قبل عرض مثل هذه الرواية، إراحة فضولنا وإعطائنا ولو حتوته صغيره، تفصح عن لغز محير لطائرة بلغارية ضخمة مليئة بالعتاد والسلاح  هبطت في وضح النهار دون معرفة ومراقبة قيادة القوة الجوية العراقية الباسلة وسلطة الطيران والراعي الأمريكي، في مطار بغداد بعد أن رفضت مطارات كردستان استقبالها.

 

 لا يختلف السيد الزاملي عن باقي قيادات السلطة العراقية الذين يتمتعون بكمية وافرة من الرطانة وقدرات فائقة على تفريغ شحنات خطابية عبر مؤتمرات أو لقاءات في وسائط الأعلام المرئية وغيرها. ولكن في النهاية نجدهم يدفعون عنهم الشر ويضعون أنفسهم فوق الشبهات بعد أن يرموا الكرة في أحضان غيرهم تخلصا من المسؤولية. عادة سيئة اتسم بها خطاب ساسة المنطقة الخضراء دون استثناء، ومل الشارع العراقي الاستماع إليها وتصديقها.


159
في النجف هناك من يبغض الحب

استنفر مجلس محافظة النجف شرطة الآداب ومطاوعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة للبعض من قادته، لغرض منع شباب المدينة من خرق قدسيتها التي سنت وفق أعراف الحزن والبكاء وشق الجيوب ولطم الصدور والخدود. واستنفر كل هؤلاء بسلاحهم الفتاك وعصيهم لأجل حجب الفرح عن سكانها ومنعهم الدعوة للوفاق وإشاعة ثقافة المحبة والسلام، فتلك الثقافة باطلة فاسدة يمارسها الكفار والزنادقة وتريد لمعالم المدينة وأعرافها أن تتلوث بفساد وكفر وقبح وفجور باسم يوم يدعى عيد الحب.


لعيد الحب من يبغضه

لسعة برد جعلته يرفع ياقة سترته ليغطي بها رقبته، ثمة مرور كثيف للبشر، وحمرة الغروب ترتمي فوق سطوح البنايات. فضل الوقوف في الزاوية اليسرى من شارع السعدون عند بقايا مكتبة المثنى التي ما عادت تعني لصاحبها قاسم الرجب غير وجع في القلب. وقف مسمرًا جوار الحائط الذي لوثته بقايا ملصقات الانتخابات الماضية، حمل بيده اليسرى باقة ورود حمراء، وراح يطالع المارة بشغف وطيبة، وثمة ابتسامة ترتسم عند غمازتين تطرزان خديه.
مساء البارحة في سريره، الذي يصر عند أدنى حركة ، فكر بالغد الذي هو يوم الحب، نعم عيد الحب،كلمة تطرق قلبه بوجع لذيذ. وحيد كان في  تيهه ويقينه، شعر بثقل ذلك التفكير وهو يحاور نفسه عن يوم غد، لا حبيبة تنتظر تودده وقبلاته وهداياه. تبسم وهو يلوك كلمة هداياه،تذكر مقدار ما يملكه لشراء هدية، ولمن سوف يهديها في هذا اليباس الذي يلف عالمه. ليس هناك سوى أم عجوز تدثرت في فراشها قرب باب الغرفة، تحملت سنواته الأربعين بأوجاعها وفرحها ومتاهاتها، وحبته كل شيء استطاعته، وسفحت عليه سني عمرها حبا دون كلل، ومن زاوية في غطاء السرير ترقبه الآن بابتسامتها الرقراقة التي أعتاد أن تمنحه إياها لتطمئنه وتطمئن نفسها بوجوده.
فكر، الحب لجميع الناس، ربما يعوض القلب عن فقدان فرح، كيف يستطيع أن يُفْرح البشر في عيد المحبة، أن يبث في أجسادهم وأرواحهم فرحًا غامرًا ومحبة دون أن ينتظر منهم ثمنا. ليس بحاجة لثمن، فهو يود فقط أن يجعلهم يعافون الأحقاد ولو لساعات. أن يذكرهم بيوم الحب، يسعدهم ويجعلهم يشاطرونه احتفال هذا اليوم.
* * *
مد يده ولوح بوردة، تلقفها عجوز رثّ الثياب وأبتسم وهو يشمّها بنفس ذابل.
قفز صبي عابث وبلمح البصر خطف الوردة من يده الممدودة، ضحك ملء شدقيه وهو يراقب الصبي يختفي وسط الزحام و يلوح له بالوردة.
مد يده بوردة وقدمها لفتاة اقتربت، أشاحت الفتاة وجهها عنه وأسرعت في خطاها.
أقترب منه شيخ معمم، زم شفتيه الغليظتين موجهًا له سيل كلمات بصوت مرتفع، إلا تستحي يا ولدي من وقفتك هذه، تحتفل بيوم الفسق والفجور، هذه العادة القبيحة التي ابتدعها اليهود والنصارى ليفسدوا النفوس ويدعون بها إلى ممارسة الزنا والمحرمات،أتعرف ان عملك هذا يتعارض وقدسية مدننا المباركة. عتبي عليك أيّها الشاب العراقي كيف تقلد أهل الكفر بأعيادهم، هل نسيت أعيادنا وأفراحنا لتذهب وتقتبس دينك من خارج ديارنا ، قبحك الله على فعلتك هذه. كان الشاب يحدق بوجه الشيخ ساهما مرتبكا. لم يكمل الشيخ جملته الأخيرة حين تقدمت مجموعة من الرجال ليثبوا على الشاب، وبلمح البصر خطفوا الورود ورموها وسط الشارع ثم طرحوه أرضا وأشبعوه ضربا. كانت السيارات مسرعة تدهس وروده لتحيلها إلى فتات غائم الملامح، ومن بين أيادي الشباب الهابطة والمرتفعة شاهد ابتسامة صفراء ماكرة كانت تغطي وجه الشيخ الذي اعتدل بوقفته ودفع عمامته قليلا نحو الأمام.



160
الاستثمار ودواعش مدن وسط  وجنوب العراق

فرات المحسن


دائما ما تتداول في الأوساط السياسية وأيضا بين قطاعات شعبية عراقية واسعة، فكرة عن مدن آمنة. ودون حذر أو تدقيق بالمعنى العام لمثل هذا التوصيف، توسم مدن جنوب ووسط العراق بتلك التسمية، ويقرن  التوصيف  بقدرة تلك المناطق على استقبال مشاريع استثمارية دائما ما يؤمل أن يصاحبها تصاعد وتيرة دخول اليد العاملة في سوق العمل وتطور البنى التحتية لتلك المدن، ووفرة في المردود مالي ويأتي ذلك وفق توفر بيئة مناسبة يتقدمها استقرار الوضع الأمني. ولكن ما طبيعة الإجراءات المتخذة لجذب الاستثمارات، وما هو وضع الأمن والآمان في تلك المدن. فلمثل هذه الموضوعة حسابات وتماثلات أخرى لا يمكن أبعاد النظر عنها ومنح شهادة تزكية لمثل ذلك التوصيف دون تمليه والكشف عن طبيعة المشهد اليومي في تلك المدن.
يعد الاستثمار أحد أهم العوامل التي تدخل في تطور قطاعات الاقتصاد العام للدولة وثبات مؤسساتها المدنية. فالاستثمار يخلق فرص عمل، ويدخل التقنيات الحديثة في مناهج التخطيط والعمل. ويعد الاستثمار الوجه البارز والمعبر عن النمو والرفاه الاجتماعي، ويمكن اعتباره أداة تستغلها السلطة لتصحيح مساراتها الاقتصادية وبناء منشآتها، وتوسع وعقلنة ومنهجة مؤسساتها. ويعد من أهم مصادر اكتساب موجودات مالية تصعد من ثروة البلد، وتعد ضمانة مستقبلية من خلال الحصول على أرباح الاستثمار المستقبلية. والاستثمار يحتاج إلى بيئة مناسبة ليجد له موطئ قدم، ويشق طريقه بنجاح، وتلك البيئة تعتمد أساسا على عوامل كافلة وضامنة لنجاح الاستثمار، واستقرار وتقدم عملياته. 
فتوفر الأمن والاستقرار السياسي،  وثبات منهجية التعامل بالقوانين الضامنة لحرية وعمل الاستثمار، تعد عوامل مهمة وفاعلة في جذب الاستثمار، وضمان حصوله على ما يوازي المال المغدق والأرباح المرجوة، أيضا توفر اليد العاملة والتسهيلات الإدارية، التي تتلاءم  وعمل رأس المال المستثمر، وأن تكون هناك آليات تتوافق وطبيعة الاستثمار، من مثل تخصيص الأراضي ومواقع العمل، وقربها من أماكن توفر الطاقة والمواصلات . أن كل تلك العوامل تهدف إلى تحقيق العوائد المكافئة لرأس المال المستثمر، والذي يترافق مع تنمية ثروات البلد وتأمين حاجات الناس وتوسع سوق العمل.
في مثل حال العراق فأنه مازال يعد حيزا طاردا للاستثمارات بسبب العديد من العوامل التي تعدم فيها أغلب الشروط المذكورة أعلاه، مما يقف عائقا في وجه محاولات جذب الاستثمار الأجنبي واشتغال وتطوير الاستثمار الوطني. فالبديهية المعروفة هي خوف رأس المال من الخسارة وضياع النقود في ساحة يتهدد فيها وجوده على مدى ساعات اليوم. والمجازفة برأس المال تعد مغامرة غير محسوبة الخطوات، ممكن أن تكون نتائجها كارثية، لو أقدم أصحابها على عمل استثماري دون حسابات مسبقة ليس فقط للجدوى الاقتصادية وقيم الكسب المستقبلية، بقدر ضرورة المعرفة التامة والإلمام بالبيئة المناسبة للاستثمار .
التوصيف المعني بالمدن الآمنة وفي حساب المشهد الجغرافي ـ السياسي الحالي، يشمل حوض دجلة والفرات، الممتد من بغداد حتى الحدود الجنوبية لمحافظة البصرة. وفي هذا التوصيف وحدوده يثار التساؤل عن حقيقة توفر الأمن في تلك المنطقة الواسعة ومدنها الكبيرة والصغيرة وما طبيعة البيئة المناسبة لجذب وعمل الاستثمار.
يمتاز سكان تلك المناطق بعوامل مهمة تؤثر في طبيعة الحياة اليومية المعاشة وقيم المرء، وتفرض عليه شروط جبرية اجتماعية في مجملها، تستنزف قدراته وتبعد عنه فرص الارتقاء والتقدم وتفقده قدراته الدفاعية. ونرى أن أولى تلك العوامل هي الفقر بسعة رقعته السكانية، وثانيها الأمية المتفشية بنسب كبيرة تتقاسمها كثافة سكانية ظاهرة، ثم الانتماءات العشائرية التي تجبر المرء على البقاء تحت سطوة سلسلة من المفاهيم الاجتماعية تؤدي إلى إجباره على ازدراء قيم الحضارة وتجعله يشعر بالضعف والتهديد أن ابتعد عن انتمائه العشائري، وتلك المفاهيم تستغله وفق قاعدة الحماية مقابل الرضوخ لتقاليد العشيرة. وهذه العوامل مع حامل الدين الذي يمليه الوعاظ على أتباعهم، فرض على الناس أنواع مختلفة من التوتر الدائم في العلاقات، تفاقمت معها الخلافات والأحقاد وصعدت من عدم الاستقرار الاجتماعي، والأهم من كل ذلك ساعدت على ثلم المشترك الوطني بين تلك المجتمعات.
تفاقمت تلك الحالات بعد التغيير الذي حدث عام 2003 وسقوط الدكتاتورية وتهشم مؤسسات الدولة على يد المحتل الأمريكي، الذي دفع العراق للانهيار التام مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا، وتعرضت وحدة المناطق حتى الصغيرة منها للتصدع  وانهيار الاحترام للعلاقات الإنسانية. وبدأت بعض المجتمعات تتحول إلى ساحات صراع واقتتال على مصالح، أو لنسميها على حقيقتها صراع للنهب وكسب الغنائم، عبر استغلال الموقع والقوة. والسبب في كل هذا هو افتقاد الوضع لسلطة القانون، الذي يضع الحدود للسلوك الفردي والجماعي، وكذلك لمراعاة مصالح المجتمع. ونرى أن مفهوم سلطة القانون بات مبهما ومشوها ولا يعمل على تحقيقه في مجالات عديدة. ويفرض في أغلب مناطق وسط وجنوب العراق، فقط على من يفتقد القوة المادية والمعنوية. فقد باتت العشائر والمليشيات والأحزاب المتسلطة الحاكم الفعلي وأصحاب القرار الأول، وكذلك الحيز الذي يلجأ أليه الناس في عرض وحل مشاكلهم. وجميع حالات الاعتداء والسرقات والتزوير والاختلاس والاغتصاب وحتى القتل باتت تخضع للمساومة والابتزاز. وتزول الملاحقة أو تطمس الجريمة أو يؤخذ حق المشتكي وفق قوانين وضعت بما يتوافق ومنطق وخيارات تلك المجاميع التي هي أصلا أول من يعتدي ويرفض الامتثال للقوانين وقبول قرارات المحاكم.     
تلك المناطق تفتقد للكثير من عوامل الاستقرار المجتمعي وقبله السياسي،  ولو أردنا التدقيق في المشهد العام،نجد دائما يفصح عن مظهر من هشاشة فاضحة في الوضع الأمني. حيث تجري عمليات قتل وخطف يومية، ومساومات وابتزاز لكسب الأموال تحت أنظار جهاز الشرطة والأمن. وأصبحت عمليات الخطف مهنة للعديد من العصابات التي نشأت جراء انفلات الأمن وفقدان سلطة القانون وتفشي البطالة والفقر بين قطاعات مجتمعية واسعة. وتشارك في تأمين وحماية تلك العصابات بعض الجهات السلطوية وبمؤازرة وتدخل رجال عشائر. حيث تتعرض الشركات للابتزاز والإجبار على دفع إتاوات. ومثل هذا الابتزاز والتهديد تتعرض له  قطاعات كثيرة من الموظفين الحكوميين الذين يواجهون تهديد واعتداءات يومية. وهذه في حقيقتها نذر شر وشؤم تجاوزت جميع المحرمات وأصبحت تهدد بنية المجتمع وتدفع به نحو عتبة انفجار عام للعنف بعد أن أترع الجميع وامتلك مختلف أنواع الأسلحة حتى الثقيلة منها.
فعمليات السطو المسلح لم تعد تقتصر على سرقة البيوت والسيارات، وإنما هناك انتشار لعمليات خطف وسرقة مكاتب المقاولين والمستثمرين، ووصل الحال لسرقات كبرى طالت معدات وآليات ومواد أولية من مواقع العمل في المنشآت الحكومية أو لمشاريع تم أحالتها إلى شركات مقاولة تقوم بانجازها. ومع هزال السلطة ورعبها من سطوة المليشيات المسلحة وعصابات الجريمة أو ما يأتيها من تهديد من العشائر الحامية لرجال العصابات، وترافقه مع فضائح مالية وسوء أدارة تقترف وسط مؤسسات الدولة من قبل منتسبيها، لتكون جميع تلك الأسباب مقدمات لدخول المجتمع ومؤسساته، حالة رضوخ وإرغام على قبول قاعدة تقول: لا ضير من أن يخرق المرء القانون إن توفرت له الفرصة. ومع تنامي تلك المظاهر سوف تنفجر وسط المجتمع عدوانية منفلتة وتوترات عامة، تشكل الحلول العنفية فيها السمة الغالبة، لتختفي معها كليا معالم القبول بالتغيرات الكافلة لتحول المجتمع نحو التحسن والرقي الحضاري والمدنية. عندها يصبح ذلك المجتمع مجتمعا طاردا للإصلاح والبناء وتعدم فيه كليا البيئة الجاذبة للاستثمار الوطني والخارجي.
ومع تفشي واستشراء تلك المظاهر،  فقد بات من العسير على الحكومة العراقية والحكومات المحلية وضع الحلول المناسبة وطمأنة رأس المال واستقطابه للاستثمار. فالوضع المنفلت يتطلب حلولا جذرية وحاسمة تبدو في مظهرها العام فوق قدرات تلك السلطات. فعلى تلك السلطات الحكومية أن أرادت تقويم الأخطاء والسير بالعراق نحو التقدم وبناء الدولة المدنية وجذب الاستثمار،عليها البدء أولا بتطهير الجهاز الحكومي من عيوبه ثم الشروع بحماية وتشذيب السلطة القضائية وتطوير عملها وضمان استقلاليتها وحيادية قراراتها، وجعلها صاحبة القرار الأول في حل النزاعات. وقبل ذلك توفير قوات كافية لردع المليشيات والعصابات ووقف تدخل العشائر ومنعها من التحكم بحياة الناس وتهديدها للأجهزة الحكومية وفرض مفاهيمها وقراراتها عليهم. وقبل كل ذلك حصر السلاح بيد السلطة. ولتترافق كل تلك الإجراءات بوضع خطط سليمة ومناهج وقوانين وطرق وتسهيلات ضريبية وخدمية من شأنها جذب رؤوس الأموال وطمأنتها للدخول والاستثمار في الأرض العراقية.       



161
شخصية المالكي لا تسمح له قبول الهزيمة

فرات المحسن
من يشاهد قناة البغدادية يجدها من أكثر الفرحين بسقوط المالكي، ويشاطرها هذا الفرح بعض كتاب الصحف والمواقع الالكترونية العراقية. ولكن غبطة وسعادة أهل قناة البغدادية لا يضاهيه فرح أخر. وهي كقناة تلفزيونية عاودت البث بعد أن منعت على عهد رجال السيد المالكي، فمن حقها بعد هذه العودة المنتصرة أن تفرح، وفي ذات الوقت أن تشمت بسقوط خصمها اللدود وبتر بعض من أذرعه وبالذات منها الوكيل الأقدم لوزارة الداخلية السيد عدنان الأسدي الذي صب خلال عهد سلطته، جام قهره و غضبه على القناة ومراسليها ومكاتبها، وجعلها وكأنها ضرته التي لا مناص من قتلها علنا أو بمسدس كاتم ليضيع دمها مثلما فعل بآخرين من أعداءه وخصوم صاحبه السيد المالكي.
للحقيقة لم أكن مهتما بسقوط حكم المالكي أو بقائه لفترة أخرى فأنا موقن بأن السلطة تتداولها المجاميع التي تتوالد وتخرج من رحم ذات الأحزاب لتكون المهمة محددة وهي تقاسم الكعكة. ولكني تابعت بشغف وفضول شديدين ومنذ سقوط سلطة حزب البعث ما أسفر عنه ذلك المشهد من تهشيم مؤسسات الدولة العراقية وتفتيتها حجرا إثر حجر. وجاورتني رغبة التركيز والتدقيق في الولايتين على عهد السيد المالكي، وفيهما كنت أبحوش وأتابع وأراقب شخصية الحاج أبو أسراء أو نوري كامل محمد حسن المالكي. بحثت في منظومة الأفكار التي لفت وغلفت حياته وعقله لوطر طويل، مر خلالها بالعديد من المحطات والتغيرات والتقلبات منذ طفولته وشبابه في العراق ثم فترة إيران وبعدها مكوثه في سوريا ثم مجيئه إلى العراق ثم اختياره رئيسا لوزراء العراق  وأخيرا قبوله بمنصب فضائي عاطل عن العمل تحت خيمة الرئيس فؤاد معصوم.
الحقيقة ألسيكولوجيته التي غرزت وترعرعت وتمنهجت في بوتقتها أفكار المالكي بطبيعة معينة طغت على تصرفاته وفاضت وظهرت حادة ومباشرة أثناء ترؤسه للسلطة. هذه السايكلوجية الملتبسة طبعت فعله وردوده وعلاقاته وتفاعله مع الحدث ومع الآخرين.
هذا ما كنت أراقبه وأحلله. أي كنت أبحوش منظومة الأفكار التي تربى عليها وردود فعله، فوجدتها على شاكلة نموذجين أو بطبيعتين. الأولى التربية الدينية داخل أوساط حزب الدعوة والأخرى وضعه الشخصي الاجتماعي. الاثنان يتماهيان ببعضهما ، ولكن وفي الكثير من الأحيان تشطرهما وتباعدهما فروقات غريبة،ويأتي ذلك بسبب تداخل المهام وطبيعة الحراك وجغرافيته. ولكن تصرفات المالكي الفردية في المعارضة كانت أكثر حدة ووقعا، تجاوز فيها ودائما ما تنكر فيها لفروض الانتماء الديني. فقد سيطرت عليه هواجس شبه عقدية، منها التوجس،التآمر، الترقب، والخوف من الاغتيال، وكل ذلك صعد عنده حالة التوتر النفسي  ووسواس قهري واعتقاد مستمر بوجود مؤامرة كبرى تدور وقائعها يوميا بينه ومناوئيه أو خصومه.
يسجل عن المالكي أيام المعارضة بأنه كان ذا حس تأمري جد عالي، بسبب طبيعة التكليف والمهام التي عمل فيها، وكان دائما وفي حيثياتها الصغيرة والكبيرة حذر متطرف، وكانت فترة وجوده في سوريا وعلاقته بأطراف المعارضة تشوبها الكثير من التوترات. فالمعروف عنه وفي الغالب، الميل للإثارة وصناعة الخصوم وتفجير المواقف، أكثر منه النزوع للتهدئة وقبول جدل المصالحات والحوار العقلاني، لغرض تقريب وجهات النظر مع الآخرين من قوى المعارضة، وجميعهم كانوا من خصوم سلطة صدام. وهذا يأتي على خلفية ذعر مزروع ومكتوم في النفس يجعله يفقد التفكير المنطقي ويحجب عنه وضوح الرؤية ويشل قدراته على تفهم الآخرين وتقدير الواقع بموضوعية. ودائما ما كان معبأ بروح الترقب والحيطة من تقاطع أو تآمر أو مشاكسة يعتقد أنها تعترضه أو تريد الحط من قيمته، لذا يواجهها بتصعيد التوتر وتفضيل عوامل الصدام. وكان هذا الهاجس أو الوسواس القهري التآمري ومحاولة الاغتيال في تفكيره يشمل العديد من الأطراف منها سلطة صدام وجهاز المخابرات الإيراني ومثله السوري وأيضا اللبراليين بجميع صنوفهم وكذلك بعض من يعدهم خصوم رغم كونهم منظمات وأحزاب شيعية تقترب في مفاهيمها من سياسات حزب الدعوة ومنظومة أفكاره. وقد عزز السيد المالكي بنيته النفسية وفق سياقات علاقات حزبية اجتماعية يرتبط بها نفسيا وعقليا ومصلحيا، وأصبحت عالمه الخاص الذي يضمن من خلاله وجوده رغم الكثير من المساوئ التي تشوبه، وخاصة في جوانب التأمر والتهميش والصراعات الداخلية للاستحواذ على الجاه والمناصب والأموال والتي غالبا ما تجعل من المرء يجنح لسلوك غير سوي للوصول إلى غاياته.
 هذا ما كان عليه السيد المالكي خلال عمله في المعارضة، ومن ثم رحلت كل تلك العقد إلى سنوات حكمه التي تعامل فيها بإثارة مذهلة، أدت لتفاقم وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وبثت نوازع العدوانية والفرقة  بين أوساط الشعب.كل تلك التعابير التي تظهر في أفعاله وتوجهاته هي في حقيقة أمرها تكمل بنيته النفسية ويجد فيها خاصته وتتطابق وتوجهاته وقيمه الدينية والاجتماعية، وفي ذات الوقت فأنها توحي له بتوازن نفسي، ولن يستطيع العيش دونها. ووفق تلك البنية النفسية تمت خياراته لمستشاريه وقادة عساكره، وأيضا مناصبته العداء للكثير من شخصيات التكنوقراط  واللبراليين ووسائل الأعلام. وهذه المنظومة من الأفكار المرضية، صعدت من حدتها طبيعة المجاميع التي التفت حوله ليصاب بظنون ومشاعر العظمة، والإحساس بأنه المرسل والمنقذ الذي لا غنى للناس عنه.
حتى في حسنته الوحيدة التي تمثلت في التوقيع على مرسوم إعدام الدكتاتور صدام حسين كان يحمل خليطا من مزاج مرضي ملتبس تمثل في محاولة لكسب انتصار معنوي لصالحه ولكنه بدا عجولا متهورا واقعا تحت تأثير الانفعال والخوف من مؤامرة تحاك ومشاعر مختلطة بالخطر القادم من مكان ما. ولذا أعتمد في فعلته على الإثارة وخلق جو من الإرهاب دون حساب النتائج والوقت المناسب لتنفيذ القرار وتأثيره على المشهد السياسي برمته،مما جعل البعض يدين الفعلة لأسباب شخصية أو دينية أو مجتمعية ولكل في هذا الحال ظروفه .
وضع السيد المالكي في سنتي حكمه الأخيرة وتحت ضغط الشارع العراقي وتزايد حدة الاضطرابات والإرهاب المنفلت وسوء الخدمات، خطط فشل فيها جميعا. فالمائة يوم الأولى التي تعهد فيها بأن يصلح حال سلطته وجد بعدها أن الوضع يتدهور نحو الأسوأ، ثم أعقبها بوعد مائة يوم أخرى شابهت سابقتها وكان حال الثالثة أتعس وأتعس لحين واجه فورة غضب وسخط حتى بين أوساط مؤازريه وحبربشيته ورفاقه في الجبهة الشيعية.
بعد الهزيمة الماحقة التي تعرض لها وسط المنظومة الشيعية التي ينتمي أليها وكان يظن بأنه يملك مفاتيح عقدها. قبل المالكي بما قرره رفاقه ووضعه في منصب يعرف جيدا بأنه لن يهش وظيفيا من خلاله أو ينش بقدر ما يذكر أسمه بالحصاد رغم منجله المكسور. ولكن شخصيته الملتبسة القلقة المتوترة لا تستطيع الاقتناع بخفوت دورها أو اضمحلاله، لذا يريد أن يبقي بعض الأوراق بيديه ليضغط على محركات السلطة ويدير عملياتها، حتى وهو في هذا المنصب المهمش. فالرجل لن يقبل بسهولة أن يبعد عن الواجهة، ولن يستطيع العيش ببنية نفسية سليمة تتقبل لعبة تبادل الكراسي أو المراكز ويبقى في حلم مستدام للعودة لرئاسة الوزراء. لذا سوف يسعى جاهدا لزعزعة مراكز خصومه والعمل على تشويش وتفكيك ما يرغب به العبادي ومن سانده في عملية التغيير. والمعركة شرسة وطويلة الأمد ومركزه الحزبي يؤهله للعب هذا الدور. وهو وبسبب خبرته في التآمر والدسائس أقوى شكيمة واستعداد للمبارزة والطعان من بديله الذي يبدو غير مستعد لمثل هذا المبارزة التي يتهيأ ويحشد لها المالكي عُدْد وأدوات يريد بها أيلام خصومه جميعا بدءً من الجعفري وليس انتهاء بالعبادي.
ولكن هل يستطيع، وهو الذي يحمل كل تلك العقد النفسية المترعة بالذعر والخوف والترقب والشكوك والتآمر والتي دائما ما جعلته يفقد الاتزان والتفكير المنطقي وحجبت عنه الكثير من الوضوح في رؤية الحقائق وأبعدته عن الحلول العقلانية، هل يستطيع أبعاد كومة العقد هذه والخروج نحو فضاء أخر يستعيد فيه بعض الاتزان والعقلانية ويتنحى عن العمل السياسي ويمنح نفسه الاستقرار والرضا باعترافه علانية بما جنته أفعاله على العراق وشعبه. 



162

ما الذي تستطيع فعله لجنة التحقيق في سقوط محافظة الموصل

فرات المحسن

قال النائب الفضائي الأول للرئيس العراقي، السيد نوري المالكي خلال مؤتمر عقده في مدينة الناصرية : أن الجيش العراقي في الموصل لم يقاتل وأن ما حصل هناك هو أتفاق مسبق وضع في غرفة عمليات مشتركة بين جهات سياسية معروفة. وجاء سقوط المدينة إثر انسحاب الجيش بموجب أتفاق بين جهات سياسية كانت تصف الجيش العراقي بالصفوي والشيعي والطائفي وقد صدر عن هذه الجهات تعميم بعدم محاربة داعش كونها جاءت لطرد هذا الجيش.
بدوره، توعد معاون رئيس أركان الجيش للعمليات الفريق الركن المتقاعد عبود قنبر بأنه سيكشف عن الجهات السياسية والعسكرية المسؤولة عن سقوط الموصل، وقال بأنه لن يكون وحده من يقدم للتحقيق بتلك القضية، وأكد حصوله على مستندات ووثائق وعقود تدين أبرز القيادات السياسية والعسكرية وتمويلها للتنظيمات الإرهابية والطائفية، محملا نوري المالكي المسؤولية الكاملة عن انسحاب الجيش وسقوط المحافظة وما تلاه من أحداث.
بعيدا عن السياقات المعروفة في جميع ما يقع من أحداث جراء العمليات العسكرية فأن القيادة السياسية العراقية أبعدت ملفات الأحداث العسكرية من مثل سقوط مدينة الموصل وتكريت ومناطق في محافظات الرمادي وكركوك وديالى بيد الإرهاب، عن طبيعتها العسكرية وأحالت التحقيق فيها إلى لجان مدنية برلمانية داخلية. لحد الآن تبدوا هذه اللجان وكأنها تلف وتدور في حلقات مفرغة والملفات أكبر من أن تحسم نتائج التحقيق فيها لأسباب بات يعرفها القاصي والداني. وتلك اللجان التحقيقية، وبدلا من يتم البحث في اجتماعاتها عن أسباب وقوع تلك النكسات العسكرية والجرائم التي طالت المواطن والعسكري العراقي، نجدها تخوض صراعا كبيرا لغرض أرضاء أعضائها وعدم المساس بمصالحهم الحزبية والعشائرية أو المناطقية وأيضا الشخصية. فمثل هذه الاعتبارات تلعب الدور الرئيسي في مجريات التحقيقات والتمويه على الأحداث أو حرفها خشية تصدع العملية السياسية والمساس بوحدة العمل المشترك أي بالمعنى العام الخوف من أن يكون كشف الحقائق أحد أسباب انفراط المحاصصة التي يخجل البعض من أسمها فيطلق عليها صفة الشراكة الوطنية وهي البعيدة جدا عن مثل تلك التسمية وبدت مع سباق الزمن في عمر العملية السياسية ضحك على الذقون ومهزلة سياسية رعناء.
لا يمكن أن تكون عملية سقوط مدينة الموصل بيد منظمة داعش الإرهابية وحلفاؤها بعيدة عن توصيف جريمة كبرى. فما حدث ليس سقوط مدينة وهزيمة جيش، وإنما في المحتوى العام، يعد سقوط سلطة بمؤسساتها السياسية والعسكرية والأخلاقية . فالذي رافق ذلك السقوط جرائم يندى لها جبين البشرية تمثل بقتل الآلاف من الأيزيديين وسبي وبيع واغتصاب نسائهم وقتل وتهجير الشبك والمسيحيين واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم.   ولحد اليوم لم نجد أحدا من القادة سياسيين كانوا أم عسكريين من يجد في نفسه الجرأة والوقوف أمام الناس لوضع النقاط على الحروف وفضح الحقائق وتبيان دوره في تلك الجرائم الكبرى التي حدثت، أو حتى يتجرأ ويحمل سلاحه لينهي حياته دفاعا عن ضمير شعر بالخزي من فعلته قبل شعور العار من ما اقترفت يداه وأياد الإرهاب بحق الناس بعد احتلال الموصل.
اللجان التي شكلها البرلمان للبحث في جرائم عديدة مثل جسر الأئمة ووزارة الخارجية وما سمي بأيام المجازر الكبرى المتكررة التي طالت مدينة بغداد. لم تجد نتائج التحقيق فيها طريقها إلى النور وضاعت أوراقها في مهب ريح الشراكة الوطنية ( المحاصصة )، وتعاقبت علينا اللجان وضاعت أوراق لجان وتوالى تأليف لجان مع كل انكسار عسكري وأمني  واستطاعت سطوة أبو أسراء وبطولات قادته وعمالة مدحت المحمود وماطورات محمد العسكري ورافعات قاسم عطا المكصوصي وخيول النجيفي وقفزات صالح المطلك أن تدفع بها نحو غياهب جب عميق لتختفي المطالبات والمحاسبة ثم تختلط  ببساطة وطيبة الناس. ودائما ما راهن أعضاء تلك اللجان على قدرة الناس على النسيان. ومع هذا الأمر أدمن رجال وقادة العملية السياسية في العراق على أخراج وفبركة مسرحيات تم فيها الأعداد لعرض مشهد نهائي يجعل أغلب المشاهدين في أوضاع متعبة وملل ليعافوا النتائج النهائية دون الرغبة في الوصول إلى مخارج وحقائق. وفي هذا يعتمد أصحاب القرار السياسي على طبيعة المساومات وقبول الناس ورضاهم بأرباع الحلول قبل أي شيء أخر.
اليوم يدور صراع مستميت للحصول على مقعد في اللجنة التي شكلها البرلمان العراقي للتحقيق في أسباب سقوط مدينة الموصل بيد داعش وحلفاؤها بعد أن مضى على الجريمة ثمان أشهر من المماطلات والتسويف. الصراع على عضوية اللجنة يتكئ على منهجية ما سمي بالشراكة الوطنية. أي لن تستوي الأمور دون أن يكون للجميع حصة ووجودا في تلك اللجنة. ودوافع مثل هذا الأمر معروفة، بعضها يذهب لإيجاد المبررات والوثائق والشهود بما يبعد عن جماعته تهمة يريد البعض إلصاقها بهم. أو يود هذا البعض حرف موضوعة التحقيق بعيدا، ليتم توجيه الاتهام لمن يعدهم خصوما له ولحزبه أو منظمته. لذا فأن الطلبات انهالت على رئاسة البرلمان للانتماء لعضوية لجنة التحقيق في سقوط مدينة الموصل. وبدا عدد أعضائها عجيبا غريبا. وهذا العدد سوف يضع التحقيق في لجة مفارقات ومماحكات ورغبات ومصالح لن تنتهي عند حدود ليمتد الزمن بهذه اللجنة دون حساب أو نتائج. ومثلما المعتاد سوف يبدأ الصراع حول من يترأس اللجنة ومن هو سكرتيرها الأول ثم الثاني وكذلك المقرر وبعدها يبدأ صراع عن الكيفيات التي بموجبها يتم البدء بالبحث عن أسباب السقوط، وناتج السقوط، وما حدث قبله، وخلاله، وقبل كل هذا وذاك، من هم الرجال أو العساكر الذين من الموجب أن تستدعيهم اللجنة للتحقيق في الأحداث، وهل يكون ذلك تحقيقا أم استدعاءً. وتثار أسئلة كثيرة لن يصاب عضو اللجنة جراؤها بذات الصداع الذي سوف تصاب به رؤوس العراقيين. فمهمة عضو اللجنة واضحة وهدفه معروف وهو بعيد جدا عن مهمة الكشف عن الحقائق. وهو موقن بأن ليس هناك ضرورة لعرض النتائج النهائية بصيغها الحقيقية على الشعب. والمواطن الذي تضرر جراء العمليات العسكرية عليه أن يلهوا بعيدا عن اللجنة ويدخل في متاهات لجان أخرى من مثل لجنة النازحين ولجان التعويضات وغيرها من اللجان التي توسعت وتضخمت وكثرت مع ما تدره من منافع لمن يترأسها أو من حالفه الحظ وأصبح موظفا فيها.
     




163
مشهد أخر في نشوة القتامة وردع الأمل
 مدن العراق المقدسة

فرات المحسن
 
واحدة من أهم مصادر تمويل مشاريع تطوير مدينة مكة وضواحيها في المملكة العربية السعودية تأتي من المبالغ التي ينفقها الحجيج في موسمي الحج والعمرة وما بينهما من أيام أخر يسمح  فيها للزوار بالدخول إلى مكة والطواف بين جنباتها . وعلى ذات المنوال تحصل المدينة المنورة على مصادر أموال طائلة في ذات المواسم. وفي البعض من الوثائق هناك ما يشير إلى إيرادات حققتها السعودية بلغت 62 مليار ريال سعودي  أي ما مقداره  16,5 مليار دولار في عام 2012 .وكان عديد الحجاج في ذلك العام من الوافدين وأهل البلد قد بلغ ما مجموعه 12 مليون حاج على مدار العام. وأشارت المصادر في تأشير متوسط الأنفاق للحاج الواحد بما قيمته بين 1900 دولار إلى 4000 دولار . وقالت التقارير للسلطات السعودية بأن ما معدله 3,1  مليون حاج أدوا فريضة الحج في شهر تشرين من عام 2012 من ضمنهم 1,7 مليون أتوا من خارج الملكة.
وفي إحصاء أخر لعام 2014 فأن عدد المسلمين الذين قدموا إلى السعودية موسم الحج في هذا العام قد بلغ 3 ملايين حاج ومع هذا العدد الكبير ارتفعت إيرادات الحج عن المواسم التي سبقته ولتكون إيرادات الموسم مبالغ كبيرة توضع في خزائن المدينة والدولة السعودية.
تبدو مدينة مكة عبر نافذة الطائرة متوهجة بالأنوار وثمة نسق جميل لشوارع تلتف حول ووسط ومحيط المدينة  بتنسيق عالي ومبهر .الحرم المكي بشكله المميز وسعته وطراز بنائه الهندسي ومنائره وقبابه يبهر الناظر. وروعي على مدى أعوام ومواسم طويلة على توسعته وبناء مرافق جديدة تستوعب العدد المليوني للحجاج. الخروج للتجوال في المدينة يجبر الزائر على ملاحظة التنوع بين الأماكن القديمة وخاصة الأسواق الشعبية فيها والتي تجاورها البنايات الشاهقة للأسواق الحديثة والفنادق والجوامع بواجهاتها الجميلة. حتى الأماكن القديمة امتدت لها يد العمران ووضعتها على طبيعتها الأولى بعد الصيانة وبقيت أماكن تزار للتبرك والفرجة. ورغم زخم الأعداد المليونية من الحجاج فهناك انسيابية غريبة ونظافة تامة تتمتع بها أزقة وشوارع المدينة وما يحيط بالحرم المكي. وعلى ذات الصورة المريحة تتمتع المدينة المنورة بالجمال ذاته لما أغدق عليها لأجل تطويرها كمعلم ديني وفي ذات الوقت سياحي ومصدر يدر الأموال الطائلة على إدارة المدنية ويقدم آلاف فرص العمل لأبناء المدينتين وباقي مدن المملكة السعودية .
في العراق هناك العديد من المقامات والأضرحة الدينية التي تقارب في وضعها وضع مدينتي مكة والمدينة المنورة في القدسية الدينية والمكانة السياحية. ولكن ولحد الآن لم يطرأ على المعالم العمرانية أو الاقتصادية لهذه المدن أي تغيير ممكن أن يعتد به، وبقيت المشاريع تزحف في التنفيذ مثل سلحفاة ، وشابها الكثير من اللغط والاتهامات بالسمسرة وسرقة الأموال.
يقال والعهدة على البعض من السياسيين ورجال الدين، بأن أيام شهر محرم ومن بينها عشرة عاشوراء ثم أربعينية الأمام الشهيد الحسين بن علي ووفاة النبي محمد والأمام علي ومولدهما وغيرهم من الأئمة، تدخل تلك المدن أعداد مليونية. وفي تلك الأيام وبالذات استشهاد وأربعينية  الأمام الحسين دون غيرها، يؤم مدينة كربلاء المقدسة ما يقارب 6 ملايين زائر من جميع أنحاء العراق وخارجه.
ليس مستغربا وجود مثل تلك الأعداد، ولكن الغريب في الأمر تضارب التصريحات حولها من قبل مجلس محافظة كربلاء وجهاز الأمن الوطني والمؤسسة الدينية. ويعزوا هذا التضارب والتفاوت في التقدير، لعدم  وجود جهة توثق حقيقة تلك الأعداد، كذلك عشوائية الزيارة وخضوعها لمزاجية مفرطة للأفراد ومثلها الجهات المسؤولة والمشرفة على الزيارة. فجميع مداخل المدينة مفتوحة لقدوم ارتال المشاة دون سيطرة أو إحصاء يذكر، سوى المراقبة والخوف من التهديد الإرهابي.
بعد الانتفاضة الآذارية ضد الدكتاتور صدام حسين ولما أبدته البيوت والأزقة بين حرمي ضريحي الإمامين الحسين والعباس من مقاومة شديدة للهجوم الذي قاده المقبور حسين كامل ضد ثوار المدينة، أصدر صدام أوامره بإزالة الدور والأزقة بين الضريحين وشيد بدلها ساحة جميلة واسعة ومسقفات تحمي الناس من المطر والحر أثناء الزيارات، فكانت رب ضارة عند البعض نافعة للمدينة وأهلها. ولم يجد صدام في حينه من يعترض على ما فعله بسبب سطوته وجبروته ففعل حينها ما يوافق هذا الصمت وقدم تعويضات غير مجزية لمالكي الدور. ولكن اليوم ولغرض التوسع في باحتي مقامي وضريحي الإمامين، فأن مجلس حكم المدينة يجد أمامه معوقات كبيرة أولها التخصيصات المالية الحكومية الشحيحة ومطالبات أصحاب الدور والمحلات بمبالغ كبيرة، لا بل امتناعهم عن الموافقة على مثل هذا التغيير. أيضا عشوائية التعامل من قبل السلطة المحلية مع طبيعة الزيارة، وهذا يفصح عن إهمالها لجانب مهم وهو الموارد المالية التي تدرها هذه الزيارات على المدينة ومنها واردات المؤسسة الدينية المشرفة على المقامين وقيمة الضرائب الموجب فرضها على بعض الأعمال. ويأتي هذا بسبب الفصل بين الإيرادات التي تحصل عليها المؤسسة الدينية وتنفقها دون رقابة وبعيدا كل البعد عن متطلبات المقامات الدينية والبنى التحتية للمدينة،  وبين ما تحصل عليه خزينة المحافظة والتي أشتكى مسؤوليها من العجز في الميزانية لهذا العام. كذلك عدم وجود أطر قانونية محاسبية تسمح بضبط تلك الأموال وجبايتها ووضع أبواب أيراد وصرف لها لتستغل في تطوير بنية وهياكل الضريحين ومثلها المنشآت والأحياء في باقي مدينة كربلاء. ذات الأمر يحدث لمدينة النجف والكاظمية وسامراء ومحيط مرقدي الإمام عبد القادر الكيلاني والإمام الأعظم وباقي المقامات الدينية والأضرحة حيث يعدم وجود لجان مختصة لوضع أسس وضوابط للانتفاع من الموارد المالية الضخمة التي تدرها تلك الأضرحة. ولم يعن للمؤسستين الدينية والحكومية استغلال الواردات لبناء وتحقيق مشاريع تجارية تدر أرباحا يمكن أن تستغل لأعمار وتطوير البنى التحتية لهذه المدن.
الزائر لمدينتي كربلاء والنجف ومثلهما الكاظمية وسامراء والأعظمية يقف حائر أمام الفوضى العارمة التي تكتنف أحياء جميع هذه المدن. فالمشهد الأول الذي يجلب النظر  تلك الخيوط العنكبوتية التي تتسلق الجدران وتتشابك فوق أسطح البنايات والشوارع .أسلاك تمتد على طول وعرض المدينة لا تعرف عائديتها هل هي أسلاك هاتف أم كهرباء وطنية كانت أم مولدات أهلية.كذلك يتعجب المرء ويصاب بالفزع لكثرة البيوت الآيلة للسقوط. ولا يوجد أي معلم في هذه المدن دون أن يشوه ويخرب باللافتات الممتدة بين البنايات وأغلبها قديم ممزق ومثلها الرايات بمختلف الألوان وكأننا في لجة ردح عشائرية.أما الملصقات الدالة على شخص أو عشيرة أو موكب فحدث ولا حرج، فهناك فوضى عارمة لا تخضع لتراتيبية وضوابط لآلاف قطع الدلالة لمحل أو طبيب أو محامي  أو صائغ أو مضمد أو محل حلويات ومطعم ومصلح أدوات والبايسكلجي والمطهرجي  وحتى قراء وقارئات الطالع. كذلك فأن ظاهرة البسطات على عشوائيتها تمثل أقبح منظر يجتاح المدن طولا وعرضا بعشوائية وبعثرة وتنوع منفر ولم تترك مكانا دون أن تفترشه . ويحدث أتعس من هذا الخراب والتخريب، أيام عاشوراء ومواكب العزاء التي تستبيح المدينة وشوارعها دون تنسيق وعناية أو تنظيم  لتكون مصدرا لقبح المكان وتشوهه وسببا في التلوث والنفايات، ومدعاة لاستنزاف جهود وأموال بلدية المدينة، حيث تصرف الحكومات المحلية دون مشاركة المؤسسة الدينية، أموال طائلة لدعم تلك المواكب والبسطات. فالمواكب تنتفع من هبات الحكومة وتترك لبلدية المدينة آلاف الأطنان من الأوساخ . ولا يقتصر الإهمال والخراب تلك الجوانب فقط، بقدر ما تجد عند التنقل بين أحياء المدن الدينية ما يفزع ويجرح الروح والعين من خرائب وأزقة موحلة ودروب تبعث على التأسي والفزع وروائح تبعث على الغثيان. ومثل تلك المناظر القبيحة  تظهر وكأن هناك إصرار من قبل بعض السياسيين ورجال المؤسسة الدينية الذين ابتلت بهم تلك المدن، على تركها بهذه الصورة المقرفة كدالة على مظلوميتها، وتلك لعمري واحدة من الافتراءات التي سببت وتسبب كل ذلك الخراب  المفزع.
ودائما ما يقدم هؤلاء نشيد الإنشاد الدائم والعالي النبرة، بأن مدن العراق الدينية تضاهي بقدسيتها الحواضر الدينية في باقي دول العالم مثل الفاتيكان ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة مشهد الإيرانية . ولكن فيما يخص البنى التحتية والمنشآت والنظافة فمدننا الدينية ورغم غناها، تتفوق في بؤسها وخرابها وقذارة أحيائها وعشوائية حياتها على جميع ما تتمتع به تلك الحواضر من نعم وخيرات ونظافة، وهبها وهيئها لها وشيدها حكامها ورجال دينها وأناسها من العقلاء الأسوياء الحكماء، وقبل هذا وذاك الأصحاء النظيفين عقلا وضميرا وجسدا.   
 
f_almohsen@hotmail.com
 
 

164

مقترح مشروع المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان

فرات المحسن

طبيعة التغيير الذي حدث بعد سقوط سلطة حزب البعث في العراق  عام 2003  ورغم كونه جاء عبر احتلال أجنبي، ولكن وفي مجمل الأحوال لا يمكن النكران، أنه منح العراقيين فرصة مغايرة للتعبير عن أفكارهم ومحاولة المشاركة في بناء مستقبل جديد يضمن حاجاتهم للديمقراطية، عبر توفر حريات اقتصادية وبعض الحقوق المدنية ومشاركة سياسية في الشأن العام. ولم يكن مثل هذا الحلم في أفاقه المرجوة ببعيد المنال لو توفرت للبلد قيادات حكيمة تعالج بصورة أساسية عقلانية الروابط بين الهياكل الجوهرية في السياسة والاقتصاد .ففي بلد مثل العراق انهارت فيه مؤسسات الدولة جراء سياسة الولايات المتحدة وهي الدولة المحتلة التي عملت بإصرار على تفكيك بنى الدولة فيه، دون بدائل عقلانية.  فأن التحول الديمقراطي الذي تمثل بتشكيل السلطة لم يكن يسير قدما دون أن يواجه الفشل، كونه يعتمد بالأساس على صفات وحكمة من يمتلك القيادة ويدير شؤون الدولة. فهؤلاء وعلى مدى الأحد عشر عاما الماضية مثلوا النماذج الأكثر فشلا في إدارة المؤسسات. ولم يقدموا لحد الآن أنماطا توحي بالتغيير عن ما كانت تعمل عليه سلطة حزب البعث في إدارة الدولة، بل بزوها في سوء إدارة وتسيير المؤسسات السياسية والاقتصادية، وأفصحوا عن تضارب غرائبي في مستويات صنع القرار الذي بدوره أخفق في تحقيق التنمية وسوء في أوجه الأنفاق العام وبالذات فيما يتعلق بالبرامج الاجتماعية والاقتصادية. ومثل التفاوت والغبن في توزيع الثروة أحد أهم العوامل في أثارة النزاعات بين أبناء البلد الواحد. والملاحظ  في المشهد السياسي السلطوي، اختفاء أي ملمح لبناء ثقافة سياسية تدعم التحولات التي طرأت على حياة العراقيين، وهذا بدوره أثر تأثيرا فاعلا في الإخفاق الذي رافق ولازال قضية بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية رصينة تقوم بأجراء تعديلات جوهرية على هياكل مؤسسات الدولة ومثلها المؤسسات الاجتماعية.
مثلت الانتخابات النيابية وبعض الحريات الممنوحة للأعلام نقلة نوعية في حياة الشعب العراقي. ورغم كونها تمثل ضرورات على طريق الديمقراطية، ولكنها تبقى غير كافية أن لم تترافق وبشكل مضطرد مع العديد من فروض الحريات المدنية، ليكون الناس من خلالها ركنا أساسيا في الشراكة الوطنية وبناء المجتمع الديمقراطي، حيث تسير قرارات البناء اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا تحت نظر ومشاركة أبناء الشعب ومؤسساته الوطنية المتمثلة بالأعلام والاتحادات المهنية والجمعيات المدنية . لتصبح تلك المشاركة ترسيخا لمكانة تلك القطاعات وزيادة في قدراتها على التأثير في قرارات السلطة وعندها يمكن أن تسير عجلة المجتمع نحو الديمقراطية.
بالرغم من وجود الكثير من البنود التي احتواها الدستور العراقي الذي توافقت عليه القوى السياسية العراقية، والتي تؤكد في فحواها على الحريات المدنية والمساواة والعدالة الاجتماعية، فأننا نجد أن تلك البنود غالبا ما تتعرض للانتهاكات بشكل يومي فج من قبل السلطات المتعددة والمليشيات التابعة للأحزاب، وأيضا من قبل الكثير من الأفراد والجماعات داخل السلطة وخارجها. وتلك الإساءات تتطلب تغيرات جوهرية في السياسات الاقتصادية الاجتماعية وقبلها إدارات الدولة لضبط إيقاع التحول والسير في طريق البناء الصحيح.
مازال الوضع الأمني يمثل أكثر الضغوط المانعة والحاجبة للحريات. ومافتئت العديد من مؤسسات الدولة وكذلك بعض الأحزاب المشاركة في العملية السياسية تتكئ على هذه الموضوعة لتجعلها في صلب هواجسها ومخاوفها التي تدفع للمانعة في إطلاق المزيد من الحريات داخل أوساطها وأيضا وسط المجتمع. ومثلت اشتراطات ورؤى المؤسسات الدينية والتقاليد والأعراف الاجتماعية مصدات كابحة يعيل عليها الكثير من الأفراد والجماعات وتصطف معهم العديد من الأحزاب، لتكون وتبقى مقدمات للتهديد والإرهاب اليومي لجميع دعاة الديمقراطية والحريات المدنية. ومثلت العشائر والمليشيات الدينية والسياسية بجميع تلاوينها ومسمياتها الذراع المنفذ لتلك التهديدات وقد مورست دون رحمة تصفيات جسدية وإرهاب علني للعديد من دعاة بناء الدولة المدنية. وتوجد في المحاكم العراقية اليوم آلاف الشكاوى حول تلك الجرائم، ولكن دائما ما سجلت ضد مجهول أو حجبت جراء التهديدات والمخاطر التي توجه في الأساس للقضاء العراقي. وجميع تلك الشكاوى تقع في باب الإساءة والتعدي وحجز الحقوق وصولا إلى جريمة القتل العمد. وعلى ذات المنوال تنتهك كرامة البشر في جميع مناطق النزاع داخل العراق من قبل العديد من القوى، ويقع ثقل جميع تلك الجرائم على السكان المدنيين الذي تمارس ضدهم أشكال متعددة من الإرهاب وسلب الحريات. وباتت عمليات التهجير واحدة من أخطر التداعيات على الأوضاع العامة للعراقيين. فالنزاع المسلح دائما ما اضطر معه العديد من سكان المناطق الساخنة على هجر مساكنهم وفقدانهم لمصادر العيش وحرمانهم من الخدمات والتعليم والغذاء والبيئة الصحية وغيرها الكثير. أيضا كان ومازال تدني مستوى التعليم والمعارف بموازاة تفشي البطالة، بؤر خصبة للعديد من أنواع المخالفات القانونية وممارسة الإساءة دون محاسبة وردع . وما كانت موضوعة الفساد الإداري وسرقة المال العام ببعيدة عن أجواء الجرائم المرتكبة بحق الإنسان العراقي حيث تهدر كرامته وتوقعه في مسالك الهلاك والتعديات والهدر لحقوقه وكرامته وحرياته الأساسية. ومن باب أولى النظر في مناهج التعليم وما تقدمه من معارف يحث بعضها على التعصب والكراهية وإثارة النعرات والتمييز الطائفي والعرقي والأصل الاجتماعي.  وهناك ظروف وعوامل متنوعة تجعل المجتمع العراقي ساحة مفتوحة لتنامي التعديات والخرق الفاضح لحقوق الإنسان.
مثل هذا المشهد المعتم والملتبس يستدعي وجود قيادات ذات خبرة مهنية قادرة على وضع استراتيجيات سياسية اقتصادية تعطي الأولوية لكبح مصادر الجريمة والإساءة، تعتمد في عملها توسيع المجالات الديمقراطية ومنح الحريات وتحرير الطاقات المدنية اعتمادا على مساهمات سياسيين ومشرعين قانونيين وتكنوقراط مهنيين يستطيعون أخذ زمام المبادرة ووضع الحلول العقلانية للخروج من تلك المآزق، بموازاة أعطاء الحرية الكاملة للأعلام المهني وجمعيات المجتمع المدني ومنها الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان ،في حق المراقبة والرصد والتنبيه وصولا لحق المقاضاة، لغرض كشف التعديات والتجاوزات والمشاركة في صنع والتأثير في القرار العام السياسي الاجتماعي وأيضا الاقتصادي.
أن تلك المشاكل التي يواجهها الفرد العراقي وبالذات منها التعديات والإساءات الموجه بالضد من حقوقه الإنسانية والمخلة بكرامته ،تضع على عاتق منظمات المجتمع المدني وبالذات منها المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان ( أن أنشأت)، وزرا كبيرا يوجب عليها الأخذ بجميع ومختلف حيثياته بحذر ودقة والوقوف بحزم تجاه مختلف أنواع الخروقات.  وفي هذا المنحى فأن مجمل الوضع يحتم وجود منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان العراقي لها هيكلة حقوقية قانونية جامعة بعيدة جدا عن أي شكل من أشكال العلاقة بالسلطة ، وعلى أن تضع نفسها في مسافة بعيدة جدا عن تأثيرات ومغريات الدولة العراقية، وأية مؤسسة من مؤسساتها الرسمية. على أن تكون في صلب مطالبها الآنية، حسم موضوعة وجود وزارة لحقوق الإنسان من بين وزارات السلطة في العراق، والطلب بإلغائها كونها تمثل الجانب الرسمي للسلطة ولا يمكنها وفي مجمل الأحداث وأغلبها أن تكون مراقبا نزيها وحياديا لأداء المؤسسات والأحزاب والمنظمات المرتبطة بالسلطة. فمنذ تأسيس تلك الوزارة ومنذ تغيير عام 2003 ولحد اليوم أخضعت الوزارة للمحاصصة وأديرت بمنهجية واضحة وسافرة الانحياز للحكومة وبعض الأحزاب الحاكمة، وجعلت واحدة من مهامها تزكية فعل تلك الجهات ومباركة عملياتها. وفي مثل هذا الوضع الشائك، فأن العرف الذي يمنع السلطة من تشكيل منظمتها الخاصة بحقوق الإنسان، تتخذه منهجا لا حياد فيه، مختلف شعوب وحكومات الأرض المتحضرة.

ما طبيعة عمل منظمة أو جمعية عراقية للدفاع عن حقوق الإنسان وما المهام الملقاة على عاتقها في الوقت الراهن ومستقبلا ؟
 
الجواب يبدو في بادئ الأمر ذا طبيعة ملتبسة، فليس سهلا معرفة مهام الجمعية دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يحيط بطبيعة تشكيلها. فهل من المناسب الرجوع بها لذات السمات الأولى التي شكلت على أساسها، على عهد دكتاتورية حزب البعث، منظمات كانت تعمل خارج الوطن ، بعضوية من أعداد تعدت العشرات من الأشخاص، واعتمدت صياغة بيانات الشجب والاستنكار أو عقد لقاءات وحوارات، وفي النهاية  توقف عملها بعيد انهيار الدكتاتورية، فهل إن أعادة تشكيلها اليوم يتطلب سلوك أخر أو هيكلة ونمط جديد من العمل.
في ذات سياق السؤال .ما هو مصير جمعيات ومنظمات تعمل في هذا الجانب أنشأت داخل العراق بعد انهيار سلطة حزب البعث ؟. فالظاهر أن عمل تلك الجمعيات والمنظمات مازال لا يتعدى سلوك منظمات مجتمع مدني تمثل طيفا مهنيا أو نخبويا، ولم تسمع الأوساط المهتمة بحقوق الإنسان في العراق أو ترى ما يشير لفاعلية تلك المنظمات بالرغم من ثقل الأحداث وفداحة التعديات اليومية على حقوق الإنسان في العراق.وما فتأت تلك الجمعيات مشاريع تصارع للبقاء باحثة عن من يقدم لها الإسناد والدعم، وليكن من يكن، ولا خلاف لديها حول طبيعة ومصادر الدعم .   
أرى الأمر في الحالتين يتطلب نموذجا مختلفا كليا عن السابق ، وهو الأجدر والأكثر تجاوبا مع الأحداث المتسارعة المتشابكة داخل العراق بعيدا عن الخلط والترويج السياسي والاحتكام لمزاجية الأفراد، وابتعاد عن الغايات الذاهبة لتوجيه الاتهامات دون التحقق القانوني من صحة الواقعة. ومن هذا فأن على الجمعية المراد تشكيلها، أن تبني إطارها القانوني والحقوقي قبل أي شيء أخر.
وذات الأمر يستدعي أولا البحث في طبيعة تلك الخروقات والتعديات الناشئة عن طبيعة المرحلة والصراع السياسي والديني والاجتماعي الاقتصادي،وكذلك وهذا هو المهم الرصد اليومي والإشارة والتنبيه إليها ومحاربتها بجميع ومختلف الوسائل القانونية، و هذا الأمر تتوقف عليه الكثير من الاشتراطات التي تحكم العمل وتهيكل طبيعته. فأن كانت هناك جمعية أو منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان داخل العراق غير حكومية وترغب في ترسيخ قدمها ووضع مهامها ومنهجيتها بالكامل وبالضد من جميع أشكال التجاوزات والتعديات على حقوق الإنسان فهي تحتاج إلى شخصيات تتمتع بالنزاهة والمصداقية ونكران الذات، ويتوفر لديها قدر كاف من المعلومة القانونية والقدرة على التوثيق والصبر على المتابعة . فالمهام الملقاة على عاتقها تختلف في الكثير من مجالات عملها وهياكلها وأدائها عن طبيعة وهيكلة عمل منظمات الخارج مثلما تختلف عن ما ظهر وتوضح من جهود لمنظمات داخل الوطن. ومن الممكن خلق لجنة أو مكتب تنسيق بين الخارج والداخل لإعطاء المنظمة الشمولية والمصداقية وربطها بهيئات ومؤسسات دولية تستطيع تقديم المساعدة والمشورة القانونية ليكون هذا التنسيق والتناغم مخرجا  لنتائج مستقبلية طيبة وكبيرة لصالح الحريات والحقوق المدنية في العراق، ولكن في حقيقة الأمر يبقى ذلك مركونا على قدرة صانعي هذه الهيكلة.

صيغ أجدها مناسبة لعمل جمعية أو منظمة وطنية غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان في العراق.
1 ـ أنشاء مكتب عام من مجموعة ( داخل ـ خارج ) بعدد مناسب لهم الرغبة في العمل والاستعداد الكامل للمشاركة الفعلية بأداء المهام بعيدا عن التراتيبية والنرجسية والتفرد والوصاية، ويمتازون بنكران الذات والقدرة والكفاءة والنزاهة والالتزام المنهجي الواعي بالعمل والاستعداد لبذل الوقت والجهد لإنجاح أي مهام توكل لهم ويتطلبه المشروع.

2 يشترط بعضو الجمعية أن يكون متابعا جديا وليس هامشيا ويعمل بحرفية ضمن فريق يومي لرصد الحدث أو التنبيه عنه ورفد المكتب بالتقارير الأسبوعية والشهرية.

3 ـ يقوم المكتب العام بإصدار تقارير شهرية ودورية ودراسات ( عربية ومترجمة ) عن حالة حقوق الإنسان ووضع الحريات المدنية وخروقات الدستور وجميع ما يتعلق بحقوق الإنسان في العراق.

4 ـ تكوين شبكة من داخل مكتب الخارج من مهامها بناء علاقات متينة مع الأحزاب والمنظمات والهيئات الدولية لرفدها بما يصدر عن المكتب وكذلك دفعها لتبني مواقف الجمعية ومساندتها في مجال وقوفها بالضد من التجاوزات والتعديات على الحقوق المدنية داخل العراق، وفي هذا المحور يعمل المكتب على خلق لوبي ضاغط من تلك المؤسسات والأحزاب للتأثير في القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخل العراق إن أحتاج الأمر لذلك.

5 ـ تكوين شبكة للتواصل مع منظمات المجتمع المدني العراقية ذات الطبيعة والأهداف التي تقترب أو لها اهتمام بإنجاح العملية الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة وبناء الدولة المدنية والحفاظ على حريات الناس وكرامتهم وحقوقهم الدينية والمدنية ومساواة المرأة بالرجل ولأجل حياة سوية ومرفه للطفل وبناء بيئة صحية في جميع مناح الحياة.

6 ـ أيجاد أفراد أو جماعات ومنظمات أو أي صيغة مناسبة تعتمدها الجمعية للحصول على تقارير ورسائل واتصالات بريدية أو هاتفية لنقل وتداول وتوثيق الأخبار عن وضع وحالة حقوق الإنسان العراقي، مع وضع شروط دقيقة وملزمة على تلك الجهات، لغرض أن تكون التقارير الواردة منها ، موثقة ومدققة وقانونية وحيادية وبعيدة كليا عن التطرف والتخندق والتسييس والوشايات .
7 ـ وضع إطار قانوني للاجتماعات الدورية للمكتب بعموم شخصياته. وأن تكون هناك شفافية وقواعد عمل والتزامات مهنية يقيم من خلالها عمل أعضاء المكتب وعموم حركة الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان خلال الفترة بين مؤتمرين.
ربما فاتني الكثير من ما لم أستطع أن أضعه في صلب مهام الجمعية التي أتطلع أن تكون. ولكني أؤكد بأن إنشاءها بتلك الهيكلة بات ضرورة وحاجة ملحة لحقوق الإنسان العراقي.وبناء صرح هذه الجمعية لهو غاية كبيرة وسامية وضرورة ملحة لأجل بناء وطن معافى ، ولذا أقول أن من يتطوع للعمل في مثل هذه المنظمة، يجب وبالضرورة أن يكون وقبل أي شيء أخر ذا قدرة على استيعاب المهمة وتلبية شروطها وقانونيتها، وأن يبعد هذا التشكيل عن الهوى السياسي وطباع العمل التسلطي والشخصنة .


ستوكهولم
31 / 10 / 2014
f_almohsen@hotmail.com

165

عواصم للثقافة، مشهد في نشوة القتامة و ردع الأمل
البصرة فيحاء العراق
فرات المحسن
لو قيض لبعض معاهد الدراسات الاطلاع على مكنون أرض محافظة البصرة من المواد الأولية وبالذات النفط والغاز لعدت المدينة واحدة من أغنى مدن العالم. ولو قيمت المدن العراقية وفق أهميتها الاقتصادية لكانت البصرة تتقدم على الجميع دون استثناء. وفي أفضليتها فهي ميناء العراق الوحيد وأحد أهم المصادر لإطعام أهله، ولذا سميت عين الدنيا وثغر العراق الباسم وقبة العلم والفيحاء.
كانت البصرة المنافسة الوحيدة لغويا لمدرسة الكوفة في ذاك الزمن البعيد. وهي من أنجب عبر تاريخها الطويل علماء أعلام وأدباء وشعراء فطاحل كانوا نجوما في العراق والعالم العربي.
البصرة وليفة المحن والمصائب منذ فكر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بوضع اللبنة الأولى لأول مصر في العالم الإسلامي، فتقدمت البصرة وتمددت وسط سواد النخيل، ولكن هذا النخل السامق لم يصد عنها هجير الصحراء وخراب الحروب فقيل بحقها ( وهل من شيء بعد خراب البصرة ) فاحتضنها هذا الخراب دون فكاك.
اليوم من يدخل البصرة ويعاف شوارعها الرئيسية من مثل شارع دينار، شارع الوطن، شارع الكورنيش ، شارع الكويت ،شارع الاستقلال وغيرها، ويلج بفضول نحو الأزقة الداخلية لمحلاتها، عندها سوف يدون في مفكرته بأن هذه المدينة منكوبة بكل ما تعنيه الكلمة.
هذه الأزقة المتربة المليئة بالحفر ومستنقعات الماء والأوساخ، يعزو حالها التعس لغضب صدام على المدينة لسلوكها المناوئ لسلطته، ولكن حقيقة الأمر تشير لزمن أبعد من ذلك بكثير، كون تعاستها وخرائبها تمتد بعيدا في غور الزمن . ربما مذ اكتشف النفط في جوفها المستعر. وكلما توسعت المدينة بعشوائياتها وخرائبها، كبرت تعاستها وهمومها وآلامها  وغطت طرقها مستنقعات المياه الآسنة، وعند هذا الحال استدارت العيون دامعة نحو صحرائها حيث لهب الغاز المحترق يفصح عن كمية العذاب الذي يجلل روح تلك المدينة ومقدار الوجع الذي يتصاعد ليحترق لهبا مع أرواح أهلها.
بعد سقوط الصنم تنازعت البصرة عدة حكومات ، وأشتهر رجال ونساء السلطة فيها بأصوات عالية توزع على أهلها الأحلام والأماني التي تظهر بعد حين بأنها أمنيات معطوبة وكاذبة قبل أن تخرج من دواليب مجلس المحافظة، وظل بعير البصرة يجتر العاكول ويشرب الماء المالح الأجاج وينظر بعين كسيرة لثقل حمله من الذهب.
في أوج الضجيج والهرج الإعلامي العشائري وقوافل الشتائم التي باتت مثل راجمات تقذف حممها بعشوائية على الجميع وبالذات من لا يقبل بالبصرة كعاصمة اقتصادية للعراق، كان الرهان ينصب على ميناء كبير يجعل منها بوابة لنهر جاف يمتد نحو أوربا. وكانت هناك أمنية وحلم لمدينة رياضية حديثة شرعت وزارة الرياضة والشباب العراقية ببنائها هناك. ومع بناء هذين الصرحين سوف تتوفر الآلاف من فرص العمل. وبالترافق مع حصة المدينة من عائدات النفط ينتعش اقتصادها لتكون البصرة درة الخليج وبوابة العراق على العالم وعاصمته الاقتصادية الحقيقية.  وأخيرا أعلن وكيل وزارة الثقافة السيد طاهر الحمود  أثناء احتفالات مهرجان المربد الشعري 2014 عن ترشيح البصرة لتكون عاصمة للثقافة العربية عام 2018 وكشف عن وجود خطة لبناء خمسة قصور ثقافية تتقاسمها مناطق البصرة، ولكنه أردف بأن مثل هذا الحدث يتطلب أنشاء وانجاز البنية التحتية الملائمة من مثل الطرق المعبدة والجسور والفنادق لتكون تلك المشاريع جزءا من متطلبات أيفاء ملف العاصمة الثقافية لو أريد أن تكون البصرة مقرا لها.   
بوجود مثل تلك المشاريع الواعدة كان المؤمل أن تبدأ مجالس المحافظة بتطوير مرافق المدينة وبناها التحتية لتكون مكملة وبموازاة تصاعد نسب أنجاز تلك المشاريع. ولكن خيار استضافة كاس الخليج سحب من المدينة، وعتم على ملف العاصمة الاقتصادية، وتعثر ويتعثر بشكل غريب مشروع الميناء الكبير.وفي الوقت ذاته نجد من مجلس محافظة البصرة حرصا غريبا على ترويج إشاعات لا صحة لها عن كون البصرة مستعدة لاستضافة بطولة  الخليج ومثله جعلها عاصمة الثقافة والاقتصاد، وأن كل شيء جاهز لاستقبال الضيوف وأن مدينة البصرة مكتملة ببناها التحتية وأزقتها العريضة المفروشة بالإسفلت والورود والعامرة بالشجر والخضرة وأنها على استعداد لتكون مفخرة العراق ووجهه الباسم أمام الضيوف.
أصبحت مسألة ضيافة البصرة لتلك المشاريع الكبيرة لا تقبل المساومات عند البعض من تجار السياسة والدين ولا مناص غير النصر المؤزر على أعداء الأمة العراقية. وفي غمرة العصاب والهوس تناسى وتغافل الجميع الحقيقة المؤلمة والمرة التي كان على المؤسسات ذات العلاقة ومنها مجلس الوزراء وأصحاب العلاقة الأولى مجالس ومؤسسات المحافظة، عرضها وتبيانها دون رتوش وماكياج، وعدم اختصار الأمر بصرح الملعب في المدينة الرياضية دون اكتمال باقي المنشآت، أو أعمدة نصبت عند رصيف مهجور سمي بمشروع ميناء الفاو الكبير. كان عليهم قبل كل هذا الصراخ المفتعل واجب ترميم خراب البصرة الذي صار لا يضاهيه في الواقع غير أزقة وخرائب كابول أفغانستان، وربما كانت منطقة خمسة ميل والكزيزة والطويسة والبصرة القديمة وووو أشد بؤسا لو قورنت بأتعس وأقذر الأحياء في العالم.
الصراع على المدينة الرياضية والميناء الكبير والأمل بأن يكونا فاتحة خير على البصرة وأحيائها وأهلها ومن ثم يكونا سببا  في تغيير حال وجهها المؤسي إلى شكل أخر يبعث الفرح والسعادة لما يسمى بالفيحاء وثغر العراق الباسم . ولكن المصائب كتبت على هذه الفيحاء لتكون مثل المرأة الممنوحة ( كفصلية) فكان الغضب السياسي والأطماع والمزايدات ورخص الارتزاق سببا في تعطيل ميناء الفاو الكبير الذي لو ربط بالنهر الجاف الممتد من أوربا عبر سوريا أو تركيا لكان رديفا ومنافسا بل قاصما لظهر قناة السويس والعقبة ، ولكنه دخل في دوامة الرعب السياسي وقبض من قبض ثمن وقوفه بوجه المشروع، وبات مشروعا من أحلام أهل البصرة المعطلة والمسلوبة دائما. وسوف يواجه مقترح البصرة عاصمة الثقافة العربية عام 2018 ذات الذي حدث مع الميناء الكبير والعاصمة الاقتصادية والمدينة الرياضية ، حين تزوق المشاريع وتحشر في حلة عرس كاذبة، وتخرج من كوخ أهلها الخرب المتعوس لتزف بعربة متهالكة تتعثر عجلاتها بحفر الشوارع وتغرز  وسط برك المياه الآسنة .
ما عاد هناك من يبكي الخرائب والأزقة الموحلة وروائح الماء الآسن ، والمزابل  في الأنهر، والأمراض التي تفتك بأهل البصرة جراء الماء المالح المج الذي تيبست عروق أبناءها جراءه، ولم تذق البصرة دونه طيلة حياتها. ولم نجد من يقف مع البصرة ويوصف لنا حال أحيائها وأزقتها، لينصف المدينة ويؤشر نكباتها وفواجعها. ولم نجد عاقلا يقول لنا بأن الميناء الكبير ومشروع عاصمة العراق الاقتصادية ومثله الثقافية، سوف يبقى حالهما حال المدينة الرياضية التي أصبحت الريح تذر في جنباتها وتيبس عشب مضمارها واقتلعت بعض مقاعدها وخرب فيها ما خرب . ولحد اليوم لم يكتمل فيها حتى ملعب كرة القدم الرئيسي فكيف باقي المنشآت. ولم يدلنا احد من المسؤولين كبارا وصغارا على المباني الباقيات والفنادق المخصصة لسكن الضيوف التي لم ينجز منها شيئا. وفوق كل هذا وذاك نتساءل بعالي الصوت، لأي مدينة ندعو ضيوف العراق للتجول في شوارعها. نريد أن نلف بهم أزقتها ليشموا مثلنا نقيع مزابلها وتتخم صدورهم بالأمراض.
 سوف تبقى البصرة درة العراق المغمورة بالوحل ما دام هناك تجار كلام ومزايدات وحروب وسراق مال وضعاف نفوس، وما بقي بين أبناء العراق من يتاجر بالكلام والسياسة والدين مثلما يتاجر ببضاعة الارتزاق. وسوف يبقى المثل يضرب بخراب البصرة أن لم ينهض أبناؤها النجباء ليزيلوا عن وجهها غبار الفواجع.


166

الغاية من رواية طائرات سوخوي الداعشية

فرات المحسن
هدد عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية داعش الرئيس الروسي فلادمير بوتين بأنهم سوف يأتون غازين لبلده ويحررون الشيشان والقوقاز بأذن الله. وقام أحدهم من الذين يجيدون اللغة الروسية بإعادة ترجمة التهديد باللغة الروسية . وجاء التهديد هذا أثر سيطرة رجال داعش على مقاتلات حربية في مطار الطبقة العسكري وحلب وسط سوريا.
مثلما اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية على الأخذ بجدية التهديدات الصادرة عن داعش وقبلها القاعدة، فأن الرئيس الروسي لا يسعه إهمال مثل هذا التهديد الموجه له مباشرة. فقد سبق لروسيا السوفيتية أن ذاقت مرارة الهزيمة الشنعاء على يد رجال المقاومة الإسلامية في أفغانستان وقدمت ضحايا كثر مازالت مشاكلهم عالقة مع حكومتهم .
يبدو أن الروس أدمنوا التعامل ألمخابراتي في منطقة الشرق الأوسط، مفضلين التدخل الغير معلن والطرق البعيدة عن الأضواء. فقد كانت تجربة العلاقة مع نظام أنور السادات غنية بدروسها ونتائجها لأصحاب القرار من القادة الروس. وكانت تلك العلاقة قد وضعت الأمور على المحك وأذاقت السوفييت وقتها طعم المرارة، لذا ترتب على صانع القرار في جهاز المخابرات الروسية أن يأخذ الحذر في تعاملاته القادمة مع حكومات المنطقة، ولذا كانت الدبلوماسية والمخابراتية السوفيتية تتقدم الحراك عندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية، رغم مبيعات الأسلحة الروسية لطرفي النزاع. ومثله كان أداء الروس أثناء غزو العراق للكويت، بالرغم من تهديد الحربين للعديد من مصالح السوفيت في المنطقة.وعلى وفق رؤية مخابراتية مدروسة وحذر من تداعيات محتلمة دفعت الإدارة الروسية رجالها وسفيرها في بغداد لسرقة ملفات المخابرات العراقية وتهريبها إلى سوريا ومن ثم روسيا رغم ضراوة المعارك والقصف العنيف الذي كان يوجه للعراق من قبل الأمريكان وحلفائهم أيام حرب الإطاحة بصدام حسين التي بدأت صفحتها الأولى في 20 مارس 2003.فقد تقدمت العلاقة مع أجهزة المخابرات الصدامية على جميع الوقائع والمخاطر وباتت وقتها هاجسا مقلقا للمخابرات الروسية، لذا جازف سفيرها ونخبة من رجال المهمات الخاصة بنقل أغلب الملفات وأكثرها حساسية خوفا من انكشافها للطرف الأمريكي.
يبدو أن الرئيس الروسي بوتين وهو رجل مخابرات من الطراز الأول يعرف كيف يتعامل مع المتغيرات في المنطقة وفق منطق يتخذ جانبين من العلاقة، يتمثل الأول في دراسة العوامل المؤثرة على وضع روسيا في الإقليم وتأثير المتغيرات المستقبلية على مجمل أوضاع المنطقة ولما تحمله الخارطة الجغرافية لإقليم الشرق الأوسط من قرب وتفاعل مع مناطق الحدود الروسية وإمكانية تأثيرها على طبيعة التركيبات السكانية جنوب روسيا . كذلك تدرس المخابرات الروسية بدقة متناهية سياسات الأطراف المناهضة والمتمثلة بتوجهات حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة والمحاولات المبذولة لمحاصرة روسيا ومنعها من التمدد أو حيازة نفوذ في هذا الإقليم.
بصورة طبيعية وضمن صراع الأنداد، دائما ما كانت السياسات الروسية تجهد في وضع العراقيل أمام خطط الناتو وبناء تراكيب واستحكامات بما يواجهها من عمليات لإفشالها مهما كانت طبيعة تلك السياسات. فالمخابرات الروسية لا تريد وفي مجمل عملها أن يستحوذ الطرف الأمريكي وذراعه حلف الناتو على أنجاز متكامل بما يضمن جعل أغلب مناطق العالم ضمن سيطرته عسكريا واقتصاديا وسياسيا .أن مثل هذه المهام الكبيرة تدفع الطرف الروسي باستغلال وحشد جميع العوامل لبناء استحكامات تحرج الطرف الأمريكي وتعمل على إفشال مشاريعه. ومثل هذه السياسة الروسية دائما ما كانت غير معنية على الإطلاق بالكيفيات التي يسفر عنه هذا التقاطع أو العمل التخريبي. وتجربة العلاقة بين طرفي المعركة بين العراق وإيران وتزويدهما بالسلاح وأيضا ما قدمته المخابرات الروسية من دعم لبعض الفصائل الأفغانية  لإدامة زخم المعركة ضد أمريكا وحلفائها. ويمكن في هذا الشأن النظر أيضا إلى طبيعة العلاقة بين روسيا ونظام الأسد وإدارة المعركة هناك كواحدة من خطط الدعم لإفشال المخططات الأمريكية . كل ذلك يفصح عن طبيعة الجهود الروسية لإفشال جهود الطرف الأخر.
في المعارك ضد تنظيم داعش يبدو الطرف الروسي بمنأى عن مجمل الحدث. والدبلوماسية الروسية لم تحيد عن توجيه الانتقادات للجانب الأمريكي فيما يتخذه من إجراءات في الحرب ضد الإرهاب، ومازالت التكتيكات الدبلوماسية والعسكرية الروسية بعيدة جدا عن جعل هذه المعركة في وارد خياراتها لمحاربة الإرهاب، رغم التهديدات التي أشرنا لها سابقا والتي وجهت للرئيس بوتن مباشرة ولروسيا مجملا.
رغم انغماس الروس حد الركاب في الصراع السوري، لم نجد لحد الآن ما يشير لردة فعل عن ما أعلن عن سيطرة داعش على مجموعة من الطائرات الروسية في مطاري الرقة وحلب، وبدا الأمر وكأنه لا يعنيها، رغم حساسية الموضوعة، كونه يتعلق بسلاح روسي، دائما ما كانت روسيا تحرص على أن تحافظ على أن لا يقع مثل هذا السلاح المهم بيد أعدائها. وأن صدقت تلك التقارير عن وجود مثل ذلك السلاح وإقلاع تلك الطائرات من مطارات سورية بقيادة رجال من داعش، فأن أصابع الاتهام التي أشارت إلى طيارين عراقيين من أتباع صدام قاموا بتدريب رجال داعش على الطيران، تبدو معها مثل هذه الرواية تحمل الكثير من الضبابية والعيوب والخطل، أن لم تكن هناك دول أو دولة تدعم مثل تلك المهام اللوجستية العملاتية المعقدة. فالطائرات الراقدة لفترة طويلة في المطارات السورية متهالكة وتحتاج لإدامة مستمرة، وأيضا بحاجة ماسة لقطع غيار لتتعافى وتدار محركاتها ثم تستطيع بعدها أجراء طلعات جوية. يضاف لذلك حاجتها للعتاد من صواريخ جو أرض كي تمارس مهامها الحربية، أن أريد أشراكها في المعركة. وقبل كل ذلك توفر مجال لأرض مطار صالحة للاستخدام وهذا ما لا يمكن توفره مع الخراب العام الذي طال المنشآت العسكرية والمدنية في سوريا.
من الممكن أن يقوم رجال صدام وطياروه بتوجيه عمليات الإدامة، ولكن توفير قطع الغيار يتطلب عمليات معقدة لا تستطيع القيام بها وتوفيرها غير دولة المنشأ أو حلفائها السوريون والصينيون والكوريون أو الكوبيون أو حتى إيران. وهذا يرحل أيضا للحاجة من العتاد وبالذات صواريخ جو أرض التي تستخدمها تلك الطائرات في طلعاتها لضرب مواقع الأعداء. وفي تلك العملية توجه الاتهامات مباشرة للجانب الروسي، كون العملية ممكن لها أن تكون واحدة من عمليات التقاطع التي يقوم بها الروس ضد سياسات الناتو وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. والتي دائما ما تستخدم  فيها جميع الأطراف دون استثناء أخس الأساليب في محاربة الخصوم.
ولكن وهذا هو المرجح. فالغاية الأساسية من الرواية وضعت لتكون جزء من حملة أعلام تضليلي يقصد بها إرعاب الخصوم، ولكن قبل كل ذلك جعلها جزء من إستراتيجية لتوجيه التهم للجانب السوري قبل الروسي، ووسمه بتبني العصابات الإرهابية وفي مقدمتها داعش. لتذهب الرواية بعيدا جدا وبيقين مكين لتكون نقطة التحول في الحرب الدائرة في سوريا، من خلال جعلها حقيقة واقعة ومقدمة لخيار أيجاد مظلة حظر للطيران فوق سوريا، عندها يمكن صيد طائرات النظام السوري من قبل سلاح الجو للولايات المتحدة الأمريكية، وفي ذلك وضع سماء سوريا تحت مظلة الولايات المتحدة وحلفاؤها ومنع النظام السوري من استخدام سلاح طيرانه ضد مناوئيه .وهو المسعى التي تجهد الولايات المتحدة لوضعه كإستراتيجية تتقدم خيارات إسقاط النظام السوري.


167


هل يستطيع السيد العبادي تنفيذ برنامجه الوزاري

فرات المحسن
مثلما جوبه سلفه السابق السيد المالكي السيئ الفعل والصيت،  يبدو أن هناك توجه عام عند السياسيين العراقيين من مختلف اتجاهاتهم على وضع وزر جميع مشاكل العراق على عاتق السيد العبادي ثم الوقوف خلفه والصراخ بأعلى الصوت ( (حله ولك حله) وبعدها تأتي المرحلة التالية حين يبدأ الجميع باتهام السيد العبادي بالتفرد والدكتاتورية والتخبط السياسي وانعدام الرؤية والمنهجية في صياغة الحلول .
 وتلك الطرق والأساليب في الضغط واللوم التي اتبعتها الكتل السياسية وضعت رئيس الوزراء الجديد ومنذ بداية مشواره في الزاوية الضيقة، فإما العمل بما سارت عليه العملية السياسية سابقا من تبني مشروع تقاسم الثروة والقوة في إدارة الدولة وفق مبدأ المحاصصة، أو المواجهة والخصومة المستدامة . ولم يجد السيد العبادي بداً من القبول والاستسلام لرغبات الشركاء ليس فقط التحالف الكردي والقوائم السنية وإنما من داخل وسطه الشيعي أيضا. ومنذ بداية الشوط  سار على خطى سلفه المالكي وعاف ما تعهد به عند استيزاره وقبل بما فرض عليه من شخوص لإدارة السلطة. لا بل بزت وزارته ما سبقها في طبيعة الترهل وانعدام المهنية. ولم يلبي طموح التغيير سوى رغبات تبادل المواقع وبذات الوجوه التي قادت العملية السياسية إلى التخبط والفشل طيلة السنوات العشر الماضية.
حزمة المشاكل تبدو حلولها ليس بالسهولة التي يظن المرء بأن السيد العبادي قادر على مواجهتها وحلها منفردا، ولكن في ذات الوقت فأن توجهات القوى السياسية ورغباتها تنحوا لدفع السيد العبادي ووضعه وحيدا في المواجهة، لتبدأ بعد ذلك عملية تعليق الأخطاء على عاتقه دون غيره. ففي نظرة شاملة لمجريات الأمور على الساحة العراقية، نجد أن ليس أمام رئيس الوزراء  لو أراد تنفيذ ما يطمح لحله غير خيار التفرد ببعض القرارات الصعبة التي تمكنه من إنقاذ ما يمكن إنقاذه في وضع العراق الذاهب نحو الانهيار. فخارطة الطريق التي وضعت أمامه وشاركه الحلفاء بوضعها باتت أكثر عسرا وأشد صعوبة مع التغير المتسارع في المشهد اليومي. وسوف يجد السيد العبادي نفسه في نهاية المطاف غير قادر على أخذ زمام المبادرة وإيجاد سبل واقعية لحلها. وسوف يواجه من شركائه صدودا وجحودا ورغبات رافضة لما يقدمه أن ابتعدت أو تجاوزت قراراته مصالحهم التي من أجلها شاركوه السلطة .
 ومثلما أشتغل هؤلاء الشركاء طيلة الفترات الوزارية السابقة على تصعيد مطاليبهم والضغط لانتزاع ما يمكن انتزاعه بما يتوافق والأطماع الشخصية والكتلوية الطائفية والقومية. فالوقائع اليومية تسفر عن نواياهم لإعادة وتكرار ذات العملية وبنفس الإيقاع. وجميع تلك الرغبات والمطالب دائما ما وجدناها تفرض فرضا بالين تارة وغالبا بالتهديد والوعيد، وفي مجملها مطالب تهمل ما يحدث من خراب للعراق كوطن. وسوف تكون هذه التوجهات وليس غيرها المحك في التعامل مع سلطة رئيس الوزراء ، وهذا ما أظهرته خيارات التشكيلة الوزارية وما بينته مجريات الوقائع السياسية اليومية و الضغوط التي تواجه السيد العبادي في اختيار قادة وزارتي الداخلية والدفاع .
منذ غزو داعش للعراق واحتلاله مدن الموصل وصلاح الدين وبعض أجزاء من كركوك وديالى والرمادي وبمراجعة بسيطة لحراك قادة الكتل المشاركة في السلطة وخطابهم اليومي نجد أن تلك المصالح الذي ذكرناها تتقدم على ما يعنيه هذا الغزو من مقتلة للعراق والعراقيين . فالتحالف الشيعي ما زال يفكر بالكيفية التي تحافظ على المكاسب التي حصل عليها في السلطة، ويدفع لجعل المعركة بزخم ذا بعد طائفي، ولن يتحرك هذا الوسط لردع داعش بغير مقدمات تتبنى مواقف تحمل السلاح بيد وباليد الأخرى تلوح ببيارق الطائفية، وتدعو  للحذر من الأخر والتوجس من خططه، وتعلن بأن الخصومة حاصلة ولن تكون هناك فترة توافق مع توجهات السيد العبادي أن أراد الرضوخ لضغوط الأطراف الأخرى والنأي بعيدا عن الطائفة. وجميع تلك الشروط والاستحكامات لم ولن تكون بعيدة عن توجهات الطرف الإيراني ورغباته في صياغة أسس السياسات المتناغمة مع هواجسه ومطامعه الإقليمية.
 وفي الجانب السني يوجد هناك تعدد في المشاهد، فمرة يتمظهر بحراك رسمي وتارة أخرى بحراك شعبي،يبدو أنهما  يتقاطعان في بعض الرؤى والمهام، ولكن في مجمل الحدث هما جبهة واحدة لن تحيد عن الطائفية في تعاملها مع الأحداث. ولا تخطأ العين في تشخيص توافق الحراك الشعبي السني مع رغبة التصعيد لدى قادة القوائم السنية بالضد من الطرف الأخر الذي تمثله قيادة السيد العبادي. فمازالت مشاعر الغبن والخسارة التي تعرض لها أهل السنة تلاك يوميا وسط الحراك الشعبي ومثله وسط قادة الكتل الممثلة له، ولذا فضلت رؤوس كثيرة منهم مجارات ذلك الحراك والاصطفاف معه ومع رغباته في التقرب من مجاميع المنظمات الإرهابية على وفق مبدأ عدم القبول بالخسارة وواجب استعادة السلطة من الشيعة الصفويين مهما كان الثمن، ولا ضير من التحالف مع الشيطان لهذا الغرض . ودائما ما كانت مواقف الكتل السياسية الممثلة لهذا الطرف تذهب لبلورة ذات الرؤى والأهداف الطائفية والرغبات السياسية عبر عمليات ضغط داخل الوسط السلطوي والسياسي ومن خلال عمليات أرباك داخل مؤسسات الدولة بتفكيك مفاصلها ووضع المتاريس والمصدات أمام مهام حشد القوى لمحاربة داعش.في نفس الوقت محاولة إعطاء صورة عن مقاومة غزو عصابات الإرهاب، وكأنها عمليات متداخلة ملتبسة في أهدافها ومراميها، وأن الغاية الأساسية من هذه الحرب هي مهام طائفية ضد المكون السني قبل أن تكون ضد أي شيء أخر. ولذا نجد بعض قادة الكتل السنية يضعون شروطا لكيفية إدارة المعارك وأين ومتى وكيف تكون الحرب ضد الإرهاب بعيدا عن إيذاء حواضنه، ولن يكون هناك توافق على مجمل ما يطرحه رئيس الوزراء دون أن تسبقها الموافقة على مطالب المكون السني ، بالرغم من أن تلك المطالب هي ذاتها بل هناك ما هو أكثر إلحاحا وحاجة منها في المناطق الشيعية المنكوبة. ويلاحظ أن جميع تصريحات قادة الكتل السنية لوسائل الإعلام تشير لمثل تلك المطالب وتنأى بعيدا عن الدعوة الصريحة والتحريض ضد داعش وباقي التنظيمات الإرهابية والحواضن المشاركة معها في قتال السلطة العراقية.

ويمثل موقف الطرف الكردي تجاه سلطة السيد العبادي ومنذ بداية مشواره، موقفا متشنجا رافضا لأي حوار يسبق تلبية شروطهم. ويرحل ذات الموقف المتشنج الذي اتخذ على عهد السيد المالكي وقبله السيد الجعفري نحو رئيس الوزراء الجديد، حيث يتهم السيد العبادي مجددا مثل سلفيه، بمواقف بعيدة كل البعد عن مبدأ الشراكة الحقيقية في إدارة العراق. وتلك المواقف تخص في الأساس مسائل ميزانية الإقليم والبيشمركه والنفط والمادة 140 من الدستور. وفي مجمل الأحاديث عن تلك العقد المفصلية يتقدم التشكيك والريبة في ما تطرحه السلطة الاتحادية من رؤية بانتظار أن يحسم الصراع لصالح الإقليم دون اعتبارات لرأي السلطة الاتحادية أو متطلبات التوافق في العملية السياسية أو ما أتفق على تسميته  بالشراكة الوطنية. ويظهر أن عض الأصابع بات خيارا مرجحا ، بعيدا عن استخدام لغة الحوار واعتمادا على مواد الدستور لحسم الخلاف بما يضمن حقوق الجميع دون ضجيج التهديد والوعيد المتكرر. ومواقف التهديد والوعيد تذهب لغرض دفع الطرف الأخر لاتخاذ ذات المواقف الرسمية المتشنجة والتي ربما تكون متكأً لإنهاء ملف العلاقة المتوترة لينفرط بعدها سيناريو الشراكة الوطنية المهلهل، وهو الخيار المرجح لإنهاء الصراع .ويبدو أن واحدة من أوراق الضغط تتمثل أيضا في احتضان خصوم السلطة والسماح لهم بتوجيه رسائل إعلامية مناوئة دون تحفظ . ومواقف الكرد من كل هذا تتماثل وباقي مواقف الأطراف السنية وأيضا بعض القوى الشيعية التي ترغب بوضع جميع المشاكل في العراق في جعبة السيد العبادي وتركه وحيدا في مواجهتها ثم كيل اللوم والتقريع له أن نجح في تلك المهمة أو أخطأ في أخرى . ومثل هذا الموقف غير الحصيف كان دائما ديدن الأخوة الأعداء الشركاء في إدارة السلطة العراقية منذ سقوط الصنم ولحد الآن. فمهام إفشال مساع الأخر ووضع العراقيل والعوائق في طريقه، يبدو خيارا مفضلا يمنح السعادة والنشوة لدى الحلفاء ـ الخصوم، وتلك طباع شخصية اجتماعية موروثة،تلعب في ساحة الرياء والخداع لتنعكس على واقع العملية السياسية وتقربها من مسرح السخرية والهزل ثم الخراب العام. ولكن تضع ممارسيها في مواقع النفاق الأخلاقي وتبعد عنهم أي حصافة وذكاء أو بعد نظر اجتماعيا كان أم سياسيا. وهي في مجملها ذاهبة لجعل المصالح الفئوية والحزبية والطائفية فوق أي اعتبار أخر، متناسين أن الوطن دائما أكبر من الجميع، فهل يوجد في قاموس هؤلاء مثل هذا التعبير. أم أن رغبة دفع الأخر لارتكاب الخطأ أو ترديد القول، أذهب أنت وربك فقاتلا أنا هاهنا قاعدون،هي حصيلة فكر ومعرفة أكتسبه جميع هؤلاء من حياتهم السياسية والاجتماعية. وإن دفع العراق نحو الخراب والتمزق بات هاجس يتلبس الكثير من هؤلاء.



168
المنبر الحر / داعش وأفلام الأكشن
« في: 18:29 07/10/2014  »
داعش وأفلام الأكشن
فرات المحسن

وضعت أغلبية الدول الأوربية ومثلها الولايات المتحدة في الحسبان تقييم الوضع العام حول استخدام التقنيات الحديثة في وسائل الأعلام من قبل التنظيمات الإرهابية التي باتت تشكل خطرا حقيقيا عابرا للحدود.ليصبح القلق عاما بعد أن شعرت سلطات تلك البلدان بوجود أعداد ليست قليلة من مواطنيها كانوا ضمن المشاركين في عمليات القتال الدائرة في سوريا والعراق. ومازال هناك ترويج بين قطاعات الشباب الأوربي لدفعهم للذهاب لما سمي بالجهاد في هاذين البلدين . وتقدم شبكات التواصل الاجتماعي الكثير من المغريات لدفع الشباب للتوجه إلى أماكن القتال أو ما يطلق عليها، ساحات الجهاد والرباط. ودائما ما تبث تلك المواقع صور لمقاتلي داعش أو القاعدة وهم فرحين بشوشين مبتسمين يتقاسمون الطعام في أماكن عامة أو بيوت أو خلف السواتر وفي المعارك لتظهرهم وكأنهم أبطال في أفلام من أفلام الحركة والعنف ( أكشن )
استخدام تقنيات الانترنيت ومنها وسائل التواصل الاجتماعي الفيس بوك ، تويتر،هاي فايف، لايف بوون ، ماي سبيس، كوكل وغيرها، باتت في مقدمة الوسائل لمخاطبة الشباب وتصوير المعارك في تلك المناطق على أنه الذهاب إلى الجنة الموعودة أو مغامرة مميزة وشجاعة. ولا يقتصر الأمر على استخدام تلك الوسائل وإنما يتجاوزه نحو طرق اتصال مباشر والتحدث باللغات المتعددة،واستخدام البريد الالكتروني والعادي . وظهرت لدى تلك المنظمات قدرات تقنية عالية في استخدام الفوتو شوب وعرض وترويج أفلام تبدو جاذبة للبعض من الشباب المرتبك المهمش، القلق على مستقبله والمحشو دماغه بالكثير من الأسئلة عن ما يدور من صراعات ومظالم في هذا العالم . ولكن وفي جانب حيوي من موضوعة المشاركة في الجهاد، هناك من هو موقن بالجهاد الديني المفضي للشهادة والمثول سريعا بين يدي النبي محمد، ونيل مبتغاه من حور العين.  في ذات الوقت الذي تشير بعض الوقائع كون العملية وفي بعض جوانبها باتت بابا للارتزاق وصراع من أجل المصالح الدنيوية وفي مقدمتها الثروة. ففي بلدان أوربا الفقيرة مثل دول البلقان وكذلك العديد من الدول الأسيوية وحتى أمريكا اللاتينية والتي تعاني من أزمات سياسية اقتصادية حادة، وتنتشر فيها البطالة بشكل واسع بين أوساط الشباب، مما يجعل الأفق مسدودا أمامهم وتصبح عوالمهم رخوة يسهل اختراقها من قبل التنظيمات الإرهابية لتدفع بهم نحو عالم الارتزاق قبل أي شيء أخر.
في الكثير من الوقائع وفي العديد من المعارك  أفصحت الصورة الموثقة،  عن أن بعض هؤلاء الجهاديين لم يكن يعني لهم الإسلام شيئا يقينيا أو طريقا للنجاة من الوضع الذي يعيشونه، أو حتى تجريب قدرته على الإجابة على مجمل أسئلتهم أو تخليصهم وإنقاذهم من ارتباكهم وحيرتهم اليومية. كذلك فأن الكثير من السلطات لم تكن تضع في سجلاتها أسماء هؤلاء المشبوهين أو تجعلهم تحت المراقبة. ولكن في نهاية الأمر وجدت تلك السلطات أن الكثيرين من هؤلاء قد انجرفوا في أيدلوجيات متشددة، وكانت صفحات وتقنيات الانترنيت السبب الرئيسي في جلبهم لتلك المواقع. وقد شخص العديد من الأسباب لمثل هذه الحالة وتوقف كثيرا منها عند ملمح، أن التربية الدينية أو العلاقة الروحية بالدين لم تكن عند هؤلاء دليلا أو معنا خاصا للارتباط بتلك الأفكار الجهادية، وبدت تعابيرهم عبر رسائل نصية يسربونها في مواقع التواصل الاجتماعي، تنبأ عن نوع أخر لا علاقة له بالتشدد الديني . فمنهم من يقول أن أخر ما أفكر فيه هو الإسلام ، أن الظلم عام وليس الإسلام هو وحده من يظلم، البشرية تحتاج من ينقذها مهما كان دينه، الحرب مغامرة وربح وفير . وهكذا يبدو أن هناك قائمة طويلة من أشخاص تدفعهم رغبات شخصية للذهاب والقتال في أماكن توفر لهم قيمة ذاتية  قبل أي شيء أخر. ومثلما الحديث يدور عن علاقة بعض المقاتلين بالأيدلوجيات وقربهم أو بعدهم عنها، فأن وقائع على أرض المعارك في العراق وسوريا أظهرت حقائق توثق ما يشبه  هذه الحالات. فبعد احتلال مدينة الموصل العراقية والرقة السورية من قبل داعش وحلفائها ظهر أن ليس هناك صورة نمطية للعلاقة بين الأيدلوجية الدينية التي تدفع الشباب للقتال مع المجاميع الإرهابية ، واتضح أن وراء الأكمة الكثير من الأغراض والمنافع، وإن المشهد له مسببات مثلما احتوائه على قناعات عديدة ومختلفة في بعض مظاهرها ودوافعها. فقد عثر من بين قتلى تلك المنظمات الإرهابية على من هو غير مختون وتلك حالة جسدية بعيدة عن أعراف الإسلام وتعاليمه، وربما قوة شكيمة وشراسة هذا المقاتل جعلت منه قائدا عسكريا لا بل مفتيا شرعيا لمنطقة قريبة من جنوب مدينة الموصل المحتلة من قبل داعش. كذلك أُسر في العراق شخص ياباني الجنسية لا علاقة له بالدين الإسلامي ومثله وجد روسي وصربي، وفي كل يوم يكشف عن مجاميع غير مسلمة تصل للمشاركة في القتال. وعرض التلفزيونان السوري والعراقي مقابلات لأسرى من تلك المنظمات، كانت جملهم مرتبكة وأعلنوا ندمهم وأدانوا الأفعال التي قاموا ومجموعاتهم بها، وهذا دليل واضح على تورطهم وارتباكهم وبعدهم عن ما يسمى بقضية الجهاد والتضحية في سبيل الدين والمبدأ ونيل أحد الحسنيين النصر أو الشهادة.
أن الخلط بين الإسلام كدين مع ما تقترفه الحركات الإرهابية من أفعال وجرائم  يبدو في موضع له من الحساسية الكثير، بحيث باتت هناك هيئات ومؤسسات أوربية وحتى عربية تقارب صورة الإسلام من واقع العنف اليومي الذي أصبح يهدد الكثير من بلدان العالم، وتجد في تصرف البعض من الشيوخ والدعاة وترويجهم للجهاد نموذجا واضحا لمثل هذه العلاقة. ولكن مثل هذا الأمر يقابل بالردع والاستنكار من قبل مؤسسات دينية رصينة في العالم الإسلامي ومثلها خارجه.
إذا اقتنعنا بأن العنف صفة مكتسبة وليس فطرية وأن السلوك البشري يخضع لاشتراطات وتأثيرات أولها التربية الأسرية والمحيط الاجتماعي ثم تأثير وسائل الإعلام الذي أصبح يشكل عامل حسم في خيارات وتوجهات البشر.ولوسائل الإعلام وبالذات الأفلام والصور خاصية كبيرة في التأثير على سلوك الأفراد. وباتت قطاعات الشباب الشريحة الأكثر ولعا من غيرها في المشاركة والترويج لهذا النمط الإعلامي. وشكلت أفلام العنف والمطاردة والإثارة والرعب المجال الأرحب والأكبر وتحتل مركز الصدارة في اهتمامات الشباب، وإن الرغبة في مشاهدة هذه المناظر والأفلام يرتبط كليا بالموروث الاجتماعي ووضع الشخص بين أقرانه ووسطه الاجتماعي الاقتصادي ودرجة التعليم. مما يجعل أبطال تلك الأفلام نماذج مختارة للتقليد من قبل المراهقين والشباب. فصورة البطل التي يفضل الشباب والمراهقين تقليدها، دائما ما تكون بعيدة عن النمطية لرجل عادي في سلوكه اليومي وهيئته . فهو ذو عضلات مفتولة وسيم رغم عدم اعتناءه بمظهره، مرن الحركة ،سريع البديهية وردود الفعل، غير هياب أمام المحن والشدائد، مندفع ومغوار، ثم يأتي في مقدمة تلك الصورة الانطباع بأن البطل يبحث عن الحقيقة ويقارع الظلم في بحثه هذا.
وقد شخص وزير الثقافة الفرنسي جان جاك أياغون في ندوة تلفزيونية أسباب عديدة ترتبط باتساع دائرة العنف في بلاده،وهي ذات الوقائع في باقي البلدان، مشيرا لدور وسائل الإعلام في انتشارها مؤكدا على ضرورة حماية المهمشين ورفض التمييز وبغض الأخر، ولذا على وسائل الإعلام إعادة النظر فيما يتم تقديمه من مشاهد عنف وعدوانية. 
مارشال كوري مخرج أمريكي محترف للأفلام الوثائقية أشار في مقابلة تلفزيونية مع  CNN   للأسباب التي تدفع المنظمة الإرهابية داعش للقيام ببث تلك الأفلام الدعائية التي تحوي دائما ما هو مرعب قائلا : أظن أنهم يحاولون إخافة الناس، فعمليات قطع الرؤوس والجرائم الأخرى، ترويجها يهدف إلى لفت انتباه الشباب والقول لهم بأنكم تستطيعون أن تكونوا جزءا من أفلام المغامرات تلك وتمارسونها على الواقع بدلا من مشاهدتها في فلم على شاشة التلفزيون، ألا تعتبرون هذا الأمر مشوقا ومدهشا ؟ إذا لماذا لا تشاركون فيه؟.
ويشير لما شاهده في ليبيا أيام سقوط معمر القذافي قائلا كان هناك مقاتلون يطلقون النار بكثافة في المعارك وبحركات رشيقة في حين يقف رفاق لهم يلتقطون الصور، وكان يبدو دافع الجميع المشاركة في فلم أكشن، واليوم يلعب داعش ذات الدور بين أوساط الشباب ويلعب على وتر رغبات هؤلاء، ويقول مارشال أيضا أن الأفلام الدعائية التي تنتجها داعش تتمتع بتقنيات عالية رغم بساطة وزهد تكاليفها، ولكن هدفها عالي ومهم للمنظمة إلا وهو بث الرعب لدى الخصوم وإخافة الناس.
داعش وقبلها القاعدة طورت تقنيات رعب لمشاهد متعددة الجوانب مثلما تتعدد فيها طبيعة الرسائل الموجهة لجذب الشباب إلى ساحات القتال،وهي في هذا تلعب على وتر الرغبات المكنونة والمكبوتة لدى الشباب، وقد استطاعت توفير أجواء تقارب مزاج الشباب المتطير المتوتر المضلل المهمش المليء بشحنات الغضب والقلق ومشاعر الإحباط ، والساعي لإيجاد منفذ يثبت فيه لذاته وجودها وينفس عن نزعاتها التي تشكلت عشوائيا وأصبحت عدوانية سادية جراء مقاربته لأجواء العنف والجريمة التي يشاهدها يوميا في السينما والتلفزيون وعلى صفحات اليوتوب والانترنيت، وهذا ما تفصح عنه وقائع الجرائم التي ترتكبها مجاميع تلك المنظمات دون حسابات عقلية ومنطقية أو واعز أنساني وبعيدا عن أي روابط  وأفكار تتعلق بالدين أو الفطرة البشرية السوية.



169


الدواعش في إدارات الجيش العراقي

فرات المحسن

ما قبل احتلال الموصل من قبل داعش، تكررت في وسائل الإعلام قصص عن هروب فردي و جماعي لقطعات الجيش في العديد من المعارك مع المسلحين في مناطق عديدة من المحافظات العراقية الساخنة، وسجلت وقائع لا تخلوا من غرائبية عن أوامر غير معقولة لا علاقة لها بالسياقات العسكرية تصدر عن بعض قادة القطعات لتضع الجنود بل وتدفع بهم إلى مواضع قتل مجانية.
جاءت واقعة الموصل لتفضح الكثير من الخفايا التي تستر عليها طويلا ولازال ومنذ عهد السيد المالكي، وكانت مجزرة سجن بادوش ثم قاعدة سبايكر دليلا على سوء القيادة وتورط العديد من رؤوسها فيما حدث للجيش، وذهاب كل تلك الضحايا دون أن نجد ولحد الآن ما ينصف أهاليهم أو الشعب العراقي بتوصيف حقيقي للجريمة وإحالة القادة من المسؤولين عن ما حدث على التحقيق. ورغم تشكيل لجنة حول جريمة سبايكر فأن النتائج بقيت في جيوب أعضاء اللجنة، والتلميحات تشير لوجود أياد خفية تضغط بشدة وعبر تهديدات وقحة لطمس معالم التحقيق والتستر على النتائج. ويظهر أن هناك دوافع وأسباب طائفية وعشائرية تترافق وعدم توافق سياسي بين أطراف داخل السلطة الحاكمة تعلق مطالبها ومصالحها السياسية بمتابعة ونشر نتائج التحقيق في قضية بادوش وقاعدة سبايكر. 
لم يقتصر الأمر على ما حدث في سجن بادوش أو قاعدة سبايكر وإنما الحالة تكررت في العديد من مواقع القتال ضد عصابات داعش وحلفائها وأخرها مناطق الصقلاوية والسجر. حيث تشير جميع القرائن إلى تواطأ بين بعض قيادات الجيش بالامتناع عن تنفيذ الأوامر أو تغييرها ودفع الجنود نحو ساحات المعارك دون خطط عسكرية واضحة ومدروسة، وتسليمهم لقمة سائغة لعصابات الإرهاب ليلاقوا حتفهم هناك،دون مراعاة لقواعد المهنة العسكرية وشرفها . وكشواهد على ذلك، فقد امتنعت قيادة القوة الجوية وطيران الجيش ومثلهما وزارة الدفاع وكذلك قيادات الفرق عن تقديم العون للجنود المحاصرين في تلك المنطقتين بحجج واهية منها وجود عبوات ناسفة وألغام تعيق تقدم الجيش. ولكن انعدام دور طيران الجيش والقوة الجوية يثر تساؤلات كبيرة ويفضح المخفي ويؤشر لوجود تواطأ مبيت لمساعدة داعش والقوى الإرهابية الأخرى للسيطرة على الموقعين وقتل الجنود المتحصنين فيهما. وقد تجاوز الأمر كل المسلمات العسكرية حين أحتجز قادة الفرقة الأولى الجنود الناجين من المنطقتين والملتحقين بمعسكر طارق وعدوهم متخاذلين وخائنين لشرف العسكرية، ويوضعون تحت طائلة الحكم بالإعدام، وطالبوهم بالعودة إلى الصقلاوية والسجر دون تجهيزهم بالعتاد والسلاح والمعدات.
وسبق أن حدث ذات الشيء في منطقة جرف الصخر ومثله في الضلوعية وقبلها في أمرلي التي لم يفك الحصار عنها إلا بعد ضجة ونداءات من المرجعية الدينية والأوساط الشعبية، وبعد مضي ثلاثة أشهر من الحصار والقتل الذي واجهته المدينة. واليوم وعلى ذات المنوال تشير المعلومات إلى محاصرة داعش وحلفاؤها ومنذ أسبوع لثلاثة أفواج من الجيش العراقي تابعة لكتيبة دبابات اللواء 35 وفوج مشاة من الفرقة العاشرة شرق محافظة الأنبار . وهؤلاء العسكر البالغ عددهم 240 فردا يقاومون هجمات داعش والعشائر مع نقص بالعتاد والأسلحة والمواد الغذائية دون أن يجدوا من يقدم لهم الإسناد رغم نداءاتهم المتكررة لوزارة الدفاع وقيادة القوة الجوية وطيران الجيش وقادة الفرق القريبة من مواقعهم، ولم يجدوا من كل تلك المؤسسات والقادة غير الإهمال والصمت المطبق.
وتتكرر أيضا وفي العديد من المرات عمليات ضرب الأهداف بشكل غير دقيقة من قبل طيران الجيش والقوة الجوية. ففي مناطق الموصل وصلاح الدين والرمادي ومثلها في منطقة جرف الصخر تكرر قصف مناطق الحشد الشعبي وقطعات الجيش العراقي من قبل الطائرات العراقية ، مما سبب خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات وقامت الطائرات أيضا بإسقاط المؤونة المخصصة للجيش وسط تجمعات العصابات الإرهابية، كل ذلك دفع للتشكيك بمهام تلك الطائرات والأسباب التي تؤدي لتغيير إحداثيات الهدف العسكري وتوجيه صواريخها نحو الجيش العراقي أو رمي المؤونات للعصابات.
يبدو أن مثل هذه الأمور لها من الأسباب ما يبعث الريبة والشكوك. وأن أخذناها بالنوايا غير السيئة فهي تأتي من جراء عدم مهنية القادة والأمرين وسوء تقديرهم لقوة العدو أو لطبيعة أرض المعركة وسوء تغطية الجوانب السوقية وقلة أو  وهو المرجح شح المعلومة الأستخبارية المترافق مع ضعف التجهيزات والمؤون ونقص بائن في عدد الجنود. وهذا ما أشير للكثير منه في التحقيق الذي أجرته لجنة الأمن والدفاع في البرلمان. والتي ظهر لها بعد التحقيق خطل تبريرات القادة حول تكرر عمليات الحصار ومقتل مئات الجنود. وقد امتنعت اللجنة عن كشف تفاصيل الشهادات التي أدلى بها بعض قادة الجيش.
 ومن هذا فأن الأمر يتطلب من القائد العام للجيش أن أراد الحفاظ على بقايا جيش وقوة يحارب بها الإرهاب، دراسة موسعة لهياكل الجيش وإعادة النظر بالقادة والآمرين ومتابعتهم باستمرار ووضعهم تحت المراقبة الدائمة ، وتدقيق طبيعة وحاجة المعركة ومتطلباتها ولوازمها.
 فتكرار الحصارات للجيش العراقي ومصرع المئات من أفراده مع امتناع قياداته وطيران الجيش والقوة الجوية عن تقديم العون للمحاصرين أو قصفهم للقطعات بشكل خاطئ يولد الاعتقاد بأن مثل تلك العمليات مدروسة ومعد لها بشكل منظم من قبل قادة داخل إدارات الجيش العراقي الحالي تدفع لتغيير الإحداثيات والأوامر لغرض ضرب قطعات الجيش وأضعاف قدراتها ثم دفعها للانهيار. وتلك الغاية تتوافق تماما مع مهام موكلة لهؤلاء الرهط من العساكر في الجيش العراقي من عملاء لدول تضمر للعراق السوء، وأيضا مرتبطين بمشروع البعث الصدامي ولهم خيوط ارتباط  بداعش ورجال العشائر الموالية لها . وسوف تكون مثل هذه الأفعال والوقائع أن استمرت بمثل هذا الإيقاع، وبالا على الشعب العراقي قبل جيشه، ونجد أن الحصارت والقصف الخاطئ سوف يستنزف قطعات العسكر شيئا بعد شيء، وتكون النهاية هروب أعداد غفيرة من الجند وهزيمة محتمة ومدوية تدخل العراق في المجهول أكثر مما هو عليه الآن .




170
نحو مجزرة سبايكر جديدة

فرات المحسن
 
منذ عقود طويلة دون في تأريخ العراق المعاصر العديد من المجازر المروعة التي ارتكبت بحق مختلف مكونات الشعب العراقي دون استثناء ،وكانت جميعا، لو أردنا تدوين وقائعها، تندرج تحت مسمى إبادة شعب     Genocid  بدءاً من مذبحة سميل التي أقامتها الحكومة العراقية عام 1933 بحق أبناء الوطن من الأقلية الآشورية في بلدة سميل و63 قرية أشورية في محافظتي دهوك ونينوى، وراح ضحيتها ما يقارب 3000 مواطن من المواطنين المسالمين. ليمتد تراث المجازر في مذابح متتالية تعرض لها الشعب الكردي في كردستان العراق توجت بمجزرة حلبجة، وقبلها كانت مذابح مدينة الموصل وكركوك عام 1959 ومجازر خان النص  ثم جرائم مروعة بحق الشيوعيين والوطنيين إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 وكرر مثيلها عامي 1978 و1979.ثم كانت جريمة تسفير أهلنا من الكرد الفيلية واحتجاز وتغييب ما يقارب الخمسة آلاف منهم لتتوج بشاعة المذابح المجانية للشعب بمجزرة قامت بها سلطة البعث عند نهاية انتفاضة آذار عام 1991 التي قدر عدد الضحايا  فيها ما يقارب 300 ألف من البشر. وتماثلت ووقائع حربي الخليج الأولى والثانية التي خاضهما الدكتاتور المعتوه صدام وحزبه ليختما بهما عهد حكم أمتد  فيه شريط الدم من أقصى شمال العراق حتى جنوبه. ولو دونت نتائج الحربين ووضع سجل بأرقام الضحايا فيهما لفزع العالم من هول الذي وقع. ثم جاءت مشاهد ما بعد الاحتلال الأمريكي لتبعد صورة تلك المجازر نحو الخلف ويحل بدل عنها مشهد روتيني من الموت الزؤام، يمارس الشعب العراقي فيه استمرارية التدجين والخوف ليعيش يومه متوجسا من سيارة مفخخة وشظية تائهة أو رصاصة باردة تتربص به عند المنعطفات والطرق. ويبقى الجميع في هذا المشهد المأزوم دائما مشروع موت مجاني يبدو معه الدم العراقي أرخص من أن يحسب بوقائع مجازر أو أهوال. فالجميع مقتنع بالفجيعة ويتلقى الموت برحابة صدر تحسده عليه شعوب الأرض.
في إعلان بارد وبليد مثل برودة وبلادة وجوه قادة العساكر في دولة العراق منذ تأسيسها عام 1921 ولحد اليوم،قدم مسؤول الميرة أو التموين في الجيش العراقي أمام البرلمان العراقي أرقامه عن عدد المتسربين من الجيش مشيرا لرقم مفزع حدده بما يقارب 40 ألفا، ومن ثم عرج على عدد القتلى ليقدم لنا صورة باردة عن محرقة ابتلعت 11 ألف عسكري لا تعلم وزارة الدفاع وقائدها العام أين تقع مقابرهم الجماعية أو أين اختفت جثثهم. واكتفى بالقول، على الأرض السلام والرحمة الواسعة لهم، والنصر ببقاء رأس العشيرة سالما، مثلما جرت العادة واستمرارا لسياقات البنية النفسية لمنظومة القيادة للمؤسسة العسكرية على عهد القائد المخبول صدام حسين في جميع حروبه.
بعد أن قدم وزير الدفاع بالنيابة جنجلوتيته عن الإخلاص للوطن والتضحية التي قدمها ويقدمها قادة العسكر من أجل العراق وسلامة جنودهم، ثم وضع جميع من خرج من القاعدة في خانة المتسربين والهاربين، وادعى بأنه بالذات قد تعرض أثناء صولاته العسكرية للإصابة بجروح ولثلاث مرات. وجاءت ردود قادة العسكر مثلما وزيرهم مموهة مخاتله متفق عليها سلفا، واحدة تكمل سيناريو الأخر، لتنتصر للسيوف والنجوم والنياشين الموضوعة فوق أكتافهم وتعطي الانطباع عن معركة بين الجنود وحرس القاعدة بعد محاولة منعهم من الخروج. وكانت دلالة السيد الفريجي في هذه المعركة الملابس العسكرية التي خلعها الجنود أثناء هروبهم غير المنظم .
 تبادل البرلمانيون الهمس واللمز والصراخ وطالبوا بكشف حقيقة ما حدث في قاعدة سبايكر، احدهم طالب باقتناص الفرصة وجعل يوم الواقعة عطلة رسمية أو يوما وطنيا، وأخر طالب بتقديم اعتذار لذوي الضحايا، والبعض دفع لرئيس البرلمان مقترح بوضع نصب للشهداء المغدورين وتغيير أسم القاعدة. واتفق أخيرا على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، سوف تلحق قريبا بلجان التحقيق حول جرائم سابقة،من مثل جريمة جسر الأئمة ووزارة الخارجية والعدل والمالية وجرائم القتل اليومي بالمفخخات والكواتم. ولكي نتذكر حقيقة اللجان التحقيقية نتساءل عن أخر صرعة أو عيطة حققتها لجنة تقصي الحقائق عن سقوط ثاني أكبر مدينة عراقية بيد حزب البعث وداعش وأسباب الهزيمة المدوية لقيادات العسكر وعلى رأسهم أبو أسراء ووكيله عبود قنبر المالكي، وما الذي حدث مع قادة الوحدات الذين هيئوا للجريمة ونفذوها.
لولا الوجع الذي يعتصر القلوب وقوة العزم والشكيمة لدى ذوي الضحايا وتظاهراتهم المتكررة في مختلف المدن، ثم تطويقهم لبناية البرلمان واقتحامه الذي أرعب البرلمانيين أيما رعب، فأن مدة السبعون يوما لم تكن لتشفع أو تكفي لشوارب وعباءات البرلمانيين أن تهتز حسب التعبير القبيح لصدام. فالمصيبة وكالعادة يتحملها أهل الضحايا وليس سواهم، وآدم لا يتحمل وزر قتل قابيل لأخيه هابيل ولذا عافه يستحوذ على الغنيمة ويتمتع بالنصر.
لن تكون فاجعة قاعدة سبايكر الجريمة الأخيرة في مسلسل القتل الممنهج للعراقيين وسوف تذهب وتختفي بعيدا وتهمل وتنسى حالها حال سابقاتها. وربما اختيرت اليوم لتكون مسكناً وغطاءاً لمثيلاتها . فالرقم الحقيقي لضحايا الجريمة مازال تتنازعه فجيعة أهل الضحايا مع حسابات وزارة الدفاع. ولم يتسنى للبرلمان العراقي معرفة حقيقة من تسرب ومن قتل ومن بقي في القاعدة ومن تختطفه العشائر وتساوم عليه، من حقيقة العدد الذي أعلنه بعض قادة العساكر وهو مايقارب 4500 عسكري كانوا متواجدين في القاعدة لحظة الانكسار، وثبت رقم 1700 كمعدل للضحايا، دون أن يكون هناك رقما صريحا تشير له وثائق رسمية . وإن دونت وقائع هذه الجريمة كما أتفق عليها في البرلمان فأن وقعها جاء موجع ومخيب لأهالي الضحايا ومثلهم شرفاء العراق من من يقض مضاجعهم هذا الخراب والفواجع اليومية. فمثلها اختفت جرائم كبرى بين طيات أوراق التحقيق  وغيبت عن الواجهة لتكون في نهاية المطاف نسيا منسيا . فهناك جريمة إبادة وتهجير المسيحيين ومثلها للشبك والتركمان الشيعة ومن ثم الفاجعة التي صبت على رأس الايزيديين، وقبل كل هذه المذبحة الطائفية التي حدثت في سجن بادوش لما يقارب من 400 سجين من مجموع 567 . كل تلك الجرائم عافها البرلمانيون وركنت فوق الرفوف دون أن ترتفع الأصوات للبحث في مآلها .
ولكن الغريب في الأمر ولحد اللحظة لم يتقدم أحد من البرلمانيين ليوجه الاتهام للمسؤول الأول عن هزيمة الجيش في الموصل والمسبب في جريمة سجن بادوش أو قاعدة سبايكر، لا بل لم يناقش البرلمان السابق ولا الحالي مسوغات وجود كل هؤلاء الجنود ومثلهم السجناء في تلك المناطق الساخنة ومن هو المسؤول عن وضعهم وسط حقول الضباع .
تشير جميع الوقائع اليومية ولمدة أكثر من عامين قبل يوم 10 حزيران 2014  وهو يوم احتلال داعش لمدينة الموصل، إلى سيطرة قيادات البعثيين وجناحهم العسكري النقشبندية وحلفاءهم من داعش على أغلب مفاصل الإدارة في مؤسسات الدولة في عموم محافظة نينوى. وكانت هذه المجاميع تستحوذ على الملايين من النقود والمساعدات على شكل جباية أو تبرعات وهبات، مع وفرة حواضن للإرهاب تعد بالآلاف في عموم المحافظة . وهناك معسكرات تدريب لقوات داعش في المناطق المحيطة بالمدينة. ولم يكن كل ذلك في وارد اهتمامات القائد العام للعسكر ولا قياداته. لذا أبقى على السجناء في سجن بادوش وأغلبهم من مناطق العراق الجنوبية والبعض منهم من رجال التيار الصدري، ووضعهم تحت التهديد اليومي والمحاولات العديدة لاختراق السجن والسيطرة عليه من قبل الإرهاب، وكأن المالكي وقياداته كانوا يتعمدون أبقاء السجناء هناك والتخلص منهم بتسليمهم لقمة سائغة للإرهاب حين قدومه. ومثل ذلك حدث لجنود قاعدة سبايكر حين تم نقلهم من قاعدة الأمام علي في الناصرية وباقي المناطق الجنوبية إلى مدينة مضطربة وقاعدة محاطة بالحواضن وأراض يسيطر عليها الإرهاب.
وبعد كل تلك الفواجع التي حدثت في نينوى وكركوك وصلاح الدين قدم قادة العسكر مقترحهم لقائد الجمع الميمون السيد المالكي بأن يكون معسكر التاجي مركزا لتجمع الجيش المهزوم أو المتسرب، واقترح أيضا أن يكون معسكر المحاويل مركزا لتجمع وتدريب المتطوعين من الحشد الشعبي. في هذين الخيارين يبدو أن القيادة تكتسب خبرة منتقاة وممنهجة في قتل الناس ودفعهم نحو الموت المجاني، وكأن العراق خلى من مواقع مؤمنة وأرض بعيدة عن الإرهاب وحواضنه. وأن كان المالكي يجهل العلوم العسكرية ولا يعرف الجك من البك في خطط السلامة العسكرية، فقد ترك الأمر للقادة من عساكر البعث في اختيار طبيعة إدارة المعارك وتبييض صفحة الهزائم ومن ثم تحديد مواقع مراكز لتدريب أبناء الجيش والمتطوعين وسط مناطق ساخنة تعج بالحواضن والإرهابيين. فالتاجي منطقة معروفة بمحيطها ولم يتسنى للجيش العراقي فيها ولحد اللحظة أن ينال الهدوء، ودائما ما تأتي لها مجاميع إرهابية من مناطق المشاهدة وقرى بلد والضلوعية وحتى أبو غريب وكانت ومازالت حركة الإرهاب طليقة فيها تستطيع أن تضع معسكر التاجي وطرق الوصول أليه تحت رحمتها أنا شاءت. ومثلها منطقة المحاويل وهي القريبة على مناطق شمال بابل وبالذات جرف الصخر والبحيرات واليوسفية، وتعد ومنطقة التاجي جزء من مشروع صدام حسين لتطويق بغداد. فهل يا ترى تذهب مثل هذه الخيارات نحو إعداد سيناريو جديد لمجزرة تشبه مجزرة سبايكر . 
 
 
 
 
 

171


العراق، خيار التوافقية بديلا عن صناديق الاقتراع
فرات المحسن
رغم تشبث السيد المالكي بموقفه وزعمه البقاء رئيسا للوزراء مع انتهاء ولايته. ورغم لجوئه للمحكمة الدستورية للحصول على ما يشفع له ويعيد له بعض ماء الوجه أمام مناوئيه، فأن جميع جهوده ومحاولاته التي بذلها وبمساندة البعض من أنصاره، ذهبت أخيرا أدراج الرياح، فقد احكم الطوق حوله ، ليس فقط من قبل حلفائه السابقين في التحالف الوطني، وإنما من قبل مناصرين كان المالكي يذخرهم ليوم الشدة. فمنظمة بدر بقيادة السيد العامري فسخت عقد الزواج الكاثوليكي مع المالكي بعد أن تحول وبدوافع الشراكة في البيت الشيعي إلى زواج قابل للانفصام على مذهب أخر، وأصدرت منظمة بدر موافقتها على التغيير بعد أن رأت أن الطرف الإيراني لا يرغب قطعا في طريقة الزواج الكاثوليكي ولا يسمح لقيادة السيد العامري وغيرها أن تمارس مثل هذا الزواج في الواقع السياسي والمصالح العليا للدولة الإيرانية.
وسبق صدور بيان حزب الدعوة الذي تخلى فيه الحزب عن خيار التمسك بالسيد المالكي لصالح تأييد ترشيح السيد حيدر العبادي ،أصدرت قيادة مجموعة عصائب أهل الحق التي دائما ما عدت كذراع عسكري للسيد للمالكي، بيانها الصريح حول رؤيتها التي تتوافق وما قدمه التحالف الشيعي من رؤية رشحت السيد العبادي لترؤس الوزارة العراقية. وكان لكبار قادة حزب الدعوة دور صامت تجاه الحدث، مثل في مجمله شعور بالتشفي من قائد الحزب الذي عاملهم بقسوة وجفوة. لا بل حتى البعض من بطانة المالكي وبعد ساعات من ترشيح السيد حيدر العبادي وجدت من الأفضل لها القفز خارج كابينة دولة القانون والنأي بنفسها بعيدا عن المالكي والذهاب لمسح أكتاف الرئيس الجديد .
وفي نهاية المطاف قدم السيد المالكي تنازله طوعا بعد أن أدرك حجم الضغوط والعزلة التي يواجهها، مشفع قبوله التنازل لصالح السيد العبادي بعرض مظلموميته بالقول، أنه تعرض لهجمة ظالمة أجبرته على التنازل، واستدرك بأنه مارس جميع الآليات السلمية والوسائل الدستورية للحصول على حقه بالفوز بولاية ثالثة . وكان عند خطابه محاط بأغلب قيادات حزب الدعوة ودولة القانون تشجيعا له على تجرع السم .
تدون في سجلات الذاكرة العراقية الطرية، لدورتي حكم السيد المالكي الكثير من الخروقات للدستور العراقي، وكانت قيادته قد وضعت أسفينا بشعا بين مكونات الشعب. وفي عهدة بات الشارع العراقي تحت سطوة المليشيات والقوانين العشائرية غير المنصفة، وعم الخراب مؤسسات الدولة ونخرها الفساد طولا وعرضا وتدهور الأمن مثلما الخدمات. ولكن ما يسجل لصالح المالكي في نهاية عهده، قبوله التنازل لصالح غيره وخطابه الذي وجهه للقيادات العسكرية طالبا منها النأي بعيدا عن الصراعات السياسية
ما الذي حدث بعد أن كان المالكي معتدا بشخصه وبعدد أعضاء كتلة دولة القانون في البرلمان الذي تجاوز سقف المائة عضو.؟!
 بعد الصراعات داخل التحالف الشيعي والتي امتدت لفترة زمنية غير قليلة وأقلقت الشارع العراقي ، حسم الصراع في عملية مفاجأة لصالح أبعاد المالكي وترشيح العبادي برعاية عراب التحالف السيد الجعفري الذي لعب لعبته مستغلا الوضع ليرد للمالكي فعلته في سلب قيادة حزب الدعوة منه.
ما دار داخل بيت التحالف كان إعادة لنهج الرهانات السابقة التي دارت رحاها عام 2010 حين فازت القائمة العراقية بقيادة السيد أياد علاوي بمجموع 91 مقعدا وحصلت كتلة دولة القانون على 89 مقعدا وعندها ائتلف البيت الشيعي ليكون الكتلة الأكبر حسب توصيف  المحكمة الاتحادية الدستورية وأقصي السيد علاوي بعيدا. اليوم تكرر ذات المشهد داخل التحالف الشيعي فحل المالكي ولغرائب الصدف بدلا عن أياد علاوي ليضع نفسه في خصومة حول من يملك الحصة الأكبر، هل التحالف الوطني الشيعي بعمومه أم دولة القانون المنضوية تحت لوائه. وفي خضم معركة طاحنة ألتف شركاء المالكي في التحالف على مجمل العملية وأذاقوه ما أذاقه سابقا للسيد أياد علاوي، حين قصوا أجنحة من قائمته تمثلت بالسيد الشهرستاني وحزب الفضيلة وبعض أعضاء الدعوة ليكون في النهاية غير قادر على جمع ما يفي لتكون كتلة دولة القانون هي الأكبر ، بعدها قدم التحالف الوطني نفسه لرئاسة الجمهورية كونه الكتلة الأكبر.
هل الذي حدث داخل التحالف الوطني الشيعي كان إجراءا شرعيا سلك مسلك الديمقراطية في خياراته. مازال البعض يشكك بذلك رغم الطبيعة الواضحة للأجراء والذي ذهب وفق صياغات القوة التصويتية داخل التحالف الوطني الشيعي الذي يضم في عضويته كتلة دولة القانون. فالخيار الذي قدمه التحالف الوطني جاء وفق القوة التصويتية لعدد المنضوين تحت سقف التحالف، ودائما ما قدمت كتلة دولة القانون نفسها جزءا من هذا التحالف، لذا فهي خاضعة لطبيعة ومنهجية عمل التحالف الوطني وعليها أن تكون قابلة لما يقرره الحلفاء مجتمعا في البيت الشيعي.
هل أن ما حدث في عملية إقصاء السيد المالكي وكتلة دولة القانون تم بناءا على صيغ وخيارات صناديق الاقتراع؟! أي القوة التصويتية ؟!. يبدو أن هذا مشكوكا فيه ،وكانت وقائعه تكرار لما طرح وغلفه الشك وقتها حول أحقية كتلة أياد علاوي عام 2010 في تأليف الوزارة. فالسيد المالكي ودولة القانون وحسب القوة التصويتية كان من الموجب أن يرشحه التحالف الوطني أي البيت الشيعي كرئيس وزراء للدولة العراقية. ولكن ومنذ تأريخ تنصل السيد المالكي عن اتفاقية أربيل تصاعدت حدة الخلافات وبات المالكي خصما لجهات عديدة منها شركائه في البيت الشيعي أي التحالف الوطني حين أنقسم التحالف على نفسه برفض الكتلة الصدرية وكتلة المواطن وشخصيات أخرى داخله ترشيح المالكي للمنصب، ووقف الشريك الكردي موقفا مماثلا أما الكتل السنية فقد حسمت أمرها بإعلانها عن النأي بعيدا عن أية حكومة يرأسها مستقبلا السيد المالكي، وكان هناك أجماع داخل الكتل البرلمانية الصغيرة على الرفض لولاية المالكي ثالثة.ولذا كانت فترة رئاسته الثانية حافلة بالتوتر وتخندق الجميع خلف متاريسهم وراحوا يتراشقون الاتهامات ويرفعون من سقوف مطالبهم. وبدوره فضل السيد المالكي لغة العنت والتعالي، وراح يلوح بسلطاته وبقوى خفية يضمرها ليوم الشدة، ودفع بعض مستشاريه وحاشيته لفتح ألسنتهم السليطة لتسوط خصومه بأبشع التهويشات والشتائم. ولم يبخل الخصوم بالرد العنيف وتضخمت حجوم العداوات ومعها الرفض لولاية ثالثة، كان المالكي يسير واثقا نحوها، وهذا ما أفصحت عنه صناديق الاقتراع في انتخابات 2014 حيث حصلت دولة القانون على مجموع 93 مقعدا وتصدرت قوائم الانتخابات، وكانت القوة التصويتية التي نالها السيد المالكي قد تعدت 750 ألف ناخب.
خيار أبعاد السيد المالكي عن الحكم ومنعه من الحصول على ولاية ثالثة كان ومنذ بداية ولايته الثانية قد أصبح هاجس جميع الفرقاء في العملية السياسية، ولم تكن نتيجة الانتخابات وفوز قائمة دولة القانون في الانتخابات الأخيرة لتعنيهم بشيء، بقدر تحشدهم لتغيير طابع العملية برمتها لصالح منهج التوافق في ترتيب الكابينة الحاكمة. بناء على هذا التوجه تقاسم الشركاء الأقوياء سلطة رئاسة الجمهورية والبرلمان ليكرس مبدأ سلطة المكونات الثلاثة، الأثنية والطائفية .
وتبقى أسئلة وشكوك كبيرة يفترض أثارتها حول مجمل العملية السياسية وطبيعة مسار الديمقراطية .حيث تظهر العملية برمتها مجافية للواقع وتضع البناء الحديث بعيدا جدا عن السكة الحقيقية التي من المفترض أن تسير عليها وهي في طور النشوء في العراق الجديد.
 في أطر البحوث التي توصف النموذج الأمثل للديمقراطية يتقدم اللوحة التعريف الكلاسيكي لمفهوم سلطة الشعب، أي خيار صناديق الاقتراع. ولكن ما حدث في العراق كان خروجا مبسترا ومعدا سلفا لتغيير خارطة الوضع السياسي عبر الالتفاف على مشروع تداول السلطة السلمي وإفراغ العملية الديمقراطية من محتواها بإجهاض ملمحها الأول، وذلك بتفضيل الذهاب لنموذج التوافقية لحسم النتائج النهائية ، وهي في ذلك تبدو نموذجا يبتعد كثيرا عن ديمقراطية الخيار الشعبي ويطعن في شرط التداول السلمي الرضائي للسلطة بقبول نتائج صناديق الاقتراع. هذا الموقف الجامع لقطاعات عريضة من السياسيين العراقيين وكتلهم البرلمانية حتم على التحالف الوطني الذهاب في شوط التوافقات السياسية وتلبية مطلب إقصاء المالكي، ليعاد تكرار عملية إبعاد السيد الجعفري عن رئاسة الوزراء التي جاءت وقتذاك وفق رغبة خصومه من التحالف الكردي. أذن فأن عموم مسيرة الديمقراطية في العراق في إطارها العام لن تجد لها منفذا يقربها لتكون صيغة لحكم الشعب، وإنما خضعت وسوف تخضع ولزمن طويل، لرغبة الأطراف السياسية لتكون قانونا للتوافقية بين النخب السلطوية، أي خيار الكتل السياسية الأقوى كما سماها السيد همام حمودي ، والتي تذهب برغبة جامحة ومشروع ناجز لتقاسم مصادر الثروة والقوة في العراق. ومثل هذه العملية التوافقية التي تتزامن في سيرها ونتائجها مع برلمان يخضع في قراراته لمشيئة رؤساء الكتل ذاتها، فمن الصعب منح النتائج التي أسفرت عنها مجمل العملية السياسية صفة أو مسمى نجاح ديمقراطي  وهي في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن ما يمثله مفهوم سلطة الشعب .


172
تركة ثقيلة عافها المالكي للعبادي وجميع العراقيين

فرات المحسن

دائما ما تذهب المقارنات بين الشخصيات لتبحث عن ما يتمتع به كل منها في المزايا الشخصية سلبا كانت أم إيجابا. فبعد سقوط صنم البعث الفاشي ورئيسه المخبول، ظهرت على الساحة السياسية شخصيات عدة كان وجودها خارج العراق كمعارضة يمنع العراقي من معرفة الميزات الشخصية لأفرادها، وبدت الكثير من الوجوه بعيدة وغريبة في طباعها وأشكالها ورؤاها عن أبن الشارع . حتى شخوص المعارضة، ورغم سنوات المنفى المشترك الطويلة، لم تكن قد تعرفت على بعضها البعض بما يكفي لتشخيص الميزات والطباع الفردية. فالخلافات السياسية والشخصية كانت على أشدها مثلما طابع المهادنات والمجاملات على حساب المبادئ. وكان السؤال عن شخص ما من المعارضة عند بعض الأطراف السياسية، يشوبه الكثير من التسويف والتشويه ويصل في البعض منه  لدرجة التخوين والذم.
ظهور السيد علاوي كأول رئيس لوزراء العراق في الحكومة العراقية بعد سقوط الصنم كان مفاجئة من العيار الثقيل للعديد من الناس، فالشارع العراقي من المتعلمين والسياسيين عكس العامة، يعرفه بعثي سابق له تأريخ غير حسن في علاقاته السياسية والإنسانية حين وجوده عضوا في صفوف حزب البعث عندما كان داخل العراق، وتم تسويقه من قبل المخابرات البريطانية كمعارض لصدام بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها على يد المخابرات العراقية، ودائما ما يسبق توصيفه حاله حال السيد أحمد الجلبي، اعترافاته بكونه تعامل مع العديد من مخابرات الدول. ولم يكن مجلس الحكم الذي ألفه الحاكم العام الأمريكي بريمر غير بضع شخصيات مموهة وضبابية لم يسبق للشعب العراقي أن تعرف عليها أو حتى سمع عنها، وذلك بسبب سياسات التغييب والقسوة التي مارسها حزب البعث وأيضا لأسباب شخصية. وحدث ذات الشيء لشخصية السيد الجعفري الذي اختير رئيسا للوزراء كاستحقاق للمكون الشيعي وبقيت شخصيته القلقة المشحونة بالنرجسية الطابع الغالب في التوصيف عند الكثيرين.ومثله السيد المالكي الذي تضاربت عواطف ومشاعر وسلوك الناس في محاولة لمعرفة واكتشاف شخصيته ورؤاه وتوجهاته رغم فترة حكمه التي امتدت لأكثر من ثمان سنوات . وبسبب حاشية كبيرة عريضة التفت حوله طيلة فترة حكمه أنقسم الناس فيه بين مؤيد ومعارض ليرحل هذا الخلاف إلى البيت الشيعي وتوجه الطعون لحزب الدعوة أولا ثم للمكون الشيعي بسبب شخصية المالكي وأداءه وأفعال حاشيته.
ظهر السيد حيدر العبادي كبديل عن المالكي ولم تكن العشر سنوات لتكفي الناس للتعرف على قدراته وطباعه ورؤاه ومنهجيته. فهو في الجانب العملي سبق أن كان وزيرا للمواصلات بعد سقوط الفاشية البعثية، ولم تظهر في عهد استيزاره انجازات يعتد بها، مما يستدعي الناس لتذكرها. ورغم أن السيد العبادي يحمل شهادة الدكتوراه من بريطانيا في مجال الالكترونيات، فقد بقت الوزارة على حالها لا بل أصابها الكثير من العطب والجدب وتحولت إلى مقاول فتح الأبواب لشركات الهاتف النقال للحلول بدلا عن الوزارة في جانب خدمات الهاتف، وأثير وقتها لغط كثير حول المفاوضات مع شركات الهاتف واتهم شخص الوزير بمهادنة وبيع الحقوق وغير ذلك، مما يثلم شخصية السيد العبادي. ومثل ذلك حدث أيضا مع باقي خدمات الوزارة المقدمة للمواطن العراقي. وعندما انتهى استيزاره أصبح عضوا برلمانيا لا يسمع له صوتا منفردا أو فاعلا بقدر علاقته وتبعيته لرئيس الكتلة في البرلمان وتوصيات حزبه، رغم ترؤسه لجنة الاستثمار والأعمار في البرلمان التي ما قدمت لحين حلها ما يشفي غليل المواطن أو يرفع من قيمة المنجز في تلك المجالات. وحتى في خيار ترشيحه لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان العراق أثر نتائج انتخابات العام الحالي 2014 فأن ذلك جاء بناءا على ترشيح حزبي وعلى أساس استحقاق التحالف الشيعي للمنصب.
في التوصيف العام يدخل السيد حيدر العبادي تحت خيمة التكنوقراط ، وهي صفة علمية مهنية يحتاجها العراق في جميع المراحل والأحوال وتبدو حاجته اليوم ملحة لمثل هؤلاء، في الوقت العصيب التي تمر فيه الدولة العراقية وحاجتها لبنات يبذلون الجهد لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة الخدمية بما يجعل المواطن يشعر بالفرق بين الماضي والحاضر وبين ما هو عليه واقع الحال في العراق مقارنة بالتقدم الذي أصاب أمم قريبة كانت تحسده على ما يتمتع به من رقي. ولكن السيد حيدر العبادي جاء بناءا على خيار حزبي، ودائما ما كان ومنذ صباه قريبا من دائرة السياسة والتحزب ولم يمنح الفرصة ليكون رجلا من رجال المهنة التي درس من أجلها سنوات طوال، لا بل أنغمر في الموضوعة السياسية وغرف من مناهل التدين والدعوة وعاش وطرا طويلا مثل رفاقه في أجواء المعارضة التي ألهته تماما عن ما أكتسبه من معرفة في مجال العلوم الالكترونية، وبدلا من ممارسة اختصاصه تعلق بطبيعة السياسي وفق نموذج الناطق الرسمي لحزبه وبقي شوطا طويلا في هذا المجال دون غيره .
في خضم المشاكل السياسية والأمنية التي يواجهها العراق جاء خيار السيد حيدر العبادي ليكون رجل التوافق السياسي والحلول الأمنية وليس رجل التكنوقراط . ومثل هذا الأمر يقصي خيار حاجة العراق للتكنوقراط في شخصه، ويحدد لرئاسة الوزراء المهام الملحة التي عليه أن يباشر بها، وهي مهام سياسية وأمنية عاجلة لا تقبل التأجيل، بعد أن عاف السيد المالكي عبئا ثقيلا على كاهل الجميع وليس فقط السيد العبادي. فالأجواء السياسية والأمنية متوترة وعلى أشدها لا بل تنذر بالدمار.فجبهة الحرب مع بعض العشائر السنية المتمردة الساندة لقوات داعش الوحشية وحزب البعث، باتت قريبة من بغداد وقطعت الكثير من جسد العراق في شماله وغربه، وهناك ضعف وارتخاء وتخبط داخل جيش السلطة، ولم يعد لقيادات قوى الأمن القدرة على منع وصول الإرهاب وسط العاصمة بغداد لا بل تمدد ليطال بعض مدن الجنوب والوسط العراقي. كذلك لم تعد للسلطة في العراق القدرة على لجم تحركات المليشيات الشيعية وإيقاف تجاوزاتها على القوانين وحياة الناس. حتى عصابات النهب والسلب والجرائم الجنائية باتت اليوم تشكل هاجس رعب ليس فقط للمواطن العادي وإنما لمؤسسات السلطة ذاتها.
 أما في الجانب السياسي،فما حدث في البيت الشيعي يتطلب عملا كثيرا لإعادة ترميمه بما يضمن رضا الجميع وتوافقهم.  ولا يمكن عزل هذا الخلاف الظاهر والمستتر بعيدا عن الواقع والمسببات الحقيقية للخراب الذي يعم مدن الغالبية الشيعية، وهذا لوحده يحتاج لوقفة جادة للخروج من الأوضاع المزرية التي تعانيها تلك المناطق عبر حسم ذلك الصراع الخفي وجعله بعيدا عن احتياجات البشر وتحسين واقعهم المعيشي والبيئي. أيضا فأن سقف المطالب التي يقدمها الشركاء من غير الطرف الشيعي بدت عالية جدا، وفي الكثير منها تقف ومنذ بداية شوط السيد العبادي الأول كمصدات كأداء في وجهه، لا يمكنه القفز فوقها أو تجاوزها وسوف تدخله في دوامة يصعب عليه الخروج منها، وهي أن بقيت على حالها فسوف تكون عصية على الحل مع أي شخص يستلم مهام رئاسة الوزراء، أن أصرت تلك الأطراف على مطالباتها دون أن تكون في جعبتها تنازلات تنظر بعين الحذر والوعي لما يتعرض له العراق من مخاطر مع استمرار الصراع السياسي على ذات المنوال مترافقا مع هجمة الإرهاب الشرسة التي تضع الجميع في خانة ومسؤولية واحدة بدعوى مشاركتهم في العملية السياسية . ومن هذا المشهد الشائك فأن على السيد العبادي أن يضع الشركاء من جميع القوى والفعاليات والأحزاب أمام مسؤولياتهم التاريخية المشتركة ويدعوهم لتشكيل مؤسسة أو هيئة سياسية قيادية عليا لها برنامج وقواعد معرفة وملزمة ، يلتزم بقراراتها الجميع، ويكون خيارها العراق أولا، ويتم فيها مناقشة استحقاقات جميع الأطراف وفق ما جاء به الدستور وتعديلاته . ويبدأ أولا مع الشركاء وفق قرار مشترك وناجز لإعادة هيكلة المحكمة الدستورية العليا لتحظى بمقبولية الجميع، وتكون حكما فصلا في جميع الخلافات الدستورية،على أن يضمن بعد ذلك تعهدات جميع الأطراف بقبول مشورة المحكمة الدستورية وقراراتها في حل القضايا الإشكالية في الدستور بعيدا عن التصرفات الانفرادية والاستباقية. وقبل كل هذا أن يلزم كتلته وباقي الأطراف بترشيح شخصيات ذات خلفية علمية ومهنية لوزارات الدولة بعيدا عن الخيارات الحزبية التي قدمت شخصيات أشاعت الخراب في مؤسسات الدولة ووضعت العراق عند أسفل قوائم الفشل في مختلف المجالات.


173

الولايات المتحدة الأمريكية وتفكيك عقد العراق المستعصية

فرات المحسن

بالرغم  من خفوت حدة القتل على الهوية الطائفية، لكن حالة هذا النزاع المعلنة والمضمرة ونتائجها،وضعت مجموعة من الأسافين بين مختلف الكتل والطوائف والأعراق، وتطور الصراع المذهبي ليكون مع الصراع الكردي العربي ملمحا وسمة تطغي على باقي المشاهد العراقية المؤسية، وتضع بصمتها الثقيلة على مجريات أغلب الوقائع اليومية هناك. لذا وجد قادة الإدارة الأمريكية رعاة العملية السياسية في العراق،إن من المناسب أيجاد مخرج لفك هذا الاستعصاء ووضع سيناريو يفكك العقد ويجعل الجميع متكافئين ومتعادلين في كفة الميزان الأمريكي . والإدارة الأمريكية دائما ما وضعت في جعبتها العديد من الخيارات التي تضمن مصالحها في العراق والمنطقة قبل أي شيء أخر.
الحديث يطول عن رغبة بلدان الجوار وأيضا بعض بلدان الإقليم ومثلهم أمريكا وبريطانيا في رؤية عراق مقسم بصيغة ما . فجميع هؤلاء وفي مقدمتهم إسرائيل وتركيا والسعودية وقطر وإيران يفعلون الكثير ليروا العراق وقد تفتت وصار قطع صغيرة تتلاعب به وتتقاذفه أهواؤهم ومشاريعهم. فما كانت مشاريع إيران ببعيدة عن حلم وجود دويلة شيعية مجاورة تفرض عليها أجنداتها وتجعلها فصيل الحجاب في معاركها ضد أعدائها في الإقليم والعالم. وذات الحلم كان ركيزة في مشروع دولة إسرائيل منذ التأسيس . فجعل العراق بتلك الهشاشة والتشظي يزيل من خريطة الإقليم قوة كانت دائما ما تشكل صداعا مستمرا للساسة في إسرائيل وتجعلهم ينظرون بقلق لو استمر العراق متماسك بمكوناته ووجود موارده وتطلعات شعبه، وكان مناحيم بيغن صريحا في طرح رغبته في رؤية عراق مجزأ. ولبايدن وقبله وبعده من الساسة في الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ عقود مضت ومثلهم في بريطانيا العظمى، حديث فصيح صريح حول هذا الآمر، ولم يترددوا يوما ما في التأكيد على أن وحدة العراق يجب أن تتم بخيار اتحاد ثلاثة كتل لتشكيل وطن، وليس وطن واحد تجتمع في هويته الوطنية الموحدة مكونات، وليأت بعد ذلك حديث أخر عن العلاقة بتلك الكيانات. وجاء على لسان ملك الأردن حسين بن طلال قبل وفاته، ذات التعبير حول ضرورة رؤية ثلاثة كيانات تحسم الخلافات على خريطة العراق وموارده.
تعد سياسة وبرامج سلطة السيد المالكي التي درجت على تنفيذها، ليس فقط ما كانت بعيدة عن الحكمة وعشوائية بأدائها بقدر ما حملته من تناقضات وإيذاء، جعلت من الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق حقل تجارب لأفكار ملوثة وبائسة وإقصائية، قادت لمجمل الفشل الذي حاق بالعراق وشعبة . ولكن في الجانب الأخر فالحقيقة يجب أن تعرض بوقائعها الكاملة ومن الإجحاف لا بل القصور في الوعي أن يختزل الخراب ويوسم بشخص المالكي وجماعته. فخصومه وكذلك شركاؤه في العملية السياسية لم يكونوا بعيدا عن هذا الفشل ولا يمكن لهم النأي عنه ونفض أياديهم وثيابهم من ما تلوثت به من جرائم وإيذاء للشعب العراقي  والهوية الوطنية. فقد كانوا بمختلف مسمياتهم جزء له يد طولى بما وصل أليه حال العراق من خراب وبؤس وتصدع.
جميع من شارك في العملية السياسية وأيضا عرابها الولايات المتحدة، أشتغل بجهود مضاعفة لإيصال حال العراق إلى ما هو عليه الآن. وما حدث في الموصل وصلاح الدين وكركوك ليس بعيدا عن وقائع مؤامرة أعد لها في ليل، وخلف أبواب لم تكن مغلقة بالتمام ، وكانت المؤامرة تتويجا لجميع تلك الإخفاقات والفشل والأفكار الملوثة بالبدع والاستحكامات الطائفية والعرقية.
فالتسريبات العديدة داخل وخارج العراق تشير لاجتماعات عقدت داخل العراق وفي دول الجوار وبالذات الأردن منها، تحت رعاية وإدارة الولايات المتحدة ، شاركت فيها وتشاورت أطراف عديدة، البعض منهم مشاركون في سلطة السيد المالكي ومن خصومه، وسربت عن الاجتماعات بعض الوقائع. وهذه المؤامرة وضعت خططها تحت يافطة شعار الإقصاء والتهميش التي تتعرض له بعض مكونات الشعب العراقي من قبل سلطة المالكي. وخرجت الاجتماعات بنتيجة تلوح بحتمية التغيير مع أخفاء نوع وطبيعة التغيير المنشود. وعلى وقع ردود فعل المالكي التخبطية الترقيعية التي رافقتها أفعال  محبطة وسيئة وطائفية في حيثياتها ووقائعها ، دونت في تلك الاجتماعات اتفاقات ملزمة بين راعي العملية السياسية وعرابها أمريكا ورجال فصيل النقشبندية من رجال البعث ومعهم جيش محمد وقيادة المجلس العسكري للمقاومة وجل هؤلاء من رجالات وقادة جيش صدام،ورافقهم في التخطيط البعض من المشاركين في العملية السياسية. ودارت الاجتماعات وأعدت الخطط ووضعت اللمسات لعملية البداية، لتكون تمهيدا لعملية أكبر إلا وهي وضع لمسات أولى لكيانات سياسية اقتصادية جديدة تشكل خارطة العراق المقبلة، أن سمحت الظروف لبقاء كيان كامل أسمه العراق.
 هناك تسريبات صحفية غير مؤكدة تشير لعلاقة فصيل كردي بتلك الاجتماعات، وما يرفع من قيمة تلك التسريبات والشكوك، تصرف رئاسة إقليم كردستان التي نأت بنفسها بعيدا عن نصرة شركائها في العملية السياسية، وقبلها شركاؤها في الوطن الواحد، وجعلت الإقليم بعيدا عن الذي يحصل رغم خطر الإرهاب الذي أصبح عند حدوده، بعد حصولها على مجموع المناطق المتنازع عليها التي حددتها المادة 140 .كذلك فان مثل تلك التسريبات تجد من يتناولها كيقين، مبررا صحة مثل هذه الأخبار، بسرعة وقوف بعض الساسة في الإقليم عند لحظة فارقة من تأريخ العراق، وكأنهم كانوا ينتظرون تلك اللحظة بفارغ الصبر ،للتهيؤ والقفز فوق كل اعتبارات الشراكة، وذهبوا دون انتظار، لفصم عرى دائما ما كانوا يعدونها قيودا أو زواجا قسريا، رغم عدم انعدام الظروف كليا لحلحلة النزاع مع السلطة الاتحادية، ورغم المؤشرات الكثيرة الدالة على استقلال الإقليم الناجز، وامتلاكه لقراره السياسي والاقتصادي المستقل. ومثل هذا الاستقلال قد بانت معالمه منذ عام 1991،وبات حقيقة واقعة على الأرض. فشكل العلاقة بين الإقليم والعراق اليوم تتعدى قواعد وهيكلة الاتحاد الكونفدرالي ، لتصل في بعض تراتيبياتها لواقع علاقة بين دولتين جارتين . وسبق وأن كانت فرصة الانفصال عن العراق جد مواتية بعد سقوط حكم صدام حسين عام 2003 . ولكن ضغوط الإقليم والأمريكان دفع بقادة الكرد لخيار البقاء داخل تركيبة العراق وضيع عليهم آنذاك الفرصة .
يشكل قادة جيش صدام عماد القيادة في تشكيلات داعش، وليس أقل من عشرة منهم لهم الكلمة النافذة في القيادة العليا في تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش)، ولهؤلاء علاقات وطيدة برجال المجلس العسكري للمقاومة ورجال النقشبندية وجيش محمد الذين يشكل ضباط ومراتب جيش صدام قوام قادتهم وأعضائهم. ومن خلال هؤلاء تم التشاور لتنفيذ المؤامرة التي حددت معالمها الأولى وساعة الصفر فيها حين البدء بالتقدم واحتلال الموصل من قبل رجال النقشبندية وداعش،  ليترافق ذلك بانتفاض ضباط وخلايا البعث النائمة في نينوى، على أن تكون داعش رأس الحربة في الهجوم .ومن خلال ارتباط قادة الجيش العراقي الجديد المتواجدين في نينوى، بقيادات داعش والنقشبندية وجيش الإسلام، مررت أوامر لقطعات الجيش بالانسحاب من مواقعهم وإخلائها لصالح المهاجمين، وعلى ذات المنوال تمت السيطرة على صلاح الدين وكركوك على أن يتزامن ذلك مع هجوم كبير تشنه فصائل الإرهاب في منطقة الرمادي وحزام بغداد.
ردود أفعال سلطة المالكي كانت بداياتها مثلما المعتاد والمعروف، مرتبكة لا تدري كيف تواجه الموقف، بعد أن تكشفت أمامها حجم المؤامرة والخسائر الفادحة التي طالت الجيش العراقي، وإن ليس من السهولة لملمة الوقائع المحدثة على الأرض واحتلال ما معدله 52% من الأرض العراقية من قبل البعث وفصائل الإرهاب الأخرى. فلم تجد بدا من الاحتماء بالطائفة، ليكون هناك حشدا بمواجهة التداعيات، فكان شعار حماية المقدسات راية المعركة القادمة لتحرير ما استقطع من أراض عراقية. ومع تطور الوضع وتدارك الخسائر وإعادة هيكلة بعض فرق الجيش وورود المساعدات  وسرعة استجابة المتطوعين والفصائل الشيعية المسلحة، بدأت صفحة جديد أظهرت سلطة السيد المالكي فيها بعض القدرة على استعادة شيئا من المواقع، خاصة في الرمادي وصلاح الدين دون التقرب من كركوك ومحافظة نينوى.
موقف عراب التقسيم الولايات المتحدة لازال يراوح تحت علامات استفهام كبيرة. ففي الوقت الذي تجد أن صفحات ما خططت له، قد حرفت وأحدث تغيير في بعض وقائعها من قبل بعض الأطراف، تجاوز بعضها حدود العلامات والتسلسلات الموضوعة له، دون التقيد الحرفي بالخطة. فمنظمة داعش ضربت عرض الحائط اتفاقها مع الشركاء من رجال وضباط النقشبندية والبعث والمجلس العسكري للمقاومة، وأعلنت دولتها الإسلامية التي على جميع الفصائل الأخرى الخضوع لها ومبايعتها والعمل تحت رايتها. أيضا فأن سيطرة الجيش العراقي وانتصاراته التي تحققت في بعض مناطق صلاح الدين وبعض الشيء في معارك الرمادي وحزام بغداد، سبب بعض الإرباك للإدارة الأمريكية. كذلك فأن التصريحات المتشنجة والمتسرعة التي تصدر عن القادة الأكراد حول استحواذهم على المناطق المتنازع عليها وانتهاء المادة 140 ودعوتهم للإسراع في إعلان استقلال كردستان عن العراق، كل ذلك فرض على الجانب الأمريكي إعادة قراءة خارطة الطريق التي أعدتها واتفقت عليها، ولذا عليها العمل على احتواء التداعيات قدر الإمكان والتهيؤ لحين استقرار الأوضاع وما ستكون عليه مواقع الأطراف المتصارعة.
راعي خطة انتفاضة أهل السنة، الولايات المتحدة الأمريكية ومثله بعض دول الإقليم لا يريدون أن تنفرط الاتفاقات التي وضعت في الاجتماعات المذكورة سابقا، والتي كان يأمل منها أن تستقر الأوضاع  بما حصل عليه الغرماء من أرض، لتبدأ بعدها عملية التفاوض على شكل التركيبة الجغرافية والسكانية للعراق المستقبلي، وطبيعة ووحدة مكوناته ونوع وتركيبة السلطة المشتركة أن أراد الأخوة الأعداء الشراكة. ومثل هذا البصيص من الأمل الذي مازال يراود البنتاغون ومثله مجموعة دول الإقليم الكارهة للعراق ، يجعل الولايات المتحدة تعمل بحذر وخشية من أن يخسر أحد الأطراف معركته لصالح طرف أخر. ووفق هذا التوجس نجدها تتردد في مساعدة سلطة المالكي أي الحكومة العراقية بالسلاح والطائرات بانتظار أن تفصح المعارك عمن يسيطر فعلا على نينوى وصلاح الدين والرمادي. وهي ترغب وتأمل في هذا المجال أن تجد رجال العشائر السنية وقادة البعث وباقي الفصائل المنتفضة، بالقدر المناسب من القوة والمكانة لتثبيت أقدامهم في تلك المناطق ومن ثم أبداء القوة لتخطي سطوة داعش ومحاربتها ودفعها خارج مناطقهم . وفي الوقت ذاته لا تجد في رغبة الأحزاب الكردية وسعيها لتقرير مصير شعبها بالانفصال عن العراق في الوقت الراهن، شيئا من الحكمة وإنما استباقا يربك الخطط  التي وضعتها تراتيبيا لتقاسم الحصص الجغرافية للعراق وهيكلة كياناته المستقبلية. ومازالت الإدارة الأمريكية تأمل بنهايات تقارب ما يؤمن مصالحها ومصالح حلفائها. وهذا السيناريو المستحدث على الأرض هو الذي ضغط  على البنتاغون لتدارك الوضع ومراقبته بحذر شديد من خلال الدخول المباشر على خط إدارة العمليات ووقائع المعارك. فكان أن أرسلت مستشاريها ليشكلوا مع قادة الجيش العراقي غرفة عمليات مشتركة. ولكن مثل تلك المشاركة ليس الغرض منها مساعدة الطرف العراقي في معاركه وتقديم المشورة له للنجاح ومسك الأرض، بقدر ما كانت غرفة العمليات بالنسبة للإدارة الأمريكية تعني أساسا، مراقبة تحركات الجيش العراقي عن كثب، والحصول على المعلومة المباشرة عن سير المعارك في قواطع العمليات العسكرية وواقع قدرات الجيش العراقي، وكيف تتصرف مع طبيعة تلك القدرات، ومن ثم تقييم نوع العمليات وما يتمخض عنها. وفي حساب التقييمات، ظهر هذا الأمر عبر تسريبات لتصريحات قادة البنتاغون يعلنون عن معالم قوة الجيش العراقي في حدود محيط بغداد الساخن وحاجة هذا القاطع لقطعات عسكرية أكثر لتأمينه. كذلك الحديث عن قدرات الجيش وصلابة دفاعاته غير المطمئنة في الرمادي وتكريت. ومن الجائز أن تكون مثل هذه التلميحات ، أشارات متفق عليها مع أطراف أخرى. يضاف لمساعي هؤلاء الخبراء قدرتهم على خلخلة خطط الجيش العراقي من خلال فرض أرائهم على قادته وإعطاء التوجيهات غير الصائبة وبالارتباط مع القادة البعثيين المعششين في قيادة الجيش والشرطة العراقية  . أيضا فان غرفة العمليات المشتركة تساعد المستشارين الأمريكان على تقييم حجم القوى المناهضة للسلطة العراقية. ولكن الأهم والذي يأتي في مقدمة الغايات من أمر غرفة العمليات المشتركة، هو المراقبة والاطلاع عن كثب على تدخلات الجانب الإيراني في المعركة، ونوع التعاون مع الجانب الروسي الذي فضلته السلطة العراقية كخيار إنقاذ في موضوعة القوة الجوية بعد أن تخلت الإدارة الأمريكية عن تزويد العراق بالطائرات متحججة بالعديد من الحجج التضليلية.
 ولأجل أبقاء توازن الرعب في عملية الصراع الدائر في العراق وقبله سوريا ، فقد جهزت الإدارة الأمريكية قوى المعارضة السورية وبالذات المسلحة منها بصواريخ أرض جو وقاذفات بنوعيات متقدمة لمقارعة نظام الرئيس بشار الأسد، رغم علمها وعبر تجربة أربع سنوات من الصراع الدموي في سوريا، أن هذه الأسلحة سوف تقع بيد رجال الإرهاب من جبهة النصرة وداعش من خلال معارك وهزائم مفتعلة للجيش الحر وباقي المنظمات الصغيرة التي تعتاش على الارتزاق وبيع كل ما يقع تحت اليد. والإدارة الأمريكية تدرك جيدا بأن تلك الأسلحة ستؤول في النهاية لداعش وقادتها من رجال صدام من الذين يسيطرون اليوم على العديد من مناطق العراق، ولن تكون مثل تلك العملية غير تسليح لطرف من أطراف النزاع في العراق وبالذات منه قوى الإرهاب المتمثل برجال البعث من قادة داعش وباقي الفصائل.
 المشهد بتداعياته لا يمكن إيجازه بلحظة أو موقعة أو فعل، ولا حتى ترحيله لخلاف بين ثلاثة أقطاب هي المكونات الرئيسية التي تعيش على أرض العراق، ولا يمكن للمراقب داخل حومة الصراع المحتدم الإلمام بجميع الأسباب التي سبقت حوادث احتلال الموصل وصلاح الدين وما أعقبها من وقائع، فكيف الحال بالنسبة للمراقب من خارج الحومة.  فاحتلال الموصل وتكريت وقبلهما الرمادي والفلوجة والجرائم والتهديدات اليومية للإرهاب،  تتطلب العودة بعيدا إلى الوراء أي لما قبل سقوط صدام وحزب البعث والبحث عن وقائع وعلاقات تمتد إلى زمن بعيد، منذ ما قبل مؤتمرات المعارضة العراقية وكيف كانت سياقات عمل وعلاقات تلك المعارضة مع بعضها، وأيضا مع الدول الحاضنة وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وسوريا وإيران والسعودية والتي جعلت قضية العراق شأنا خارج إرادة أبناءه ورغباتهم.

174

من يحال إلى المحاكم بعد الهزيمة
فرات المحسن

بعد معركة محافظة الرمادي التي لم تنتهي لحد الآن، أصبحت الرمادي والفلوجة رهان المالكي للولاية الثالثة، ولكنها بقيت مثل شفرة حادة في حلقه، لا يعرف كيف يخرج من الوضع المحرج الذي ورطه به رجال البعث من الذين يديرون العمليات العسكرية وحركات الجيش الحالي، وبقيت الفلوجة وأحياء مدينة الرمادي مصيدة كبيرة لجنود الجيش العراقي.
احتلال الموصل ليس ببعيد عن مخططات قيادات البعث العاملة في الجيش العراقي الجديد .وفي هذا الشأن يتحدث أحد مراسلي محطة التلفزيون سكاي نيوز، الذي قال أنه كان قريب من غرفة قيادة قوات الجيش في محافظة نينوى، وسمع كيف تعطى الأوامر إلى الضباط للتحرك، وبالذات منهم قيادات الفرق، ولكنهم بعناد غريب يخرقون الأوامر ويمتنعون عن تنفيذها،لا بل يعطون أوامر معاكسة. وليلة الأحد على يوم الاثنين، أخليت جميع قواطع المدينة ومعسكرات الجيش وتم الهروب الكبير للقادة والقطعات العسكرية وبأوامر جاءت من بغداد وليس من غيرها، حسب ما صرح به بعض الضباط والمراتب ومراسلو القنوات الفضائية وقفز السؤال ذاته مرة أخرى: ما الذي حدث ولماذا وكيف؟.
في حساب الحقل كانت محافظة نينوى وخلال السنوات الأربع الماضية مرتعا خصبا لمختلف التنظيمات المسلحة وكانت تهديدات تلك التنظيمات وعمليات الاغتيال والاختطاف تدر عليها أموال طائلة وتنامت وتوسعت قوتها على وقع الخلافات السياسية والاجتماعية داخل المدينة، وكانت تلك الأسباب وغيرها قد وضعت محافظة نينوى وضواحيها ومدنها وقراها في وضع هش سمح للتنظيمات المسلحة أن تنمو وتنتشر وتجد لها حواضن على سعة أرض المحافظة.
في حسابات البيدر لا تختلف الصورة عن سابقتها، حيث كان هناك صراع سياسي عسكري يدور بين التنظيمات المسلحة من جانب يساندها البعض من العشائر وجزء من أعضاء مجلس المحافظة في مواجهة الحكومة الاتحادية وقبلها قيادات الجيش العراقي في نينوى، التي دائما ما توجه لها الاتهامات من قبل بعض القوى السياسية والعشائر وأعضاء مجلس المحافظة وحتى الكثير من الأهالي،  بسوء التصرف والهمجية والاستهتار والطائفية. ولم تكن مثل تلك العلاقة السيئة والمتشنجة والنفرة المتصاعدة ببعيدة عن توجيهات وضع صفحات تصعيدها ونفذها بدراية وذكاء حزب البعث عبر خلاياه المنتشرة في المحافظة ومعهم كبار قادة جيش صدام ورؤساء عشائر.
ولم يكن هذا ليجري بعيدا عن بيع المواقع العسكرية والذمم لقادة الجيش في جميع أنحاء العراق،وتهريب وبيع الأسلحة وحتى المعدات الثقيلة. وكانت ومازالت مكاتب القيادة العامة للجيش العراقي وطرق اتصالاتها ومواصلاتها مترعة بمختلف وأنواع الاختراقات. وبيع وشراء الرتب مستمر ويجري على قدم وساق في جميع الصنوف. والحديث يطول عن الفساد في وزارتي الدفاع والداخلية في صفقات توريد السلاح والعتاد والطائرات، وليس غير الجهاز الكاذب الذي يستخدم في سيطرات التفتيش ليكون خير دليل على تلك الجرائم الكبرى التي أستشهد فيها آلاف العراقيين.
ما حدث في الموصل لم يكن مفاجئا أو غير متوقع، فالعملية برمتها بيتت في ليل. ولكنها فضحت وبحدة طبيعة العلاقة بين تلك القيادات الحالية للجيش العراقي مع تنظيمات حزب البعث وباقي التنظيمات الإرهابية المسلحة.
أذا كان هناك من أكتشف متأخرا مثل تلك الخطط المجرمة التي أطاحت بالجيش العراقي وطعنته بالصميم ووضعته في موضع سخرية من أعداء العراق، لا بل وضعت العراق وشعبه على كف عفريت، فأن هؤلاء المتذاكين من مرتزقة المالكي وحوشيته شاربي زقنبوت الحرام، يتناسون سلسلة المصائب التي فعلها القائد الأعلى المالكي وأوصل بها حال العراق وجيشه لمثل هذا الوضع المؤسي المبكي والخراب العام. فنراهم اليوم يحاولون بجهد متهافت وضع الجريمة الكبرى التي راح ضحيتها الآلاف من العراقيين في جعبة غير المالكي وشركائه من دهاقنة المهاترات السياسية لطامة العزيات، سراق الفرح من قلوب العراقيين، ويذهبون ليطالبوا برؤوس قادة الجيش الذين خانوا الأمانة وسلموا المواقع العسكرية ومدينة الموصل خلال يومين لا غير. وتراهم يبذلون اليوم  أقصى الجهود للدفاع عن المالكي ويرمون جميع الأحداث في سلة المؤامرة البعثية ويبعدون عن ربهم الأعلى المالكي أية مسؤولية فيما حدث.
 صحيح أن ما حدث هو مؤامرة، قادتها كانوا خليطا من حزب البعث وسرايا الإرهاب ولا فرق بين الجميع، والقادة من الهاربين يستحقون أقصى العقوبات على فعلتهم. ولكن من الذي مهد لكل هؤلاء كي يستولوا على الجيش، ومن هيأ لهم الساحة والظروف لأن ينفذوا مأربهم . أليس هو القائد العام للقوات المسلحة والدفاع الوطني. من جاء بكل هذا الحشد من البعثيين وجعلهم يترأسون قيادات الجيش والشرطة . من منحهم كل تلك الصلاحيات والرتب والمناصب وقدم لهم التسهيلات والمال وتغاضى عن جرائمهم في سرقة المال العام وصفقات التسليح وبيع وشراء المناصب والذمم . يا ترى كانت حسنه ملص أم عباس بيزه من يقود الجيش في الموصل، أم هو عبود قنبر ومهدي صبيح الغراوي وعلي غيدان ومحسن جري وغيرهم من القادة والضباط الذي أثقل المالكي أكتافهم بالرتب وسلطهم على رقاب الجيش والعباد وهم من كان قادة مخلصين للفاشي صدام.
 وبدورنا نسأل هؤلاء المرتزقة من حوشية المالكي حاملي الدفوف والمزامير ومشعلي البخور من الذين يبعدون عنه المسؤولية وينادون به وليا لولاية ثالثة ليكمل جريمته ويخرب ما تبقى من العراق. اسألهم أن يأتوا لنعد سويا قادة الجيش العراقي الحالي وضباطه وفي مفاصله الحيوية والمؤثرة ثم نتطارح. من أتى بكل هؤلاء ليطعنوا الوطن في الصميم وفي القلب منه في جميع أنحاء العراق، أليس هو المالكي قائد جحافل البؤس.
 فرأس من هو المطلوب للشعب العراقي اليوم ؟.قادة الجيش وجنودهم الذين هربوا من المعركة أم قائدهم الأعلى. وبذمة  من، جميع الدماء التي سالت والكرامات التي أهدرت؟. من هو المسبب الرئيسي في شتات الناس وضياعهم في البوادي والوديان وتوطينهم المخيمات. من المسؤول عن بكاء الأطفال وجوعهم وعريهم وعويل النساء وفجيعتها والموت اليومي المجاني للعراقيين . مقاول البناء هو المسؤول عن سقوط الأبنية أو مواد البناء هي المسبب أم يا ترى المهندس المشرف الذي أعتمده الناس ومنحوه ثقتهم وائتمنوا ضميره وشرفه الشخصي والمهني.
أذا كان هناك شخص يجب أن يحاسب اليوم ويقدم للمحاكم عن هذه الجريمة الكبرى التي طعنت العراق بالقلب فهو بالذات القائد العام للشرطة والجيش والمخابرات والاستخبارات جميعها أي رئيس الوزراء نوري المالكي،الذي قاد العراق لثمان سنوات من فشل إلى فشل، وهو الذي وضع البعثيين في قلب إدارة الجيش وباقي المؤسسات الحيوية للأمن القومي العراقي وابعد الشرفاء من القادة الذين كانوا شركاء في معارضة صدام وحكمه وحجر عليهم وراح يوصي باحتساب أنفاسهم وأبعادهم وتشويه تأريخهم . المالكي هو الذي أثار بطائفيته وطائفية أعوانه وحوشيته هواجس ومخاوف أهلنا من السنة وصعد من نبرة العداء بين مكونات الشعب العراقي وتعددت جراء سياساته مقاتل العراقيين في مختلف مناح الحياة. فهل تبغون ياحوشية الجوع ومرتزقة السحت الحرام من ولايته الثالثة أو حتى بقائه كسياسي في مفاصل الدولة العراقية، ليختم بأصابعه على خارطة تقسيم العراق أو تدميره.     
 

175

هل تكون القنصلية التركية مبررا لاحتلال تركي لنينوى

فرات المحسن

لم يمض سوى وقت قصير على سيطرة التنظيمات الإرهابية المسلحة على عاصمة العراق الشمالية محافظة نينوى حين توجهت تلك المجاميع لتحتل القنصلية التركية وتحتجز القنصل وباقي أفرادها البالغ عددهم 48 شخصا. لحد الآن يبدو الآمر غامضا بل تقفز أثره عدة تساؤلات عن طبيعة العملية وأسبابها وموجباتها بالنسبة للمسلحين أنفسهم قبل غيرهم. والسؤال المحير الذي يثار وتتداوله الكثير من الأنباء الواردة عن وسائل الأعلام، يبدأ من البحث عن علاقة حكومة أوردوغان بالمجاميع الإرهابية وبالذات منها داعش، فجميع الأخبار والشواهد تؤكد دون شك بأن مجاميعهم تتخذ من الجنوب التركي مقرات دائمة يتسربون منها نحو الأراضي السورية والعراقية، وهذا ولحد الآن تؤكده وقائع المعارك الجارية في مناطق سوريا وبالذات منها الشمالية، والمراقبون يشيرون يوميا لدخول العشرات من جنسيات مختلفة إلى المطارات التركية، ثم قيام أدلاء لهم علاقة بالسلطات التركية بمرافقة هؤلاء في سفرهم نحو مكامنهم قرب الحدود الجنوبية التركية وتحت أنظار ورعاية رجال المخابرات التركية. ومثل هذا الأمر يسجل ويشير بدقة لدور تركيا اردوغان في الحرب القذرة الدائرة في سوريا ومن ثم في العراق.
ولكن ما الذي دفع تلك المنظمات المسلحة والتي تغلب داعش على باقي قواها، لاستفزاز تركيا عبر احتجاز موظفي القنصلية التركية. مثل هذه الموضوعة تثير شكوك حقيقية عن طبيعة الدور التبادلي بين الحاضنة ورجالها أو المرتزق وعرابه ومموله.وما نوع المهمة التي كلفت بها داعش من قبل تركيا اردوغان، مما دفع السلطات التركية وكأنها لسعت من أفعى، لرفع الأصوات والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، والطلب باجتماع عاجل لحلف الناتو لتدارك الموضوعة. ولكن الضجيج التركي بات لا يخلوا من تهديد مبطن للعراق ويحمل السلطات العراقية مسؤولية الحفاظ على حياة موظفي القنصلية،رغم أن التصريح  يلمح لمقاتلة رجال داعش ولكن ما بين سطوره يذهب لأبعد من ذلك، حين ترنو أعين الجار التركي لولاية الموصل بكل ما تحمله من أرث وجرح تاريخي للدولة التركية. فهل كان سقوط محافظة نينوى بيد داعش وباقي المنظمات المسلحة أمرا مبيتا ليكون  مبررا لاحتلال الموصل من قبل الدولة التركية أم هناك ما يحمل طبيعة لمؤامرة إقليمية يشترك فيها محيط العراق ومنه تركيا، أم هي جزء من مشروع يعطي مقدمة لتقسيم العراق حسب خطة بايدن لم تكن قيادة الجيش العراقي غير جزء فاعل فيها. كل شيء حاضر وجائز في هذا اليم المتضارب والعميق.
 

176
المنبر الحر / لا خيار غير الوطن
« في: 22:37 10/06/2014  »
لا خيار غير الوطن

فرات المحسن

يتحدث الشاعر العظيم بابلو نيرودا عن حضوره نهاية العشرينات من القرن الماضي مؤتمرا لعموم الهند  أفتتحه المهاتما غاندي فيصف الشاعر نيرودا نموذج المناضل غاندي، وجه ناعم لثعلب ذكي جدا ورجل عملي ومعلم ماهر وعالم خبير بالتكتيكات والمراوغة، وكانت الجماهير عند حضوره مثل تيار جارف لا ينتهي، تلمس بشكل طقوسي ديني، طرف بردته البيضاء وتصرخ باسمه.أما عن الشاب جواهر لال نهرو فيصفه بالأستاذ الذكي للثورة الهندية.
ولكن ما أثار فضول ودهشة وإعجاب الشاعر بابلو نيرودا هو ( سوبحاس شاندرا بوسه ــ  Subhas Chandre  Bose  ) الذي حضر المؤتمر أيضا فيقول عنه نيرودا، بأنه العنيف المندفع ، عدو الامبريالية، الشخصية السياسية الساحرة لأبناء وطنه.
كان العنيف المندفع سوبحاس  شاندرا قد أنظم في حرب عام 1914 إلى اليابانيين الذين غزو بلاده ، من أجل مقاومة الإمبراطورية البريطانية التي غزت الهند أيضا،وقد حكي أحد رفاقه للشاعر نيرودا كيف أعتقل سوبحاس شاندرا من قبل الانكليز وحوكم وأدين بالموت من قبل المحاكم البريطانية، حيث عد مجرما كونه أقترف الخيانة العظمى، ولكن بعد معركة قانونية توصل محاميه جواهر لال نهرو  إلى الحصول على العفو عنه وعندها استحال شاندرا إلى بطل شعبي.
أثناء محاكمته قال سوبحاس شاندرا بوسه بانه وجماعته كانوا يوجهون بنادقهم إلى المحتل الياباني المحاصر وقتذاك، ولكنه بدا بالتساؤل لماذا، ونحن عند احتمالين؟ فأمرنا جنودنا إلى الوراء در، وصوبنا بنادقنا ضد القوات البريطانية الغازية.. القضية بالنسبة لنا كانت واضحة. كان اليابانيون غزاة عابرين ، بينما الانجليز كانوا قد قدموا ليكونوا غزاة خالدين .
مثل هذا التفكير الحاد الذكي الوطني دائما ما يرافق مفاصل مهمة في حياة الشعوب، ونجد له الأثر الفاعل في مفارق دروب النضال الدائم للشعوب الساعية نحو حرياتها وكرامتها حين تقف عند خط فاصل بين ما هو خاطئ وما هو صحيح، بين خيار الوطن المعافى ومصلحة الشعب وإنسانيته وكرامته وفي مواجهة احتمال ضياع الوطن ووضعه في قلب العاصفة ودفع أبنائه لموت عشوائي.
 مثل تلك الخيارات تحتاج ليس فقط لصبر وأناة وحكمة بقدر ما تحتاج لأناس بواسل يترفعون عن الصغائر ويضعون حياة شعوبهم في كفة الميزان العليا بعيدا عن المزايدات الرخيصة والعواطف المنفلتة. أناس يدركون قيمة الحياة بكافة تجلياتها. قيمة الوطن الذي يتسامى بجراحه لأجل أبناءه. الوطن يحتاج أناس يتلمسون وجع شعبهم . يختبرون في جروح وأنين الشوارع والبيوت والحارات المنكوبة وطنيتهم وضمائرهم، عندها يتوقفون ليبصروا طريق الحقيقة الذي يدلهم على وجع وطن بسعة الرعب الذي يحيق به ولكنه يبقى أكبر من الجميع حتى وهو يعرض للعالم بمهابة أوجاعه.



177
الترشح لرئاسة الوزراء بين هواة السياسة ورجال التكنوقراط

فرات المحسن
 
أغلب ما يأتي من أخبار عن العراق يحتاج لغربلة وتدقيق بحثا عن حقيقة، فقد بات الشارع العراقي وبالذات السياسي منه ملعبا واسعا لمختلف أنواع الإشاعات، وأصبح العراق بمصائبه وعديد نكباته مادة دسمه للأعلام، ولكن وفي الغالب لا يمكن الركون لليقين فيما يأتي منها، وأختلط الحابل بالنابل في نقل وتحليل الأخبار ،لذا تتقدم الشكوك والريبة عند أي خبر يرد أو يطرح في وسائل الإعلام. وواحدة من تلك المساوئ تضارب التصريحات حتى بين أوساط مجموعة أو طرف سياسي واحد معنية بالحدث.

تصريح صدر عن التيار الصدري وكتلة الأحرار يقول : إن مجلس أمناء كتلة الأحرار أتفق على أن يكون السيد محافظ ميسان السيد علي دواي مرشح لرئاسة الوزارة العراقية كبديل للسيد المالكي داخل التحالف الوطني. وقد أحدث هذا الترشيح سجالا بين السيدة حنان الفتلاوي الناطقة بلسان رئيس الوزراء والسيد علي دواي، انتهى بتصفية المتعلقات بالاعتذار والتراضي.

وعلى ذات المنوال هناك أخبار عديدة عن ترشيح الأحزاب والقوائم السياسية للبعض من قيادييها لرئاسة وزراء العراق. ولكن لحد الآن فالجميع بانتظار التحالفات القادمة وطبيعة التشكيلة السياسية التي تقود المرحلة بعد أن إسدال الستار على سابقتها وظهرت نتائج الانتخابات التي أفرزت ما يدفع العملية السياسية إلى التباس شائك يتأرجح بين كتلة أغلبية أم إعادة لطبيعة الشراكة المحاصصية.

ليس من الصعب تقييم منجز السيد دواي وغيره من إداري السلطة في جميع المحافظات ومثلها باقي مؤسسات الدولة، فالشواهد على أرض الواقع تفصح عن حقيقة الأمور لا بل تفضح الكثير من العورات والقصور. وفي حالة السيد دواي ومع احترامي لشخصه وما قدمه وأنجزه من خدمات لأهالي العمارة،  فأن حدود قائمقامية العمارة لا يمكن للمرء مقارنتها بحدود مدينة بغداد فكيف الحال أذا أريد المقارنة مع مجموع استحقاق خدمات جميع محافظات العراق ولنا خير مثال في تجربة من تولى سابقا وحاليا رئاسة وعضوية مجلس محافظة بغداد التي أصبح معهم حال العاصمة يدمي القلب.

 أيضا فإدارة الدولة العراقية لن ولا يمكن اختصارها بالخدمات والأعمار فهناك مستحقات بأحجام كبيرة لن يكون للسيد دواي  وأمثاله من القادة خريجي الأحزاب السياسية والكتاتيب الدينية احتواء حتى البعض منها دون أن يتصدى لها طاقم إداري كفؤ ومهني ومتجانس. وتلك العلة مع قلة الخبرة وضعف الدراية والمهنية وفروض المحاصصة الحزبية واختلاط السياسي بالديني بالمهني، كانت دائما من الأسباب الرئيسية في أمراض وفشل حكومة السيد المالكي رغم عمرها الذي أمتد لثمان سنوات، والذي تكررت فيها ذات المشاهد التي مورست في عهد الطاغية صدام حسين، حين استوزر الجهلة والأميين من الحزبيين ورعاع القوم من مثل عزة الدوري وطه الجزراوي وعلي حسن المجيد وحسين كامل وحمزة الزبيدي وغيرهم لإدارة  الدولة وليقودوا الآمة العراقية من فشل إلى فشل ومن خراب إلى خراب على وقع شعارات عملك شرفك ومن لا يعمل لا شرف له... والرجل المناسب في المكان المناسب وغيرها من فنتازيا المضحك المفزع المبكي.

أعتقد أن العراق وشعبه بحاجة لشخصيات علمية ومهنية (  تكنوقراط  ) لا علاقة لها بتأريخ يتوكأ على نضال حزبي ووشائج شخصية وعشائرية ودينية وضجيج أعلامي وصراع دعائي تتغلب فيه شيم وقيم البداوة والعصبية الطائفية. وشعب العراق يستحق وينتظر من مختلف قواه السياسية ونخبه الواعية إن كانت تحمل حقيقة حرصا وطنيا، أن تضعه واحتياجاته في مقدمة مشاريعها لتنجز له خير ما يستحق من خدمات، وأن تقدم له خيرة نسائها ورجالها من أصحاب الخبرة والدراية لأجل التصدي بقدرات ووعي ومهنية لما يواجهه من تحديات كبرى في مقدمتها أعادة الثقة بين أبناءه من طوائف وأثنيات، وقبلها بين قواه السياسية، والوقوف بحزم وحكمة لمواجهة ما يتعرض له من مخاطر بسبب الإرهاب والمشاريع الإقليمية والدولية الساعية لإفشال تجربته في إعادة بناء الدولة على وفق الهوية الوطنية وسلطة القانون الضامنة لحقوق الإنسان والحافظة للحريات المدنية .  وأجزم بأن طوائف وشرائح واثنيات العراق، تحوي الكثير من الشخصيات ذات الخبرة من المخلصين والجديرين بالثقة، يستطيعون أن يقدموا لإدارة مؤسسات الدولة جل معارفهم وخبراتهم، ولن يتم هذا دون أن يتخلى ( السياسيون ) عن الضجيج الإعلامي والنفس الحزبي القصير والابتعاد عن العواطف الشعبوية الطائفية التحريضية والمناكفات الإعلامية والأحقاد والمصالح الحزبية والشخصية، ولن يتم هذا أبدا دون أن يضعوا العراق والهوية الوطنية في مقدمة مشاريعهم وفي أولوية مناهجهم الفكرية والعملية . 

178
الطائفة تغلب الاعتراض على التزوير أم العكس

فرات المحسن

في مؤتمر صحفي بعيد إعلان نتائج الانتخابات بين السيد المالكي بوضوح شديد ونبرة واثقة بأن التحالف الوطني هو من سيشكل الحكومة، والمكون الأكبر داخل التحالف هو من سيرشح رئيس الوزراء القادم، وطلب من باقي الكتل الفائزة اختيار وضع المعارضة لتكون مراقبا لعمل حكومة الأغلبية، لتساهم عن طريق المعارضة البناءة في بناء الدولة العراقية.مثل هذا التصريح شديد الوضوح لا يقبل التأويل والمخاتلة السياسية التي درجت بعض القوى على اختياره كطريق للمساومات واللعب على حبال الخصومة أو التراضي مثلما كان يفعله السيد المالكي في دورتين وزاريتين سابقتين.
في جانب أخر من الأخبار عرضت كتلة الأحرار الممثلة للتيار الصدري ومن خلال أبرز قادتها وهو السيد أمير الكناني وثائق عن تلاعب  بالأصوات الانتخابية سببت مضاعفة بالأرقام ومنحت قوة تصويتية لدولة القانون ورئيسها السيد المالكي وحصل من جرائها على 15 مقعدا دون استحقاقه، وبالذات في مناطق حزام بغداد ومحطات التصويت الخاصة بموظفي مفوضية الانتخابات. وعد الكناني مثل هذا الأمر سرقة واضحة ومعيبة جدا، وتغييرا وطعنا بإرادة الناخب، وقال أن ما فعلته دولة القانون من تزوير لا يمكن السكوت عنه ويجب إجراء تحقيق في الأمر. وأشار لامتلاك تياره وثائق دامغة عن انتهاكات وخروق شابت العملية الانتخابية متهما المالكي باستغلال المال السياسي والترهيب والترغيب في التأثير على خيارات الناخبين.
بدوره فأن ائتلاف المواطن الممثل لقائمة السيد عمار الحكيم وفي مؤتمر حضرة العديد من قادة الائتلاف ومنهم السيد أحمد الجلبي، فقد قال المتحدث باسم الائتلاف السيد بليغ أبو كلل بأن دولة القانون بقيادة السيد المالكي قد تلاعبت بنتائج الانتخابات وقد تم العثور على أوراق اقتراع مرمية في الشارع جميعها تشير للتصويت لائتلاف المواطن، ولم تتخذ المفوضية أية إجراء بصدد ذلك. وبين بان ائتلافه قد رصد ما سماه استخدام المال العام والسلطة في الدعاية الانتخابية لصالح قائمة السيد المالكي.
لحد هذه الساعة فأن الأمور تبدو ملتبسة حول مسألة تشكيل حكومة أغلبية، والمشهد السياسي بكامل تجلياته يذهب بعيدا عن خيار السيد نوري المالكي الداعي لمثل هذه الحكومة، فكتلتي الأحرار والمواطن تنأيان بتشكيلاتهما عن خيار حكومة الأغلبية وترجحان الخيار الآخر الممثل بحكومة شراكة وتحالف وطني. وفي الطرف الآخر فطبيعة التحالفات للقوائم الفائزة في المناطق السنية والكردية ومثلهما بغداد، تشير الأنباء لوجود ممانعة كبيرة لا بل خيار حسم في عدم المشاركة بحكومة يكون المالكي رئيسا لها. وهناك تفضيل من قبل الجميع لحكومة الشراكة وعودة لمربع المحاصصة في تقاسم سلطتي المال والقوة.
وفي حسابات الأرقام للقوائم التي فازت فالأخبار سربت عن حصول التحالف الوطني أي الشيعي على ما مجموعه 173 مقعدا في البرلمان القادم، وبهذا الرقم يكون التحالف هو الكتلة الأكبر التي يحق لها تشكيل الحكومة وبشكل مريح جدا.والرقم المعلن يأتي من حساب مقاعد ائتلاف دولة القانون ومقاعد الفضيلة والإصلاح وكتلة صادقون وهم حلفاء المالكي دون ريب، على أن ينضم لهذا التجمع قوائم التيار الصدري الثلاث وائتلاف المواطن.
دائما ما عبرت كتلتي الأحرار والمواطن عن توجهاتهم الصريحة بعدم الموافقة على حصول السيد المالكي على ولاية ثالثة لرئاسة الوزراء، وكان موقف التيار الصدري الأكثر تشددا في هذا الأمر، وكانت جل تصريحات قادته وعلى رأسهم السيد مقتدى الصدر تشير لا بل تؤكد على ممانعة قوية في حصول السيد المالكي على ولاية ثالثة.
في المشهد السياسي العراقي لا يمكن التكهن بالحدث بحيثياته العامة والخاصة فهناك العديد من العوامل الدولية والإقليمية ومثلها الداخلية، تجعله عرضة للتغيير بين ليلة وضحاها، فالمصالح الشخصية ومثلها الطائفية والقومية والوجاهات والعشائرية والمناطقية لها الباع الأعظم في تغيير أدوات اللعبة وألوان المشاهد وبالذات السياسي منها. فمنذ سقوط فاشية حزب البعث ولحد اليوم لم نلمس برامج واستراتيجيات مقنعة وحيوية لدى مجمل الكتل السياسية وقادتها وحتى أعضائها، ولم يظهروا ما يشجع  على مسك يقين بامتلاكهم فكرا سياسيا راسخا حكيما وعقلانية في الخيار يمكن الاعتداد بها والارتكان أليها ومن ثم التبصر بمصائر وطن تتقاذفه أجندات خارجية ومصالح ذاتية . فالجميع كانوا مشاركين في السلطة وفي الوقت ذاته تتقاذفهم الأهواء ويقومون بدورين في مسرحية السلطة، دور المشارك وعند الحاجة دور المعارض. وفي جميع تلك الأدوار كانوا بعيدين جدا عن خيار الهوية الوطنية العراقية ومصلحة المواطن العراقي. ولذا فمن الصعب التكهن بنتائج التحالفات القادمة ولا يمكن التعويل على تصريحات وتسريبات صحفية تأتي من هنا وهناك، فربما تكون في أغلبها ذر رماد في العيون مثلما يقال أو زوابع في فناجين، وحين يصبح الجد جدا وتفرض أجندات لا تعنيها حسابات البيدر أو الحقل، سيكون هناك الكثير مما يخشاه العراقي حين تتصاعد لهجة التحديات والمناكفات لتكون الطائفة خيارا لا يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عندها تفصح حسابات الأرقام عن الخيار الحقيقي لتلك الكتل وعندها نجدها تذهب طواعية لخيار الطائفة بعيدا عن كل الضجيج الذي أثير ويثار . وعلى ذات المنوال من التداعيات والإرباك في المشهد السياسي،  يثار السؤال الأكثر حيوية عن موقف السيد المالكي من الضغوطات التي توجه له وتجعله بين قطبي رحى، وهي موقف الطرف الإيراني وخياراته لمستقبل حكومة الطائفة الشيعية، ومثله موقف الولايات المتحدة التي مازالت تشكل عامل حسم ظاهر ومركب في تركيبة اللوحة السياسية العراقية.



179
هل تختفي هذه المساوئ بعد انتخابات عام 2014

فرات المحسن
في الأدبيات السياسية تصنف بعض الدول حسب استراتيجيات خططها للسير بحياة شعوبها، وما تقدمه من خدمات، وما يكسبه البشر من منافع جراء تلك الخطط. منذ عملية الإطاحة بالدكتاتورية البعثية في العراق ولحد اليوم درجت معاهد البحوث على توصيف دولة العراق بالدولة الفاشلة، وقدمت في هذا التوصيف الكثير من الدراسات والشروح عن الكيفية التي جعلتها توسم العراق بمثل هذه الصفة. ومن الجائز القول أن مثل هذا التوصيف يحمل شيء من التجميل، حين يشير للعراق بصفة دولة، رغم اختفاء ما يشي بوجود مؤسسات وهياكل رصينة توحي أو تؤشر لوجود مثل هكذا صفة . فانهيار الدولة العراقية إثر الاحتلال الأمريكي لم يجد ما ينفع من سياسات وبرامج لإصلاح مثل هذا الخلل الفادح والكبير.
 ورغم ما بدر من السياسيين العراقيين من ردود فعل غاضبة واستنكار للتوصيف أعلاه، نجد أن أكثر من عشرة أعوام لم تستطع سياسات السلطة وأحزابها الحاكمة مجتمعة من أخراج العراق بعيدا عن وضعه في أسفل قائمة الدول الفاشلة. فالتخبط الاقتصادي والسياسي بقي السمة الغالبة لخطط السلطة، أو الأحرى السلطات العراقية المتعددة. وشكل هدر المال العام وسرقته وسوء الإدارة وفشل استراتيجيات التنمية والبناء الملامح الأكثر قتامه في المشهد العام.
مع ظهور المافيات السياسية وسيطرتها على الكثير من مفاصل الحياة الاقتصادية ، بقيت السلطة التنفيذية ممثلة بشخص السيد المالكي، الذي استحوذ على مصادر القرار في العديد من دوائر الدولة وبالذات منها أجهزة وزارتي الداخلية والدفاع ومعهما الأمن الوطني، دون أي معالجات يعتد بها. وما برحت الحرب ضد الإرهاب الذريعة المنتقاة وفي مقدمة التبريرات الجاهزة لمسببات الإخفاق.
في الغالب فأن الفشل العام لا يمكن اجتزاؤه عند نقطة سوء وأخطاء الخطط الأمنية والاقتصادية الموضوعة والمعدة لإدارة الدولة،  بقدر ما يخضع للكثير من الاشتراطات التي توسم الحراك السياسي للقوى السياسية التي تدير مفاصل السلطة بالفشل وانعدام المهنية والتخصص، وسوء السلوك والتخلف والنفاق والطفولية والذرائعية والتهرب من المسؤولية. فالصراع على تقاسم المغانم دائما ما ترافق وسباق مميت لغرض الطعن بقدرات الأخر ومحاولات إفشال وتخريب خططه ونواياه وطموحه، رغم إدعاءات الشراكة والحرص على الوحدة الوطنية. ومثل هذان الملمحان طبيعة الخراب العام الذي أجتاح مفاصل السلطة وغيب بالكامل هيكل الدولة التي هي مخربة في أساس تركيبتها وهياكلها منذ بدأ سيطرة الدكتاتور صدام حسين على السلطة.
دون استثناء جميع القوى السياسية التي شاركت في الحكومة مارست عمليات تخريب الوطن سعيا للحصول على مغانم حزبية وشخصية. فإن كان السيد المالكي سعى دائما للاستئثار بحصة الأسد من مصادر الثروة والقوة فأن حلفاءه وكذلك الخصوم الذين شاطروه إدارة السلطة كانوا ومازالوا لا يقلون عنه جشعا وإيذاء للعراق، لا بل وفي العديد من المفاصل المهمة من شؤون الحياة كانوا ساعين للتخريب أكثر من المالكي ومجموعته.
 لأجل خلق جو من الشراكة بين القوى السياسية أبتدع دون ضوابط مهنية ما سمي بمبدأ المحاصصة وأريد فيه تثبيت حقوق جميع الأطراف السياسية عبر تقاسم الثروة العراقية ومراكز إدارة الدولة، وقد قدمت الأحزاب لإدارة الوزرات والتسلسلات الإدارية فيها، شخصيات لم تكن مؤهلة تعليميا ومهنيا لإدارة شؤون تلك المؤسسات، ومنذ البداية لم تكن تلك الشخصيات مؤهلة لإعادة هيكلة الوزارات وإعادة بناء دولة العراق بعد سقوطها على يد الاحتلال الأمريكي. وتوافق الجميع على التقسيم والشراكة مع الإفراط بالتذمر والشكوى منذ لحظة الإعلان عن التشكيل، وكانت الشكوى والتذمر في حقيقتهما استباقا لنوايا مضمرة للجم الشريك الأخر وإحراجه كي لا يتجاوز الحدود والمنافع التي نالها .
 لم يكن السيد المالكي وحزبه يمتلك من الوزارات غير الرئاسة وأثنين أو ثلاث، ولكنه أعتمد على شركاء من كتل حليفة تمتلك وزارات سيادية مثل السيد حسين الشهرستاني وهادي العامري وحسن الشمري،  ومع مضي الوقت أستطاع وضع اليد على وزارتي الدفاع والداخلية ليكون القوة الضاربة التي ترعب الشركاء قبل الأعداء. ولم يتوقف عند تلك الحدود بل راح يمد أذرعه لتحتوي مجلس القضاء الأعلى ولجنة النزاهة والبنك العراقي وهيئة المسائلة والعدالة، وأبتدع مجلس للعشائر والإسناد ثم وضع تنظيمات الصحوات بإمرة مريديه لتكتمل مصادر تفوقه على الشركاء . وبالمقابل فأن الشركاء (الخصوم) في باقي الوزارات ودوائرها اختلقوا معادلة ترضي النفس وتطمئن الطموح لتبعدهم عن سطوة رئيس وزرائهم، فقد سعى هؤلاء للاستحواذ على مصادر قوة وثروة وزاراتهم ليبقيهم هذا الحال كأنداد لباقي الأخوة الأعداء لتصبح الوزارات قطاع خاص أو شركات عائلية وحزبية للوزير وحزبه أو عشيرته وأتباعه لينتفعوا بما تدر عليهم  ميزانية الدولة من تخصيصات، ودوائر الوزارة من ريع المقاولات وبيع وشراء الذمم. وظهرت جميع الوزارات ومؤسساتها دون استثناء بعيدة كل البعد عن الاهتمامات اليومية للمواطنين، وليس في وارد خططها ضمان توفير الحاجات الأساسية للحياة ومن ضمنها الحريات المدنية والبيئة الصحية والغذاء والسكن والتعليم والكهرباء والماء الصافي والصحة وغيرها الكثير، وأصبح المواطن يشعر بأن أغلب ما تفعله الوزارات وبالذات الخدمية منها لم يعد معني بتحسين معيشتهم ولا يوجد لدى الوزارات معايير ثابتة لممارسة وحل المشاكل المألوفة للشعب.
 وبناءا على تلك الصورة المشوهة من التركيبة السلطوية وأدائها غير المتزن وعدم تنظيمها وربكتها فقد فقدت بالكامل الثقة الشعبية بها،  وما عاد المواطن يثق بقدرتها على إدارة الدولة وعلاج ما خلفته فترة حكم الدكتاتور صدام ومن ثم الاحتلال وما تبعه من خراب عام.

البرلمان العراقي

أن كانت السلطة التنفيذية قد وقعت في كومة الجنايات والأخطاء التي سببت مجمل هذا الخراب والخيبات فأن السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان العراقي كانت عاملا مهما في ديمومة واستشراء تلك المآسي والنكبات وشاركت بقوة في إفشال مشروع بناء دولة المؤسسات والقانون. فهناك خطوط واضحة وغير قابلة للمساومة لتحمل المسؤولية القانونية في التشريع. ولذا يقع على عاتق هذه المؤسسة الثقل الأكبر في تحمل المسؤولية للحفاظ على نظام ثابت ومتوازن للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. فالمجلس التشريعي أي البرلمان هو السلطة المفوضة للحفاظ على تراتيبية العملية السياسية باختيار التشريعات التي تمثل التيارات الرئيسية للرأي العام، ووضع القوانين التي تضبط الأداء الفعال والمناسب للخدمات العامة، عبر إخضاع جميع أعمال وخطط السلطة التنفيذية للمراقبة التشريعية من خلال مقاربتها للدستور المقر، وعبر معايير وأسس لتشريعات تصب في مجمل محاورها  لصالح المواطن العراقي.
أن العلاقة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية خلال الدورتين الدستوريتين، يمكن لها أن تؤشر الكثير للامساك بالمشهد العام وتفسير الخلل الحاصل في العملية السياسية بنموذجها الحالي، ولذا يطرح السؤال الأتي:  هل كان البرلمان العراقي بمستوى تلك المسؤوليات؟.  الإجابة على هذا السؤال تحتاج لمجموعة ليست بالقليلة من الوقائع التي تمكن المرء تقييم العلاقة ومن ثم وضع توصيف كامل لما حدث من إشكالات بين السلطتين. وأختصر لأقول أن واقع المحاصصة قيد بالكامل عمل المؤسستين وفرض عليهما العمل بمنظومة سداها ولحمتها وغايتها ووسيلتها عدم الثقة ثم النفرة والخصومة والمنافع الحزبية والشخصية وهذا مجمل العلاقة بين السلطتين وداخلهما.
دائما ما يتذرع البرلمان العراقي بتدخل السلطة التنفيذية بأعماله ومحاولة الضغط عليه لإيقاف أو إلغاء محاولات سن نوع من أنواع التشريعات التي تتعارض أو تقيد خطط السلطة التنفيذية أو الأحرى سلطة السيد رئيس الوزراء، ومثل هذا القول يحمل من الصحة الكثير مثلما يمكن نفيه لو تسنى للمرء الإطلاع على حيثيات يومية يعيشها البرلمان وأعضائه وأحجام الكتل. فالبرلمان العراقي ومنذ الدورة الأولى توزع وفق أسلوب المحاصصة على ثلاث كتل كبيرة، سميت كتل الأقوياء، ضاع بينها الصوت المستقل، الذي بقي خافتا خجولا لا يتمكن من وضع لمساته في أي تشريع كان. ثم حدث ما كان متوقعا، حين انشطرت تلك القوائم لأسباب حزبية وشخصية مبتعدة كليا عن أولويات التشريع الخاص بمصلحة ممثليها وعموم الشعب، متخذة جانب المصالح الجهوية بعيدا عن النزاهة والعودة إلى مصادر الدستور والنصوص القانونية. وعلى وفق هذا التوجه الحزبي الضيق أختصر مجموع البرلمان برؤساء الكتل، وهم وحدهم من يحدد كيفية علاج المشاكل وأولوياتها ومدى توفر المنافع الحزبية والطائفية لهذه الكتلة أو تلك وما على باقي الأعضاء غير الطاعة العمياء لتنفيذ تلك الرغبات. عند هذا المشهد أختزل عمل البرلمان ليتحول لصراع أضداد ومناكفات ولي أذرع . وانعكست على أداء البرلمان الصورة المشوهة للعمل الحزبي الداخلي الذي في غالبيته يفتقد حرية التعبير ويتمتع بالمركزية الصارمة التي تضيق الخناق على العضو وتمنعه من أن يكون له صوتا مفردا، لا بل اجبر عضو البرلمان ومنع من أن يصنع رؤيته الذاتية للحدث. ولذا فقد القدرة على أن يكون فعالا في النظام التشريعي.
 ورغم صفة الشراكة المزعومة التي أطلقت على تشكيلة السلطة التنفيذية فان مثل تلك الصورة نجدها تختفي بالكامل داخل أروقة البرلمان ليحيلها التخندق الطائفي والقومي إلى نزاعات تعدم بسببها المبادرات والترتيبات التشريعية الخاصة بمعالجة المشاكل المتراكمة، والتي تم تحديدها كأوليات من ضمن اهتمامات الشعب ومطالباته. وتختفي في أروقة البرلمان الكثير من الترتيبات والإجراءات المهمة والضرورية لحل النزاعات وبناء الثقة بين أبناء الشعب العراقي. كذلك تختفي في أدراجه نتائج كثيرة دبجتها لجان تحقيق في حوادث كان من الممكن للبرلمان أن يعرضها بشفافية وصدق للجمهور الذي صنع البرلمان.واختفت بالكامل قدرة البرلمان على نقد السلطة التنفيذية ومحاسبتها وفق الصيغ الدستورية التي منحت له، لا بل لم تكن للبرلمان سلطة حتى على  أصحاب المناصب الرسمية ومحاولة إخضاعهم لإجراءات المسائلة وحكم القانون حين تقع الخروقات والجنايات الكبرى. وتمحورت معارك الكتل وبالذات رؤسائها حول كيفية منع وإفشال خطط الأخر ولجمه ، لتكون نتائج هذا الصراع في نهاية المطاف وبالا على الشعب العراقي.
أذا أستمر الحال بعيد الانتخابات الحالية على ذات الآليات المشوهة في العلاقات بين القوى السياسية، وأعيدت ذات الهياكل التراتيبية في عمل السلطة التشريعية والتنفيذية، فأن ما ينتظر العراق لهو أسوء مما عليه الحال الآن، وسوف تستفحل صورة الخراب دون أن توجد حلول حقيقية ومنطقية. ورغم ظني الذي أرجو أن يكون خاطئا، فان الانتخابات الحالية لن تظهر تغيرا حاسما يمكن له إنقاذ العراق وشعبه، وأبعاده عن أسفل قائمة الدول الفاشلة.   

180
المنبر الحر / سوريا إلى أين
« في: 21:15 29/03/2014  »
سوريا إلى أين
فرات المحسن
لإبعاد بشار الأسد عن السلطة في سوريا،  استعارت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون قطر والسعودية وتركيا تجاربهم في صناعة قوى الإرهاب التي خاضت حرب العصابات التي دارت رحاها في أفغانستان وخرج إثرها الجيش السوفيتي منكسرا . ففي السعي للإطاحة بنظام الأسد حلت تركيا  بديلا عن باكستان ليكون دورها حيويا في توفير الأرض والمنافذ الحدودية لتدريب ودخول الجهاديين إلى سوريا، وبدورها تسابقت قطر والسعودية لوضع الخطط والإمكانيات المادية والمعنوية لتهيئة السلاح ونقل الجهاديين وتحريك وسائل الأعلام والأفراد على الأرض لخوض حرب العصابات مستغلة مع الحليف الأمريكي التظاهرات الكبيرة التي خرجت مطالبة بالحريات المدنية  والديمقراطية وواجهتها قوات الأمن السورية بقوة النار والحديد.
 بالرغم من مشاركة سوريا في الحلف الذي شكل عام  1990 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لغرض تحرير الكويت من غزو الرئيس العراقي صدام حسين، فأن ذلك لم يكن غير مرحلة عابرة في سياسة أمريكا، ولم يشكل معلما يمكن من خلاله تبرئة سوريا  من التهم العالقة برقبتها،وكذلك لم يشفع لها لتبرئة النفس من تهمة تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وقبل كل ذلك عداؤها المستحكم لجارتها إسرائيل ورعايتها لبعض منظمات المقاومة. ولم تكن سوريا الرئيس  بشار الأسد لتعني شيئا مؤثرا في وضع المصالح الرأسمالية وبالذات الأمريكية والصهيونية لولا مجاورتها لدولة إسرائيل وطبيعة علاقتها  مع حزب الله والجمهورية الإسلامية الإيرانية، تلك العلاقة التي رسخت عبر مسارات مد وجزر شابت الصراعات السياسية والعسكرية في المنطقة .
في قياسات القوة العسكرية كانت التقديرات تشير لهشاشة وضعف قوى نظام الرئيس بشار الأسد وجميع التوقعات تصب  لصالح  المعارضة في حالة بدأ التصعيد في طبيعة التظاهرات، وبالذات في حالة دفعها  لتبني خيار المقاومة المسلحة، ومن ثم العمل على أحداث شرخ داخل تشكيلات الجيش السوري وقوى الأمن. كانت خطة طموحة وواعدة لمن أعدها وتبناها معتقدا أمكانية تعديل الكثير من الوقائع على الأرض، وهذا ما حدث في زخم مساراتها الأولى عبر تظاهرات سلمية ثم تحول نحو تسليح شعبي تم أثره تشكيل ما سمي بالجيش السوري الحر في دهاليز أنقرا وعينتاب على الحدود التركية والذي اشتهر في بداية الصراع المسلح  على أن قادته وتشكيلاته هم رجال وكتائب انشقت عن عسكر النظام وهم قادة التغيير القادم لا محالة.
بالرغم من  المبالغ الهائلة التي ضخت  والخطط العسكرية والأسلحة التي انهالت على المناهضين لحكم الرئيس بشار الأسد وبعد مضي الثلاثة أعوام من المعارك الدامية التي راح ضحيتها الآلاف من السوريين ودمرت البنى التحتية للعديد من المدن، فأننا اليوم نجد أن كل ذلك لم يسفر عن حسم يعطي مصداقية للتمنيات التي سبغت تصريحات خصوم الرئيس بشار وسبقت تسليح المناوئين ودفعتهم لخوض حرب العصابات التي جعلت الكثير من المحللين يتنبأ  بسقوط النظام خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر في أكثر الاحتمالات والتقديرات سوءا.
 مع مضي الوقت الذي طال كثيرا ظهرت  تحولات دراماتيكية على ارض الواقع يبدو معها وكأن النظام أخذ بالتعافي وقد أمتص واستوعب الصدمة رغم حجمها الكارثي وبادر بالتحرك هجوما. فلحد الآن لم تطال بنية الجيش السوري النظامي  تغييرات مهمة وفاعلة، وظهر وكأنه يستعيد قوته وباشر في استرداد الكثير من المواقع التي كانت بحوزة المعارضة، وهناك عمليات مستمرة تقضم الأرض والرجال وتحرج الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وتضعهم في مواقف متناقضة ومتضاربة فيها الكثير من التشويش والتخبط ،ومما زاد المشهد إرباكا الصراع السعودي القطري حول أسبقية السيطرة على فصائل المقاومة والتأثير على تدخل وإرباك عمل الأخر.  وهناك الفوضى الكبيرة التي اجتاحت جميع الفصائل والقوى المناهضة للنظام إثر تنوع وتطرف الأفكار واختلاف الرؤى ودخولها في صراعات على موارد  تهريب النفط والسلع والإتاوات التي تفرض على سكان المناطق بحجج مثل الجزية ونصرة الإسلام. وهذا المشهد ورغم الدمار الكبير فأنه يصب في صالح النظام ويفصح عن طبيعة انهيار بعض الفصائل أمام قوة ووحشية  وجنون بعضها البعض وبالذات ما سمي بدولة العراق والشام الإسلامية { داعش } الذي ترافق صعود نجمها مع انهيار وانحسار أهمية الجيش السوري الحر وتماهي بعض فصائله مع جبهة النصرة والجبهة الإسلامية وأيضا  مع فصائل داعش.
 شكل الصراع بين فصائل المعارضة وضبابية المواقف وإزاحة قوى الإرهاب لبعضها البعض وفقدان السيطرة عليها من قبل عرابيها ، شكل أزمة حقيقية للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها وحتى الأمم المتحدة التي وصف مفوضها لشؤون اللاجئين أنتونيو غوتيريس الصراع في سوريا بأنه بات يشكل أخطر أزمة تهدد الأمن العالمي منذ قرابة سبعة عقود ومن الموجب على المجتمع الدولي الوقوف بحزم لإيقاف القتال والبدء بإجراءات تضمن السلام والأمن للشعب السوري. وبدا الحدث وكأن التأريخ يعيد تكرار مشاهده في بداية أزمة أفغانستان حين ظهرت طالبان كقوة عسكرية مؤلفة من طلاب المدارس الدينية في الباكستان لتبدأ مسيرتها نحو أفغانستان وتكتسح في طريقها باقي المنظمات والقوى التي شكلت عصب حرب التحرير ضد الاحتلال السوفيتي. وبعد أن توطدت سلطة طالبان على أغلب مناطق أفغانستان بات من الطبيعي أن تلتقي فكرا ومنهجا وسلوكا بتنظيم القاعدة المؤلف بغالبيته من الجهاديين العرب والأجانب. وأضفى  التحالف بين منظمتي طالبان والقاعدة نوعا جديدا من المفاهيم والاستراتيجيات فرض تحولات دراماتيكية على قواعد اللعبة السياسية والارتباطات الإقليمية والدولية، واستجد صراع ضاري حول طبيعة المنافع والعلاقات بين اللاعبين داخل أفغانستان والإقليم، ومن ثم العلاقة مع راعي العملية الأول وهو الولايات المتحدة الأمريكية، ليطفو نحو السطح نزاع كان خفيا أجبر الولايات المتحدة على خوض معركة شرسة لغرض إعادة السيطرة على منظمة القاعدة وحليفتها طالبان ومحاولة لجمهما وإعادتهما إلى الحظيرة كونهما خرجا عن الطاعة والسيطرة وأصبحا يشكلان خطرا حقيقيا على المصالح الأمريكية في منطقة وسط آسيا والعالم،. وعند هذا اختلفت حسابات راعي اللعبة وفاته أدراك حقيقة أن المغانم والمكاسب والمصالح حين تتوسع وتكبر دوائرها مثلما مصادرها، دائما ما تتضخم معها المطامع، حينها تكون حسابات البيدر تختلف كليا عن حسابات الحقل،  ومعها تزداد طلبات وحسابات مختلف الأطراف ولن تقتصر الطلبات  والحاجات فقط  لصالح راعي لعبة الحرب.
يتكرر هذا المشهد على الساحة السورية فالصراع بدا يأخذ منحا جديدا بعد دخول منظمة داعش أي دولة العراق والشام الإسلامية وهي بذات الفكر القاعدي ولكنها لا تلتزم بقيادة أيمن الظواهري وإنما تنحوا بعيدا حتى في طبيعة تطرفها، ويمكن تشبيهها بفرقة الخوارج الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، وهم أكثر الفرق الإسلامية غلوا وتطرفا بالدين، وظهروا في البصرة بعد مقتل الأمام علي،ولا يعترفون سوى بفكرهم الديني ويرفضون أي وجود لرأي ديني أخر،  ويعدون مخالفيهم من المشركين ولذا استحلوا قتلهم وأطفالهم وتوابعهم وإباحة أموالهم وأعراضهم .
في سوريا اليوم يتوقف الكثير من أبناء الشعب عند مشهد الخراب الذي طال البشر والحجر رافقه غضب للطبيعة لم يرحم الناس التي تعيش في الخرائب وخيام اللجوء  لتستمر محنة الملايين في انتظار فرج قادم  يلجم هذا الموت المجاني ولكن الأفق يبدو مغلقا أمام هذا الاستعصاء ووفق نوايا جميع الخصوم. فالائتلاف السوري المعارض بقيادة رجل السعودية أحمد عاصي الجربا،  لا يملك القرار الذاتي الوطني، بقدر ما يؤتمر بتوجيهات تصدرها المخابرات السعودية والأمريكية والتركية، ولحد الآن لا يمثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة الذي يقوده الجربا غير تشكيل صوري فضفاض لمعارضة متضاربة مشوشة الأهداف والرؤى ليس لها حظوظ وقواعد فاعلة في الصراع العسكري على الأرض، ولكن الرهان الأمريكي السعودي التركي يصورها كخيار قادم لقيادة ما بعد سقوط سلطة الأسد.  أما قيادة الجيش الحر المتمثلة بالعميد سليم إدريس الذي طرد أخيرا بعد خلافات على مصالح ومبيعات سلاح قدمت لجهات إسلامية متطرفة وعين بدلا عنه العميد عبد الإله البشير . فقد أظهرت تلك الصراعات والمؤامرات الداخلية ضآلة وهشاشة الجيش الحر أمام جبهة النصرة وتنظيم داعش وحتى أمام الفصائل الصغيرة الأخرى. وكان تصريح العميد إدريس قبل أن يطرد، استعداده ومجموعته للعودة والانضمام إلى قوات الحكومة السورية  في الحرب ضد القاعدة قد مثل مرحلة جديدة تفصح عن الحال الذي وصل أليه الجيش الحر، وأظهرت وقائع استسلام أعداد من هذا الجيش وعودتهم لصفوف السلطة تحول في إيقاع الرغبة في إدامة الحرب ليس فقط لدى الجيش الحر وإنما عند بعض الفصائل المقاتلة.
ورغم التحريض والمساعدات الأمريكية والسعودية والتركية والإسرائيلية، ومع فشل جهود الإبراهيمي ومؤتمر جنيف الثاني فأن لوحة المعارك بدت على أشدها نشازا وتشوها أفصحت عن وقائع  مفزعة تدور رحاها بين فصائل وتنظيمات المعارضة، وكيف باتت تفقد بوصلتها وتتنازع حول استحقاقات ومغانم على الأرض.
 من هنا يبرز السؤال الكبير الذي لا يمكن القفز فوقه أو تجاوزه أن أراد السوريون استعادة وطنهم. ما هو الموقف السليم من كل هذا الدمار؟. وهل ظهر ما يشي بوقف نزيف الدم ودمار البنى التحتية لسوريا بعد انفراط ثلاث سنوات من المعارك التي خلفت الآلاف من القتلى والمهاجرين.
 أن لم تدرك القوى الوطنية الحقيقية وكذلك السلطة الحاكمة حجم هذا الدمار المروع فمن الموجب عليها الاتعاظ من تجارب الآخرين في العراق وليبيا وتونس واليمن. على المعارضة الاقتناع بان أمريكا وحلفاؤها الأوربيين والأتراك والعرب غير معنيين بالموت المجاني للسورين وليس في جعبتهم خطة لديمقراطية أي بلد في المنطقة فكيف بسوريا، وليس في وارد تفكيرهم غير خيار تفتيت سوريا وانهيار جميع بناها على مختلف المستويات. وفي الجانب الأخر وهي سلطة الرئيس بشار الأسد عليها تقديم ما يبعد المواقف المتشددة الأقصائية والتعامل مع دعاة الحريات المدنية والديمقراطية بعيدا عن المواقف المتشنجة المتعنتة الشبيهة  التي تعيد للذاكرة مواقف صدام حسين وما سببته نتائجها من دمار وخراب للشعب العراقي. فواقع سوريا بعد توقف أصوات الرصاص لن يفصح لو أستمر على طبيعته الراهنة غير دمار وهدم كامل لوطن جميل.
 فالأهم اليوم ومع كل هذا المشهد المشوه والدمار العام، هو الخيار الوطني الذي يفضي لتغيير حتمي  يراهن في البدء على وقف نزيف الدم والذهاب نحو الصلح الاجتماعي ومحاصرة قوى الإرهاب وتغيير قواعد اللعبة السياسية ومن ثم بناء تشكيلة السلطة وفق خيار الشراكة الوطنية الديمقراطية. فهل تسعى القوى المدنية الديمقراطية البقاء والمراوحة في موقفها السلبي من نداءات السلام وتستمر في الرضوخ لأجندات ومشيئة أعداء سوريا، ليكون الوطن في نهاية المطاف تحت سلطة داعش وجبهة النصرة وحلفاؤهم من الإسلاميين المتطرفين وهم من يمثل اليوم الحليف الفعلي لأمريكا وحلفائها والثقل الأساسي في جبهة المعارضة للسلطة السورية، أم أن طريق الحوار الحضاري بين السلطة ومناوئيها من القوى الديمقراطية المدنية سوف يكون الخيار الأمثل والمنطق السليم الواعي لمحنة وطن كبير مثل سوريا، والطريق الوحيد المفضي لإنقاذ ما تبقى منه بعيدا عن أجندات وحسابات من يريد تدمير المنطقة عبر الصراع المذهبي الذي يصب لصالح إسرائيل وديمومة المصالح الأمريكية.




181
سمعة العراق وشعبه بين وزير النقل ولجنة الخدمات البرلمانية

فرات المحسن

قالت لجنة الخدمات والأعمار البرلمانية : أنها تشعر بالغضب من تدخل نجل وزير النقل السيد هادي العامري ومنعه طائرة لبنانية من الهبوط في مطار بغداد، وذكرت اللجنة أن الحادثة تسيء للدولة والشعب العراقي، وكشفت عن فتح تحقيق بالموضوع، وإن ما حدث سوف يؤثر على محاولات جذب شركات الطيران المدني العالمية للعمل في العراق. من جانبه فأن السيد العامري وزير النقل العراقي ذهب إلى بيروت على رأس وفد كبير من وزارة النقل لاستجلاء حيثيات ما حدث معلنا بأن الطيار قد منع نجله من الصعود إلى الطائرة دون أن ينفي حادثة منع الطائرة من الهبوط في مطار بغداد وفق أيعاز من سلطات المطار بناء على رغبة نجل الوزير، وقد بين السيد الوزير بأن حضوره إلى بيروت كان لغرض فقأ الفقاعة وإزالة السحابة التي سببتها الحادثة وما أعقبها من تداعيات على مستوى الوطن سمعة وشعبا وإعلاما.
أذن لجنة الخدمات والأعمار البرلمانية تبدو من تصريحها حريصة كل الحرص على سمعة الدولة العراقية والشعب العراقي وتلك بادرة تسجل لها فالوطن وسمعته ينتظر مثل هذا الموقف الشجاع والنبيل. أيضا فأن السيد وزير النقل قطع زيارته لفرنسا ليأتي إلى بيروت حرصا منه على سمعة وزارته وسلطة الطيران منها وأيضا حرصا على سمعته الشخصية والعائلية ويتقدم ذلك  سمعة الوطن العراقي حسب ما أعلن عنه سيادته.
السيد العامري وزير النقل ولجنة الخدمات والأعمار البرلمانية وخلال فترة عملهم في متابعة شؤون الخدمات بمجملها أن كانت في بغداد أو عموم العراق لم نجد في ما يفعلوه ما يبرهن على تمسكهم ودفاعهم عن سمعة العراق ودرء ما يسيء لشعبه، فمتابعة الخدمات تشي بالكثير من المساوئ التي جعلت المدن العراقية ومنها بغداد بمستوى مدن منكوبة بمبانيها وشوارعها وبشرها مما دفع السيد أمين العاصمة السيد عبعوب وبمهزلة ووقاحة تلفزيونية أن يفخر بمستوى مزابل بغداد وخرائبها ويفضلها على ما موجود من صروح حضارية في نيويورك أو أبو ظبي ؟؟ّّّ!!.وهذه المقارنة البائسة حق مشروع على المستوى الشخصي والمنحدر الاجتماعي للسيد أمين النكبات عبعوب وأمثاله ، وتلك هي العلة. فالكثير من الذين يشرفون على ويديرون مؤسسات الحكومة وبالذات الخدمية منها، مابرح متمسكا بثقافة الريف منبهرا بمشاهدة بيت الطين مقارنة بكوخ (صريفة) عاش ردحا طويلا من حياته ينام ويصحو فيها جوار بقراته ودجاجاته. 
اختصارا للمضحك المبكي وللكثير من الأوجاع والنكبات التي من الممكن تشخيصها وتوصيفها، أريد التحدث عن سمعة العراق كدولة وشعب والتي يحرص السيد وزير النقل ولجنة الخدمات والأعمار النيابية على رفعها كواجهة لعملهم يفاخرون بها أمام الأعلام، وأذهب معهم نحو واجهة من أوجه العراق التي يحرصون على أن تكون واحدة من البوابات التي تثبت حرصهم على سمعة العراق وشعبه أمام العالم كما يدعون ويتبجحون.

أتساءل ومعي آلاف من الذين سافروا عبر مطار بغداد أو عادوا من خلاله عن سبب فقدان الرغبة لدى لجنة الخدمات والأعمار النيابية والسيد هادي العامري وزير النقل عن البحث في ما يسيء للعراق بالصميم وهو أمام أنظارهم ويمرون عليه ويشاهدوه في ذهابهم وإيابهم وعند سفراتهم الميمونة التي تتكرر سنويا بعشرات المرات ،وأسألهم عن سبب إهمالهم لوجه العراق وتركه بائسا عكرا مضجرا، ولم يجعلهم أو يستحوذ منظره التعس المنكوب ولو نظرة بسيطة منهم أو ساعة واحدة من وقتهم. ولم لم يكلف أحدهم  نفسه  ليذهب إلى مطار بغداد الدولي متنكر مع المسافرين العاديين وعبر الطريق غير الرسمي وليس من خلال الطريق المعبد  الخاص بالضيوف والوفود الرسمية، ليرى بنفسه ما تعني الإساءة للعراق وشعبه وكيف تتم الإساءة للمواطن العراقي لا بل حتى الزائر الأجنبي ، وعندها سوف تفخر اللجنة والوزير بالكيفية التي تطبق فيها المعايير الفنية والمهنية والمعنى الحرفي المؤسساتي للبنى التحتية المتمثلة بوضع مطار بغداد الدولي من أول الطريق الرابط بينه وبين مدينة بغداد حتى نقطة عباس بن فرناس. وهناك في موقف عباس بن فرناس وعند ساحة السيارات المتربة صيفا والموحلة شتاءا،هناك حيث يشاهد صخام الوجه بأكمل وأدق صوره وتتجلى ثقافة الأرياف بكل حرفية ومهنية. في المرأب أو ما سمي بتوصيف ( سلابته ) كراج أو موقف للسيارات الجالبة للركاب، حيث يبتز أصحاب ما سمي بالكراج سواق التكسيات والسيارات الأخرى ويمنعوهم من دخول ساحة الوحل والحفر قبل دفع ألفي دينار ومن يمتنع عليه رمي الركاب وسط  ( الجيحة ) أو كتل التراب والحفر.
أعتقد أن لجنة الخدمات والسيد الوزير الحريصون على سمعة العراق يعرفون جيدا ماذا تعني كلمة الجيحة أو الطسه والحفرة والأتربة والساحة الترابية الخالية من كل ملمح يدل على أنها مرأب وبوابة أولى من خلالها سوف ينتقل المسافر إلى خارج العراق أو يدخل إلى العاصمة المجيدة للعراق التي يعشقها السيد أمين النكبات عبعوب.
منذ البداية ووسط هذا الخراب المفجع يحيل سائق التكسي ابتزاز أصحاب الكراج إلى الراكب الذي يقوم مضطرا بدفع مبلغ الألفي دينار للوصول جوار الساحة المقدسة لسيارات بهبهان وليس داخلها، وعليه أن يدفع بعدها للعتال البنغلاديشي خمسة آلاف دينار كي ينقل له حاجياته أن كانت ثقيلة، ثم يضع نفسه في سيارات الدفع الرباعي المسماة بهبهان التي  تنقل المسافر من منطقة عباس بن فرناس إلى مطار بغداد الدولي خلال عشر دقائق وبعشرة آلاف دينار بالتمام والكمال.
 بعيدا عن الإطالة، لو تنكر أحد أعضاء لجنة الخدمات أو السيد الوزير بهيئة راكب عادي وقام بسفرة إلى مطار بغداد بواسطة سيارة تكسي، ولا أظن سوف يفعلها أحد منهم،لكون حضوره سيكون مكشوفا بسبب أسطول حمايته الذي يفضح الغاية من سفره، أن لم يكن هناك موظف في الوزارة أو أحد أعضاء لجنة الخدمات يتبرع لوجه الله تعالى وبنية شريفة ويخبر جميع المشرفين على الطريق والكراج وداخل المطار بنية الوزير أو واحد من لجنة الخدمات التخفي لمعرفة حقائق الأمور. ومع كل تلك الظنون السيئة أو الحسنة وأن تحقق طلبي وعمل الوزير وغيره بما أقترحه عليه فسوف يرى بأم عينه كيف أصبح عباس بن فرناس، فركاس ما ينكاس من الابتزاز وخراب البنى التحتية وتعاسة وطين وسيان ومهازل وحفر وطسات لاتشرف لجنة الخدمات النيابية ولا وزير النقل وقبل ذلك لاتشرف وطن أسمه العراق،وسوف يطلع بنفسه على تذمر الناس اليومي، ولو توجهوا للمسافرين بالسؤال عن أداء وعمل لجنة الخدمات البرلمانية أو وزارة النقل لوجدوا وجبة دسمة من شتائم لا تبقي ولا تذر وربما تصل إلى ما يحمد عقباه مثلما حدث لعبعوب في شارع المتنبي.
أذا كان وزير النقل ولجنة الخدمات النيابية حريصة على سمعة العراق وشعبه وأثارتهم حادثة الطيارة اللبنانية إلى هذا الحد من الوجع، فلم لا يستحق وجه العراق وكرامته التفاته منهم، أيمانية نسميها أم وظيفية أو أي تسمية أخرى ، تحفظ للعراق هيبته وقبل ذلك للعراقي مواطنيته وتشعره بأنه شخص له كرامة وعزة نفس وحقوق مصانة وتحسسه بأن ما تغير ليس فقط اختفاء دكتاتور أسمه صدام وحزبه وذهابهم إلى مزبلة التأريخ...
 
 



182
لغز داعش ومدن الانبار والجيش العراقي

فرات المحسن

شكل الاعتصام في بعض مدن العراق وبالذات منها مدينة الرمادي، وضع مقلق جدا لسلطة المركز العراقية. ودائما ما لوح المعتصمون بمواقف مناوئة  بدت في مجملها تحدا صارخ للسلطة التنفيذية التي  سميت وفق توصيف ساحات الاعتصام  بسلطة المالكي الشيعية وأحيانا أطلقت عليها تسمية حكومة الروافض العميلة لطهران.
لم يدع السيد رئيس الوزراء نوري المالكي فرصة دون أن يلوح بفك الاعتصام وتشتيت شمل القائمين عليه، ودرج العديد من مناصريه في ائتلاف دولة القانون على اتهام المعتصمين بالعلاقة مع التنظيمات الإرهابية. ولم تكن ساحات الاعتصام لتخلو من هكذا شبه بل كانت مرتعا لأصوات نشاز، تارة  تدعو للانفصال وعلنا ترفع الرايات لنصرة دولة العراق الإسلامية أو الجيش السوري الحر، وتارة تلوح بالقصاص من الصفويين وهم الشيعة حسب التسمية الطائفية. فكانت حرب تصريحات ضروس بين جبهتين ترتفع عندهما رايات الطائفية خفاقة. ولكن الغريب أن طرفي الخصومة يلوذان دائما بالعراق كمسمى لهوية ويتباريان بالذود عنها ويطعن بعضهما الأخر بتهمة التنصل عنها وخيانتها.  ولكن على مستوى الضجيج الإعلامي والوقائع على الأرض فالصوت الطائفي دائما ما كانت له الحصة الأكبر والمساحة الأوفر ودائما ما يفضح رغبات وتوجهات كلى الطرفين.
أن استطاع المواطن العادي تشخيص الكثير من العلل والخلل والتناقض والتضارب في عمل الكثير من السياسيين العراقيين، فأن إداريي السلطة، باتوا مكشوفي الظهر وعراة في ما يقترفونه من أفعال،  وحين يندفع أحد منهم ليدلي برأي، يواجه من الأخر برأي مناقض بل مفند، وتبدأ سلسلة من فضائح لا طائل لها.
مازالت قضية هروب السجناء من سجن أبو غريب تتفاعل داخل أروقة السلطة، ونتائج التحقيق لم تعرض للشعب العراقي  حقيقة ما جرى، ومن هي القوى السياسية والإدارية النافذة التي قامت بالأعداد و التهيئة لهروب ما يقارب الألف سجين، لحين ما جاء التصريح الصارخ على لسان السيد وزير العدل وهو المختص والمعني والمسؤول الأول عن أوضاع سجون العراق، والعارف بحيثيات الواقعة من ألفها إلى يائها، حيث صرح بأن العملية أشرف عليها البعض من كبار الساسة العراقيين لصالح نظام بشار الأسد، ولغرض استفزاز وإرعاب الولايات المتحدة ودول أوربا وإجبارهم على تغير موقفهم من الأحداث في سوريا، وبدلا من تجهيز المعارضة السورية ومنها جبهة النصرة وداعش بالسلاح، فأن عليهم الدعوة لحل النزاع سلميا وتجنب وحشية تلك المعارضة عبر الالتزام بعقد مؤتمر جنيف الثاني.
هل كانت عملية هروب سجناء أبو غريب لعبة من الألعاب السياسية القذرة، أم ترى انفلات التصريحات والروايات من أفواه البعض دون حساب لردود الفعل بات هو الملمح السياسي الوحيد، وفي هذا لا يمكن التعويل على ما يقال في زخم الكذب والنفاق والتغليس وطمطمة الأحداث واختفاء تحقيقات اللجان. ولكن مع ما ظهر من تفاعل مع تصريح الوزير يجعل المرء يتيقن بصحة وجود مؤامرة سياسية كبرى وليس جريمة عادية، وما جاء على لسان البعض من السياسيين كشف ملامح عملية الهروب مستندين على رواية وزير العدل العراقي، وهذا ما يؤكد اليقين بالواقعة. فهؤلاء الساسة وضعوا الكثير من النقاط على الحروف في أشارة لصفقة جهنمية قادها رجال حزب البعث من المبثوثين في الجهاز الحكومي وفي مراكز نافذة وحساسة منه، وتحديدا القيام بذات الغرض الذي أعلنه السيد وزير العدل، أي تهريب السجناء لصالح سلطة بشار الأسد وحزب البعث السوري، وفيها يتم إرعاب العالم المتحضر بجرائم ووحشية رجال القاعدة.
بمستوى أخر للأحداث قال رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة واسط السيد صاحب الجليباوي أن مجلس المحافظة أتخذ قرار بالتحقيق في كيفية إرسال الفوج الثاني شرطة واسط للقتال في محافظة الانبار دون تجهيزات عسكرية. وهناك استجواب للقادة الأمنيين.
 لا يمكن الوصول إلى نتائج حاسمه لمثل هذا الأمر ولا يستطيع مجلس المحافظة الحصول على أجوبة شافية. فالتحركات والأفعال تدار وفق أجندات ليس فقط أكبر من الأفراد العاديين وإنما أعلى شأوا وقدرة وقوة من قادة كبار في العملية السياسية، ويشارك في أدارتها طواقم متخصصة في تحريك دفة الحدث نحو الجهات المحددة والمعلومة. وحتى قادة لهم ثقلهم السياسي يصبحون في الكثير من الأحيان بيادق يُنقلون من موقع لأخر فوق رقعة الشطرنج وهم مسلوبي العقل والإرادة. وهذا ما حدث في عمليات فك الاعتصام في الرمادي وقبله قتال منظمة القاعدة وداعش في صحراء الأنبار، التي تبدو في مجرياتها ووقائعها لغزا محيرا ليس من السهولة فك طلاسمه، وفي الوقت نفسه فأن هناك لوحة من المشاهد والوقائع تفضح المخفي، يمكن للمرء أن يكتشف من خلالها مقدار الخسة والدناءة التي راح من جراءها العشرات ضحايا من أبناء شعبنا العراقي من الذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سوى كونهم وقعوا بين فكي الرحى ليكونوا وقودا لواحدة من أغرب المعارك .
فجأة وبعد مضي العام الكامل أعلن السيد المالكي عن استعدادات وحشود  لفك الاعتصام في الرمادي وأعطيت مهلة للمعتصمين توقيتها كان صلاة الجمعة الأخيرة لحشدهم، ولن يسمح بعدها بوجود ساحة للاعتصام. وفي يوم أخر أعلن عن مقتل قائد الفرقة السابعة اللواء الركن محمد الكروي ومجموعة من قادة الفرقة وجنودها أثناء عملية اقتحام وكر من أوكار المسلحين في غرب محافظة الانبار.  وقبل أن تبدأ عملية الرد والثأر لمقتل الشهيد محمد الكروي تضاربت الأنباء عن طبيعة الحملة ثم المعركة ونتيجة استشهاد هذه المجموعة. ثم أعلن عن بدأ هجوم للجيش العراقي في عمق الصحراء لضرب أوكار القاعدة والثأر للشهداء، ولكن المعركة لم تستمر غير يوم واحد، ثم توقفت فجأة بأوامر عليا لينسحب الجيش نحو الحدود الإدارية القريبة من مدن الانبار، وفجأة صدرت الأوامر لفك الاعتصام في الرمادي ورفع الخيام ومنصة الخطابة، وبتوقيت متزامن أعلن عن اعتقال النائب البرلماني أحمد العلواني ومقتل شقيقه. وعلى ذات المنوال والسرعة صدرت الأوامر بانسحاب الجيش من المدن في محافظة الأنبار لتتقدم داعش والقاعدة وتسيطر على محافظة الرمادي والفلوجة وباقي المدن الأخرى حتى الحدود السورية والأردنية، وتضاربت الأنباء عن وضع الجيش والغزو الداعشي للمدن، وكيف تم كل ذلك بوقت قياسي خارج المنطق والسياقات العسكرية. ثم صدرت الأوامر لرجوع الجيش ومحاصرة مدن محافظة الانبار وضرب رجال داعش فيها. عند تلك الساعات التبس المشهد وضاعت الحقيقة في لجة أخبار مرتبكة وفبركات لا يمكن فك رموزها. فهناك أبناء عشائر يرفضون دخول الجيش إلى مدنهم، ويشكل بعضهم جيوش وقيادات عسكرية لمحاربة الجيش أن حاول الدخول، وفي الوقت نفسه يرفضون أن يكون لداعش والقاعدة وجود في مدنهم، وهناك أيضا رجال عشائر يقفون يدا بيد مع داعش ويساندونها في سيطرتها على بعض مناطق ومدن محافظة الانبار. كذلك للحكومة الاتحادية حصة في هذا الإرباك الحربي فلها رجالها داخل مدن الرمادي يمكن لهم أن يفكوا بعض العقد ويجعلوا الحكومة تتنفس الصعداء بعض الشيء.
ما الذي حدث في هذه الحومة العسكرية المتسارعة والغريبة، من الذي وضع خطتها،  لصالح من تمت إدارة هذه الحومة. فالمشهد غرائبي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لماذا تقدم الجيش ثم انسحب، لماذا وبعد صبر عام تزامن فك الاعتصام مع اعتقال أحمد العلواني وبدأ عملية ثأر الشهيد محمد الكروي، ثم وهذا هو المهم والأكثر غرائبية وبات لغزا محيرا في تلك الحومة العجيبة، وهو لحظة انسحاب الجيش من صحراء الانبار بأوامر من السيد القائد العام ومن ثم صدور الأوامر بانسحاب الجيش من المدن لتدخل مجاميع داعش والقاعدة وتسيطر عليها خلال ساعات وليس أيام، ولتهرب أمامها قطعات الشرطة المحلية وتسلم أسلحتها وآلياتها ومقارها لداعش ومؤزريها.
 هل هناك من مغزى في مثل هذا الحدث الكبير. أسئلة كبيرة وحائرة على السيد المالكي قبل غيره الإجابة عليها. هل هناك اتفاقيات مبرمة لوضع أبناء وعشائر الأنبار في مواجهة داعش والقاعدة، أم هناك ثمة لعبة سياسية عسكرية انطلت على القائد العام ووقع فيها بفخ أعد له بحرفية عالية وعليه في النهاية ابتلاع ما يترتب عنها من خسائر على المستوى العام والشخصي. أم تراه هو القائد الفعلي للخطة بكل تجلياتها ووقائعها.
من أين جيء بكل تلك الأعداد من رجال داعش والقاعدة ليظهروا بهذا الشكل الكبير والفجائي الذي استطاع السيطرة على المدن بنصف نهار ليس إلا. هل كان جلب واستدراج هؤلاء إلى مدن العراق عملية عسكرية من أعداد قادة الجيش من البعثيين وهي شبيه بعملية تهريب سجناء أبو غريب نصرة لنظام الرئيس السوري، حيث يبعدون عن سوح المعارك في سوريا ويتم إدخالهم وقتلهم في مدن الانبار.
صور وفديو الحياة العادية والمفرحة لمدينة الفلوجة تحت سيطرة رجال القاعدة بمساندة رجال الدين والعشائر يوحي بالكثير، وبالذات عن أمكانية التعايش مع وجود إدارة ذاتية للمدن عمادها رجال من تنظيم القاعدة أو مؤازريهم. وهي رسالة لها أيضا مغزى على المدى القريب والبعيد لمن يريد تعلم كيفية العيش في كنف وحماية الذئاب والضباع .   

 



183

قرارات تسحب العراق نحو الهاوية

فرات المحسن

احتلت الجامعات البريطانية والأمريكية الأرقام العشرة الأول في تسلسل أفضل الجامعات في العالم حسب تصنيف شبكة  ( Top Universities   QS    ) وهذه الشبكة هي شركة لها العديد من المندوبين يتوزعون على العديد من بلدان العالم من مثل لندن ، باريس ،سنغافورة ، شنغهاي ، بوسطن ، وواشنطن. وتعمل هذه الشركة أو الشبكة بشكل يومي على جمع المعلومات عن الجامعات في العالم من خلال تدقيق القرارات المهنية والعلمية والإدارية الصادرة داخليا، وكذالك عن كيفية استخدام الجامعات لأدوات العمل في تطبيق المناهج والبحث في طرق وأدوات التدريس والمعلومات الاليكترونية، وتوفر الحلول التقنية والنشرات والمطبوعات المعززة للدراسة الجامعية . وعمل الشبكة الرئيسي  هو توفير الخدمات للطلبة الراغبين في الدراسة الجامعية في مجالات متقدمة للتعليم العالي وبالذات في اختصاص إدارة الأعمال التنفيذية والبرمجيات المهنية والتطوير المجتمعي  من خلال وضع أفضل العروض والخيارات وأنسبها أمامهم . وفي هذا المجال وضمن مهامها  تقوم الشبكة نهاية كل عام بتقديم دراسة سنوية تتضمن معلومات مندوبيها عن أغلب الجامعات في العالم واضعة تقيمها وتصنيفها المبرمج حسب المعلومة المتوفرة لديها.
أصدرت الشبكة تقيمها للجامعات في العالم لهذه السنة 2013 تحت عنوان ( QS WORLD UNIVERSITY RANKINGS 2013  ) فجاء تصنيف جامعة بغداد بالتسلسل رقم  701 من مجموع تصنيف جامعات بلغ عددها  800 في جميع العالم، وهذا الرقم يشير إلى أن جامعة بغداد قد تراجعت 100 درجة عن تقييم الشبكة للعام الماضي 2012 الذي كان قد استقر تسلسلها فيها عند الرقم 601.
وفي ذات الوقت أشارت النائب عن لجنة التربية البرلمانية انتصار الغرباوي إلى كون الطالب الجامعي العراقي لا ينال سوى 650 ساعة دراسية في السنة مقارنة بطلبة الجامعات في الدول الأجنبية الذين يحصلون على 1650 ساعة دراسية، وجاء هذا القصور المروع بسبب كثرة العطل المعطاة للطلبة في العام الدراسي.
يبدو أن مثل هذه الأرقام المخيفة والدالة على  مدى التدهور حاصل في واحدة من أهم مناح الحياة لدى الشعب العراقي، إلا وهو مجال التعليم العالي، لا تثير حفيظة من يشرف على تلك المرافق الحيوية في العراق، لا بل سوف يبادر هذا المسؤول بالرد بصلف وصفاقة على ما جاء في تلك الإحصائيات، وأن ما تعلنه هذه الشبكات والمعاهد والمؤسسات البحثية الدولية غير دقيق وضربا من ضروب العداء للدولة العراقية ويتطابق مع توجهات دول تبذل قصارى الجهود للتشويش على التجربة الديمقراطية (كذا ) في عراق اليوم .
في اليوم الذي صدر فيه تقييم  شبكة  ( Top Universities   QS    )   الخاص بوضع الجامعات ومنها جامعة بغداد عن الشبكة أعلاه، أصدر وزير التعليم العالي والبحث العلمي قرارا غريبا لا يمت لمهنة التعليم الجامعي  وأعراف العملية التربوية بصلة، وإنما يعد اعتداء سافر على مجمل العملية التربوية. القرار جاء برقم 7684 وخص حصرا التقويم الجامعي بالتغيير، واعتبار بداية عطلة نصف السنة الدراسية تبدأ من يوم الجمعة 20 / 12 / 2013 ويتم تأجيل الامتحانات إلى ما بعد العطلة. ربما أن هذا الأمر يفرح البعض أو يراه طبيعيا ومناسبا كونه يراعي مرحلة وظرفا من المناسب للجامعة أن تغلق أبوابها عند حلوله، حالها حال باقي دوائر الدولة التي عطل الدوام وتوقفت مصالح الناس والدولة العراقية فيها لمدة سبعة أيام بالتمام والكمال بمناسبة ذكرى أربعينية الأمام الشهيد الحسين ع  ولن يستطيع أحد المزايدة أو رفض مثل هذا الأمر سوى من كان بعثيا أو ناصبيا. وفي هذا الأمر أضحى الوزراء والمحافظون والمدراء وكل من له صلة بإدارة قطاع أو قسم في دوائر الدولة ومنشآتها يتبارى في سباق مستميت لإثبات حبه وولائه للأمام الشهيد الحسين ع وآل بيت النبوة،  وتعويض تأخره  في العهود السابقة عن أحياء هذه الشعيرة، وهم في ذلك وبقصدية وإصرار عجيب يندفعون لتجهيل الشارع وتغييب وعيه وقيادته نحو عالم اللامبالاة والبطالة والكسل والتهرب من الواجب وعدم الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والمهنية وأخيرا دفع العراق نحو الهاوية.
قرار وزير التعليم العالي يذهب لذات الغرض، حيث ضرب عرض الحائط بمجمل العملية التربوية وخطط الوزارة والتقويم الجامعي واستعدادات الأساتذة ومثلهم الطلبة للفصل الدراسي، والذي من المفترض أنهم قد اعدوا خططهم وهيئوا أنفسهم للمناهج والدروس ضمن تقويم يومي وشهري وفصلي تراتيبي للسير لإنهاء الفصل الدراسي دون عوائق. ولكن الوزير بلفته أيمانية مبيته لا تمت بصلة للرقي والرصانة العلمية وتتعارض ومنطق التأريخ ومنهج الأمام علي ع والحسين الشهيد أصدر قراره دون التفكير والاهتمام بالخراب والتخريب الذي يحدث للعملية التربوية جراء قراره هذا. وبقدر ما يسببه القرار من أضرار كبيرة بالعملية التربوية وابتعاده عن العلمية والواقعية وعدم أخذه بنظر الاعتبار مستقبل ومصلحة البلد ، فأن القرار يبدوا قرار لا يخلوا من مقاصد ولا يمكن تفسيره بغير الرياء والتزلف سعيا لمسايرة الشارع ومحاولة للتقرب من البسطاء لكسب الأصوات في الانتخابات القادمة، وهذا ما درج عليه أغلب من يعمل في إدارة السلطة اليوم بعيدا جدا عن ضرورات أنجاح العملية التنموية ومراعاة المصالح العليا للوطن. وهذا القرار لم يكن سابقة وإنما يتماثل مع العديد من التصرفات والأوامر والقرارات المماثلة التي صدرت وتصدر يوميا عن قياديي السلطة في العراق، فقد أصبحت المدارس والجامعات حالها حال باقي دوائر الدولة ومؤسساتها وخاصة في وسط وجنوب العراق ساحة للتجارب والتسابق والتنافس بالشعارات وإحياء  المناسبات الدينية التي تستقطع ما يقارب ثلثي السنة الدراسية والوظيفية الفعلية، وتحولت دوائر الدولة ومثلها المدارس والجامعات بموجب تلك العطل القسرية إلى معاقل للأحزاب الدينية تفرض على الطلبة فيها المشاركة بأحياء الطقوس الدينية داخل الصفوف أو ترك الدراسة والتوجه للتجمع وأحياء تلك الشعائر خارج قاعات الدرس. ومثل هذه الممارسات تذكرنا بما كان يقوم به حزب البعث على عهد المقبور صدام من أجبار الطلبة للمشاركة في الاحتفالات والفعاليات الحزبية. والشيء الذي يحدث اليوم مثل سابقته ألحق وسوف يلحق الضرر الكبير بعموم العملية التربوية وما يعقبها من متواليات على مستوى الحياة العامة والخاصة بين أوساط المجتمع ودوائر ومؤسسات الدولة وهذا الفعل يعد فعلا مدمرا يورث الكثير من العلل والأخطار على مستقبل الأجيال القادمة ومستواها الفكري العلمي والثقافي ويعد عائق حقيقي لعملية النهوض والتطور والتنمية.





184


ذكرى فارس أسمه طارق محمد البوعزيزي/ بسبوسة


                                             
فرات المحسن
فجر يوم 17 ديسمبر / كانون الأول عام 2010 اعترضت عناصر الشرطة التونسية عربة الفاكهة التي كان يجرها محمد بوعزيزي في أزقة حيه وسط مدينة سيدي بوزيد محاولا شق طريقه نحو سوق الخضار عند طرف المدينة، حاولت الشرطة مصادرة عربته، ولكنه استطاع الإفلات والوصول إلى هناك ، ولكن شرطية أسمها فادية حمدي لم تعافه ولحقته إلى السوق وبدأت بمصادرة بضاعته، وضعت أول سلة خضار في سيارتها وعندما شرعت في حمل الثانية أعترضها بوعزيزي ، فدفعته وضربته بهراوتها، ثم حاولت الشرطية أخذ الميزان، فحاول منعها، عندها دفعته هي ورفيقاها فأوقعوه أرضا وأخذوا الميزان. بعد ذلك قامت  الشرطية بتوجيه صفعة لوجه بوعزيزي أمام حوالي 50 شاهدا . عندها عزت على البوعزيزي نفسه وانفجر يبكي من شدة الخجل، وبحسب الشهود الذين كانوا في موقع الحدث، صاح البوعزيزي بالشرطية قائلا : لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط لا أريد سوى أن اعمل.  بعد ساعات من الحدث وقف محمد البوعزيزي أمام مبنى البلدية وسكب على جسده مخفف الأصباغ ( ثنر ) وأضرم النار بجسده، أسرع الناس وأحضروا طفايات الحريق ولكنها كانت جميعها كما حظ الفقراء فارغة.
لم يكن يتوقع بو عزيزي التونسي حين أضرم النار بجسده، أن الأمر سوف يؤل لما جاءت به صناديق الاقتراع في بلده أو في مصر ، فعلى الرغم من نيته المبيتة لإثارة الجماهير للتعاطف مع حالته فقد سعى للأمر بطيبة مفرطة اعتراضا على حاله المزري وموقف حكومة زين العابدين بن علي وسلطاتها الداخلية من البطالة المستشرية بين أوساط الشباب وانعدام العدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد وسرقة المال العام. والبوعزيزي حاله حال الآلاف من أقرانه اضطرته البطالة أن يعمل بائع خضار وفاكهة  وسط الشارع في بلدته الصغيرة سيدي بو زيد. 
وبعد أن هرب زين العابدين بن علي اثر انتصار الثورة رفض الأخ الأكبر لمحمد بو عزيزي بيع عربة أخيه لرجال أعمال من الخليجيين عرضوا عليه مبلغا مغريا، وقال أنه يريد أن يراها كمعلم يتوسط أحد ساحات المدينة يعيد للناس ذكرى لحظة إضرام أخيه طارق الطيب بن محمد بو عزيزي الملقب لفرط طيبته ببسبوسة، النار بجسده وسط المدينة، والتي كانت الشرارة التي اخترقت حدود بلاده تونس الخضراء لتشتعل شررا  في مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين وما زالت حرارتها تنذر بأحداث جسام في عواصم أخرى مرشحة للإصابة بعدوى لهب طارق بن محمد بو عزيزي.
رسالته الأخيرة التي كتبها في مدونته على الفيس بوك قبل استشهاده وباللهجة التونسية تشي  مقدار الوجع الذي حمله قلبه، بعدها توجه نحو مركز الشرطة ليشعل النار بجسده أمام مضطهديه ولينهي عذابات روحه، لم يكن ليخطر في باله أن تكون تلك اللحظة هي اللهب الذي أمتد في هشيم الأوضاع في بلده وبلدان أخرى.
((   ‎‫مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام، ضايع في طريق ماهو بإيديا، سامحيني إن كان عصيت كلام لأمي، لومي على الزمان ما تلومي عليّ، رايح من غير رجوع, يزي ما بكيت وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد الناس، أنا عييت ومشى من بالي كل اللي راح، مسافر ونسأل زعمة السفر باش ينسّي ....‬ ‎‫طارق محمد بو عزيزي‬ ))
بكائية بوعزيزي التي أنهى بها علاقته بمخزون عذاباته ومواجعه هي ذاتها دراما حياة الناس التي تحكي فواجعهم وخيباتهم في بلداننا العربية والإسلامية، فالوجع متوارث مثل وباء، الكل مرشح للاحتراق بلهب القهر والفجيعة دون مخارج يلوح من بين ثقوبها بصيص أمل.
هل يخمد لهب روح بو عزيزي والملايين من الشباب أمثاله تجثم الخيبة على صدورهم وتغطي الغشاوة مستقبلهم. سؤال يلف العالم منذ قيام الساعة دون جواب شاف.
هل أن صناديق الاقتراع قطعت أصابع الناخبين ووهبتها لمن لا يعني له لهب جسد طارق بسبوسة وغيره من الشباب المهمش التائه والغارق في البطالة  سوى كومة من لحم شواء يبدو النظر أليه  غير مستساغ.
ياترى  هل استحوذ رجال المال على عربة بو عزيزي بثمن بخس ليلقموا مدافيء  قصورهم  العامرة بخشبها المتهرئ .
 
بسبوسة ، أيها الباسل لروحك الطاهرة المجد والخلود. وإذا كنت قد عييت ومشى من بالك كل اللي راح، فيكفي أنك كشفت ليس فقط عورات حكام  ومسؤولين وإنما عورات شعوب أيضا .




185
اتحاد أدباء العراق مقدمة رسالتكم كانت غير حكيمة

فرات المحسن
 
في خبر صحفي عابر نشر في بعض الصحف والمواقع العراقية تطرق للقاء عقد بين وفد من اتحاد أدباء العراق برئاسة السيد فاضل ثامر  ووفد من وزارة الثقافة العراقية ترأسه الوكيل الأقدم السيد طاهر الحمود، وتم في الاجتماع الذي عقد في مبنى الوزارة، بحث الأسباب التي أدت إلى تردي العلاقة بين الطرفين، وقد بسط كل طرف وجهات نظره للأخر.
الخبر لا يحمل بين طياته ما هو مثير أو جديد بعد أكثر من ثلاث سنوات من عمر وزارة الثقافة على عهد السيد سعدون الدليمي. فمن البديهي أن تتم مثل تلك اللقاءات بين وزارة للثقافة واتحادات أو فعاليات مهام عملها يتعلق بالشؤون المعرفية الثقافية أدب كانت أم فن. والخبر الصحفي الذي أعلنه اتحاد الكتاب عبر الصحف والمواقع العراقية أشار لمسألة كانت ضمن جدول المباحثات وهي أسباب تردي العلاقة بين الطرفين، ولم نجد توضيحا لطبيعة الجفوة ، ولكن الاتحاد يستدرك ذلك ليعلن عن طبيعة تردي العلاقة من خلال ما يقرأه المرء في الرسالة التي وجهها الاتحاد إلى السيد وزير الثقافة سعدون الدليمي وحوت الرسالة 16 نقطة تطرق فيها اتحاد الأدباء العراقي  لجملة من المشاكل التي تكتنف ليس فقط علاقة الاتحاد مع وزارة الثقافة وإنما للكثير من المفاصل المهمة في منهجية وآليات عمل وزارة الثقافة وعلاقتها بالمثقف والنشاطات الثقافية العراقية وما يشوب ذلك من معوقات وإخفاقات ومشاكل بأوجه لا يمكن حصرها بسهولة،  وقد أستهل اتحاد أدباء العراق رسالته إلى السيد الوزير بمقدمتين جاء في الثانية منها مايلي:
(( نؤكد اننا طيلة هذه الفترة كنا نحرص دائما على أن نعمل في ضوء مبدأ الشراكة مع وزارتكم الموقرة للنهوض بالواقع الثقافي العراقي وضمان استكمال مقومات البنية التحتية للثقافة، الشرط الأساس للانطلاق نحو آفاق أوسع تتبوأ فيها الثقافة مركزاً اكبر في عمليات البناء والتأهيل لمجتمعنا العراقي الذي عانى كثيرا من تداعيات سياسات الدكتاتورية المتعاقية وظروف الاحتلال والطرح الطائفي والمخطط الإرهابي التكفيري الذي يستهدف وجودنا وحضاراتنا وثقافتنا.
ونود أن نبسط لمعاليكم تصور الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، تصورنا عن الأسس المتينة التي يمكن أن تقوم عليها العلاقات بيننا ووزارتكم الموقرة ))وهذه العبارات في مجملها يعرف العديد من المثقفين وحتى من وضعها أنها ترتبط معنا وسلوك ومغزى باتحاد الأدباء وليس للوزارة أي علاقة بمبدأ شراكة تحدثت عنه وأشارت له .. بعدها يطرح اتحاد الأدباء نقاطه الـ 16 التي يشخص فيها متطلبات المرحلة للنهوض بالثقافة العراقية وطبيعة العلاقة التي من الموجب أن تكون بين الوزارة ومنظمات المجتمع المدني العراقية وبالذات منها المهتمة بالشأن الثقافي، كذلك طرح في الرسالة مجموعة مطالبات يرغب اتحاد الأدباء من الوزارة القيام بها والمطالب الستة عشر حرصت على استعراض الكثير من ما يشوب الوضع الثقافي العراقي من عسر وضيق وإخفاق وعثرات ملموسة ليس لدى المثقف العراقي حصرا وإنما باتت مكشوفة وواضحة جدا أمام أبن الشارع البسيط الذي دائما ما يتأمل أيجاد ما ينعش النفس ويطري الروح بعيدا عن لغة الإرهاب اليومي بمختلف تنوعاته أن كان خارجيا أو داخليا .
ولكن ما يمكن للمرء التوقف أمامه باستغراب وتعجب ما جاء في المقدمة الأولى من الرسالة والتي نصت على ما يلي:
((معالي السيد وزير الثقافة الدكتور سعدون الدليمي المحترم
تحية طيبة
يسعدنا أن نحييكم وان نعبر لكم عن تقدير أدباء العراق وكتابه وشعرائه للدور الذي نهضت به وزارة الثقافة تحت رعايتكم الكريمة في الارتقاء بالفعل الثقافي في عراق ما بعد الدكتاتورية، وبشكل أخص ضمن إطار فعاليات تتويج بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013.))
هذه الديباجة تبدو لي مستعارة من خطاب قديم درجت على تدبيجه أقلام تهوى المسكنة، دائما ما كانت ترتجف أمام مسمى سلطة، ولذا تدفع بمقدمة ترجو فيها تطييب الخواطر واستهلال الطلب بقصيدة مديح تدفع المتلقي نحو وضع الرضا والاسترخاء لتقبل عرائض الاسترحام بروح بعيدة عن التطيير و العداء المسبق. ومثل هذه المقدمة ربما أدرك اتحاد أدباء العراق أهميتها للوزير الدليمي وهو من منحدر بدوي وصاحب جنسية سعودية يهتم بتلك البيانات والاستهلال والتنميق والتزويق الكلامي حاله حال رؤوس العشائر وقادة العساكر وأمراء الغفلة.
ما كان لاتحاد الأدباء العراقي الوقوع في مثل هذا المطب وتدوين هذه المقولة لو جلس بهيئته الإدارية وناقش بإخلاص ودراية وتمحيص وبعين ثقافية معرفية ثاقبة ومخلصة لمشروعها التنويري،  ما قدمه السيد وزير الثقافة الدليمي من منجز نهضوي يعتد به للثقافة العراقية، لحين ساعة أعداد الرسالة،عندها سيحار البعض من النابهين في الاتحاد في الأمر ولن  يتورطوا في ذكر عبارات المديح تلك. أيضا لو تسنى للبعض في الاتحاد الخوض في الحقائق والوقائع على الأرض وما حدث في محاور وأحداث بغداد عاصمة الثقافة العربية  وكذلك وضع توصيف دقيق لنوع العلاقة الإدارية والمهنية التي تربط الوزير بالوزارة وكذلك بوكلائه ومديري الأقسام فيها وكيف يتحرك سيادته في فضاء الثقافة والمعرفة العراقية، لما تم تدوين تلك الجنجلوتية ولتغيرت لغتها المدائحية الجمعوية الممجدة بنهضة وزارة الثقافة العراقية تحت رعاية الوزير الدليمي الكريمة ولأشير إلى ارتقاء الفعل الثقافي على عهده إلى مختصر يقتصر دائما على القول دون فعل وفي النهاية يستكين عند الترحيب والتحية الشخصية دون غيرها وفي أحسن الأحوال الوعد بتشكيل مجلس تحقيقي في المشمش.
رب جردة حسابية بسيطة لوضع الفنون والآداب وكيف تتعامل أقسام وزارة الثقافة مع من يشتغل في فضاء تلك المسميات، تعطي صورة مغايرة وتفند كل حرف جاء في مقدمة رسالة اتحاد الأدباء العراقي لا بل تدين استسهال الاتحاد أطلاق الجمل التملقية على حساب الواقع المزري للثقافة في العراق كما ونوعا،لا بل مثل تلك الجمل الغير منطقية نجدها مدانة ومرفوضة من خلال ما تطرقت له النقاط  الستة عشر ذاتها والتي قدمها الاتحاد  كمقترحات وإستراتيجية  عمل مستقبلية للوزارة شخصت فيها الكثير من العطوب والعيوب والتلكؤ في عمل وعلاقة وزارة الثقافة ووزيرها ووكلائه وموظفيها بمسمى ثقافة. ومثلما هو معروف للشارع العراقي فأن اهتمام الوزير ينصب حصرا ويضع جل جهده ووقته في الشأن السياسي والعسكري وجاء هذا وفق سياق ما تمخضت عنه طبيعة التشكيلة الوزارية التقاسمية، أيضا حسب ما ترتب على الوزير من تبعات واشتراطات بنيت وفق رغبة السيد رئيس الوزراء أبو إسراء بشخص الوزير الدليمي وطبيعة الخلاف الطائفي البغيض وقدرته على استفزاز الأخر من داخل عقر داره. فالوزير بعيد بأشواط طويلة جدا عن وزارة الثقافة ولذا لا نجد في الوزير ما يجعله عامل نهضة وارتقاء في مجال عمل الوزارة. ومن المنطقي والحكمة القول بأن من يدير الوزارة هم وكلاء الوزير ورؤساء الأقسام فيها، وحسب ما هو معلوم وملموس فأن توجيهات الوزير لا تجد لها منفذا أن لم تمرر عبر فلتر هؤلاء ورغباتهم وعلاقاتهم الشخصية فكيف تنهض وزارة ثقافة برعايته الكريمة، وهو في جميع الاحتمالات عبارة عن قلم أخضر لا يملك  من حاله غير التوقيع وترك الأمور على علاتها يديرها غيره، وفي هذا الأمر توجد شواهد كثيرة ليس أقلها سرقات مباحة للمال العام وعلاقات شخصية ووساطات ومنافع ورشى وعقود مشبوه بعيدة كل البعد عن محاولة النهوض بالثقافة العراقية.
منذ بداية الإطاحة بالدكتاتورية عدت وزارة الثقافة وزارة غير سيادية يرميها المكون السياسي الشيعي على المكون السياسي السني استنكافا وكرها لمسمى ثقافة، ويقبلها المكون السياسي السني بطرا وتكسبا ليسلمها لشيخ جامع قاتل موتور وضابط شرطة مرتش ثم تعطى أخيرا لوزير سني جل انشغالاته سياسية وعسكرية ووو .
ليس في مثل هذا عجب فالحديث عن عجائب العراق وغرائبه ما عادت تلم بها مدونات ومجلدات منذ تأسيس الدولة عام 21 ولحد هذه اللحظة المنحوسة، ولكن العجائب والمدهشات تجاوزت المعقول على العهد الثاني من سلطة السيد المالكي وباقي شركاؤه من جميع القوى العاملة في دولة المحاصصة دون استثناء،وأن كانت الموبقات تتقدم عجائب عهد الولاية الثانية للسيد المالكي ووزراءه فأن عجائب موقف المثقف العراقي تتوائم وتتناسب والوضع السياسي والتردي الثقافي الذي يجعل المثقف النخبوي ينحوا لطمأنة النفس بنخبويته وتفرده بعيدا عن أبناء جلدته من بسطاء البشر ويكتفي بالشكوى والتذمر من الإقصاء والتهميش الذي يتعرض له من قبل السلطات وبالذات من داخل وزارة الثقافة وما ينطوي عليه ذلك الموقف العدائي المتولد عن قناعة مقننة لاهوتية تنظر للعلوم والثقافة بتسطيح وتهيب ورفض وصولا حد التكفير. وفي هذا نجد موقف المثقف دائما ما كان سلبيا اتكاليا يتوسل المجهول حاله حال بسطاء الناس ليأتي وينقذه من الفجيعة التي تلبدت بها سماء العراق.
وليس بعيدا عن مشهد المتاريس والخنادق الذي تحيط بها وزارة الثقافة نفسها تحصنا من عدوى، فمن المناسب التذكير بأن الموقف من اتحاد الأدباء  داخل طاقم الوزارة وتلك لعمري شائنة لها أسبابها السياسية المعروفة التي يجمع القاصي والداني على وجود ما يعشش من عداء سياسي متأصل للاتحاد في عقول الكثير من مقرري شؤون الوزارة. ومع كل تلك الاستحكامات والمعوقات والمواقف يطرح التساؤل الصعب عن موقف المثقف العراقي ذاته من كل ما تنطوي عليه إستراتيجية الوزارة وطبيعة علاقتها بتلك النخب والفعاليات، وهل المثقف يمتلك القدرة على الفعل و التغيير وامتلاك زمام أمره والوقوف بوجه تهميشه وتغليب ثقافة التجهيل والتسطيح.
لو كان المثقف العراقي عضويا لوقف بحزم وبموقف جامع احتجاجي يومي شجاع وطالب أولا بجعل وزارة الثقافة وزارة سيادية تنال احترامها وتبجيلها من خلال احترام أرث العراق الثقافي والحضاري المبدع والمدهش وليس أرث التكايا والفواجع، وأن تحترم الوزارة بتكريمها بطاقم له صلة بالمعرفة والثقافة بعيدا عن تضخيمها وترهلها بخيارات تقاسم القوة والثروة، وأن يكون في مقدمة ذلك المطالبة بتغيير الوزير وطاقم الوزارة المشكوك في ارتباطه وعلاقته بمسمى ثقافة.
ما كان للمثقف أن يقف مثل هذه الوقفة المرتبكة الخجولة بوجه ممثلي أحزاب ومكونات طائفية سمح الاحتلال البغيض لها تقاسم وزارة تعد في أعراف العالم المتحضر هي ووزارة التعليم من الوزارات السيادية التي يتعرف العالم من خلالهما على طبيعة البلد وانشغالات أبناءه وإبداعاتهم ونهضتهم.   
 
 


186
انتخابات الخارج دعوة مفتوحة للسرقات

فرات المحسن
وأخيرا صادق البرلمان العراقي على قانون الانتخابات منهيا خصومة كانت ملتبسة وعسيرة امتدت لعدة أشهر بين الكتل السياسية حول تقاسم مصادر السلطة والثروة عبر توفير آليات إجراءاتها وكيفية تصويت الناخبين ومن ثم احتساب عدد الأصوات لصالح ذاك الطرف وغيره.أثناء التصويت وبدايته استثني أبناء العراق من القاطنين خارج الوطن ولم يشار إلى إشراكهم في التصويت ولكن الأمر لم يترك دون تنبيه اللجنة القانونية في المجلس حول سقوط الفقرة المتعلقة بانتخابات الخارج مما تطلب التصويت مرة أخرى على الفقرة الموجودة في القانون القديم وضمها إلى النسخة الجديدة. وهذا الاستدراك جاء لصالح بعض الكتل التي تجد في أصوات الخارج ليس فائدة انتخابية بقدر ما تسعى فيها لتجارة رابحة تدر عليها وأنصارها أرباح مالية كبيرة. ولذا أعرض لكم تجربة العملية الانتخابية والتصويت والخدع والنهب والمحسوبية التي اشتملت عليها العملية في جميع البلدان التي قبلت أن تجرى على أرضها انتخابات للعراقيين المقيمين لديها،وكنت قد كتبت مقالي المدون أدناه نهاية انتخابات عام 2010 بعد تقصي ومراقبة، واليوم أعيد نشره لما يحويه من معلومة كنت قد رصدت وقائعها ذلك الوقت ولذا فان أبعاد المواطن العراقي القاطن خارج الوطن عن الانتخابات يشكل نقطة إيجابية تقطع شيء قليل من دابر السرقات وأيضا خدع وسفالة البعض من الذين يتاجرون باسم العراق والحقوق الوطنية.
لم تسجل المفوضية ( المستقلة ؟؟) للانتخابات عام 2010 سوى مشاركة ما يقارب 270 ألف عراقي من القاطنين خارج العراق في الانتخابات الأخيرة للبرلمان العراقي. واستبعد من أصل هذا الرقم أكثر من الأربعين ألفا بحجج واهية ودون مسوغ مقبول. لا بل كان الأبعاد نموذجا سيئا لعملية إقصاء متعمد لقوائم بعينها. ورافق تصويت الخارج الكثير من اللبس والإرباك وظهرت عمليات تلاعب وتزوير مؤكدة سجلها المراقبون والبعض من موظفي التسجيل. ولم تكن بعض المكاتب تمتلك الأمانة المهنية والشفافية في التعامل مع الحدث، بل دفعت نحو إثارة الشبهات في جميع إجراءاتها، وخير مثال على ذلك ما فعلته بعض المكاتب من ابتذال مارست فيه خدع خبيثة مع البعض من مواليد الخارج أو مع أخوتنا الاصلاء من الكورد الفيلية لتقصي الكثير من أصواتهم. 
سجل المراقبون ملاحظات جدية على أداء مديري المكاتب واتهموهم بعدم الحيادية أو تبعيتهم لبعض القوى السياسية المتنفذة وهذا الأمر لا يخلو من الصحة. وظهر واضحا للكثير من المراقبين في مختلف الدول التي أجريت فيها الانتخابات أبعاد وفاعلية تلك العلاقات وتأثيرها على وقائع ومجريات الحدث الانتخابي، فقد عمل مدراء المكاتب على استقطاب نسب كبيرة لموظفين من عينات منتقاة وفق الميل الجهوي والطائفي أو الحزبي. وبني ذلك على وفق أغراض سياسية ومصالح شخصية وارتباطات مالية، مؤكدا السلوك غير المهني وغير الحيادي للمدراء الذين انتدبتهم المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات لإدارة العملية الانتخابية في ما يقارب الستة عشر بلدا. وكشف جراء ذلك عن عمليات تزوير وتسويف واسعة، لتشطب أثرها الكثير من أوراق التصويت التي تخالف سياسيا توجهات مديري المكاتب وأتباعهم. ومورس ابتزاز علني ضد أصحاب الوثائق الأجنبية التي تشير لعراقيتهم و تثبت هويتهم الوطنية، وسجلت حوادث تفضيل ومحاباة بين مدراء و موظفي قاعات الاقتراع وبعض الناخبين.
ومع كل تلك الأحداث الإدارية، سجلت أيضا وقائع نهب للمال العام لا يمكن التغاضي أو السكوت عنها، لا بل حدثت وعلى المكشوف سرقات يستحي من ممارستها حتى شحاذي الشوارع.  ففي أغلب مكاتب الانتخابات التي افتتحتها المفوضية ( المستقلة ؟؟) وانتدبت أليها أفراد من الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية لإدارة العملية الانتخابية في بلدان الشتات، ودفعت لهؤلاء المفوضين مخصصات مالية بلغت الملايين من الدولارات. وقد استغل هؤلاء تلك الأموال للبذخ والهبات والسرقات، وفي هذا السياق نذكر أن أحد المفوضين أستأجر له ثلاثة رجال كحراس شخصيين ( في البلد الآمن ) لحين نهاية العملية الانتخابية، وبراتب يبلغ آلاف من الدولارات للفرد الواحد. كذلك حجزت ثلاث سيارات للتنقلات الشخصية، وشقق سكنية إضافة لجناح خاص في أحد فنادق الدرجة الأولى ( البزنس) يبلغ سعر السكن فيه 500 دولار لليلة الواحدة. وأحد هؤلاء صرح بأن مكتبه قام بطبع 2800 نسخة من الدعاية الانتخابية وبذات العدد لكراس أخر لشرح العملية الانتخابية، ولكن لم تظهر من تلك الكراسات غير بضع عشرات، لا بل لم يلحظ الناخب وجودا لها حتى في مراكز الاقتراع وطيلة أيام الانتخابات الثلاثة للتصويت. في حين أن تكلفة طباعة تلك الكراسات كانت بالغة الفحش وبالدولار الأمريكي. وجاءت مبالغ تأجير المخازن وشراء القرطاسية وصناديق الاقتراع وتأمين حمايتها لتسجل مبالغ خيالية تثير الكثير من الاستغراب والشكوك.  وذهبت جميع تلك المبالغ والحصص الى شخصيات ترتبط بأصدقاء ومعارف مدراء المفوضيات ومشايعيهم من ذات الحزب أو باقي الأحزاب القريبة. واستدلالا على تلك المحاباة وتبادل المنافع الشخصية، فأن أحد مدراء المكاتب المرسل من العراق لإدارة العملية الانتخابية أستأجر من أحد أصدقائه ومن المقربين لحزبه مخزنا متهالكا دون حماية وبنوافذ محطمة لتأمين مواد الانتخابات بمبلغ خيالي، في حين أن في انتخابات عام 2005 تم وفي ذات البلد أيجار مخزن بمواصفات عالية الجودة مع توفير الحماية له من قبل سلطات ذلك البلد لم تتجاوز تكلفته ربع مبلغ ما قدم كمكافئة لهذا الصديق الرفيق المؤمن التقي الورع صاحب المخزن. وذات الشيء حدث في عمليات شراء القرطاسية وغيرها من احتياجات المكاتب التي أحيلت بعهدة أشخاص أغلبهم من تجار الدرجة الثانية ومن أتباع الأحزاب التي تدير العملية الانتخابية.
وسجلت أيضا نسب عالية وبإفراط ملحوظ لأعداد الموظفين المشاركين في إدارة مواقع وغرف الانتخابات كحراس ومفتشين وإدلاء، كان جل عملهم الوقوف بين الممرات وأمام الأبواب لاجترار الأحاديث وو. وأغلب هؤلاء دفعت أجورهم تحت الطاولة أي خارج نظام ضريبة دخل العمل المعمول بها في البلدان خارج العراق.
والغريب في هذا الأمر هو ورقة الدفع حيث سجل فيها على أن القابض عليه دفع رسوم الضريبة، وحين أعترض هؤلاء على هذه الصيغة أخبرهم أحد مدراء مكتب المفوضية بأن هذه الصيغة لا تعنيهم وإنما الغرض منها فقط يخص المركز المشرف للمفوضية الموجود في اربيل.
وتفاوتت أجور العاملين من الذين شاركوا في الإعداد والعمل للعملية الانتخابية في جميع مكاتب المفوضية وفي مختلف البلدان. حيث أن مركز المفوضية الرئيسي لم يضع قواعد ثابتة للأجور وحسب طبيعة العمل وإنما ترك الأمر لمدير المكتب ليتصرف على هواه وحسب تقديره الشخصي لمستوى المعيشة في ذلك البلد. مما جعل الأمر يدخل في دائرة المزايدة واللغط والشكوك في فرق المبالغ ولأي جهة ذهبت. حيث أن بعض مدراء المكاتب منح العاملين أجورا بلغت 1500 دولار أمريكي وفي مكاتب أخرى منح العاملين من نفس المواصفات الوظيفية مبلغ 1200 دولارا وفي أحد المكاتب منح العاملين ألف دولار ومن ثم مائة دولار بصيغة مكافأة أو إكرامية حسب قول مدير المكتب.
و لا أدري ما هو موقف المركز الرئيسي لمفوضية الانتخابات في بغداد واربيل ومعهم هيئة النزاهة من الأجراء الذي اتخذه البعض من مندوبي المفوضية لإدارة عملية الانتخابات في البلدان الأوربية، حيث قام بعضهم باستدعاء جوقة من أقاربهم ومعارفهم ومن بلدان أوربية مجاورة للمشاركة في إدارة العملية الانتخابية. وتحملت دائرة المفوضية دون مبرر معقول أجور سفرهم الى تلك البلدان وكذلك مبالغ تنقلاتهم وسكناهم في أضخم الفنادق، في الوقت الذي أهمل وأبعد الكثير من العاملين الذين اكتسبوا خبرة كبيرة حين أداروا بنجاح عملية الانتخابات عام 2005 في تلك البلدان.   
الأسئلة الكبيرة التي تثار والتي على السياسيين العراقيين من الحريصين على أموال وسمعة العراق أن يتأملوا ويدققوا في مسبباتها ونتائجها الحقيقية على الأرض.
ـ هل أن حجم أعداد المشاركين في انتخابات الخارج يوازي ما قدم وصرف من مبالغ لفتح مكاتب للمفوضية في بلدان العالم.
ـ ما هو حجم ونسب من شارك في انتخابات الخارج مقارنة بما أعلنته المفوضية عن أعداد الذين من الموجب مشاركتهم في الانتخابات في عموم العراق.
ـ ما هي النسبة الحقيقية لهؤلاء مقارنة بأعداد من شارك فعلا في الانتخابات والذي بلغت نسبتهم حسب إحصائية المفوضية 62% من 12 مليون ناخب. وهل شكلت أعداد من صوت في انتخابات الخارج رقما يعتد به ويمكن أن يشكل مركز لقضاء أو ناحية في خارطة العراق. 
ـ هل أن عمليات الصرف الباذخ الذي يقوم بها مدراء المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات الذين انتدبوا لإدارة عمليات الخارج، تخضع للمراقبة والتفتيش والتدقيق ومن ثم المسائلة.
ولو أخضعنا تصريحات المسؤولين في الأمم المتحدة ومعهم المسؤولين الدوليين عن المهاجرين العراقيين في بلدان الجوار العراقي وأيضا بلدان الشتات الأخرى وكذلك وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، للتدقيق والمراجعة لظهرت لدينا معطيات بائسة عن أعداد المشاركين في انتخابات الخارج، تكذب وتنفي كل تلك التبجحات والتقديرات المبالغ فيها والساعية أصلا لابتزاز الشعب العراقي وسرقة أمواله. وفي هذا النوع من الكذب والابتزاز توجه أيضا أصابع الاتهام الى شخصيات سياسية عراقية متنفذة تشارك تلك الجهات والدول ادعاءاتها وتقدم الدعم الكامل لها لابتزاز وسرقة أموال الشعب العراقي.
وبذات المعايير تخضع عمليات فتح مكاتب الاقتراع في بلدان العالم المختلفة حيث تتوافق الأحزاب المتنفذة وتتحاصص على تقاسم المندوبين وتوزيعهم على تلك البلدان وتقدم لهم التسهيلات المالية واللوجستية دون أية مسائلة أو تدقيق. ومن الجائز القول أن عمليات انتخابات الخارج أصبحت تشكل واردا جيدا للبعض من الشخصيات والأحزاب العراقية وباتت بابا مفتوحا للسرقات بمختلف أنواعها.
وعين اليقين القول أن السارق مثل المأبون لا يهمه ما يقال عنه بل هو سادر في غيه وابتذاله وسقوطه وينظر إلى الجميع بعين القبح والرذيلة، لذا لا نرى اليوم من يستمع لصرخة مظلوم وتضور جائع، وإنما نجد غلبة ساعية دائما لخطف حتى فتات الخبز من أفواه الجياع والعراة من العراقيين. وأبواب السرقة مشرعة ولا تغلق أمام شهية هؤلاء الظلمة قساة القلوب. وقيل أن المال السائب يعلم السرقة. ومع وفرة السراق، توجد هناك وفرة لأموال سائبة لا تجد من يؤتمن عليها.
 
 
 
 


187

بوري صدام واستشهاد الزعيم عبد الكريم

فرات المحسن

تغير المشهد أمامي كليا وأنا استمع لصراخ أبن عمي قيس ..مضروب بوري.. لك والله طلع مضروب بوري. من هو وما هذا البوري، كنت ساعتها يملئني الفرح ونشوة عظيمة وأنا أطالع صورة صنم الطاغية  صدام تسحبه  وتطيح به  المزنجرة الأمريكية بعد أن عجز الشباب العراقي عن إسقاطه.
للمرة الأولى في غربتي أسمع مثل هذا القول ( طلع مضروب بوري ). بعد 3 نيسان 2003 استمرت احتفالاتنا لعدة أيام ولكن تلك الجملة بقت عالقة في ذهني. أبن عمي قيس قدم السويد قبل عام مضى لذا فهو خزين طري وجيد لمثل تلك التوصيفات، وبشكل يومي كنت أسمع منه الكثير من تلك المفردات الغريبة التي لم أسمع بها سابقا فتنعش ذاكرتي وتنقلني أحاديثه وتعابيره لصخب مدينتي وأحيائها وضجيج أسواقها وشوارعها وشتائمنا ونحن صغار نتقافز مثل شياطين بين الأزقة نبتدع بين حين وأخر جملة أو توصيف أو شتيمة لم تكن متداولة سابقا فتكون لازمة عام كامل أو أعوام إن حالفها الحظ وحظيت بالتوافق والانتشار.
ـ قيس ما هو معنى مضروب بوري ؟ بادرت بسؤال قيس قبل أن يودعني ليذهب إلى الفراش.
ـ حقيقة أنك لا  تعرف معنى تلك المفردة العراقية.. أبن عمي؟؟
ـ و من أين لي أن أعرف ذلك  وقد ولى زمن بعيد دون صلة لي بالشارع العراقي. 
ـ هذه جملة يتداولها أهل العراق وتطلق على الإنسان الذي خُدع وضحك عليه، وتعني ضرب بأنبوب، والحكاية عبارة عن كناية لما يفعله البعض من الفلاحين حين يضعون مع بضاعتهم تراب أو حصى ليكون وزن البضاعة غير وزنها الحقيقي، ويستعمل في هذه الخدعة أنبوب يدخل في الكيس وتدفع الأتربة أو الحصى عبره إلى أسفل الكيس فيزاد الوزن دون ظهور أثار لتلك الخدعة حين الوزن . وما عنيته أنا يوم سقوط الصنم، إن صدام كان مخدوعا وظهر بأنه مضروب بوري عندما صورت الكاميرات كيف إن النصب كان يرتكز على أنبوبين حين سحبته المزنجرة الأمريكية. وختم قيس حديثه يقهقه فاضحة نبهته عليها فنحن بعد الساعة الثانية عشر ليلا وربما ينزعج الجيران من مثل هذه الضحكة المجلجلة.
ـ ولكني أجد أن الأمر غير هذا الذي تقوله.
دهش قيس وفغر فاه وهو يطالعني بشيء من التساؤل الظاهر على تقطيبة حاجبيه.
ـ عزيزي قيس الموضوعة عندي تعني أن صدام حسين وبالرغم من سقوط صنمه فأن له جذور باقية عالقة في الكتلة  الكونكريتية التي كان يقف فوقها، وتلك الكتلة أعتقد أنها ترمز للعراق أي بمعنى أخر أن جذور من طباع وروحية وفكر صدام المجرم سوف تبقى عالقة في طبائع الكثير من العراقيين شخوصا كانوا أو مؤسسات.
لم تعجب الفكرة أبن عمي قيس فهز يده وأطلق زفرة شعرت وكأنه  يخرج بها رئتيه  وأعطاني ظهره متجها نحو غرفته وسمعته يقول .
ـ فال الله ولا فالك ... تصبح على ... ولم يكمل الجملة وإنما أدار وجهه نحوي  فجأة وقال .. من أين تأتي بتلك الأفكار الجهنمية... أنته أكبر سرطان .. فضحكنا سوية.
سافر قيس إلى مدينة أخرى في السويد بعد سبعة أشهر من يوم 9 نيسان 2003  إثر حصوله على الإقامة في السويد  وانقطعت لقاءاتنا ولكن لنا حوارات هاتفية في أوقات متباعدة فهو يعمل سائق حافلة ركاب وأنا لي مشاغلي ما يجعلنا وبشكل نادر جدا أن نتحادث في أمور مشتركة سوى سؤال عن الصحة والأقارب وظروف العمل،أما أمور السياسة التي كنا نتداول بها قبل سقوط الصنم فقد أمست بعيدة جدا عن حواراتنا الهاتفية.
البارحة رن هاتفي فلاحظت أسم قيس كنت حقا مشتاق لسماع صوته وضحكاته الشيطانية المجلجلة .
ـ أهلا أبا ليلى .. فتره طويلة لم أسمع صوتك .. أين أنت يارجل.
ـ حقك أبن عمي .. ضحكة طويلة .. صدقني ما ناسيك.. ضحكة طويلة أخرى..
ـ ما الذي يضحكك اليوم عساك بفرح دائم أبن العم.
ـ طلع أبن عمك قيس مضروب بوري ...
ـ كيف ومن فعل بك هذا؟.
ـ صدام حسين .
ـ ماذا ... صدام حسين...؟!
ـ اليوم تذكرت تفسيرك لمعنى  بقاء الأنابيب التي كان يرتكز عليها تمثال صدام حسين يوم سقوطه،حين قرأت خبر رفض مجلس شورى الدولة اعتبار الزعيم عبد الكريم قاسم شهيدا والذي جعل مؤسسة الشهداء تسحب عنه قرارها السابق بتوصيفه ضمن الشهداء العراقيين ضحايا حزب البعث.. حقيقة أن تفسيرك لذاك الأمر كان واقعيا. فلولا بقايا البعث وفكر صدام حسين في زوايا وشعب ورجالات مجلس شورى الدولة وأيضا مؤسسة الشهداء لما شرع مثل هذا القرار القبيح.

ـ وهذه الواقعة نبهتك اليوم لمثل هذا الأمر !!.. عجبا أبن عمي، أنه لأمر غريب كيف لك أن لا تتذكر سوى هذه الحادثة وهناك الآلاف غيرها، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة .. إلا ترى الموت اليومي والأفعال المشينة التي يقوم بها  الكثير من السياسيين ومثلهم بسطاء الناس، فجميعها يدل على أن لصدام وحزب البعث جذورا ضاربة في النفوس. الكثير من أبناء الشعب العراقي يا أبن عمي ليس بغافل عن بوري صدام حسين ورهطه،وهم يتحسسونه يوميا مثلما شعرته أنت، ولكن السياسيين باتوا يستخدمونه في كل واردة وشاردة  ليخدعوا الناس ويفتروا عليهم، وهؤلاء هم بقايا حزب البعث وفكره المجرم، وهم من أستخدم  ويستخدم بوري صدام حسين لسرقة المال العام والضحك على الذقون ، لا تظن أن بوري صدام سوف يزول بين ليلة وضحاها فهناك منهجية تريد أن يكون هو من يفعل فعله في مصير العراق وشعبه .التربويون في نقابة المعلمين يستدعون بوري صدام في كل حصة دراسية يزقونها لتلامذتهم،الطلاب يأخذون نصيبهم من العلم والتربية حين يهتف أساتذتهم بالروح بالدم ليس للمالكي وحده مثلما كانوا يهتفون لصدام وإنما لغيره فمهمتهم التربوية تغذية الأجيال من أبناء العراق بمفاهيم الدم والقتل والسرقة  وقطع الأرزاق وأيضا دفاعا عن شيخ أو معمم أو رئيس طائفة أو نائب برلماني أو قائد فرقة أو حتى سارق وسرسري يملأ  شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام بلسان سليط قبيح تارة ومهادن عفيف مؤمن ورع تارة أخرى..أبن عمي الطيب، أسأل عن البوري يأتيك من كل فج عميق...
 أخبرني كيف حال الأهل هناك.....

ـ مضروبين بوري أبن عمي...... 


f_almohsen@hotmail.com

188

رواتب المؤلفة قلوبهم في البرلمان العراقي

فرات المحسن

تدور اليوم معركة خطابات وشعارات وتصريحات سياسية انتخابية بين الفرقاء من الذين يديرون العملية السياسية ويحتلون كراسي البرلمان العراقي تجاوزا على من أستحق الكرسي وهم فقط خمسة عشر نائبا دون سواهم نالوا القاسم الانتخابي والباقي توزع بين ناهب أو مرشح عن قائمته أو بديل لملء الفراغ. المعركة تتصارع فيها شخصيات وكتل وتختفي بين طيات تلك الصراعات أغراض ونوازع ومنافع شخصية وطائفية وسياسية دون أن يعتمد فيها الجانب القانوني الذي يوجب اتخاذ قرار يغير أو ينسخ النص الدستوري الذي يمنع سحب أو إسقاط أو التنازل عن  راتب النائب التقاعدي. وتلك الآلية تبنى لو أريد لها الحل من خلال تقديم مشروع قانون يطرح من قبل مجلس الوزراء على مجلس النواب، وهو يعنى بتشريع جديد لتقاعد النواب وأعضاء مجالس المحافظات والاقضية والنواحي أو إلغاء تقاعدهم . وإن صالت وجالت التصريحات بعيدا عن تلك الآلية فهي لا تعدوا في جلها غير مزايدات ودعاية انتخابية. فالقانون الذي شرعه مجلس النواب برقم 50 لسنة 2007 الناص في المادة الأولى منه على سريان أحكام قانون الجمعية الوطنية العراقية رقم 3 لسنة 2005 على مجلس النواب منحهم كافة الحقوق والامتيازات الممنوحة لعضو الجمعية الوطنية بما فيها الحق في التقاعد والبالغ 80% من أخر راتب يتقاضاه والنص الدستوري أغلق بدوره الدائرة بالكامل مضيفا بمادته عدم السماح بالتنازل أو إسقاط الراتب التقاعدي للنائب بأية صيغة أو حجة كانت.
هذه المجموعة الكبيرة من نواب البرلمان العراقي وأصحاب الوظائف العليا ممن ينتظر نهاية الخدمة بعد مضي الأربع سنوات لاستلام الراتب التقاعدي والركون لراحة وبحبوحة غير مسبوقة،  وليصبحوا بين ليلة وضحاها من علية القوم ماليا، وبالرغم من ما ينطوي عليه هذا الموقف من مكاسب مادية لهم ولعوائلهم، فأن تلك السمعة أو الموقف الشخصي لن ينال رضا الناس بقدر ما يضمن غضبهم وسخطهم واعتبار هؤلاء أعداء للشعب ونهاب للمال العام وهم وعوائلهم  يعتاشون ويأكلون من مال سحت حرام، وهم عملوا ونالوا أموالا مثل المؤلفة قلوبهم الذين اعتاشوا في صدر الإسلام على الصدقات ، فهؤلاء يسرقون مالا عراقيا ويأخذون رواتب تقاعدية دون استحقاق عن أقصر فترة خدمة وظيفية وهم مثلما جاء في القرآن في سورة التوبة الآية السادسة والعشرين التي جاء فيها :
  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ   
أي أن ما يمنح لهم صدقة جارية حالهم حال الفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين، وهؤلاء المؤلفة قلوبهم كانوا يتقبلون صدقة الزكاة دون حياء واستحياء كون أيمانهم بالإسلام أيمانا ضعيفا وما يمنح لهم يكون اتقاء لشرهم. جاء عن ابن عباس :  أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام ، وقالوا : هذا دين حسن ، وإن منعهم ذموا وعابوا   . والمؤلفة قلوبهم قوم دخلوا في الإسلام من غير أن يرسخ الإيمان في قرارة نفوسهم، وكان النبي يعطيهم نصيباً من الزكاة لأجل تأليفهم ودفع شرهم ومنهم أبو سفيان بن حرب ويعلى بن أمية.
 ومثل هؤلاء لن يكون لهم نفعا مثلما عليه حال حنون في الإسلام الذي ما زاده خردله، ولذا أفتى أول مجتهد في الإسلام الفاروق عمر بن الخطاب بقطع تلك الهبات وخيرهم بين الكفر والإسلام عندها عملوا على تحريض الناس ضده ثم دفعوا مبالغ طائلة لحين تم اغتياله من قبل اللعين أبو لؤلؤة.
الكثير من أعضاء البرلمان العراقي وأعضاء مجالس المحافظات والأقضية والنواحي وقبلهم أعضاء الجمعية الوطنية التي انتخبت في 30 يناير 2005 ،هم على شاكلة المؤلفة قلوبهم فمغريات الوظيفة كعضو برلمان تتعدى الوجاهة الاجتماعية إلى راتب مغري، سفرات وإيفاد، حضور كيفي للجلسات، قدرة على الوساطات والرشا، منح وتسهيلات مالية ومخصصات، حمايات، قطع أراضي ، صفقات تجارية، ومع كل هذا وذاك حصانة برلمانية تضعه فوق القانون. كل تلك المغريات تدفع الكثير من الناس نحو خوض غمار التجربة والترشح إلى البرلمان والمجالس ضمانة لحياة رغد ووعود تستحق التضحية حتى بالعمر، فالنائب ضمن بشكل كامل مستقبله ومستقبل عائلته وقدم الكثير لعائلته وعشيرته بعد أن كان لا يعرف الجك من البك أو حافي خال الوفاض لا يملك من الدنيا شرو نقير غير انتمائه الحزبي أو ارتزاقه السياسي وتنطعه بين يد هذا وذاك قبولا لصدقة وتكسبا لصداقة تنفع في يوم موعود، والكثير من أعضاء البرلمان العراقي هم على تلك الشاكلة وغيرها والأجر عندهم على قدر المشقة والمشقة هي أتباع رأس الكتلة بغباء  وخنوع والتغيب حسب المزاج والحضور لاستلام الراتب الشهري وتجهيز الحقائب للسفر عمرة أو إيفادا.
واليوم لو أعيد النظر وفق فكرة الفاروق عمر بن الخطاب وسنت قوانين لدولة عراقية فعلية بمؤسسات حقيقية توضع لها تشريعات تحد من كل تلك المكاسب والصدقات التي يتلقاها النائب بدأ  بالراتب والامتيازات والمخصصات الشهرية وانتهاءً بالراتب التقاعدي لوجدنا كيف يستنكف الكثير من هؤلاء وأمثالهم للترشيح في أي دورة انتخابية ولذهبوا نحو مصادر وطرق ارتزاق ونهب أخرى وما أكثرها في العراق اليوم.

f_almohsen@hotmail.com 



189
نوري المالكي يستعير تجربة نوري السعيد
فرات المحسن
لغرض  خوض الانتخابات النيابية العراقية في سنة 1954 شكلت بعض القوى الوطنية تحالفا جبهويا شارك في الانتخابات النيابية آنذاك، على عهد وزارة أرشد العمري، وأطلقت على ذلك التحالف  تسمية  الجبهة الوطنية المتحدة،  وكانت الجبهة خليطا من اليساريين واللبراليين والقوميين العروبيين وبعض المستقلين وقد أسفرت نتائج الانتخابات النيابية عن فوز عدد من أقطاب تلك الجبهة الوطنية رغم التدخل الحكومي السافر والتزوير الكبير الذي أنتابها وقصر مدة التحضير للانتخابات ومنع الجبهة الوطنية وقواها ومرشحيها من القيام بالدعاية الانتخابية أو الاتصال بالجماهير والترويج للقائمة. وبالرغم من قلة عدد من فازوا من مثلي قائمة الجبهة المتحدة وكذلك بعض المستقلين ( عشرة مقاعد ) فقد شكل ذلك الفوز وقتذاك هاجس رعب حقيقي للإدارة البريطانية وسلطة العهد الملكي ممثلة بقطبيها ولي العهد عبد آله ونوري السعيد، فقد أعلنت تلك الإدارة وبكل وقاحة وصلف بأن ذلك العدد على ضآلته سوف يثير لها العديد من المشاكل والتحديات ويمكن له أن يستقطب الجماهير الشعبية ويرفع صوت مطالبها ويمكن لهذه القلة من النواب الوطنيين أن تقف حائلا في وجه مشروع السلطة الذاهب لعقد حلف بغداد الاستعماري، لذا سارعت تلك الأقطاب بمساندة من الإدارة البريطانية بإصدار الأمر الملكي بحل وزارة أرشد العمري وتكليف نوري السعيد بتشكيل وزارة جديدة كان من أولى مهامها حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة وفق شروطه وتحت إشرافه وبأيدي أعوانه من المرتزقة، لقد هاب نوري السعيد أصوات النواب العشرة وأدرك أن هؤلاء سوف لن يكونوا أبواقا له لا بل يبقون خصوما يتحدون مسيرته العرجاء وأسلوب عمله وارتزاقه وعمالته لبريطانيا.
اليوم يعيد التأريخ ذات الدور ولكن على يد شخص أخر، من غرائب الصدف أن يحمل ذات الاسم والكثير من ملامح شخصية نوري السعيد . فإن كان للمرحوم نوري السعيد عشق غير طبيعي لا بل شهية لا تمل ولاتكل ولا تشبع لتولي كرسي السلطة ونسج المؤامرات لخصومه ومناوئيه لأبعادهم عن طريقه فإن السيد نوري المالكي يبدو للمتابع أنه يحمل ذات الصفات التي أمتلكها نوري السعيد في هذا السلوك أي الوله بالكرسي ونسج المؤامرات لمخالفيه. فبالرغم من المجازر اليومية التي ترتكبها المليشيات المتحالفة معه أو التابعة لأصدقائه وشركائه أو لخصومه من الأطراف المشاركة في العملية السياسية أو قوى الإرهاب الممثلة بحزب البعث وحلفائه من تنظيمات القاعدة، وبالرغم من الوضع المزري للخدمات والبنى التحتية وارتفاع أصوات الاحتجاجات على سياسته وانتشار التظاهرات في أغلب مناطق العراق نجد المالكي يصم أذنيه ويغلق عينيه عن تلك  الوقائع والأحداث متشبث بالكرسي عاشق له حدث الثمالة .
في واحدة من تجليات ذلك التشابه أو الاستنساخ السلوكي من قبل رئيس وزراء العراق الحالي نوري المالكي والمشابه لموقف رئيس وزراء العهد الملكي نوري السعيد. ذلك الموقف من نتائج انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، فالهواجس المربكة المتطيرة والخوف على الكرسي والرعب من الشارع بات يسيطر على نوري المالكي ويثير فيه عوامل قلق وفزع حقيقيين لم يعد يستطيع إخفائها ومثله يفعل رئيس البرلمان النجيفي لا بل جميع الذين يشاركون في إدارة السلطة في العراق. فما أسفرت عنه انتخابات مجالس المحافظات وبالرغم من العدد الضئيل الذي لا يتجاوز الأحد عشر نائبا من أعضاء التيار الديمقراطي  من الذين فازوا بمقاعد منفردة في بعض محافظات العراق فأن هذا الملح على بساطته هز بقوة عقول السادة من رجال السلطة وقض مضاجعهم وآرق نومهم وفي المقدمة منهم نوري المالكي الذي أدرك بأن الدورات الانتخابية القادمة سوف تجلب له صداعا شديدا لا بل رعبا مؤكدا لو استمرت العملية الانتخابية تجري وفق ما يسمى  بنظام الدائرة المفتوحة  والتمثيل النسبي واعتماد نظام سانت ليغو. هذا الموقف المتطير المتشنج جعل السيد المالكي يرغي ويزبد داعيا لتغيير قواعد الانتخابات بما يضمن سرقة الأصوات لصالح حزبه وحلفائه الذين أصبحوا جوقا موسيقيا واحدا يردد ذات النغمة التي يصر السيد نوري المالكي وزملاؤه على أن تكون هي النشيد الأوحد للجوقة المسؤولة عن إدارة العملية الانتخابية وللقوائم المنتقاة وفق مشاريع سرقة خيارات الشعب مثلما تسرق أمواله وتقتل أمانيه في دولة ديمقراطية وحياة حرة كريمة .
نوري المالكي يستنسخ شخصية شبيهه المرحوم نوري السعيد فهو اليوم مستفز وخائف يرتجف هلعا إن أستمر حساب الأصوات وفق نظام سانت ليغو فخسائره الأخيرة هزت عرشه وبات قاب قوسين وأدنى من خسارة الكثير من الأصوات والمقاعد ليس لصالح خصومه فقط وإنما لصالح الفرق الأخرى المنافسة له من حلفائه في العملية السياسية، وربما فوز شخصيات وطنية ديمقراطية وحصولها على مقاعد في البرلمان خلال الانتخابات القادمة سوف يكون كارثة حقيقية لنوري المالكي ورفاقه.
 
 

190
أبو قاسم ينال عضوية منظمة لوكَية بلا حدود

فرات المحسن

للمرة الأولى أختلف مع صاحبي الحاج أبو نجية بمثل تلك الحدة التي وصلت حد الصراخ والتهديد بالمقاطعة.  سبب الخلاف هو اللعين التعيس أبو قاسم الجايجي في مقهى الشط الذي أقترب منا اليوم وهمس جملته التي استفزت الحاج أبو نجية وجعلته يسحب أنفاس سيجارته بشكل متوال وسريع مع حسرات وزفرات كان معها دخان السيجارة لا يجد له مخرجا وكأنه يخفي نفسه خوفا من عصبية الحاج أبو نجية. الجايجي أبو قاسم رمى جملته مثل جمرة نار ووضع كؤوس الشاي وذهب وابتسامة صفراء منافقة عالقة على شفتيه. هل كان شامتا أم متحديا أم أراد إثارة الخصومة بيني وصاحبي الحاج، ربما هذه أو تلك أو غيرها ولكنه هيج قلب الحاج أبو نجية الثملي وطير جريشه.
الجايجي أبو قاسم قال مزهوا بأنه حصل على بطاقة هوية لأحدى المنظمات العراقية ووضع أسمه في قوائم من سيمنحون قطعة أرض وراتب شهري والأدهى من ذلك قال بهمس وهو يقرب فمه بين رأسينا، البارحة وهبت تلفون آي فون بعد أن اشتركت في الوليمة وكنت أحد القائمين على رصف الصحون فوق الموائد ومراعاة طلبات الضيوف من الذين تحلقوا حولها لضرب الثريد ، ولمثابرتي وشطارتي وجديتي وسرعتي في العمل حصلت على الهوية والوعد والآي فون.
تلك الجمل السريعة الهامسة المصحوبة بابتسامة صفراء شامته أثارة حفيظة الحاج أبو نجية وجعلت الشرر يتطاير من عينيه الكليلتين أصلا. بادرت للتهدئة وأنا أدرك ما تضمره روح هذا الرجل فقلت لصاحبي أبو نجية لا عليك، لا تهتم ، فتلك مسألة واردة جدا وعمل طبيعي للجايجي أبو قاسم فهو واحد من منظمة مجتمع مدني كبيرة وواسعة تضم بين ظهرانيها الآلاف لا بل الملايين من البشر ولا يقتصر وجودها على أرض العراق. عند جملتي هذه ثارت ثائرة أبو نجية وأزبد وأرعد وراح يدردم بكلمات منفلته تنطلق مثل صلية بندقية رشاش ووجدت وكأن الشرر بدا يتطاير من عينيه ليحرق وجهي واتهمني بالتسويف والتبرير والمخاتلة وللمرة الأولى بعد عشرة عمر طويلة فاجأني بكلمات جافية قاسية.
ـ  ولك مو عيب عليك، متستحي ، يا منظمة مجتمع مدني يا بطيخ هذا صخام وجه، أنته عاقل مخبل ،، شنو بالله عليك يكول منظمة مجتمع مدني،، هاي هيه بس تكدر تتعيقل وتتفلسف، أبو قاسم الجايجي عضو منظمة مجتمع مدني، خبال والله خبال.
ـ يابه وداعتك حجي وداعت العشرة والزاد والملح،، كون على ثقة الجايجي أبو قاسم واحد من هاي المنظمة وإذا ما ترضه أسم  المنظمة معروف بكل العالم ،، سموهه منظمة لوكيه بلا حدود،، ليش أنته ليهسه متعرفهم،، نشيدهم الدائم أبو زركه طلع من بين البيوت.

ـ أدري كلش زين أبو زركه ثاولهم. هاي هم وحده من الأغاني الفاينه مالتهم ،، أعرفهم ،، أعرف اللوكية كلش زين.. ليش مو كليوم نقرالهم بالصحف والمواقع..ليش منو يسمي الصخل حجي صخيل والجلب حجي جليب ليش مو العكل جانت تردس ردس كدام صدام وقبله والقبل قبله.
ـ لعد ليش مستغرب من شغلة أبو قاسم الجايجي ؟؟.. هم خطية يريد يترزق..
ـ أي من عابت هيج اترزق يجي باللوك لوغية وصخام الوجه..
ـ عمي دعوف الناس هسه بقت على هذا المخربط أبو قاسم.لحكته جيف فقير... أي مو الله يجّرم هناك دكاتره وباحثين وشعراء وصحفيين ديشتغلون هاي الشغلة ومتونسين بيه..وديدنهم من عصر نبي نبشتم ونبوخذ نصر وسرجون ابن سنحاريب الأكدي ومعاوية أبن هند وهارون لحد زمن القائد الضرورته  صدام وهسه حبر الامة وقائد الجمع الأمين الزعيم أبو أسراء مراد علم دار العراق.. شغلتهم مو بس لوك لوغية.. شغلتهم يخبلون المسؤولين جبيرهم وصغيرهم ويخلون الناس ترجف حتى من الشرطي.
ـ أدري، وهذوله بكل وكت نلكاهم .. من جان صدام ركصوله مثل ما ركصو للبكر وقبله العبد السلام وقبل قبله نتذكر عبد الكريم كل القلوب تهواك .. عبد الكريم رب العباد يرعاك..
ـ أي لعد أذا كل هذا تعرفه شبيه روحك محموسه وطفرت من يم أبو قاسم الجايجي وصارت الدنيه ظلمه بعينك،،مثل ميكول المثل من يم أبن عمه وعكدت !!!!... سمي بسم الرحمن وعوفه لهذا الرجال الفقير،، موهناك عندك زلم خشنه !! راح يسون أبو أسراء المالكي أمام المتقين وحجة الإسلام والمسلمين ورسول رب العالمين وناصر الدين وهمين بعد راح يجي يوم يكولون المالكي علم العراقيين الحفاي شلون يلبسون قنادر.. مو فد واحد كام يشتغل يطيير فياله ويضرب صبغ بنتلايت ويكبر بروس حتى ربع المالكي.. وكلمن عنده خرده لو جاه عند مسؤول صار عنده أتباع وصارت منظمة لوكية بلا حدود أدافع عنه،لأن هو جان مناضل وأستشهد لعدة مرات ؟؟!! هو والعديد من عائلته وقت المقبور له صدام حسين. وليش همه اللوكية  شغلتهم بس على أبو أسراء وربعه  روح أفتر العراق من زاخو الحد أم قصر وشوف الصور والشعارات والقصايد والرقص والغناء والتكبير والتمجيد وأسمع الأخبار وأتمعن باللواكه وطيحان الحظ ألي متونسين عليها زعماء ورؤساء ووزراء وأتباعهم وحتى فراش المدير،  ويدفعون عليها فلوس. والناس يوميه سايل دمه بالشوارع ومحد يفتح حلكه.. و أبو أسراء والنجيفي بالحكم مطلب عظيمي.
ـ أعرف وداعتك أعرف... تره الفلوس تعمه العيون مو بس أجيب العروس .. والطبع ألي بالبدن ما يغيره غير الجفن.. بس هذوله حتى بدون فلوس يشتغلون لوكيه ...طبع بالجينات.
ـ ها حجي أبو نجية أشو وصلت للجينات، لهنا والحساب تغيير .. شنو فاحصهم لو امبحوشهم.. هنا راح نختلف .. تره اللوك لوغية ما تجي بالجينات هذي تربية بيتيه لو نقص بالنفس وشعور بالدونية ويمكن ترحيلها إلى طبع الأهل وخوفك من تصير بالمجتمع فكر جمعي.
ـ ها أشتغلت رحمة الله وكمت تتفلسف تربيه بيتيه وفكر جمعي .. دروح بابا روح ...يابه وروحه العفلق ألي ما ينحلف بيه بس من تنذكر الزمايل.. الشغله بالجينات .. ولوما بالجينات جان ما صاروا هذوله حنقبازيه ما ألهم مستقر..يوميه كَالبين عكرف لوي .. قبل ميضوكَون اللكَمة يهزون الذيل.. بالرغم من كونهم أباتر وهي جمع كلمة أبتر وأنت تعرف معنى شانئك الأبتر والعياذ بالله.هسه لو ينجبون مو أحسن وأشرف.
ـ هم يمكن وياك الحق... بس مال ينجبون هاي صعبه .. لأن الدوده حركتها قويه ورشيقه وتفتر مثل البروانه .. والبي ميخلي
ـ هسه مو انته همين تكول أني شاعر وطلعتلك تلث دواوين والصحف تنشر لك يوميه قصايد.. أشو ما سمعت منك قصيده لو مقال يمدح زيد لو عمر من المسؤولين.
ـ أفه عليك حجي بعد كل هل عشره والقرابه وحايط على حايط بعدك معرفتني.. ليش أني لوكي لو شايفني أمفلس لو جيناتي خربانه..
ـ حاشاك حبيبي حاشاك..
ـ هسه ما علينه.. تره شغلة أبو قاسم الجايجي متوكل خبز.. أذا انته متابع مسيرتي الشعرية وقاري قصايدي.. لعد دزلي نفر كباب وأني راح أحشر أسمك بالقصيدة ألي كتبته أمس وإذا دفعت الجايات راح أزودلك عجز بعد الشطر .

ـ ليش مو كتلك أني ... اللوك لوغية متأصلة بالجينات..
 



191
رئاسة الجمهورية العراقية إلى أين

فرات المحسن

تتضارب الأنباء الواردة عن صحة الرئيس العراقي السيد جلال الطلباني الذي يرقد في أحدى مستشفيات ألمانيا الاتحادية منذ ديسمبر / كانون الأول عام 2012 إثر تعرضه لجلطة دماغية دخل إثرها في غيبوبة، وقد تواترت الأنباء حول تحسن طارئ في صحته بعد تلقيه العلاج، وحسب تصريح طبيبه المرافق فأن الرئيس قادر على العودة ومزاولة مهامه الرئاسية، ولكن التنويهات الصادرة عن شخصيات مقربة من الرئيس أو ممن أتيح لهم الوقوف على حقيقة حالته الصحية تشير إلى قدرته على تحريك بعض أجزاء من جسده وشفتيه ولكن لم يستعيد ولحد الآن القدرة على تحريك جسده بالكامل أو الجلوس والوقوف على قدميه وتلك تشير إلى كون صحة الرئيس جلال لن تعود إلى ما كانت عليه سابقا مع تقدمه بالسن والسمنة المفرطة التي يعاني منها.في ذات الوقت تدار عدة لقاءات ومشاورات داخل أروقة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لتدارك المسألة وإيجاد البديل للرئيس جلال الطلباني في حالة وفاته أو عدم قدرته على العودة لمنصبه خلال الفترة المقبلة وتأتي تلك المشاورات على خلفية أقرار جميع الفرقاء في أحزاب وقوى وتيارات السلطة في العراق  بأحقية الكرد بهذا المنصب وحصره بحزب الاتحاد الوطني دون غيره. وضمن السقف الزمني في مثل هذه الحالة فأن المادة الدستورية رقم 75 في الفقرة ثالثا وضعت النائب الأول للرئيس بديلا له عند خلو المنصب وعلى مجلس النواب انتخاب رئيس جديد خلال مدة ثلاثين يوما. ورغم خلو المنصب منذ يوم 17 / 12 / 2012 ولكن لحد الساعة لم يرد تقرير طبي من المستشفى يشير أو يوصف حقيقة الحالة الصحية للرئيس بشكلها الدقيق أو يلمح لقدرته على العودة وممارسة مهام عمله في الفترة القادمة من عمر الفترة الدستورية التي تسبق الانتخابات البرلمانية القادمة مطلع عام 2014.

لكل طرف مشارك في السلطة رغباته وهواجسه ورؤيته لا بل تحفظاته حول ما طرح من شخصيات بديلة لا بل استعرت معركة من الطعون والتلميحات وجهت بالضد ممن عرض بديلا عن شخصية السيد رئيس الجمهورية مما جعل قيادة حزب الاتحاد الكردستاني تصدر بيانا أكدت فيه عدم وجود نية لديها في الوقت الراهن  لترشيح بديل عن الرئيس طلباني، وربط مثل هذا الأمر بما سوف يصدر عن الأطباء من قرار حول حالة الرئيس الصحية مشيرا إلى أتفاق جميع الكتل والقوى والأحزاب العراقية المشاركة في الحكم على مثل هذا وفي ذات الوقت فأنها جميعا تنتظر عودة السيد الطلباني ومباشرته لمهام عمله.

ولكن بعض الأنباء سربت على خلفية المداولات داخل حزب الاتحاد أشارت لشخصية السيدة هيرو إبراهيم أحمد زوجة الرئيس الطلباني كمرشح محتمل لرئاسة جمهورية العراق وعززه لقائها بالسيد مسعود البرزاني وما صدر عن ذلك من تلميحات وأخبار روج لها، أيضا لم يصدر أي تكذيب في هذا الشأن عن السيدة هيرو أو المقربين منها وكانت أنباء أخرى جاءت عن مصادر مقربة من القرار في إقليم كردستان قد  رشحت لذات المنصب السيد برهم صالح ومثله كوستر رسول.

ومع مضي الوقت وتدهور الوضع الأمني وتفاقم الصراع السياسي وتصاعد حدة الأزمات بين رئيس وزراء العراق السيد المالكي وخصومه المتعددين من الشركاء في العملية السياسية وخارجها بات من الواضح إن قضية رئاسة الجمهورية ومرض السيد جلال الطلباني قد أصبحت خلف الواجهة ولم يعد يكترث لحلها المتخاصمون ولايعنيهم ما يتسرب ويثار من تصريحات حولها وإنما الإبقاء على ما عليه الحال يقدم العديد من الخدمات وليس الخسائر للكثير من القياديين وفي جميع الأحزاب المشاركة في العملية السياسية.   

التوصيف الدستوري والقانوني لمركز رئيس الجمهورية لا يحمل أية صيغة تعطيه صلاحيات حقيقية في إدارة الدولة كون النظام في العراق برلماني حسب الدستور ولكن لرئاسة الجمهورية تأثير سياسي مهم ومؤثر فرضته طبيعة الشراكة في السلطة ومن ثم تراتيبية المحاصصة والعلاقات التعاونية السياسية السابقة، وكان للرئيس الطلباني دورا فعالا في حلحلة العقد التي يصنها البعض وعمل بشكل ايجابي على جسر الخلافات بين الخصوم وقدم خبرته السياسية بما ينفع العملية الديمقراطية.

حسب النصوص الدستورية فأن مدة الثلاثون يوما قد انصرمت ومثلها أشهر عديدة أخرى دون أن يلوح في الأفق أي متغير حقيقي يبشر بتحسن الحالة الصحية للسيد الطلباني، لا بل هناك مؤشرات على أن الجلطة الدماغية أثرت على جسده بشكل واضح وهو الآن مصاب بعوق لا يسمح له العودة لممارسة حياته الطبيعية والأدهى من ذلك ماصرح به النائب المستقل والقريب من مصادر القرار السيد حسن العلوي معطيا لوسائل الأعلام صورة عن وضع الطلباني المرضي مشيرا لكون الرئيس في حالة موت سريري.

في جميع الاحوال ومع تضارب الأنباء يتساءل الشارع العراقي عن المهام الكبيرة لرئاسة الجمهورية أو لرئاسة حزب الاتحاد الوطني والذي من الموجب أن يقوم بها السيد جلال الطلباني لو نهض من مرضه، وهو اليوم إن شفي وتعافى بشكل ما فهو يحتاج إلى نقاهة طويلة بعيدا عن هيئات وتنظيمات سياسية كانت أم إدارية وهذا الشيء ربما  يستغرق ما تبقى له من حياة طالت أم قصرت.

ومع أثارة المشكلة بين الحين والأخر وتضارب الأنباء عن صحة السيد الطلباني فإن عملية بلورة رأي موحد داخل العملية السياسية العراقية يؤكد فيه  على الجانب القانوني لحل إشكال غياب الرئيس وحسم خيار ترشيح البديل، يبدو هذا الهاجس المقلق يخضع لحسابات سياسية دقيقة وحساسة ويتعثر دائما برغبات ونزاعات شخصية داخل قيادات حزب الأتحاد الوطني المعني بالأمر وأيضا من خارجه وبالذات من الحلفاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني وباقي القوى السياسية العراقية.

فمراكز القوى داخل حزب الاتحاد تتوزع بين عدة رؤوس وأقطاب وبقاء الرئيس جلال حيا لحد هذا الوقت يساعد على تهدئة الأجواء وإخفاء الخلافات  ولو لحين ويبقيها داخل أروقة الحزب وفي ذات الوقت يجعل  تلك القوى مجبرة على الالتفاف حول رمز يحتاجه الحزب بشدة ويعد العنصر الحيوي لأبقاء الجميع في دائرة مركزية القيادة على حساب الطموح. فالمظهر العام يشي لصعوبة أن تتنازل تلك الأقطاب لتعطي الأفضلية لواحدا منها، فالجميع يشعر بأحقيته في منصب قيادة الحزب وحتى استحقاق رئاسة الجمهورية العراقية ولن يحدث أي نوع من التوافق لو أريد حسم الأمر في نهاية المطاف.

وعلى مستوى المشهد السياسي العراقي بشكل عام فهناك رؤى مختلفة وتضارب حول شخصية البديل وفي طبيعة ما يفضي له المشهد لو حسم  حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني خياره ورشح قيادي من كوادره بديلا عن الرئيس جلال الطلباني، فالقوى العربية التي تدير العملية السياسية لها تحفظاتها على العديد من شخصيات حزب الاتحاد الكردستاني وأن وافقت تلك القوى على شخصية ما فأن قوى أخرى لا تمنح تلك الشخصية رضاها وربما تقدم لها جانب الخصومة وترفض التعامل معها، وهذا وحده كان ومازال يمثل عصب المشكلة السياسية في إدارة السلطة في العراق، حين يمتزج الفعل السياسي العام بالخصومة الشخصية والمصالح الحزبية الضيقة ليتجاوز في فعلته هذه أطر وأعراف الديمقراطية وبنود الدستور في بلد ليس لمؤسسات الدولة  فيه غير وجهها المموه والضبابي لا بل الممسوخ.         

 

192
أين تختفي نتائج التحقيقات

فرات المحسن

لم يجد مفهوم حسن النية والثقة بين شرائح المجتمع العراقي مستقرا له على امتداد تأريخ العراق ككيان سياسي،  فالتنوع الطائفي والقومي وطبيعة التراكيب الاجتماعية والمذهبية أثرت بشكل حاسم في بروز ظاهرة الشك وعدم الثقة المتبادل بين الجميع. وكانت ظاهرة عدم الثقة بين المواطن والسلطة تطفح بحدة لتشكل المعلم الأكثر خطورة وحضورا في الحياة العامة، ويعزو السبب في ذلك لسياسات مؤسسات السلطة ومثله لطبيعة المجتمع العراقي بموروثاته الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
في عهد البعث أسس لنمط جديد من علاقات الريبة والخوف وانعدام الثقة ليس فقط بين المؤسسات السلطوية وأبناء الشعب وإنما استفحلت مظاهر التخوين والظن والتشكيك والوشايات عند الشعب ووضع الجميع في ريبة من أمورهم حتى البسيطة منها، خوفا من أن تؤول في غير محلها، وبات معها المواطن يخشى حتى من أقرب الناس أليه.

في الراهن من الوقت وبعد الاحتلال وسقوط منظومة الجريمة المتمثلة بحزب البعث ومرتزقته وسيطرة قوى سياسية جديدة على الشارع العراقي وانتشار وسائل الإعلام، راجت بضاعة بمهام مستحدثة مسيسة تجاوزت سابقاتها بالقدرة على الإيذاء وراحت ترفع من حدة سوء النية وعدم الثقة والريبة بين الأفراد والقوى والشرائح العراقية وما عاد المواطن معها ليعرف أين يضع قدميه وأي طريق يتوجب عليه اتخاذه. استعمال أسلوب الإشاعة السياسية والاجتماعية ليس بالجديد في الشارع العراقي ولكنه اليوم يعد من الأسلحة الفتاكة وذات الأثر المدمر وأصبحت وسائل الإعلام ملعبا وفضاءً واسعا ومباحا لها.
القوى السياسية وبالذات الحاكمة منها وبمختلف توجهاتها قدمت العون الكثير لترويج أسلوب الإشاعات والطعون والتخوين والظنون عندما ابتدعت ما سمي بالمخبر السري ليصبح واحدا من أكثر مجالات الارتزاق من خلال التكسب والارتزاق بإيذاء الآخرين عبر الوشاية بهم. أيضا فأن السلطة إن أرادت تمرير شيئا ما لصالحها سربت له إشاعة إعلامية ومثلها تفعل القوى المعارضة إن كانت مشاركة في العملية السياسية أم رافضة لها. ولذا يجد المواطن اليوم حيرة في أمره في محاولة مستحيلة لإمساك ما هو حقيقي من كل تلك التسريبات.
في واحدة من أكثر المساوئ التي تقترفها القوى السياسية الحاكمة لإشاعة الشكوك والظنون كانت وما زالت طبيعة تشكيل اللجان التحقيقية في الحوادث والوقائع السياسية والجرائم الكبرى التي وقعت وتقع اليوم فالمؤسسات الحكومية تعلن في حينها وبشكل متضارب تصريحات عجولة عن طبيعة تلك الأحداث ثم تخرج في اليوم التالي لتعلن وبشكل مخالف أو يتضارب مع طبيعة التصريح السابق، أو أن المؤسسات ذاتها تتنازع وتطعن في تصريحات بعضها البعض. وحين يعلن عن تشكيل لجنة تحقيقية  لاستجلاء طبيعة الحدث ومسبباته تختفي بعد وقت وجيز معالم تلك اللجنة وتصبح في خبر كان وتطمس جميع الوقائع وتروح معه التصريحات تتواتر في شطحات هزيلة متهافتة رغم ألم  المصاب الذي يعتمر قلوب الناس ويخلد في ذاكرتهم، ولحد الآن لم نسمع من السلطة الحاكمة ولو نتف بسيطة عن نتائج التحقيق في  أيام الأسبوع الدامية التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء شعبنا في جميع أنحاء العراق ولا حتى ما كان من جرائم السرقات الكبرى للمؤسسات المالية، أيضا ما ظهر من مخالفات وتزوير وسرقات وجريمة صريحة في صفقة أجهزة السونار الكاشفة وقرار المحكمة البريطانية المتخذ بحق صاحب الشركة المصدرة والذي يقابله إصرار الجهات الرسمية  العراقية على عدم الاعتراف بفشل تلك الأجهزة وتسببها بمقتل الآلاف من العراقيين وتشبث السيد المالكي ووكلائه في قوى الجيش والأمن الداخلي على التمسك بموقفهم السلبي تجاه مثل هذا الحدث الكبير يؤشر لضلوع الجميع من أعلى قمة في السلطة حتى أصغر مسؤول فيها وإن صمتهم يوحي بوجود مهام موكلة لتلك المؤسسات في التهيئة والتنفيذ ولذا تراها تبذل جهودا كبيرة لطمس معالم الجريمة.
بالرغم من معرفتنا بالأداء السيء والمتهافت لجميع المشاركين في مسؤولية إدارة الدولة وانعدام المهنية و جهل مطبق في إدارة الحكم ولكن هذا لن يعفيهم من أن يتهموا بالمشاركة الفاعلة في مثل تلك الجرائم، وعدم ظهور نتائج لأي نوع من التحقيقات يعني ضلوع تلك الأجهزة المباشر في اقتراف تلك الأفعال. وفي هذا الحال يجب أن لا يتناسى أصحاب القرار بأن تلك الحوادث ليس فقط راسخة في ذهن أهل الضحايا وإنما هي خزين ألم وخيبة وسوف تبقى دائما في ذاكرة الناس عن الفترة التي اقترفت فيها ومن كان يدير دفة الأمور حينها. 


 

193
رأي .. درء  للخطر القادم ودفاع عن شعب سوريا

فرات المحسن

الخطر القادم من سوريا إن سقطت السلطة هناك بيد تنظيمات جبهة النصرة السلفية والأخوان المسلمين وهم البديل الذي قررته الولايات المتحدة وعملائها ليحكم سوريا مستقبلا، سوف يشكل تهديد غير مسبوق  لعموم شعوب المنطقة وبالذات في العراق ولبنان والأردن. ويتغافل البعض عن هذا الخطر الذي يلوح في الأفق بحجج ومبررات تبدو في مجملها قصورا في الوعي السياسي أو تغليبا لمصالح أنية على المصالح الكبرى والمستقبلية لشعوب الإقليم . فإن كان حكام إقليم كردستان العراق يشيدون بما يحصل في سوريا ويقدمون الدعم المادي والمعنوي للبعض من القوى السورية العاملة ضد السلطة في دمشق على وفق ربط المصالح الآنية بالمستقبل القادم للشعب الكردي في سوريا كما يعتقدون فهم واهمون فقوى الإرهاب المتمثلة بالسلفيين والأخوان المسلمين سوف يكونون أكثر عنتا وممانعة بوجه الطموح الكردي لا بل وجودهم على رأس الحكم في سوريا مثلما تريده تركيا وقطر والسعودية سوف يكون وبالا وبالذات على كردستان العراق والكثير من مناطق العراق.
وذات الموقف الخاطئ تقع فيه سلطة الملك الأردني حيث يذهب بعيدا لتصديق ما تقدمه له الإدارة الأمريكية من تطمينات مستقبلية عن بقاء سلطته  في ذات الوقت الذي تفصح عن مشروعها الكبير للشرق الأوسط الجديد وفي القلب منه العراق والأردن وسوريا حيث الإطاحة  بحكوماتها لصالح الأخوان المسلمين والسلفيين يقع ضمن أولويات المشروع   تمهيدا لحروب مذهبية قادمة.
ومثل هذا الموقف الغريب تتبناه قوى سياسية وقطاعات شعبية عراقية تظن أن زوال حكم بشار الأسد ممكن أن يتمخض عنه مستقبلا نظاما ديمقراطيا مدنيا في حين تفصح جميع الوقائع كون الأخوان المسلمين وجبهة النصرة هما ذراعا الإرهاب في المحافظات السورية وأن سطوتهما ظاهرة حتى بين أوساط ما سمي بالجيش الحر الذي بات يتماهى  مع قوى الإرهاب في أفعاله وتحركاته وهما قوى تدمير للمجتمع وللحضارة، ولذا فسقوط الحكم  في سوريا لا يعني وفي اغلب الاحتمالات غير وصول تلك القوى المعادية للحريات المدنية والديمقراطية والمنادية بالعزل والتفرقة بين المواطنين والداعية لحروب مذهبية وقومية في الإقليم. 
أن انتصار شعب سوريا على قوى الإرهاب المتمثلة بالتنظيمات الطائفية السلفية يأتي في مقدمة المهام وهو نصر لقوى الحرية والديمقراطية ليس في سوريا وحدها وإنما في عموم المنطقة ويعد دحرا للمشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي الساعي لتمزيق لحمة الشعوب ودفعها للتقاتل والتطاحن المذهبي والعرقي. فليس المشروع القطري السعودي التركي بالتحالف مع الولايات المتحدة غير مشروع رجعي إرهابي يسعى لتربع الأخوان المسلمين وتنظيم القاعدة  على دست الحكم في سوريا مثلما استحوذوا على السلطة في مصر وتونس وليبيا والسودان، لتبدأ بعد سقوط سوريا معركة غزو العراق مجددا ولكن هذه المرة بقيادة جراد البعث والأخوان المسلمين وتنظيمات القاعدة وهدفهم الرئيسي المعلن قتل العراقيين من المذاهب الأخرى وأيضا المخالفين للرأي أو طردهم خارج الحدود وبناء الدولة  الإسلامية السلفية الطائفية وشعارهم إرجاع عاصمة الخلافة بغداد وإفراغها لصالح طائفة واحدة دون غيرها،ومثل هذه النية الخبيثة بدأ الإعلان عنها استباقا للحدث الكبير المتمثل بسقوط دمشق بيد الإرهاب  فهل ترعوي قوى الشعب العراقي ممن تقف بالضد من الإرهاب السلفي والبعثي لتعيد تدقيق حساباتها ومواقفها وتقوم برصد وتشخيص حواضن الإرهاب وممثليه لتقول كلمتها وتندفع بكل همة لنصرة الشعب السوري ومساعدته بمحنته وتقديم العون له لدحر قوى الإرهاب والجريمة  وليقول الشعب السوري بعدها كلمته عبر بوابة الانتخابات  الديمقراطية والحريات المدنية بعيدا عن سلطة البعث ومثلها قوى السلف والأخوان المسلمين وتنظيمات الإرهاب الأخرى.
 على قوى الشعب العراقي الحية الحضارية والديمقراطية  تبني مشروع حيوي وحقيقي مادي في أساسه ومعنوي في توجهاته لمساعدة الشعب السوري وقواه الوطنية الديمقراطية لاتخاذ طريق الحوار السلمي الحضاري كخيار ملزم لمشروع ينقذ سوريا الخراب ومحنتها التي طالت ويضعها على طريق السلم الاجتماعي. ولتكن تلك القوى في المكان المناسب بعيدا عن التخوف واتخاذ موقف التخاذل حسب المثل القائل ابعد عن الشر وغنيله في ذات الوقت الذي نجد الشر يزحف في الجوار وعلى الجميع أن يسكب الماء على لحيته استعدادا .
 فبعد تعري سياسات تركيا وقطر الداعمتان الرئيسيتان  للإرهاب وظهور مستجدات تشير لهزائم متتالية لقوى الأخوان المسلمين وجبهة النصرة في الكثير من المواقع في ساحات المعارك وصمود الجيش السوري مع تغيير ملحوظ في الموقف ألأممي فالظروف باتت مناسبة لتقديم نوع جديد وفعال من الإسناد والدعم المادي والمعنوي للشعب السوري وقواه الوطنية التي تسعى ليكون الحوار السلمي طريقا لحل المشاكل في سوريا واستعدادها للجلوس مع ممثلين عن نظام الرئيس بشار الأسد دون طرح شروط تعجيزية  يمكن لها أن تحبط مشروع المصالحة بعد أن أدركت هذه القوى  أن الإرهاب بمساعدة حلف الشيطان بقيادة أمريكا وتحالف إسرائيل وقطر وتركيا والسعودية لن ولن يقدم للشعب السوري غير خيار الدم والدمار وتفتيت الوطن .




194
المهرجان الثاني للأغنية التراثية العراقية
بمناسبة يوم المرأة العالمي وعيد نوروز الخالد




وسط حشد كبير من أبناء الجالية العراقية بمختلف مكوناتها وطوائفها أحيى نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، مساء يوم الجمعة المصادف 8 آذار 2013، وبدعم من المركز الثقافي العراقي وبرعاية اتحاد الجمعيات العراقية في السويد، اليوم العالمي للمرأة وعيد نوروز الخالد عبر مهرجانه السنوي الثاني للأغنية العراقية الأصيلة، وهو أحد المهرجانات السنوية الكبيرة للنادي، التي يحرص  فيها على أحياء تراث رواد الأغنية العراقية من الذين قدموا فنا راقيا وإبداعا مازال ماثلا في ذاكرة وذائقة العراقيين، أيضا فأن النادي يحرص دائما على أحياء مثل هذه المهرجانات لغرض  التواصل مع  أبناء جاليتنا العراقية في ستوكهولم وتعزيز اللحمة بين أوساطها ومع ناديها وكذلك توطيدا لأواصر الروابط مع الوطن الأم من خلال استحضار التراث والثقافة والفنون والمعارف العراقية بمختلف تنوعاتها ومشاربها.
 

غصت قاعة الحفل في شيستا تريف الواقعة في شمال العاصمة السويدية ستوكهولم على سعتها بالجمهور الذي لم يجد البعض منه مكانا له فاضطر لمتابعة الحفل وقوفا. وقد ابتدأ الحفل بعزف النشيد الوطني العراقي، بعدها أعلن عريف الحفل الاستاذ قيصر السعدي بدأ الاحتفالية، بالترحيب بالحضور الكريم وتهنئتهم بالمناسبتين العزيزتين، وبالوزير المفوض في السفارة العراقية الدكتور حكمت داوود، ومدير المركز الثقافي العراقي في السويد الدكتور أسعد راشد، ورئيس اتحاد الجمعيات العراقية في السويد الاستاذ عبد الواحد الموسوي، وممثلي الاحزاب والمنظمات العراقية في السويد. وبعدها قام بدعوة رئيس الهيئة الادارية للنادي الاستاذ حكمت حسين لإلقاء كلمة النادي بالمناسبة والتي جاء فيها: "الحضور الكريم، مساء الخير... باسم الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، وباسم لجانه العاملة وأعضائه أهنئكم وأحيي حضوركم الجميل وتلبيتكم لدعوتنا ومشاركتنا احتفالنا هذا الذي نقيم فيه مهرجاننا الثاني للأغنية التراثية العراقية إحتفاءا  بالمناسبتين السعيدتين، عيد المرأة العالمي وعيد نوروز الخالد، وأيضا الخاص باستذكار وتكريم فنانينا القديرين الذين قدموا، ومازالوا يقدمون أروع وأبدع الاغاني في عالم الفن والطرب الأصيل. هذا المهرجان أصبح واحداً من المهرجانات الثقافية والفنية التي يقيمها النادي سنويا. ويقدم  من خلالها العديد من الفعاليات والاحتفالات، يعرض فيها ما يمكن عرضه من تراث وفلكلور وفن وتشكيل ومسرح وأدب عراقي وهذا النهج وبمشاركتكم ومساندتكم سيكون متواصلا ومنوعا.
فنحن أعتدنا أن نحتفل كل عام بهاتين المناسبتين السعيدتين، فاليوم العالمي للمرأة وهو يوم نحتفل به مع جميع نساء العالم بعيدهن الكريم ومنهن المرأة العراقية واحتفالنا هذا هو تكريم المرأة الأم والأخت والزوجة والابنة والصديقة. والنسوة العراقيات مازلن تواقات للحرية والمساواة، ويطمحن ليكون لهن دوراً حيوياً وريادياً في حياة الشعب العراقي بكافة مكوناته وبما يتناسب وطاقاتهن الكبيرة.
واليوم أيضا، نحتفي بعيد نوروز الخالد الذي نبارك فيه لشعبنا الكردي ولجميع الشعوب بحلوله، فهو اليوم الجديد لعام جديد والأول من فصل الربيع وتحتفل به شعوب العالم أجمع وهو جزء من التراث الحضاري الانساني لشعوب الشرق ونحتفل به اليوم ليكون لنا عيدا للمحبة والخير والسلام... أصدقائنا الاعزاء... مرة أخرى أرحب بكم وباسمكم أسمحوا لي أن أقدم آيات الشكر والامتنان للمطربين الفنانين الذي يشاركون اليوم  أحياء مهرجاننا هذا ومساهمتهم الكريمة في الاحتفال بيوم المرأة العالمي وعيد نوروز الخالد. وأترككم مع فقرات المهرجان راجيا أن تنال رضاكم وأن تستمتعوا الى أصوات فنانينا المبدعين. وشكرا"




  
عاد عريف الحفل ليستعرض منهاج الحفل المتضمن استذكار الإبداع الفني لنخبة من رواد الأغنية العراقية السبعينية وهم كل من المطرب ياس خضر، المطرب فاضل عواد، المطرب فؤاد سالم، المطرب حسين نعمة، المطرب حميد منصور والمطرب سعدون جابر وكذلك لنخبة من رواد الأغنية الكردية العراقية وهم كل من المطرب علي مردان، المطرب خليل وندي، المطرب حسن كرمياني، والمطرب شمال صائب. وبقراءة موجزة عن السيرة الشخصية والفنية لكل مطرب أخذ عريف الحفل الاستاذ قيصر السعدي بالطلب من المبدعين الشباب المطربين العراقيين من أبناء الجالية في السويد ممن شارك في إحياء الحفل لتقديم بضع أغاني لكل مطرب من الرواد وشارك في أحياء ذلك الإبداع كل من المطرب جلال جمال، المطرب آري كاكائي، المطرب مدحت سهيل، والمطرب صفوت الشذر.

قدم المطربون الشباب طاقات غنائية خلاقة أبدعوا وأجادوا فيها لإيصال النغم العراقي الأصيل والجودة والرقي لتلك الألحان الخالدة التي قدمها رواد الأغنية السبعينية وقد استمتع الجمهور بتلك المجموعة من الأصوات الشابة القوية والشجية وبتلك الأغاني الراقية فراح مشاركا المطربين في ترديد الالحان وقد بلغ تفاعل الجمهور أوجه لتضج القاعة برقص جماعي وتصفيق وفرح غامر .

 

أشتمل الحفل على فترة استراحة قصيرة قدمت فيها المعجنات والعصائر والقهوة والشاي، بعدها عاد الجمهور ليحضر حفل توزيع الشهادات التقديرية لبعض الشخصيات التي شاركت في التهيئة والأعداد والتحضير للعديد من مهرجانات النادي وهم؛ هادي الجيزاني، احمد طه، توما شمعون، بهجت هندي، سعدي الحداد، سمير مزبان، بشار الربيعي، عدي عيال، باسم ناجي، سنار شمعون، محمد المنصور، جاسم ولائي، ونبيل تومي. وكذلك قدمت شهادة تقديرية لمركز أعلام اتحاد الجمعيات العراقية لجهوده المبذولة في دعمه مهرجانات النادي استلمها الاستاذ فرات المحسن، أيضا وبالمناسبة العزيزة عيد المرأة تم توزيع الزهور الجميلة على النساء الحاضرات للفعالية. ثم بدأت الوصلة الثانية من الاحتفالية وفي نهاية الحفل قدمت هدايا وشهادات تقديرية للمطربين؛ جلال جمال، آري كاكائي، مدحت سهيل، ووصفي الشذر، والموسيقيين؛ ناظم علي، تحسين البصري، فرات القريشي، سنان قيس الرشدي، ومصعب، والاستاذ قيصر السعدي، الذين شاركوا في أحياء الحفل، وكذلك تم شكر قناة العراقية والسيد حيدر الفتلاوي لتغطيته هذه الفعالية. وقد نال مهرجان النادي هذا العام استحسان وإطراء العديد من أبناء الجالية الذين عبروا بشكل عفوي عن فرحهم وسرورهم وشكرهم لما بذله أعضاء النادي من جهود لتقديم مثل هذه الفعالية الراقية  


اعداد التقرير: اللجنة الثقافية للنادي
تصوير: سمير مزبان، وباسم ناجي
البريد الالكتروني: idkse@yahoo.se

195


ليت الكرد الفيلية بعثية كانوا

فرات المحسن

لم يبخل السيد المالكي في تقديم ما يلبي مطالب المتظاهرين في القسم الغربي من العراق وقد شكل  مضطرا وعلى عجالة لجنة سداسية برئاسة السيد حسين الشهرستاني لاستلام شروط التظاهرات وتلبية المطالب المشروعة منها وقد نفذت اللجنة أكثر من واحدة من تلك المطالب، فقد أطلقت سراح ثلاثة الآف سجين، وهذا العمل قد أظهر الظلم الذي كان ومازال يقع على أبناء الشعب وجاء القرار ليثبت صواب بعض مطالب المتظاهرين، أيضا قامت اللجنة بإعادة الاعتبار للكثير من البعثيين بإرجاعهم إلى دوائر الدولة أو إحالتهم على التقاعد وتعويضهم وإعادة أملاكهم ورفع الحصار عنها وأعلنت إنجاز أكثر من ثلاثين ألف معاملة في هذا الجانب وأيضا رفع رواتب أعضاء الصحوات (المؤلفة قلوبهم ) إلى 500 ألف دينار ودمج غالبيتهم في دوائر الدولة .
لا اعتراض على مثل ما قامت به اللجنة وقدمت خدماتها بعجالة وتأكيد وشهامة تحسد عليها لشرائح من المجتمع نتعارض مع منهجها وفكرها وأساليب عملها ونؤشر عليها الكثير مما أضر بالوطن العراقي، ولا نمانع من أنصاف من أصابه الغبن أي كان من أبناء هذا الوطن، لا اعتراض لدينا ولا ممانعة فربما لسلطة المالكي رأي سياسي في كل هذا، ونعترف بأن هناك من يرى ضرورة أن يعود هؤلاء ليندمجوا في العملية السياسية وحينها يعاد تأهيلهم ليكونوا أبناء بررة ويتخلون عن عقيدتهم الانقلابية ودمويتهم ، نقول ربما ولعل الأيام تثبت صواب قرارات لجنة حسين الشهرستاني.
ولكن استغرابنا يأتي من مرحلة وطبيعة الأحداث التي دفعت السلطة لتشكيل لجنتها وهذا ما يجعلنا نحمل كومة أسئلة موجعة توجه وترتفع في صراخها مع كل تلك القرارات السريعة والأوامر الإدارية المستعجلة والكتب الممهورة والمختومة بيد السيد المالكي رئيس مجلس قيادة وزارات العراق ورئيس مجلس قيادة حزب الدعوة الإسلامي العراقي ونائبه رجل المرحل المتعددة السيد حسين الشهرستاني التي أعادت لجنته للبعثيين حقوقهم وأنصفتهم. فنحن  نتساءل وقلوبنا يحزها الوجع ما الذي دفعهم لتلك العجالة والاستبسال في تلبية مطالب المتظاهرين..
نسأل السيد المالكي ما الذي جعله يشكل اللجنة ويمنحها كل تلك الصلاحيات ؟؟!!
أهو الخوف والضغط من الطرف الأخر ؟؟!
أذا كان جوابه ولجنته يتحدث عن أبناء وطن وغبن أصاب البعض منه وفي ذات الوقت نجده وجماعته يكابرون وينكرون الخوف من التهديد الذي تعرضوا له والذي واجهتهم به تظاهرات أبناء العراق من المناطق الغربية وشروطهم المفزعة. وهذه النقطة بالذات تجعلنا نسأل السيد المالكي وإدارته ، أي منطق مسؤول جعلكم تتخذون مثل تلك القرارات، وبدورنا نتهمكم بالعقوق وعدم أنصاف من هم أكثر وجعا ومظلومية من الذين شملتهم قرارات لجنة السيد الشهرستاني.
وهنا نثير في وجوهكم ما يوجع الضمير الإنساني ومازال يدمي قلوب الألوف ويجعلها تكفر بجميع المسميات التي تتسمون وتتشفعون بها. عشر سنوات يلوك الوجع قلوب أبناء العراق الاصلاء ويدميها وأنتم وقلوبكم وضمائركم لاترحمهم بل توغل في تعذيبهم وإذلالهم كونهم ضحايا حزب البعث الذي مارس عليهم الهولوكوست حين كنتم أنتم تتمتعون بحرية العيش ورغده. ما هو موقفكم وعشر سنين مضت دون أن يأخذ مظلوم حقوقه منكم وليس من غيركم .مظلوم تسابقتم وهرولتم لتلبية جميع شروط ومطالب ظالمه وقاتله ومعذبه، ولكنكم أبقيتم هذا المظلوم مهجرا تائها مربكا يلوك ألمه وفقدان هويته العراقية وهو يدور بين دائرة وأخرى ويترجى أن يأتيه الفرج مع أمل بقرار ربما يصدر عنكم لينصفه بعد كل تلك العذابات والآلام  وليسترد البسيط مما ضاع منه. عشر سنوات وهو يبحث بين المقابر الجماعية عن أبنائه وبناته ولا يجد لهم جدثا أو بقايا عظام أو حتى ذكر في سجلات، عشر سنوات وما زال هناك أعداد غفيرة منهم في مخيمات الجوع والذل. 
لا تخافوا فلن يهددكم الكرد الفيلية ولا ثوار انتفاضة آذار بالزحف على بغداد واحتلالها ولن يرفعوا بوجوهكم شعار إسقاط سلطتكم أو لافتة تقول أرحل أو علم وراية بنجوم أو غير نجوم تقض مضاجعكم، ليس في خاطرهم مثل هذا فمن تحمل فقدان سبع آلاف من فلذات كبده في سجون البعث ومقابره الجماعية مازال صابرا مكابرا ينتظر أن ينتصف له من يدعي القرب منه. منذ عشر سنوات وهو ينتظر  تشكيل لجنة شهرستانية كانت أم مالكية، أديبية أم جعفرية، بدرية أم مجلسية، صدرية أم كردستانية، أين كانت مسمياتها تعيد له حقوقه مثلما فعلتها لجنة السيد حسين الشهرستاني .
يا ترى من هو أحق بالإنصاف يا سيادة رئيس الوزراء ورئيس اللجنة السيد حسين الشهرستاني  هل هم بقايا البعث والإرهاب أم الكرد الفيلين الذين ما زالت قضايا الغالبية منهم عالقة بيد موظف بعثي أو دائرة تتلذذ بتعذيبهم وأهانتهم واتهامهم بأن لا وجود لوثيقة تثبت عراقيتهم.
يا أحزاب العملية السياسية وقادتها ، يارجال الدين، يا رجال العشائر ويا قادة منظمات المجتمع المدني، من هو أحق بالأنصاف ؟؟، أعضاء حزب البعث وقادة جيش الدكتاتور صدام حسين ورجال أجهزته القمعية وفدائي صدام أم الكرد الفيلية الذين هجروا وغيب أهلهم وأبنائهم ومثلهم ثوار انتفاضة آذار المجيدة. أي زمن هذا يا سيادة رئيس وزراء عراق الغرائب وقادة ديمقراطيته العتيدة.
 ليت الكرد الفيلية أصبحوا أعضاء في حزب البعث ليأتي مثلكم لينصفهم.



196
مدحت المحمود وقرار تدجين مؤسسة القضاء العراقي

فرات المحسن

حالات الاعتصام التي نفذها القضاة في الكثير من مدن العراق استنكارا للاتهامات التي وجهها عضو البرلمان العراقي صباح الساعدي لرئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي مدحت المحمود واتهامه بصلاته بحزب البعث، عدها البعض تضامنا مشروعا لأصحاب مهنة أو وظيفة واحدة توجب على من يمتهنها التكاتف مع بعضهم البعض درءا لخطر يهدد وحدتهم بالصميم ويثير الشكوك في نزاهة أعمالهم وقراراتهم المتخذة، وقد تضامن البعض من غير سلك القضاء مع السيد المحمود على خلفية سياسية ومصالح وارتباطات جمعتهم خلال فترة العشر سنوات الماضية.
يعد القضاء ومؤسساته من أهم المرتكزات في مفاصل الحياة  اليومية في العراق وكان له  دورا مشهودا في تركيبة بنية تاريخ العراق الحديث وعدت وقائعه في الكثير من الأحيان المدونة التي يرجع لها حين يراد أرخنة أحداث لوقائع مهمة مرت على الشعب العراقي. فمحاكم العهد الملكي كان لها وقائعها المدونة وكذلك محكمة الشعب في عام 58 بوقائعها ورئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي والتي أسست لمحاكمة رجال العهد الملكي ومازال يتردد صداها في ذاكرة العراقيين ووقائعها وسمت ملامح مرحلة سياسية مضطربة لعراق ما بعد الملكية وباتت جزأ من الوقائع التاريخية المختلف عليها داخل الأوساط السياسية. أيضا لا يمكن نسيان دور المحاكم الطارئة التي كان يشكلها مجلس قيادة الثورة في عهد البعث الفاشي لتجريم الخصوم وإصدار أوامر إعدام مخالفي الرأي وكان جلها محاكم سرية  أمنية وعسكرية أو حزبية من مثل المحكمة برئاسة مسلم هادي أو المحكمة العسكرية برئاسة العقيد علي هادي وتوت وغير تلك المحاكم الكثير وما كان أخرها محكمة الثورة بقيادة المجرم عواد البندر.
تعود وقائع عملية تدجين مؤسسة القضاء العراقي لفترة متقدمة من حكم الدكتاتور صدام حسين حين أوعز وبعد دراسة مستفيضة قدمت له من قبل لجنة مختصة بشؤون القضاء ترأسها القاضي مدحت المحمود الذي كان يعمل وقتها مستشارا قانونيا للدكتاتور صدام ولمجلس الوزراء، أوعز أثرها الدكتاتور بتقنين معهد القضاء العالي واقتصار قبول الدراسة فيه على المحامين أو العاملين في مؤسسات الدولة من خريجي كلية القانون والسياسة وبشروط ومواصفات ذات طابع خاص. فممارسة المحاماة لفترة محددة تعد شرطا مناسبا للدخول إلى المعهد على أن يكون المتقدم متزوجا وليس اعزبا أو مطلقا ولكن الأهم وبما يتقدم تلك الشروط هو الانتماء لحزب البعث وهذا الشرط وضعت له مواصفات بعينها لا يمكن تجاوزها أو إهمال أحدها، تبدأ بمصادقة المنظمة الحزبية على انتماء الشخص لحزب البعث ثم وجوب حصول المتقدم للدراسة في معهد القضاء العالي على تزكية المنظومة الأمنية في المنطقة أو الشعبة الأمنية لعموم المدينة حيث يؤشر في ملف الطالب سلوكه الشخصي وعلاقاته اليومية والروابط العائلية والأهم في ذلك علاقته بقوى المعارضة ولا يقبل في المعهد أن ثبت وجود ميول أو أي نوع من علاقة قربى مع هؤلاء.
لم يكن إغلاق معهد القضاء العالي واقتصار الدراسة فيه حصرا لمنتسبي حزب البعث السبب الوحيد في تردي أوضاع مؤسسة القضاء في العراق  فالتدخلات الشخصية والضغوط  الحزبية باتت عاملا فاعلا وعلامة فارقة في ما يصدر  من قرارات عن المحاكم ، وقد أنهار نظام القضاء بشكل كبير مع سنوات الحصار الاقتصادي التي جرت المجتمع العراقي نحو حالة مؤلمة من البؤس والفقر والحرمان، وأولى نتائج الحصار المضرة والموجعة ظهرت بين أوساط موظفي دوائر الدولة ومن المؤسسات التي أصابها الانهيار كانت المؤسسة  القضائية والمؤسسة الأمنية حيث بدأت تصدر عن القضاء وكذلك الأجهزة التنفيذية الممثلة بقوى الأمن والشرطة قرارات وأفعال تنحوا والحالة العامة من الانهيار الاقتصادي الذي أصاب الشعب العراقي،وأضحى غالبية من القضاة حالهم حال مراكز الشرطة وضباطها وباقي منتسبيها يتعاملون مع قضايا الجنح والجنايات بقدر ما تدر عليهم من مال حرام وأمست الرشا الطابع الغالب على عمل تلك المؤسسات ونشأت عصابات مختصة في مجال التغلغل في مؤسسات القضاء وقوى الأمن لتجير قرارات القضاء والمحاكم  لصالح دافعي الرشا، وبمشاركة جهاز المخابرات والاستخبارات العسكرية والمنظومة الحزبية وأقارب ومرتزقة الدكتاتور كانت قرارات القضاء العراقي تخضع للابتزاز والمساومات  ولا تجد أمامها سوى مجارات تلك القوى وتقديم كل ما يخدم طموحاتها ومشاريعها وبدا الأمر وكأن مؤسسة القضاء قد ابتلعت بالكامل وباتت تعمل كمرتزق وأجير وحسب ما يقدم لها.
عشرون عاما وهي فترة تقنين معهد القضاء العالي واقتصار الدخول فيه على البعثيين لحين سقوط حكم البعث الفاشي عام 2003 تخرج من هذا المعهد المئات من القضاة الفاسدين المرتشين والمرتزقة الذين لديهم استعداد تحت سطوة شهوة المال الحرام أو الارتزاق تقديم الخدمات لمن يدفع . سنوات قرار الدكتاتور المقبور بإغلاق معهد القضاء وما نتج عنها تعد واحدة من أكثر القرارات خطورة وسوءة وضعت القضاء العراقي في أحلك وأحط صوره وقادته لانتكاسات شكلت علامات فارقة في تأريخه وتأريخ العراق الحديث لا يمكن معها الإدعاء بنزاهته مهما قدم من جهود ومثابرة ومرافعات ودفوع سياسية كانت أم مهنية  لمحو ما لوث أردانه منذ عهد الدكتاتورية ولحد اليوم وليس من السهولة أخراجه من خرابه بغير إعادة هيكلته من جديد وفق اختبارات مهنية وأخلاقية وكذلك تنظيفه من جميع من كان أداة بيد عصابات الرشا والتلاعب بقرارات المحاكم ووضع القضاء في مجال الشبهات والطعون.     





197

سلموهم للقضاء في الانبار وليس لغيره

فرات المحسن

لم يكن ظهور عزة الدوري بالحدث البعيد عن باقي التداعيات الخطيرة في الساحة العراقية وليست التصريحات والأصوات التي تستبعد وجوده  داخل العراق تملك شيئا من الحقيقة أو اليقين في مثل هذا الأمر، لا بل العكس فأن وقائع السنوات العشر الماضية  أشار لوجود حواضن للإرهاب تنتشر في أرض العراق أكثر من الإرهاب ذاته، ووصل الحال من الرخص والابتذال بتلك الحواضن أن قدمت نسائها للنكاح الطارئ قربانا وتقربا من رجال العمليات الإرهابية الذين يأتون لذبح العراقيين . ومن ينكر وجود عزة الدوري في العراق فليذهب ويستمع لهتافات المتظاهرين وقادتهم المحتشدون منذ أسابيع وبإصرار غريب تحت راية صدام حسين ذات النجوم الثلاث وكلمة الزور الله اكبر، فكل شيء يشير هناك لوجود حقيقي وبزخم عالي لتنظيم حزب البعث، وما محاولات بعض قادة القائمة العراقية أبعاد العلاقة بين التظاهرات وحزب البعث غير محاولة إعلامية مقصودة أعد لها أعدادا جيدا وفق توقيتات وسياقات و تبادل ذكي للأدوار، وكل ذلك يأتي مترافقا مع مجريات الوضع في سوريا وهو عمليا جزء من الحشد والإعداد الذي تقوده أمريكا وأذرعها تركيا وقطر والسعودية لتغيير وجهة وسياسات حكومات الإقليم لصالح الأخوان المسلمين والسلفيين لتشتعل المنطقة في نهاية المطاف بحروب مذهبية على خلفية تقسيم عرقي وطائفي يضمن على المدى البعيد اختفاء أي نوع من أنواع التهديد للمصالح الغربية وأمن إسرائيل.

في هذا المشهد نرى إن المرتبطين بحزب البعث يمثلون اليوم قوة ذات شأن بين رجال السلف وبالذات منظمة القاعدة وذراعها دولة العراق الإسلامية وعلاقتهم مع تنظيمات الحزب الإسلامي باتت في أعلى درجات وثوقها، كذلك لهم الكثير من التأثير على رؤساء عشائر وشخصيات دينية ومدنية وتتوفر لهم سطوة على الشارع السني من خلال قادة الجيش العراقي السابق من أبناء تلك المناطق، لذا فإن مظاهرات واعتصام الجماهير في المناطق الغربية سبقتها تحركات واسعة وفعالة لحزب البعث ومثله لرجال دين وتجار حروب في خارج العراق وداخله من المرتبطين بالإخوان والسلف، وتؤشر لهذه الصلة الهتافات الطائفية الاستفزازية والإصرار على رفع علم البعث وكذلك قيادة رجال الدين للتظاهرات ودعواتهم الطائفية المبطنة، وقد نجح قادة البعث ومرتزقتهم ورجال الدين باستدراج الأبرياء والسذج والعاطلين عن العمل وكذلك استغلال سوء تصرف سلطة السيد المالكي وعماها السياسي والإداري مع نقص الخدمات  ليكون كل ذلك وقودا لتلك التظاهرات ومن ثم العمل من خلال ذلك لتمرير أهداف المؤامرة القادمة لا محال وهي إسقاط العملية السياسية الكسيحة ومن ثم تفتيت العراق  بحرب طائفية أو بفعل أخر.
لقد اجتمعت قوى الشر لتحيط بالعراق من كل حدب وصوب وهي ساعية لإسقاط العملية السياسية في العراق مهما كان نوعها أو طبيعتها، وما شجعها على ذلك علل وقصور وتخبط سلطة المالكي وحلفائه،  وغاية هؤلاء الأوباش أن يكون العراق حاضنة عربية سلفية ليس فيه اثر لمشاركة أطراف لا تربطهم وشائج بالإخوان المسلمين أو السلفيين وما عاد رجال هذه المهمة وفي سعيهم الحثيث لتغيير الخارطة السياسية والجغرافية  للمنطقة يخفون توجهاتهم أو نواياهم، فنجدهم يشهرون أهدافهم بشكل صريح وواضح وهم يمتلكون شبكة إعلام محلية ودولية واسعة تقدم لهم العون في تمرير الكثير من الأكاذيب والخطب والشعارات المنافقة لاستدراج الأخر وطمأنته  ومن ثم إخضاعه، ولهذا وجدنا الكثيرين من الذين وقعوا في حبائل هؤلاء باتوا لا يعرفون أين يضعوا أقدامهم وهي الحالة التي تسعى لها قيادات الأخوان والسلفيين كذلك رجال البعث للنفاذ نحو أهدافهم وتغيير خارطة القوى عبر خلخلة الأرض من تحت أقدام قاصري التفكير ومراهقي السياسة.
واتضحت الكثير من أبعاد المؤامرة من خلال مشهدين أو حالين، الأول امتناع قادة الاعتصام عن قبول التفاوض مع السلطة وأيضا تشكيكهم بنتائج اللجنة التحقيقية ونأيهم عما تحقق من نتائج قدمتها تلك اللجان خوفا وتوددا قربانا لمطالبهم، كذلك عزوفهم عن تلبية النداءات العقلانية بعدم رفع الشعارات الطائفية الاستفزازية وإصرارهم  على رفع شعارات البعث والسلفية الجهادية والسعي لتصعيد المواجهات بالإصرار على عدم فك الاشتباك لحين تلبية مطالبهم بإطلاق سراح جميع المساجين دون استثناءات  وإلغاء قانون المسائلة والعدالة ومثله قانون مكافحة الإرهاب وتقنين مداهمة البيوت، وتلك أهداف واضحة الغايات لا لبس فيها،  إما المشهد الثاني فقد تمثل بواقعة المواجهات بين الجيش والمعتصمين حيث قتل من الجانبين عدة أشخاص كانوا في اعتقادي كبش فداء أريد من مقتلهم تصعيد في حدة المشهد وقد نفذت الواقعة بتوجيهات معروفة وبإياد خبيثة. فالمعتصم أو المدني الذي رمى الحجارة واختطف الهمر أو حاول اقتحام المعسكر أو نقطة التفتيش وقتل الجنود وهي حادثة تريد قيادات التظاهرات ومنهم رجال القائمة العراقية إخفائها وأبعادها عن التحقيق، ومثله العسكري الذي أطلق الرصاص على المتظاهرين، كانوا مدفوعين من قبل قادتهم الذين أمروهم لتنفيذ المهمة ، والعسكري ذاته أما أن يكون مرتبط  بحزب البعث وهذا ليس مستغربا مع حال الجيش العراقي الحالي  وكثرة من قادته ومنتسبيه على ارتباط بشكل أو أخر بحزب البعث، أو أن العسكري الذي ظهر وهو يوجه غدارته نحو صدور الجماهير مرتبط بتنظيمات الحزب الإسلامي ومليشياته من مثل حماس العراق وغيرها.وفي كل الأحوال فإن العسكري الذي وجه رصاصاته إلى صدور المعتصمين بتلك البرودة والوحشية ومثله من المدنيين الذين وجهوا قاذفاتهم نحو الجنود، لم يكونوا غير  أشخاص مدفوعين  لتنفيذ مهمة أريد منها تصعيد الموقف ودفعه نحو فتنة كبرى. وإذا أرادت سلطة المالكي كشف مثل هذه المؤامرة القذرة فلتسارع وتسلم هؤلاء الضباط والعسكريين للقضاء في محاكم محافظة الأنبار وليس سواها وهناك سوف يتضح كل شيء وتتكشف وتتعرى المواقف ، إن كانت سلطة المالكي حقا بريئة وبعيدة عن ما حدث في الفلوجة، وهو اتهام له ما يبرره مع سعي القوى السياسية لتقسيم العراق عبر إيصال الناس إلى حالة من الإحباط والمحن والأزمات ودفعهم لليأس والتذمر ليجدوا في نهاية المطاف أن عملية تقسيم العراق هي الأفضل والأكثر جدوى ونفعا لهم من عراق موحد. 

198
الأحزاب السياسية العراقية ومهام إجهاض الهوية الوطنية

فرات المحسن

من جملة البحوث في ميادين عمل الدولة  ينظر لمداخيل الأفراد ومستوى معيشتهم وطبيعة الخدمات التي ينتفعون منها كمعايير تؤشر لحقيقة  النجاح من عدمه لتلك البنية العامة المسماة  دولة.
الدولة العراقية التي هشمت على يد دكتاتورية نظام حزب البعث وقضي على ما تبقى منها من قبل الاحتلال الأمريكي ومندوبه السامي بول برايمر احتسبت وفي فترة زمنية قصير لم تتجاوز بعد العشر سنوات وبعد أن اختفت ملامحها لصالح سلطات عديدة ومتعددة تدير مؤسساتها كإقطاعيات خاصة وبعشوائية وتضارب أهواء، عدت واحدة من الدول الفاشلة بجميع المقاييس وبكل ما تعنيه الكلمة من حقائق.
شكل مستوى الفقر نسب عالية بين أوساط الشعب العراقي وأشرت الإحصائيات  لنسبة ربما تجاوزت الـ  20 %   ممن هم تحت خط الفقر ونسبة عالية أخرى تعيش حالة الكفاف مع تنامي متسارع لذوي الدخول العالية بشكل غير مسبوق، كان المال العام المتراكم وغير المسيطر عليه والمضاربات والمشاريع الوهمية والرشا والاتجار بالممنوعات والمحرمات وعمليات السطو والابتزاز قد وفرت أبوابا لتصاعد أسهم وثروات هؤلاء الذين يعدون اليوم  تجارا في بازار السياسة والدين والأزمات المجتمعية وليحتلوا الدرجات الأولى في سلم الأثرياء على حساب جوع الملايين من الشعب العراقي.
ما يصاحب الفشل في الميادين السياسية والاقتصادية يشكل عامل إرتكاس في العديد من مفاصل الحياة اليومية للشعب. فالحقوق الإنسانية  تضمن للأفراد وعموم المجتمع المشاركة السياسية الحقيقية  في بناء الدولة وترتيب هياكلها، ولكن في حالة عراق اليوم  نجد إن اختفاء التركيبة السليمة للدولة العراقية تؤكده تجليات عديدة تشير لتصاعد لغة القهر والخوف والتسلط والتضييق على الحريات المدنية وتشوه وابتذال في مفهوم الديمقراطية وتجاوزات خطيرة على حقوق الإنسان يترافق مع بطالة كبيرة وتصاعد حدة التغرب بين أوساط المجتمع ومثله التهميش والضياع وغياب كامل لمفهوم ومبادئ المواطنة. ومع انكفاء مفهوم المواطنة بات العراق بحدوده الجغرافية الحالية مهددا بالتشظي والضياع على يد أبناءه قبل غيرهم.
دائما ما كانت فرصة خلق مجتمع مدني عراقي متجانس ضرب من الخيال ولم يظهر مثل هذا النموذج على أرض الواقع بشكل يبعث على الاطمئنان منذ هزيمة الدولة العثمانية وعند أول دخول جندي بريطاني لأرض بغداد عام 1917.  وبالرغم من أن صورة العراق الواحد الموحد دائما ما كانت حلما يراود الكثيرين من الذين أحبوا العراق كمسمى وطن جامع رغم تعدد واختلاف نسيج مكوناته، أيضا عشقوه كعمق تأريخي حضاري دون حدود واضحة ومتماسكة، ولكن ظهر وبمرور الزمن إن إسقاط تلك الأحلام  على أرض الواقع لم يكن سهلا ولم يجد له الأرض الصلبة للوقوف على قدميه  وبدت تلك الأحلام جد طوباوية مع رسوخ حكم حزب البعث بعد عام 1968 وحروبه وسياساته الداخلية بالرغم مما كان يدعيه من فكر قومي عروبي وحدوي، كذلك وجهت لهذا الحلم صعقة قوية أثر احتلال العراق عام 2003 جعلت محبي العراق الواحد وأنا منهم يفيقون على واقع لا يمت بصلة لما كانوا يريدونه أو يحلموا به وبدت تطلعاتهم في نهاية المطاف مهمشة ومنبوذة بعد طفح الكثير من الغريب والمستهجن وغير المتوقع اجتماعيا وسياسيا وتصاعد حدة الصراع والانقسام في الشارع العراقي.
 وفي عودة لتاريخ بناء الدولة الوطنية الحديثة وظهور أول سلطة حاكمة عام 1921 نرى دائما ما كانت قوة الدولة المركزية ولحد عام 2003 تمثل عامل الصهر والإدغام لمكونات العراق المجتمعية بشكل قسري دون النظر لخصوصيات تلك الفروع .في حين مثلت ظاهرة الارتباط الاقتصادي الاجتماعي  لأجزاء العراق الأربعة بدول الجوار مع غياب السوق الاقتصادية العراقية المشتركة واختفاء أي نوع من علاقات إنتاج اجتماعية اقتصادية حقيقية، كل ذلك شكل عوامل طاردة رسخت حالة التشظي بين مكونات الشعب العراقي وفككت الكثير من الوشائج التي كان من الممكن لها أن تنموا لصالح التراص والوحدة وبناء الهوية الوطنية، وبدورها فأن الفرعيات  القومية والطائفية دائما ما كانت تنحوا بشكل دوري لتثبيت هوياتها الفرعية بعيدا عن الهوية الوطنية الجامعة وفي الكثير من تلك المحاولات بدت لغة الخصومة والنفرة  المجال الأرحب لتوكيد الحقوق والهوية الخاصة. وعلى ذات المشهد من التفكك والتباعد خلت الساحة العراقية من الرموز أو الرمز الوطني الذي يجتمع أو تلتف حوله الغالبية بل ما حدث هو العكس فاغلب الرموز العامة التي ظهرت في العراق المعاصر دارت ومازالت حولها خصومات وصراعات  وبدت تلك الرموز في الغالب وكأنها سبب في تأزم الأوضاع ورفع حدة المناكفات والتعديات.
عام 2003 وهو عام الاحتلال الأمريكي قلب جميع المعادلات ووضع العراق بوجه عواصف عاتية وأبعد عنه ومن حوله جميع المتاريس والمصدات ليواجه مصيره عاريا دون مساحيق تجميل أو توريات أو مضادات وطنية، وجعله يقف ممزقا واهنا وكأنه في اليوم الأول من دخول جيوش هولاكو لبغداد ، ذاك اليوم من عام 1258 لم تكن بغداد عاصمة الدنيا بل كانت عليلة ضائعة تتقاذفها الأزمات مثلما تتلاعب بها أهواء الملوك والأمراء وتنازعها مطامع أعداؤها وتخاذل أبناؤها. بغداد في 9 أبريل عام 2003 كان حالها حال بغداد عام 1258 .فقد عاث دكتاتور صدام وزبانيته بمقدرات الشعب العراقي منذ تربعهم على عرش السلطة وسفحت دماء الآلاف من أبناء العراق في حروب قذرة وزج الآلاف في السجون وجاع وتشرد غيرهم جراء الحصار الاقتصادي وأوغل النظام في سياسات القمع والتجويع وأخيرا وضع الدكتاتور رأسه ورأس الشعب العراقي في سلة واحدة ليقول للأمريكان أن أردتم رأسي فاقطفوا معه رأس الشعب العراقي وهذا ما كانت تسعى له وفعلته قيادات الولايات المتحدة الأمريكية بمختلف مسميات إداراتها وشخوصها.
إنهاء سلطة البعث الفاشي وقدوم الاحتلال بفلسفته حول شرق أوسط جديد تبدأ أشواطه أثر  لحظة سقوط بغداد ليظهر المشهد كواحد من أكثر مشاهد التأريخ سوءا واستهتارا بقيم وحضارة وتأريخ المنطقة وقدم  للمنطقة فلسفة الفوضى الخلاقة لصناعة الديمقراطية!! ومن خلال تلك الفلسفة وضع معادلات مربكة لا بل هزيلة سوف تكون نتائجها وفي المستقبل القريب وليس البعيد أكثر بشاعة وقسوة ووبالا على الشعوب من ما اقترفته دكتاتوريات صدام حسين وبن علي والقذافي وحسني مبارك وبشار من جرائم.
في متتاليات محسوبة جيدا ومنذ مؤتمرات المعارضة العراقية في بيروت وصلاح الدين ولندن كان هناك سعي جاد من أطراف عديدة  للحصول على مغانم وتوزيع أرث سلطة صدام قبل نفوقها لذلك وضعت قواعد لمحاصصة سياسية قومية طائفية بمباركة وتزكية من الإدارة الأمريكية ولم يعترض أو يخجل أحد من كل هؤلاء الذين شاركوا في تلك المؤتمرات من التوصيف الذي طرح في المؤتمر على خلفية حالة التشرذم والتقسيم والتوزيع الطائفي والعرقي وإنما قوبل التوصيف والتوزيع بفرح واستبشار وتسابق المجتمعون  لتثبيت حجومهم القومية والطائفية حسب المنظور الحزبي ومن ثم تأكيد حقوقهم ومستحقاتهم في السلطة القادمة بعيدا عن فكرة إعادة بناء  وطن وتكريس هوية وطنية خربها حزب البعث بسياساته الرعناء. كانوا جميعا صدى لرغبات وسياسات الإرادة الأمريكية. وكما معلوم فإن الإدارة الأمريكية دققت شخصيات الجميع ودرست طبيعة الشخصية العراقية وواقع الحراك المجتمعي هناك ونجحت في إحداث وقائع على الأرض هيأت لجعل تلك الشخصيات الحزبية في مقدمة المشهد ليكونوا دعاة بررة للمشروع القديم الجديد الساعي لتمزيق ما تبقى من الهوية الوطنية وتقسيم العراق وقد أوفى الجميع بتعهداته وعمل دون كلل على فصم عرى ووشائج المجتمع على علاتها وضعفها من خلال تصعيد لغة الخطاب القومي والطائفي المشحون بالعداء والكراهية الذي بدأ في عهد صدام وتبنته الولايات المتحدة كمشروع يعيد ترتيب الأوراق لمستقبل العراق القادم. وبعد إجراءات تزوير في وقائع العملية السياسية مع غياب كامل للوعي المعرفي للجماهير وضع هؤلاء على رأس السلطة وبمسمى سلطة شراكة وطنية. 
منذ أولى ساعات عمل تلك السلطة ظهر أن واحدة من المهام تتقدم الجميع في جدول الأعمال إلا وهي تهميش وتفكيك مفهوم الدولة العراقية وبناء تراتيبيات لإدارة السلطة من خلال تقاسم  مؤسساتها ووظائفها والاستحواذ على جميع موارد الدولة ومنافعها وفق المصالح الشخصية والحزبية، وهذا الأمر شكل ومنذ البداية عصب التنازع والعداوة ليس فقط بين الأوساط الحزبية وإنما كانت المهمة الرئيسية  التي قادتها تلك الشخصيات والأحزاب ولازالت وهي ترحيل الشحن القومي والطائفي  ليكون سمة للتنازع والتقاتل بين الأوساط الشعبية العراقية تستعر فيه المشاحنات والجرائم وسط الشارع العراقي وترافقه الدعاوى الكيدية وجرائم نهب المال العام والرشا لتكون طبيعة لمعارك تمارس بين جميع تلك الأطراف الحزبية والشعبية دون وازع من ضمير وشرف مهني أو وطني وباتت تلك المهمة أكثر الوسائل المستخدمة في التحريض والطعن بالأخر. ودون حياء تجري جميع تلك المسميات القذرة تحت يافطة حكومة سميت بحكومة الشراكة الوطنية.   
في العراق تشترك الغالبية من السياسيين بتغذية الصراعات العرقية والمذهبية ولا تخلوا جعبة جميع الأحزاب من محركات تدخل في سياق تصعيد خطاب استفزازي تحريضي يمكن له أن يكون سلاحا فتاكاً حين الحاجة وضد الجميع خصوما كانوا أم شركاء، ففي السياسة العراقية مثلما عموم السياسة ليس هناك صديق أو عدو دائم وإنما هناك مصالح وتبادل منافع أو تراشق شتائم وطعن بالحراب، والمفهوم الأخير يلذ للأحزاب العراقية أن تتبناه  قبل غيره من المفاهيم، فغالبا ما يطغى على مثل تلك السياسات محاولات تتجاوز تبادل المنافع وضمان المصالح فتتقدم نحو الواجهة  غرائز الغدر وخلق المكائد ووضع المتاريس والاجتهاد في تهميش الأخر.



199
التدمير الذاتي مشروع الشرق أوسط الجديد
فرات المحسن
مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وتصاعد نبرة الخطاب الديني المتشدد عند رجالها ومحاولات تصديرها بمفاهيمها المذهبية الشيعية الذي رافقه ارتفاع وتيرة التحريض ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين، بات رجال الدين في إيران يشكلون معه خطرا حقيقيا على مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في منطقة الشرق الأوسط وبالذات الخليج منه، لذا دفعت تلك البلدان حليفها صدام حسين ليقوم بهجومه العسكري انتقاما من موقف إيران العدائي للغرب و سياساتها العدوانية ضد إسرائيل.

وقائع الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثمان سنوات أثارت مواقف جديدة خلقت نعرات وتخندقات خطرة في المنطقة تصاعدت معها حدة الخلافات المذهبية وظهر بمواجهة التطرف الشيعي الإيراني ما يقابله من ردود فعل متطرفة تمثلت بتصاعد نبرة التيارات السلفية وتنامي مظاهر التدين السني وارتفاع أنجم الأخوان المسلمين والمذهب الوهابي، ووفق ردة الفعل هذه علت راية وشعار الإسلام هو الحل، أي الرجوع إلى فطرة الدين وسيرة السلف الأول من الخلفاء الراشدين والصحابة وتعاليم الفقهاء من مثل بن تيمية ومحمد عبد الوهاب وحسن البنا وغيرهم.
يشكل الصراع المذهبي أحد أكثر العوامل تعقيدا ولبساً في الشرق الأوسط، ولا ينحصر هذا الصراع بين أوساط المذاهب والملل الإسلامية بل يمتد ليشمل الديانات الأخرى، ونجد هذا الخلاف والخصومة والطعون وحتى قتل الأخر المخالف للعقيدة موجود أيضا بين أوساط الطائفة الواحدة . ففي المجتمعات الشرقية يقحم الدين في كل شيء ومن أجل أي شيء، والدين يمثل العامل الحاسم في الحراك المجتمعي. وبقدر ما يحمل من تناقضات ويخضع للتأويل نجده يدخل بضراوة في باب القدرة على شحن الخصومات وتغذية الفرقة والاختلاف بما تفرضه طبيعة التزمت والتخندق والمغالاة الذي تخلقه رؤية الطائفة لمذهبها كحقيقة وحيدة غير قابلة للنقاش وإن ما حولها من مذاهب وفرق يشكلون بالأساس مجموعات تسعى لتدميرها ومعتقدها. وتشارك في تلك الجهود وسائل إعلام ودور إفتاء ومؤسسات دينية عبر التحريض والحض على مواجهة وتخوين الطوائف الأخرى والدفع لكراهيتها وتسفيه مفاهيمها ورؤاها الدينية.

ومفاهيم تخوين الأخر واستعداء الطوائف على بعضها والدعوة لقتل أو عزل مخالفي الرأي تمتد جذورها عميقا في تأريخ المنطقة وتستقر في وعي شعوبها كبديهيات ومسلمات لا مبرر في الغالب لمناقشتها أو التمويه عليها أو الخجل منها، ومن الصعوبة بمكان إن تخرج هذه المجتمعات عن هذه القواعد والأعراف، فثقافة الإفتاء والاجتهاد الإسلامية تقدم يوميا ما تحتاج له تلك المجتمعات من ذرائع لرفع حدة الحقد المذهبي والخصومة مع الآخرين من غير أبناء الملة، والجميع يتخندقون بطائفتهم مع مقولة الفرقة الناجية الوحيدة والباقون ذاهبون إلى جهنم، ليصبح الخطاب الطائفي خطابا شعبيا تعبويا يتغلغل في روح ووجدان الكثير من أبناء الطوائف المتناحرة.
تلك الحقائق على الأرض لم تكن لتغيب عن بال العاملين في حقول الدراسات الإستراتيجية الغربية وكانت دائما محورا لبحوث ودراسات مطولة، وخلال فترات زمنية مختلفة ظهرت الكثير من الدراسات حول طبيعة الصراع المذهبي في عموم الشرق والكيفيات التي تدير بها المؤسسات الدينية صراعاتها مع خصومها المفترضين، كذلك الشخصيات التي تستطيع أن تلعب الأدوار الحاسمة في رفع حدة الصراع وتغذيته وأيضا كبحه أو وئده، وقدمت دراسات كثيرة حول حراك المجتمعات بهيكلتها وتخندقاتها المذهبية و ردود فعلها تجاه مجاوريها خصوما كانوا أو مناصرين، هذه الدراسات قدمت خدمة كبيرة للسياسيين والعسكريين في المعسكر الغربي وساعدتهم على وضع قواعد عمل بعينها تستطيع أن تتحكم في مفاصل الحراك المجتمعي وتلعب أدوار حاسمة لحرف الصراع نحو أهداف مختارة تصب في النهاية لصالح الأهداف العليا للدول الرأسمالية.
الصراع المذهبي مقدمة مهمة وعامل حاسم في مشروع تفكيك المنطقة وإعادة تركيب خريطتها الجغرافية. ولأهمية وطبيعة المشروع الإستراتيجية فكان من المهم لمعاهد الدراسات التعمق في تحليل العوامل التي تتحكم بحركة الطوائف والملل والعمل على استغلال الفطرة الدينية والصراع المذهبي لبناء خططها اعتمادا على مقولة الاستشراق الغربية، إن شعوبا تمارس العزل الذاتي وتدور دون فكاك في فلك الخصومات المذهبية، وثقافتها تستمد شرعيتها من مقولات رجال الدين وتعشق التعلق بالماضي والتعكز على ما فعله السلف وتستطيب لغة التقية والتملق وقلب الحقائق دون تفاعل مع المستقبل، فهي وفي كل الأحوال غير مؤهلة تربويا وفكريا لتكون مجتمعات متحضرة أو حتى تسعى للتحضر، ومأزقها الثقافي والحضاري يجعلها غير قادرة على التكييف مع مستحقات العصر وثقافة التسامح والديمقراطية والحريات المدنية، لذا فمن المناسب أن تخضع لنمط من الإجراءات التي تفسح المجال للرأسمال العالمي استغلال وتسخير موارد بلدانها الطبيعية وقبل هذا فرض نظم وهياكل سياسية تستند في إدارة دولها على تغليب خطاب ديني يحفز ويصعد الصراعات المذهبية داخليا وخارجيا، ومن هذا ووفق رؤية فاحصة للوقائع على الأرض عملت الدوائر المخابراتية والعسكرية الغربية على تقديم يد العون والمساعدة في أبعاد الموديل القديم الذي مثلته الدكتاتوريات وإحلال بديل أخر يعتمد فيه تغذية صراعات مجتمعية وخصومات مذهبية وقومية بين مكونات الشعب الواحد أو بين دول الإقليم. وهذا ما أفرزته مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي حين قلبت الطاولة على صناعها الحقيقيين ووضعت لتلك البلدان والمنطقة خارطة طريق أعدت لبناء شرق أوسط جديد يكون المشهد فيه صعود قوى جل ثقافتها يتمثل في تذكية الصراع المذهبي مع الآخرين.
من الواضح إن الصراع الديني والمذهبي هو العامل المناسب ليكون القوة الأساسية لتدمير شعوب المنطقة لنفسها بنفسها ووضعها في دوامة لا تستطيع الانعتاق منها. فالمؤسسات الدينية كمنظومات عمل تمتلك قدرات فائقة على تخدير المجتمعات ونخرها والعودة بها إلى الطرق البدائية في التفكير ومناهج الحياة اليومية المتخلفة العقيمة وشحنها بالمعارف التضليلية وجرجرتها باتجاه مآزق متتالية اجتماعية ثقافية اقتصادية وسياسية. ومن هذا فليس اعتباطا دخول الولايات المتحدة وحلف الناتو على خط الانتفاضات العربية وتصعيد وتيرتها ومن ثم الضغط لتهميش القوى الديمقراطية والعلمانية وهي قوى الانتفاضات الحقيقية، وتهيئة الطريق لصعود قوى الإسلام السياسي. فالصراع المذهبي واستشراء ظواهره وتصعيد معاركه هو الغاية والهدف الذي سعت أليه القوى الرأسمالية وهذا بدوره جعل من الأحزاب الإسلامية الخيار المفضل عند الغرب والولايات المتحدة ودفع بهم لتقديم العون وتهيئة المناخ العام لاستحواذ هؤلاء على السلطة إن كان بالانتخابات أو بالقوة ليمارسوا دورهم في التدمير الذاتي لبلدانهم من خلال تصعيد خطاب الخصومة والاقتتال المذهبي وفرض رؤاهم الدينية على مجتمعاتهم وهم في هذا يريدون الاستئثار بالحكم بعيدا عن الشراكة الوطنية ويتقاطعون كليا مع جميع المذاهب السياسية العلمانية يمينية كانت أم يسارية ويعدونها مفاهيم مستوردة من الغرب،ولذا يعملون على تطبيق الشرع الإسلامي وإيقاف العمل بالقوانين الوضعية ووضع سلطة القضاء وإخضاعها لمنهج السلف في الأحكام والتشريع، وفرض تشريع بالفصل بين الجنسين في مقاعد الدراسة ومجالات العمل في دوائر الدولة ومنشآتها مثلما فرض الحجاب على جميع النساء وحرمان المرأة وغير المسلم من تولي القضاء وكذلك أدارة دوائر الدولة العليا، ومثل هذه التشريعات تتطلب لتنفيذها إنشاء هيئات دينية لكبار رجال الدين لتولي أحكام القضاء وتصريف أعماله، أيضا تشكيل هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكون مشرفة مباشرة وبكامل الصلاحيات على تطبيق التشريعات الدينية في الشارع والالتزام بها ومحاسبة المخالفين بأقسى العقوبات دون الحاجة لمحاكم وقضاء، كذلك وضع تشريعات تنص على إن أهل الديانات الأخرى من غير المسلمين هم أهل ذمة يكونون تحت حماية ووصاية السلطة الإسلامية وعليهم دفع الجزية مثلما أمر الله ونبيه محمد. فالشريعة الإسلامية هي الحاكمة في المجتمع وحق التشريع فيه حق خالص لرب المسلمين وليس لغيره، والشريعة هذه حاكمة على الجميع دون تفريق (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ) (الأنعام:57). وأن أحكام الشريعة الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة واجبة التطبيق في كل زمان ومكان.


الخلاصة
معاهد الدراسات في الولايات المتحدة وأوربا كانت ومنذ آماد بعيدة وبشكل دائم تراقب عن كثب وتحلل العوامل المحركة في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وبالذات الحراك الديني والصراع المذهبي المتصاعد، لذا بدء العمل منذ أربعينيات القرن الماضي على دفعه نحو المقدمة و تغذيته والاستفادة القصوى منه ليتقدم المشهد على حساب مستحقات كثيرة سياسية كانت أم اجتماعية أو اقتصادية، فخطورته تتمثل بالقدرة الفذة التي يمثلها كعامل مفتت لقوة المجتمعات وفي ذات الوقت كابح لتطلعات الشعوب نحو بناء بلدانها وفق مستحقات ومعايير العصر، وقبل كل ذلك يكون عاملا مهما في إزاحة التفكير والتنظير للصراع العربي الصهيوني ودفعه ليكون أخر المستحقات التي من الممكن أن ترد في تفكير قوى المجتمعات العربية والإسلامية وأيضا فهو العامل المانع والمتصدي للمواقف الرافضة لسياسات الرأسمال العالمي وفوق كل تلك المظاهر يتقدم مشهد الصراع المذهبي الداخلي والإقليمي ليزج تلك الشعوب في حروب داخلية وأيضا إقليمية مدمرة لا تبقي ولا تذر، لذا ظهرت جليا طبيعة الخارطة الجديدة لما سمته الدوائر الغربية (( الشرق الأوسط الجديد وهو في الأساس مشروع لدفع قوى الإسلام السياسي لتدمير مجتمعاتها)).
 
 


200
المنبر الحر / أنهم يقتلون الجياد
« في: 21:10 29/10/2012  »
أنهم يقتلون الجياد

فرات المحسن

فجأة ورد في خاطري فلم ( أنهم يقتلون الجياد ) حين قرأت تصريح السيد رئيس الوزراء نوري المالكي ودعوته للكفاءات العراقية في الخارج للعودة والمشاركة في بناء الوطن.
 تذكرت قصة ذلك الفلم الذي عرض عام 1969 ونال شهرة كبيرة ورشح عدة مرات لنيل جائزة الأوسكار. مخرج الفلم سيدني بولاك وهو أحد أعمدة الإخراج في السينما العالمية وبطلة الفلم جين فوندا والفلم مأخوذ عن رواية للكاتب هوراس مكوي. حبكة الفلم تتناول فترة الركود الاقتصادي الأمريكي في ثلاثينيات القرن العشرين حيث بدت هناك أعراض كارثة اقتصادية أشاعت البطالة والجوع بين الناس. القصة تبدأ من دعوة لمسابقة رقص جائزتها مبلغ 1500 دولار وهو مبلغ خيالي ذلك الوقت. الحفلة أو السباق يكون في حلبة دائرية يتراكض فيها المتسابقون ويدورون لحد قطع الأنفاس ومن يسقط أولا يخرج من السباق، وفوق المدرجات يجلس الأثرياء يتناولون الطعام ويتلذذون بمشاهدة ذلك السباق الجنوني للجياع، أي أن الأثرياء قدموا الجائزة ليتسلوا برؤية هؤلاء المساكين يتساقطون صرعى لأجل الظفر بالجائزة. هناك لقطات جانبية تكمل أحداث الفلم منها استعراض لطفولة بطل الفلم ولحصان خائر القوى يطلق عليه الرصاص وتكرر اللقطات لعدة مرات.
يشارك في السباق عدد من الناس المحبطين الجائع منهم والفقير والفلاح وأيضا الممثل والمثقف المفلس، على هؤلاء بكل تنوعاتهم الرقص والهرولة دون توقف والصمود حتى النهاية إسعادا للأغنياء ومحاولة للحصول على مبلغ الجائزة. أثناء وفي حدة السباق والتنافس وانهيار عدد من المتسابقين لا بل موتهم، يوضع شرط جديد للمسابقة وهو أن يتزوج الراقص رفيقته أثناء المارثون تسلية للأثرياء. ترفض بطلة الفلم هذا العرض وتعده شيئا مهينا، وقتها يخبر منظم السباق البطلة بأن السباق يكلف كثيرا ولهذا سوف يتم خصم النفقات من قيمة الجائزة  ويعني هذا في نهاية الأمر أن لا يبقى للمتسابق شيئا يذكر من الجائزة لهذا تنسحب البطلة مع رفيقها في الرقص وتجلس معه في غرفة خارج حلبة السباق وتخبره أنها لا تريد الحياة بعد الآن وتعطيه مسدسا وتطلب منه أن يطلق عليها الرصاص.
يسألها رفيقها عن سبب رغبتها الانتحار، وقبل أن يطلق النار على رأسها، تجيبه.
كل هذا الصراع لا جدوى منه .. إنهم يقتلون الجياد ..أليس كذلك؟
لقد راهنت بكل قواها وعزيمتها وجسدها من أجل أن تربح هذا السباق لتعيش ولكنها أدركت بأنها خدعت مثل الآخرين وأن الجميع لدى هؤلاء الأثرياء وفي نهاية المطاف جياد خاسرة. ينتهي الفلم دون أن نرى الفائز سيء الحظ.

السيد رئيس الوزراء نوري المالكي أدرى من غيره بالمعاملة القاسية والرخيصة التي تُعامل بها الخبرات والكفاءات العلمية والمهنية والبحثية الموجودة منها والتي تريد العودة، وإن كانت جعبته وجعبة مستشاريه تخلوا من أية معلومة عن وقائع خشنة ومستهجنة وقبيحة تعامل بها الكفاءات والخبرات الراغبة بالعودة للوطن فمن الموجب عليه دعوة بعض كفاءات الخارج من الذين عادوا للتوظيف في وزارات الدولة ويسألهم كيف جوبهوا من قبل الموظفين حين قدموا معاملات إعادتهم أو توظيفهم، وكيف كانوا ضحايا للروتين والمساومات وكم دفعوا تحاشيا لنزق موظف واستهتاره، وكم استغرق مارثون سباقهم لأجل ذلك.
السلطة في العراق بدلا من أن تكرم الكفاءات والخبرات الموجودة لديها والتي تعاني الأمرين لا بل مهددة في أرزاقها ومواقعها الوظيفية، نجدها تضع عينها على كفاءات الخارج لتزج بها في سباق مرثوناتها المهلكة والمستهجنة.
ما الذي جهزته السلطة لعودة الكفاءات والخبرات إلى وطنها، هل هو الوقوف على أبواب الدوائر أم طلب المستمسكات الأربع المبشرة بدخول الجنة، شهادة الجنسية وهوية الأحوال المدنية والبطاقة التموينية وبطاقة السكن أم ترى معادلة الشهادة ومن أرقى الجامعات العالمية بالشهادة الجامعية العراقية ثم يأتي بعد ذلك تصديق مختار المحلة وبعد كومة أشهر استنزفت الجهد والمال يطلب أعادة الوثائق إلى سفارات العراق مرة أخرى لتدقيقها وتأكيد صحة صدورها، وأخيرا وليس أخرا على العائد أن يقدم أطروحته مترجمة ومصدقة ليطلع عليها ذلك الموظف الأمي اللئيم ويجد فيها ما يفي رغبته السادية في الإيذاء.
 إذا أراد السيد المالكي معرفة كيف تتم معاملة الكفاءات العلمية والاطلاع على المزيد من المعوقات والمعرقلات التي يواجهها العائد، لا بل حتى الكفاءات الموجودة الآن في العراق، عليه أن يطلب من أحد المحايدين والنزيهين حقا من غير مؤسسته الإدارية أو الحزبية تقديم تقرير بالذي يحصل هنا وهناك.
هل فكرت السلطة أن تفرد لمثل هؤلاء شعبة خاصة تتمتع بالحيادية وتضم كفاءات وخبرات متقدمة تلتزم بمهنية وعلمية صرفة لتقوم باستقبالهم وتدقيق أوراقهم الشخصية ووثائقهم العلمية وشهادات خبرتهم وتصنفهم بما يناسب وضعهم المهني والإنساني والعلمي دون أن توضع وتخضع معاملة استقبالهم وتدقيق وثائقهم لأمي خريج مدرسة ابتدائية صيرته الرتبة الحزبية مديرا ليطيح بكل أحلام هؤلاء الذين حلموا بالعودة وخدمة وطنهم، وليوقعهم حظهم العاثر أمام موظف لا يعرف التمييز بين كفاءة وكفاية أو بين فخامة وضخامة ليذلهم بعنجهيته الفارغة. موظف يريد منهم الاشتراك في سباق أسمه العودة إلى الوطن وعليهم قطع جميع الأشواط دون كلل أو ملل أو تأفف والوقوف في مسطر العمل بانتظار لحظة الانطلاق ثم بعد ذلك عليهم أن يحتملوا عذاب ما يواجهونه في الوظيفة، فشوط السباق طويل ويحتاج مجهودا مضاعفا، وفي كل مرحلة من مراحل هذا العذاب الروتيني يردد هذا الموظف على أسماعهم النشيد الوطني العتيد، يكفيكم دلالا ورغدا عشتموه خارج العراق وغيركم ذاق العذاب.عند هذه الحدود من الجفوة وقسوة التعامل تنهار الأحلام وتتضح عبثية العودة ومشاركة البعض من هؤلاء الموظفين الأوباش بناء وطن.
أنه سباق المارثون ومن يسقط فهو حصان خاسر والمهم في هذا الأمر أن فوق المدرجات يجلس علية القوم ويقام لهم حفل صاخب تقدم فيه مائدة عامرة وهم جاءوا ليشاهدوا أبناء الشعب العراقي يتراقصون ويهرولون حد الموت لأجل لقمة عيش ليس إلا، ولأجل حلم كانوا يريدون فيه تحقيق ذواتهم وخدمة وطنهم.
 أنهم الأثرياء حديثو النعمة الذي يريدون من الجميع الاشتراك في سباق المارثون الملوث الذي يقيمونه. أخوتنا الأعداء المكتفون بتبادل الأنخاب.. الجميع لديكم جياد خاسرة ..أليس كذلك؟




201
فحوى الاتفاقية السويدية العراقية حول طالبي اللجوء

فرات المحسن
 
في عهد الدكتاتورية بدت الهجرة عن العراق واحدة من أبواب الخلاص من الجحيم. فوسائل العنف ضد المناوئين وحتى الحلفاء التي دشنتها الدكتاتورية بعيد استلامها السلطة، دفعت بالكثيرين للهروب من العراق حفاظا على حياتهم. أيضا كانت الحروب الداخلية والخارجية سببا منطقيا لهروب آلاف الشباب الذين زج بهم ليكونوا وقودا لها وخسروا فيها زهرة شبابهم مثلما ضاعت منهم فرص الحياة العلمية والمهنية فبدت سببا وجيها لترك العراق، يضاف لذلك النتائج  المدمرة لتلك الحروب والتي انعكست على  حياة الأفراد والعوائل اجتماعيا واقتصاديا، ثم أعقب ذلك  الحصار الاقتصادي الذي ضرب في الصميم جميع أبناء الشعب العراقي وحاصرهم بالفقر والجوع باستثناء  صدام وزبانيته. كل تلك الوقائع كانت حافزا للجميع للهروب من الجحيم الذي صنعته الدكتاتورية ومحاولة الوصول إلى بر أمان حتى وإن كان نسبيا ولكنه يحفظ للمرء شيئا من إنسانيته وقبل كل شيء حياته، وحين نذكر كل تلك الأسباب التي دفعت بالكثيرين للهروب من العراق لا ننسى قطعا ما قامت به الدكتاتورية من تهجير قسري لأبناء العراق من الكرد الفييلية وغيرهم.
بعد الإطاحة بصدام وحزبه واحتلال العراق عام 2003 كان العراقيون على موعد مع جحيم جديد حيث الانفلات الأمني وبداية الحرب الطائفية والتهجير والقتل على الهوية فما كان من سبيل للنجاة والإفلات من خانق الموت غير الهجرة بعيدا عن الديار، وقد دفعت الكثير من الأسر العراقية أموال طائلة لا بل البعض منها فقد حياته في حومة متاهات التهريب ومحاولات الحصول على ما يضمن الوصول إلى بر الأمان كما الحلم الذي راود ويراود الجميع.
ومثلما أصبحت الهجرة مشروعا للكثير من الشباب والعوائل العراقية، نشأت تجارة للتهريب فاقت بأعداد ممارسيها مستويات مافيات التهريب المعنية بالبلدان الأخرى مثل أفغانستان والصومال ووسط أفريقيا، وكانت أرباح تلك العصابات تغريها للتمادي في أبتداع العديد من طرق التهريب دون اهتمام بالمخاطر التي تتعرض له تلك الجموع من البشر التي دفعت لهم أموال كبيرة. وقد تعرضت تلك الحملات وفي العديد منها لمخاطر شتى راحت جراؤها أعداد كبيرة من العراقيين ضحايا ملأت جثثهم البحار والغابات وطمرتهم الثلوج والسيول دون أن يتحقق الحلم.
وعبر عمليات الهروب وطلب اللجوء تكدست أعداد هائلة تجاوزت أكثر من المليونين من العراقيين في دول العالم قاد حظ البعض منهم نحو جزر نائية في عمق المحيطات لم يكن يخطر لعراقي أن يلتفت لها حتى في خرائط الأطلس المدرسي.
وفق معاهدة جنيف الخاصة بأوضاع اللجوء طرح مفهوم اللاجئ الذي يستحق الرعاية والعون من منظمات غير حكومية وكذلك من سلطات البلدان التي يلجا أليها، حيث تشير المعاهدة إلى كون اللاجئ هو من وجد نفسه في بلد أخر غير وطنه نتيجة لتعرضه للاضطهاد بسبب الجنس، القومية، الانتماء الديني أو السياسي على أن يكون ذلك الاضطهاد المعروض من قبل طالب اللجوء مبني أساسا على دلائل ووقائع لا شائبة عليها. واللجوء حسب اتفاقية جنيف يمنح للشخص الذي تتوفر لديه مبررات عن نوع الاضطهاد الذي تعرض أو يتعرض له في بلده، ويجب أن يكون اللاجئ شخص لا يتمتع بحماية داخل بلده.
ولكون أوضاع العراق في عهد الدكتاتورية وكذلك أثر الانفلات الأمني بعد الاحتلال كانت تؤشر لحالات غير عادية من العنف والقسوة المفرطة ترافقها الظروف الاقتصادية السيئة  التي تكتنف أوضاع العوائل العراقية، لذا فقد رعت وضمنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون للاجئين ( HCR   ) ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية ( BCAH/ OCHA)    وأيضا العديد من دول العالم الحق الطبيعي لطالبي اللجوء من العراقيين وفقا للمواثيق والمعاهدات الدولية ومنها معاهدة جنيف الخاصة بأوضاع اللاجئين التي نصت على  مساعدة اللاجئين من البشر الفارين من الاضطهاد والحروب والمجاعات وحمايتهم ومساعدتهم لإيجاد نمط  حياة مستقر وطبيعي عبر تطبيق المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بقوانين اللجوء.
ولكن الحال تغير كثيرا بعد عام 2008  وتدخلت فيه عوامل جديدة ساعدت على تحجيم أعداد القبول لطالبي اللجوء من العراقيين استنادا لما تفصح عنه بعض الوقائع على الأرض وكذلك ما تعرضه وتدلل عليه تصريحات أقطاب الحكومة العراقية عن استتاب الأمن ووجود الظروف المناسبة لعودة المهاجرين والمهجرين وباستطاعة السلطات المحلية حماية المواطنين وضمان عدم تعرضهم للاضطهاد والمطاردة والتهديد نتيجة الاختلاف بالرأي السياسي أو التمييز العرقي أوالطبقي أو الديني أو القومي وغيرها من الحقوق الإنسانية الخاصة والعامة، ودائما ما عبرت لهجة الكثير من ممثلي السلطة العراقية وعلى رأسهم السيد رئيس الوزراء نوري المالكي وأيضا وزيري الهجرة والمهجرين وحقوق الإنسان عن مثل هذه الصورة التي تصف الأوضاع في العراق. وقد ساعدت تلك التصريحات وغيرها على تغيير نمط الأفكار عند بلدان اللجوء حول الأسس والكيفية التي يتم فيها التعامل مع طلبات اللجوء المقدمة  من قبل العراقيين، حيث اتخذت أساليب عمل جديدة تمارس عبرها بلدان اللجوء أعمال مسؤولة داخل الوطن الأم للمهاجر تتضمن حزمة من الأعمال تساعد على إعادة التوطين والتأهيل في بلدانهم دون الحاجة لقبول طلبات لجوئهم وتمثل ذلك بالاعتماد على مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية وأيضا منظمات وحركات المجتمع المدني غير الحكومية، عبر تقييم الحاجات ودعم المعالجات الإنسانية داخل بلدان طالبي اللجوء ومحاولات بناء وإيجاد فرص عمل هناك وبذل الجهود لأجل استتاب الأمن وتوفيره وإرساء السلم الاجتماعي. ورغم التصريحات المشجعة للسلطة في العراق فإن الدراسات المقدمة لدول اللجوء عن الأوضاع الحقيقية في العراق لا تشجع على مشاركة مؤسساتها وهيئاتها في مشاريع وأعمال داخل العراق لصالح العائدين من طالبي اللجوء أو المهاجرين.
أثر زيارة السيد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي  للعاصمة السويدية في شهر أيار من عام 2008 ولقاءه والوفد المرافق بالمسؤولين السويديين وما اشتملته تلك الزيارة من لقاءات وندوات وتصريحات لوسائل الإعلام قدمها الجانب العراقي وأشارت جميعها إلى استتاب الأمن وقدرة السلطة على تامين الظروف المناسبة لعودة أبناء الجالية العراقية لبلدهم الأم دون أي ضرر يلحق بهم جراء تلك الهجرة، ووفق ذلك المنطق  ظهرت للوجود مذكرة تفاهم موقعة من قبل وزير الخارجية العراقي السيد زيباري ونظيره السويدي بحضور السيد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وتضمنت المذكرة 18 فقرة تنظم أسلوب عودة اللاجئ العراقي وكذلك طالب اللجوء فتشير الفقرة الأولى فيها إلى ما يلي وهي الفحوى العام للمذكرة وأسلوب العمل لتطبيقها بين الجانبين:
 إن وزارة خارجية العراق ووزارة خارجية مملكة السويد، المشار أليهما في أدناه ( الطرفين)
أ ـ إذ يقران حق جميع المواطنين في مغادرة بلدانهم والعودة أليها هو حق إنساني أساسي ورد بين أشياء أخرى في المادة ( 13 ) 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والمادة 12 من العهد الدولي حول الحقوق السياسية والمدنية لعام 1966.
ب ـ وإذ يقران بعزمهما على التعاون في المساعدة على العودة الطوعية والكريمة والآمنة والنظامية للعراقيين الموجودين في السويد حاليا وكذلك إعادة دمجهم بالمجتمع في العراق بشكل ناجح.
ت ـ وإذ يشيران إلى رغبة الطرفين للعمل معا لتحقيق الالتزام الكامل بالمعايير الإنسانية ومعايير حقوق الإنسان الدولية.

ما أشارت له مذكرة التفاهم يأتي بالتوافق مع تصريحات وتطمينات المسؤولين العراقيين حول الأوضاع في العراق ورغبة صريحة منهم بعودة اللاجئين العراقيين إلى وطنهم.

في الفصل الثالث من معاهدة دبلن الخاصة باللجوء وفي المادة الخامسة منها، النقطة 2 يشار إلى:
إن مسؤولية أية دولة عضوة في الاتحاد الأوربي هي التي من واجبها معالجة طلب اللاجئ حيث تقرر ذلك وفق أساس العوامل وخلفية الحالة أثناء وقبل تقديم الطلب لدى إحدى دول الاتحاد.
وفق ما تقدم يجب أن تتعرف سلطات ودوائر الهجرة في دول الاتحاد الأوربي على حاجة طالب اللجوء وبيان حقيقة تمتعه بفرصة البقاء كلاجئ، على اثر تقديمه لما يظهر حقه في اللجوء وتامين الحماية له من الاضطهاد والعقوبات القاسية أو تعرضه للتهديد والقتل أو فقدان حريته الشخصية أو مصادر العيش. وعند نقطة أثبات مثل هذه المتعلقات بشخص طالب اللجوء  يكمن الالتباس والتفسير الخاطئ من قبل بعض المسؤولين العراقيين لبنود معاهدة جنيف وما أشارت له اتفاقيات الأمم المتحدة ومعاهدة دبلن وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول طالب اللجوء وحاجته للحماية.  فالمادة رابعا من الفقرة الثانية من مذكرة التفاهم العراقية السويدية منحت الحق للسلطات السويدية بتفسيرها وفق شروط معاهدة جنيف وإعادة طالب اللجوء العراقي الذي ليس لديه مبررا وأدلة  يرتكن أليها للبقاء كلاجئ  يمنح الإقامة في السويد، على أن تتم عودته لوطنه وفق الخيار الطوعي ولكن المادة الرابعة  أشارت أيضا لحق السلطات السويدية إجبار طالب اللجوء على المغادرة كخيار أخير إن أمتنع عن المغادرة.




الفقرة ( 2 )
أشكال العودة

يقبل الطرفان بأن تتم عودة العراقيين بشكل أساس من خلال رغبة طوعية، وفقا للمعلومات المتوفرة لديهم عن الأوضاع في المناطق التي يرغبون بالعودة أليها، ووفقا لخياراتهم في استمرار البقاء في السويد فيما يلي:
1 ـ العراقيون الذين يحملون رخص أقامة دائمة في السويد  سيعودون للعراق استنادا إلى رغبتهم الطوعية وفق اتفاقية عام 1951 المتعلقة بأوضاع اللاجئين وبرتوكول عام 1967 الملحق بهما.
2 ـ العراقيون الذين قدموا طلبات اللجوء ولم يبت فيها لحد الآن، يحق لمن يختار منهم بناءً على رغبتهم الشخصية العودة إلى العراق أن يعود طوعيا.
3 ـ العراقيون الذين ينظر إليهم لأنهم لا يحتاجون لأية حماية أو ليست لديهم أسباب إنسانية حسب التعليمات الخاصة بالقانون السويدي للأجانب ، يمكنهم أن يختاروا طواعية العودة بعد صدور القرار النهائي بعدم قبول طلبات اللجوء التي قدموها.
4 ـ العراقيون الذين لا يتمتعون بحماية أو ليست لديهم احتياجات إنسانية قاهرة تبرر تمديد بقائهم في السويد، ولكنهم رغم ذلك يستمرون في رفض الاستفادة من خيار العودة الطوعية، وربما يتم إجبارهم على مغادرة السويد كخيار أخير،على أن تتم عملية عودة مثل هؤلاء الأشخاص على مراحل وبشكل نظامي وإنساني.


 لم تقتصر المذكرة على تعريف طبيعة المهام الملقاة على عاتق كلا السلطتين وإنما تم تعريف آليات العمل التي يتم بموجبها ترحيل من يرفض طلب لجوئه والواجبات التي من المفترض أن تقوم بها السلطة العراقية لتأمين البيئة المناسبة لأبناء العراق من العائدين، وعن دور السلطات السويدية تتحدث المذكرة عن إقامة مشاريع وتقديم عون ومساعدة للعراق لتسهيل عودة وإقامة وتطبيع واقع حال العائدين لوطنهم.
لم يمض وقت طويل حين باشرت السلطات السويدية بتصنيف طالبي اللجوء لديها ومنهم العراقيين وفق الشروط التي أقرتها المعاهدات الدولية ومنها معاهدة جنيف ودبلن والميثاق العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت في الكثير من بنودها على ضرورة الأخذ بعين الرأفة لتحقيق العدالة في منح اللجوء لمن اضطرته الظروف لطلب ذلك، وبدورها فالسلطات السويدية تعاملت وفق مبدأ أثبات واقع الحال عبر وجود مؤشرات محددة ومعلومات وبيانات يمتلكها طالب اللجوء كي يتم وبناءا على توفرها منحه الإقامة.  في المقابل فإن أغلب طالبي اللجوء الذين قدموا من العراق  بعد عام 2007 لم يتسنى لهم تقديم مثل تلك الدلائل والتقارير التي تساعدهم في طلباتهم ومما زاد في معاناتهم تصريحات السلطة العراقية وبالذات السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الوزراء ووزير الخارجية التي تؤكد دائما على توفر الأمن وتطمأن الشعب العراقي وبلدان العالم على قدرتها على توفير السلامة والبيئة المناسبة لجميع من يريد العودة إلى الوطن.
الغريب إن البعض ممن يمارس السلطة في العراق ويشارك في إدارة الدولة  يصر على استخدام لغة بعيدة كل البعد عن الصيغ المهنية والقانونية ويحاول من خلال إطلاق التصريحات مغازلة الشارع العراقي الذي يعتري الكثير من عوائله القلق على أبنائها من المهاجرين. فنجد هناك من يرفع صوته مطالبا الدول الغربية من بلدان اللجوء  بالامتناع عن ترحيل طالبي اللجوء من العراقيين ومنحهم الإقامة حتى وإن خلت جعبتهم من مبرر معقول لبقائهم، وهؤلاء المسؤولون في تصريحاتهم ونداءاتهم يبدون إما غير مطلعين على فحوى مذكرة التفاهم السويدية العراقية ومثلها المعاهدات الدولية المعنية بقضايا اللجوء، أو هم في خضم المزايدات السياسية يحشرون أنفسهم في شأن لا يعرفون فحواه لأغراض انتخابية أو حزبية. وفي تقولاتهم تلك إنما يضعونا في حيرة من الأمر ونتساءل عن السبب الحقيقي الذي يدفع مسؤولين كبار في الدولة ومنهم وزراء ونواب برلمان للمطالبة بإبقاء أبناء بلدهم كلاجئين في بلدان أخرى لا بل البعض من المسؤولين يهدد دول أوربا بالمقاطعة إن هي قامت بترحيل طالبي اللجوء العراقيين عن بلدانها، ومثل هذا التصريح صدر عن العديد من المشاركين في الحكومة العراقية وأخرهم وزير الهجرة والمهجرين العراقي ديندار الدوسكي الذي بدل أن يعمل على إعادة المهجرين والمهاجرين إلى العراق أشار في تصريح ناري إلى احتمال أن تقوم الحكومة العراقية بوقف التعامل من طرف واحد بمذكرة التفاهم مع السويد التي وقعت عام  2008 ، وأكد ديندار أن وقف العراق التعامل بالمذكرة سيضر الجانب السويدي الذي تنتظره فرص استثمار واعدة في العراق. ومن هذا المنطلق يبدو أن التهديد والوعيد هو اللغة المشتركة لجميع ممثلي الحكومة العراقية وهي ذات اللغة التي وجهها الوزير العراقي إلى مثيله الهولندي في زيارته إلى هولندا لذات الغرض طالبا فيها عدم ترحيل طالبي اللجوء العراقيين وإعادتهم إلى وطنهم، ولكن ضجيجه وتهديداته جوبهت بصدود وبرود من وزراء تلك البلدان من الذين يعرفون جيدا قواعد وقوانين العلاقات الدولية ومنطق الاتفاقيات والمعاهدات .
من الجائز القول إن بعض البلدان الفقيرة أو ذوات الدخل المحدود والتي تعتمد كثيرا في اقتصادياتها الداخلية على ما يرد أليها من عائدات يقوم بإرسالها أبناؤها من المهاجرين وأيضا تحاول من خلال تشجيع هجرة أبنائها التقليل من زيادة عدد السكان وخفض معدلات البطالة، ولكن حال العراق غير ذلك على الإطلاق فهو بلد غني وربما إيراداته السنوية تغطي ميزانية بلدين من مثل السويد وهولندا ولذا فالعجب العجاب وبدلا من أن تقوم الحكومة العراقية بتأمين عودة كريمة لأبنائها من المهاجرين والمهجرين تقوم بالتهديد أو التوسل بدول أخرى لإبقاء أبناء شعبها لديهم وعدم إرجاعهم إلى العراق، وهذا الشيء يدفع لإثارة  الشكوك حول نوايا مثل تلك المساعي الذاهبة نحو تصعيد الهجرة والتهجير، وهل أن القصد من حث الحكومات الغربية على قبول طلبات لجوء العراقيين يختص بشريحة أو قومية أو مكون ديني محدد يراد له عدم العودة أو إبعاده كليا عن وطنه أو إن هناك مافيات تريد الإبقاء على هؤلاء خارج الوطن للاستحواذ على ممتلكاتهم وتركاتهم أو هناك من يريد زرع ولو جذر صغير له في بلدان أوربا ضمانا لمستقبل، مثلما حال الكثير من قادة العراق اليوم. 


202
ليلة من ألف ليلة وليلة حكتها طيور دجلة


                                                                                                                                  فرات المحسن

في البدء كانت الفكرة

هل كان يخطر في بال السيدة بسعاد عيدان أن يؤل حال فكرتها الأولى لمثل ما حدث يوم السبت 6 / 10 / 2012  ، ذاك السبت الخريفي بنداوة برودته يمسد وجوه الجمهور وهم يتدفقون لحضور مهرجان فرقة طيور دجلة الموسوم بألف ليلة وليلة الذي تقيمه على أعرق قاعة مسرح في العاصمة ستوكهولم المسماة سودرا تياتر أي المسرح الجنوبي بهيكله المهيب ومدرجاته وديكوره الداخلي الخلاب ومقاعده الـ 414 الحمراء المخملية، هذا الصرح الذي يعود بنائه إلى عام 1852 حيث انتصب وسط العاصمة ستوكهولم وفي قلبها بالذات منطقة سودرمالم. ومنذ عام 1997 أصبح جزءاً من الحركة الشعبية وملتقى لتبادل الخبرات الإبداعية في المسرح والموسيقى والحوارات الثقافية. على قاعة هذا الصرح الثقافي وفي ذاك اليوم الخريفي تبجل أسم المرأة العراقية مثلما أعلي شأن الفن والثقافة العراقية وتبرج وجه العراق الناصع مبعدا عنه وشاح الظلمة.
يوم كن تسع لا غير، نسوة ينتمين لجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم سعين لتبني فكرة السيدة بسعاد لجعل أنشاد التراث الغنائي العراقي مهمة بعيدة عن الإسفاف والتطريب ولأجل غاية مبجلة تدفع لتقديم المرأة العراقية في الغربة كنموذج للنسوة العراقيات القويات والمجدات وأن يكون مشروع الفرقة داعما للأمومة والطفولة وضد العنف وتهميش دور المرأة العراقية. التجربة الأولى لمجموعة لم يكن لهن علاقة بطرب وغناء،جميعهن موظفات وعاملات وتربويات، مهيبة كانت طلتهن، أنشدن وكن يرتدين  ( الهاشمي ) في أول ظهور لهن ضمن احتفالية مهرجان أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم والذي يقيمه سنويا نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي. كان ذلك العرض عام 2004  قدمن فيه بقيادة الفنان عبد النور لوحة زاهية مبهرة اخترقت عالم غربتنا بدفيء كان له نكهة وطعما مختلفا عن وقع أيامنا، وكان ذلك الحدث مفاجأة للجميع فضجت القاعة استقبالا لوقع إنشاد لم يكن عاديا بجميع المقاييس.
تقلب الحال وكانت ومضاته مثل طيف قوس قزح وبدت مسيرة الفكرة الأولى تتلمس طريقا جديدا، طريق بحجم قلوب جاليتنا التي احتضنت التجربة. جميعا شغفنا ورحنا نترقب تلك الخطى وهي تصعد نحو الذرى بثقة وبسالة ويقين، وكنا نتلهف للقاء جديد وترقبنا ولهفتنا لا تخلو من مشاعر الخوف والتوجس من أن تحبط التجربة وتوأد الفكرة وتذهب بعيدا عن سماء غربتنا تلك الوجوه البشوشة الباسمة ولا نجد أخواتنا وحبيباتنا في نوارس دجلة وهي التسمية الأولى للفرقة يشدون من جديد، أن لا نراهن وقد عدن ليصدحن أملا وفرحا وبهجة ووطنا ومحبة في وحشة أماسينا المثلجة.
على قاعة شيستا ترف التقينا من جديد مع تلك الفرقة، أنه مهرجانها الخاص الأول وكان تحت شعار لننشد للحب للسلام وضد العنف والتمييز الممارس ضد المرأة في العراق. أرتفع العدد ليبلغ أكثر من عشرين امرأة بقيادة جديدة مثلها مايسترو موسيقي يتمتع بدربة ودراية فنية عالية، حبه وتعلقه بالموسيقى وخبرته التدريسية والعملية جعلته يرى في تلك المجموعة النسوية مجالا رحبا يلبي طموحه الفني ويبعد عن روحه وحشة الغربة وألم الانقطاع عن عالم الإبداع الفني في وطنه الذي كان قد شيد فيه مجدا موسيقيا مذ كان شابا صغيرا يافعا. مايسترو بروح شغوفة تتمسك بيقين إن الحياة بدفقها وغناها وحيويتها لن تكون غير صحراء مجدبة إن خلت من موسيقى ونغم يزخرف بفرشاته وجهها ويوشم جبهتها بفرح ألوان تتهادى مثل موجات نهر وتفوح كضوع نسائم غابات. قيادة المايسترو علاء مجيد بخبرته ومهنيته كانت نقلة نوعية كبيرة للفرقة بكل ما تعني كلمة التغيير من زخم وحيوية وحرفية.كانت جعبته مليئة مترعة بخفايا الفن العذب فجاد بمكنوناته ليعطي الفرقة لوحات مبهجة مذهلة نشهد أنه كان سخيا جدا فيها لأجلنا نحن العراقيين في المهجر.
كان وقع حفلها الرسمي الأول بقيادة المايسترو علاء مجيد قد أعلن وبشكل حاسم عن ولادة وتأسيس جديد لفرقة وضعت أقدامها على خط البداية الصحيح. وبرغم إن جميع عضواتها ليس لهن علاقة بالفن فهن مربيات فاضلات ولديهن مسؤولية عائلية ليست بالهينة، وهن نسوة يمتهن مهن لا تمت لعشقهن الموسيقي بصلة وينحدرن وتلك ميزة لها وقعها ودلالتها من جميع قوميات وطوائف وشرائح الشعب العراقي دون استثناء.  قلوبهن الطافحة بالشوق والمترعة بالأمل ومحبة العراق وتراثه جعلهن يجددن في أرواحهن وأرواحنا وحياتنا ذاكرة العراق بأزقته ورياحين بساتينه وضجيج حاراته ومدنه الفسيحة وطين الشواطئ ونسمات العصاري ودروب العشق المبتلات بأوجاع ولوعة قلوب المحبين. سرنا الهوينى مع أصواتهن نتلمس خطواتنا ونعيد تركيب صورة الوطن الذي ينوء به القلب ويبتلى بأوجاعه، ونحن وهن ونغم أنشادهن وحركات الأيادي وأرديتهن الموشاة  بالكلبدون كنا نردد سوية.. 
( حامل الهوى تعب يستفزه الطرب ... إن بكى يحق له ... ليس ما به لعب ) .حقا ليس في غربتنا ما هو لعب وكل ما يعني العراق تستفزنا حلاوته وطراوته مثلما يستفز في مآقينا الدمع ويعتصر القلب ألما وحسرة لربوع عفناها دون جناية وذنب سوى هوانا وتسور قلوبنا بعشق أرض سقتنا أول قطرة ماء وأطعمتنا كسرة خبز مذاقها كان شهدا.
السبت 6 / 10 / 2012  يوم جديد لحفل فرقة طيور دجلة التي اتخذت أسمها الجديد وبإدارة جديدة على رأسها سيدة مثابرة طيبة مجدة، حتما لا تختلف عن الأخريات ولكن صبرها وتفانيها وبسالتها يجعلنا نشهد بأنها كانت حاملة للراية وعاملا مهما في جعل مسار الفرقة يتهادى سلسا طيعا يقفز مختالا من نجاح نحو أخر، أنها سيدة الطيبة الخجولة سهير بهنام وبرفقة صاحباتها اللواتي جاوزن رقم الثلاثين يحملن زوادة من زنابق يطشن وريقاتها فوق عيون وعند أنامل أبناء جاليتنا العراقية ويستحضرن لنا حقائب من حرير محملة بأغان مضمخة بنقيع ورود وطن تتملاه السماء بحسد، ونترقبه نحن بحسرة ووجع. نحن مجانينه نتلوه حرفا ثم حرف، نحبه مثل أب هجرنا وأذاقنا مر العذاب وتلذذ بفواجعنا، نخاصمه ونلعنه، نشتمه ونبكيه، ولكنه يبقى هو الأب الذي وهبنا نعمة الحياة ونعمة أن نعشقه بهوس المجانين، وهو من نسج أخيلتنا وبارك فينا أول صرخة وحرف نطقه اللسان. أبانا العراق مهما جرح أو أنكر ،نعشقه ونكتفي،   ومن الحب ما قتل.. سلام على عهد الصبابة والصبا .... وما زال صباً بالأحبة والهاً ... إلى أن حكاه دمعه فتصببا...تبجلت يا عراق في كل حروف ننطقها وكل لحن ترصع به جبهتك بناتك الوفيات لأسمك بزهورهن الليلكية.
السبت 6 / 10 / 2012  نسائم الشتاء تتختل لتلتهم بقايا ليلة خريفية ولكن اللقاء بحفل فرقة طيور دجلة الرابع يدس الدفء بالأجساد. العيون تتوسل الستارة الثقيلة بألوانها الداكنة كي تفصح عن ما يختبئ ورائها. أبنتنا السامقة بوجهها السومري ثبات هداد أول من طل علينا، قمحة من ارض العراق جاعلة الحرف يتقدم ليعلن عن منهاج مترع بشرانق الحرير. أغان وإنشاد لفرقة طيور دجلة، رقص فلكلوري لفرقة أنكيدو ومن ثم لقاء بالمقام العراقي مع سفيره القارئ حسين الأعظمي، إذن هناك حفل مترع يخبئ النجوم والرياحين في خرجه السحري.
هناك في الأعلى قريب من سقف المسرح وضعت لوحات تشكيلية للقيثارة البابلية وعشتار والملوية والمسلة، لوحات تمجد العراق بموروثة العتيد القادم من تخوم العصور السالفة، دقيقة كانت ملامح اللوحات التي رسمتها أنامل الفنانة التشكيلية المبدعة سمية ماضي، وكانت اللوحات أيضا لمسة ذكية في تراتيبة أعداد خلفية العرض، فبدت وكأنها نياشين أو أوسمة أو حتى قلادة يتوشح بها المسرح مثلما صدر العراق منذ الأزل.
وصلة موسيقية لمجموعة من الموسيقيين بقيادة الفنان المبدع محمد حسين كمر عازف الربابة ليبدأ بعدها الظهور الحي لفرقة طيور دجلة. تقدمن واثقات الخطو يمررن بثيابهن المطرزة كأنهن ياسمينات تختال عند حوض ماء زلال. شتان بين أن تسمع وأن ترى، تلك الخاطرة ومضت في بالي عند رؤيتي للهاشمي، سمعت عنه ولكن حين رأيته بهرت أيما انبهار، هاهي المبدعة سمية ماضي تفرض علينا مرة أخرى مشاركتها فرحها الخاص حين وضعت لمساتها الطرية الشعرية رسما فوق الرداء الأسود الهاشمي بنماذج القيثارة والزقورة والملوية وعشتار وقلعة إربيل وحمورابي، ولكن ما كان يمجد الوطن نخلته السامقة التي وضعت في مقدمة فستان الهاشمي لتبرز معلنة عن الانتماء للعراق وفي شرح موجز تحدثت ثبات عن الهاشمي وكيف تم إعداده ومن نفذ ووضع تلك الرسوم والنخلة المبجلة فوق الرداء. عرفناها مبدعة بهذا اللون من الفنون، الرسم على القماش، أنها المغربية المجبولة بنقيع برتقال العراق، أبنتنا دليلة بن وطاف، خزانة طيبتها تنسج في كل ضربة فرشاة عقود لؤلؤ وفيروزا حبا للعراق وأهله.
لحظتها ذهلت وأمتزج الهاشمي بوجوه النساء النظرة الباشة. عرشن أمام ناظري مثل ياسمينات يتماوجن مع نسائم الصباح. صدفات يلتمعن مع الضوء المبهر الساقط من أعلى المسرح. لم يكن في القاعة من أحد سواهن، لم اسمع سوى هسيس سعف نخيل العراق تداعبه نسائم الصباح، تباركت يا وطني بنسائك، نجومك اليوم ردائهن من طيوبك ووجوههن مصابيحك. خمس وثلاثون قمر يسبحن أمامي في غيمة شفيفة، بريقهن المفضض يطغي على كل شيء، لحظتها ساورني شعور أن أكتشف ما اعتراني من بهجة، ألتفت إلى الخلف نحو القاعة التي ضجت بجمهورها فوجدت الدهشة والفرح يغمران مثلي الجميع.
مع أولى حركات اليد المشدودة المتوترة للمايسترو علاء مجيد وانطلاق الشدو الرباني لفرقة طيور دجلة شعرت بأن قصة النجمة التي عشقت القمر وتولهت حبا به  كانت قصة حقيقة وما كان للخيال فيها غير فصول مزهرة تشعل في أرواحنا وهج محبة وتثري أرواحنا بروايات عن بسالة وقوة شكيمة وعناد وإصرار لا حدود لها، عن حب لا حدود له وليس للكتب والروايات أن تستوعبه.
كيف تسنى لهذا الجوق الكورالي البعيد كل البعد عن عالم التطريب والغناء الغور في مبادئ أقسام التون وما الذي جعله يحفظ درجات السلم الموسيقي ويجيد سماعها ونطقها ومثلها النغم والمقام والإيقاع، دهشة تنتاب المرء حين يستمع لذبذبة الأصوات المتهادية بسلاسة ورهافة النطق بالحرف والجملة الموسيقية  دون أن تتلقف أذناه نشاز أو هنة، صعودا كان لنغم أو هبوطا. في تشنج واهتزاز جسد المايسترو علاء مجيد وتصبب قطرات عرقه ومن خلال حركات أيادي النساء وتعابير وجوههن نعرف أن الحدث أكبر من أن يروى أو يكون عابرا ولن ولا يمكن أن يعد تجربة عادية لفريق عمل قدم ما استطاع عليه ومضى راضيا.لا تسألوا عن الحدث فأنتم رأيتم أناقة العرض وعطايا النسوة الثر وشدوهن المتناسق العذب وقلق الجسد الذي ينتفض بحركاته أمامنا وهو يدوزن إيقاع الكلمات والحرف الموسيقي ويؤشر لأخواته أي درب في عالم الموسيقى يسلكن تلك اللحظة. اهتزت أركان مسرح الجنوب تلك الأمسية من شدة رهافة الإحساس وصدق المشاعر بانتقالات الكلمة والنغم التي راحت من خلاله نسوتنا يطشن الشذا في قلوبنا من عطر وطن أوجعنا فراقه.   
 تبارك جهدكن وبورك مشروعكن وبوركت كل كلمة قدسية تفوهتن بها مجدت وطنا وضمدت جرحا، بورك صنيع من قاد هذا الفصيل الباسل نحو كل هذا العطاء الثر والرائع. ننحني لمن اشرف على التهيئة والإعداد والمشاركة في مهرجان ليلتنا التي كانت بحق ليلة من ليالي ألف ليلة.   



203

الاخوان المسلمون ومشروع إحياء دولة الخلافة الإسلامية

فرات المحسن

لا تظهر بشكل جلي صورة التحالفات السرية ووشائج العلاقات الخفية لتنظيم الأخوان المسلمين عند البعض من المراقبين السياسيين فعمليات التمويه والسرية تغطي الكثير من طبيعة التنظيم العالمي للاخوان ومثل هذا التمويه الدؤوب والحذر يعمل بإتقان لإخفاء مجال اشتغال وخارطة عمل التنظيم ومقراته الرئيسية المتعددة ليكون هناك أيضا تعتيم على طبيعة الهيكل العام والفروع ومهامها وطرق الاتصال وكيفيات العمل ، ولكن من الواضح إن قيادة التنظيم أو المكتب التنفيذي الرئيسي للاخوان يتمركز في دولة قطر ومن هناك تدار جميع العمليات وتعطى التوجيهات للفروع عبر مجلس تنفيذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي المصري القطري الجنسية، وهذا المجلس يتلقى العون المادي والمعنوي ليس فقط من جميع بلدان الجزيرة العربية حكومات وأفراد وإنما يحصل أيضا على تبرعات سخية وبملايين الدولارات من جمعيات ورجال أعمال وبنوك وشركات تأتي على شكل تبرعات أو منح ودفع زكاة وتأتي مثل تلك المبالغ أيضا من فقراء الناس تجبى باسم تبرعات تقدم كمعونات لمجتمعات مسلمة فقيرة تحتاج عون أخوتهم من المسلمين أو تقدم كخدمات لتأسيس معامل وورش في المناطق الفقيرة لتشغيل أيادي عامله مسلمة أو بناء مدارس دينية. و يمتلك التنظيم أسهم مالية كبيرة بأسماء متعددة في بنوك وشركات تمتد كأذرع الإخطبوط حول العالم وتدر أرباحا طائلة يصعب حصرها تجير لصالح تنظيم الأخوان. هذه الأموال الضخمة تشكل ميزانية مالية يعتمد عليها التنظيم في ترصين هيكلته ونشر دعايته ومناهجه ودعواته عبر فروعه ومن خلال شبكة إعلام عديدة في مقدمتها فضائية الجزيرة والعديد من الفضائيات الخاصة بنشر الفكر الاخواني والسلفي، وترصد من تلك الميزانية مبالغ ضخمة تمول منظمات متطرفة على رأس القائمة فيها حركة طالبان الباكستانية والأفغانية وأيضا منظمة القاعدة ودولة العراق الإسلامية، باكو حرام، حركة الشباب الصومالي، جماعة أبو سياف،حزب التحرير الإسلامي حماس فلسطين وحماس العراق ومنظمات أخرى بمختلف التسميات لا يمكن عدها تنتشر في جميع بلدان العالم ويؤكد تقرير الصحفي الأمريكي فرح دوجلاس، الذي عمل في السابق مديرا لمكتب صحيفة "واشنطن بوست" في غرب إفريقيا  ((أما الجزء الأكثر وضوحا في شبكة تمويل الإخوان، فهي بنوك الأوف شور في جزر البهاما، التي خضعت لتحقيقات سريعة بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث ظهر أن بنكي التقوي وأكيدا الدولي، متورطان في تمويل عدد من الجماعات الأصولية، من بينها حركة حماس، وجبهة الخلاص الإسلامية، والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وجماعة النهضة التونسية، بالإضافة إلي تنظيم القاعدة.
وفي وقت مبكر، كشف أن بنك التقوى وغيره من المؤسسات المالية للإخوان، تم استخدامها ليس فقط من أجل تمويل القاعدة، ولكن أيضا لمساعدة المنظمات الإرهابية على استخدام الانترنت والهواتف المشفرة، وساهمت في شحن الأسلحة، ونقلا عن مصادر في أجهزة الاستخبارات العالمية، فأنه مع حلول أكتوبر 2000، كان بنك التقوى يوفر خط ائتمان سريا لأحد المساعدين المقربين من أسامة بن لادن، وأنه مع نهاية شهر سبتمبر 2001، حصل أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، على مساعدات مالية من يوسف ندا وهو قيادي أخواني.
 أيضا من أبرز قادة تمويل الإخوان المسلمين، الذين رصدهم تقرير دوجلاس، إبراهيم كامل مؤسس بنك دار المال الإسلامي "دي إم إي"، وشركات الأوف شور التابعة له في "ناسو" بجزر البهاما، وهناك أيضا يوسف ندا، وغالب همت ويوسف القرضاوي، في بنك التقوي في ناسو، وأيضا إدريس نصر الدين مع بنك أكيدا الدولي في ناسو))

  وبالرغم من كون البعض من تلك التنظيمات تطرح أرائها ومناهجها وتنفذ الكثير من أعمال العنف مشيرة لانعدام أي نوع من العلاقة مع تنظيم الاخوان، لكن الحقيقة تظهر في النهاية وبشكل جلي وواضح لتؤكد صلة تلك المنظمات بالحاضنة الرئيسية وإن جميع تلك التسميات من التنظيمات هي بقيادة المجلس التنفيذي الأعلى للاخوان المسلمين وهو الممول والموجه والمبرمج الأول لها ولإعمالها رغم السرية وعمليات التمويه المتقنة والمحبوكة بدقة والتي استطاع فيها تنظيم الاخوان خداع وتضليل أكبر العقول وأجهزة المخابرات الدولية.  
الأخوان المسلمون منظمة واسعة الانتشار تمتد أذرعها لتشمل جميع الأقطار الإسلامية وصولا إلى دول أوربية عديدة، وحسب المعلومات التي قدمها أحد قادة التنظيم المدعو يوسف مصطفى ندا فأن فروع الحركة تعمل في أكثر من 72 بلدا وتضم في عضويتها ما يقارب 100 مليون فرد وبهذا العدد المخيف يستدل المرء على قوة التنظيم وقدراته البشرية.
منهج تنظيم الأخوان المسلمين يضع في مقدمة أهدافه السيطرة على السلطة لأسلمة المجتمع بجميع الطرق المتاحة. ولا تتورع تنظيماتهم عن استخدام العنف كخيار لمحاربة مخالفي الرأي أو السلطات الهشة الضعيفة، ويمتنعون عن ممارسة العنف في بلدان تكون سلطاتها قوية وقادرة على كبح جماحهم، ولكنهم في ذام الوقت يعملون على قضم ما يستطيعون قضمه عبر ما تسمح به تلك السلطات من منافذ لبث التبشير بالمفاهيم الاخوانية والسلفية، وهذه الطريقة المخادعة الانتهازية التي تستخدم التقية ( وهو المفهوم الشرعي في العرف الإسلامي لتمرير الغايات) يشكل الطريق المفضي إلى التوسع والانتشار دون عواقب تذكر وتضر بالتنظيم .
وحسب المواثيق والبرامج المعلنة فهم يسعون إلى إصلاح سياسي ديني اجتماعي اقتصادي وفق منظور إسلامي متكامل ومن أجل بناء أسرة وأفراد ومجتمع وأيضا سلطة بمؤسسات تخضع لمفهوم الإسلام الاخواني عن الحياة العامة واليومية وفي مقدمة مناهجهم يأتي شعار " القرآن دستورنا "اعتمادا على ما جاء في القرآن: ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة 43 )" أي أن من لا يتبع ما جاء بالقرآن ومناهج الإسلام فهو كافر دون ريب وعقوبة الكافر معروفة ومدونة في القرآن أيضا وهي القتل، ثم يعقب ذلك شعاران يفصحان عن منهج عمل وطبيعة فكر التنظيم وتركيبة ذهنية من يرتبط به وما يتوجب عليه تقديمه في سبيل إعلاء كلمة التنظيم، " الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الإسلام أسمى أمانينا ".


حركة الاخوان المسلمون بعد الاستحواذ على السلطة
منذ تأسيس أول تنظيم للإخوان المسلمين والذي ظهر في مصر عام 1928 كحركة إسلامية أسسها الشيخ حسن البنا " اغتيل عام 1949"  أثر مؤتمر القاهرة لعلماء المسلمين الذي أثمر عن قيام ما سمي وقتها بجمعية الشبان المسلمين.وتنظيم حسن البنا عمل دائما على أن يكون القوة الأساسية في الساحة السياسية المصرية وكان البنا ينظر لفلسفته بإقامة الخلافة الإسلامية في المنطقة على أرض الواقع من خلال تدرج الخطوات وثلم المناطق  باستخدام الممكن واعتمادا على مبدأ التقية والمد والجزر مع السلطات الحاكمة، وبمرور الوقت سرعان ما أنتشر فكره السلفي الاخواني بين أوساط الجماهير التي تلقفت مبادئه كواحد من الحلول المعنية بالخلاص من الوضع القائم، وبدورهم فأن دعاة التنظيم وجدوا ضالتهم المنشودة في سوء الأوضاع المعيشية وفقدان العدالة الاجتماعية وأساليب القمع السلطوية، فرصة لترويج أهدافهم وإعلان شعارهم " الإسلام هو الحل " ليكونوا في الواجهة الأمامية كمعارضة لها وزنها وتأثيرها.
مثلت تجربة الإطاحة بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية من قبل العسكر في انتخابات عام 1990  نكسة كبيرة لجناح يعد الأكبر في تنظيم الأخوان المسلمين ذلك الوقت ولكن تلك النكسة بدت للاخوان المسلمين درسا وتمرينا مهما في كيفية التعامل مع الواقع. وفي السودان شكل الخلاف والصراع بين أجنحة  الأخوان ومحاولات البعض التقرب من سلطة البشير وجعلها جزء من التنظيم، شكل معضلة حقيقية وتجربة كانت وما زالت لا تبشر بمستقبل مطمئن لعمل الأخوان المسلمين هناك، وهي في جميع الأحوال تبقى بعيدة عن الاستقرار الذي تسعى له الحركة بقدر ما تريد السلطة والعسكر ابتلاعها ويود الأخوان بقيادة الترابي وآخرون ثلم السلطة وتهميشها. أيضا أعتبر فرع الأخوان في العراق الممثل بالحزب الإسلامي وضمن مبدأ التقية والتمويه في سياسة مركز التنظيم الرئيسي في قطر خارج السياقات أو الخيارات المرجوة من حزب أسلامي حين أرتضى التعامل مع المحتل الأمريكي ودخل ضمن مجموعة مجلس الحكم الذي شكله المندوب السامي الأمريكي بريمر، لذا عد جزأ غريبا عن التنظيم وقطعت العلاقة مع بعض قادته حسب ما أعلن!!، ولكن لم تقطع كامل الخيوط مع مجموعات فاعلة فيه كانت تمتلك قوة مؤثرة تقود توجهاته في الساحة العراقية وبعد التغيرات التي طرأت على سياسة الاخوان وظهور علاقة قادتهم وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي وتقربهم من الإدارة الأمريكية وتوطد صلاتهم بالغرب وحلف الناتو، عاد الحزب الإسلامي العراقي إلى حاضنة الأخوان ورصنت علاقات جديدة بأذرع متعددة يشكل السيد حارث الضاري ونجله مثنى والبعض من أصحاب الأموال العراقيين صلة الوصل الرئيسية فيها.
ويتمتع الأخوان المسلمون في المملكة الأردنية بجماهيرية ظاهرة تؤهلهم لتغيير مرتقب في الساحة الأردنية ولولا أتزان العلاقة بين العائلة المالكة الأردنية والإدارة الأمريكية لسمحت الإدارة الأمريكية للأخوان المسلمين بالسيطرة على مقادير الأمور في المملكة الأردنية حتى وأن جاءت تحت ظل الملكية، وهذا الشيء مرشح في المستقبل القريب وربما يظهر بعيد سقوط نظام بشار الأسد وما ينجلي عنه الموقف في الساحة السياسية العراقية.
 الضربات الموجعة التي تلقاها التنظيم في بلدان عديدة مثل الشيشان وأفغانستان والفلبين وغيرها لم تثن تنظيم الاخوان عن العمل بل زادت من عزيمته وبعد احتلال العراق وجدت تنظيماته نفسها أكثر تماسكا وقدرة. فعمليات الجهاد قربت الكثير من الشباب ليتصدروا الصفوف ويرصوا لحمة التنظيم ويكونوا دعاة عاملين على أرض الواقع بين أوساط مجتمعات فقيرة معدمة تحتاج للهروب من الواقع المرير والعوز لفكرة البحث عن الطريق المختصر الذاهب إلى الجنة وحياة الهدوء والترف ونهاية جميع أنواع المحرمات الحسية والجسدية وهذا المحتوى العام الذي تحمله جعبة الاخوان وتنظيماتهم بمختلف مسمياتها .
 صعود فرع الاخوان المسمى العدالة والتنمية في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان وسيطرته على البرلمان شكل انتصارا بالغ الأهمية لفكر التنظيم الذي جهد وبمحاولات مستميتة ومنذ أعوام الستينات من أجل تغيير دوران عجلة تأريخ تركيا لصالح فكر الأخوان وبالضد من المؤسسة العسكرية وعلمانية الدولة التي وضع دستورها القائد أتاتورك الذي أنهى حقبة الخلافة الإسلامية المتمثلة بفترة حكم الدولة العثمانية.وإن كانت تركيا تمثل الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي فأنها باتت اليوم تمثل الجناح القوي والركيزة الفعالة لمشروع إعادة الخلافة الإسلامية التي تسعى أليه قيادات الاخوان المسلمين في العالم الإسلامي.
في عام 1972 ظهر نجم الدين أربكان وكان رجلا متدينا معتدلا غير متزمتا ولكن بعد تحالفه مع الحركة النورسية وهي جماعة تتبع منهج حسن البنا وكتب الأخوان حينها أسس ما سمي بحزب النظام الوطني وهو أول تنظيم سياسي بهوية دينية يظهر في تركيا، وقد تعرض أربكان للعديد من المواقف الصعبة وزج في السجن لعدة مرات وقام بتأسيس العديد من الأحزاب الإسلامية معتمدا القاعدة الجماهيرية ذاتها لحزبه الأول وفاز بمقاعد في البرلمان وقاد رئاسة الوزراء لمرات عديدة خلال فترات متفاوتة كانت تعقب انقلابات عسكرية ومنذ ذلك التأسيس فتح باب الصراع السياسي الديني على سعته مع المؤسسة العسكرية والعلمانيين الأتراك.ولم تخلوا ساحة الاخوان المسلمين في تركيا من الصراعات السياسية التي أطاحت في نهاية المطاف بأربكان وجماعته لصالح أردوغان وجماعته ليحل حزب العدالة والتنمية بدلا عن مجموعة الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان في قيادة مسيرة الاخوان المسلمين في تركيا.
وفي فلسطين انتهى الخلاف على السلطة بانقلاب قاده إسماعيل هنية وهو أحد أهم الشخصيات القيادية في منظمة حماس الفرع الفلسطيني للاخوان المسلمين حيث سيطرت الحركة على قطاع غزة مبعدة الرئيس عباس وتنظيم وقيادات جبهة التحرير خارج القطاع.
واستمر صعود أنجم الأخوان أثر الانتفاضات الجماهيرية التي حدثت في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا. ففي تونس فاز الأخوان بقيادة راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ونائب يوسف القرضاوي في قيادة تنظيم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أي قيادة الأخوان العالمية، إما في مصر فبعد تردد الاخوان حول المشاركة في الانتفاضة من عدمها استطاعت الحركة بعد زج أنصارها في خضم الانتفاضة أن تكتسح الشارع وتحقق الفوز بمقاعد البرلمان ورئاسة الجمهورية، أما الصراع في ليبيا فمازال مفتوحا على مصراعيه والدلائل تشير لقدوم الاخوان وسيطرتهم على مقاليد الحكم في ذلك البلد في نهاية المطاف ومثله اليمن. إما سوريا فالمعركة اليوم على أشدها بين نظام البعث بقيادة بشار الأسد وبالضد من تنظيم الأخوان وأذرعهم السلفية وبالعون الغربي والمال القطري السعودي ولن يترك الأمر دون الإطاحة بسلطة حزب البعث وقيادة الدكتاتور بشار الأسد ليتم بعده الخلاص من حزب الله اللبناني  وتقسيم سوريا وظهور دولة الأخوان هناك.
وفي المغرب وهي الدولة المسلمة التي تمثل أقصى الغرب في خارطة الدول العربية ظهرت الكثير من الحركات السلفية الدينية قسم منها يرتبط بمنظمة الأخوان المسلمين وقسم أخر ينأى بنفسه ولو إعلاميا عنها.ولم تستقر الكثير من تلك التنظيمات بال تعرضت للتقسيم والتوريث من مثل الشبيبة الإسلامية، الجماعة الإسلامية التي تغير أسمها ليصبح حركة الإصلاح والتجديد،رابطة المستقبل الإسلامي،جمعية الشروق الإسلامية وغيرها الكثير التي استطاعت توحيد تنظيماتها لتنشأ أثر ذلك ما سمي حينها حركة التوحيد والإصلاح. و نجد أن تلك الحركات تستظل دائما بالمركز الرئيسي للأخوان وتقترب من مناهجه. فحركة التوحيد والإصلاح وهي الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية كانت دائما تتميز بعلاقات ووشائج قوية وقريبة من تنظيم الأخوان وتتلقى مساعدات مالية منه ودائما ما تعلن عن علاقتها بفكر الأخوان الذي تمثل بمنهج حسن البنا. وحزب العدالة والتنمية فاز في الانتخابات الأخيرة ليكون رئيس الحزب عبد أله بنكيران رئيسا لوزراء المملكة المغربية.
وبسيطرة الاخوان المسلمين على مقاليد الحكم في تلك البلدان وتحالفهم مع الولايات المتحدة والغرب وذراعهما العسكري حلف الناتو وبعد اكتمال سيطرتهم على سوريا فإن المستقبل يؤشر يوما بعد أخر لبروز صراع مذهبي عسكري شديد الوقع على المنطقة ضحاياه ووقوده هذه الشعوب المغلوبة على أمرها وسوف يكون لبنان والعراق بؤرة هذا الصراع الدموي وساحته المكشوفة لتصفية حسابات مذهبية تزج فيها المنطقة برمتها بمحاولات لسيطرة منظمة الاخوان المسلمين على مقاليد الأمور وهذا ما رشح عنه جهود غير عادية لأحياء ما يسمى بمشروع دولة الخلافة الإسلامية.  ولكن هل إن مثل هذا الأمر سيلاقي رواجا أو قبولا يتم بعده تأسيس دولة إسلامية بنظام فدرالي أو كونفدرالي تنتمي له جميع الحكومات التي يسيطر على إدارتها الاخوان. من الجائز أن في جعبة الأخوان ما يماثل هذا التفكير بطبيعة مثل هذا التشكيل المستقبلي، ولكن ما يخفى تحت السطح ينسف الكثير من التمنيات الاخوانية، فإنشاء مثل تلك الدولة أو حتى التفكير بتأسيسها سوف يصطدم بمعوقات جديدة تظهر من صلب تنظيمات الاخوان وتوابعهم أو ممن يتفق معهم في التشريع والبناء والتوجه الفقهي وتلك الجهات عديدة رغم قربها من الاخوان وتعاونها معه،ولكن أجندتها تتعارض في بعضها مع مناهج الاخوان، لذا سوف تولد توابع لمتواليات تظهر بشكل تجليات جديدة تقفز عبرها صراعات واقتتال ينشب بين أصحاب المذهب الواحد من القريبين وحتى حلفاء الأخوان وبالذات منهم السلفيين الجهاديين وغيرهم من حملة فكر الجهاد ضد مخالفي الرأي، ولنا في تأريخ حركة الخوارج وتفرعاتها وهي السلف الحقيقي للأخوان ما يؤشر لمثل هذا الحال، أيضا لنا في مشهد الصراع الفكري المصحوب بقرقعة السلاح بين من يسمون أنفسهم اليوم بالثوار وقادة الانتفاضات الجماهيرية في جميع بلدان العالم الإسلامي ما يشي بالكثير. فالسلطة والمال ولا شيء غيرهما ستشحذان  السيوف لقيامة حروب مذهبية لا تبقي ولا تذر.



204

كل ما عرف عن تأريخ شارع اسمه المتنبي

فرات المحسن

خوذ وبدلات مرقطة وملثم يصرخ دون صدى عند أبواب المكتبات الهامدة الفاغرة أفواهها لتنط منها أحشاء مسودات لكتب أو مخطوطات تتختل خوفا من فوهة بندقية.
 شعراء يشعلون أغانيهم بحناجر عليلة. يوقدون شموعا ونواحاً ومراثي لشارع سمي بالمتنبي تعرض لدورة من إبادات توالت عليه عبر قواحل وقحط الزمان، ولكنه بقي مشبعاً بالشجاعة وأصر على أن يحمل اسم المتنبي.
تذكر الشعراء لعنة الشعر العالقة باردان المتنبي شاعراً وشارعاً. فهاهم يستذكرون دورة الموت فيتأبطون شر ذكرى... القتل والخوزقة...وسرفات الدبابات وناقلات الجنود.
 المتنبي مات مقتولا ومثله الحلاج وتتسلسل الوقائع فوق رؤوس صناع المعرفة ومدوني تأريخ الإنسان الحي القيوم. دائما ثمة لحظة تلغى فيها جميع المسميات ليبقى وحده الموت قادراً على أن يكون مفردة وجمعا في الملموس والمتلبس، عند الإيحاء والتهويم. لا حياد يتطلبه الأمر فثمة واقعة يجترها الشارع بين قتل وقتيل وقاتل وغدر وغادر وزركة وغارة أخرى. . لا فرق حين يجد المرء روحه متلبسة بمثيلية الشيطان مع أخيه الإنسان. تحز شفرة الوقائع وفواجعها أركان القلم وما يسطرون. تكسر أصابع الوراقين ومخترعي بدع الغوايات ومسودات قصائد العشق ودعاة عصور النهضة وصانعي عدد الجمال والبهجة.
 لم يكن للمتنبي صوت استنكار لجريمة المذبحة المالكية للكتب غير اسمه القصي يذكر مثل طفل ميت في أحشاء أمه لم تكتشفه يد الجراح إلا بعد أن أسدلت الأم جفنيها واصفرت شفتاها ثم توقفت أنفاسها. صامتة دست في الوحشة بعد أن عافت رغبة الطبيب في أخراج الجنين من بين فخذيها.
 يصرخ الوراقون بأقصى ما تنفثه الحناجر من ولولة وأسى... آه قُتل المتنبي... أخيرا يوقد الشاعر عبد الزهرة زكي شمعة في حضرة الخرائب ونثار الكتب، يريد استحضار المتنبي عنوة فلا من مجيب. . إذن:

ليس هنا اثر

ليس هنا قطر.

ليست هنا شاهدة.
 
ليس هنا نائحة تطلق صوتا وجعا يتلظى بالآه

ليست هنا آه

ليس هنا صوت غراب ينعق.
 
يا صحبي... أصحاب البراءة من الوحش وعشاق الغوايات الرائجة، كان هناك غراب يغازل النائحة، يناجيها.
يشهد الشارع ليال من غزل لئيم قبيح. يحتفظ بلوعة التأوه حين تطلقه النائحة وهي تمتص رحيق الغراب الراعش الزاعق.
ما برح غراب البين يجلس القرفصاء عند نخلة في القشلة وتراه بعد ذلك يعاين المكان من خلال أعواد عشه فوق بوابة سوق السراي. نعيقه يدور بين مخابئ الشارع وفتحات الكتب المرتجفة وأصابع الوراقين الخلص والوشاة. النائحة تفترش عباءتها البالية عند دكة مقهى الشابندر تتلصص بعينيها تخوت المقهى .
 
خذوها فهي آه طويلة بعيدة كبيرة دميمة مجذومة تأتيكم من دهر يمتد بسعة ما عرفته العلوم والمعارف والفنون. آه يبقى فمها الفاغر دون زمن ومكان. أنها وجع مسلط فوق القلوب يحز بشفرته شغاف لانهائية المعرفة. يفقأ رؤيا السحرة، يوقف قفزات المفردة فوق السطر الأول وأوتار العود. يعتم ضوء المصباح خلف ستارة المسرح،يحرق شعيرات الريشة ويرمي الألوان في سلة النفايات.
 
عند كل منعطف ينعى الغراب بنعيقه الأجش ونواح مومسه الداعر تراث البهجة ومواسم الفنتازيا وألق الحداثة ودعاوى الحرية والتحرر ورضاب المعرفة وهضابها المخضرة. في كل فجر قبل أن يستيقظ سحرة الشارع وشياطينه المجدون الواهبون يصب الغراب والنائحة زيت حرائقهم ويدسون عصيات الجذام بين طيات جدران الشارع وتحت خشب جنابر الكتب.
هذا ما عرف من تأريخ شارع المتنبي. لم يتخذ له نظاما داخليا أو عرفا ينظم مضناه ولوعته أو محتوياته وسير الكادين فيه أو حتى مدونة لفرحه وزهوه والباحثين عنها بين دفات الكتب وثنايا الدفاتر. . . . دون أن تثير حقد احد، تنتصب الجنابر وتتوزع البسطات لتفترش الشارع فتسندها الأرواح الرضية بالتوافق المستطاب. يوم المعرفة لا يغلق بغير بشاشة الوجوه. يوم الجمعة يجد الشارع نفسه وسط بحر من الناس الباحثين عن كنوزهم. يتشاطر الوراقون والنساخون داسين رزمهم بين نوعين من العيون الفاحصة الباحثة. تتلاقى الجمرات لتتعرف على مرادها فتكون الأكف خفيفة رشيقة أسرع من يدي ساحر. تتلقف الممنوع الذي أرخ للممنوعات جميعها وأصبح سمة الشارع وعرفاً يتحدى السلطان وبداوة الأشرار، لذا حُرضت على الشارع كل دمامة الحاقدين من الخائفين على كروشهم وكؤوسهم وكراسيهم.
هذا ما عرف من تأريخ شارع المتنبي يوم جف كنهر وتيبس كقطعة رغيف ومُزق كرداء بال. ولد يوم مات المغول وتوفى وشيع في عهد صلاح الدين. نهض مرة أخرى فأستأجر أرصفة بغداد واحداً أثر الآخر وكان مثل شحاذ يتوسل الشتاء أن لا ينكث وعده ويرسل برده على غفلة. دار حول نفسه وبين أروقة المكاتب والكتاتيب لملم الأصابع التي تحشد النور عند بوابات الدهر وقصور الملوك والعاهرات. عاشر المماليك والعيارين والوراقين والخوارج والرواة والقرامطة وفرنسيس بيكون ودانيال ديفو وغراهام غرين وماركس وهيغل وكانت وووووو. . . . . . . . جمعها في خرج واحد وطاف بها حارات الكرخ والرصافة.
 
كل ما عرف عن تأريخ شارع المتنبي.... قد استقر في زمن ما جوار سوق السراي، بعد أن توسله مقهى الشابندر ليكون جواره خوفا من وحشة ونفعا لرواد يتلذذون الكلمة قبل طعم الشاي. فأصبح الشارع رئة للمثقفين وطلاب المعرفة وعشاق الإبداع.
 
كل ما عرف عن تأريخ شارع المتنبي هو علة مزمنة يعيشها مع وضع العراق السياسي. علة مثل الطاعون المخلوط بالتدرن الذي ينخر الرئة التي أرادها رواده أن تكون نظيفة لتنتج ما يعادل نقاوة الهواء وسمو الكلمة، وأرادها البعض من مرعوبي الدهور ومتلبسي روح القنانة أن تكون عين السلطان وحنجرته ورئته وآخرون أرادوها مكبلة مقيدة والأنكى من ذلك صبغوا وجهها بقلم أحمر شفاه رخيص ومبتذل، فما فتئت تحمل وجه مهرج لا روح هزل عنده. .
 يرقص بحذاء السلطة ويرتدي بزة العسكر ويعتمر عمامة.

يدب مثل اللوثيان ثقيل الوطء قبيحاً، كالحاً، بشعاً يدوس فوق دكات الكتب فاغراً فمه كاشفاً عن أسنان تسيل منها قطرات دم وصديد. يدوس... ينط... يعلن كذبة في الفكر تبيض وتفقس وعيا مزورا.. ويبتسم المهرج لخدعته السمجة الغبية.
كل ما عرف عن تأريخ شارع المتنبي هو شح في مصادر وخوف من قلم ورعب من كتاب. في عصر التتار الأخير عصر الضمأ القاتل أوقدت نار الحقد لتحرق كل ماله علاقة بتمجيد الحياة السوية للبشر. عندها انتعشت تجارة وراجت، صار صيتها مدويا فغطت بضجيجها فحيح الأفاعي. كسرت شوكة الغربان وأبناء السفاح وراحت تشحذ الأقلام لتنير ظلمة عاشها العراق بحثا عن يوم موعود. لقد انتج الشارع مضاداته وابتكر خططه لمواجهة الظلام فازدهرت ثقافة الاستنساخ وعبأت زوايا ومنحنيات دكاكينه كتب منعها من الرواج تجار الغباء وبائعو أمراض الدناءة والخسة.
كل ما عرف عن تأريخ شارع المتنبي.... قد أنبلج أسماً مورقاً برنين صاخب مثل همس العشاق عند حواف عام 1932 فاستقر تتجاذبه سنوات ألق براق وسنوات ممحلات يجدب فيها ويجف ضرعه من خوف ولكنه بقي برعماً دافقاً يورق في اشد الأيام كلحة وأسودادا. .
 لمرات عديدة تتهيبه الغربان فتدس في صدره جمرة لؤمها. في كل مرة يكمم فمه وتطوق أذرعه ويمنع من أن يكون غير دكان من دكاكينها يبيع بضاعتها الرديئة. ولكنه ينهض، يبعث من جديد، يرفض أن يكون سوقا عاديا ببضاعة فاسدة.
لا نريد النواح ولن ننبش الماضي ومن اجل أن ترد للثقافة قيمتها الحقيقية وتطلق حماماتها بعيدا عن أقفاص وسجون، لتكن مصيبة شارع المتنبي بمراراتها المتكررة والمعادة دائما مع الطغاة، قضية الجميع، قضية المثقف العراقي أينما كان. أن يكون الحدث هزة يعلن بعدها الوقوف في وجه العماء السياسي والاجتماعي و قبل ذلك الثقافي. أن تكون قضية شارع المتنبي إحدى مهام الدفاع عن الثقافة الحرة والمعرفة وتنوع مصادرها. أن يتخذ الشارع طابع الدعاوى الكبرى بالضد ممن يريد أن يحيله الى كهف مظلم تتناسل فيه روح عهود الانحطاط. لكي لا يطمر ويندرس مثل بناية فائضة عن الحاجة هدها السوس وأكلت حجرها الريح.


205
وداعا حمارنا الحبيب أبو صابر

فرات المحسن

 

تعرض الوطن لفواجع لا تعد ولا تحصى وسرقت خيراته وتراثه وهرب وهاجر وهجر وشرد وطورد أبنائه وبناته منذ نشأة العراق كوطن ولحد هذه الثانية المنحوسة ولم يسلم من واحدة من هذه الأنواع الفتاكة التي تنخر الروح والجسد حتى البشوش والزرازير والبزازين والجلاب وصولا إلى الحمير.

أحد أحبتنا من عشائر ألبو صابر وهي عشائر من الحمير أصيلة ذات محتد ونسب لم تغيير طباعها منذ الأزل ولا تشبه في ممارساتها البعض من عشائر العراق التي احترفت اليوم مهن عديدة باتت ترتزق منها وتتفاخر بها. فمن تلك العشائر من أصبح يفاخر وينافح  برجاله من الحواسم ويبيع الزود برأس الفقراء من أبناء وطنه في عمليات السرقة والنصب والاحتيال والخطف وتهديد الناس بفرض الدية والاتاوات وأصبحت هذه المهن مصدر رزقا لتلك العشائر. والمهنة الأخرى التي امتهنتها بعض عشائرنا هي الرقص والجوبية للمسؤول والقائد ليخرخش لها ببعض الخرجية. والبعض مهنته الجديدة القديمة تلقي الرشا والمنح من حكومات أو رجال أعمال من خارج العراق لتصبح العشيرة ورئيسها مرتزقا لا شيء أرخص عنده من وطن، ولكن المهنة الأكثر قوة وهيبة ومجلبة لرفعة الرأس هي إيواء من يريد أن يفجر نفسه أو يفخخ سيارة لقتل أكبر عدد من عمال المساطر أو المتبضعين في الأسواق وعندما يقتل هؤلاء الناس ترفع راية نصر العشيرة فوق بيت رئيسها تحية للمقاومة التي قتلت العزل من نساء وأطفال وشيوخ وشباب.

حمارنا الحبيب أبن العشائر العراقية الأصيلة والذي تمسك حد نزف الروح بحبيبه العراق لم يجد في الدولار أغواءاً ولا في أجواء اللهو مرتعا ولا الطعام الأمريكي اللذيذ ما يكون بديلا عن بقايا صمون وتمن المطاعم أو جرائد وأوراق وخيوط جادت بها أيادي أبناء وطنه ووضعتها له عند أقرب مزبلة يصلها حين تجواله، ولم يكن يفكر بأن يبدل طعام الأمريكان بحشيش يابس وعاكول في صحراء وطنه الطاهرة، فشيمه وقيمه وإباء وأنفة روحه العراقية منعته من أن يكون مثل هؤلاء الذين أتوا ليكونوا وزراء ونواب ومدراء في حكومة الشراكة الوطنية أو وضعوا العمامة والخواتم ليزوروا تأريخهم الفاسد الملعون ويكونوا سادة القوم وقادته،وهؤلاء جميعا بات همهم وجل عملهم اليومي هو السرقة وتكديس الأموال والهروب بها إلى أحضان الغريب من غير الوطن العراق.

والحبيب الحمار أبو صابر الذي أطلق عليه المحتل الأمريكي الغاصب اسم سموك، لم يكن ليحلم بقصر مهيب أو قطعة أرض في الجادرية أو الكاظمية أوالمنطقة الخضراء ولا حتى أرض شاطيء نهر الكوفة ولا شواطيء النهر قرب عانه أو راوه أو الرمادي، فخصاله النبيلة أعلى شأوا من كل هؤلاء الذين يتبارون لاستقطاع الأراضي والبيوت باسم الدين والطائفة والمركز الوظيفي و يتم سرقتها وتملكها بالاتفاق مع دوائر السلطة بأبخس الأثمان دون حياء أو خشية حتى من ربهم الذي يتاجرون باسمه. فجولة حرة دون هدف وفي أزقة المدن والصحارى والبساتين ومن ثم الرقود بعد عناء وجهد لهي عند حبيبنا أبو صابر أغلى من أي ملك تحت قبة سماء العراق.

مات حبيبنا الحمار أبو صابر وحيدا في غربته يعذبه فراق الوطن العزيز وتؤرقه وتنخر روحه الرقيقة ذكريات الصحبة في الوطن فكان دمعه مدرارا وهزل جسده وراح يدور ويلف في مكان خاوي دون أن يسمع صوت خرير الماء أو يجد نير الناعور مربوطا إلى رقبته وغطاء العين واللجام يجعله يدور مستمتعا بما يقدمه من خدمة دون حساب لزمن أو مسافات. مات حبيبنا كدرا وكان يجتر ذكريات ساعة اختطافه وكيف طوق بجنود الاحتلال المدججون بالأسلحة وكان أحدهم بوجهه الكدر القاسي يوجه فوهة بندقيته نحو صدغه وأخر منهم يدفع مؤخرة حبيبنا بما أوتي من قوة. لم يكن أبدا سهلا أو مطواعا قاوم وقاوم بضراوة، تدافع معهم وما هابت روحه كثرة فوهات الأسلحة التي أحاطت به، ولكنه وحيدا خذل في النهاية.

 يتذكر جيدا كيف جلس صاحبه بعيدا وابتسامة صفراء تعلوا شفتيه اليابستين يلملم بين الحين والأخر دشداشته المتسخه  ويحاول أن يشيح وجهه كلما تلاقت عيناهما، لقد قبض صاحبه المبلغ وباعه ناكرا كل تلك الحياة الطويلة الصبورة والخدمات الجليلة التي قدمها له حمارنا الحبيب، تنكر حتى للدماء الغزيرة التي نزفها من أجله يوم سقطا سوية في تلك الحفرة، هو مثل غيره باعه وقبض الثمن، ألم يسمعه يقول لأبيه الشيخ المقعد وأمه الكفيفة  بأنه على استعداد وحين تسنح الفرصة لتركهما والبيت والذهاب وراء المال، أستعاد حبيبنا حمارنا النبيل أبو صابر في تلك اللحظات التعيسة حديث صاحبه اللعين فشعر حينها بان نزفا داخليا يسري في أحشائه،  شيء ما يعتصر قلبه.

تلوى الحبيب أبو صابر وأحس ساعتها وكأن الموت يقترب منه، شعر بثقل الوحدة والحنين إلى الوطن، كانت ساعته تقترب بسرعة، كان وحيدا مهملا بجسد ذاوي يتكأ على جدار الحظيرة في منطقة نبراسكا في الولايات المتحدة التي جلب أليها عنوة. ومنذ قدومه لم ير سوى هذه الحظيرة دون جميع شوارع نبراسكا وحدائقها التي حدثوه عنها وهو في الطائرة. لم يعد اللحظة يرى سوى صورة مضببة للكولونيل جون فولسوم قائد ومسؤول معسكر( تقدم ) الذي يقع في محافظة الانبار وهو من رافق الجنود الأمريكان وقادوا أبو صابر إلى داخل المعسكر، وسمي بعد اختطافه سموك وينادونه تدلعا بسموكي ومن هناك تمت عمليا إجراءات نقله إلى الولايات المتحدة قسرا وشيع في وسائل الإعلام بأن العملية جاءت إنقاذا للحمار من الجوع والتعذيب الذي ربما سيؤديان به إلى الموت المحتم أذا استمر بالعيش في العراق، عندها لاحقته وسائل الأعلام وصورته في معسكره في نبراسكا مرتديا جلالا مزركشا وكيف كانت تقدم له وجبات الطعام والفاكهة ولكن الغريب ولحد اللحظة لم تظهر في وسائل الأعلام صورة واحدة يبدو فيها حبيبنا أبو صابر وهو يقضم طعاما وجميع تلك الصور ظهر فيها كسير العين خائر القوى وثمة دمعة تترقرق ساقطة فوق وجنتيه.

خلت الحظيرة  من آخرين، سمع الحمار أبو صابر أصوات تأتي من البرية،تتعالى لكنها مكتومة وكأنها تخرج من كهف عميق، شم نسائم العاكول الرطبة تعطر الجو وتملأ خياشيمه. صفرت ريح الصحراء عند أطراف منطقة النخيب وتل اللحم وبادية الجزيرة، وشوش في أذنيه ثغاء خراف كانت تقترب من بساتين العمارة وديالى والنجف والسماوة، أطلق تنهيدة طويلة وبدأت قواه تخور وشعر بثقل جسده يرتخي ثم يحتك جلده المتيبس بجدار الحظيرة الخشن فيصدر عن ذلك الاحتكاك صوت منفر، شخصت عيناه نحو السماء فمد جسده المتعب النازف فوق الأرض الأسمنتية وكانت أنفاسه تلهث متسارعة يخالطها شخير حاد وثمة رغوة بيضاء غطت شفتيه الغليظتين. عظام صدره الظاهرة كانت تتحرك بحدة تصعد ثم تهبط وبدت محاطة بجلد تغضن كأنه خرقة قماش مدعوكة. حدقتا عيناه راحتا تتسعان شيئا فشيئا وساقاه ترفسان ثم خمد كل شيء ولكن لحظتها تحركت شفتاه وهمس بنفس متقطع لاهث..

 أسمي أبو صابر وليس سموك.......

206
نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
ومأدبة إلافطار الرمضانية

في أخر جمعة من أيام شهر رمضان الفضيل وضمن برنامجه السنوي وبتقليد درج عليه نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي كل عام أقام النادي على قاعته في منطقة أللفك في العاصمة السويدية ستوكهولم يوم الجمعة الموافق 17 آب 2012 مأدبة إفطار رمضانية لأعضاء وعضوات النادي وأصدقائهم من أبناء الجالية العراقية.

   

في البداية رحب رئيس النادي السيد حكمت حسين بالحضور قائلا: "الحضور الكرام، مساء الخير ورمضان كريم. أرحب بكم باسم نادي ١٤ تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم واتحاد الجمعيات العراقية في السويد وأشكركم على حضوركم الجميل ونرحب باسمكم بالسيد الوزير المفوض في سفارة جمهورية العراق في السويد الدكتور حكمت داوود وكادر السفارة، والأستاذ نجم خطاوي ممثلا عن المركز الثقافي العراقي في السويد. في أمسيتنا الرمضانية الكريمة وعلى مائدة الإفطار هذه، بعد انقضاء فترة العطلة الصيفية للنادي، متمنيا للجميع صياما مباركا وإفطارا شهيا. وكذلك أبارككم وأهنئكم مسبقا بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، آملين أن يعم الخير والسلام والأمان على الجميع وبالذات أبناء شعبنا العراقي. وان نحتفي بهذه المناسبات المباركة والجميع ينعمون بالخير والسعادة وتحقيق الأماني بدولة مدنية ديمقراطية تحفظ للإنسان حرياته وكرامته."

وبحلول وقت الإفطار دعي الحضور لتناول الطعام المنوع بالأكلات العراقية الشهية والعصائر والتمر واللبن بعدها قدمت الحلويات وسط أجواء من الفرح والسعادة وتبادل التهاني والتبريكات برمضان كريم وترقبا لقدوم العيد السعيد.
   

بعد ذلك أعلن عن برنامج النادي حول مهرجان أيام الثقافة العراقية الذي سيقام على قاعة البيت الثقافيRinkeby Folketshus في منطقة رينكبي من 14 ـ 16 سبتيمبر/ 2012، حيث سيكون برنامج المهرجان لهذا العام شاملا ومنوعا وعاكسا لثقافة شعبنا وفنونه حيث السينما العراقية والمسرح والرقص والغناء الفلكلوري والفنون التشكيلية والفوتغرافية ومحاضرات وموسيقى، وتكريم لمبدعينا. وفي ختام حفل الإفطار قدمت بعض الأغاني الجميلة من قبل الفنان جلال جمال والفنانة نادية لويس والفنانة رباب الساعدي، الفنانة تولاي، الفنان عاكف سرحان والفنان رعد علي.

في الختام شكر الحاضرين لتلبيتهم هذه الدعوة الكريمة، وقدم الشكر لجميع من ساهم في إنجاح هذه الفعالية المميزة على أمل اللقاء بالفعاليات القادمة في هذا الفصل الخريفي، وكل عام وانتم بخير.
   
 

إعداد: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
تصوير: سمير مزبان
البريد الالكتروني: idkse@yahoo.se

208
من دروس الأخلاق في أعراف السياسة

فرات المحسن
يوران هيغلوند رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي السويدي ظهر له العديد من المنافسين للحصول على أمانة الحزب ومنهم منافسه الأكثر قدرة وكفاءة واقترابا من المركز وهو ماتس أوديل الذي كان  خطرا حقيقيا على إعادة ترشيح يوران هيغلوند مجددا لرئاسة الحزب. وقبل احتدام المنافسة الفعلية يوم الانتخابات تسربت إلى الصحافة فضيحة اعتبرت سوءة وعمل غير أخلاقي لا يمكن تبريره أو السكوت عنه وتركه دون عقوبة يستحقها صاحبها.
مدير مكتب رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي المدعو هنريك ايرينبري كتب في صفحة التواصل الاجتماعي تحت اسم مستعار أوفه توفا تعليقا قال فيه أن ماتس أوديل منافس رئيس الحزب غاضب لعدم حصوله على منصب وزاري وكذلك هاجم أحدى مؤيدات ماتس قائلا أنها تستطيع أن تركل الجثث ثم القيام بما يحلو لها.
بعد فترة قصيرة اكتشفت أوساط حزبية وصحفية أن صاحب الاسم المستعار أوفه توفا هو هنريك أيرينبري أحد أقرب مساعدي رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي يوران هيغلوند وقد جوبه بتلك الحقيقة ليعترف في نهاية المطاف كونه من كتب هذا التعليق. وقد سربت تلك المعلومة إلى الصحافة والتلفزيون فما كان من رئيس الحزب هيغلوند غير القول أنه يتعين على مدير مكتبه أيرينبري ترك منصبه بعد أن تصرف بشكل غير مقبول، وأن من يشغل منصبا كهذا لا يجوز له الدخول في مناقشات تستخدم فيها كلمات تسيء إلى الطرف الآخر، أن هذا أمر غريب على أعراف السياسة.
حين قرأت عن هذه الواقعة تذكرت ساسة العراق وقادته وبرلمانييه ووزرائه من المرضى هواة الفضائيات ومحطات الإذاعة والصحف حين يطلقون تصريحاتهم النارية ضد بعض منافسيهم والتي تصل في الكثير منها حد السفاهة والإسفاف والتحقير لصاحب التصريح قبل خصومه، فأفواههم تنطق باتهامات رخيصة تنزع عنهم قبل غيرهم الأخلاق  وتضعهم في زريبة أو حلبة مصارعة ورثوا عنها طباع وغرائز الوحوش ولنكتشف من خلال علاقتهم بالأطراف المنافسة عمق الأزمة السياسية والمأزق الأخلاقي لجميع الفرقاء دون استثناء. 
يظهر أن لا نفع للعيش في بيئات متحضرة ولا فائدة من اكتساب معرفة وثقافة أو تشذيب نفسيات عبر مخالطة وحوارات يتعلم فيها المرء ويكتسب معاني الرفعة والحوار الحضاري، فلا توجد لدى هؤلاء قدرة على التطبع بأخلاق حسنة أو تهذيب أنفس وإبعادها عن الشطط وتنقيتها من الموبقات وإنما أعراف وأخلاق صبيان الأزقة والحارات تتسيد المشهد وكأن سياسيينا رواد تلخانات القمار وليس قادة بلد، لذا نجد من هب ودب يفتح أمام كاميرات التصوير وميكرفونات الإعلام عقيرته دون استحياء ليكيل لمنافسيه كومة من التهم ويلفق القصص بحقهم ويلوك كلمات التخوين والتسقيط دون رادع  أخلاقي أو  سياسي ولم يبق في أعراف قادة وقوى العملية السياسية غير ثلم شرف العائلة لتكتمل الأخلاق الرفيعة في أدائهم. ومن غير المستغرب  أن يتم تداول مثل هذا الأمر داخل اجتماعات الحلفاء من أبناء الكتلة الواحدة استعدادا للطعن بأخلاق الأطراف المنافسة وتشويه سمعتها وسمعة عوائلها.


209

من يستحي من ما حل بتمثال معروف الرصافي

فرات المحسن

عملية سرقة تمثال عبد المحسن السعدون كانت فكرة جهنمية لعصابة تحترف بيع مادة البرونز وقد تمت السرقة تحت أنظار قوات الجيش والشرطة الوطنية والقوات الأمريكية  واقتلع التمثال من قاعدته برافعة ضخمة وقفت وسط الشارع لتحمله وتضعه فوق ظهر عربة حمل كبيرة بأرقام واضحة مع صرخات تهديد وإطلاق عيارات نارية. وفي ظلمة ليل وضعت عبوة ناسفة سقط أثرها رأس تمثال أبو جعفر المنصور وكانت الدوافع طائفية مثلما أعلنت عنها الجهة المنفذة باعتبار أبو جعفر المنصور أحد ألد أعداء آل البيت أثناء فترة حكمه مثلما تتحدث الروايات، وبذات الأسلوب وجهت ضربة قوية  لخصم أخر هو تمثال الشاعر أبو الطيب المتنبي ليسقط من فوق قاعدته وتختفي قطعة كبيرة من رأسه وجسده وفي هذه الحادثة ضاع دم الشاعر وتمثاله والبعض يوجه الاتهام وتدبير هذه الفعلة إلى مرتزقة كافور الإخشيدي الزنجي حاكم مصر في غابر الأزمان الذي هجاه المتنبي بقصيدته المشهورة لا تشتري العبد إلا والعصا معه....وما أكثر مرتزقة كافور في الساحة العراقية اليوم، وفي محافظة جنوبية وضعت عباءة سوداء لتحجب جسد تمثال لعاملة ترفع يدها عاليا عارضة بسالة وقوة المرأة حين تتحرر من قيود عبوديتها وهذه المرة جاء الحجب بسبب عري التمثال الذي يغري الرجال المؤمنين ويضع الرجس في قلوبهم الطاهرة الزكية، هناك أيضا دعوات مستميتة من البعض تطالب بإزالة نصب الحرية وغيره من التماثيل كونها تبشر بالجاهلية الأولى.
تقابل هذه الأفعال والدعوات باستنكار وتحد من قبل بعض الناس وخاصة النخب المثقفة وهناك أيضا صحف تحذر وتفضح عمليات الإهمال والتخريب التي تطال تلك النصب واللوحات التي كانت ومازالت تشكل معالم حضارية وتراثية للكثير من المدن العراقية، وبوجود تلك الأصوات المعترضة وعدم اكتمال المشهد النهائي للدولة الإسلامية العراقية نجد الكثير من رجال السلطة وبالذات قادة الأحزاب الإسلامية يفضلون اليوم العمل بصمت والبعض منهم يتردد في فعله الساعي  لطمس المعالم الثقافية ورفعها عن وجه المدن ويؤجل نواياه  لحين السيطرة الكاملة على الشارع العراقي عندها لا يترددون في قيادة الرافعات بأنفسهم وحسم الأمر باكتساح تلك التماثيل وإزالتها، فالتماثيل في أعراف الأحزاب الإسلامية تعد من النصب وهي بدع مخالفة للدين ومن الموجب على المسلم محاربة وجودها في دولة إسلامية محافظة مثل العراق، وعلى ذات المنوال تعامل اللوحات والرسوم والمسرح والغناء ومختلف الفنون التي من الموجب منعها دون تردد كونها بدع محرمة تفسد النفس البشرية وتبعدها عن فروض الدين وتدفع المجتمع لحالات من التفسخ الأخلاقي.
في صورة تجرح المشاعر وتنقل حقيقة ما أصاب العاصمة بغداد لا بل العراق من خراب على يد هؤلاء الكواسر وما حل بالكثير من الشواهد الجمالية التي كنا نفخر بها بنايات كانت أم شوارع وتماثيل ونصب كانت العين تستلذ برؤيتها وتنشرح النفس وتفخر بوجودها، فقد أرسلت لي صورة لتمثال الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرصافي وقد وقف مرفوع الرأس تعلوه طبقة من غبار وسط نفايات أحاطت به من كل جانب لتصل إلى ما يقارب هامته الشامخة وغطت مساحة قاعدته وامتدت نحو تفرعات شارع الرشيد وأزقته، ووصلتني صورة أخرى تشير لوضع التمثال بشكل أخر مستحدث بعيدا عن وجود نفايات وإنما هناك وجوه حسنة باسمة لنساء ورجال التقطت لهم صورة جوار التمثال،  ثم عثرت على صورة أخرى حديثة توضح عودة النفايات لتزحف نحو ذات التمثال وربما يكون الزحف قد أكتمل لتعود الصورة الأولى إلى سابق عهدها ليقف الرصافي في عزلته بين الأنقاض. من الجائز أن يكون أصحاب المحال والبسطات العشوائية مع الانفلات الأمني وأصحاب سيارات الأجرة الذين جعلوا المنطقة مرأبا ومنطلقا لهم، سببا فيما حل بالتمثال. ولكن إلا يحق للمرء التساؤل عن مهام أمانة العاصمة وعن موقف وزارة الثقافة أو وزارة السياحة وصولا إلى رئاسة الوزراء والجمهورية والبرلمان وأعضائه ومنظمات المجتمع المدني وقوائم وتنظيمات الأحزاب غير الدينية عن السبب في ما آل أليه وضع تمثال معروف الرصافي وكيف أصبح بهذا الشكل المزر منظرا يفقأ العين ويدمي القلب، ونتسائل هل هناك في العراق منظمة أو هيئة أو مؤسسة لها علاقة بالحضارة والمدنية، وإن أحدا من منتسبيها شاهد حال تمثال الرصافي وباقي الشواهد والنصب وسارع للتنبيه والدعوة لعمل يحفظ هيبة وجمالية العاصمة ومنها تمثال الرصافي.أين وسائل الإعلام واتحاد الأدباء وروابط الفنانين والصحفيين والشعراء والتشكيليين من كل هذا.
 وأنا أكتب موضوعتي هذه تذكرت أمر فزعت منه حين استعرضته في خاطري، فوضع تمثال الرصافي وسط كومة من نفايات يحمل الكثير من القصدية وهناك إصرار وترصد لأجل العمل على رفع التمثال وقلعه من مكانه ومن ثم صهره ليختفي أي معلم يشير لأحد فطاحل الشعر العربي ورمزا من رموز الثقافة العراقية، والسبب في ذلك يعود لكتاب ينسب للشاعر يتحدث فيه عن السيرة النبوية للنبي محمد ( الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس) وهذا الكتاب يستنسخ ويطبع في إيران والعراق ويباع بكميات كبيرة، والكتاب يتحدث بتفاصيل جارحة تمس النبي محمد وسيرته الشخصية وتقذفه بالسوء وتدين الكثير من أعماله، ومن يقرأ الكتاب يجد إن كاتبه رجل دين من الطائفة السنية غير انتمائه وارتد عن سابق دينه ومقت النبي محمد، والكاتب لا يخفي طائفيته المقيتة. من الجائز أن هذا الكتاب كان سببا لنقمة رجال الدين من الطائفتين ولذا تراهم اليوم يشاركون في إهمال تمثال معروف الرصافي والتغاضي عما يحدث له وجعله مكب للنفايات ومن ثم العمل مستقبلا على اقتلاعه، ولا يوجد أي اعتراض من جميع منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وهيئات ومؤسسات ووزارات الدولة إما بسبب انتماء الكثير من منتسبيها إلى الأحزاب الدينية صدقا أم نفاقا أو الخوف المستشري في الشارع العراقي من الأحزاب الإسلامية التي لا يتورع البعض منها عن ارتكاب الجريمة إن وجدت من يخالفها الرأي حتى وإن كان في موضوعة مثل موضوعة تمثال معروف عبد الغني الرصافي.
ولأن الاعتقاد ينصب على كون الشاعر معروف الرصافي هو من أصول كردية وإنقاذا لحال هذا المعلم الجميل الذي شارك في وجوده شاعرية وتأريخ الشاعر نفسه وأزميل نحات رائع هو المرحوم إسماعيل فتاح الترك الذي أظهر شموخ واعتداد الشاعر بشخصيته، فأني أقترح على حكومة إقليم كردستان رفع تمثال معروف الرصافي ووضعه في أحدى ساحات مدينتي اربيل أو السليمانية لأبعاده عن الأيادي الآثمة المخربة التي تسعى لإفراغ العراق من أي معلم حضاري أو مديني. وإن واجه مثل هذا الاقتراح اعتراض البعض فأطلب أن ينقل التمثال أمانة إلى دولة أخرى لحين انتهاء حلم الدولة الإسلامية الذي ربما سوف يعمر طويلا في أذهان رجال الأحزاب الدينسياسية.


صورة تمثال الرصافي في سنوات العزلة بين الأنقاض

 

صورة تمثال الرصافي بعد التحسينات

 


صورة تمثال الرصافي بعد أن بدأ زحف النفايات باتجاهه مرة أخرى


 

210
ندوة حوارية مع مدير المركز الثقافي العراقي
في الدول الإسكندينافية



يستضيف نادي ١٤ تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، الدكتور اسعد راشد مدير المركز الثقافي العراقي في الدول الإسكندينافية، للحديث حول "الوضع الثقافي السياسي في العراق، وطبيعة عمل وبرامج المركز الثقافي الذي من المؤمل أفتتاحه قريبا في ستوكهولم، وعلاقته بالجالية أفرادا ومؤسسات" عبر حوار مفتوح، وذلك مساء يوم الجمعة الموافق ٢٥ آيار/ ماي 2012، الساعة السابعة، وعلى قاعة النادي في منطقة اللفيك.

والدعوة عامة
E-mail: idkse@yahoo.se 




211


ما آل أليه حزب الدعوة

فرات المحسن

كنت أظنها مزحة ثقيلة أطلقها أحد الكتاب عن وجود مشعان طفار ركاض الجبوري في بغداد وإسقاط  محكمة الجزاء جميع التهم عنه وإطلاق سراحه بكفالة على موعد إزالة ما تبقى عالقا من تهمة بسيطة لا يد لمشعان فيها بقدر دعوى مشاركة من بعيد. لم تمضي على تلك المزحة غير بضعة أيام ليكتشف الناس حقيقة ما ذكره ذلك الخبر فمشعان دخل العراق وعاد إلى سوريا ظافر غانم رفعت عنه أوزار جميع الذنوب التي اقترفها بحق الشعب العراقي من السرقات حتى التحريض على القتل وكيف كانت محطة تلفزيونه ترشد الإرهابيين نحو أهداف منتقاة في مدن العراق وتعطي بعضهم دروس في صناعة المتفجرات وزرعها لقتل اكبر عدد من البشر.
  عراب عودة مشعان لحضيرة الحكومة العراقية هو عزت الشابندر وهذا الأخير يمثل ذراع رئيس الوزراء العراقي ورئيس حزب الدعوة أبو إسراء نوري المالكي في الكثير من المهام السياسية الخاصة. وواحدة من المهام المكلف بها ملف العلاقة بحزب البعث والمعارضين الآخرين من رجال عهد صدام المنتشرين في سوريا والأردن ولبنان، وبواسطة الشابندر يقوم المالكي بمغازلة من يريد مغازلته ويدفع بعزة للتباحث من أجل تخفيف غلواء خصومه أو جذبهم للعمل ضمن فريق السلطة بشكل أو أخر، نجح الشابندر بتقديم العديد من الخدمات لرئيس الوزراء وحزب الدعوة وأستطاع الوصول إلى الكثير من الشخصيات القيادية على عهد صدام من الذين أبدو استعدادهم للعودة والخدمة ضمن طاقم المسؤولين الحكوميين، ووصل الأمر بالشابندر أن استطاع الوصول إلى المكان السري ليونس الأحمد القيادي الأول في جناح البعث الموجود تحت حماية السلطات السورية وكذلك ممثل الجناح الأخر للبعث بقيادة عزت الدوري، وخاض الشابندر جولات عديدة من المباحثات مع كلا الجناحين دون أن يحصل على شيء يذكر من جناح عزت الدوري ولكنه نجح بعض الشيء وبمساعدة المخابرات السورية على تهدئة نبرة جناح يونس الأحمد تجاه السلطة في العراق. ويتمتع الشابندر بحصانة ومكانة خاصة منحها له أبو أسراء المالكي، وبدورها منحته هذه الحصانة القدرة وحق اللعب على المكشوف دون تمويه وتضليل، فحين شتم حزب الدعوة واستهزأ ببعض قادته بشكل سافر وظهر التسجيل وتداوله الناس على شكل فلم يوتوب 1 لم يعترض أحد أو يستنكر فعلته تلك لا من القيادات العليا ولا من قواعد الحزب وكأن هناك خوف مستشري بين الجميع يجعل القادة والقواعد قانعة بما يصيبها من أضرار ما دام الهدف العام يستأهل بلع الإهانة، ولم تمض على تلك الواقعة غير أيام معدودة حين حصل عزة الشابندر على تكريم خاص من لدن المالكي تم بموجبه  منحه مقعدا في البرلمان العراقي وهو المقعد الخاص بدولة القانون وبالذات المقعد البديل العائد للمالكي نفسه.
محاورة جناحي حزب البعث العراقي وبعض قادة الجيش السابق في هذا الوقت لم تكن المهمة الأولى التي يكلف بها الشابندر وغيره من أقطاب حزب الدعوة العراقي، فقد سبق لقيادات الدعوة وعلى رأسها مسؤول التنظيم والإعلام في سوريا وقتذاك أبو إسراء المالكي الذهاب بعيدا ومفاوضة سلطة صدام حسين قبيل بدأ هجوم الحلفاء الأخير على العراق لعرض مقترح تقديم العون للسلطة ووضع يد حزب الدعوة بيد حزب البعث بحجة الوقوف بجانب الوطن وقت المحنة والتصدي للغزو والاحتلال الأجنبي، وقد تلقت قيادة حزب الدعوة بعد مقابلتها وتقديم مقترحها لوزير الخارجية طارق عزيز وكذلك نائب صدام طه ياسين الجزراوي اهانة بالغة القسوة حين رد طلبها باستفسار هازئ " من أنتم لنضع يدنا بيدكم "  2
رد سلطة صدام المهين على مقترح حزب الدعوة حمل وجهين يتقدمهما عنجهية فارغة وغباء مفرط . فقد كانت فرصة نادرة لسلطة صدام يتسنى له من خلال قبولها إسقاط ذرائع كثيرة لخصومه حول اقترافه جرائم بحقهم وبالذات منهم حزب الدعوة وأيضا الحصول على تزكية مجانية لجميع أفعاله، والوجه الأخر دفع حزب الدعوة نحو انقسامات حادة والعمل على إنهائه كحزب معارض ومن ثم انهياره التام بسبب تعاونه مع قتلة شهداء الحزب والحركة الوطنية وتزكيته لسياسات نظام  البعث بعمومها.
طلب التعاون مع حزب البعث الذي قدمه حزب الدعوة قبل الهجوم الأمريكي حسب ما عرضته أخيرا وثائق وزارة الخارجية العراقية التي نشرتها بعض  المواقع العراقية دون أن يظهر أي اعتراض أو تكذيب لها من قبل حزب الدعوة أو مكتب رئيس الوزراء أو الخارجية العراقية وكذلك المواقف السيئة الأخرى من مثل سيطرة وتجاوزات كوادر وأعضاء الحزب على ممتلكات الدولة العراقية وتوليهم المراكز القيادية في أدارتها بعد سقوط سلطة صدام وقيامهم بنهب أموالها وتزوير الشهادات والعقود وانتشار فساد الذمم وممارسة الجريمة والتستر وإخفاء ملفات الكثير من الجرائم ولجان التحقيق ووصل الحال بتلك القيادات التحالف مع أعداء الشعب العراقي ممن أدينوا بارتكاب عمليات قتل وإرهاب وليس أخر تلك المواقف عودة مشعان الجبوري عبر فبركة يمتلك جميع خيوطها المسؤول الأول لحزب الدعوة أبو أسراء المالكي. كل ذلك وغيره يشير لانحراف قيادات حزب الدعوة وتخليها عن قيم معلنة كان الحزب ومازال يسوقها كلافتات لعمله الديني والسياسي، ووصل الحال بالحزب بعد توليه قيادة السلطة الحاكمة إلى استسهال الدخول في مناطق مأزومة وملتبسة توحي لقدرته الفائقة التعامل مع الواقع بسلوك تآمري غير سوي  لأجل الإمساك  والتشبث بالسلطة ومعادلها المال والقوة دون إن تواجه تلك القيادات أي اعتراض أو لوم من قواعدها.

* 1    تصريحات عزة الشابندر
http://www.youtube.com/watch?v=59PMFQKLlN0

  * 2
 الوثائق المدونة والمستلة من أرشيف وزارة الخارجية العراقية عن زيارة أمين الجامعة العربة نبيل العربي ولقائه بالمسؤولين العراقيين وأولهم رئيس الوزراء أبو أسراء نوري المالكي عرضها موقع عراقي وتداولتها صحف ومواقع أخرى..وتعتبر صحيحة لعدم ورود ما ينفيها أو يكذبها لا من وزارة الخارجية ولا من حزب الدعوة ولا حتى من ذراع المالكي في المهام الصعبة عزة الشابندر.

http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=1884

                    
      


            






212
ندوة عن العنف ضد المرأة، وجرائم الشرف والعنف الأسري


 

بمشاركة جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم ورابطة المرأة العراقية وشبكة المرأة الكردية الفيلية، أقام نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، في مقره في منطقة أللفك، ندوة نوعية تحت عنوان "العنف ضد المرأة، وجرائم الشرف والعنف الأسري" حضرها عدد كبير من أبناء الجالية العراقية في ستوكهولم وتحدث فيها كل من الدكتورة بتول الموسوي المستشار الثقافي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية والدكتور رياض البلداوي الاستشاري في الطب والتحليل النفسي.

في بداية الندوة رحب رئيس النادي الأستاذ حكمت حسين بالحضور وكذلك بالمحاضرين ونوه لأهمية مثل هذه الندوات وحرص النادي على تقديم كل ما ينفع الجالية العراقية واستعرض منهاج النادي للأسابيع القادمة، ثم أعطى الحديث للأستاذ فرات المحسن الذي أدار الندوة وقدم لها بمقدمة موجزة أستعرض فيها بعض من ظواهر وأسباب العنف مشيرا لمسألة مهمة تفتقر لها الحياة المجتمعية في العراق والتي تتمثل بفقدان منظومة تكفل حقوق الإنسان والتي بدورها تحتاج لوجود شروط حياة عادلة أمنه وبيئة اجتماعية سليمة يكون معادلها قاعدة اقتصادية ومعرفية رصينة تبني مؤسسات علمية تعليمية تثقيفية متكاملة شاملة تتداخل وتتشابك مناهجها وأطرها المؤسساتية بين الأسرة والمجتمع ومنظماته ووسائل وهيئات ومؤسسات التعليم والثقافة والمناهج التربوية وكذلك وسائل الأعلام.   
 

 بعد ذلك أعطي الدكتورة بتول الموسوي المجال للحديث حول طبيعة العنف في العراق وأنواعه وأسبابه ومظاهره، وبمنهجية أكاديمية قدمت الدكتورة نقاط استعرضت فيها ما تتعرض له المرأة في مجتمعنا العراقي منذ ولادتها حتى شيخوختها وكيف يمارس الرجل في المجتمع ألذكوري دور الوصي الكامل على المرأة وطبيعة الإجراءات التي تتخذ وتنتقص من قيمة المرأة وتجعلها خاضعة للآخرين، لاتستطيع الفكاك من ربقة تلك المفاهيم والتقاليد والطباع، فهي في أعراف المجتمع المتخلف، سلعة وتابع تخضع لإرادة الرجل وقيم مجتمعها الذي يكفل للرجل القيمومة عليها، وتحدثت بالتفاصيل عن العنف، ذاكرة إن إعلان القضاء على العنف ضد النساء الصادر عن الأمم المتحدة عام 1993 ميز بين ثلاثة أنواع من العنف وهي العنف البدني والعنف النفسي والعنف الجنسي، كما حدد أنواع العنف وفقا للجهة المسؤولة أو الممارسة له، وهي العنف الممارس في إطار الأسرة والعنف الممارس في إطار المجتمع والعنف الممارس من قبل الدولة وأخيرا العنف أثناء النزاعات المسلحة، وفي هذه الجوانب ذكرت الدكتورة الموسوي حالات العنف التي تتعرض لها المرأة في جميع هذه النقاط التي ذكرها الإعلان معطية لتلك الحالات الأمثلة من واقع حال المرأة العراقية وما تتعرض له من مختلف أنواع العنف النفسي والجسدي منذ ولادتها ولحين شيخوختها.      

 وطرحت الدكتورة الموسوي بعض الأمثلة عن معاناة المرأة العراقية واستعرضت بعض القوانين والأعراف الاجتماعية الصارمة التي تهضم حقوقها لا بل تهينها، ولم يفتها إن تذكر بعض الحالات التي تجد فيها بعض النساء الممسوخات الشخصية قبولا بما تتعرض له من إساءة أو عنف، وأشارت في استطرادها إلى الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للعنف ضد النساء، فعواقب العنف تتجاوز حدود الضرر البدني ويكون أثره النفسي أكبر وأخطر مما يضعف احترام المرأة لذاتها وتصاب بالاكتئاب وحالات مرضية عديدة ويحد من نشاطها وقدرتها على المشاركة في الحياة وصنع القرارات العامة والعائلية، وأن العنف هو السبب الرئيسي المفضي لتفكك وانهيار أهم مؤسسات المجتمع إلا وهي العائلة، مما يترتب على ذلك من آثار سلبية تلعب أدوارا حاسمة في التنشئة الاجتماعية والحياة المستقبلية لأفراد العائلة وبالذات منهم الأطفال.  
 

بعد ذلك قدم الدكتور رياض البلداوي رؤيته العلمية لموضوعة العنف، مؤكدا في مداخلته على جانبين مهمين في طبيعة العنف، الأول التحليل النفسي والاجتماعي للعنف والثاني يتعلق بسلطة الأب مؤكدا على موضوعة مهمة للوصول إلى تفكيك طبيعة العنف والمسؤولية عنه حيث بين بأنه لا يمكن رسم صورة خاصة وواضحة حول من هو ممارس العنف، فيمكن أن يكون ظاهره إنسانا طبيعيا في تعامله مع شركائه في العائلة أمام المجتمع ولكن في الوسط العائلي تختلف لغته وتصرفاته. ولتثبيت طبيعة التركيبة الاجتماعية التي تؤطر حياة الأسرة وكذلك المحيط الاجتماعي وتأثيرهما في نشأة الفرد، قدم الدكتور البلداوي تعريفا للعائلة ينطوي على محتوى التركيبة الناتجة عن ذلك الارتباط حيث شخص العائلة بأنها تركيبة اجتماعية مؤلفة من عدة أشخاص مرتبطين بأواصر معينة وبعلاقات نوعية تحددها التركيبة الثقافية الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الأسرة وتنتمي ضمن شروطها لوسطها الاجتماعي، ومن هذا المنطلق حدد الدكتور البلداوي مسار العنف وطبيعته وأسبابه مشيرا أولا إلى العوامل المؤثرة في بروز العنف المنزلي وحددها بالتالي وهي الوضع النفسي، شكل وأسلوب العلاقة الزوجية ومنها التبعية الاقتصادية، الظروف الاجتماعية والاقتصادية وضغوط العمل والوضع الاجتماعي والثقافة السائدة والتأثيرات السابقة على شخصية الفرد، وبالتوضيح والإشارة إلى جدول أعده عن طبيعة العنف المنزلي حيث يشير الجدول لأنواع هذا العنف ممثلا بنوعين عنف مباشر وعنف غير مباشر. العنف المباشر يوجه مباشرة نحو الضحية وهو عنف مقصود وحاد وواضح أما العنف غير المباشر فهو يوجه إلى أشخاص آخرين بهدف إخافة أو تهديد الضحية وهذا النوع يكون سلبيا ومستترا. بعد ذلك تطرق الدكتور رياض لمفهوم سلطة الأب في المجتمعات الذكورية حيث تكون هناك أعراف متوارثة تجعل الرجل يعتقد بأنه يمتلك جميع أفراد العائلة أي أن الأسرة بمجموعها هم من ممتلكاته وهو لا يساوم على هذا المبدأ ومن هنا تتولد آليات لنقل العنف حيث يربى الطفل وفق سلوك يسيء للعلاقة العائلية ويدخلها في دوامة من العنف النفسي والجسدي وحتى الاجتماعي، ويتصاعد هذا العنف ليرحل إلى مراحل متقدمة يصل فيها لتشكيل طبيعة مجتمعية ومؤسساتية تتوالد فيها طباع كثيرة من المساوئ والعنف وتنمو هذه المشاكل وتطفح بالكثير من الهزات العنيفة جراء اختفاء النظم والقوانين الرادعة للعنف، وفي تلك المجتمعات يكون هناك الكثير من البشر في دواخلهم دوافع شريرة تمارس العنف. ولذا فمن المناسب أن توضع قوانين صارمة لردع العنف بمختلف أشكاله وتعالج في المقدمة مسبباته فحين يكون هناك قانون للردع يحمل شيء من الصرامة والعقلانية نلاحظ اختفاء الكثير من مظاهر الانحراف السلوكي وبالذات منه ألعنفي.

 بعد ذلك أعلن عن استراحة لمدة خمسة عشر دقيقة تناول فيها الجمهور المعجنات والشاي والقهوة وكانت فرصة للقاءات حميمة بين أبناء الجالية العراقية في العاصمة السويدية. عاد بعدها الأستاذ فرات المحسن ليعلن عن فتح باب النقاش للجمهور مع المحاضرين حول ما جاء من أفكار في الندوة.

لم يقتصر حديث الجمهور على توجيه أسئلة حيوية إلى الدكتورة بتول الموسوي والدكتور رياض البلداوي بل قدمت مداخلات وأراء كثيرة حول هذه الموضوعة، ركز جلها على أهمية فتح النقاش على سعته دون تحفظات كي يلم الجميع بطبيعة العنف ومسبباته، وأكدوا أيضا على ضرورة وضع قوانين رادعة للحد من حالات العنف بمختلف أشكاله وأيضا ضمان حقوق الطفل والمرأة وبالذات وضعهما الاقتصادي، وأشار البعض إلى إن مسبب العنف يعاني من المرض النفسي وهو ضحية التقاليد والعادات السيئة، وأكد أغلب المتداخلين على إن العنف له أسباب اجتماعية اقتصادية، والبعض أشار لأهمية تدخل المؤسسات الدينية للحد من الظاهرة في حين لمح أخر إلى كون النظم والأفكار الدينية والعشائرية والجهل بفيسيولوجية المرأة هي من أكثر الأسباب في انتشار ظاهرة العنف الأسري، وتساءل أخر عن دور الفرد في مكافحة الظاهرة وضرورة وضع مناهج تربوية تبدأ من رياض الأطفال تعطي دروس بالضد من جميع أنواع العنف ووضع قوانين صارمة حول سن الزواج وعمليات الطلاق وتعدد الزوجات. ورد ت الدكتورة الموسوي والدكتور البلداوي على جميع الأسئلة والأفكار التي طرحها الجمهور بما أغنى الموضوعة واتسعت محاورها.
 

بعد ذلك شكر رئيس النادي ورئيسات الجمعيات المشاركة المحاضرين وقدمت لهما باقات من الورود عرفانا بالجهد الذي بذلاه من اجل أغناء وتوضيح طبيعة موضوعة الندوة علميا وحقوقيا. وقيمت الندوة من قبل الحضور على أنها ندوة نوعية تستحق الثناء والإشادة وتتطلب تكرار ما يشابهها لوجود العديد من النقاط التي تثار في مثل هذه الموضوعة وخاصة بعدما دار نقاش مستفيض أثناء الاستراحة وعلى هامش الندوة عن طبيعة العنف وتوصيفه وبالذات في المجتمع العراقي والاختلاف على وضعه بين مصطلح الغريزة أو الموروث الاجتماعي. هذا وغطت فعالية الندوة مشكورة قناتي بلادي والرشيد الفضائيتان.  


إعداد : اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
تصوير : سمير مزبان، سعيد رشيد
البريد الالكتروني: idkse@yahoo.se

213
المنبر الحر / مكرمة السيد القائد
« في: 19:39 15/05/2012  »
مكرمة السيد القائد

فرات المحسن
الحقيقة أن  لدي شغف غريب بالمكرمات وتتوفر عندي قابلية لترصد المكارم التي يقدمها كرماء القوم وفي الوقت ذاته احمل عتبا كبيرا على والدي ووالدتي كونهم لم يعلماني الشعر كي احلب من الكرام المكارما. وقصيدة قصيدتين بوجه الكريم ميضيعن، أشو واحد بس أخذ صوره ويه القائد راح يصرح لوسائل الإعلام  بأن القائد يشبه بطل المسلسل التركي وادي الذئاب السيد بن العلوية مراد علم دار ممزق ومملخ  ومصلخ المافيات وعصابات الجريمة،  والأدهى من هذا الطنطل اللوكي واحد أكل ويه القائد  لفة كباب كَام يغرد يوميه بحب القائد ويوخر صخام الوجه عنه بخركة مركًعه ويمكن بمقال قادم راح يشبه بالأمام علي لشجاعته وحكمته الفائقة لو يشبه  بالسيد المسيح على ما يحمله من براءة طفولية وتسامح ومحبة تكًطر من وجه الطافح بالطيبة والبراءة.
القائد العام للقوات المسلحة فاتح جبهات الحرب وطاش البهارات والملح في العملية السياسية وفي واحدة من لفتاته الرائعة قرر في يوم سابق أن يمنح كل عائلة من شعبه 15 ألف دينار شهريا،في تلك اللحظة التي لن تتكرر وفي ذلك اليوم التاريخي من العام قبل الفائت الذي أذيع به الخبر اجتاحت جسدي رعشة خفيفة وارتسمت على وجنتي ابتسامة رقيقة وتورد خداي وتألق فكري وسرح خيالي بعيدا حيث  شعاب أبو نؤاس ورائحة السمك المسكوف ونسائم الشط الجالبة للنعاس، عندها ناديت على جميع النوادل جمع نادل على وزن مفاعل فعولن مفاعيل بلابل:
 إلى هبوا بصحونكم وأصبحونا         ولا تبقوا خمور الأندرينا
مشعشعة كأن الحص فيها                إذا ما الماء خالطها سخينا
تجوز بذي اللبانة عن هواه              إذا ما ذاقها حتى يلينا
 
صدقه الله، هذا شنو عمر بن كلثوم لعد لو طبك بصف أمه أم كلثوم وغنو الأطلال يم الجرف بالشريعة بصوب  الكرخ، عصريه والشمس دتنزل حداري فوق البيوت  والباجله منكعه بالخل وخيار الماي فوك الجريدة وهناك أيضا المشعشعة كأن الحص فيها،  شراح يصير بالأمة هذيج الساعة.
هاي المكرمة مال القائد خربطت عليه الغزل وراح تفكري بعيدا،  لعد لو مستلمه صحيح شجان صار..
بقيت بهاجس تذكر المكرمات واليوم أتذكر مكرمة القائد المقبور له صدام حسين يوم أهدى لشعبه دجاجة مربربه، أني حجيت عنه سابقا عندما طيرتها البزونه من تحت الطشت بليلة ظلمه وما ضكَنه من مكرمة المقبور له غير الجبده والأجنحة والحواصل وضيكة الخلك وبوقته طلعت قهري بأم عبيس و زوركت عينه من وره هذي العمله.
الحقيقة مكرمة القائد للعراقيين البالغة خمسة عشر ألف دينارا عراقيا عدا ونقدا عُلست علينا من قبل رفاق القائد في ديوان رئاسة الوزراء حين ولادتها دون أن نعد أوراقها، أي هسه لو مطينياهه وبعدين مسجليه علينه دين هم جان كلنا ميخالف وقبلنا، لكن طلعت مثل التبرعات والهدايا والمبالغ التي جمعت يوم واقعة جسر الأئمة التي طشت ووزعت هدرا في جيوب الأصحاب والرفاق وعساها أبخت من علسها وعسى أن  يكون سعير نارها يلهب أجسادهم يوم القيامة  بما كسبت أيديهم من سرقة أموال الشعب ومخالفة مكارم السيد القائد، فلو إن مكرمة 15 ألف لم تُعلس لكنت قد أعددت للسيد القائد جنجلوتيه شعرية تجعل طرفة بن العبد البكري  يندم كونه لم يولد في زمن القائد قدس الله سره، ولم يسعفه حظه الفاين بالوقوف دقيقة صمت ثم إلقاء معلقته عن المنجزات العظيمة والمكرمات الرائعة للسيد قائد العراق نحو الذرى والمجد، مثلما سوف أفعلها أنا لو حصل واستلمت مكرمة القائد وقتذاك.
راحت المكرمة مثلما يقال بولة بشط أي لا أثر لها وبقيت أستلف من هذا وذاك لكي أتشرف بزيارة أبو نؤاس ولو مرة كل شهرين والذي تتحدث عنه بيبيتي بكدر كلما رأتني وتقول أن صرتي قد سقطت في أحد أزقته حين ولدتني أمي. ومن تأريخ علس مكرمة القائد ولحد الآن أصبحت أنكس رأسي حين يطالعني الحبيب الطيب القلب  شمعون حسون صديقي نادل البار معاتبا ومذكرا بأن المبلغ المستلف والحساب قد وصل إلى مراحل متقدمة لا تحمد عقباها.
اليوم منحنا القائد مكرمة أخرى تضاف إلى حسناته وصدقاته لشعبه، مكرمة لها قيمة معنوية أكثر مما هي مادية في حياة شعبنا المظلوم المكابر القابض على الجمر، مكرمة تعادل الكثير مما ترغب به شعوب الأرض من استقرار وأمان. مكرمة القائد ستجعل من الإنسان العراقي فلاش كوردن لو كاري كوبر لو جاك بريجه بيده  بطل فيلم أتركني مخطوبة. مكرمة تبعده عن تذكر أجت الوطنية وراحت الوطنية.
المكرمة هي موافقة سيادته على فرض سلطة القانون لدولة القانون  من خلال السماح لكل عائلة باقتناء قطعة سلاح ولتكن حسب رغبة العائلة فالقانون لم يحدد نوعها وحجمها.
عندها تذكرت  أبو جويده يوم عرس أبنه محيبس  وقتها خرج من الخيمة التي نصبت وسط الشارع العام وضرب بالهواء قذيفتين من قاذفة أربي جي سفن والله اليدري  وين وكعن وشكد يتامه خلفن. وكتها ألتفت لي أبو صبيح وهمس في أذني:   لعد من يتزوج ابنه الزعطوط حمودي شراح يسوي .
اليوم شاهدت بأم  وبيبية عيني نتائج مكرمة القائد الجديدة، سمعت صراخ قوي فأخرجت راسي من باب الدار نصف الموارب، فالدنيا مو كلش أمان والمساء أرخى سدوله بعض الشيء وثمة ضجة في الشارع، لا أعرف كنهها، أدرت نظري وأجلته بين الجدران والبيبان لأشاهد مجموعة من الرجال تزر ثم تعر وبالفصحى يقال تكر متوسلة ثم تفر متخوفة . تجفو ثم تقترب في محاولة يائسة مرتبكة من  جبار بن رزوقي المدلكجي  وهو بعمر العشر سنوات يصارع رافعا بندقية رشاش بي كي سي الأمريكية الصنع  ويرفس باب بيت مرتضى أبو السبح ويصرخ بأعلى صوته، أطلع لك جبان،، أطلع لو أنته رجال ...تعال يمي حتى أسوي راسك منخل.   
الحقيقة شعرت برجفة قوية تجتاح كياني وحزن يملئ قلبي وخوف من القادم، فجأة سمعت رشقة رصاص شهدت بعدها جبار مرميا فوق رصيف الشارع والبندقية بعيدة عنه لبضعة أمتار. عندها أدركت قيمة مكرمة القائد فهو أراد منها تعليم الفرد العراقي قيم الرجولة مثلما فعلها سلفه القائد المقبور له صدام حسين حين علم الناس ارتداء الزيتوني وجعل يوم رفعة العلم في المدارس يرافقه رمي أطلاقات نارية لتقوية قلوب التلاميذ وجعلهم يستعدون لليوم المنشود  وهو الذهاب إلى العسكرية وارتياد السواتر الترابية في معارك الأمة العربية والموت هناك والجود بالنفس وهي أعلى غاية الجود، وقبل الموت على الجندي ترديد النشيد الوطني ياكًاع ترابج كافوري،،، عل ساتر هلهل شاجوري. فحسب نظرية الغلبة والتغالب  المعشعشة في رؤوس  القادة من العربان والجربان مهما اختلفت جذورهم وأصولهم فإن الدروس الأولى في تعلم الرجولة تكون من خلال العسكرة، فمجتمع مسلح ومتأهب دائما للمعارك  له من الحسنات والقيم الخلقية الكثير. فشعب قوي القلب صلب العود غير هياب عند النوائب والكوارث والمحن يستطيع السيطرة على أعصابه في الملمات والحوادث يرضى بما حوله من صخام ولطام  وله حسنة نسيان الخيبات مثلما نسيان موتاه بسهولة ويتعامل بطبيعة هادئة مع عمليات الإرهاب حتى وإن قتلت منه الآلاف ويروض نفسه على قبول الذهاب السلس والطوعي للموت ويتعود منظر الأسلحة وإدامتها ويتغلب على باقي الأمم في معرفة مسمياتها ونماذجها ويكون أيضا ميالا ومحبا لمشاهدة أفلام الأكشن التي تعرضها قناة العراقية ليلا لغرض تعليم الشعب بدون تكلفة ولا مدربين أمريكان أو إيرانيين أو حتى أفغان على كيفية وضع اللواصق المتفجرة وسرقة البنوك وعمليات الاحتيال وتفخيخ السيارات. أنا مسلح أذن أنا موجود حكمة القائد في بناء الإنسان الجديد.
الحقيقة أن مكرمة القائد الأخيرة تستحق نص مذهل لا بل مرعب  لقصيدة عصماء من الممكن أن تكون واحدة من المعلقات التي تسجل في عصر الكَوكًل بحق أحد قادة العصر العراقي الجديد، فهل يتكرم علينا ماجورين أبطال الارتزاق بتلك القصيدة.
 
 
 
 
نص سابق عن المكرمات والعطايا
حكاية الدجاجة المربربة  مكرمة القائد المقبور له صدام حسن
عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=248713
 


214
ندوة عن العنف ضد المرأة، جرائم الشرف والعنف الأسري

يفتقد العراق ومنذ تأسيس سلطته وحدوده الوطنية لمشروع وطني يعتمد صيغ سليمة للتنمية البشرية التي تمثل حقوق الإنسان واحدة من أهم أعمدتها وأسسها وهي المدخل لتحقيق الكثير لصالح الأفراد والأسر وأيضا المجتمع.
والتنمية البشرية تحتاج لتوفر شروط حياة عادلة أمنه وبيئة اجتماعية سليمة يكون معادلها قاعدة اقتصادية ومعرفية رصينة تؤسس لمؤسسات علمية تعليمية تثقيفية متكاملة شاملة تتداخل وتتشابك مناهجها وأطرها المؤسساتية بين الأسرة والمجتمع ووسائل وهيئات ومؤسسات التعليم والمعرفة والتربية المستدامة.
ولكن الحقيقة المحزنة هي انعدام مثل تلك المؤسسات والتي يرافق اختفائها انعدام ثقافة حقوق الإنسان في العراق وهناك نسبة عالية بعيدة عن معرفة حقوقها الأساسية وهذا لوحده يؤشر لانحطاط في البيئة الأسرية وأيضا الاجتماعية والتعليمية والثقافية حتى السياسية  منها.
هذا الفقر في الثقافة الإنسانية وتغافل الحكومات عن أهمية التنمية البشرية يجعل الإساءة الطابع الغالب في التعامل الفردي والمجتمعي وتتسيد تصرفات البشر في العراق ظواهر غير سوية واضطرابات سلوكية تبدو في الغالب غير قابله للتفسير وتنحوا نحو تسيد لغة العنف المنفلت.
في موضوعة الإساءة وهي تتراوح بين الشتيمة والتهديد وصولا إلى حالات القتل وتكون المرأة والطفل الأكثر تعرضا لمثل هذا الأمر لذا نرى إن العنف الأسري وجرائم الشرف تمثل نسب عالية وبالغة الخطورة في العراق وتتطلب معالجات يشارك فيها الجميع مؤسسات حكومية ومنظمات مجتمع مدني ورياض الأطفال حتى الجامعات ووسائل الأعلام ومعاهد الدراسات.
 
هذه هي موضوعة الندوة المفتوحة التي يقيمها نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم بمشاركة جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم ورابطة المرأة العراقية وشبكة المرأة الكرد فيلية يوم الجمعة الموافق 18 / 05 / 2012 في الساعة السابعة مساءً على قاعة النادي في منطقة أللفك في العاصمة ستوكهولم .
يحاضر في الندوة :
الدكتورة بتول الموسوي المستشارة الثقافية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية في الدول الاسكيندنافية.
الدكتور رياض البلداوي استشاري في الطب والتحليل النفسي.
 
الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
 
Irakiska Demokratiska 14 Tammuzklubben i Stockholm, IDK
The Iraqi Democratic 14 Tammuz Society in Stockholm

 
 
 

215
الإيمو.. حقد الدشداشة على أناقة الأزياء الأخرى

فرات المحسن

بداية عام 2009 ظهر للمرة الأولى في بعض الصحف والمواقع العراقية  إشارات لوجود ظاهرة جديدة في العراق سميت بالإيمو  وهي تسمية أطلقت على بعض الشباب الأوربي الذي يعرف بنزوات وطباع معينة تمثلها نزعات عدمية وتغرب عن المجتمع وتجمعات في حفلات صاخبة وأيضا يمتاز أعضاء تلك المجاميع  بارتداء ملابس بعلامات ورموز موحية أو غير موحية ولكن المهم فيها شكلها الذي يميز أصحابها عن غيرهم  من الشباب، كذلك ينفرد هؤلاء بمواصفات أخرى  مثل قصات شعر مسترسلة وغريبة والبعض يصبغ شعر رأسه  بألوان فاقعة، ويميزهم كذلك استعمال الحلق والخواتم الغريبة الشكل مثل الجمجمة والسيوف والكتابات بالحروف الصينية، وفي الغالب هم مجاميع غير مؤذية ومنطوية على نفسها ودافعهم لانتهاج هذا السلوك هو الرفض للواقع الذي يعيشونه وشعورهم بالضياع والفراغ الذي يحيطهم ومحاولة تجاهل ما يدور حولهم من أحداث، و هم امتداد لظواهر سبقتهم في الوجود وسط المجتمعات الأوربية مثل الهيبز والهوليغنز وغيرها.ولم تكن المجتمعات العربية أبدا بمنأى عن مثل تلك الظواهر وهي نتاج طبيعي في مجتمعاتنا العربية مجتمعات الكبت الجنسي والعزلة والانغلاق الفكري والمآزق الثقافية والأخلاقية  لذا تكون ممارساتهم ردود فعل على شكل متع عبثية وغريبة تعبر عن ذوات فارغة مستنكرة لموقف محيطها الاجتماعي وحتى السياسي والاقتصادي منه، وتمثل البطالة وقلة التعليم أو انحداره مرتعا خصبا لنشوء مثل تلك الظواهر وربما إن هذين السببين مع الكثير من الأسباب والمشاكل المتفاقمة في المجتمع العراقي لا تجعل ظاهرة الإيمو تنفرد بوجودها ونيلها قصب السبق في وسائل الإعلام اليوم فهناك ظواهر مثل طيور الجنة التي تزج الأطفال في عمليات القتل اليومي وعصابات من صغار السن وكباره ومثلها للنساء تختص بجرائم السرقة والقتل وخطف الأطفال، وتنتشر اليوم مهنة تروج للخرافات والشعوذة والسحر الأسود، وهناك عصابات التزوير وخداع الناس، وتنظيمات اجتماعية وسياسية تمتهن النصب والاحتيال والنهب والقتل بمختلف أشكالها وتلك العصابات أكثر خطرا وأدعى للمطاردة والقصاص بدلا من هؤلاء الشباب من مجاميع ما سمي بالإيمو وغيرها.
في العراق اليوم خلط متعمد  لجميع تلك الظواهر فظاهرة الإيمو عند الأغلبية في المجتمع العراقي لا تختلف عن ظاهرة المثيلين أو عبدة الشيطان أو الهيبيز و الهوليغنز أو حتى عصابات الجريمة، وهذا الخلط المتعمد ينحوا أساسا للقصاص من ظاهرة أخرى ليست هي ظاهرة الإيمو بالتحديد وإنما التلويح بالقصاص خارج نظم القانون لهؤلاء وغيرهم، وصولا إلى تبرير جريمة القتل لجميع الشباب الذي يغردون خارج السرب أو ينتهجون ما يخالف التقاليد والأعراف القبلية والدينية، وتعد الأناقة والملابس المزركشة والإكسسوارات ميزات للشخص الذي يخرق تلك القوانين والتقاليد والأعراف ويطلق عليهم بشكل عام توصيف الجراوه أي صغار الكلاب وهي تسمية مبتذلة استطابها المجتمع ألذكوري.
 أعراف البداوة والريف التي غزت المدن العراقية ومسخت طبيعتها المدينية تتطلب فيما تتطلبه كمظهر شخصي ملابس تقليدية مثل الدشداشة والسترة والغتره أي اللباس التقليدي للفلاحين والبدو والذي يعد اليوم الزي المفضل للغالبية من رجال العراق حتى القادة السياسيين وأساتذة الجامعات منهم، ويتخذ منه رداءً في الحياة العامة أو في البيوت. أما ارتداء الزي  الأخر المتمثل بالبنطلون والقميص فيقتصر على موظفي الدولة وفي أجواء العلاقات الرسمية ويتخلى عنه في جلسات المقاهي  والتنزه في الأماكن العامة أو داخل البيوت أو حلقات التزاور، وانتشرت ظاهرة ارتداء الدشداشة بعد تسريح آلاف الشباب من الجيش أثر انتهاء حربي الخليج الأولى والثانية وفترة الحصار الاقتصادي  التي ساعدت بنتائجها على انتشار البطالة وظهور الحرف الهامشية التي تمارس أعمالها في عربات متحركة أو فوق الأرصفة،  وأصبح ارتداء الدشداشة والتجول بها يمثل مظهرا من مظاهر الرجولة التي برزت مع تسيد ثقاليد الريف والبداوة. كذلك فأن ظاهرة ارتداء الدشداشة ممكن أن نجد فيها محاولة لتقليد الرداء الرسمي والدارج في الخليج، وشاع  ظهور الدشداشة  بشكل ملفت للنظر بعيد  فترة الارتكاس الثقافي  الذي عم الحياة العراقية إثر انقلاب حزب البعث على حلفائه الشيوعيين عام 1978 واختفاء مجاميع ومنظمات كانت تدعم ركائز الثقافة والمدنية، بعدها أسفر قادة انقلاب 17 تموز عن حقيقتهم وبدأت معه  عملية انحدار مجتمعي حيث انتقلت أعراف الريف إلى المدن بكثافة غير معهودة وبأسباب عديدة كان من أهمها التركيبة الاجتماعية لقادة ذلك الانقلاب وخلفيتهم الريفية والبدوية الممزوجة بالتقاليد العسكرية الصارمة والتي مثلها أحمد حسن البكر خير تمثيل فكان يفضل دائما ارتداء الدشداشة بشكل يومي ومبادلتها فقط بالبزة العسكرية وكان يحتفظ ببقره وزوج من الخراف في حديقة داره الواقعة في منطقة علي الصالح في بغداد ، وكان البكر يكره ارتداء الزي المدني أي السترة والبنطلون ومثله كان يفعل حردان التكريتي وباقي قادة الانقلاب من ذوي الخلفية البدوية،  ونهج ذات السلوك باقي قيادات حزب البعث وشملت العدوى الكثير من أعضاء الحزب ومناصريه، وروج  لهذا الأمر باعتباره جزء من قوة واعتداد ورجولة الرجل، وقد اتخذ فيه طابع التشدد بعد إعلان صدام حسين عن مشروعه لعسكرة المجتمع.
أعوام السبعينات امتازت بملامح أزياء استطاب الشباب وخاصة الجامعي منه ارتدائها من مثل الميني جوب للفتيات  وهو الثوب القصير فوق الركبة والجارلس وهو البنطال الفضفاض من الأسفل والضيق من الأعلى وقصة الشعر تتميز بالسوالف ( زلف) الكثة والطويلة والشعر الساقط على الكتف وكان الكثير من الشباب ينحوا لتقليد قصة الشعر الجيفارية نسبة للمناضل الشهيد تشي جيفارا. لم تحتمل عقلية قيادة البعث وحتى جماهيره انتشار تلك المظاهر فوجهت قوة بأسها لإيذاء هؤلاء الشباب في محاولة لأبعادهم عن ممارسة تلك المظاهر فقاد خير الله طلفاح وهو خال المقبور صدام وكان هذا المجرم يحمل كراهية خاصة لكل ماهو مديني ويعتبر مدينة بغداد خصما لدودا له ولعائلته على كثرة ما لاقاه من صدود وكراهية قابلته بها بغداد جراء سلوكه المنحرف، ثم أوكلت قيادة البعث بعد حين لأحد مجرميها وهو سمير الشيخلي ليقود الحملة من جديد ضد الشباب في محاولة لأهانتهم وتركيعهم، استخدمت في الحملتين أساليب همجية مثل تلطيخ سيقان الفتيات بالصبغ الأحمر وشق البناطيل بالمقص وفي بعض الأحيان احتجاز بعضهم في مراكز الشرطة. كانت تلك الحملات المسعورة والتي دفعت بكلابها ليقفوا أمام أبواب الكليات والثانويات وقرب المقاهي لتصيد الشباب وإيذائهم، تعبيرا دقيقا عن مشاعر حقد وكراهية تتلبس شخصيات ملوثة بثقافة تمقت الحياة والحرية والتمدن فيكون نتاجها دائما العداء للآخرين الذين تعدهم خصوما وخارجين عن القانون والتقاليد والأعراف ومن الموجب أن يوجه لهم القصاص ليكونوا عبرة لغيرهم.
اليوم يحدث ذات الشيء ولكن بشكل أخر فجرائم القتل التي تطال الكثير من الشباب العراقي على خلفية تهمة الانتماء لجماعة الإيمو ما هي إلا حملة مخادعة ومركبة تشارك فيها مجاميع ليست بالقليلة العدد أو القدرة، ومنهم من هو في السلطة ومؤسساتها تساندهم في هجومهم هذا أعراف وتقاليد البداوة والريف التي تفشت مثل النار بالهشيم واجتاحت مدن العراق لتتسيد بمفاهيمها الضحلة حياة الناس وتندفع لتعيد تركيب ثقافة المجتمع وفق النهج غير السوي والمؤذي والمتخلف الذي مثلته سابقا سياسات حزب البعث الرعناء  لتمارس ذات الحملات  المسعورة لخير الله طلفاح وسمير الشيخلي ولكن اليوم بعقوبة أشد. في ظني إن أعراف  الدشداشة  والنطاق و الغتره والشفطة حلت اليوم بديلا عن روح خير الله طلفاح وسمير الشيخلي. كذلك فإن مشاعر الدونية التي سادت بين أوساط قادة البعث في ذلك الوقت من جراء الخوف والتطير من منظر التقدم والتحضر في المدن، نراها اليوم  تتلبس أرواح المنادين بالرجوع لأعراف العشيرة وتقاليد الريف لذا تراهم يستفزون وينفرون لا بل يتخوفون من منظر الشباب المتأنق المرتدي أحدث الأزياء النظيفة والأنيقة بألوانها الزاهية وبقصات شعر جميلة، ولكي تكون حملات الحقد والجريمة مبررة وتتقبلها  قطاعات مجتمعية برضا واقتناع فإن أقصر طريق لذلك هو اتهام جميع الشباب الأنيق وبمختلف إشكالهم ومواقعهم بتهمة ظاهرة الإيمو أو عبدة الشيطان أو الجراوة ومن ثم إباحة دمهم وتلك رسالة دقيقة التعبير واضحة الإشارة موجه بالتحديد لمن يريد الطعن بظاهرة الدشداشة وأعراف وقيم التمسك بارتدائها كونها باتت تمثل رمزا من رموز الوطنية العراقية.     









216
الجريمة طريق لتقاسم العراق

فرات المحسن

في تصريح لجريدة الشرق الأوسط قال الفريق قاسم عطا الناطق الرسمي باسم خطة فرض القانون وقبل تغيير موقعه الوظيفي وانتقاله إلى جهاز أمني أخر، " إن غالبية العمليات الإرهابية تنفذ من قبل حمايات المسؤولين وبسيارات الدولة وبهويات الدولة وبأسلحة الدولة  "
مثل هذا التصريح لا يفاجأ البعض بل لا يعتد به عند قادة مؤسسات أمنية عراقية ولا حتى قادة وأعضاء أحزاب عراقية تشارك في إدارة شؤون الدولة وحكومة الشراكة. ولكن التصريح مقلق جدا للشارع العراقي فهو تأكيد قاطع لعائدية أعمال الإرهاب بما لا يقبل الشك من رجل عرك الوضع الأمني والعمليات الإرهابية من خلال مسؤوليته التي مارسها بالاحتكاك اليومي منذ عام 2004 ولحد الشهر الثاني من عام 2012 وكان خلال تلك الفترة المسؤول الأول عسكريا عن التدقيق والعرض لواقع الجرائم التي تطال المواطن وكان جل عمله اليومي متابعة عمليات التحقيق مع المشتبه بهم والنتائج التي تترتب على اعترافاتهم.
بما لا يقبل الشك فأن كلمة  "غالبية " لا يمكن أن تفسر بغير مفهوم الكثرة المطلقة باستثناء القليل، أيضا التأكيد على المنفذ أو المجرم الحقيقي الذي شاهده وتعرف عليه اللواء قاسم عطا وليس مواطن أخر وهم حمايات المسؤولين دون أن يحدد السيد قاسم عطا طبيعة المسؤول الحزبي والوظيفية التي يضطلع بها في حكومة الشراكة وموقعه في العملية السياسية وقبل هذا وذاك انتمائه الطائفي أو ألاثني فالجميع متساوون في الحدث وفعله ولا يختلف مسؤول من الائتلاف الوطني عن صاحبه في القائمة العراقية أو التحالف الكردستاني فالجميع مسؤولون وليسو مواطنين عاديين.
باقي التصريح يجعل الفرائص ترتعد مع مرور عجلات السلطة والمسؤول وهي تخرق شوارع المدن زاعقة طاردة من طريقها كل معترض وعابر سبيل، والمواطن العادي المسكين الذاهب لجلب لقمة عيش أو طلب علم لم يكن ليخطر على باله ما تحمله تلك العجلات وتجوب به من موت حقيقي ربما يأتي على شكل كاتم صوت أو عبوة ناسفة أو لاصقة تدس بسرعة البرق تحت عجلة سيء الحظ الذي قصد بموته إقلاق الوضع الأمني لا غير، أو عوقب بالموت لامتناعه عن مجارات حال أو انتقام لطول لسان لم يكن له ضرورات، وربما مزق جسده ومعه أجساد عائلته من أجل نزاع على حظوة حسناء أو تغليس واستحواذ على رشوة لم توزع بأنصاف وبما اتفق عليه.  أما العمليات الكبرى التي تكون مسارحها الأسواق والمقاهي ومساطر العمال وبنايات الدولة فلها أجندات خارجية وداخلية والشراكة فيها تتسع لتعطي انطباع أكثر عن مهام تنفذ من أجل مشروع مهما اختلفت تسمياته فهو وفي نهاية المطاف يذهب لأجل ترسيخ عملية العزل الطائفي ومن ثم الذهاب نحو الأبعد إلا وهو تقاسم العراق أرضا وشعبا.
ممارسة القتل الذي يضطلع بها المسؤول الحكومي والسياسي العراقي حسب تأكيد اللواء قاسم عطا دليل قاطع على أن الشركاء في السلطة يمارسون سياسة تكافئ الفرص في توزيع أدوار الجريمة دون حساب قيمة للضحايا، ففي مسعى الحث الطائفي يبرر القتل كضرورة لإيصال أهالي الضحايا ومعهم باقي الطائفة إلى قناعة تتلبس الجميع وتتخذ لها مسعيين الأول العداء وهو المقدمة الأولى للفتنة والنزوع لإقصاء المخالفين الذين يصبحون مع مرور الوقت خصوم ترتفع معها الرغبة بتصفيتهم جسديا والثاني ترسيخ الأيمان بأن لا حلول لما يجري غير فك الشراكة الوطنية وبناء الدولة الطائفية.
 هذه هي أذن الشراكة الوطنية لتقاسم السلطة في أهم سماتها وطبيعتها ومهامها إلا وهي الجرائم بمختلف الأنواع والمسميات وبأسلحة تتنوع حسب الأغراض والتوقيت ولكن الهدف في النهاية يبقى هو هو، نرجو أن لا يطول انتظاره كي لا يسقط من أجله ضحايا بنفس قدر الذين ذهبوا قرابين لأجله منذ عام 2003 ولحد اليوم. وبدورنا وبقناعة المستكين المرتعد من الاعتراف الحاسم للفريق قاسم عطا نطالب جميع السياسيين في العراق حسم أمرهم وفك الشراكة الكاذبة بأسرع وقت وتقاسم الخريطة الاقتصادية والجغرافية للعراق من أجل وقف العنف ونزيف الدم وكف أيديهم عن ارتكاب الجرائم بحق الشعب المسكين.   


217
العراقيون في السويد يحتفون بالثقافة العراقية



   
في مساء يوم الجمعة الموافق27 كانون الاول/يناير وعلى القاعة الرئيسية للنادي في منطقة أُّلفيكّ ALVIK  وسط العاصمة ستوكهولم، استضاف اتحاد الجمعيات العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم الأستاذ عقيل أبراهيم المندلاوي مدير عام دائرة العلاقات الثقافية العامة في وزارة الثقافة العراقية في ندوة حوارية حول "تعزيز العلاقات بين المؤسسات الثقافية داخل العراق وخارجه ودور المركز الثقافي العراقي المزمع افتتاحه في الدول الاسكندنافية (ستوكهولم) في ذلك.

أدار اللقاء الأستاذ حكمت حسين رئيس نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي. بعد الترحيب بالحضور الكريم من الجالية العراقية وممثلي المنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية والثقافية العراقية لهذا اللقاء الحواري، وبأسمهم بوفد وزارة الثقافة العراقية ورئيس الوفد الأستاذ عقيل أبراهيم المندلاوي، والدكتور حكمت داوود جبو الوزير المفوض في سفارة جمهورية العراق في ستوكهولم، والدكتورة بتول الموسوي رئيس الدائرة الثقافية العراقية في الدول الاسكندنافية، والدعوة للوقوف دقيقة صمت على ارواح شهداء الثقافة العراقية. تحدث الأستاذ حكمت حسين عن أهمية الثقافة العراقية وتنوعها  بمكوناتها الزاهية وتميزها، وكيف كانت الثقافة والفنون هاجس النادي وهدفه الأساسي الذي قام بخدمته طيلة السنوات الماضية منذ تأسيسه عام 1984 حتى يومنا هذا من خلال المهرجانات والاحتفالات والأماسي التي أقامها ويقيمها، وتخطط لها وتشرف عليها إدارة النادي ولجانه المختلفة، مشيرًا إلى احتفالات مهرجان أيام الثقافة العراقية التي تقام سنويًا منذ عام 1997 ولم ينقطع عنها، بل كانت تتطور وتستضيف خيرة مثقفي العراق وفنانية من داخل وخارج السويد، حتى صارت علامة بارزة في حياة الجالية العراقية في السويد وبالنسبة للجهات السويدية المختصة أيضًا. بعد ذلك عرّج رئيس النادي على المساعي التي انشغل فيها اتحاد الجمعيات العراقية في السويد منذ مايقارب سبعة اعوام على فكرة مشروع تأسيس بيت او مركز ثقافي عراقي مشترك مع المؤسسات الثقافية السويدية يكون حاضنة تجمع مثقفي العراق وتطور الثقافة العراقية في السويد. ولكن لم يحقق هذا المشروع في حينه لاسباب فنية وموضوعية. وقد اعاد الاتحاد وقدم المقترح الى وزارة الثقافة العراقية عند استضافة وفد الوزارة في السويد عام 2009، مع وضع برنامج زيارات ولقاءات مكثفة. وتحدث ايضا عن أهمية هذا المركز في حال إقامته واستعرض تفاصيل ذلك الجهد المبذول من أجل  هذا الهدف مشيرا إلى كون،
المراكز الثقافية التي تقام في بلدان مختلفة هي  الواجهات المهمة للتواصل والتفاعل بين الثقافات المتنوعة و تمثل أيضا النافذة الفعالة لتقديم الوجه الأمثل لمحتوى تلك الحضارات، ومن هذا المنطلق فأن أنشاء مراكز ثقافية في البلدان ذات العلاقة الدبلوماسية مع العراق يعد الاطار الاكثر فعالية وفي مستويات عديدة لأبراز الدور الحضاري للعراق، فهو لايقتصر على تقديم الخدمات لأبناء الجاليات العراقية من منتجي الثقافة والمعرفة العلمية بل أن امامه مهام حيوية كثيرة منها دفع الجالية العراقية للمشاركة والتفاعل في أنشطة الحياة العامة في البلدان المتواجد فيها، أيضا يحرص على اسناد ودعم المبدعين من أبناء الجالية، مثلما يقدم وبحرص النموذج الرائد لما يكتنزه الشعب العراقي من قدرات وثقافات متنوعة وبالذات في مجالات الثقافة والعلوم والفنون، ولذلك يوضح للشعب السويدي والجاليات الاخرى النزوع الحقيقي للتمدن وتمسك الشعب العراقي بقيم الحضارة وحقوق الإنسان. أن مثل هذا المركز وأنشطته يحتاج إلى كفاءات وخبرات ليس فقط في جوانب عرض طبيعة الثقافة والمعرفة العراقية وإنما في المجال الأكثر حيوية وهي السعي لجذب الجانب السويدي وبناء علاقات ذات أبعاد حيوية في مجالات مختلفة تبادلا للخبرات والمنافع والأستفادة القصوى من الخبرة السويدية في المجالات الثقافية والإجتماعية والسياسية وكذلك الأقتصادية. وفي خلق شبكة معرفية مع العراق ومثقفية ومعرفة الكثير عن طبيعة مجتمعه وحضارته.

ثم أوجز الأستاذ حكمت سرد السيرة الذاتية للأستاذ مدير عام دائرة الثقافة العامة السيد عقيل إبراهيم المندلاوي وقدمه ليتحدث إلى الجمهور. شكر الأستاذ عقيل المندلاوي، اتحاد الجمعيات العراقية والنادي على هذه الاستضافة والحضور النوعي الكبير للجالية، وثمن دورهم المميز وجهودهم الثقافية المبذولة على الساحة السويدية، وشكر ايضا دور السفارة الفاعل في الحصول على موافقة وزارة الخارجية السويدية على منح الصفة الدبلوماسية للمركز الثقافي العراقي في ستوكهولم، وكذلك شكر الدكتورة بتول الموسوي على دعمها ومساعدتها الحثيثة من اجل ايجاد مقر لهذا المركز وعلى مشاركتها للوفد في سفره ولقائه مع الجاليات العراقية في الدول الاسكندنافية. وبعدها  أخذ الأستاذ عقيل يتحدث عن خطة وزارة الثقافة العراقية في افتتاح العديد من المراكز العراقية في العواصم الأوربية المهمة التي تضم أعدادًا كبيرة من العراقيين، مثل باريس ولندن وبرلين وستوكهولم وغيرها من العواصم، وعلى غرار المركز الثقافي العراقي في واشنطن، ولقاءاته بالمثقفين العراقيين وتفاصيل اللقاء مع الجاليات العراقية في كوبنهاغن، ويتبوري، ومالمو. وتحدث أيضًا عن خطة وزارته في هذا الجانب واهتمام السيد وزير الثقافة العراقية الدكتور سعدون الدليمي، البالغ وحرصة على تنفيذ هذا المشروع الهام. وعن أسباب تأخر تنفيذه قال: إن روتين العمل الحكومي كان يستهلك الوقت في التخطيط والمراسلات، حيث ينتهي العام المالي وتعود المخصصات إلى رئاسة الوزارة دون أن ينفذ منها شيء. كذلك قدم عرضًأ لنشاط الوزارة وما جرى من تنفيذ مشاريع كبرى تخدم الثقافة العراقية كدار الأوبرا كصرح ثقافي جديد في بغداد ومدينة الطفل الثقافية واعادة اعمار وتأهيل مسرح الرشيد والمنصور وساحة الاحتفالات وفتح المكتبات، وافتتاح بيوت وقصور الثقافة والفنون في وزارة الثقافة في محافظات العراق كافة وقد بلغت 24 بيتاً وقصراً للثقافة حتى الان. وكذلك اختيار مدينة النجف الاشرف، عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012، وبغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013، وخطط الوزارة المستقبلية. من جانب آخر فصّل الأستاذ عقيل في الخدمات التي سيقدمها هذا المشروع في خدمة الثقافة والمنظمات الناشطة ثقافيا والمثقف العراقي من طبع للكتب، ودعم وإقامة المهرجانات الثقافية والمثقفين، وأضاف أن هذا المشروع سيكون آصرة قوية بين المنظمات الثقافية و المثقفين العراقيين المقيمين في الخارج وزملائهم داخل العراق، وبين هؤلاء المثقفين وبلدهم العراق أيضًا. وكذلك مع المؤسسات الثقافية السويدية والمثقفين السويديين وغيرهم.

تحدث في هذا الجانب أيضًا الدكتور حكمت داوود عن مفهوم الثقافة وضرورة انتشارها وأهمية المراكز الثقافية كملتقى للمثقفين ومتنفس لهم، ودور هذه المراكز في ربط المؤسسات الثقافية ببعضها البعض والتنسيق في أعمالها ونشاطاتها. أما الدكتورة بتول الموسوي تحدثت عن اهمية تأسيس هذا المركز الثقافي ليكون بيتا عراقيا يجمع كل الامكانيات الثقافية دون تميز، مع ضرورة مشاركة المثقفين العراقيين بفاعلية. وقدمت ايضا شرحًا وافيًا للفرق بين الملحقية الثقافية والمركز الثقافي العراقي. فالملحقية الثقافية تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومهماتها تعليمية أكاديمية بحتة وينحصر نشاطها في التبادل العلمي بين العراق والسويد وبين العراق والملحقيات الثقافية في الدول الاسكندنافية وتنظيم المنح والزملات الدراسية لكل العراقيين.

بعد ذلك فسح المجال للحاضرين من أبناء الجالية العراقية لتقديم آرائهم ومداخلاتهم وطرح أسئلتهم ومنهم السيدات والسادة الأفاضل: دانة جلال، فؤاد علي اكبر، نبيل تومي، بسعاد عيدان، جاسم الولائي، جبار كريم، نزار ابو العيس، جميل جمعة، سعد حاتم، فوزي صبار، علاء مجيد، علي الزبيدي، حيث أكدوا بدورهم على الكثير من المسائل المهمة المتعلقة بالمركز الثقافي المنوي أفتتاحه وكذلك المعالم الثقافية للعراق في الوقت الراهن. ودار حديث عن الفنانين التشكيليين الموجودين في السويد وأعمالهم الفنية الكثيرة التي تحتاج لأن تظهر للعالم لتميّز الفن التشكيلي العراقي الذي أثار إعجاب الناس في كل بلد حل فيه. وعن ضرورة إقامة المعارض الفنية ليرى العالم هذا النتاج الفني المهم. وعن ضرورة رعاية الفن الموسيقي والترات العراقي والفرق والفنانين المتواجدين خارج البلاد لأنهم يحملون الهوية الفنية والثقافية للعراق وينشرونها في العالم، وكيف تعطي السويد للفرق التي تمثل تراث مواطنيها المنحدرين من أصول متنوعة الأهمية القصوى. وتحدث أحد الحضورعن ضرورة الإهتمام بالثقافة والمثقف العراقي دون النظر إلى هويته القومية والدينية. وذكر أن العراق يمثل ثقافات عدة تصب كلها في الثقافة العراقية، وهذه ميزة مهمة تعود لغنى هذة الثقافة وتنوع هذا التراث وتعدد مصادره. ووجه للسيد عقيل المندلاوي سؤال مهم حول تراكم كبير وسيء تركته سياسة النظام البعثي المقبور على أوضاع العراق في تلك الفترة، ليس فقط في موضوعة الثقافة وإنما على عموم حياة الفرد، ثم جاء الاحتلال وما بعده، فهناك الكثير من المثقفين والفنانين المبدعين رحلوا وغابوا عن المشهد الثقافي ولم يتم أنصافهم، مثل هادي العلوي،كامل شياع، سيف الدين ولائي، عزيز علي، كمال السيد وعشرات غيرهم، هل هناك آلية ما لدى الوزارة من خلال مراكزها الثقافية لإعادة إحياء ذكر أولئك الراحلين ونتاجاتهم؟

بعد ذلك اجاب الاستاذ عقيل على استفسارات الحاضرين. وأكد ايضا الى اهمية التنسيق بين الجمعيات الثقافية العراقية في الدول الاسكندنافية مع المركز الثقافي من خلال تشكيل هيئات استشارية من ممثلي الجمعيات الناشطه ثقافيا والمثقفين العراقيين للمساعدة في تحقيق برنامجه السنوي. بعد نهاية اللقاء شكر الأستاذ حكمت حسين مجددًا وفد وزارة الثقافة العراقية والاستاذ عقيل المندلاوي على الشرح والتوضيح الوافي لموضوعة اليوم وعلى دعمهم الكامل للنادي والاتحاد، وكذلك شكر جمهور الحاضرين والقنوات الفضائية التي غطت الفعالية، وبعدها قدم مشكورا درع النادي لمهرجان الثقافة العراقية الذي يقيمه النادي سنويا في السويد الى الاستاذ عقيل المندلاوي.


التقرير: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي
التصوير: سمير مزبان، بهجت ناجي هندي
البريد الالكتروني للنادي:idkse@yahoo.se






218
فلم الشهر " زهايمر"

يعرض نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم في موسمه الأول فلم الشهر العربي زهايمر بطولة النجم الكوميدي عادل أمام وإنتاج عام 2010.
يعرض الفلم على قاعة النادي في منطقة ألفيك الساعة السابعة من مساء يوم
الجمعة المصادف 3/2/ 2012.
تدور  أحداث الفيلم في إطار كوميدي حول أب ثري يدعى محمود شعيب، لديه ابنان يطمعان في ثروته ويحاولان دفعه للاعتقاد بأنه مصاب بمرض الزهايمر، للسيطرة والاستحواذ على أملاكه ويتفقان على إقامة دعوى قضائية ضده للحجر على ممتلكاته لكونه مصابا بالزهايمر، وتحدث مفاجئه تغير مجرى الأحداث بالفيلم.
"زهايمر" بطولة النجم الكبير عادل إمام وفتحي عبد الوهاب وأحمد رزق ونيللى كريم ورانيا يوسف ومحمد الصاوي وضياء الميرغني وأيمان سيد، الفيلم من تأليف نادر صلاح الدين، وإخراج عمرو عرفة.

E-mail: idkse@yahoo.se

 

219
أخبار العراق / دعوة للاجابة
« في: 16:26 25/01/2012  »
تحية طيبة مع فائق التقدير والاحترام
سؤال إلى جميع المشتغلين في عالم الأبداع الفني والثقافي
بعد فترة زمنية قصيرة سيكون لوزارة الثقافة العراقية مركزا ثقافيا وسط العاصمة السويدية ستوكهولم وهو واحد من 16 مركزا مزمع افتتاحها في عواصم مهمة في العالم وحسب ميزة تلك العواصم ثقافيا وحضاريا وكذلك حسب أعداد وكثافة الجالية فيها.وتغطي نشاطات المركز الثقافي في ستوكهولم رقعة جغرافية واسعة تمتد على كامل اراضي الدول الاسكندنافية.
 المركز الثقافي سيكون واجهة ثقافية تعرض حضارة وادي الرافدين وأيضا سوف يكون مشغلا للثقافة في المهجر ويعمل على أيجاد الوسائل والروابط التي تعزز علاقة المنظمات الثقافية في الداخل مع مثيلاتها في الخارج، ويدار من قبل هيئة استشارية ذات طبيعة ثقافية نخبوية تضم ذوي الخبرة من المبدعين العراقيين في مختلف المجالات الفنية والأدبية والبحثية، وتعمل اللجنة لتهيئة الخطط اللازمة لعمل المركز الثقافي.
ما هي تصوراتك عن نماذج العمل لهذا المركز الثقافي وكيف يتسنى له الاشتغال بين أوساط النخب المثقفة في المهجر وأيضا الجاليات العراقية بتنوعها الطائفي والقومي وخزينها التراثي والمعرفي.
 أيضا ما واقع الثقافة العراقية اليوم الذي يستطيع المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم عكسه وعرضه لنا كجالية وللشعوب التي نعيش بين ظهرانيها.
 الموضوع سوف ينشر في مجلة إيوان التي تصدر عن مكتب إعلام اتحاد الجمعيات العراقية في السويد
أتمنى الإجابة السريعة وبواقع 2 ورقة  A4  مطبوعة بملف وورد.
 
شاكرا لكم تكرمكم بالإجابة متمنيا للجميع موفور الصحة والعافية

ترسل الإجابات على عنوان البريد الالكتروني      f_almohsen@hotmail.com
 

220
دعوة


ندوة

يستضيف اتحاد الجمعيات العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم الأستاذ عقيل أبراهيم المندلاوي مدير عام دائرة العلاقات الثقافية العامة في وزارة الثقافة العراقية في حوار حول تعزيز العلاقات بين المؤسسات الثقافية داخل العراق وخارجه ودور المركز الثقافي العراقي المزمع افتتاحه في الدول الاسكندنافية
(( ستوكهولم )) في ذلك.
تقام الندوة الساعة السابعة من يوم الجمعة المصادف 27 / 01 / 2012 على قاعة النادي في منطقة أُّلفكّ  ALVIK   وسط العاصمة ستوكهولم.
ALVIKS MBH, Gustavslundsvägen 168 A

E-mail:  irakiska@yahoo.com , idkse@yahoo.se


221
المنبر الحر / ديج أبن أوادم
« في: 23:37 23/01/2012  »
ديج أبن أوادم

فرات المحسن

منذ أعوام مضت أكد البعض من المنجمين في كثير من بلدان العالم أن عام 2012 سيكون عام نهاية الجنس البشري وإن رب السماوات أستنفذ جميع الطرق والوسائل وأرسل المئات بل الآلاف من الرسل والمصلحين وقدم مختلف النصائح لبني البشر لإرشادهم وثنيهم عما يفعلون من موبقات، وحاول ردعهم عن غيهم وإفراطهم في ارتكاب المعاصي، دون أن يحصل على نتائج تفوخ القلب وتريح البال ولذا فقد قرر سبحانه، وعهدة القول على البعض من المنجمين الثقات أن يكون هذا العام أي عام 2012 هو عام باي باي ورحمة الله لبني آدم، حيث يبدأ مطلعه بتغير سلوك الطقس ثم يبدأ ضخ نواعم من مشاكل طبيعية بعد ذلك تبدأ رحمة الله بفيضانات وعواصف وزوابع وأعاصير وهزات وانخسافات وانبعاجات أرضية تثول الماينثول لا ينفع ولا يقي بني البشر أثناء حدوثها ملجأ أو مرتفع أو سفينة أو حتى مركبة فضاء ولا يردها راد حتى وإن لجأ البشر إلى بروج مشيدة، فالجميع هالك لا محال وإلى زوال ولن يبقى ما يوحي بما كانت عليه الحياة في هذا الكون.
العراقيون سبقوا العالم بمعرفة هذا المصير المروع ولذا ما عاد في وسعهم التفكير بسواه، فهم ساعون للوصول إلى ذلك اليوم، متشوقون لملاقاته، باذلون الغالي والنفيس لأجل القفز نحوه، فتراهم يستحضرون أدعية اليأس والقنوط وتمنيات الموت وهم صغار في اللفة على ما يسميها أخوتنا في المسيرة والمصير أبناء النيل، ونحن نسميها الكماط.  فمنذ ظهور النشيد الوطني الأول للعراقيين ((دللول يل ولد يبني دللول   عدوك عليل وساكن الجول)) وبلحن ترنمي رتيب حزين،تريد الأم لطفلها أن يتعلم النواح ويتلبسه الحزن ويسخو بالبكاء بما استطاع من جهد،  مبتدأ حياة اليبووو عليه وعلى الخلفوني وهو بعد لم يخرج من اللفة.  وتتشابه الشعوب العربية والإسلامية في السير على ذات المنوال التعبان الخربان والذهاب نحو الطريق المفضي إلى سرعة اللقاء باليوم المبارك يوم القيامة عبر صناديق الاقتراع حيث أسفرت النتائج ولحد الآن في أربعة بلدان عن انتخاب أحزاب الحزن والكآبة والتخلف ودعاة عصور الجاهلية الأولى وآلاف المحرمات والممنوعات التي تحرض الناس ليل نهار على العداء للمخالف وكره الثقافة والعلوم والرياضة والفنون ووئد النساء ونصب المأتم والنواح واللطم والدروشة تقربا إلى رب العزة ليعجل يومه الموعود ويقرب ساعته، وعند تلك الساعة يعلن عن توزيعنا في المسطر الذاهب إلى صراط مستقيم حسب التفصيل والكونية وحسب الكتاب المرقم والمؤرخ المرفق في يميننا فمن كان كتابه في يمينه أو يساره، فهو إما في نار جهنم وبأس المصير أو في الجنان مخلدين تحيط بنا، صدقه الله ، حور العين والفواكه مدندلة من الأغصان والعرك الزحلاوي والويسكي والفودكا يوزعها بالجدوره والسطوله ولدان مخلدون، ويوميه كَعدة سكر وعربده يلتم الربع بيه مثل أيام كبل على أبو نؤاس و بين فتره وفتره أجرلي طور أبوذيه محمداوي أشعل بيه سلفه سلفات أهل النار بما كسبت أيديهم وبأس المصير أما كانوا يتفكرون.
يتفنن ويتلذذ العراقيون والمسلمون بذكر يوم القيامة بقدر رعبهم منه فيرصدون علاماته والمقدمات التي تسبق مجيئه فمنهم من يقول إن من علامات اقترابه ظهور القمر مجاور الشمس في ذات الساعة أو توقف النهار أو الليل لمدة أيام معدودة دون تغيير والبعض ينتظر مجيئه معتقدا أن ذلك سوف يحدث حين يلعب الفسيفس شناو والطلي زورخانه ويخسر المطي بالطاولي، وبعضهم يجزم أن ظهور الأعور الدجال علامة فارقة لقرب يوم القيامة، ولكن مثل هذا الاعتقاد خاب وأبعد لوجود الآلاف لا بل الملايين من الدجالين عوران كانوا أم جقلان أو من جماعة دحلان أو برزان. ومع تعدد التنبؤات ينفرد المثل العراقي الدال على استحالة حدوث شيء ما حين يذهب البعض قائلا (( من يبيض الديج )) أي لو باض الديج فأن ذلك علامة فارقة لا تقبل الشك بقدوم يوم القيامة. أذن الديج لو بيض فأن بيضه حتما لن يفقس سوى دمار الكون وذهاب تأريخ البشرية في خبر كان، وكناية الديج تدل على الفحولة وحين تذهب الفحولة والرجولة عندها نقرأ على الأرض السلام وتختفي جميع سطور التأريخ التي دونت عن الأمم والشعوب والقارات والأنهر والبحار والسبب في ذلك فقدان الديج لفحولته.
موضوع الديج وعلاقة فحولته بيوم القيامة أثار شجوني وأنا أقرأ موضوعة في صحيفة بانوراما اليوم الإخبارية التي وضعت العنوان التالي لخبرها أنقله نصا عن الصحيفة :
ديك ايطالي يتحول إلى دجاجة بعد هجوم الثعلب على دجاجاته!
" كان الديك الإيطالي جياني حتى الأيام الماضية ذكراً بكل ما في هذه الكلمة من معنى. لكن اعتداء ثعلب على دجاجاته وقتله إياها، جعل من هذا الحدث نقطة تحول محورية في حياته، إذ اكتسب الديك جينات الدجاج وبدأ يضع البيض ومن ثم يحاول تفقيسها، معلناً بذلك تحوله إلى دجاجة أيضاً وقد فرض جياني بالتحول غير المسبوق تحدياً للعلماء الذين شرعوا على الفور بدراسة حالته الاستثنائية، لمعرفة السبب الذي أثر فيه فأسفر عن تحول الديك إلى دجاجة. ويرجح بعض العلماء سبب فقدان الديك للدجاجات وبشكل مفاجئ حفز لديه “جينات بدائية” جعلتها تكتسب صفات أنثوية بهدف استمرارية النسل وفقاً لتلفزيون نابلس.ولم تشر الأنباء إلى ما إذا كان الديك لا يزال يحتفظ بشيء من جيناته الذكورية، وما إذا كان يواظب على القيام مع ساعات الفجر الأولى معلناً بصياحه شروق الشمس."
حقه يابه الديج جياني حقه، ليش هي قليله خوب مو قليله .. هينه عليه بليلة وضحاها يصبح دون دجاجاته، لعد عليمن عايش وشلون راح يشوف العالم، بيا صخام وجه، وما هي الدوافع العقلانية المتناغمة مع الذات في أبعادها الانشطارية إن لم يجد الديج جياني ما يفاخر به ويعطيه حقيقة وجوده كديج له اعتبارات مكانية وزمانية، عمت عينه للفحوله أن لم تكن ريحة الدجاجات تفوح فوح داير مدايره.
 ولكني أقول أن على المرء إلا يرثي حال الديك جياني الإيطالي وإنما علينا الفخر والاعتزاز بهذا الديج الذي أثبت بأنه أبن أوادم وعقلاني ومتناغم مع ذاته لأقصى درجات التناغم والعرفان بالحقائق، لذا فهو يقر دون لبس وبشكل مذهل كونه ضعف وخارت قواه أو غفل أو تهاون عن رد جريمة القتل الجماعي عن دجاجاته الرائعات اللواتي كن يبصمن كل يوم بالعشرة على قوة وجبروت فحولته. هذا الديج الذي يحترم ذاته ويقدر قدر نفسه، يعرف جيدا أن ما حدث قد خدش وطعن فحولته وهو غير جدير بتلك الفحولة بعد هذا، فقد ضعفت قواه وانهارت لا بل خانته وخذلته وقت الشدة وإثبات العزيمة والشجاعة لذا لم يجد ما يبرر بقائه كديج يعوعي وبكل فخر صباحا مساءا بملء الصوت وبصدر منشرح، ومن الأفضل له أن يقر ويعترف بعدم امتلاكه للذكورية وهو لا يستحق تسمية ديج بمختلف أنواعه الهندي والصومالي والهراتي والاسطنبولي لا وحتى العراقي. فعبر عن فشله في تلك الواقعة التي دلت على خيبته بأن أعتزل الذكورية وتحول إلى دجاجة وفك ارتباطه بوظيفته الطبيعية الفسلجية وراح يقرفص ليبيض وهو يذرف الدمع ندما وطلبا للغفران دون أن يعني له شيئا ارتباط يوم القيامة بتحوله الجسدي.
الديوجه بالعراق مثل الديج جياني لا يعترفون بيوم القيامة، وربما لم يتسنى لهم السماع بقرب يوم القيامة عندما يبيض الديك، ولو سمع أحدهم بذلك وكان من جماعة المذاهب التكفيرية لاختلى بنفسه وراح يعصر ويعصر كي يبيض ويفجر يوم القيامة بالشعب العراقي.
 الديج جياني الشريف العفيف جعلنا نفكر بأيام الأسبوع الدامية لا بل أشهر السنة الدامية التي سجلت وتسجل نسب غير عادية للموت المجاني الذي يجتاح العراق مثل وباء، ولحد الساعة لم نجد أي ديج من ديوجة السلطة تماثلت روحه ومبادئه مع روح وقناعة الديج جياني وتحمل وأقر بمسؤوليته عن تلك الخروقات الأمنية والجرائم التي أوقعها الإرهاب بالشعب وسالت من جرائها أنهر من دماء وتيتمت أطفال وترمل بشر، ولم نسمع ذلك المسؤول ومن موقعه الوظيفي وقبله ذاته ورجولته وضميره ومواطنيته يعترف ويقر بنقص في فحولته وقلة رجولته وعطب قلاقيله ولذا يخلي موقعه ويذهب بعيدا عن الإدارة والوظيفة. لا بل بدلا من ذلك نجده يسطر العشرات من المبررات التي تبعد الشبهة عنه وتعزو إزهاق أرواح الآلاف من العراقيين للصدفة أو سوء الحظ الذي وضعهم في طريق المفخخة أو الانتحاري.
وبدورنا كشعب يستلذ طعم الموت نقول مهما كانت المسببات والتبريرات وبالرغم من عدم خوفنا بل وسعينا للذهاب إلى يوم القيامة صاغرين مهللين، يرغم ذلك فإن المسؤول هذا لا يستحق أن يؤتمن على أرواح الناس ولن نعترف بفحولته مادام ملتصقا بكرسي الوظيفة، وهو وفي كل الأحوال متهم بعطل قلاقيله وأن ما يحمله ليس غير بيضتين فاسدتين. ونحن وبعد أن يأسنا من الحصول على مثل هذا الموظف أبن الاوادم، لا نطلب من المسؤول أن يختلي ليبيض لنا ندما واعترافا منه بعدم القدرة على إدارة العمل الذي أؤتمن عليه، وليس في وارد تفكيرنا أن نجد تحت عجيزته طبقة بيض، فقط نتوسله ونرجوه ونطالبه أن يفكر جيدا باقتراب يوم القيامة حيث يكون فيه حساب عسير أن كان يؤمن برب العزة وبوجود يوم للحساب... وكل لشة تتعلك من بيضاتها. 


222
مؤتمر لتقاسم العراق أم إعادة هيكلة المحاصصة

                                                                                                                                     فرات المحسن
تتشبث قيادات القائمة العراقية بمطالب محددة لعقد المؤتمر الوطني في المقدمة منها الاصرار على ضرورة نقل جلسات المؤتمر الى شمال العراق في حال تحقق أنعقاده، وأن تكون قضية السيد طارق الهاشمي وصالح المطلك أحدى النقاط على جدول أعمال المؤتمر، أيضا التشكيك بنزاهة القضاء العراقي وإن حل هذا المشكل يجب أن يكون من خلال جلسات المؤتمر والتسويات السياسية، بالمقابل فالسيد المالكي وأغلب شركاؤه في التحالف الوطني يقفون موقفا صلبا أمام تلك المطالب ويمتنعون عن تقديم تنازلات لخصومهم فيما يخص مكان المؤتمر وخلط السياسي بالقانوني.
 السيد جلال الطلباني ولحد الآن لم يستطع جسر الخلاف وأيجاد أرضية مشتركة للم شمل الخصوم او ايجاد خارطة طريق يتم فيها تقاسم السلطة والثروة بما يرضي جميع الفرقاء، وفي محاولته هذه نراه لا يتخلى عن طرح رأيه المنحاز لصالح العراقية مؤكدا على أن عقد المؤتمر في كردستان ليس فيه ضيرا وكردستان أرض عراقية، أيضا جميع قادة وقوى الأئتلاف الكردستاني يؤكدون بشكل جازم على إن قضية السيد طارق الهاشمي قضية سياسية يمكن حلها داخل المؤتمر الوطني وعبر تراضي الأطراف سياسيا، وعلى هذا الأساس واستنادا لتلك التصريحات امتنعت وزارة داخلية كردستان عن الموافقة على تنفيذ مذكرة الأعتقال الصادرة من وزارة داخلية الحكومة الأتحادية مؤكدة على أن لاتسليم للهاشمي إن لم تتوفر له أجواء مناسبة في محاكمة عادلة ونزيهة.
تصريح السيد جلال الطلباني المتيقن ببراءة نائبه السيد طارق الهاشمي وإن موضوعة علاقته بالارهاب جاءت على خلفية صراع سياسي وليس حقائق ميدانية مثلما يدعي السيد نور المالكي، يثير كومة من الشكوك حول علاقة الأطراف السياسية وثقتها ببعضها، فلوقت قريب كانت علاقات حزب الدعوة ورئيسه السيد نوري المالكي بالاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطلباني تمثل واحدة من الضمانات المطمئنة لمسير العملية السياسية ولم تصاب بالصدع رغم الكثير من الإثارة والخصومة التي يفتعلها البعض من الجانبين. إما الآن فالمسألة أختلفت قياسا لسابقاتها، فالسيد المالكي رمى الكرة على صديقه الطلباني بما جادت بها قريحته من تأكيد على حيازته ملفات تدين السيد طارق الهاشمي سبق وأن قدمها قبل ثلاث سنوات لحليفه رئيس الجمهورية جلال الطلباني والمرحوم عبد العزيز الحكيم، وبدوره فالسيد جلال الطلباني يذهب بموقفه بشكل صريح وأكيد لتكذيب إدعاء السيد المالكي حول الملفات القديمة وكذلك الملفات الجديدة الذي قدمها السيد المالكي عن علاقة السيد طارق الهاشمي بالإرهاب، وذلك من خلال استضافته الهاشمي والمطالبة بتوفير أجواء سياسية للملمة الأمر دون الذهاب إلى المحاكم، مؤكدا بذلك رفضه وعدم أعترافه بملفات المالكي وبما يصدر عن  مجلس القضاء الاعلى العراقي.
في مثل هذه الأجواء المتوتره يمكن القول بأن حالة التخوين وعدم الثقة تمثل نزوع شخصي وعام لقادة العملية السياسية وأن رفع سقف الطعون ومحاولة البعض احراج وتكذيب السيد نوري المالكي وحكومته وبالمقابل قيام المالكي بتوجه الاتهامات بالإرهاب لخصومه ومحاصرتهم ولي أذرعهم له من الدلالات الكثير، فالموضوعة تتعدى طابع الخصومة الشخصية نحو خصومة وطنية كبرى فالمحاولات الجارية لرفع سقف الأزمات بين الأطراف المشاركة في العملية السياسية من خلال وضع شروط لحضور المؤتمر الوطني ورفع سقف المطالب تعني في الأساس نزوع حقيقي  لاذلال بعضهم البعض، أي هناك عمليات عض أصابع او لي أذرع كمحاولة للوصول إلى المشهد الأخير. ولا تتوقف تلك الاتهامات عند الحدود الشخصية ولا تحصر في أجواء العملية السياسية في العراق وإنما تذهب بعيدا لأشراك الأقليم والحليف الأمريكي ومحاولة جعلهم لاعبا أساسيا يمكنه من وضع الحلول الناجعة وفك هذا الإشتباك. فالهجوم الشديد الذي بدأته قائمة التحالف الوطني ضد تركيا له دلالاته في هذا الوقت ، فإثارة الجانب التركي عبر التلميح له بالقلق من تصريحات المسؤولين فيه ورفض تدخلهم بشؤون العراق يعني دفعه وحلفائه السعوديين والقطريين لاتخاذ موقف حاسم إلى جانب فصيل أو طرف محدد من الشعب العراقي ليكون هناك وفي المقابل حشد أيراني يقف بصلابة للنجدة والدفاع عن الطرف الأخر وفي هذا محاولة مدروسة لدفع الطوائف العراقية للتخندق وراء المشروع الطائفي. وبالرغم من سعة التدخل الإيراني وسيطرته على مفاصل حيوية في الإدارة العراقية نرى امتناع حكومة المالكي ورفضها الشديد لأي نوع من الإدانة للجانب الإيراني على تدخلاته لا بل تختفي أي إشارة أو تلميح لمثل هذا الأمر. الحليف الأمريكي بدوره وبعد انسحاب أغلب قواته نجد الكثير من صناع القرار في إدارته يرفعون العقيرة حول ضرورة تطبيق خطة بايدن كخيار حاسم لجميع المشاكل التي تعاني منها النخب السياسية حتى وإن كان ذلك على حساب قطاعات كبيرة من أبناء الشعب العراقي التي ترفض المشروع.
 أيضا هناك تأكيد واصرار على أذلال العاصمة العراقية بغداد وتغييب رمزيتها ومكانتها الدولية، فعمليات أذلالها بدأت مباشرة بعد سقوط سلطة الفاشي صدام وهناك نزوع لدى البعض من المرتبطين بالمشروع الأيراني ومثلهم البعض من الطورانيين وقادة كرد ومن أرتبط بالمشروع السعودي الاردني عملوا ويعملون على تهميش وتغييب بغداد، فإذلالها يعني قتل المثال والجامع والمرجعية والحامل للوحدة الوطنية العراقية، واليوم هناك محاولات محمومة لإذلالها والطعن بمكانتها من خلال الطلب بعدم عقد المؤتمر فيها وعرض حجج واهية عن واقع أمني يتهدد بعض القادة، مع أصرار بعض الرموز السياسية على وضع شروط مسبقة وتعجيزية لضمان حضورهم المؤتمر فيها.
ومع ورود جميع الاحتمالات في وضع العراق الملتبس، لا أستبعد أن يكون الموضوع برمته مخطط له ويأتي على خلفية مشروع كبير يعد له بالخفاء لفك الارتباط والشراكة التي بنيت على المحاصصة وليكون هناك نزوع مشترك لدى الجميع بمن فيهم قطاعات شعبية حول ضرورة فك الشراكة سياسيا ليلحقه بعد ذلك تقاسم العراق جغرافيا. فبعد مضي تسع سنوات شعر قادة واعضاء الكتل السياسية بأن نتائج العملية لم تقدم لهم حسب الظن ما يفي الاستحقاق من الكعكة وإن القسمة لم تكن منصفة لافي المناصب ولا في الموارد لذا فطريق تقسيم العراق هو التوجه المفضي لتحقيق القسمة المناسبة التي تضمن الحقوق وتريح الجميع، وفي ظني أن مشروع التقسيم يدار من قبل جميع الشركاء الخصوم في آن واحد دون استثناء وبمباركة عرابيهم رغم التمويه بالممانعة والرفض الذي يطلقه الجميع عبر وسائل الإعلام.
فهل يخرج المؤتمر الموعود  بخارطة جغرافية جديد للعراق،  أم ياترى توضع خطة طريق لأعادة هيكلة المحاصصة.

 


223
رئيس الوزراء العراقي مراد علم دار مهدد بالاعتقال

فرات المحسن

للمرة الأولى أسمع بشخصية مراد علم دار وأفاجأ بمثل هذا التشبيه الجازم حين ورد على لسان النائب في البرلمان العراقي عبد المهدي الخفاجي أمام وكالات الأنباء وصحف عديدة وفضائيات عراقية وعربية بأن السيد أبو أسراء نوري المالكي هو مراد علم دار العراق الذي سوف يذلل جميع الصعوبات ويجتث مختلف العصابات وقوى الإرهاب. التصريح كان قويا جازما حازما وله دلالات على المرء أن يقف أمامها ليتفكر ويتبصر ويستلهم العبر بيقين لا يأتيه الشك من أمامه أو خلفه وأن زاغ تفكيره والبصر فهو في خطل وعطل إلى يوم الدين.
لساعات شل دماغي بالكامل حين رحت أبحث في زواياه عن شخصية مراد علم دار ولم تنفعني الذاكرة رغم سنوات عمري التي جاوزت أكثر من الستين سنة قضيت جلها ومنذ صباي أمتع روحي بدراسة التأريخ وأتلذذ بحوادثه وشخصياته فلم أجد في هذا المخ ما ينقذني من حيرتي وخيبتي، فمن يا ترى هو مراد علم دار الذي يشبه رئيس وزرائنا أبو أسراء نوري المالكي، أهو شخصية أسطورية من مثل هرقل أم يوليسيس أو سبارتكوس أم تراه عنترة العبسي قد بعث مرة أخرى ليصول ويجول مقطعا مملخا مطشرا الأعداء، أم هو القعقاع صديق وحبيب صدام وبعد أن زق ربعيه عرك راح ينتف ريش الفرسان من الذين لسوء حظهم وضعهم الله بقدرته وجلاله أمام القعقاع في جميع المعارك التاريخية. السيد أبو أسراء نوري المالكي أمين عام حزب الدعوة ورئيس وزراء العراق وحسب تصريح النائب عبد المهدي الخفاجي يساوي ويضاهي ويوازي ويشبه بالتمام والكمال مراد علم دار قاطع أرحام الأعداء وميتم أطفالهم ومنظف الأرض من خبائثهم.
في البداية وبعد أن صحوت من ذهولي ظننت وحسب العائدية أن الاسم يمكن أن يدل على بطل قومي فارسي حيث اعتقدت أن النائب عبد المهدي الخفاجي ربما يكون خريج حوزة إيران حاله حال أكثرية من ملكت اليوم أيمانهم الكثير من شؤون العراق شعبا وأرضا، وقد درس تأريخ الدولة الفارسية لذا فهو متأثر بشجاعة هذا البطل القومي الفارسي المسمى مراد علم دار ولأجل ذلك  شبه تحببا وتيمنا وتبركا رئيس قائمته السيد أبو أسراء نوري المالكي بذلك البطل الأسطوري.
 لم أرغب في أطالة التفكير والاعتماد على الذات في البحوشه والبحث عن شخصية شبيه رئيس وزرائنا،فذهبت نحو يقين غير قابل للجدل، فمتصفح البحث في الانترنيت المدعو كوكله أدام الله ظله ورعاه موجود وما عاد الأمر يحتاج لتعب وإرهاق ذهني، فما عليك غير تدوين أسم مراد علم دار وبنكرة سلف تجد معلومة كاملة عن تلك الشخصية الرهيبة التي تتمتع بالخوارق والممنوعة من العطب.
ويا عجبي ويا حسرتي ويا خيبتي ويا شماتة شعب بوركينا فاسو بالعراقيين وآه وألف آه على حال العراق وعلى وضع برلمانه وحكومته من تفاهة وسماجة وسخف الكثير من ما يسمون أنفسهم قادة في عصر الانحطاط، فلقد وجدت شخصية مراد علم دار تمثل بطل مسلسل تركي مدبلج عرضته محطات التلفزيون باسم وادي الذئاب والممثل التركي في المسلسل أفندي يرتدي الملابس الحديثة أنيق ورشيق ويشتغل بالحريق ومُملخ ومكهرب قلوب العذارى ومالط لحيته وشواربه وخال كلونية آرامس لو فان جيلس، ينجو من محاولات اغتيال عديدة ويقوم بقتل وتصفية جميع أعداءه دون أن تأخذه في الحق لومة لائم.
 من الواضح أن السيد النائب عبد المهدي الخفاجي قد تابع حلقات المسلسل الست والستين بعد المائة وأنفعل وتفاعل مع البطل مراد علم دار وكان يحاوره في أحلامه وجعله قدوة يقتدي بها وقد وضع له صور بمختلف الحجوم على جدران غرفته ولم يكن يحضر الكثير من جلسات البرلمان كونها تصادف مع أوقات عرض المسلسل وهو لا يرغب في مشاهدة المسلسل معادا وإنما يريده تازه ليتابع بطله المحبوب ويشاهده في الحالات التي يقضي فيها على أعداءه ويصفي الحساب مع العصابات والمجرمين.
ولكن تصريح النائب الخفاجي أصبح في خبر كان وبات لا يساوي شروى نقير بعد ظهور حادثة السيد طارق الهاشمي قدس الله سره وما نتج عنها من تداعيات، فالسيد مراد علم دار أبو أسراء المالكي خذل النائب عبد المهدي الخفاجي  ولحد الآن لم يستطع أن يكمش السيد طارق بن زياد الهاشمي وجوقة حمايته، وتعترض محاولاته هذه قائمة طويلة من الممنوعات والمحاذير من قبل حلفاءه في شمال العراق.والأدهى في كل ذلك والذي أثبتت وقائعها ضعف أبو أسراء مراد علم دار العراق إن نائب الرئيس السيد طارق بن زياد الهاشمي قد فتح دكانا هناك ويتمتع بحماية معترف بها وأصبح السجال بينه وبين علم دار العراق مثل رمي النبال بين قلعتين حصينتين دون إصابات، والنكسة الأكبر تأتي بعدم اعتراف الرفاق الأكراد حلفاء علم دار  بالمذكرات الرسمية وأوامر القبض أو الجلب التي تصدر عن محاكم ووزارات سلطة حليفهم، وباتت ردودهم تحمل الكثير من صيغ التشفي والاستهزاء ومضامينها تؤكد عدم نزاهة القضاء عند الحكومة الاتحادية، لا بل يأتي الجزم ببراءة السيد طارق الهاشمي، فحسب قول السيد مسعود البرزاني وقبله السيد جلال الطلباني والعديد من رجال سلطة جمهورية كردستان بأن قضية الهاشمي مشكل سياسي وليس للإرهاب علاقة بالأمر لا من بعيد ولا من قريب ويمكن حل المسألة عبر التسويات. وفي النهاية بان وهن وضعف وقلة حيلة علم دار العراق في تصريحه الأخير وقوله بأن مجلس القضاء الأعلى قد هدده بالاعتقال في حال عدم قدرته على جلب السيد طارق بن زياد الهاشمي وتله من ياخته وسحله مخفورا إلى باب المحكمة.وفي تصريحه هذا قضى على أحلام رعيته ومؤازريه من أمثال عبد المهدي الخفاجي.
 بدوري أنصح السادة أعضاء برلمان العراق من متابعي المسلسلات التركية وغيرها ترك مقاعدهم البرلمانية ودوخة الرأس التي تسببها خلافات رؤساؤهم والبقاء أمام شاشة التلفزيون لمتابعة مسلسل تركي جديد باسم (( حريم السلطان )) تعلن عن قرب عرضه قناة أم بي سي السعودية وهو مسلسل يبدو من إعلانه الأول مشوق ولذيذ وفيه الكثير من العبر والفوائد وبالذات لحريمنا المتواجدات في برلماننا العتيد. ومن الجائز أن شخصية السلطان سليمان القانوني تغوي البعض من نوابنا فيعجبون ويتأثرون بها فيوحي لهم ذلك الحب والإعجاب ويجعلهم يشبهون السيد أبو أسراء المالكي بالسلطان سليمان القانوني وبالذات طريقة إدارته للسلطة بالكامل لنطلق بعدها على رئيس وزرائنا القائد العام لمختلف صنوف الأسلحة أبو أسراء المالكي أسم نوري القانوني، والله الاسم كلش لايك وجاي حسبالك مفصل تفصيل،، أيباه،، ربي أندار ألاسمك صدقه لتجعله غيبة الاسم حلو وخش بعقلي ورئيس الوزراء يرأس قائمة باسم دولة القانون يعني الحسبه كلش راهمه، لذا يستحق أبو أسراء المالكي تسمية نوري القانوني.
 فألف تحية لأعضاء برلماننا المجيد وتحية لمراد علم دار العراق نوري القانوني.








224


إعلان

مع بداية العام الجديد يسعدنا كهيئة إدارية ولجنة ثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم أن نقدم لجميع أبناء جاليتنا العراقية العزيزة ولأعضاء وأصدقاء نادينا التهاني والتبريكات بالعام الجديد متمنين للجميع الخير والسعادة وأن يكون عاما سعيدا أمنا يغمر شعبنا العراقي بجميع طوائفه وقومياته بالسلام والمحبة . ومع هذا القدوم السعيد لعام 2012 نود أن نعلن عن افتتاح الفصل الثقافي والاجتماعي الترفيهي الأول للنادي حيث يكون الحضور يوم الجمعة القادم المصادف 13 ينوري / كانون الثاني وعلى قاعة النادي في منطقة ألفك من الساعة 7 مساءا وسوف نوافيكم ببرنامجنا الثقافي والاجتماعي لاحقا.
راجين حضوركم بيننا لتزدان بوجودكم فعالياتنا وتتوطد أواصر الأخوة والمحبة.



الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
idkse@yahoo.se

225
الديمقراطية في العراق ضلالة وهذر 

فرات المحسن

في كلمة ألقاها رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي في مؤتمر الاتحاد العام للصحفيين العرب الذي عقد في بغداد قبل أكثر من أسبوع قال " أن العراق يعيش اليوم ربيع الحرية والديمقراطية والتعددية وقد سبق الربيع العربي في هذا الشأن ". لا اعتراض على مثل هذا التصريح الذي يماثل الكثير مما يصدر عن قادة العملية السياسية في العراق ولكن من الضروري الاحتكام إلى الواقع لمقاربة صحة مثل هذا الإدعاء من عدمه
بعد مضي تسع سنوات من تجربة حكومة الشركاء الأعداء وتحت ضغوط وشروط قوات الاحتلال و الإرهاب العالمي يتم بناء دولة العراق الحديثة بمسمى ديمقراطية اتحادية ومازال الكثير من المؤثرات الإقليمية والداخلية  تتنازع كي يتلائم النموذج مع شروط أجندتها، لذا تبقى الآراء متباينة جذريا حول النموذج الأسلم لهياكل الدولة العراقية وموقعها الدولي مستقبلا.
الأسئلة التي تثار عن النموذج المطروح وشروط وطريقة الأداء وهل أن الإدعاء اليوم بديمقراطية الدولة العراقية يتواءم وحقيقة المعايير الدولية للديمقراطية؟ يبدو أن مثل هذا البحث وفي خضم الأحداث ومجريات العملية السياسية الجارية، أحجية عصية على الحل لا يمكن الوصول معها إلى نتائج واضحة المعالم أو أطر عقلانية لتوصيف الوقائع.
هل حقيقة أن العراق يعيش اليوم ربيع الحرية والديمقراطية والتعددية مثلما يقول السيد المالكي؟ عند هذا الطرح يتبادر إلى الذهن الكثير من الأسئلة البحثية في محاولة لمقاربة المشهد بجميع تجلياته، فمثلا هل أن مواطني العراق يتمتعون بنوع من المساواة. هل أن معايير الديمقراطية تمارس داخل مؤسسات الدولة، ما مدى الديمقراطية التي تمارسها الدولة اتجاه حركات المجتمع المدني وبالذات الأحزاب منها، ما هي وقائع الممارسات الديمقراطية في الوسط الحزبي، وفي مقدمة كل هذه الأسئلة يطرح التساؤل عن طبيعة المؤسسات الكافلة للعملية السياسية والمعنية بضبط إيقاع الأحداث وارتباطها بالهدف الرئيسي وهو بناء دولة القانون الديمقراطية، وهناك أيضا أسئلة كثيرة بالغة التعقيد لا تجد لها أجوبة وافية وشافية بل تذهب بعيدا لخلق عالم من اليأس والفوضى المقلقة حول مستقبل العملية السياسية في العراق، وما فتأت الكثير من المسائل القانونية والإدارية عالقة من جانب وغامضة من جانب أخر وتحوي الكثير من الثغرات وتحتاج لإعادة قراءة وترتيب عقلانيين، والكثير من مؤسسات السلطة تستغل مثل هذه الثغرات لتدير العملية السياسية والشأن العام والحكومي وحتى معالجة الأحداث الكبرى بالسرية والتمويه والتغليس ووفق طرق المحاصصة وغلق الملفات بالتراضي أو تشكيل لجان تحقيق دون نتائج. ولحد الساعة لا يعرف المواطن عن أغلب الأحداث غير نتف من أخبار تتداولها وسائل الإعلام بشكل متواتر ومشوش.
الزعم بأن خروج المحتل يمثل نهاية لمرحلة يمكن تجاوزها ومقدمة لتعميق نهج الديمقراطية وتشديد قبضة السلطة وسيطرتها على الملف الأمني بكافة تشعباته وقدرتها على تبني سياسات اقتصادية اجتماعية ناجحة، في ظني أن مثل هذا الزعم فيه الشيء الكثير من المبالغة لا بل الاستخفاف بالوقائع أن كان ذلك في الوقوف عند اللحظة الراهنة أو النظر نحو مستقبل بناء الدولة العراقية الحديثة. ولكون القضايا والمواقف التي تواجه عملية البناء شائكة وبالغة الصعوبة فهي تتطلب العديد من الاشتراطات كي تتمكن الدولة العراقية السير نحو عملية البناء الصحيح كبلد ديمقراطي بعيدا عن التنميق والتزويق المخادع.
تبدو الخلافات الشخصية وانعدام الثقة بين أطراف القوى السياسية التي تسيطر على مقاليد السلطة واحدة من الإشكالات والعقد الكبيرة ومثلها العمليات الإرهابية وما يماثلهما من عمليات نهب واسعة لموارد الدولة وفساد إداري مستشري كل ذلك وغيره يمثل العقبات الكأداء في وجه الانتقال نحو خيارات أفضل لبناء دولة عراقية حديثة تتمتع بهياكل مؤسسات قانونية ديمقراطية، وهذا الشيء يخضع في المقدمة للإرادة الحقيقية والجدية ونزوع حقيقي لدى قوى سياسية تتبنى مشروع الخيار الوطني الديمقراطي كمنهج ليس فقط للإدارة وإنما كسلوك عام. ففي رحم العملية السياسية اليوم مسائل بالغة التعقيد والأهمية تم أفراغ محتواها بل وبشكل متعمد تم إقصائها بعيدا لتستخدم بدلا منها خيارات سياسية يتعذر معها حماية الأفكار والمحاولات الديمقراطية حتى في جوانبها البسيطة.
الديمقراطية في العراق تعد ظاهرة حديثة بكل تجلياتها ولم يظهر منها غير الجوانب الهامشية التي لا تمثل الجوهر الحقيقي للديمقراطية، فما نشاهده من مظاهر وظواهر لا تمثل قطعا صورة من صور الحريات المدنية أو السلوك الديمقراطي، ومثل هذا النموذج المشوه نجده في الكثير من الدول التي تقدم نفسها كنموذج للديمقراطية ولكن طبيعة مؤسساتها السياسية والإدارية شبيهة بمؤسسات دولة العراق، تكشف عن هزال وهشاشة وتضليل وخراب وغالبا ما يضحى بالقيم الإنسانية والقوانين والحريات لصالح مصالح شخصية وفئوية وحزبية.
إن كان الاحتلال الأمريكي قد مثل نتيجة حتمية لسياسات صدام حسين المتهورة فأن العراق وبذات الأسباب قد أرتهن تحت طائلة الفصل السابع من قرارات الأمم المتحدة والذي يعد التحدي الأكبر لا بل الأهم لوضع العراق السياسي والاقتصادي وموقعه بين الأمم بعد انسحاب الأمريكان، فالقرار يضع العراق وشعبه مرتهن لجملة إجراءات كابحة على مستويات عديدة، لذا فأن خروج القوات الأمريكية لا يشكل نهاية المطاف مع بقاء العراق خاضع لبنود الفصل السابع من القرارات الأممية. ولكن مثل هذا الأمر لا يمنع السلطات أو الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية أو يعيق سعيها لبناء دولة ديمقراطية حديثة أن كانت هناك رغبات حقيقية ونوايا حسنة ومشاعر وطنية. فاستحقاقات الداخل تمثل الاختبار الحقيقي لجدية كل هؤلاء ونواياهم في موضوعة بناء الدولة الديمقراطية العصرية. ولكن دائما المسائل العملية لاتبنى بالتمنيات والرطانة السياسية بقدر ما تحتاج إلى فهم صائب لموضوعة الديمقراطية والأيمان بضرورتها والإقرار بصوابها كطريق للحكم وتنفيذ شروطها الموضوعية.
أن أريد شرعنة الحياة السياسية في العراق وفق النموذج الديمقراطي فآليات عمل النظام ومؤسساته السلطوية يجب أن تخضع لمعايير ذات طبيعة محددة وأن تتوفر هناك مؤسسات تكفل مثل ذلك التوجه، وحتى عمليات فرض القانون وتطبيقه ومحاربة الفساد الإداري من الموجب أن تتماثل طبيعة حلولها مع تلك المعايير الديمقراطية ولن تكون تلك الإجراءات بكليتها صالحة أن لم تكن ديمقراطية ليس فقط في محاولات إنهاء الخلافات والصراعات بمختلف تلاوينها وإنما أيضا اعتبار الديمقراطية وسيلة للقضاء على المصالح الشخصية السياسية منها والاقتصادية والفئوية.
الإدعاء بالسلوك الديمقراطي لا يشفع لهياكل ومؤسسات السلطة في العراق فهناك الكثير من القصور ليس في مستوى الوعي بطبيعة الديمقراطية وإنما تخلو تشكيلة السلطات الثلاث من تشريعات ومؤسسات وأركان تعد ركائز أساسية وضامنة للسير وفق النموذج الديمقراطية، وتختفي في خضم الصراع السياسي بين الفرقاء تشريعات أساسية ممهدة  لا بل هي من صلب البناء الديمقراطي ، فلحد الآن تفتقر الدولة لقوانين ومؤسسات عديدة منها قانون لمفوضية انتخابات مستقلة بشكل حقيقي وليس كما عليه الحال ومثلها باقي المفوضيات من مثل النزاهة وحقوق الإنسان. وتتخاصم الكتل الحاكمة حول برنامج يضع نموذج متوازن لقانون الإحصاء السكاني وتخلو العملية الانتخابية ليس فقط من تعداد حقيقي للسكان وإنما أيضا قانون ثابت للعملية الانتخابية يأخذ في الحسبان الخيارات المثلى للناخب وحقيقة التركيبة السكانية للعراق وهو واحد من شروط أنجاح العملية الانتخابية. في ذات الوقت يحاذر أغلب  قادة السلطة من وضع قانون مجلس الخدمة الذي يقيد الأحزاب السلطوية في مسألة السيطرة على التعيينات والوظائف في مؤسسات ودوائر الدولة مثلما يحرص هؤلاء أيضا على نبذ أي محاولة لوضع قانون ديوان للرقابة المالية. ومثل تلك الهياكل والتشريعات تعد من الشروط الموجب توفرها في دولة تسعى لتكون سنن القوانين رافع رئيسي لشرعية السلطة. ولا يقتصر الحال على اختفاء وتغييب تلك الهياكل والتشريعات بل تحرص الأحزاب المشاركة في إدارة السلطة على أن تسير العملية السياسية وفق منطق الأهواء والرغبات وحصر الصلاحيات وتمرير القوانين من خلال رؤساء الكتل أو الرجال الأقوياء فيها مع طمس أصوات وتكميم أفواه باقي أعضاء مجلس النواب، فعملية التصويت في البرلمان مازالت تخضع لإجراءات العد برفع الأيادي رغم أن برلمانات بلدان فقيرة اعتمدت التصويت الالكتروني تحاشيا للخطأ ولكن في العراق تصر الكتل وقادتها على ارتهان أعضاء قوائمهم في ذات دائرة الكتلة ومنعهم من قول ما يخالف ذلك، لذا لن يرى التصويت الالكتروني النور ما بقى تقاسم السلطة وفق طرق المحاصصة والتوافق على إغلاق وحصر دائرة القرار بيد رؤساء الكتل وقادتها، وليت أن الأمر في البرلمان يقتصر على ذلك ولكنه يذهب بعيدا ليقف رؤساء الكتل البرلمانية وتوابعهم موقفا مخزيا من سن قانون تنظيم عمل الأحزاب في العراق.
أن مثل هذا الكم من المخالفات يجعل نموذج الدولة في العراق لا يخرج عن طبيعة التهريج السياسي بمسمى الديمقراطية والذي يسمح بأن يطلق على مثل هذا النموذج الفريد من نوعه بين البلدان ببلد ديمقراطية الهذر واللغو ليس إلا.   
 

226

جميع من في السلطة شركاء في الجريمة 

فرات المحسن
سجل القضاء العراقي ومحاضر الشرطة وجهاز الأمن وقائع لجرائم جماعية وفردية عديدة اقترفت بحق أبناء الشعب العراقي ذهب ضحيتها الآلاف، وقيد الكثير من تلك الجرائم ضد مجهول أو عتم على الحدث ومنع الحديث عنه وأغلقت الكثير من الملفات لعدم توفر الشهود وضعف الأدلة، وفي الكثير من الأحيان استطاع البعض المساومة لإطلاق سراح القتلة أو تهريبهم، ولعب القضاء العراقي وقوات الشرطة والجيش ووزارة العدل وقادة سياسيون الدور الفاعل في جميع تلك الأحداث، ودرج الجميع على التعتيم حول الوقائع وفق منطق تبادل الأدوار والمصالح وعدم التعرض وإيذاء حالة التوافق السياسي والشراكة التي تتطلب التستر على جرائم الشركاء والامتناع عن عرضها أمام الشعب مهما كان نوعها أو عدد ضحاياها، فكشفها حسب ما يقرون سوف يطعن بالعملية السياسية ويربك تقاسم غنائم السلطة. مثل هذه الحالة فرضت قناعة لدى الشارع العراقي ومثله الرأي العام الدولي بأن ما يصدر عن السلطة العراقية حول أي حدث هو نوع من أنواع التلفيق والتحريض السياسي لا يمكن الوثوق به ولن يكون واقعا حتى وأن توفرت فيه كافة أركان الحقيقة. فالعملية السياسية المشكلة في العراق بنيت على طبيعة التوافق الملفق والكاذب و ما نتج عنها من غير المعقول تسميته سلطة شرعية تستند إلى قواعد وأسس قانونية.
الاعترافات الأخيرة التي أدلى بها بعض من حماية نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وبعدها ما صدر عن مجلس القضاء الأعلى العراقي من مذكرة اعتقال بحقه فتحت ملفات كبيرة بحجمها متشعبة بقضاياها لا يقتصر الاتهام فيها على شخص طارق الهاشمي بل يطال الجميع دون استثناء ويضعهم في دائرة الاتهام بالمشاركة في جرائم كبرى اقترفت بحق الشعب العراقي  في ذات الوقت الذي يفتح واحدا من أقذر الملفات التي تحوي ما تقشعر له الأبدان وتهتز له الضمائر الشريفة ويدلل على عمق المأزق الأخلاقي وضحالة وقذارة البعض من قادة العملية السياسية في العراق إلا وهو ملف التدليس والتستر على جرائم كبرى اقترفها الشركاء بحق شعب صابر مظلوم جار عليه صدام بالقتل والتعذيب وملأ بواديه بالمقابر الجماعية وضيع خيرة شبابه في حروبه العبثية، واليوم يقف القادة الجدد للعملية السياسية ليخفوا عن الشعب طبيعة الجرائم التي تطاله يوميا ويتستروا على بعضهم البعض، وتغلق ملفات لجرائم كبرى راح فيها الكثير من الضحايا وهدر فيها بحر من الدماء والمال وضيعت حقوق بشر وحقوق أهاليهم وترملت نساء ورجال وتيتمت عوائل وتشردت أطفال واستباحت أعراض وهدمت بيوت واحترقت وضاعت أملاك دون أن يعرف السبب والمسبب، وكل ذلك على قاعدة التستر وطمس الوقائع والحقائق لخاطر الشراكة الوطنية.
من يتحمل وزر كل تلك الجرائم البشعة بوقائعها ونتائجها هم جميع من أدار العملية السياسية وعلى رأسهم رؤساء وأعضاء الرئاسات الثلاث وفي مقدمة هؤلاء رئيس الوزراء نوري المالكي بالذات الذي يعتبر رئيس السلطة التنفيذية لمدة 6 سنوات مضن والذي قدم في خطابه الأخير يوم 21 / 12 / 2011 ما يشير إلى مشاركته في التعتيم والتستر على الجرائم الكبرى التي قام بها البعض من شركائه في العملية السياسية وإدارة دفة السلطة وفق مبدأ التوافقات عبر السكوت عن جرائم فائقة الخطورة دون أن يستخدم سلطاته لوئد وبتر أيادي من يقوم بتنفيذها رغم معرفته بنوع الجرائم ومنفذيها. وفي هذا الشأن يعد رئيس الوزراء بشخصه ووظيفته ومن شاركه قرار التستر على الجرائم أحد أهم الأطراف القائمة والفاعلة والمشاركة في وقائع جرائم قتل بشعة ومنظمة وجهت ضد الشعب العراقي بكامل الإصرار والترصد والقصدية.
 ووفق القوانين يجب أن يخضع للمحاسبة جميع من شارك في التستر وإخفاء المعلومات عن المجرمين ولم يقدمها إلى مجلس القضاء الأعلى أن كان هذا المجلس يتمتع حقا بالنزاهة والحيادية وعدم التسييس. ووفق تلك الحالة توجيه التهمة لكل من قام بعمل إرهابي ومن أوى أو تستر على الجريمة بقصديه ظاهرة، وإحالته وفق قانون رقم 4 إرهاب  ومطالبة الجهات الأمنية ألقاء القبض عليه وجلبه أمام قاضي التحقيق كمتهم وشريك بجميع الجرائم التي تستر عليها وطمس معالمها خلال سنوات ما بعد سقوط حزب البعث ولم يكشفها للعدالة أو أمام الشعب بدواعي المحافظة على الشراكة مع المجرمين في تسيير العملية السياسية، وعلى أن تقوم القوات الأمنية بالتحفظ على هؤلاء ومعهم ملفات جرائم شركائهم التي يمتلكوها وقاموا بإخفائها والتستر عليها والتي كشف عن واحدة منها نوري المالكي وأعلن أمام وسائل الإعلام عن توفرها لديه وتستر عليها مع شركاء آخرين. وعلى المحاكم استدعاء الرئيس جلال الطالباني كشاهد وفي ذات الوقت توجيه التهمة له بالمشاركة في الجريمة التي اقترفها المالكي بموافقته على التستر وإخفاء المعلومات عن الجهات القضائية مثلما أشار رئيس الوزراء نوري المالكي الذي أعترف جهارا وعلنا بأنه سبق وأن قدم للطالباني قبل ثلاث سنوات ملفا أحتوى على وقائع تشير لضلوع  نائب الرئيس طارق الهاشمي وغيره من السياسيين بجرائم قتل وإرهاب ضد الشعب العراقي ولكن الطالباني ووفق مبدأ الشراكة في العملية السياسية تغاضى عن الأمر وتستر عليه حسب تأكيد المالكي.
 إما في حالة عدم وجود ما يشير لصحة إدعاء المالكي وخلو جعبته من مثل تلك الملفات والاتهامات فعلى المحكمة أن تتخذ بحقه العقوبة القانونية التي يستحقها ليس فقط وفق جريمة التشهير بالآخرين وإنما وفق المادة 4 إرهاب كونه روج للتطرف وأجج مشاعر غضب منفلتة في الشارع وأثار الأحقاد والضغائن التي من الممكن لها أن تجر الشعب نحو التطرف في المشاعر وتدفع البعض لاقتراف جرائم قتل، أيضا كونه ضلل أجهزة الدولة وقدم معلومات كاذبة كان لها أن تؤدي لانقسام حاد في إدارات الدولة ومؤسسات الحكومة.
لن يؤخذ بمثل هذا التوجه القانوني الذي يحفظ للجميع ومن ضمنهم الشعب العراقي وضحايا الجرائم حقوقهم التي ذهبت أدراج الرياح جراء توافقات سياسية، والأسباب تعود أولا: كون الجميع يمتلك ملفات قذرة عن الأخر وفي حالة كشفها سوف تكون هناك مواجهات حادة ليس فقط بين الأحزاب الحاكمة ومناصريها وإنما بين شرائح وطوائف مجتمعية تدفعها نصرة العشيرة والطائفة للوقوف مع الأخ مهما كانت أفعاله ومواقفه وهذا ما فعلته القائمة العراقية بجميع قواها في مسألة طارق الهاشمي ومثلها فعلت دولة القانون.
 والسبب الثاني: أن راعي العملية السياسية وهو الجانب الأمريكي يأمل من القوى والأحزاب أن تسير الأمور بما يضمن مشاركة الجميع حتى من الذين اقترفوا أو يقترفون جرائم كبرى بحق الشعب العراقي حفاظا على طبيعة التركيبة السياسية الاجتماعية للقوى السياسية في الوقت الراهن ولحين ما تتوفر العوامل والظروف الملائمة لإعادة هيكلة العملية السياسية وتوزيع الأدوار بعد أن يتم تقاسم الجغرافية العراقية طائفيا وعرقيا بهدوء ودون منغصات سياسية حتى وأن راح الآلاف من الأبرياء ضحايا لمثل هذه السياسة باعتبارهم قربانا يمكن نحره حسب الحاجة وضرورات المواقف وهذا ما حدث يوم الخميس الدامي الذي شهدته بغداد صباح 22 / 12 / 2011  .

227
على خطى صدام...أنه يدعوهم لاحتلال سوريا

فرات المحسن
 
نشر هذا الموضوع عام 2005 اثر خطاب لبشار الاسد عن موضوعة اغتيال الحريري وتشكيل المحكمة الدولية للنظر بالجريمة وايضا التصريحات حول علاقة نظام الاسد بالجريمة . وقد جاء خطاب بشار مفعم بلغة التحدي الاجوف والعنجهية الفارغة.. ولكون الموضوعة ومنذ عام 2005 هي ذاتها ولم تتغير لغة البعث السوري لابل لم يتغير حتى حال الاحزاب العراقية تجاه الوضع السوري والدم الذي يسيل في شوارع سوريا واستهتار بشار ومرتزقته بحياة الشعب السوري لذا اعيد نشر المقال
فرات المحسن
الحوار المتمدن - العدد: 1381 - 2005 / 11 / 17 - 12:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
راسلوا الكاتب-ة  مباشرة حول الموضوع     
 
 
 
في سنوات حكم حزب البعث الفاشي للعراق لجأت الكثير من قوى المعارضة العراقية الى الجمهورية العربية السورية وكان ذلك خيارا اضطراريا لبعضها.وقد استفادت تلك الفعاليات من الخلاف السياسي بين جناحي حزب البعث في البلدين، وبدورها فأن سلطة الرئيس حافظ الأسد وظفت وجود تلك المعارضة على أراضيها للضغط  ومقارعة حكم صدام.كانت تلك الروابط بين السلطة السورية والمعارضة العراقية تخضع لنوع من العلاقة الطفيلية، فتحت مراقبة وتهديد الأمن السوري كان المعارضون العراقيون يعملون بتوجس وخوف دائمين،في ذات الوقت فقد ارتضوا أن يتغاضوا عن الوقائع الجرمية اليومية التي يقترفها نظام حزب البعث السوري ضد أبناء الشعب السوري، وأغلقوا آذانهم و عيونهم عن وقائع يندى لها جبين الإنسانية،مفضلين البقاء تحت خيمة وحماية البعث السوري لأسباب ما كان يمكنهم الحديث عنها أو شرحها.لازالت بعض تلك القوى تتهيب الخوض في الشأن السياسي السوري وكشف الانتهاكات الجارية بحق المواطنين أو ما تقوم به السلطة السورية من حشد وتصدير للإرهاب البعثي والسلفي الى العراق. ويأتي ذلك بسبب حرص تلك الأحزاب على بقاء سوريا ممرا لها نحو العالم الخارجي وبالعكس.تلك التبعية التي فرضتها أيام النضال المعارض حاولت الترويج وتكوين انطباع عام عن حكم البعث السوري باحتسابه الجناح اليساري من حزب البعث وأنه كان يمثل الوجه التقدمي والطرف المهم الذي يمكن الركون أليه في معادلة الحرب ضد سلطة صدام وحزبه الفاشي، وان هناك اختلاف شاسع بين النموذجين البعثيين ؟؟.ووفق تلك المعادلة العمياء صمتت المعارضة العراقية متقبلة الكثير من الاملاءات التي فرضت عليها في حينه. ويبدوا أن طبيعة هذا الحال هي من مهازل العمل السياسي الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة )، حيث يتناسى السياسيون مبادئهم أو يركنوها جانبا متبنين معادلة (عدو عدوي صديقي ..وبالعكس ) دون الحاجة لتمحيص من هو العدو ومن هو الصديق ومن أية طينة جبل.ذات الموقف الذي اتخذته المعارضة العراقية من السلطة السورية لازال يتلبس ((المعارضة السورية)) التي ناصبت الشعب العراقي وفعالياته الوطنية العداء وراحت تمجد الطاغية صدام وتتقبل هباته وعطاياه وتوجيهاته، ولازالت ثابتة عند موقفها الغير نبيل ولحد الآن وتحاول الانتقام من وإيذاء الشعب العراقي ثأرا لسقوط من كان يحتضنها ويقدم لها العون.

بعد سقوط صنم البعث في العراق تكشفت الكثير من الأمور وأفصح النظام البعثي في سوريا عن وجهه القبيح بكل تجلياته ودون مواربة، حيث ضم لصفوفه حثالات وبقايا القتلة وعتاة المجرمين من بعثيي العراق وأصبحت سوريا ليس فقط مقر ومنبع ومصدر للإرهاب الموجه نحو العراق وإنما مصيدة للمناضلين العراقيين ممن يتخذون من الأراضي السورية معبرا لهم نحو وطنهم العراق وهناك المئات من الشواهد على ذلك والتي تعرض لها أبناء العراق من المهاجرين العائدين أو ممن يخرج من العراق عبر الأراضي السورية..
أنتظر الشعب السوري ومعه أبناء الشعوب العربية خطاب الرئيس السوري بشار الأسد متأملين أن يكون خطابا بنكهة جديدة تستوعب الحدث الجلل الذي يلف المنطقة برمتها.ظانين رجاحة عقول القيادة السورية (كما صورها لنا البعض) واستيعابها لجوانب الإشكاليات الكبيرة والتحديات المحيطة بسوريا اليوم. وأعتقد البعض أن البعث السوري وقيادته قد أحاطت بالأخطاء الخطرة والكبيرة التي أقترفها الحمار الكبير صدام بسياساته الرعناء وعنجهيته الفارغة والتي وفقها تم استدعاء قوات الاحتلال لتدخل العراق.ولكن خيبة الأمل كانت كبيرة وأظهر حزب البعث السوري بأنه الوجه الأخر للعملة الفاسدة. وأنه غير قادر على الخروج من ذلك الرداء القبيح المهلهل للأفكار الفاشية الغبية المجرمة لحزب البعث.ومارس بشار ذات الخطاب التضليلي الكاذب ووضع رأس شعبه جوار رأسه المبجل مثلما كان يفعل مثله الأعلى الجرذ صدام الذي أصر ولأخر دقيقة قبل هزيمته على القول ( إذا قال صدام قال العراق ).
كان المتوقع وبعد  السقوط المدوي لحزب البعث العراقي أن تكون القيادة السورية قد استوعبت الدرس ودققت في وقائع الأمور وتوضحت لديها الرؤية عن المشروع الكبير للإدارة الأمريكية الساعي وفي الراهن من الوقت الى ثلم المتاريس والمصدات التي تعترض أو تضيق الخناق على دولة إسرائيل وأن سوريا واحدة من تلك الموانع (الرخوة) ولكن العدائية، التي يجب أن تختفي أو تتغير منهجيتها تجاه إسرائيل والعالم الغربي.
ما العمل:
المعادلة بسيطة جدا وربما لا تحتاج لجهد كبير لإدراكها، ولكنها وهذه هي المصيبة بعينها، تواجه بغباء مستفحل وعناد أجوف.
فرأس عائلة الأسد وليس رأس الشعب السوري هو المطلوب اليوم وهذا لا يقبل النقاش أو التعمية. وإذا أراد حزب البعث السوري إنقاذ رأسه فعليه قبل أي شيء أن يفكر بسلامة رأس الشعب السوري قبل أن يضع المعادلة الخبيثة والقذرة الداعية بناءا على طرق التضليل البعثية لوضع الرأسين في سلة واحدة وفق لغة يعتقد البعث السوري أنها لغة تخويف وتحدي ومواجهة ضرورية يمكن عبرها إخافة الأعداء وهز قناعاتهم ،حسب ما جاء في خطاب بشار الأسد.
كان المؤمل وبعد الدرس العراقي أن تسارع القيادة السورية لتعلن خطوات بعينها.خطوات وطرق للمصالحة مع شعبها.نعم المصالحة مع الشعب المكبل بالقيود منذ أكثر من أربعين عاما.أن تتبنى السلطة السورية مشاريع سالكة وحقيقية يكون في مقدمتها إطلاق سراح جميع سجناء الرأي والكشف عن مصير المغيبين والاعتذار منهم وتعويضهم والخطوة الثانية لاستقرار الوضع السياسي وبناء علاقات جديدة مبنية على أسس وخيارات الديمقراطية والحوار الحضاري وتقبل الرأي الأخر ويأتي ذلك عبر حل الجبهة القومية الشمطاء التي تضم المخصيين ولاعقي الأحذية واللاعبين على الحبال ثم إشراك الشعب السوري في القرارات المصيرية ، ثم يأتي بعد ذلك الإعلان عن مؤتمر مصالحة وطنية حقيقي وانتخابات برلمانية ورئاسية بأشراف دولي لتحسم الكثير من القضايا الساخنة ويجد الجميع أن سوريا حافظت على وجودها عبر بقاء رأس شعبها سالما حيث ضمنته الديمقراطية والحلول العقلانية.
وقبل هذا وذاك فالحلول العقلانية لموضوعة اغتيال الرئيس الحريري وكذلك العلاقة مع لبنان ليست بالمستحيلة ويمكن التعامل مع الأمر بشفافية من خلال تقديم كامل التسهيلات لميليس ولجنته حتى وأن طال التحقيق عائلة الأسد ذاتها فالشعب السوري لا علاقة له بما يقترفه جلاوزة البعث ورجال مخابراته وأن رأسي أصف شوكت وماهر الأسد وحتى رأس بشار ذاته،لا يجوز أن يكون معادلا للعذاب المرتقب والإيذاء الذي سوف يطال الشرائح الفقيرة من الشعب السوري.
أن الخطاب العروبي المتعجرف الكاذب لن ينقذ السلطة الحاكمة في سوريا وإنما سوف يهيأ الأرضية الخصبة لسقوط سوريا جميعها بين فكي الوحش الكاسر المتربص، مثلما فعلته حكومة البعث الفاشي في العراق حين استدعت القوات الأمريكية لاحتلال العراق عبر خطاب التحدي الأجوف ثم هربت خلال أيام معدودات تاركة للشعب المظلوم ندب ودمل وأمراض سنوات حكمها الوحشي مضيفة لها احتلال قاسي وبشع.
كذبة ذلك الخطاب لازالت تتلبس العائلة المالكة في سوريا وهي كما ديدن البعث دائما وفي جميع صوره ونماذجه، فهو لا يستطيع ولا يملك القدرة على استشراف المستقبل وتتلبسه دائما نزعات الاستئثار والجريمة والعزة بالإثم ويسلك ذات الطرق التي قادت الى كل هذا الخراب الذي حاق بالمنطقة.


228
سياسيون ساعون لتمزيق العراق2

فرات المحسن

الجزء الثاني


لم تفصح التكوينات السياسية السنية التي ظهرت عقب الإطاحة بسلطة البعث عن نواياها الحقيقية أو مناهجها السياسية الذاهبة لخوض غمار الصراع الذي فتحت جبهاته على سعتها ومثلها فعل الحزب الإسلامي، بل عملت على اختزال فعلها والتمترس وراء مسألتين الأولى الطائفية وتهميش المكون السني والثانية الشعور بالانكسار والضعف واللهاث من أجل إعادة ما كان عليه الوضع قبل سقوط سلطة صدام، وتوزعت أفعال ونوايا تلك القوى بين رفض العملية السياسية برمتها أو الدخول وسط اللعبة السياسية لقضم ما يمكن قضمه من الخصوم، ولم تستطع تلك القوى أن تنأى بعيدا عن بقايا ونثار حزب البعث ونواياه المبيتة لاستعادة سلطته إلا ماندر، وخرجت من بين ثنايا أغلب تلك القوى خلطات لبرامج غريبة تقترب في الكثير من غاياتها مع محاولة تبييض وجه البعث وإعادة الحياة له وزجه مرة أخرى في دوائر اتخاذ القرار وكأنها بفعلها هذا تؤكد دائما الرابطة المستمرة بينها وبين البعث، ساعدها في نجاح بعض من تلك المهام الأداء المتهافت والهجين والبائس لشركائهم في العملية السياسية من القوى السياسية الشيعية وأيضا من البعثيين الذين غيروا ولائهم وباعوه إلى أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، يضاف لذلك الحيادية المبطنة التي يمارسها الحزبان الكرديان بالتدليس والتغليس تجاه تحركات بعض قوى القائمة العراقية القريبة من البعث والذاهبة للأضرار بالعملية السياسية،باعتبار إن الأمر خصوصية عربية في المرحلة الراهنة وليس للكرد شأن فيها وما دامت المسألة لا تضر بالإقليم.
في منعطف الانتخابات البرلمانية الأخيرة ظهرت للعلن القدرات غير العادية لائتلاف القوى العروبية القومية والبعثية وقوى الإسلام السني على مختلف مشاربهم وتطلعاتهم وقدموا أنفسهم إلى المجتمع بعناوين وطنية وبمسمى القائمة العراقية التي حوت تيارات وأحزاب متعددة.
في النظر لطبيعة حشد  القائمة العراقية يجد المرء نفسه في موقف ليس بالعصي إن أراد قراءة المشتركات التي جمعت تلك القوى والتيارات، فالمشهد واضح جدا وما كان  يجمعها جامع سوى مشترك واحد هو طبيعة التركيبة الطائفية السنية لقادتها وغالبية أعضاء أحزابها وتياراتها وتحالفهم بغطاء قومي عروبي وجذور بعثية للكثير منهم. ولغرض التمهيد للقائمة والتغطية على طائفيتها اتخذ من السيد أياد علاوي واجهة ووافق الجميع الانضمام تحت قيادته، ولم يكن هذا ليشفع للعراقية وينزع عنها صبغتها الطائفية. وبالرغم من كون السيد أياد علاوي شيعي المذهب فأن فكره العروبي وعلمانيته تنأيان به بعيدا جدا عن الطائفة الشيعية وبالذات التركيبة الطائفية التي أتسمت بها سياسات وتوجهات الأحزاب الشيعية شركاؤه سابقا في العملية السياسية،وفكره العروبي القومي رغم ضموره بعض الشيء لكنه يبقى صالحا ويقربه في النهاية من رفاق العقيدة . وفي المظهر العام تميزت القائمة العراقية بوجهين الأول الطائفية الدينية السياسية والثاني العداء لشركائهم من مسمى الأحزاب السياسية الشيعية في إدارة الدولة.

مثل السيد النجيفي وصالح المطلك والعيساوي والهاشمي عصب ائتلاف القائمة العراقي بالرغم من زعامة السيد أياد علاوي، ويسجل للسيد النجيفي القوة التصويتية فيها لذا تقدم ليكون مرشح القائمة لرئاسة البرلمان حسب المحاصصة السياسية التي بنيت عليها الدولة العراقية الجديدة ويأتي بعده صالح المطلك كنائب لرئيس الوزراء بعد أن فرضه المحتل لتوازن تتطلبه المرحلة وارتضته اللعبة السياسية بعد رفع الاجتثاث عنه، وبعدهم يتقدم السيد طارق الهاشمي حسب المعادلة الشيعية السنية ليكون نائبا لرئيس الجمهورية. وضع هذا التقسيم على مقدار ما تتمتع به قوى وأحزاب وفعاليات القائمة العراقية بعد أن طعنت نتائج الانتخابات وحجم دور رئيس القائمة كمنافس على مقعد رئاسة الوزراء ووضع في دوامة بما سمي بمجلس السياسات الإستراتيجية ما زال وقائمته يبحث عن مخرج لها.
 لا يوجد في الساحة السياسية العراقية وحتى بين أوساط القائمة العراقية وبين أوراق قادتها ما ينكر صلة بعض من قادتها وأعضائها بحزب البعث وبأشكال مختلفة من الارتباطات والمعان، ولن يستطيع قادة القائمة الإنكار كون أصوات أعضاء حزب البعث ومناصريه قد سجلت لهم الغلبة العددية والحصول على المركز المتقدم في عدد الأصوات، ولكن من غير الجائز اختزال فوز القائمة بعدد 91 مقعدا وبهذه الكمية من الأصوات فقط على مشاركة البعثيين دون سواهم، فالطائفية الدينية ومثلها السياسية لعبت دورا أساسيا في مجريات العملية الانتخابية والكثير من القوميين العرب وجدوا إن القائمة العراق تتماثل بمحتواها الفكري ومنهجها المعروض مع الكثير من طموحاتهم، ومن الأنصاف القول أن شخصية السيد أياد علاوي استطاعت أن تكسب أعداد ليست بالقليلة بين أوساط الجماهير العراقية وأيضا لا ينسى ما لعبه الحزب الإسلامي في ذلك الحث والحشد الطائفي.
كانت شعارات القائمة العراقية في أبعادها الوطنية والقومية العروبية السمات الأكثر تميزا في بداية الأمر وجهدت القائمة كثيرا لإبراز هذه الإبعاد للتمويه على الطبيعة الطائفية التي ظهرت على تركيبتها. وفي الكثير من الأحاديث الإعلامية لرجال القائمة بمختلف مراكزهم وبالذات السادة أياد علاوي والنجيفي وصالح المطلك والهاشمي، سجلت ظاهرة متكررة لا تخرج عن التأكيد على أن غاية القائمة وقواها وأحزابها بناء عراق قوي ديمقراطي مستقل وموحد، بعيدا عن المحاصصة السياسية والطائفية وهي الشعارات التي ينافق فيها جميع شركاء السلطة في العراق وعلى مختلف تكتلاتهم ومذاهبهم. وفي تلميحات حادة ومتعددة تتسرب من بين ثنايا السطور لقادة القائمة العراقية لغة تطعن بنصوص دستورية مثل المادة 140 وضرورة إعادة كتابة الدستور ورأي قاطع رافض لموضوعة الفدراليات في الجانب العربي من العراق شمالا كان أم جنوبا وغربا، وبني هذا الرأي على أساس أن الفدراليات دعوة أولية لتمزيق العراق وهو مشروع أمريكي لن يجد له صدى بين أوساط القائمة العراقية المتمسكة بعروبتها ووحدة عراقها!!؟؟
فجأة تغيرت نغمة التعابير لدى قادة العراقية وحلفائهم لترتفع لغة جديدة تطالب بإقليم فدرالي للموقع الجغرافي الشمالي الغربي من العراق أي السني بالتحديد وجاء مثل هذا الحديث على لسان السيد النجيفي رئيس البرلمان العراقي وصالح المطلك وبعض أعضاء القائمة العراقية ومناصريها، ويبرر هذا الطلب على وفق ما تتعرض له تلك المحافظات من تهميش وإهمال على يد السلطة المركزية التي يقودها حزب الدعوة، وفي حالة تشكيل مثل هذا الإقليم سوف يكون لأبناء تلك المناطق القدرة والمخصصات المالية لإدارة شؤون محافظاتهم أو إقليمهم بعد تشكيله.
ليس مستغربا أن ترتد أهداف الغالبية من قادة وأعضاء القائمة العراقية لتنقلب بمقدار 360 درجة مبعدة كل ما كان يدور حول دورها القادم في عملية بناء العراق الديمقراطي بهوية وطنية موحده بعيدا عن مشاريع التفتيت والتشرذم التي نص عليها الدستور.  ولكن ارتباط شخوص القائمة بمشاريع الخارج والضغوط الكبيرة التي تواجهها جعلاها في النهاية ترضخ لحسابات الدفع والتخندق الطائفي والسياسي والتي صعدت من حدتها الأحداث الكبيرة التي وقعت في العالم العربي المتمثلة بالانتفاضات الشعبية وبالذات في اليمن وليبيا وسوريا التي عكست وقائعها ما أرعب الكثير من البعثيين المتواجدين  في تلك البلدان والذين يؤشر وقوفهم إلى جانب حكوماتها ومعارضتهم للهبات الجماهيرية المطالبة بالتغيير، ووفق هذا الأمر وجهت لهم سهام الاتهام بالخيانة والارتزاق  وهدد الكثير منهم بعقوبة تنتظرهم بعد حين، مما اضطر أعداد ليست بالقليلة منهم وبأغلبية مثلت الوزن الأكبر من قادة الحزب من العسكريين للعودة إلى العراق عبر بوابة سوريا والأردن وتوجه الكثير منهم إلى محافظات الآنبار وصلاح الدين والموصل.
شكلت عودة هؤلاء هاجس رعب عند السلطة في بغداد مما استدعى تشكيل خلايا متابعة في أجهزة الاستخبارات ووزارة الداخلية والدفاع قامت بتقديم استشارات وتقارير عديدة إلى رئاسة الوزراء حول مجاميع غفيرة من قادة الفرق والشعب في حزب البعث الذين عادوا ورصدت لهم تحركات مريبة واتصالات هاتفية في عموم العراق ومن بينهم عدد من المطلوبين للمحاكم بدواعي وأسباب مختلفة منها علاقتهم الحزبية بتنظيمي يونس الأحمد وعزة الدوري المناوئان للسلطة في العراق والمحرضان الرئيسيان على الإرهاب. لم تكن تلك التقارير لتستوفي شروط المباغتة والاعتقال وأن البعض من هؤلاء سبق وأن كان محاورا للسلطة ورجال هيئة المصالحة الوطنية حين كانوا في الخارج.
ليس هناك سر في إشعال فتيل النار ودفع السلطة وحزب الدعوة بالذات لاتخاذ الإجراءات السريعة والفاعلة لتنفيذ رغبة كانت تكبلها الكثير من المعوقات وخاصة الرؤية الأمريكية لطبيعة العملية السياسية وضرورة مشاركة الجميع في القيادة والحكم وهذه الرؤية هي مبعث اطمئنان للإدارة الأمريكية على مستقبل مصالحها في العراق بعد خروج غالبية قواتها، ولذا حرصت دائما على تكبيل يد صقور الأحزاب الشيعية وحاولت باستمرار التمهيد لعودة بعض قادة حزب البعث للمشاركة بالعملية السياسية، وهذا الموضوع يلتقي مع أهداف ويلبي مطالب غالبية قوى القائمة العراقية الراغبة بذلك النوع من الحراك،وفي الوقت ذاته كان هناك شعور قوي لدى حزب الدعوة والكثير من مناصري السيد نوري المالكي بأنهم قد كبلوا لفترة طويلة قادت في النهاية لنمو الخلايا النائمة من حزب البعث، ومع عودة هؤلاء الكبار سوف تكون هناك مواجهة مرتقبة لامحال  والبعثيون ساعون للعودة إلى السلطة بالكامل حتى لو كان الثمن دماء الملايين من أبناء الشعب العراقي.   
قدوم رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الانتقالي الليبي محمود جبريل يوم 6 تشرين الأول إلى العاصمة بغداد ليفتح خرج الحاوي ويقدم وجبة دسمة للسيد المالكي الذي لم يدخر جهدا واعتبر معلومات السيد محمود جبريل وكأنها أشارة الانطلاق لسباق أعد نفسه ومؤازريه لخوضه منذ زمن طويل وبعد أن توفرت لديه سابقا معلومات ليست بالقليلة عن تحركات حزب البعث قدمتها له المخابرات السورية وبعض أعضاء من حزب البعث بثمن مدفوع، ولكن زيارة السيد جبريل كانت بنكهة خاصة وقرع لناقوس خطر حقيقي لمؤامرة بإمكانيات تمويلية كبيرة، لذا أعلن انطلاق الحملة بتوجيه السيد على الأديب وهو اليد اليمنى للسيد المالكي مذكرة تفعيل لقائمة سابقة باجتثاث 140 من العاملين في حقل التربية والتعليم في محافظة صلاح الدين من ضمنهم 6 من حملة الدكتوراه و17 من حملة شهادة الماجستير و30 بشهادة بكالوريوس والغالبية بشهادات متوسطة وابتدائية وجلهم من الذي سبق وأن عمل في الأجهزة الأمنية والمخابراتية أو قوات الحرس الجمهوري في عهد صدام حسين وقد أحيلوا على التقاعد وأعادت محافظة صلاح الدين تعينهم في سلك التعليم لينالوا راتبا أضافيا غير راتبهم التقاعدي. بعد هذه المذكرة بدأ الهجوم الذي أعد له منذ أشهر فكانت حملة منظمة للقبض على مجاميع من البعثيين  وبالذات من العائدين حديثا إلى العراق وتركزت الحملة في بدايتها على محافظتي البصرة والناصرية لما تمثلانه من ثقل تنظيمي سابق وحالي لحزب البعث.
 في جميع الأحوال كانت زيارة السيد محمود جبريل مفاجأة حتى للسيد المالكي فقد قدم للسلطة في العراق تفاصيل مفزعة عن العلاقة بين تنظيمات حزب البعث ومخابرات العقيد القذافي والكيفيات التي تتحرك بها تلك التنظيمات وأماكن تواجدها وإستراتيجية عملها المستقبلي، وحوت الأوراق أسماء كثيرة توطدت علاقتها بذلك العمل المنظم منذ الأسبوع الأول بعيد سقوط سلطة حزب البعث في العراق وكبر معها وبها حجم العلاقة المشبوهة وقد عبر عن تلك العلاقة البيان البائس لجماعة عزة الدوري الذي تحدث عن قدرة حزب البعث المشاركة في الدفاع عن سلطة الدكتاتور القذافي.
ردة الفعل الأولى للقائمة العراقية كان كما عهدناها لا تخرج عن دائرة ما كبل قادتها أنفسهم به وهو الترصد للسلطة المالكية وتحالفاتها السياسية والطعن بجميع قراراتها مهما تنوعت إن كانت صالحة أو طالحة، كذلك الالتزام بالدفاع المستميت عن البعث والقادة السابقين للعهد المقبور. وبالرغم من أن أغلب من قبض عليهم من البعثيين كانوا من سكان المحافظات الجنوبية فأن موقف محافظتي صلاح الدين والأنبار كان سريعا ومتشاطرا ومهددا ومتوعدا، يشي بما كان مبيتا له، فكان وكأنه ثورة بركان وبني هذا الموقف على لحمة العشيرة والطائفة والعلاقات العائلية وأيضا الحزبية السابقة والحالية والموقف من الجيش السابق بعيدا جدا عن مسمى وطن، لذا استنفرت جهود البعض من أبناء كلتا المحافظتين لدرء الخطر الحكومي والوقوف في وجه إجراءاتها وعمليات الاعتقال والاجتثاث والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من أبناء المحافظتين من البعثيين والعمل على تهيئة الأوضاع والأجواء السياسية لمشروع الإقليم ليكون الحاجز والمصد القوي بوجه قرارات السلطة ونهجها في اجتثاث البعث، واستغلت تلك المحافظات سياسات التفرقة والإقصاء والتهميش والإهمال الذي تتعرض له جميع محافظات العراق دون استثناء كحجة لمواجهة تتصاعد حدتها الطائفية مع الوقت وتقتصر أزمتها في البداية بين المركز من جانب ومحافظات الموصل وصلاح الدين والانبار من جانب أخر ثم تتبعها تحركات تكون في النهاية على حساب وحدة العراق ولحمته الوطنية. والظاهر أن إثارة فكرة تشكيل الأقاليم في الراهن من الوقت وفي تلك المحافظات الثلاث عنت أساسا عملية استباقية لجعل بلداتها حواضن أمنة لعودة القيادات والكثير من أعضاء حزب البعث وغيرهم من مخالفي الرأي أو رافضي العملية السياسية من أجل أبعاد يد السلطة عنهم وتحجيم  قدرتها على أحالتهم إلى المحاكم عن جرائم إرهابية ارتكبوها في عهد صدام أو بعده، تقليدا لما يفعله قادة إقليم كردستان تجاه الجحوش قتلة الشعب الكردي. ويصر دعاة الأقاليم اليوم على ترويج بدعة قدرتهم الفائقة على أدارة أمن أقاليمهم ووضعها الاقتصادي والسياسي بما يحقق لها الاستقرار بعيدا عن سلطة المركز وهم في هذا يتطلعون لتقليد نموذج العلاقة بين إقليم كردستان والمركز وتركبهم هواجس لتطبيق ما يشبه كونفدرالية كردستان في الإدارة.حيث لايحق للحكومة العراقية مطلقا التدخل بسلطة وقرارات الإقليم وشؤونه الأمنية والعسكرية والاقتصادية وقضائه ووظائف دوائره وعلاقاته الخارجية وغير ذلك.
إذا كان إقامة الأقاليم حق ضمنه الدستور فهو وفي النص المدون لم يشر من قريب أو بعيد إلى كونفدرالية بل أشار إلى فدرالية تكون فيها وزارات الدفاع والخارجية والمالية والداخلية والموارد الطبيعية من اختصاص المركز وله الأفضلية في اتخاذ القرارات في ما يخص سياسات الدولة وشؤون الأمن في البلد وسلامة حدود الوطن ووحدة أراضيه والتصرف بثرواته وتوزيعها توزيعا عادلا. لذا فأن الدستور يحتاج إلى عملية تحديث شامل وبما يتناسب ووضع العراق وثقافة ووعي شعبه، وسد الثغرات وتوضيح الفقرات فيه ووضعها بشفافية بعيدا عن الألغاز والتوريات، على أن يأخذ المشرع في الحسبان وحدة العراق واستقراره والحفاظ على هويته الوطنية. فمحاولة اعتماد الفدرالية كنظام اتحادي للدولة العراقية لابد للمشرع في هذه الحالة من معاينة جملة مسائل ليس فقط عن أهلية المجتمع بل كذلك عن مواصفات وسمات هذه الفدرالية وتبعاتها لكي لا تتمخض بعدها عن تأويلات وترجمات غامضة تحرف التعابير الواضحة والصريحة لمفهوم الفدرالية. أما أذا أراد البعض أقامة الأقاليم وفق توجهات طائفية ومصالح شخصية وفئوية وحزبية وبخطوات ارتجالية تسبقها لغة التهديد والوعيد التي تضرب على وتر أثارة الفتن وزعزعة الأمن فأن مثل هذا المسعى له غرض واحد هو بناء كتلة بمسمى إقليم تسعى لتكون بؤرة لمرض سوف يتسلل إلى جسد العراق  لإضعافه وتفتيته ليس إلا. 
حسب مهزلة الدستور الذي سلق وطبخ وعرض وصوت عليه عام 2005 يعتبر أقامة الإقليم حق دستوري للمحافظات منفردة أو مجتمعة، كون الشعب قد صوت عليه ؟!، ولو أعدنا النظر بمواد ذلك الدستور وقرر شرفاء الشعب إعادة التصويت عليه من جديد لعرف الساسة بعد هذه السنوات التسع خطلان ما قدمه لهم بريمر وما وقعوا عليه دون حياء وكيف تم تمريره بغفلة من الزمن على شعب كان يجهل ما يريد وغافل عن محتوى ما يوقع عليه. وقد شارك في تمريره ليس فقط ساسة من العراق وعرابيهم من الأمريكان والبريطانيين بل دفعت مبالغ من دول إقليمية ليستغفل الشعب العراقي وتنطلي عليه لعبة كبيرة تريد للعراق أن يتشظى ويكون عليلا ضعيفا مهشما تتقاذفه أهواء ورغبات جميع من كان وما زال يضمر الحقد والكراهية لهذا الشعب الذي تحمل على مر العصور الظلم الكثير من بعض أبناءه وبناته وغالبية جيرانه شعوبا كانت أم حكومات. واليوم من يرغب بهذا التقسيم هم أعضاء كثر من مختلف القوائم والأحزاب والقوى المشاركة في العملية السياسية ولكل من هؤلاء رغباته وأهدافه غير المعلنة التي يحاول إخفائها بحجج واهية، وهؤلاء هم قادة مرحلة ما بعد فاشية صدام يكتبون بمداد أقلامهم عار أبدي سوف يلاحقهم ويتلبسهم وسوف يلعنهم الناس والتأريخ على ما اقترفوه بحق وطن عرف عنه قبل أن تطأ ترابه أقدام أسلافهم ، مصدر أشعاع وعطاء وخيرات ومعرفة وحضارة منذ آلاف السنين. 





229

سياسيون ساعون لتمزيق العراق


فرات المحسن

الجزء الأول

وفق رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في بناء مشروع الدولة العراقية الجديدة أثر أزاحتها حزب البعث و احتلالها للعراق تمت الدعوة لسن دستور عراقي جديد، وبعد فترة قصيرة جدا من عمر الزمن لم تتعد عدد أصابع اليد من الأشهر وعبر مسودة أولية دبجت وسطرت خطوطها العريضة في مكاتب البنتاغون ثم وضعت على طاولة البحث بين أيادي الساسة من العراقيين الذين دعتهم الإدارة الأمريكية وبخيارات مختلفة ليكونوا فريق العمل الذي كان عليه مهمة أعداد دستور العراق ثم طرحه للتصويت.شرع دستور العراق.
 لم تخلو أجواء الاجتماعات من ضغوط وتدخلات مورست بشكل مباشر من قبل العديد من الأطراف كان في مقدمتهم الطرف الأمريكي صاحب المشروع الذي استخدم التهديد المباشر والمبطن للحث من أجل سرعة إنجاز الدستور وبشكل نهائي وفق نموذج فصل لدولة تخطت مراحل نضوج كبرى في الحياة الديمقراطية والحضارية واستتب فيها الأمن والوفاق الوطني بمراحل عليا وبهوية وطنية واضحة وثقافة ووعي جماهيري عال وسوق اقتصادي متكامل،ولذا ذهب الدستور الجديد بعيدا في تفاصيل فقراته مهملا طبيعة التكوينات المجتمعية وإشكالات الوقائع على الأرض والتي توحي دائما بمقدار كبير من الخصومة والنزاع، وكان سبب رغبة الأمريكان التعجيل في طبخة الدستور يخضع لحسابات مستقبلية تذهب في مجملها لرؤية عراق ممزق بكتل جغرافية صغيرة وضعيفة يكون فيها للمحتل وقاعدته الاجتماعية الاقتصادية اليد الطولى، وهذا مشروع لم يكن وليد فكرة نائب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وإنما مشروع ظهر في وثائق السياسة الأمريكية في أواسط الخمسينات وجددت الدعوة له من قبل قادة إسرائيل في السبعينات وأكده الراحل الملك حسين بن طلال قبل وفاته بخمس سنوات، ضمن تلميحات لجس النبض وإبقاء المشروع متداولا. 
لم يكن أغلب أعضاء اللجنة التي اختارها المحتل غير عجينة مطواعة بيد بريمر وفريقه وكان أعضاؤها هجين غريب بمواصفات ورغبات ونوايا مختلفة ومنوعة لايجمعهم جامع غير الحضور من أجل المال وسرعة الانجاز ووضع دستور لايمت بصلة لما سبقه من دساتير عراقية، ولم تجمعهم رغبة النظر بعقلانية لمشاكل الشعب وواقع العراق وهويته الوطنية وإنما جلسوا ليفصلوا ثوبا مرقعا فضفاضا ركز فيه على السلطة وإدارتها وأبعدت إلى الخلف صورة الدولة العراقية.
حضر أعضاء اللجنة من القوى السياسية الشيعية بنشوة غامرة كونهم يحملون تفويضا من السيد علي السيستاني الذي لمح لضرورة أن يكتب العراقيون دستورهم بأنفسهم وهو الرجل البعيد جدا والمبعد أصلا عن ما يدور في الأقبية وخلف الكواليس السياسية، ومع هذا فقد جاء هؤلاء إلى الاجتماعات بحصانة يعتقدون معها إن سوف يهابها الجميع ولذا واجهوا خصومهم من الذين شاركوهم الأعداد بشيء من التعالي والمباهاة والجفوة وبالمقابل كان الطرف الأخر من الجانب العربي وهم الشخصيات والفعاليات الناشئة السنية تحديدا الذين امتنعوا عن حضور اجتماعات لجنة أعداد الدستور بادئ الأمر لأسباب غريبة مبنية على شعور مركب بالخسارة التي لحقت بهم إثر انهيار سلطة دانت لهم لأكثر من 72 عاما، ولكن في النهاية رضخ الكثير منهم للإرادة الأمريكية وسطوة الأغراء المالي ليحضر حاملا عقدا كثيرة ليس أقلها الشعور بالضعف تجاه شركائهم في اللجنة من العرب الشيعة، ولم يستطع الطرف العربي السني وهو الذي كان الحلقة الأضعف حينذاك من الوقوف بوجه المد الجارف والنزوع إلى تدبيج مواد دستورية فرضتها الإرادة الأمريكية بالتوافق مع الحزبين الكرديين، وظهرت من بعضهم اعتراضات خافته لم تستطع منع تأكيد فقرات في الدستور تضمن قوة الأقاليم والمحافظات وأفضليتها على المركز أي العاصمة بغداد أن تم التنازع في أمر ما، وصيغت مواد دستورية بفقرات مجحفة ترجح خيار الفدراليات والنزوع نحو الاستقلال عن المركز.
شكل الهاجس الطائفي وما سمي بالمظلومية الشيعية والرعب من عودة البعث لدى القوى السياسية من العرب الشيعة الدافع الأكبر لمسايرة ما جاء بالمسودة الأمريكية والدفع لبلورتها على علاتها ظنا بأن محتويات الدستور والنصوص التي عنت الفدرالية وتشكيلها سوف يكون الحد الفاصل بين عهدين ونموذجين من الحكم. وبحكم سنوات الظلم والقسوة التي مورست من قبل الفاشي صدام حسين فأن الفدرالية سوف تكون واحدة من النماذج التي تمنع عودة البعث أو رجوع الحكم المطلق للعرب السنة، والسبب الأخر في عجالة قوى العرب الشيعة وتسرعهم في أقرار بنود الدستور ما كانت تتمتع به تلك القوى من سذاجة سياسية وقانونية كان واحدا من أسبابها النشوة المفرطة بالنصر الذي تحقق إثر بروز مشهد جديد يقر لهم بالأكثرية العددية والسلطة، وكان هناك أيضا مشاريع وأجندات خارجية لها الكلمة العليا بين تشكيلة الفريق الشيعي ومثله السني وهذه الأجندات تضغط بشدة ويهمها جدا أضعاف العراق لابل تقسيمه وتفتيته ليكون كتل صغيرة يسهل التدخل في شؤونها والسيطرة على مقدراتها.
وفق هذا المشهد المربك والملتبس سن الدستور العراقي عام 2005 من قبل الساسة العراقيين المتلبسين بالنوايا غير الحسنة لا بل المريضة تجاه بعضهم البعض ثم عرض الدستور على الشعب دون أن يؤخذ المجال والمدة الكافية لمناقشته، ووضع حزمة واحدة ليصوت عليه دون أن تسنح للناس الفرصة لمعرفة حقيقة النوايا المبيتة بين سطوره ومحتوياته وما سوف يتمخض عنه من نتائج تضر أو تنفع العراق، وجاء التصويت حرق واختزال للمراحل الزمنية واستغفالا للناس الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ليس وفق دراية ومعرفة بما يضمره الدستور بقدر ما كان وفق الحث والتصعيد والترهيب الطائفي وأيضا بسبب ما حملته المرحلة من فرح غامر بالمشاركة وخوض تجربة جديدة تختلف عن سابقاتها يكسر فيها تقليد البيعات السابقة لصدام.
  أما الأخوة من الحزبين الكرديين فكانوا أصحاب مشروع طموح يتوائم جدا مع ما قدمته الديباجة الأمريكية كمسودة للدستور العراقي مدركين أن كسب الجولة في هذه المرحلة يتمثل في تثبيت كامل حقهم بإقليم فدرالي كانوا قد وضعوا لبناته الصلبة منذ عام 1991وأصبح واقعا ملموسا لا يمكن إنكاره، ولكن في نفس الوقت فأن الإقليم هذا يحتاج إلى ما يجعله أكثر صلابة وصولا للاستقلال الكامل والابتعاد عن العراق العربي لذا فحاجتهم كانت ماسة لوضع دعائم ساندة في النص الدستوري ترفع من شأن مشاريع الفدراليات في عموم العراق لتذهب في النهاية لأضعاف الطرف العربي أو تشتيت جغرافيته ليكون أكثر هشاشة بمواجهة مشروع كردي فدرالي  اكتملت ملامحه الكونفدرالية مع ثبات النصوص الدستورية ونيلها الموافقات القانونية، ولا يحتاج هذا المشروع غير اللحظة المناسبة لوئد الشراكة الوطنية مع المكون العربي.ولكن الأخوة في الحزبين الكرديين وبشيء من البرغماتية والعقلانية يحسبونها اليوم جيدا، فليس في نيتهم الانفصال الآن كونه يسلبهم منافع لاغنى لهم عنها وسوف تكون دولتهم في مهب الريح إن لم تطمأن دول الإقليم وتضمن رضاهم وهذا يحتاج إلى أشواط طويلة.  وإن كان لابد من الاعتراف بحق جميع الشعوب بالدفاع عن مصالحها وحقوقها فأن مثل هذا الحال يتوائم جدا والسير الجاد من قبل الكرد في استغلال جميع ومختلف الفرص لنيل حقوقهم في وطن واحد بعيدا عن الوصاية والاضطهاد، وبدوري  لا أخفي تأييدي الكامل لحقهم في الانفصال عن العراق لا بل أعد نفسي واحد من كثرة تريد وتؤكد على ضرورة انفصال كردستان عن العراق اليوم قبل غد. 
لم يكن للنص الدستوري أي فعل مؤثر أو ضابط لأداء قادة العملية السياسية أو مؤسسات الدولة إن كانت تشريعية أو تنفيذية أم رئاسية، وقد سجلت الكثير من الوقائع في العمل السياسي وإدارة الدولة بما يشي أن النص الدستوري أريد له أن يكون ديكورا ليس إلا أو محاججة ولغو فارغ بين خصوم أو شركاء في اللعبة أو فضح جهالة البعض القانونية، رغم إن الكثير من الساسة المشاركين في أدارة الدولة يجهل أغلب فقرات الدستور والبعض منهم غير معني بها بالمطلق. ولم يعن للدستور أن يكون حكما فصلا في أكثر المشاكل التي ما زالت تشكل عقد مستعصية تحتاج إلى العقلانية وروح الهوية الوطنية العراقية أكثر مما تحتاجه من نصوص يراد بها المهاترات وإطالة أمد المشاكل ووضع العقد أمام المنشار.
مثلت طبيعة تشكيل مجلس الرئاسة خرق فاضح للدستور ومثلها تفسير صلاحيات وعلاقة كل من مجلس الوزراء والبرلمان مثلما كان للنصوص الدستورية ما يدفع الخصومة لتتفاقم جراء تفسير المادة 140 وكذلك صلاحيات المحافظات والأقاليم في مواجهة المركز وغيرها الكثير من المسائل العالقة والقابلة للتصعيد، وبشكل سافر وعلني قضمت صلاحيات المحكمة الدستورية من قبل الأحزاب الشيعية وألغي النص الصريح بفصل السلطات عن بعضها لتصبح تلك المحكمة ضمن مربعات الصراع بين السياسيين وتجير قراراتها لصالح طرف بعينه ، بعد ذلك خلت الساحة من الجهة القانونية المؤهلة لتفسير النص الدستوري ومثل ذلك حدث مع باقي الهيئات التي سميت بالمستقلة من مثل النزاهة وهيئة إدارة الانتخابات وعمل بجد من قبل أغلب أطراف من يدير العملية السلطوية على خرق نصوصه أو التلاعب بها وتغيبها، كل هذا وغيره جعل الدستور في نهاية المطاف يخضع لتأويل الساسة ليصبحوا هم مصدرا لسن القوانين دون الحاجة للاحتكام  لمواد دستورية سبق وأن اتفقوا عليها.



230
المنبر الحر / صمت الطليان
« في: 21:58 22/10/2011  »


صمت الطليان

فرات المحسن
تبدو استعارة التسمية للعنوان أعلاه من اسم فلم صمت الحملان مناسبة جدا وتحمل الكثير من التشابه. فالخراف هي الخرفان، والحملان هم صغارها.فلم صمت الحملان (silence of the lambs) أخراج جوناثان ديم وبطولة جودي فوستر والممثل الرائع أنتوني هوبكنز.يتحدث الفلم عن جرائم قتل بشعة  تتكرر في أحدى المدن الأمريكية يقوم بها مجرم محترف وهناك حلقة مفقودة تتعلق بسادية المجرم الذي يمثل بضحاياه. تحاول الباحثة من قسم البوليس (جودي فوستر) الحصول على نتائج محددة وربط خيوط الجرائم بجرائم مشابهة. من خلال استنطاق بحثي لقاتل محترف معتقل، سادي ووحشي أيضا ويتلذذ بالمثلة بضحاياه. يقوم بدوره الممثل هوبكنز. ولكن التحقيق والبحث والدراسة من قبل الشرطية يتحول إلى مخادعة تجبر الباحثة على الاعتراف للمجرم بوقائع عن تأريخها الشخصي أثرت عليها. وتجد الباحثة نفسها تحت سطوة وتأثير أفكار المجرم الذي بدأ يربك البحث. في نهاية الفلم يقبض على المجرم الأخر الذي روع المدينة، ولكن المجرم الوحشي القابع في السجن (هوبكنز ) يجد الخطة للهروب بعد قتل حراسه، وتلك دلالة على أن الجريمة مستمرة وأن المجرمين يجدون المكان والوقت المناسب لتطوير الجريمة وانتشارها وأن قوة الردع تظل كليلة وغير كافية لتطويقهم وتدمير قوتهم وكبح نوازعهم الجرمية.
استعرت عنوان الفلم لأن الجرائم التي نفذت وتنفذ في جميع مناطق العراق لها صلة قوية بتناحر القوى السياسية الباذلة جهدها لتقاسم السيطرة على مصادر المال والقوة في العراق،وتلك الجرائم تمثل نموذج لعنف سوف تتلاحق وقائعه تباعا لتصل إلى نهايات تجعل العراقي يعض في النهاية أصابع الندم حين يتمزق الوطن شتاتا وتلك غاية يسعى لها جل قادة العملية السياسية في العراق. ليس صمت القبور الذي تمارسه القوى السياسية العراقية للتغطية على جرائمها المتبادلة وحده يخضع لمثل هذا التشبيه فصمت المواطن وردود فعله البائسة يدفع بقوة للاستعارة أيضا وهو حالة تختلف كليا عن الصمت الذي يمارسه الساسة.
 أفضل أن أضع أسم طليان بدلا عن حملان.فالحمل فيه الكثير من الرقة والبراءة ولن يكون شاهدا كفأ على ما يحدث من حوله، فهو صغير ووديع ولن يستطيع تفسير ما يحدث ولذا فهو لا يملك غير الصمت واللعب بعيدا.ما دفعني لاختيار التسمية هو التشابه المطلق بين وقائع الفلم هو الهروب المتكرر من السجون وانتشار الجرائم بمختلف أنواعها في العراق دون رادع مع كثرة من الشهود والمشاركين والفاعلين الحقيقيين من ذوي المسؤولية في اللعبة السياسية ومثلهم البشر الذين باتوا يؤمنون بقدر الموت المسلط عليهم وينتظرونه بشيء من العدمية ولامبالاة. حيث يبدو أن وقائع الفلم يعاد تكرارها يوميا في العراق وحادثة الاعتداء التي تعرضت لها فتاة الفلم في طفولتها وخبأتها في ذاكرتها صورة مكررة لما رسخ في ذاكرة العراقيين تتكرر بعدة أشكال وبنماذج مختلفة ومتباينة في آن، والمجرم مطلق السراح يرتدي أقنعة مختلفة.
الخراف وربما الجمع المناسب لتلك التسمية وحسب الرغبة العراقية هم الطليان.من هم هؤلاء الخرفان أو الطليان ؟ ولم فضلوا الصمت وأمام أنظارهم تغتصب الهوية الوطنية العراقية ويخرق القانون وتمارس لعب العهر السياسي وتباع الأخلاق والضمير والذمم وهم في صمتهم غاوون لايملكون غير حيلة الشجب والاستنكار المماثلة للصمت ليس إلا، وهل حقيقة أنهم صامتون أم تراهم ضمن دائرة الجريمة وهم من يتستر عليها بالصراخ إدانة أو الشجب الذي لا يغني ولا يسمن بل يفضح الغاية منه ليقارب المثل الشعبي القائل الذي في جعبته صخل يمعمع.
الخراف تبدأ بالثغو حين تكون الذئاب بالجوار ولكنها تصمت هلعا حين تقترب الذئاب منها وتلامسها. أنها فطرة الاستسلام للموت. وهي تشترك بذلك مع جميع أبناء جلدتها من حيوانات الله عدا البشر فأنهم يواجهون الموت المفاجئ بصرخة تربك القاتل ولكنها لا تردعه. ما يحدث في العراق قريب جدا من صمت الطليان واستسلامها الفطري، فبالرغم من ضجيج الاستنكار للحوادث والخروقات اليومية فأن ذلك يماثل الصمت في فعلته والجميع فرحون كون القتل والجريمة يصبح بعد لحظات معدودات فعل ماض قابل للنسيان والفخر العراقي كل الفخر يتمثل بسير الحياة واستمرارها على سجيتها وطبيعتها في ذات مكان الحدث ورجوع البسمة على وجوه الناس رغم الدم العبيط الذي سفح والخراب العام، وكل هذا الموت يشي ببطولة المواطن وليس عجزه كما يروج.
هذا المشهد يعد استعارة ناطقة لأرث ثقافة البداوة بامتياز.  هذا الاستسلام الفطري يكفي دلالة على قدرة الناس على ابتلاع الزقوم دون شعور بألم.عند شعوب أخرى مقتل  كلب له من الوجع الكثير، وفي حادثة القتل والتفجير في أوسلو عاصمة النرويج خرج الآلاف ينددون ويدينون القاتل وجميع أنواع الإرهاب،  ونظمت مسيرة في أسبانيا تعدادها ما يقارب 150 ألف من البشر طافت شوارع العاصمة بعد تفجير سيارة أدى لمقتل وجرح خمسة وعشرين شخصا فأين منا بمثل هذا الشجب. أذن صمت الطليان يطيح بأعراف وقيم التحضر والمدنية  ليكون واجبا وثقافة وطنية عند هذا الشعب المتعب والمرعوب حتى من خياله والخوف لوحده يجعله مشارك فعال في الجريمة، والشعب الخائف يصنع ويمجد قاتليه.
 
جميع الجرائم القذرة يقوم بها أنواع الوحوش الذين سيطروا وسلبوا السلطة في العراق بمباركة الاحتلال وجميعها يأتي على خلفية التوريات والخدع السياسية والتواطئ والمحاصصة . ويظهر أن قوانا السياسية تنتابها نوبة تبادل قنوع لا بل توافق ميكانيكي سادي للصمت تجاه جرائم الشركاء. فصمت الشركاء أصبح واجبا وعرفا لذا أغمضوا أعينهم وصمتوا حين يروح أبناء السفاح من شركائهم ينهبون ويحزون رقاب الناس بالجملة لتمرير لعبة سياسية أو قضم مكسب.  وكان ولازال التبرير يتداول بل بات ديدن الجميع رفع الصوت استنكارا وليس غيره. الحكومة تتسلى بعذاب العراقيين وتتشاطر في استنكار وتبرير الأعمال الإرهابية، قادة الجيش والأمن الوطني ومثلهم البرلمانيون يصمتون بفرح وشماتة وهم يتفرجون على انفلات الأمن وقرقعة السلاح اليومية وسرقة المال العام وخرق القانون والتعدي اليومي على حقوق البشر من قبل مليشيات وأشخاص بمختلف المسميات. وهذا  يجعلنا نعتقد بأن البديل الحقيقي للفاشي صدام حسين أصبح واقعا والقادم لا محالة قد وضحت معالمه وليس بالضرورة أن يكون فردا،  وسوف تكون السلطة للحواسم من الظلاميين الذي سوف يحكمون العراق بالكرباج والتفخيخ والتهديد والقتل العشوائي وكواتم الصوت وتكميم الأفواه ويمارسون قذارتهم بلغة القرون الغابرة (العصا لمن عصى ) وأعتقد أن كل من يريد الديمقراطية والحرية والحقوق المدنية سيجد أن العصا جاهزة في القادم من الزمن لقمع أحلامه.



231
طيور دجلة أغنية طافحة بالأمل

                                                                                                                              فرات المحسن


حدائق الملك مساحة كبيرة من الأرض تقع في قلب العاصمة السويدية ستوكهولم تتقاسمها  منصات للاحتفالات ومقاهي وساحات تزلج وألعاب ونافورات وتماثيل سامقة وحدائق غناء وعلى مدار العام لا تخلوا فسحة منها دون أن تقام عليها فعالية فنية أو احتفال بمناسبة. وصيف هذه الساحة يختلف عن نظيراته في باقي مناطق ستوكهولم فيكون ضاجا بالناس وبالفعاليات الفردية والجماعية التي تستعرض مواهبها وفنونها أمام هذا الزحام الصاخب والشديد الفضول. في ذلك الموقع وفوق دكة المسرح الكبير التي تستحوذ مع مقاعد الجمهور على القدر الكبير من مساحة الساحة،   قدمت فرقة طيور دجلة بقيادة المايسترو علاء مجيد يوم 18 سبتمبر / تشرين الأول مجموعة من الأغاني التراثية العراقية شدت أليها جمهور الحضور الذي شارك الفرقة في ترديد تلك الأغاني مبديا إعجابه بتلك المجموعة من النسوة اللواتي توشحن بالرداء التراثي العراقي المسمى بالهاشمي وهو حلة فضفاضة يغلب عليها اللون الأسود وتوشى بخيوط من اللون الذهبي الذي يبدو مثل ترانيم مدونه بزخارف متناسقة فوق سماء مسائية مفتوحة فتتلألأ تلك الحبات والخيوط الذهبية لتحاكي عذوبة أصوات ترتفع بحدة ثم تخفت بإيقاع دافق مثل خرير ماء يسقط من علي ليستقر في قعر هادئ مستكين يبعث الطمأنينة في الروح. مجموعة من نسوة ترصد العين دون تردد ملامح الإصرار والعزيمة في تقاسيم وجوههن المعطرة بإشعاع ابتسامات تضفي لحكايا الأغنيات نغم خاص، بين إيقاع لجواب عالي  النبرة  وقرار هادئ يصل حد الهمس تردد تلك الحناجر عذوبة مكينة بحرفية تبهر الجميع وتجعله يحرص على سماع أنشادهن وتملي ذلك المظهر المتساوق مع مضمون الأغنية ليعطي الانطباع الحسي الكامل بالقيمة الجمالية للمسة الفنية في اختيار الأزياء والأداء  واللحن.
رغم العمر القصير بحساب الزمن استطاعت فرقة طيور دجلة أن تقدم بجهود لا تنكرها العين ولا الأسماع مجموعة كبيرة من الشدو البديع لتراث الأغنية العراقية الخمسينية والستينية وكذلك السبعينية ولأشهر وأعرق المطربين العراقيين، وأقامت الفرقة حفلاتها على كبرى القاعات في العاصمة ستوكهولم مما أعطاها شهرة جلبت انتباه الجميع، وأشاد بأدائها جميع من أستمع لذلك الشدو الطافح بالعذوبة والرقة. لا ينكر المرء لا بل علينا أن نعترف بأن تلك الحناجر لسيدات لم يمارسن الغناء قط ليس كمهنة وإنما أيضا كهواية ولكن لمسات المبدع المايسترو علاء مجيد وبمهنيته وصبره جعل منهن كورال موحد تتناغم أصواته  بقدرات فائقة ومبهرة على ضبط إيقاع الأغنية وتراتيبيتها في استكانة وصعود لتبلغ الذروة في صوت واحد يفصح عن البلاغة الشعرية واللحنية للأغنية.
في خيار وانتقاء مجموعة كبيرة من الآراء التي قدمها الأشهر من الفنانين العراقيين الذين استمعوا وحضروا بروفات أو حفلات هذه الفرقة من مثل الموسيقار نصير شمه والملحن الفنان كوكب حمزة وقارئة المقام العراقي السيدة فريدة وزوجها الموسيقار محمد حسين كمر مؤسس فرقة المقام العراقي والملحن طالب القره غولي والفنان حسين نعمة وغيرهم الكثير من المعجبين بتراث الأغنية العراقية من أصحاب الذوق الرفيع الذين يحرصون على سماعها، حيث شخصت وتمحورت آراء الجميع حول قدرة تلك الفرقة وحرفيتها التي صاغها المايسترو علاء مجيد مما جعلها تبز نظيراتها في العالم العربي وبالذات في مصر وتونس وهما البلدان الشهيران والعريقان بمثل تلك الفرق الجماعية وأيضا تفوقت فرقة طيور دجلة في رأي البعض على فرق الكورال في العراق التي لم تستطع أن تقدم برغم السخاء الفني والمالي في العهود السابقة من حياة الفن العراقي ما يماثل المجموعة المدهشة لفرقة طيور دجلة بالعدد وبما قدمته لحد الآن من ألوان الغناء العراقي على الساحة السويدية.
وعلى ذات المنوال من الإعجاب استطاعت الفرقة أن تتملك قلوب وأسماع بعض من السويديين من عشاق الفن الشرقي وكذلك نالت اهتمام منظمات المجتمع المدني والفرق الموسيقية السويدية وخاصة الكنسية منها لذا دعيت لتقديم عروضها على اكبر قاعات الاحتفالات وبمشاركة فرق سويدية ومتابعة من الصحافة والتلفزيون، ونال فلم أعدته الصحفية ومعدة البرامج التلفزيونية السيدة مريانه يلغرين لصالح القناة الرسمية للتلفزيون السويدي بذات اسم الفرقة (( طيور دجلة    TIGRIS FÅGLAR)) على جائزة اجاليا وهي جائزة تقديرية تمنح للبرامج الرصينة الداعية للمساواة بين الجنسين، وكان محور الفلم  يدور حول التفاصيل اليومية في البيت والعمل والتدريبات والعروض لحياة مجموعة من عضوات الفرقة.
كل هذا العطاء الغني والثر لفرقة طيور دجلة يمكن للمرء أن يعزوه إلى جانبين حيويين جعلاها تتبوء مثل تلك المكانة وترسخ أقدامها بقوة في عالم الأغنية التراثية وأيضا في حياة الجالية العراقية العطشى للبحث عن ما ينعش ويجدد حياتها وروابطها بمسمى وطن بعدت عنه جسدا وتعلقت به روحا. الجانبان يمثلان في نوعيهما طبيعة الروح العراقية الثرة والغنية والخلاقة لو أطلقت من أسر قيود تحاول حصار وتفتيت عزيمتها وتخذلها في مسعاها من أجل الجود بمكنونات تلك النفوس التواقة للفرح والحرية والباحثة دوما عن عالم خال من الشرور والإيذاء، عالم يسوده إشراق المحبة والسلام الباعثان لقوة غنية بالكرم والسخاء والبذل والعطاء في جميع مناح الحياة. الجانب الأول وهو كبير في حيويته وبديع مذهل في ألقه يتماثل في روح تلكم النسوة حيث تجد فيهن قوة الشكيمة والعناد والإصرار الفائق الغرابة على توكيد الألفة والتوافق كمجموعة تبدو متجانسة رغم كثرتهن وتنوع ثقافتهن وحتى الاختلاف في طرق العيش والتحصيل الدراسي والثقافة الاجتماعية والمهنة، لا بل وهذا ما يحسدن عليه، قدومهن من مختلف المناطق العراقية لتتوزع أصولهن من شمال العراق حتى جنوبه والبعض منهن من جنسيات عربية جمعهن في الفرقة رغبة حشد الفرح وسط تلك المجموعة الرائعة وروح التسامح وعشق الغناء والألفة بين الناس. وما يثلج القلب ويسعده ويجعل العراقي يفخر بهذه الفرقة هو تنوع نسائها في الانتماء الطائفي والعرقي ففيهن العربية والكردية والأشورية السريانية الكلدانية والتركمانية والمسلمة والمندائية والشبكية  تذوب بينهن وبروح متسامحة تلك النزعات القبيحة من التقاسيم المفتعلة بين المذاهب والطوائف فيجتمعن على عراقيتهن السمحاء في التمارين و الحفلات بمحبة وتآلف يبدو مرتسما على وجههن ونظراتهن. الجانب الحيوي الأخر يتمثل بالمهنية والحرفية والعزيمة الكبيرة التي يتمتع بها قائد هذه الفرقة الباسلة الأستاذ علاء مجيد فخبرته الفنية التي تمتد لسنوات طوال قضاها جميعا داخل بوتقة البهجة العراقية شارك فيها منذ صباه في فعاليات موسيقية أهلته ليكون مايسترو يعتد به ويوكل له قيادة الكثير من الفرق الموسيقية وحتى الأشراف على التوزيع الموسيقي لبعضها وشاطر مجاميع كثيرة من المطربين العراقيين حفلاتهم ليكون أحد المعتمدين الأساسيين في أنجاح الأغنية العراقية وتقديمها بنموذجها البعيد عن الابتذال الموسيقي والفني، هذا الرجل بصبره الفائق وقدراته الكبيرة يقر له الجميع دون مجاملات بالمهنية العالية والحرفية التي جعلت من فرقة طيور دجلة رقما صعبا في الأغنية العراقية ليس فقط على الساحة السويدية وإنما أجزم بأن المستقبل القريب سوف يسجل لهذه الفرقة حضورا مبهرا في أوساط شعبية وفنية موسيقية وثقافية في مختلف بقاع الأرض لو قدمت لهذه الفرقة يد العون لتجتاز المصاعب المالية والتسويق التي يتطلبها الانتشار الفني في رحاب الأوساط العربية والأوربية.         

232
مهرجان أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم 2011
أيام من العمر ... نجاح ساحق وتألق دائم

أيام من العمر.. هذا ما قالته إحدى السيدات العراقيات ممن حضرن مهرجان أيام الثقافة العراقية 2011 الذي أقامه نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم أيام الـ (16، 17 و18 أيلول/سبتمبر). هذه الأيام الثلاثة أصبحت بالفعل من أيام العمر الجميل في كل عام، حيث يقيم نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي، برعاية من إتحاد الجمعيات العراقية في السويد، ودعم من مديرية الثقافة في ستوكهولم هذا الكرنفال الثقافي المتنوع، وبلغ المهرجان هذا العام عمره الخامس عشر، وأطر بثلاثة أيام الأول للفن التشكيلي والشعر والثاني للسينما العراقية والثالث للمسرح وكان للرقص التراثي والشعبي والغناء حلاوة طعمت به أيام وفقرات المهرجان .

أيام من العمر حقيقية .. لأن المرء أينما التفت يرى الناس من حوله فرحين يتبادلون التحايا ويتحدثون وأغلبهم من أبناء العراق الذي يُحتفي بثقافته وإبداع بناته وأبنائه في كلّ الفنون والآداب، من ضيوف مبدعين وجمهور الجالية والمشاركين في تنظيم هذا المهرجان الثقافي السنوي وقد قدموا من مختلف المدن السويدية ومن العراق والعديد من بلدان العالم. هذه الأيام الثلاثة استغرق النادي بلجانه الثقافية والتحضيرية وهيئته العامة شهورًا في الإعداد له وتنظيمه بحرص ودقة تامين، ليخرج بتلك الحلة الرائعة.


سبق يوم الأفتتاح حفل عشاء على شرف ضيوف المهرجان والمشاركين وفرق العمل حيث وبفرح غامر تناولوا العشاء وتبادلوا التعارف والتهاني مقدما بمظاهر الأستعداد والجاهزية للغد حيث تمت جميع الاستعدادات بصورة جيدة، وكان لحضور حفل العشاء من قبل وفد وزارة الثقافة الممثل بالسيد وكيل الوزارة الأستاذ فوزي الأتروشي ومدير عام دائرة السينما والمسرح الأستاذ شفيق المهدي كذلك حضور الأستاذ حكمت داوود الوزير المفوض في سفارة جمهورية العراق في مملكة السويد وجميع إداري الوفد ومرافقيه وأعضاء الفرقة الوطنية للفنون الشعبية وفرقة الخشابة وقع خاص ومؤثر لما حمله الضيوف القادمون من العراق من روح طيبة وألفة ومرح أضافت على الحفل جو غامر من البهجة.




في اليوم الأول وفي قاعة (هوسبي تريف) غرب ستوكهولم جرى افتتاح مهرجان أيام الثقافة العراقية بشكل رسمي، حيث قام الفنان لطيف صالح ضيف المهرجان بقص الشريط وبكلمة قصيرة رحب بالجمهور وأعلن أفتتاح المهرجان الثقافي السنوي لعام 2011، حيث استقبل الجمهور في البدأ لوحات الفنان التشكيلي المبدع د. عماد زبير محمد. وهي لوحات اعتمدت الحرف العربي والنص القرآني ثيمة مشتركة لكل الأعمال المعروضة إلى جانب ذلك عرضت لوحات ومنحوتات الفنانين التشكيليين عباس الدليمي ونبيل تومي اللذين شاركا ببعض من أعمالهما الفنية هذا العام. في الجانب الآخر لصالة العرض كان المعرض الخاص للصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسة المصور الفنان سمير مزبان الذي سجل فيها جوانب مهمة من المأساة العراقية ومن الكوارث والحرائق والقتول التي ضربت البلاد والناس خلال السنوات الماضية.


استمر القادمون في جولتهم بين أعمال الفنانين الأربعة يناقشون ويلتقطون الصور والأفلام التذكارية، فيما كان المبكرون في الحضور يتوجهون إلى مدخل قاعة الاحتفالات لمتابعة باقي فعاليات اليوم الأول. في البداية وأيذانا ببدأ المهرجان عزف النشيد الوطني العراقي رددته فرقة دار السلام وجمهور الحضور.


بعدها رحب عريف الحفل الأستاذ جاسم ولائي وهو أحد ثلاثة جرى تكليفهم بإدارة أيام المهرجان ضمن اللجنة الثقافية للنادي، بالحاضرين وبالجمهور والضيوف الكرام والدكتورة بتول الموسوي المستشارة الثقافية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في ستوكهولم والأستاذ الاعلامي علي الموسوي والاستاذ عبد الكريم الجيزاني ومثنيا على دعم وزارة الثقافة العراقية - دائرة العلاقات الثقافية العامة للمهرجان مقترحًا عليهم الوقوف دقيقة صمت إحياءً لأرواح شهداء الشعب العراقي والحركة الوطنية العراقية، طالبًا بعد ذلك من الأستاذ حكمت حسين رئيس نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي الصعود إلى المسرح لتقديم كلمة النادي، الذي رحب بدورة بالحاضرين والضيوف والمشاركين وأوضح الهدف من إقامة هذا المهرجان السنوي في ستوكهولم ومما جاء في كلمته: (الحضور الكريم ... مساء الخير .. أسمحوا لي باسم الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي وباسم اللجنتين الثقافية والفنية فيه أن أحيي حضوركم ومشاركتكم الجميلة في مهرجان أيام الثقافة العراقية لعام 2011.
على مدى السنوات الخمس عشر درج نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم على إقامة مهرجانه الثقافي السنوي ((أيام الثقافة العراقية)) ومن خلالها يحرص النادي وجمهوره على تقديم الكثير من الفعاليات النوعية التي تعطي الانطباع على أن النادي يولي الاهتمام الجدي ليس فقط بالتواصل مع أبناء الجالية ومن خلالهم مع شعبنا العراقي، بقدر ما يحمل من نوايا خالصة يحرص بها على إظهار قدرات وإبداعات أبناء العراق في المهجر وتعلقهم بوطنهم وإبراز تماسكهم وأيمانهم بعراقة وحضارة وتراث وتقاليد الخير والمعرفة التي تمثل الخزين الثر لذلك الشعب الطيب.
بمرور الزمن الطويل من عمر نادينا الممتد لأكثر من خمس وعشرين عاما قدم ومازال يحرص دائما أن يضع نصب عينييه، ترسيخ منهجية ثابتة في عمله ما يجعل النادي مبنيا دائما على أسس الديمقراطية المرتبطة بالمهمات الثقافية، الاجتماعية والسياسية مقصيا كل ما يفرق أبناء العراق ويزرع العداء والنفرة بينهم.
أن الظروف العصيبة التي يمر بها بلدنا تجعلنا أكثر وعيا بالمهمات الملقاة على عاتقنا كأبناء لذلك الوطن الجريح، لذا نعمل دوما على أن نكون جنبا إلى جنب مع أبناء شعبنا في السراء والضراء. ونفخر بما يتحقق من إنجازات ونمنح ثقتنا ودعمنا لكل ما هو ديمقراطي تقدمي يمنح الحرية والحياة الكريمة لشعبنا.
أعزائي ... ان أيام ثقافتنا العراقية هي الصرح الثقافي الأول في السويد الذي يخصص شطرا من مهماته لإحياء ثقافة العراق وألق المعرفة فيه. وفي هذا التقليد السنوي أستطاع نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي ترسيخ تقاليد ثابتة وفعالة في عرض الثقافة الغنية والجميلة لشعبنا أمام هيئات ومؤسسات سويدية شهدت وشادت بقدراتنا ومثابرتنا وحرصنا على بث روح المعرفة والسلام والمحبة. هذا الصرح الذي حرص أعضاءه منذ البداية على أن يكون مؤسسة ديمقراطية اجتماعية تتعدى ضيق الأفق الطائفي والقومي وليكون بمختلف طوائف ومذاهب وقوميات أعضاءه ومؤازريه نموذجا راسخا للتعايش والألفة والحوار العقلاني الحضاري.
لذا ندعو كنادي بمهمات ثقافية اجتماعية ديمقراطية، الى بناء لغة حوار حضاري بين شرائح وطوائف وإثنيات شعبنا العراقي في الداخل ومثل ذلك في الخارج، لنبني وطنا يصون كرامة أهله ويقدم لهم كل ما هو حضاري وعلمي وقانوني وديمقراطي. مرة أخرى أحيكم واشكر لكم حضوركم الجميل متمنين للجميع قضاء وقتاً ممتعاً مع الفعاليات المنوعة لهذه الايام الثقافية.
وشكرا .. الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي.).



افتتح اليوم الأول لأيام الثقافة بتقديم فرقة دار السلام لأغاني التراث العراقية بقيادة الفنان عباس البصري، وهي فرقة برعاية نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي ورابطة المرأة العراقية. قدمت الفرقة مجموعة من الأغاني العراقية المعروفة في أصالتها والتي تعشقها الذائقة العراقية ولها مكانة كبيرة لدي العراقيين لمؤلفين وملحنين عراقيين أسهموا في تطوير ونشر الإغنية العراقية. قدم قسم من الأغاني بصوت الفرقة كمجموعة، والقسم الآخر بأداء فردي من قبل الفنان عباس البصري والفنانة سهى. وأشار عريف الحفل إلى تزامن احتفاليات المهرجان الثقافي للنادي هذا العام مع الذكرى السنوية السادسة عشر لتأسيس اتحاد الجمعيات العراقية في السويد مقدما التهنئة إلى الاتحاد باسم النادي وأعضاؤه وأصدقائه.  فيما كان الفنان عماد زبير يتهيأ لإلقاء محاضرته حول الخط العربي وتجربته باعتماد الحرف العربي في لوحاته الفنية، بعد أن قدمه عريف الحفل الأستاذ جاسم سيف الدين الولائي لجمهور الحاضرين، وقرأ بعضًا من سيرته الفنية. في حديثه عن الخط العربي وأنواعه وخصائصه فتح الفنان عماد زبير فضاءً معرفيًا جديدًا وهو يشير إلى الخطوط الرئيسية في الكتابة العربية، بنمطيها الجاف والطيّع بمساحاتها وامتداداتها وأسلوب وقواعد خطوطها وزخرفتها وبنوع القصبة المستخدمة في عملية الخط، وطريقة صنعها وإبرائها خلال 50 دقيقة كان يتحدّث فيها إلى الحاضرين.



وكان ختام اليوم الأول من أيام الثقافة العراقية للشعر. شارك فيها الشاعران عبد الستار نور علي وعدنان الصائغ اللذان قدما قصائد رائعة جعلت الجمهور يصغي لقصائدهما مأخوذًا بفكرة كل قصيدة وبصورها الشاعرية الغزيرة.
من قصيدة للشاعر عبد الستار نورعلي:

الى شاعر عاشق

لا يزال العشق
من منهلك العذب
يساقي فيض شعرك

وفيوض الروح في سكر
وإشراق
ومن نشوة خمرك

وحبيب الروح غاف
فوق زند الحرف
قد اسلم عينيه
إلى زورق نهرك

هام مسحورا
بماء الورد والطيب
قنوتا
مستباح العشق
في بستان صدرك

مقتطفات لنصوص قصيرة في النأي والناي للشاعر عدنان الصائغ:

العراق

العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خطاه
والعراق الذي يتئد
كلما انفتحت نصف نافذة ..
قلت : آه
والعراق الذي يرتعد
كلما مر ظل
تخيلت فوهة تترصدني،
أو متاه
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغان وكحل ..
ونصف طغاة

سذاجة

كلما سقط دكتاتور
من عرش التاريخ، المرصع بدموعنا
التهبت كفاي بالتصفيق
لكني حالما أعود إلى البيت
وأضغط على زر التلفزيون
يندلق دكتاتور أخر
من أفواه الجماهير الملتهبة بالصفير والهتافات
... غارقا في الضحك
من سذاجتي
التهبت عيناي بالدموع



قدمت للدكتور عماد زبير والشاعرين عدنان الصائغ وعبد الستار نور علي وكذلك فرقة دار السلام للغناء التراثي دروع المهرجان تقديرا لمشاركتهم في أحياء مهرجان النادي الثقافي لهذا العام وقدمت شهادة تقدير للفنان عباس البصري لقيادته الناجحة وجهوده في تطوير فرقة دار السلام الانشادية ووزعت الورود على أعضاء الفرقة.


اليوم الثاني المخصص للعروض السينمائية، انتقل فيه مهرجان الثقافة العراقية في ستوكهولم إلى قاعة (شيستا تريف) في منطقة أخرى غرب ستوكهولم. أطل عريف الحفل الأستاذ فرات المحسن مرحبًا بالحاضرين جمهورًا وضيوفًا ومشاركين، شاكرا لهم حضورهم مثنيا على دعم وزارة الثقافة العراقية للمهرجان ممثلة بشخص الاستاذ وكيل الوزارة فوزي الأتروشي وكذلك دائرة السينما والمسرح ممثلة بمديرها العام السيد شفيق المهدي لتزويده النادي بمجموعة من الأفلام التي سوف يعرض بعضا منها اليوم، ثم تحدث عن أسباب تخلف السينما العراقية وقدم بعض الرؤى عن الضرورات والموجبات لتطوير تلك الصناعة لما تحمله من أهمية وحيوية في تشذيب ذائقة الناس والتأثير في سلوكهم الاجتماعي ثم عرج متحدثا عن باقة الأفلام التي خصصت لتلك الأمسية. حيث شهدت صالة العرض المسرحي والسينمائي هناك عروضًا لستة أفلام، خمسة منها أفلام تسجيلية وفيلم روائي واحد، وهي على التوالي:
•   الفيلم التسجيلي (الفترة المظلمة-العصور الوسطى).
•   الفيلم التسجيلي (مشرق الشمس) للمخرج أحمد عباس.
•   الفيلم التسجيلي (سيمفونية الحب والحرب) للمخرج هاشم أبو عراق.
•   الفيلم التسجيلي (شط العرب نبض الحياة) للمخرج فاروق القيسي.
•   الفيلم الروائي الكردي (بيكس - اليتيم) للمخرج كارزان قادر.
•   الفيلم التسجيلي (فيء) للمخرج الفنان ليث عبد الغني.

تميّزت الأفلام الست بتنوع الموضوعة التي اعتمدها كل واحد منها. فقد تحدّث عن الثقافة والتراث والتاريخ بكل فتراته، وكذلك عن الدمار الذي خلفته الحروب والأحداث في بلادنا. فيما نقل الفيلم الكردي بيكس - اليتيم،  الحائز على جائزة الاوسكار الفضية لهذا العام للافلام الروائية القصيرة، على صورًا عن الطفولة في كردستان، وآمال الطفل بيكس وشقيقه في الحياة بعد فقدانهما والديهما في حروب نظام البعث الدموية، وما يتعرضان له من معاناة وحاولا على أثرها الخروج والمغامرة للبحث عن مكان وحياة أفضل. ظل الحلم يرافقهما حتى نهاية أحداث الفيلم.

أما فيلم (فيء) فكان يتحدث عن عائلة عراقية (أم وأب وطفلة اسمها فيء) تعيش في بلدة نائية في النرويج، عارضا معاناة هذه العائلة الصغيرة في تلك البلدة الخالية من العراقيين والعرب وبالذات الطفلة فيء وعسر تأقلمها مع المجتمع الجديد ومحاولات العائلة كسر تلك الحواجز فكان الفلم يبحث في اشكالية الاندماج من خلال عرض قضية هذه الطفلة وعائلتها عبر تفاصيل يومية عن تلك المعاناة في السكن والمدرسة والغابة والشارع. بعدها قدمت الشهادات التقديرية الى  مخرجي الأفلام وسلمت الى من يوصلها لهم لعدم حضورهم المهرجان كون بعضهم في ذاخل العراق وأخرون خارج المملكة السويدية أثناء عرض أفلامهم.


 


في اليوم الثالث والأخير، عاد نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي بضيوفه ومبدعيه المشاركين هذا العام إلى صالة (هوسبي تريف). حيث كان االأستاذ محمد المنصور عريفًا للحفل، وقدم لفعاليات اليوم الثالث والأخير الذي كان مخصصًا للمسرح والغناء والموسيقى شارحا بعض الشيء عن مسيرة المسرح العراقي وكذلك عن السيرة الذاتية الثرة للفنان لطيف صالح ومسيرته الطويلة والشاقة في ذلك المضمار. في الفعالية الأولى استمع الحاضرون إلى حديث للمخرج المسرحي الفنان لطيف صالح بعنوان (إضاءات على المسرح العراقي)، كان حديثة فيه الكثير من التاريخ والذكريات الخاصة منذ نشأة المسرح العراقي الحديث حتى يومنا هذا. حدث الجمهور عن علاقة المسرح العراقي بالحركة الوطنية مؤكدا ألتزام المسرح العراقي بقضايا الناس وهمومهم كذلك تحدث بشكل موجز عن مسيرة وحياة رائدة المسرح العراقي الراحلة زينب، ووردت في حديثه أسماء وأعمال وسير العديد من الفنانين الكبار في المسرح العراقي (زينب، أديب القيلجي، عوني كرومي، سامي عبد الحميد، وداد سالم، ناهدة الرماح، يوسف العاني، جاسم العبودي، فاروق داوود، عبد الجبار عباس وغيرهم) . بعد الحديث شاهد الحاضرون فيلمًا من أخراج الفنان طارق هاشم عن تشييع الفنانة زينب الى مثواها الأخير وتداخلت مع ذلك المشهد صور وشذرات من حياة الفنانة الراحلة ومشاهد من أعمالها في السينما والمسرح. وكانت البطولة  والتعليق للفنانة الراحلة سهام حسين.

بعد حديث الفنان لطيف صالح قدم له درع المهرجان تكريما له وللمسرح العراقي. بعد ذلك تمتع الجمهور بإداء  فرقة أشور للرقص والأغاني الفلكلورية الاشورية التي قدمت بعض الرقصات الفولكلورية بمرافقة المطرب أنويا خمو أثر ذلك قدم للفرقة  تكريما درع المهرجان مع الورود.


بعد ذلك أعلن عريف الحفل عن استراحة تناول فيها الحاضرون بعض المعجنات العراقية والعصائر، فيما كان المخرج المسرحي سلام الصكر والفنانان المسرحيان نضال عبد الكريم وحيدر أبو حيدر منهمكين في تهيئة المسرح لعرض مسرحيتهم (مملكة الكريستال) التي أعدها الفنان حيدر أبو حيدر ومثل فيها مع الفنانة نضال عبد الكريم وأخرجها الفنان سلام الصكر. مملكة الكريستال هي العرض المسرحي الوحيد الذي شهدته الجالية العراقية في أيام الثقافة العراقية لهذا العام تناول جانب الموت الجماعي والمجاني الذي تعرض ويتعرض له العراقيون بكل شرائحهم ومشاربهم من خلال الاغتيالات الفردية بكواتم الصوت والقتل الجماعي بالتفجيرات الارهابية في الأسواق والمطاعم الشعبية والشوارع. تتحدّث المسرحية عن ضحيتين من ضحايا العنف في العراق قتلا في حادثتين مختلفتين وألقيت جثامينهم في مكانين مختلفين يلتقيان صدفة ويتحدثان بكوميديا سوداء عما يجري في العراق، يستعرضان حالتيهما في المكانين ويقترحان تبادل الأماكن وخلال ذلك تتنوع المشاهد الساخرة لتفضح الواقع المر والمؤلم الذي يعيشه الناس في العراق. يقول البطل الضحية الملقى في حاوية القمامة للبطلة الضحية الخارجة من ثلاجة الحفظ:
•   لقد اتخذت من كلب هادئ مستشارًا لي.
•   هل هناك أحد يتخذ كلبًا مستشارًا له؟ تسأل البطلة.
•   نعم كلبٌ مستشار أفضل من مستشار كلب! يجيب البطل.

في نهاية المسرحية التي حيا الجمهور أبطالها ومخرج المسرحية وطاقم العمل بالتصفيق وقوفا دلالة على إكبارهم للعمل وفرحهم واستحسانهم للعرض الجميل والرائع الذي قدمته فرقة ينابيع العراق المسرحية. بعد هذا منحت الفرقة درع المهرجان تقديرا لعملها المنجز وقدمت لطاقمها باقات من الزهور.


ثم جاء دور الغناء حيث قدم كل من المطرب مريوان عمر، أنويا خمو ،إيشو إيشا باقة متنوعة من الأغاني العربية والسريانية والكردية التي اطربت الجمهور ونالت استحسانه وأثر انتهاء عرضهم قدمت لهم الشهادات التقديرية والزهور.


وبحضور فاعل وحيوي كان تواجد الدكتورة بتول الموسوي المستشارة الثقافية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في ستوكهولم الأثر الطيب في نفوس الجميع فقد حرصت الدكتورة الموسوي على حضور الأيام الثلاثة لذا فقد طلبت أن تتحدث الى الجمهور فقالت عبر كلمة قصيرة، أن السعادة لتغمرها بمثل هذا العرس الجميل الذي يعني بأن العراق واحد بجميع أطيافه وأثنياته، وأثنت على التنظيم والإعداد الجيدين من قبل معدي ومنفذي هذا المهرجان متمنية أن يتكرر بمثل تلك الجهود لتزداد به أواصر المحبة بين العراقيين وتعطي الصورة الحسنة والحيوية عن ثقافة العراق. بعد ذلك قدمت الدكتورة الموسوي شهادات تقديرية ودرع المستشارية الثقافية الى كل من اتحاد الجمعيات العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم ورابطة المرأة العراقية في السويد وجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم وبدوره قام نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي بمنح الدكتورة بتول الموسوي درع المهرجان امتنانا منه لدعمها المعنوي لمهرجان ايام الثقافة العراقية وحضورها اليومي، ايضا كرم النادي الاستاذ الأعلامي علي الموسوي بدرع المهرجان الذي حضر من العراق ليشاهد ويطلع على طبيعة التحضيرات وما يقدم أثناء المهرجان. وكذلك تم تسليم درع المهرجان الى وزارة الثقافة ممثلة بالسيد وكيل الوزارة الأستاذ فوزي الأتروشي.


ووزعت شهادات التقدير والزهور على الفنانين المبدعين الأستاذ نبيل تومي والأستاذ عباس الدليمي والأستاذ المصور الصحفي سمير مزبان لمشاركتهم في عرض أعمالهم الفنية في صالة العرض الخاص بالفن التشكيلي. وكذلك قدمت الزهور وشهادات تقديرية للعازفين تحسين البصري وعمار صباح. وقد جرت سحبة يانصيب خلال اليومين الثاني والثالث للمهرجان على بطاقتي سفر الى خارج السويد مقدمة دعما للمهرجان من قبل مكتب سكاي اوفيس للسفر والسياحة في ستوكهولم. وقدم الشكر خلال المهرجان الى مكتب سكاي اوفيس لهذه المبادرة الجميلة.



بعد ذلك قدم عريف الحفل الشكر لجميع من ساهم في الإعداد والتحضير لهذا المهرجان وللقنوات الفضائية التي غطت الفعالية مشكورة وهي قناة "عشتار- نزار عسكر، العراقية - علي طالب، البغدادية - محمد عماد" متمنيا للجميع سنة جميلة وحفل سنوي قادم يجتمع فيه شمل جاليتنا العراقية على هاجس الثقافة والمعرفة وحب الوطن والتمنيات بأن يعيش شعبنا العراقي ببحبوحة من السلام والأمن والأزدهار بعيدا عن جرائم الأرهاب والقتل والأقصاء وخنق الرأي الأخر . وكان مسك ختام المهرجان إنشاد الجمهور للنشيد الوطني العراقي لتنتهي معه أيام الثقافة العراقية لعام 2011 .

أياماً من العمر، كانت الأيام الثلاثة للثقافة العراقية في ستوكهولم التي أقامها بنجاح باهر وبحضور جماهيري كثيف نادي 14 تموز لديمقراطي العراقي في ستوكهولم وللسنة الخامسة عشر على التوالي.


تقرير: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي
تصوير: سمير مزبان، بهجت هندي، عدي حازم، باسم ناجي، أحمد طه، مرتضى الخفاجي
البريد الالكتروني:idkse@yahoo.se



233
المتاحف العراقية ومختبرات الصيانة والمعالجة الآثارية

تقيـــــــــــم جمعية المــرأة العراقية في ستوكهولم
ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي محاضــــــــــرة
  للسيــدة بثينـــة عبــد الحسيــن مســـلم
 مديرةالمختبرات بالمتحف العراقي وعضو مجلس ادارة المعهد العراقي لصيانة الاثار والتراث في اربيل
والتي تتضمن محورين
*تطوير مختبرات الصيانة والمعالجة الآثارية في العراق
*استحداث متاحف ومختبرات في الاماكن المقدسة
وذلك في يوم الجمعة المصادف 26 آب الساعة السادسة مساءاَ وعلى قاعة
Kistaträff - Norgesalen
 
والدعوة عامة

234
لتبقى ذكرى ثورة 14 تموز 1958
متوقدة في ضمائر وعقول الناس







على قاعة هوسبي تريف وسط العاصمة السويدية ستوكهولم أحيى نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في يوم الجمعة الموافق 15/7/2011، الذكرى السنوية الثالثة والخمسين لثورة 14 تموز 1958 المجيدة وعيد تأسيس الجمهورية العراقية. غصت القاعة بالمحتفلين من أعضاء النادي وأصدقاءه وعوائلهم، وتبادل الجميع التهاني بهذه الذكرى العزيزة على قلوب العراقيين.

ابتدأ الحفل بنشيد موطني الذي أداه المطرب جلال جمال وشاركه الحضور في الأداء والانشاد، بعد ذلك تقدم رئيس النادي السيد حكمت حسين ليرحب ويهنئ الحضور الكريم بهذه المناسبة العزيزة، والقى كلمة بالمناسبة ومما جاء فيها: "نحتفي اليوم بالذكرى الثالثة والخمسين لثورة 14 تموز 1958 المجيدة وعيد تأسيس الجمهورية العراقية – ثورة وطنية تلاحم فيه الجيش والشعب والقوى الوطنية العراقية المتمثلة آنذاك في جبهة الاتحاد الوطني، على الفقر والاستبداد واللاعدالة، ومن اجل مصلحة شعبنا العراقي بكافة قومياته واطيافه المتآخية في حياة حرة كريمة ومجتمع مدني يسود فيه القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية. لقد كانت ثورة 14 تموز نموذجاً حياً للتغيير الحقيقي في حياة الشعب العراقي، فقد قدم قائدها وباقي رجالها المثل الافضل للنزاهة والوطنية ونكران الذات، وكانت غايات الثورة سامية حيث رفعت عن كاهل الفقراء الكثير من الاعباء. لذا تكالبت قوى الشر والغدر والمؤامرات البعثية للاطاحة بها وليقدم الحكام الذين جاءوا بعد انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي وماتلاه من حكام اسوء الصور لرجال مارسوا سرقة المال العام وقتل الناس وبيع الوطن. لذا فأن نادينا يحتفي سنوياً بهذه الثورة ليمجدها ويعرض منجزاتها ولتبقى ذكراها متوقدة في ضمائر وعقول الناس. مرة اخرى نحييكم ونقدم لكم التهنئة بهذه المناسبة متمنين لكم قضاء اوقات سعيدة وهانئة في حفلنا هذا."

 
 
 

ثم أعلن افتتاح الحفل وعندها صدحت حنجرة الفنان جلال جمال وبمرافقة الفرقة الموسيقية ليقدم مجموعة من الأغاني العذبة التي أطربت الجمهور فراح يرددها معه، كذلك قدم  الفنان عباس البصري بعضا من أغانيه الجميلة.ووسط البهجة والحبور رقص الكثير من الحاضرين على أنغام الغناء العربي والكردي. وقد استمر الحفل حتى ساعة متأخرة من الليل.


تقرير: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
تصوير: سمير مزبان وبهجت هندي

البريد الالكتروني: idkse@yahoo.se  

235
الغالبي رحيم وداعا
 
 
فرات المحسن
 
اجيتك ارد بالوحشه...مهر
كالولك نهر يمشي عكس ممشاه
جي ضيّع مصبه وما بعد يلكاه
اكول الهم :
نهر ... من يرجع بشوكه
يغمك بالعشك مجراه
بحلم  باجر يبوسك ،
يدفه باللذه...
تطيح الوحشه كلها  اوياه
 
مثلما كان يبحث بين دروب المحبة عن طير غريد أفتقده لسنين طوال، دار في مغتربه القسري بين أزقة الشطرة والناصرية متلفعا بطيبته بحثا عن مرتجى  دس ملامحه بين ضلوعه وكتمها خوفا من أوباش، وها هو يراه بعد ضنى وعذاب قطرات ندى تتساقط أمامه فيفرح بها فرح رجل وجد لعبته التي خبئها يوم كان طفلا، ولكن الفرح تسرب سريعا ليُصرع هو في لجة نار التهمت جسده وأدمت قلوبنا.
وجد أصحابه ووجد راياتهم تتسابق فتعثرت خطاه بالفرح الغامر وهو يطلق صوته مرمما ما أنهد في الروح، شحذ فرشاته بألوان قوس قزح ليطش رذاذه تحت أقدام رفاقه وأبناء وطنه.
 إن من يروم معرفة حياة رحيم الغالبي سوف يجدها رحلة سفر حفرت في صخر صلد ولكن روحه المثابرة كانت تفتت المصاعب وتهشم الصخر لذا بقي صامد طوال زمن هو الأصعب والأوجع في تاريخ العراق.
هكذا كان الغالبي يحكي لنا جروح وطن، مبعد ما يحمله جسده من طعون وجراح. أنينه من وجع الناس ويبقى هو المتوجع الأخير.
 لقد نبشت معه بعد إن وجدني في الشبكة العنكبوتية كل ماله علاقة بتلك الأيام التي كنت أجده فيها قبالتي على تخت الدراسة،  ثلاثون خلن لم أسمع منه صوتا أو أرى وجهه النحيل المكدود ولكننا وجدنا أنفسنا أخيرا وبلذة ما بعدها لذة نشطب كل تلك السنين العجاف لتكون رسائلنا مفتاح عهد أخر لأحلام متجددة. مثلما فرحي به كان غامرا كان فرحه طفوليا يحمل قدسية وعذوبة وبراءة وحسجة أهل ذي قار. سلسة ودودة مغناة كانت كلماته، حينما ينتشي تنساب روحه فيض طيبة وكلمات متقاطعة تفور وتغلي فتروح رسائلنا تتراقص مودة. السنة الماضية داعبته، زعلت عليه وهددته بالمقاطعة فما كان منه غير تهديدي بأنه سوف ينتحر كانت ثلاثة أيام من الدعابات وكأنما هي كركرة أطفال وددت بها إن أعيد جلساتنا الرائقة لأعانقه،  أطلق معه ضحكاتي ودعاباتي فأجد فيه ردة فعل دافئة صادقة عفوية. قبل شهر من هذا اليوم أرسلت له وللصديق المشترك العزيز غازي صابر صورة ضمتني ورحيم وغازي وتلامذة آخرين في حديقة كلية الآداب قسم اللغات، كان رد غازي مؤلما يحمل طعم الفجيعة ومثله جواب رحيم، صمت وكتمت ألمي بقدر ما حملته تلك الصورة من وخز لوجع بات مكنونا بين الضلوع لا يريد أن يعاف الروح.
اليوم أفقد برحيم أخا ورفيقا ووشوشة لحكايات عذبة ورجل كان قلبه مفعما بحب العراق صادق في كلماته وحبه وفيا لأصحابه طيب مفرط الطيبة.
وداعا رفيقي وزميلي أبا غيث، أذكر خطاك جوار خطاي على عشب الحدائق، أسمع صوتك وهو يعلو منشدا يستدعي بريق وألق شذا البساتين لتحتفل بعيد حزبنا والمستقبل المشرق للوطن، ضحكاتك الطرية وهي تتضمخ برذاذ الطلع حين أمسية بليلة جلسناها عند حافة النهر في أبي نؤاس، جيوبنا خاوية وصدورنا عامرة بالحب وأصوات أغانينا ترتطم بوجه الشط فترتد نشوة وطراوة .
وداعا يا من كانت عودته ومضة عين فلم أكمل بعد حكاياتي معه. وداعا ولتكن استراحتك عند بدعة الخير وتحت ظل جسورك الطينية. أذهب نحو طراوة الغراف وخرير ماء البدعة، تلحف بهما فكلماتك رسمت فيهما ما لا يمحى.
 

236
حوارية عن الواقع الراهن للطفولة في العراق





على مدى ساعتين ونصف جرت على قاعة نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في العاصمة السويدية ستوكهولم حوارية حول الواقع الراهن للطفولة في العراق، قدم للحوارية الأستاذ فرات المحسن حيث أشار إلى تأثير الوضع البيئي الاقتصادي والاجتماعي التي يترعرع فيها الطفل على مكونه النفسي ووضعه الصحي النفسي والجسدي. وإن الطفل هو بنيان الأوطان والاهتمام به يعني الاهتمام بمستقبل البلد، والطفل هو مخزون لثقافة الشعب بعمومها وفيه ومن خلاله ترسخ وتعاد القيم. ثم أشار إلى واقع الطفولة العراقية في جميع المراحل التي مرت منذ تأسيس الدولة العراقية ولحد اليوم، وكيف عملت التنشئة الخاطئة والأساليب العقيمة والمتخلفة في المجتمع وعند العائلة أو في المدارس على نشأة طفل معطوب نفسيا.
بعدها أعطي الحديث للدكتور كاظم المقدادي وهو الشخصية المعروفة، عمل لفترات طويلة في اختصاصه طب الأطفال واليوم مثابر على مراقبة وتدوين ما يتعرض له الشعب العراقي وخاصة الأطفال للكثير من الإجحاف والظلم والأمراض والعاهات، وقدم عدة بحوث في مجال تأثير اليورانيوم المنضب الذي استخدمته قوات الاحتلال حين دخولها العراق على الوضع البيئي والصحي للشعب العراقي، كذلك يجهد في مراقبة وتقديم البحوث حول ما تعرضت له الطفولة سابقا وحاليا بعد مضي الثمانية أعوام على الإطاحة بحكم الدكتاتور صدام حسين.
أستعرض الدكتور المقدادي نموذج العلاقة بين العراق ووثائق الأمم المتحدة المتعلقة بضمان حقوق الطفل حيث أشار إلى توقيع العراق لتلك العهود والاتفاقيات كذلك ما سن في الدستور العراقي الجديد من تشريعات تضمن للطفل والأسرة الحياة الكريمة والبيئة الجيدة، ولكن في حقيقة الأمر فأن كل تلك التشريعات الدستورية ومثلها المواثيق الدولية لا وجود لها على أرض الواقع وإن مجريات الأحداث وممارسات السلطة الحالية ومنذ سقوط سلطة البعث الفاشي، تشير إلى إهمال متعمد لكل ما يحسن واقع الأسرة والطفولة بحيث تسجل وقائع غريبة ومخجلة لا بل مفزعة تدين طبيعة تعامل هذه السلطة وأساليبها مع تلك الوقائع المأساوية.

    

قدم الدكتور كاظم المقدادي عرضا لمجموعة صور قسمت حسب البيئة الفعلية التي يترعرع فيها الطفل
مبتدءا بالبيئة المحيطة عارضا صور المستنقعات الأسنة والنفايات وأجواء الأسرة المخربة والمتعوبة حيث تعدم الكهرباء مع شح الماء وتردي الخدمات العامة وضيق مساحة البيوت كذلك أظهرت الصور الواقع المأساوي للتعليم حيث المدارس المتهاوية أو الطينية والصرائف التي تضج بالأعداد الكبيرة من التلاميذ. ثم عرض صور عن الأمراض المنتشرة بين الأطفال لسوء الواقع الخدمي المتردي والتلوث البيئي جراء وجود السموم والأشعة القاتلة التي تغطي مساحة كبيرة من أجواء وأرض العراق. وأشار الدكتور كاظم المقدادي في سياق حديثه وأثناء عرض الصور إلى وجود 7 ملايين أرملة ويتيم وحسب الإحصائيات الرسمية ومن بين هؤلاء 5 ملايين طفل، وشكل الاحتلال وجرائمه وأيضا الإرهاب والصراع الطائفي الغبي والخبيث العوامل الحاسمة في زيادة أعداد هؤلاء وانتشار العديد من الظواهر القبيحة والمسيئة للمجتمع بين أوساطهم. فعدا حالات الاختلال النفسي الذي يصاب به الأطفال جراء يتمهم أو مناظر القتل التي تقع أمام أنظارهم، فأن خمس من المنظمات الدولية حذرت من ارتفاع نسب الجرائم الموجهة ضد الأطفال أو زجهم بأعمال جنائية متنوعة، وهناك أيضا حالات التسرب من الدراسة والتشرد في الشوارع وتشكيل بؤر لمجاميع من الأطفال يمارسون مهنة البحث في القمامة وتناول المخدرات. ومع انتشار مخلفات وآلات الحروب المحطمة والملوثة باليورانيوم المنضب في الكثير من مناطق العراق نجدها قد أصبحت ملاذا للهو واللعب للكثير من الأطفال دون أدراك حقيقة حملها للإشعاع القاتل. وهناك مئات الأطفال يموتون قبل بلوغ سن الخامسة وكذلك تموت الكثير من النسوة أثناء الولادة ولكن أغلب تلك الحوادث لا وجود لها في سجلات الإحصاء الرسمي لوزارة الصحة العراقية. ويوجد ما يقارب 640 ألف عراقي مصاب بمختلف أنواع السرطانات حسب الإحصائيات الرسمية ثلثي هؤلاء هم من الأطفال ومع هذا فإن السلطة خصصت مبلغا زهيدا قدره خمسة ملايين دولارا لمعالجة الأمراض السرطانية رغم إن الموضوعة تحتاج إلى مبالغ ضخمة بدءا من تحسين ظروف البيئة والصحة العامة إلى رفع مستويات العلاج وطرقه. وخلص الدكتور المقدادي إلى القول إن حالات حروب الطاغية ومن ثم الحروب الطائفية والنزاعات المناطقية والتهجير ومخلفات الحروب من الألغام وانعدام الخدمات مع إهمال السلطة في اتخاذ الخطوات المناسبة والجادة كل ذلك  شكل عوامل حاسمة ومؤثرة في حياة الفرد العراقي وبالذات الطفل منه.
 وبعد استراحة قصيرة بدأت حوارية جادة بين الحضور حول توصيف طبيعة المشكلة والحلول المرجوة لها فتطرق البعض إلى ضرورة طرح السؤال، ما العمل ؟؟ وهو المهم في مثل هذه الحالة مع توصيف واقع الحال في العراق، وخلال المداخلات تم ربط الوضع السياسي بواقع الحال المأساوي الذي يمر به العراق وأكد أغلب المتداخلين على ضرورة فضح ما يجري من انتهاكات ليس فقط فيما تتعرض له الطفولة ولكن في مجمل الأوضاع والتأكيد على أرث الأفكار غير السوية التي ورثها بعض القادة في السلطة الحالية من النظام السابق. وأشير في سياق الحوار إلى ثورات الشعوب العربية وضرورة الاقتداء بها للضغط على الحكومة العراقية لتغييرها أو أصلاحها، وأقترح البعض تعزيز العلاقة مع المنظمات والأحزاب السويدية لعرض مأساة الطفولة العراقية وقدم أثناء الحوار مقترح لمظاهرة جماهيرية في العاصمة السويدية تحمل الصور التي تم عرضها لأجل إدانة السلطات العراقية التي تنوعت لديها أساليب سرقة المال العام والارتشاء وتقاسم المراكز السلطوية، مع إصرارها على عدم تقديم ما ينفع ويعالج الأوضاع المتردية. وأتهم المتحاورون أحزاب السلطة وسياساتها الطائفية التي أثرت على تربية الأطفال وباتت ملمحا ونوع من أنواع التخندق والعسكرة في مواجهة مخالفي الرأي مما صعد في حالات الاحتقان في الشارع العراقي. وأشار البعض إلى تعدد الانتماءات وتناقضاتها  مع طغيان الوعي المزيف مما يجعل الموضوعة تتشعب وتلف بضلالها وسعتها العديد من المظاهر المجتمعية المؤذية ورغم كل هذا الواقع المؤلم والقاسي فإن فترة ألثمان سنوات تبدوا فترة قصيرة لاختبار السلطة والنوايا. وقد اعترض الكثير من المتحاورين على هذه النقطة  وأشار بعضهم بأن الوضع يشير إلى ارتكاس وارتداد في الخدمات وفي مختلف مناح الحياة الأخرى عن سابقتها مع نشوء عصابات حزبية وفئوية باتت تدير العملية السياسية والاقتصادية لا بل حتى الاجتماعية في العراق وتدفع به نحو الهاوية مما جعل صورة عالم الطفولة تبدو للناظر أكثر رعبا من السابق ومثلها واقع الحياة العراقية بكل ما يحمله من غرائبية .


 تقرير: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم

البريد الالكتروني: idkse@yahoo.se


237


                              فخامة السيد رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني المحترم
                               دولة السيد رئيس الوزراء نوري المالكي المحترم
                               دولة السيد رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي المحترم
   بواسطة سعادة سفير جمهورية العراق في مملكة السويد المحترم

نحن ممثلي التيار الديمقراطي العراقي في مملكة السويد، نعرب لكم عن قلقنا الشديد لخبر قيام قوات الأمن باعتقال أربعة من نشطاء الحركة الشبابية المكافحة ضد الفساد والمحاصصة الطائفية والإرهاب، أثناء مشاركتهم في مظاهرة سلمية مرخص لها من قبل السلطات وحسب القوانين المرعية، واختفاء أثارهم، مما يشكل خرقاً جديداً للقانون ولما يضمنه الدستور من حقوق للمواطنين، ويبعث على السخط والغضب، وينذر بعودة الوطن تحت سطوة استبداد، طالما تعبد طريق الخلاص منه بدماء الأف الشهداء وتضحيات كبيرة من أبنائه.
إننا في الوقت الذي نطالبكم فيه بإطلاق سراح المناضلين المعتقلين:
1.   مؤيد فيصل الطيب
2.   علي عبد الخالق الجاف
3.   أحمد علاء البغدادي
4.   جهاد خليل   
وضمان عودتهم إلى عوائلهم سالمين، ووقف كل الإجراءات القانونية بحقهم، وتعويضهم على ما لحق بهم من أذى نفسي جراء الإهانات التي تعرضوا لها، نحّمل الحكومة العراقية وكل أجهزتها المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن سلامة وأمن هؤلاء المعتقلين.
ويبقى الأمل نابضاً فينا، رغم كل ما يجري من عسف وقمع واضطهاد، بأن تتراجع الحكومة عن هذا النهج، وتلتزم بكل تعهداتها في احترام الدستور وضمان تمتع الإنسان العراقي بحقوقه الآدمية التي طالما انتهكت على أيدي الأنظمة المقبورة، التي يفترض أن تشاطرونا الرأي بالتبرؤ منها ومن ممارساتها المشينة.
وبانتظار استجابتكم لندائنا هذا، والذي يشاركنا فيه كل محبي العراق والمدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، نرجو قبول خالص التقدير.
الموقعون
لجنة التنسيق لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم ـ السويد
لجنة التنسيق لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي في جنوب السويد – مالمو 
اللجنة التحضيرية لتنسيق نشاط التيار الديمقراطي في غوتنبرغ ـ السويد


ستوكهولم في 30 أيار 2011 




238
أمسية استذكارية بمناسبة الذكرى المئوية
للعالم العراقي المندائي عبد الجبار عبد الله




برعاية اتحاد الجمعيات العراقية في السويد وضمن مجالات التعاون والتنسيق المشترك بين الجمعيات الاتحادية في عموم السويد أقام نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في مدينة ستوكهولم أمسية استذكارية بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد العالم العراقي الراحل عبد الجبار عبد الله. بدأت الأمسية بحضور جمهور كبير من أبناء الجالية العراقية رحب بهم وبالضيوف المشاركين في الفعالية سكرتير النادي الأستاذ حكمت حسين شاكرا حضورهم الأمسية الاستذكارية مشيدا بمنهجية وعلم وقدرات الراحل.

 بعدها قدم الأستاذ فرات المحسن كلمة النادي بهذه المناسبة قائلا: اليوم ونحن نجتمع لنحيي مناسبة مرور 100 عام على ولادة العلامة العراقي عبد الجبار عبد الله الذي يعتبر أحد أبرز الشخصيات العراقية من النخب العلمية التي أنجبها العراق في تأريخه المعاصر، واحتفاؤنا اليوم هو تمجيد لكل العراق ورجاله العظام من العلماء والباحثين والأكاديميين والأدباء والفنانين ولجميع من ساهم في رفع شأن العراق وأراد لشعبه الحياة الحرة الكريمة. من واجبنا بل من واجب أبناء الشعب العراقي ومؤسسات الدولة العراقية أن تحيي وتحتفي بذكرى هؤلاء العظام. وعلى المؤسسات العلمية والثقافية ليس فقط الاحتفاء بذكراهم وإنما توثيق وطبع ونشر أثارهم ونصوصهم البحثية والعلمية والأدبية لتتعرف عليها الأجيال التي لم تعاصرهم. ولتعرف مدى الإجحاف الذي أصابهم على يد حثالات الناس ومنهم مرتزقة حزب البعث المقبور الذين عمل الكثير منهم على طمس كل ما يتعلق بهؤلاء العظام كمحاولة لاستلاب الذاكرة العراقية وتجهيل المواطن.
لقد كان الراحل باحثا علميا من الطراز الأول في مجالات متعددة منها الفيزياء وديناميكية حركة الكتل الهوائية وكان أيضا أحد أهم المثقفين المتنورين الشغوفين بالتراث والأدب العربي والفلسفة وأيضا تدريسيا من الطراز الأول حين عمل مدرسا في سلك التعليم كأستاذ لمادة الرياضيات واللغة الإنكليزية. وكان هذا الرجل مضربا للمثل العليا في علمه وعمله وسلوكه وأخلاقه بما يوازي مكانة القديسين. والراحل المندائي لم يكن طائفيا في معتقده الديني رغم كونه أبن المؤسسة الدينية المندائية، بل كان عراقي الانتماء ووطنيا فوق كل المسميات قدم للعراق وبسخاء ما استطاع من علم وخبره وجاد بروحه من أجل رفع اسمه عاليا رغم عدم الوفاء الذي قوبل به من قبل مرتزقة حزب البعث الفاشي المقبور وأشباههم. بعد ذلك قدم الأستاذ فرات المحسن الشكر للشاعر المبدع فالح حسون الدراجي لتلبيته دعوة النادي والمشاركة في أحياء هذه الأمسية، وشكر أيضا الأخ خيون التميمي من الاتحاد الديمقراطي العراقي في أمريكا لحضوره ومشاركتنا أمسيتنا هذه.
 


بعد ذلك قدم الأستاذ جاسم ولائي مداخلته بهذه المناسبة والمعنونة محنة العلماء تحت سطوة الدكتاتورية والفاشية، ومما جاء فيها: الشعوب المتحضرة تحتاج إلى أنظمة حكم متحضرة. هذه هي خلاصة القول حين نتحدّث في أيّ شأن من شؤوننا أو أيّ رمز من رموزنا في شتى المجالات الأدبية منها أو العلمية أو غيرها من شؤون الحياة. إن الحديث سيدفعنا إلى مفارقات شاذة وغريبة تضطرنا قسرًا إلى مقارنات طويلة نخجل من إيرادها. وفي حال الحديث عن شخصية علمية واجتماعية مرموقة كعالمنا الجليل الراحل د. عبد الجبار عبد الله، لابد لنا أن نشير إلى العديد من المفارقات، يتجرأ فيها الجاهل على العالم ويتسلط فيها الشقي على الشريف، ومن هذه المفارقات الشاذة أن تعتقل زمرة فاشلة من قطاع الطرق والأشقياء عالمًا جليلاً مثل عبد الجبار عبد الله وتقيده بالأغلال وتعتقله وتسومه عذابًا لا يستحقه حتى اللصوص والقتلة.
في الذكرى المئوية لولادة عالم الفيزياء د. عبد الجبار عبد الله لعائلة مندائية أصيلة وشريفة في بلدة قلعة صالح التابعة لمحافظة ميسان نملك الكثير لنقوله ونكتب عنه وعن حياته القصيرة نسبيًا، الزاخرة علمًا وعطاء، التي امتدت ثمانية وخمسين عامًا، منذ أن سار بثيابه البسيطة وربما الرثة في تلك الشوارع الترابية حتى عاد إلى بلده واحدًا من أبرز عشرة علماء مرموقين في العالم، وعن دراسته في قلعة صالح والعمارة وبغداد وبيروت والولايات المتحدة. وعن تفوقه وبحوثه وشهادات التقدير التي نالها، ولنا أن نتحدث عن فترة رئاسته القصيرة والمهمة لجامعة بغداد التي كانت ميزة وشرفًا لثورة 14 تموز وزعيمها عبد الكريم قاسم قبل أن تكون ميزة لصاحبها. ويمكننا الحديث أيضًا عن حياته الأسرية وأقاربه، عن طلابه وزملائه، أصدقائه وجيرانه الذين يشهدون على تواضعه الذي بلغ من الرفعة ليصبح تاريخًا ومثلا للآخرين.                                                                                                                     
لكن كل ذلك يعرفه الكثيرون وقاله وكتب عنه الكثير من الأوفياء، ويبدو في تكراره ترفًا قياسًا بما ناله هذا الرجل من معاناة تسببت في مرضه بعد فترة قصيرة من اعتقاله والذي انتهت به حياته. كذلك نكتشف ونحن نخوض في سيرة د. عبد الجبار عبد الله، أن هذه السيرة هي جزء حيوي من سيرة البعثيين الذين حكموا العراق في أحلك فتراته وأشدها عنفًا ودموية باعتبار الراحل واحدًا من ضحاياهم الكثيرين.
ولو افترضنا حسبة بسيطة في استثمار تلك القدرة العلمية والتربوية لدى الدكتور عبد الجبار عبد الله، الذي كان تربويًا فذًّا ومحبًا للأدب وحافظًا له وقارئًا متميزًا لكتب الأدب والفلسفة والتاريخ، ومتحدثًا فيها، إضافة إلى كونه عالمًا فيزيائيًا متخصصًا بالأرصاد الجوية. ما الذي كنا سنكسبه من مشاريعه التي اقترحها بعد ثورة 14 تموز عام 1958، تلك المشاريع المتعلقة بتطوير دور الجامعة في المجتمع وبناء الأجيال الجديدة، وتنمية القدرات الذاتية لتحقيق التقدم الاجتماعي. ما الذي كنا سنكسبه من تنفيذ مقترحه بتشكيل المجلس الأعلى للبحوث العلمية والتقنية، وإصراره على امتلاك العراق لمصادر الطاقة الذرية المستخدمة للأغراض السلمية، وما الذي كان سيتحقق لو تم ذلك بصورة طبيعية وفي وقت مبكر؟ ما لم تهدر تلك الطاقة العلمية عند بوادرها الأولى على تلك الصورة المخجلة.
في حياته إذن، لم يدوّن د. عبد الجبار عبد الله بتفوقه وعلمه وتواضعه فقط جزءًا من السيرة الناصعة لشخصية مرموقة من شخصيات العراق ورمزًا من رموزه الكبار، وهي سيرة مضيئة للعراق أيضًا، بل دوّن وفضح أيضًا تفاصيل من السيرة المخجلة لمجرمين تسلطوا على العراق في فترات معينة أوغلوا في دمائه وأهانوه وعصبوا عينيه. وكتب الراحل بعذابه وسجنه ومعاناته جزءًا مهمًا من تاريخهم الأسود.             

 بعدها قدم الدكتور عقيل الناصري مداخلته بهذه المناسبة وكانت بعنوان هو والزعيم أي العالم الجليل الراحل عبد الجبار عبد الله والراحل الشهيد عبد الكريم قاسم. أستهل الدكتور مداخلته في تعقب بعض المراحل من تاريخ العراق السياسي وحراك المجتمع وعلاقة الراحل بتلك التجمعات والشخصيات السياسية التي مثلت النخب المثقفة التنويرية والقوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في كل ذلك المشهد وما تمخض عنه من صيرورات لاحقة، تأسيساً على ذلك، بين إن في تاريخ العراق المعاصر هنالك شخصيات فكرية وسياسية، قد أثرت في مجرى التطور الاجتماعي وفي تحديث التاريخ العام للمجتمع المرتبط بالتغيير المادي والمعنوي. إن الكتابة عن هذه الشخصيات وتحليل مضامين أدوارها بروح نقدية يستكمل ذاته المعرفية من خلال الربط الجدلي. لقد مارست هذه الشخصيات أدوار متباينة، من حيث درجة المساهمة في إحداث وتهيأت تربة التغيير الغائي، كل حسب ممكنه التاريخي من جهة وحسب عمق التأثير من جهة ثانية والمنطلق الفلسفي لمفهوم التغيير من جهة ثالثة. وهكذا سنجد الراحل أحد هذه الشخصيات التي لعبت دورا بارزاً حسب الممكن التاريخي لموقعها، في إعداد تربة التغيير أو في المساهمة في فعل التغيير. ومن هذا المنطلق، يمكننا تفسير بروز علماء ومثقفين انطلقوا من واقع التخلف ليحلقوا في سماء المعرفة والتغيير، لا بل أن بعضهم أمسوا من (المثقفين العضويين)، اخذوا بعلمهم ونشاطهم، الفكري والعملي، يساهمون في صيرورة التغيير ذاتها.. رغم الظروف القاسية التي أحاطت بهم. علماً بأن أغلبهم عاش في المرحلة الملكية ودرس فيها، إلا أن أدوارهم الرئيسية قد تبلورت بعد ثورة 14 تموز. لقد ترعرع العالم الراحل عبد الجبار عبد الله في مثل هذه الأجواء العامة وذلك الحراك الاجتماسياسي الذي ساد المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة المركزية. كان العالم الراحل من المساهمين في هذا الحراك العام باعتباره من صفوة العاملين في الحقل المعرفي. هذه القيم المعيارية التي تحلى بها وأعماله المتعددة أهلته أن يجتاز حدود الوطن إلى أهم المؤسسات العلمية في العالم الغربي آنذاك، سواءً من خلال المشاركة في المؤتمرات العلمية أو من خلال العروض التي عرضت عليه العديد من المناصب في دول عديدة. ثم قال:
 قبيل الدخول في قراءة أوجه التشابه بينه والزعيم، لابد من القول: إن الشخصيات الفذة لا تظهر في أي مجتمع كان بصورة اعتباطية، بل بحكم الضرورة التاريخية. إذ أينما ومتى ما تظهر إليها حاجة المجتمع والتاريخ. وعليه فظهور الزعماء مرهون بالضرورة التاريخية، وليس هذا حسب، بل بقدرة هذه الشخصية على فهم ومعرفة هذه الضرورات التاريخية. وهذا ينطبق على كلا الزعيمين الأول في ميدانه العلمي والثاني في إدارته للصراع والبناء الاجتماعيين.
ومن خلال الوقوف على السيرة الحياتية لكليهما، نجد أن هناك تشابها في ظروف وفلسفة حياتهما :
- كان كل منهم ذو نزعة بنائية ذات بُعد إنساني كما كان كلاهما يستهدف الإصلاح؛
- من كونهم متحرران من الالتزام بالتقاليد البالية والتفسيرات المتخلفة للظواهر الاجتماعية والطبيعية؛
-  ينطلقان من الهوية العراقية إلى بعدها الأرحب الإنساني وينتميان اليها وليس للولاءات الصغيرة من رابطة الدم (العائلية أو العشائرية أو القبلية) أو الدين أو الطائفة، إذ مثل العراق الهاجس المركزي لهم؛
- خضعا لتأثيرات بيئية اجتماعية وسياسية متقاربة من حيث توجهاتها الفكرية واتجاهها العام؛
- كانا يكرهان العنف لذات العنف كغاندي، في سلوكهم وممارستهم للحياة؛
- تأثرا بالحركة السياسية الوطنية العامة وخاصةً الحزب الوطني الديمقراطي دون انتماء؛
- يريان في الحرية ضرورة اجتماعية بالغة الأهمية، لذا كرها التعصب بكل أشكاله. كما تحليا بالشجاعة في طرح الآراء ولا يساومان على جواهر الظواهر الوطنية العامة.
- أنصبت آراءهم على ضرورة النظر إلى المستقبل باعتبار لا يكتب لأي عمل النجاح إذا لم تكن فيه حصة للأجيال المقبلة.
- لعب كل منهم في ممكن مجاله ، الدور الحيوي الوسيط بين القوى الاجتماعية لقاسم، والصراع الحزبي في الجامعة لعبد الجبار عبد الله.
- كونهم من الأشخاص العضويين، إذ كلاهما هيأ لتربة التغيير.
- لقد تجلى هذا النجاح بالنسبة لهما بعد التغيير الجذري في 14 تموز، وما لعبته من دور لدى شرائح واسعة من الفئات الاجتماعية في الريف والمدينة، ومن فئات الطبقة الوسطى.
وتطرق الدكتور الناصري إلى الحياة المهنية العلمية للعالم العراقي الراحل وبعض من علاقاته وسيرته الشخصية في الحياة اليومية والوظيفة. ثم ختم حديثة بالإشارة إلى واقعة مهمة تحدد الأسباب الحقيقية لرفضه العودة إلى العراق عام 1968 أي فترة القدوم الثاني لحزب البعث إلى السلطة قائلا: إن عبد الجبار عبد الله كان معروفا بنباهته ورؤيته العلميتين وبصيرته الشفافة لذا أدرك وقرر إن  لا يعود لوطنه وهو مازال يحتفظ على جسده وفي أعماق ذاكرته وروحه جراح معتقلاتهم وآثار تعذيبهم.. كما هي رسالة تنبيه من العالم الخالد عبد الجبار عبد الله للعلماء الآخرين.. بأن لا يقتربوا من خدمة سلطة غاشمة تعتبر الحرب ضد الرموز والكفاءات العلمية واحدة من أبرز مهماتها الكبرى.. وأثبت التأريخ الدموي لهذه السلطة.. صحة ودقة فرضية العالم الراحل عبد الجبار عبد الله كما أثبت التأريخ فروض وصحة نظرياته العلمية الفيزيائية.

   

في النصف الأخيرة من الحفل وبعد استراحة قصيرة ارتقى الشاعر الكبير فالح حسون الدراجي المسرح وألقى مجموعة من قصائده المتميزة التي لاقت ترحيبًا وإعجابًا من الحاضرين. وقد خصّ العلامة د. عبد الجبار عبد الله بالقصيدة الأولى وهي قصيدة أجمع الحاضرون أنها من بين أروع القصائد التي ألقيت في السويد منذ سنوات طويلة. بعدها قدم الشاعر الدراجي قصائد متنوعة أخرى قوبلت بفرح وإعجاب من قبل الحاضرين. وجاء في أحداها:
انه وياك وصفنتي واخر الليل
انتحاسب عالسهر والهم والاذنوب
ومثل اخر جكاره بأخر الليل
نفس .. نفسين روحي وبيدك اتذوب
احشمن عليك باخر الليل
من يبجي الشمس لوطاح الاغروب
افزز من عليك بوحشت الليل
اذا من غير فــزه .. الكون مرعوب
اشو عنتر زماني يصير ياليل
عليا والشديد ايصير شيــــبوب
يركضني الزمان بمركض الخيل
وبعد ما طيح يســـأل خــو مامتعوب
أذا غالب .. يردني بأاخر الخــــيل
واذا مغلوب شحجي وانه مغلوب
يجويني الزمان ابماشت الليل
ويناشدني ابصلافه اتوب .. ماتوب
انه اسويت حته انتوب ياليل
غير املك .. ملاحه وطبع مرغوب
جاراتي خواتي وحامي الادخيل
وماوسخت نفسي وشلت مذبوب
وهذني اجفوف اديا اشهود ياليل
ما جسمن جسم غالب لمغلوب
حلاتك بالرجل جاكوج ياليل
ولا يكضي العمر سندان مضروب
انه العود الرقيق البلهوى يميل
واذا اسمع قصيده ارويحتي اذوب
انه السان العفيف منكع بهيل
وانه الطيره التنام بفي الحبوب
انه البيت الاطبه جامع يصير
لان اصل الوفاء بكصتي مكتوب
ثكل همي القصايد يهدم الحيل
وعساهه بقلق شاعر حاسد يلوب
اذا ذنب السهر معذور ياليل
لان بس الدجاج ينام الغروب

وفي ختام الأمسية تم شكر الجميع وتكريم المشاركين بباقات من الزهور من قبل النادي، على أمل اللقاء في فعاليات قادمة. 

اعداد: اللجنة الثقافية  في نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي
تصوير: بهجت هندي

idkse@yahoo.se

239
المنبر الحر / ويكيلكيس عراقي
« في: 17:17 20/04/2011  »
ويكيلكيس  عراقي


                                                                                                              فرات المحسن
بات لموقع ويكيلكيس الذي يديره الاسترالي جوليان آسانج وقع خاص على أسماع البشر في جميع أنحاء المعمورة وأصبحت وثائقه الفضائحية تترقبها مختلف وسائل الإعلام لتنال سبق عرضها على الناس. وتلك الوثائق بنسختها الأخيرة اعتبرت أنموذجا لاستعراض أنواع العلاقات السياسية ورغبات الكثير من القادة لنوع الحدث الذي يحيط بمناطقهم. وأظهرت الوثائق عمق الهوة بين المعلن والمستور وكبر النفاق السياسي والرياء الذي  يتمتع به الكثير من قادة العالم وسياسيه.
لم يكن العراق المحور الأكثر ظهورا وحيوية في الوثائق الأخيرة، ومع ظهورها تنفس الكثير من السياسيين العراقيين الصعداء فلم تأتي الوثائق بجديد مما يدين أو يطرح علامات الشك على أدائهم وعلاقاتهم. وفي ظني، حتى لو أراد السيد جوليان آسانج تقديم فصل خاص عن ساسة العراق فلن يأتي بشيء مخالف لما يعرفه الشارع العراقي. فالعراقي خبر جيدا حراك وأفعال جميع من يشترك في العمل السياسي سابقا وحاليا ويملك من المعلومة حتى أكثر من تلك النتف المبتورة التي قدمتها وثائق الإدارة الأمريكية وعرضها وفضحها موقع ويكيلكيس.
في السياسة العراقية هناك أكوام من المعلومات والوثائق الصادقة والمزورة والكاذبة وحتى المازحة التي يسترسل صاحبها ويصرخ وكأنه في حمام سوق يسمع صدى صوته بتلذذ دون أن يواجه تحد أو توجه له تهمة القذف فالجميع يعرف مكامن ضعف ورخاوة الجميع دون استثناء، والجميع يحملون من الآثام والخطايا ما يجعل بعضهم يستطيع أن يعرض الأخر على الناس صلوخ ربي ما خلقتني، ولكن وهنا تسكن العبرات، فالراعي الكبير يعرف جيدا دروب لعبة الحية والدرج والختيبله التي يمارسها جميع من اقتسم كعكة السلطة ووافق على قسمته ونصيبه بمقدار ما درت عليه من عوائد وفوائد، والراعي الكبير يستطيع أن يلقم الجميع بما يملأ الفم بالكثير من الأشياء القذرة.
 الجميع يمارس الابتزاز ويعرض بضاعته إن كانت فاسدة أو صحيحة وينتظر ردود الفعل ومقدار ما يكسبه من أرباح توضع في جعبته وخرج جماعته. وظهر إن هناك في السياسة العراقية اليوم تصاعد لوتيرة تكوين مافيات مختصة بالترويج والدعاية والطعون وكذلك الردود، وهذا المشهد غير الصحي وضع العراقيين ومعهم جميع شعوب العالم في حيرة والتباس كبيرين في حالة إن أرادوا البحث عن حقائق الأمور وعن التفريق بين الصادق من الكاذب من بين قادة السلطة العراقية.
انتخب البرلمان العراقي السيد بهاء الاعرجي رئيسا للجنة النزاهة البرلمانية وهو أحد الشخصيات الثلاث المشاكسة في البرلمان مع السيدين النائب المستقل صباح الساعدي وخالد شواني رئيس اللجنة القانونية. وفي أول تعيينه رئيسا للجنة النزاهة راح السيد بهاء الأعرجي يلمح ويعلن في وسائل الإعلام عن وجود الآلاف من الوثائق التي تثبت وتدين الكثير من المسؤولين وتتهمهم بالتزوير والارتشاء وسرقة المال العام، وفي أخر تصريح له أعلن في مؤتمر صحفي عقده في مبنى مجلس النواب إن ( لجنة النزاهة النيابية أنهت دراسة  9003  مستند ووثيقة تخص ثلاثة ملفات مارس القائمون عليها الفساد الإداري والمالي، وأضاف أن «الملف الأول يخص أجهزة الكشف عن المتفجرات التي أحيلت فيه بعض الشخصيات إلى القضاء لكن ترك كبار الشخصيات المتورطة، لافتا إلى إن اللجنة أوصت هيئة النزاهة بالتحقيق مع الشخصيات الواردة في العقد المبرم مع شركة توريد هذه الأجهزة.
و بشهية مفتوحة مارس الكثير من البرلمانين أو منتسبي أحزاب السلطة ما يشبه تصريحات السيد بهاء الأعرجي. ففي يوم مضى قال عضو كتلة الحل وهي جزء من القائمة العراقية، السيد كامل الدليمي الذي تمتلك كتلته 12مقعدا في مجلس النواب العراقي لوكالة كردستان للأنباء(آكانيوز)، إن "تقاسم المناصب الوزارية والسيادية بين قادة القائمة العراقية جرى بصفقة مالية كبيرة"، مبينا أن "من فرض عملية تقاسم المناصب لقادة القائمة هو تاجر عراقي مقيم في الأردن". وحين أطلق السيد الدليمي تصريحه ذاك فهو حتما كان في حالة انتعاش وتوافق نفسي كون التاجر العراقي تصدق عليه وأبقاه رجلا يمارس العمل السياسي وعضوا في البرلمان وجزءا من قائمة يديرها ذلك التاجر من خارج الحدود. بعد هذا التصريح لم نسمع للسيد الدليمي صوتا مسموعا ونجده في الأخير يصمت صمت الحملان، ندما أو طمعا بما منح له من مكاسب مادية وفي الاحتمال الأكثر واقعية،صك أسنانه وعض على لسانه جراء رعب وفزع واجهه،لذا أعتبر تصريحه مزحة أو دعابة وإن وسائل الإعلام المغرضة شوهته أو أنه لم يكن يقصد القائمة العراقية بكامل رفاقها. 
وسبق تأليف الوزارة الأعجوبة التي استقرت قيادتها لصالح السيد المالكي وصديقه الحميم جدا حسب الخيار الأمريكي صالح المطلك، سبق كل ذلك مفاجأة من النوع الثقيل ظهرت في المشهد السياسي هي انشقاق السيد سلام الزوبعي عن قائمته العراقية وإعلانه وبضجيج إعلامي صارخ نيته فضح بعض ممارسات قادة القائمة العراقية وارتباطاتهم بالأجندات الخارجية. في تلك اللحظات شد السيد الزوبعي له أسماع وأنظار الناس بما جعلهم ينسون ما يقوم به موقع ويكيلكيس الدولي واتجهت الأنظار نحو موقع ويكيلكيس سلام الزوبعي المحلي.
السيد سلام زكم علي فضلي الزوبعي مواليد 1959 هو أحد قادة جبهة التوافق وأمين عام حزب مؤتمر أهل العراق وسبق أن عين نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الأمنية والخدمات وقدم استقالته من المركز الوظيفي بعد تعرضه لتهديدات عديدة من عشيرته ومحاولة اغتيال كادت تودي بحياته.
في مفاجأة غير مسبوقة في الشارع السياسي العراقي أعلن السيد سلام الزوبعي عن دعوته إلى اجتماع عاجل للقائمة العراقية وخلال 72 ساعة لبحث أمور تتعلق بطبيعة مسارها السياسي، مهددا بان خلاف ذلك سوف يقوم بكشف الكثير من الأسرار داخل القائمة العراقية وعن ما وصفه بخيانة بعض قادتها للوطن والشعب وقال بأنه سوف يطالب بإحالة هؤلاء للقضاء. ثم حدد بعد ذلك فترة عدة أيام تعقب عدم استجابة القائمة العراقية لطلبه حينها سيقدم وثائق ومستندات تكشف المستور. مضت الفترة الزمنية التي حددها بطلبه دون أن تظهر أية بوادر لقبول مقترحه، لا بل جوبه بهجمة شرسة أعلن فيها قادة القائمة عدم صلة الزوبعي بمكون القائمة العراقية واتهم بأنه شخص يبحث عن الشهرة والمنصب، وأدار جميع أعضاء القائمة ظهورهم للزوبعي مهملين تصريحاته وتهديداته. بعد ذلك عقد السيد سلام الزوبعي مؤتمره الموعود ليعرض وثائقه. حشد الفضول الصحفي كان غير مسبوق، فالقاعة ضجت بالكثير من الصحفيين المنتظرين على أحر من الجمر الإعلان عن فضائح وخيانات قادة القائمة العراقية بما عرف عن موقع السيد الزوبعي المتمثل بمسؤوليته الأمنية في مجلس الوزراء سابقا وكونه يسكن في منطقة غالبيتها تناصب العداء للحكومات التي شكلت بعد سقوط حزب البعث. ولكن ظهور السيد سلام الزوبعي وتصريحه أحبط الهمم وشتت الفضول وخيب الظنون.
ربما أصاب الزوبعي بعض الخجل من أن يعلن للحشد بأن موقع ويكيليكس الخاص به والذي حوته وثائقه قد تعرض للقرصنة من قبل الراعي الأكبر للعملية السياسية في العراق ولم يجد ما يكفي من الوثائق لعرضها في مؤتمره الصحفي فقدم عموميات لا يجهلها حتى أصحاب عربات الحمل في أسواق العراق العشوائية، قائلا أن شخصيات في القائمة العراقية تسعى لجر العراق إلى منزلق طائفي، وتريد أيضا جر البلد إلى حرب خارجية جديدة مع إيران وحرب أهلية بين العرب والكرد، وإن كل ما جرى ويجري في العراق لم يكن محض صدفة وأن هذه الأعمال يجري التخطيط لها وبدعم دول الجوار وهناك بعض البعثيين عملاء للأجنبي ويتحالفون مع الشيطان من أجل العودة إلى السلطة.
أذن هذا كل ما حوته جعبة السيد سلام الزوبعي وموقعه الويكليكسي وكأنه حين قدمها أكتشف إن الشتاء دائما يعقب الخريف. وبعد هذا الاكتشاف والوثائق الخطيرة التي يظن إن غيره يجهلها ؟؟!!، صمت السيد الزوبعي وسكتت عنه أصوات أصحابه من القائمة العراقية وبات موقعه الويكليسي في خبر كان، وذهب السيد سلام ليخفي معلوماته عن الشعب العراقي وكانت تضحية كبيرة منه، ومثله فعل الدليمي حين أخفى أسم التاجر العراقي القاطن في الأردن.
في وثائق الوكيليكس العراقي هناك نهايات حتمية يعرفها الشارع العراقي. فبعد كل ذلك الضجيج الإعلامي والصراخ، نجد أصحاب التصاريح الثقيلة والمشاكسة وقد أغلقوا أفواههم صمتا للملمة فضائح سوف تطالهم وشركائهم أو يأتي السكوت رعبا من الراعي الكبير أو حفاظا على الحياة حين يأتيهم تهديد علني ووعد قريب بلاصقة أو كاتم صوت. وتصريح السيد بهاء لا يختلف عن ما أعلنه ويعلنه شركاؤه في العملية السياسية وأصحابه من أعضاء البرلمان الذين درجوا على كشف فضائح من النوع الثقيل دون إن تكون هناك نتائج ذات وزن أو طعم أو رائحة.   
 ونحن ومعنا الشعب العراقي ننتظر وبشيء من الصبر القانوني ما سوف يفصح عنه السيد بهاء الأعرجي ولجنته النزاهية البرلمانية حول تلك 9003 وثيقة ومستند، ونتسائل هل تكون لديه خيارات أخلاقية تجعله يخرج عن مظلة المحاصصة وسياسات الرعب، وعن ما اعتدنا عليه من تصريحات وكليكيسية أتحفنا ويتحفنا بها ساستنا الذين تهدلت ألسنهم من كثرة ما تناولوه من حلاوة السلطة والسحت الحرام.
وفي حالة صمته نسأله: ما الذي تطلق من تسمية على عملك هذا ؟؟؟

240
مظاهرة جماهيرية في العاصمة السويدية ستوكهولم

لبى المئات من أبناء الجالية العراقية في ستوكهولم نداء لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي وحضروا إلى ساحة سركل توري وسط العاصمة السويدية معلنين وقوف أبناء الجالية العراقية من الديمقراطيين الوطنين مع مطالب أبناء شعبنا بالإصلاح وبناء الدولة المدنية الديمقراطية وإطلاق الحريات. ورفع المتظاهرون شعارات المظاهرة :
1 ـ لا للقمع والإرهاب بجميع ألوانه ومسمياته.
2 ـ نعم للدولة المدنية الديمقراطية.
3 ـ لا لعودة أساليب البعث الفاشي.
4 ـ لا للفساد الإداري والمالي.
5 ـ لا ديمقراطية دون عدالة اجتماعية.
6 ـ لا ديمقراطية دون حريات مدنية.
7 ـ لا للاحتلال .
8 ـ نعم للمساواة بين الرجل والمرأة.


 قدم الفنان المبدع جلال جمال مجموعة من الأغاني الوطنية أبتدئها بنشيد موطني الذي رددته معه حشود الجماهير وتفاعلت مع الأناشيد الأخرى بحماس، وقدمت الكلمات المناسبة باللغتين العربية والسويدية مؤكدة على أهمية تلك المظاهرات إن كانت في داخل الوطن أو خارجه وقد بينت لجنة التنسيق في كلمتها على إن الجانب المهم في مثل هذه التظاهرات هو التضامن مع أبناء شعبنا وقواه الديمقراطية الخيرة وكذلك أسماع صوت الشعب العراقي للمنظمات والهيئات والأحزاب السويدية والدولية للوقوف مع الشعب العراقي لأجل تصحيح المسار السياسي. ومما جاء في كلمة اللجنة:

استفاق الشعب العراقي على صرخات الحرية والديمقراطية والحياة المدنية لذا ذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب من يمثله. وبعد مضي أكثر من ثمان سنوات على سقوط سلطة الفاشية البعثية، بدت المشاريع والخدمات والحريات المدنية التي وعدت بها بعض الأحزاب والشخصيات السياسية أبناء شعبنا وكأنها خدعة أريد منها كسب الأصوات والوقت لترسيخ أساليب ذات طابع بوليسي شمولي يعيد صورة الفاشية الصدامية لذاكرة العراقيين. إن قيام السلطات الحاكمة في العراق باستخدام الطرق البوليسية والكيدية للتعامل مع احتجاجات المواطنين التي خرجت بسبب سوء الخدمات ونهب المال العام والفساد الإداري وفرض المحاصصة، يمثل طبيعة واضحة لسلطة غير راغبة بسماع الرأي الأخر وترفض رفضا قاطعا أي نوع من أنواع الديمقراطية وتحجب بالقوة الحريات المدنية مع اختفاء كامل للضمانات الدستورية عن ارض الواقع في العراق.

            


 وقرأت في المظاهرة برقية تضامن ومؤازرة من مجلس السلم السويدي حيوا فيها المتظاهرين وأعلنوا دعمهم لمطالبيهم ومما جاء في البرقية: نحن في مجلس السلم السويدي نؤيد الشعب العراقي في النضال من أجل الديمقراطية والحريات المدنية والمجتمع الإنساني ونعتقد إن المجتمع الضامن للحريات يقلل بشكل كبير من خطر النزعات الدموية والحلول العسكرية ويعمل على حل الخلافات بالطرق السلمية.
كما وردت للمظاهرة برقية من حزب اليسار السويدي في مدينة ساندفيكن تؤكد دعمهم القوي لنضال شعبنا العراقي من اجل الحريات والسلام. وألقت الأستاذة عبير السهلاني عضو البرلمان السويدي عن حزب الوسط كلمة في الحشد أشادت بالمتظاهرين ووجودهم التضامني مع أبناء شعبهم وضرورة التفاعل مع المؤسسات السويدية للوقوف بوجه جميع الأعمال الساعية لخنق الحريات وسلب حقوق الإنسان وكرامته في العراق.


                                             
وحيت اللجنة المنظمة باسم الجماهير ثورات الشعوب العربية البطلة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا ثم ألقى الدكتور محمد الحسوني قصيدة بعنوان ندم، تفاعل معها الجمهور وردد مع الشاعر كلمة ندم التي عنى فيها الشاعر ندم الشعب على خياره غير الموفق في الانتخابات الأخيرة. واستمرت الجماهير تردد الأناشيد الوطنية والهوسات والمطالب الأساسية لأبناء شعبنا واختتمت التظاهرة بكلمة اللجنة المنظمة حيث أشادت فيها بروح التضامن والتأكيد على ضرورة استمرار المظاهرات المؤيدة لمطالب أبناء شعبنا وعلى أهمية نقل صوت الشعب العراقي إلى الهيئات والمؤسسات السويدية والدولية وتوضيح الصورة لها عما يعانيه الشعب من إيذاء وإهدار للكرامة والحقوق الإنسانية جراء التضييق على الحريات وتقاسم السلطة ونهب المال العام وسوء الخدمات واستشراء الفساد الإداري والإرهاب. غطت المظاهرة الجماهيرية مشكورة وأجرت عدة لقاءات مع مجموعة كبيرة من المتظاهرين، قنوات فضائية عراقية عديدة هي قناة الرشيد وبلادي والشرقية والبغدادية كذلك الإذاعة السويدية القسم العربي و راديو الحرة.


لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم






241
مظاهرة جماهيرية في العاصمة السويدية ستوكهولم

استفاق الشعب العراقي على صرخات الحرية والديمقراطية والحياة المدنية لذا ذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب من يمثله. وبعد مضي أكثر من ثمان سنوات على سقوط سلطة الفاشية البعثية، بدت المشاريع والخدمات والحريات المدنية التي وعدت بها بعض الأحزاب والشخصيات السياسية أبناء شعبنا وكأنها خدعة أريد منها كسب الأصوات والوقت لترسيخ أساليب ذات طابع بوليسي شمولي يعيد صورة الفاشية الصدامية لذاكرة العراقيين.
إن قيام السلطات الحاكمة في العراق باستخدام الطرق البوليسية والكيدية للتعامل مع احتجاجات المواطنين التي خرجت بسبب سوء الخدمات ونهب المال العام والفساد الإداري، يمثل طبيعة واضحة لسلطة غير راغبة بسماع الرأي الأخر وترفض رفضا قاطعا أي نوع من أنواع الديمقراطية وتحجب بالقوة الغاشمة الحريات المدنية مع اختفاء كامل للضمانات الدستورية عن ارض الواقع في العراق، وشكلت السلطة بنموذج مشوه سمي بالمحاصصة التي على صورتها توافقت الأحزاب الحاكمة لتقاسم مصادر المال والقوى.
لذا وتضامنا مع شعبنا العراقي ومن أجل الديمقراطية والحريات المدنية وحماية أبناء شعبنا فأننا في لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم ندعو أبناء جاليتنا العراقية قوى وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات من دعاة الديمقراطية والحريات المدنية إلى مظاهرة جماهيرية يوم الأحد الموافق 10 / 04 / 2011 في العاصمة ستوكهولم في ساحة سركيل توري من الساعة الثانية حتى الرابعة عصرا.
 
 
شعارات المظاهرة:
 
1 ـ لا للقمع والإرهاب بجميع ألوانه ومسمياته.
2 ـ نعم للدولة المدنية الديمقراطية.
3 ـ لا لعودة أساليب البعث الفاشي.
4 ـ لا للفساد الإداري والمالي.
5 ـ لا ديمقراطية دون عدالة اجتماعية.
6 ـ لا ديمقراطية دون حريات مدنية.
7 ـ الحريات المدنية أولا.
8 ـ نعم للمساواة بين الرجل والمرأة.
9 ـ لا لسلطة المليشيات.
 

242
دعوة لاجتماع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم

لمناقشة المستجدات على الساحة العراقية ومن أجل سبر الآراء حول البرنامج والرؤية المنهجية للجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم ومناقشة نوعية البرامج المقترحة حول عمل التيار واستكمالا لتشكيلة لجنة التنسيق.
تدعو اللجنة عموم قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم لحضور اجتماعها الذي يعقد يوم الجمعة الموافق 18 / 03 / 2011 الساعة السادسة والنصف على  قاعة نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي الواقعة في منطقة ألفك
 
بالنظر لتبليغ سابق لبعض الأطراف عن موعد يوم 20 / 03 فاللجنة تعتذر عن هذا وتعلن تقديم الموعد إلى يوم 18 / 03 / 2011
 
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم


243

شجب واستنكار


في ظروف بالغة التعقيد يمر بها العراق، تسجل لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم الكثير من الملاحظات على مجمل الوقائع الجارية اليوم، واللجنة في مراقبتها لتلك الوقائع والأحداث تنبه إلى التدهور الحاصل في موقف السلطات العراقية من الحريات المدنية. فالملاحظ إن الأحزاب الحاكمة قد تخلت عن الكثير من وعودها التي قدمتها إلى الشعب قبيل الانتخابات الأخيرة، لا بل نلاحظ وبحالات عديدة خرق تلك المؤسسات للنصوص الدستورية التي توافقت عليها، وباتت الضمانات الدستورية غير موجودة على أرض الواقع.
قبل وبعد اندلاع التظاهرات السلمية المطالبة بالخدمات وإصلاح النظام، اتخذت السلطات سلسلة إجراءات تعسفية في مسعى غير حكيم لمنع التظاهر فعملت على قطع الشوارع ومنع الناس من الاقتراب من مواقع المظاهرات، وبحملة مكثفة منعت وسائل الإعلام من التغطية الخبرية للتظاهرات، ولم تكتفي بذلك بل راحت تهدد المتظاهرين وتعتقل البعض منهم وتعرض الكثير منهم إلى الضرب والإهانة من قبل قوى الشرطة الاتحادية، ثم توجت فعلها الغير ديمقراطي والتعسفي والبعيد عن السياقات القانونية حين قدمت السلطات إنذارا بالإخلاء لمقرات حزبين مشاركين في العملية السياسية. فخلال بضعة ساعات قدم الإنذار بالإخلاء مع مهلة  أسبوع من تأريخ الكتاب الصادر عن مكتب السيد رئيس الوزراء، لمقر الحزب الشيوعي العراقي ومكتب جريدته الرسمية طريق الشعب، وكذلك وجه ذات الإنذار إلى حزب الأمة.
نحن في لجنة تنسيق التيار الديمقراطي في ستوكهولم نلاحظ ووفق المنظور القانوني وسياق العمل السياسي إن ما قامت به السلطة العراقية تجاه هذين الحزبين يمثل عملية انتقام سياسي لمشاركة أعضائهم في المظاهرات السلمية، لذا نحن نشجب وندين جميع الإجراءات التعسفية التي تقوم بها السلطة الحاكمة في العراق ضد المتظاهرين وكذلك بالضد من الأحزاب الداعية للديمقراطية والحياة المدنية. ونطالبها بإيقاف إجراءاتها التعسفية وندعوها العودة إلى نصوص الدستور التي ضمنت حرية التظاهر، وإن تعيد حساباتها بواقعية وحكمة لأبعاد العراق وشعبه عن الوقوع تحت سطوة سلطة جديدة تعيد تركيبة السلطة الشمولية الدكتاتورية، في ذات الوقت فإن أفعال الأحزاب الحاكمة تدفعنا لدعوة قوى وشخصيات شعبنا من أصحاب المصلحة الحقيقية بالديمقراطية والحريات المدنية للتوافق ورص الصفوف في تكتل فاعل وحقيقي يقف بوجه تلك القوى الساعية لجر العراق مرة أخرى نحو الخراب والهاوية. ونناشد القوى المحبة للسلام والخير والحرية في جميع العالم للوقوف مع شعبنا العراقي ومساندته وتقديم العون له لنيل حقوقه واستقلاله الناجز وبناء دولته الديمقراطية المدنية الكافلة للحريات والحياة الكريمة.

لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم 

244
لغز اختفاء موسى الصدر يكشفه عبد الحسين شعبان


فرات المحسن
لغز اختفاء موسى الصدر ومنصور الكيخيا، كان هذا عنوان مقال نشر يوم 9 / 3 / 2011 في الحوار المتمدن للسيد عبد الحسين شعبان. لم أفاجأ بمحتوى المقال لما أعرفه ويعرفه غيري عن السيد عبد الحسين شعبان، ولكن الذي أدهشني قدرته الفائقة واستعداده الفطري للانقلاب على الأمور حتى الموثقة منها بما يعادل 360 درجة دون تأنيب ضمير، كذلك قدرته على فبركة الجمل وحشوها بهذر غريب عجيب لربط الموضوعة بحقوق الإنسان والممارسات المجحفة والمجرمة التي تتعرض لها على يد الطغاة والقتلة والمجرمين من الحكام.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=249816

عباراته الحزينة لتوصيف شخصية السيد موسى الصدر ومثلها عن السيد الكيخيا تشعر المرء بوجود رابط إنساني حميم بين عبد الحسين شعبان الحقوقي وعضو المنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان، وبين تلكم الشخصيتين. لا بأس فله كامل الحق أن يرثي مصيرهم التعس ولكن الغريب في مقاله يأتي من توصيفه لقاتلهما العقيد القذافي ويأتي هذا التوصيف بعد بضعة أشهر لا غير من ضيافة المخبول معمر القذافي لعبد الحسين وزملائه. يقول عبد الحسين ((اختفى الإمام موسى الصدر بعد زيارة رسمية له إلى طرابلس أراد منها أن يدير حواراً فكرياً واعداً وبعقل منفتح مع العقيد معمّر القذافي، لكن الأخير لم يحتمل ذلك، فقرر تحويله إلى جثة .واختفى الكيخيا الذي اختار الحوار والمعارضة بديلاً عن التعاون مع القوى الخارجية، على الرغم من حذره وارتياباته، معتقداً وهذا ما تحدثنا به قبل أيام من اختفائه أن غطاء حقوق الإنسان يمكن أن يحمينا من أنظمة عاتية أو قد يخفف بعض شراستها ودمويتها، ولعله كان مقتنعاً بأن النظام الليبي قد لا يغامر بارتكاب حماقة تصفيته طالما هو رجل سلام وداعية لحقوق الإنسان، لاسيما وقد التقى أحمد بن بيلا في جنيف الذي نقل له وآخرين رسالة من القذافي نفسه، ولربما صاحب هذا الاعتقاد السيد موسى الصدر الذي ظن أنه سيكون ضيفاً رفيع المستوى على الحكومة الليبية.))
ثم ينتقل شعبان وبجزم وقناعة ليقول عن القذافي ((لم يدر بخلد رجل الدين موسى الصدر أو الدبلوماسي منصور الكيخيا أي قدر غاشم سيحلّ بهما أو أي مكروه سينتظرهما؟ لم يعرفا أنهما تعرّضا للخديعة إلى هذه الدرجة، على الرغم من أن مضيّفهما "خصم مدجج بالغرور والاستهتار" إلى حد الشتيمة ))
هكذا كان القذافي عند عبد الحسين شعبان في قضيتين مهمتين وإنسانيتين لم يحتمل القذافي الحوار فيهما وقتل ضيوفه بعد إن وعدهم بالحوار وسهل أمر مجيئهم إلى ليبيا. ولم يقف السيد شعبان عند ذلك الحد وإنما زاد في وصف العقيد الطاغية بأنه كان عند استضافته للصدر والكيخيا خصم مدجج بالغرور والاستهتار إلى حد الشتيمة والضيوف لم تشفع لهم ضيافتهم عند نظام مثل نظام القذافي ليحميهما أو هما يخففان بعض شراسة القذافي ودمويته.
الحقيقة شعرت بالغثيان وأنا أقرأ الخلطة الغريبة التي دبجها الحقوقي والمدافع العنيد عن حقوق الإنسان، فالسيد شعبان وقبل ثورة الشعب الليبي المستمرة اليوم، ذهب لزيارة العقيد القذافي ومعه جوقة من حثالة صدام ومرتزقته يتقدمهم عضو لجان التحقيق في قصر النهاية صلاح عمر العلي وخير الدين حسيب. دخلوا عرين الضبع أو خيمة الدكتاتور القاتل الشرس والدموي ووقفوا أمامه وهو ينظر لهم باستعلاء وراحوا يقدمون له الهدايا ممجدين قيادته الحكيمة وروحه الثورية وعظمته وشموخه ولم يكن عبد الحسين شعبان استثناء من كل هذا الرهط حيث تقدم ليقترب من العقيد المدجج بالغرور والاستهتار حد الشتيمة ليقدم له سلطة المعرفة مثلما قال ومعها فروض الطاعة والولاء والتعظيم والتبجيل للقائد باسم المنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان مؤكدا للقائد الضرورة بأنه وصحبه من الحضور يمثلون المقاومة العراقية الرافضة للاحتلال والعاملة على الإطاحة بالعملية السياسية الجارية في العراق.
شيء من الخجل لا يتطلب غير عشر مثقال ليكون المرء صادقا مع نفسه ومع الأخرين ونحن اليوم في عصر التقنيات، والشبكة العنكبوتية تفضح الكثير وتجعل الناس تتقيأ من تلك الأكاذيب الرخيصة. وإن كنا نعري ونفضح مساوئ وقذارة الكثير من رجالات الحكم في عراق اليوم فنحن أيضا نكشف ونفزع ونعري لا بل تتساوى عندنا تلك الشخصيات مع مثيلاتها من أدعياء المعارضة والمرتزقة ومتصيدي الفرص وحتى عملاء صدام وزبانيته وسط معارضة الأمس.
وليجعل من نفسه أحد ضحايا اضطهاد الطغاة ويضعها في خانة السيدين الصدر والكيخيا يقول شعبان ((على الرغم من حذر الكيخيا وارتياباته، معتقداً وهذا ما تحدثنا به قبل أيام من اختفائه أن غطاء حقوق الإنسان يمكن أن يحمينا (؟؟؟ ) من أنظمة عاتية أو قد يخفف بعض شراستها ودمويتها))
 الأمر لا يحتاج من عبد الحسن شعبان كل تلك الفذلكات والجمل المنمقة والحزينة عن حقوق الإنسان ومنظماتها وما تواجهه من صدود ونكران لا بل قتل وتصفيات على أيدي الطغاة من أمثال العقيد القذافي وقبله صدام حسين،  فمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الحقيقية ومعها قضية الدفاع عن حقوق العراقيين يعرف الناس الأسوياء أية جهة عليهم اختيارها للحوار معها وعرض قضايا الإنسانية وشعبهم عليها. ومن المستحيل إن يكون طاغية من مثل العقيد القذافي المدجج بالخديعة والغرور والاستهتار والشتام المخبول مثلما يقول عبد الحسين هو من يتبنى تلك الحقوق.
أعتقد إن مقالة السيد  شعبان توحي بالكثير من عدم الوفاء والخيانة ونكران الجميل، قبل إن تفصح عن تلك الانتهازية الفجة والمخجلة. فاستضافة العقيد المجنون معمر القذافي لعبد الحسين شعبان وصحبه ما زالت طرية ولم يمض عليها غير بضعة اشهر ولحد الآن لم يختفي بعد الفلم الذي يعرض نوع فروض الطاعة التي قدمها الوفد العراقي للعقيد المجرم معمر القذافي وكيف كانت وقفتهم الذليلة مثل التلاميذ بين يدي المجنون المدجج بالخديعة والغرور والاستهتار. والمفترض بعبد الحسين أن يتذكر بأنه خرج من ليبيا سالما ولم يتم تحويله إلى جثة من قبل الأخ القائد مثلما فعل بالسيد موسى الصدر. وكان المتوقع  من شعبان وبأقل تقدير انتظار نهاية مضيفه العقيد القذافي الذي ينازع اليوم ليقوم بعد ذلك بضربه بما يرغب رغم حرمة ضرب الميت، وكان عليه أيضا احترام الضيافة والهبات التي قدمها له ولرهطه ذلك الطاغية. ومن أعراف الإنسانية والتحضر إن لا يتنكر للكرم والطعام والنوم والنزهات والهبات التي وفرتها لهم حاشية معمر القذافي. وقبل كل شيء على شعبان  إعادة مشهد الوقفة التي استعرض فيها نضال المقاومة العراقية وعمل منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان العربية وموقفها الإيجابي والمتضامن مع حكم العقيد المخبول والسفاح معمر. وموقف عبد الحسين شعبان هذا يعيد تكرار ذات المشهد الذي فعله العقيد القذافي مع ضيوفه السيد الصدر والكيخيا، وهو استعارة أخلاقية وثقافية لذات الطبيعة والطباع المتقلبة والرخيصة والغير سوية على الإطلاق التي يستعيرها البعض من قتلة شعوبهم ويروح يتبجح بها.
لا أستغرب ما يصدر عن السيد شعبان فمواقفه السابقة واضحة وضوح الشمس واليوم باتت أكثر وضوحا وإفصاحا عن طبيعة تلك النفس وهذا الضمير العجيب الذي يجعلني أرثيه وأتأسف لما انحدر أليه. في ذات الوقت أوجه طعوني للمنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان التي ضمت السيد شعبان ليكون واحدا من أبرز شخصياتها وأدعوها لمراجعة سياساتها وقيمها الأخلاقية قبل المعرفية والكف عن الاستهتار بحقوق الإنسان العربي، فالبشر في العالم العربي يستحقون العون والمناصرة ضد جلاديهم وليس المتاجرة بأوجاعهم وأوضاعهم المزرية وفي الوقت ذاته مد اليد للطغاة وتقديم المديح والإطراء والتبجيل واستلام الهبات والعطايا منهم. ثم من بعد ذلك القفز والانقلاب على الطاغية بعد الشعور باندحاره وانحداره نحو مزبلة التأريخ.  قليل من الخجل يحفظ بعض ماء الوجه رغم سواده.



رابط الفلم الذي يجمع السيد شعبان ومجموعته بالمجنون خصم حقوق الإنسان المدجج بالغرور والاستهتار" إلى حد الشتيمة  حسب قول شعبان. والسيد شعبان يهدي الطاغية سلطة المعرفة؟؟

http://www.babnews.com/vg/viewa.aspx?Id=619

يرجى نقل الرابط  للبحث في الانترنت لكي تشاهدوا الفيديو



أيضا أقدم للمنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان ما يشفع لها للدفاع عن حق الإنسان العربي.
www.akhbaar.org/wesima_articles/index-20110309-106253.html
 


245

فتوى سياسية لغلق مقر الحزب الشيوعي

                                                                                                                  فرات المحسن
سبق لي أن نبهت  كون السلطة الدينية في العراق تتجه لتكرار التجربة الخمينية في إيران حين تعاملت مع الحزب الشيوعي الإيراني ( تودة ) وأبيح في وقتها دم أعضاء ذلك الحزب. المعروف بل اليقين إن ما يصدع رأس قادة بناة الدولة الدينية ويقض مضاجعهم، وجود حزب شيوعي  داخل الخريطة الجغرافية لمشروعهم، ولن يساوموا على هذا مهما تغير الزمن وتلونت الأفكار فأدمغتهم حشرت في بركة راكدة رسخ فيها درس الرأسمالية الأول الذي لا مناص من تعلمه  وهو الطريق الوحيد المفضي لمعرفة الرب الواحد الأحد. الحزب الشيوعي هو العدو اللدود والشيوعية كفر وإلحاد.
قرار سلطة المالكي بإخلاء مقر الحزب الشيوعي وموقع جريدته بقوة الأمر الوزاري كان متوافقا مع منهجه في إدارة الدولة ، وقد ظهر جليا دون توريات وتقية وفذلكات سعي المالكي الجاد لتنقية المجتمع العراقي عبر فلتر خاص يحمل مواصفات  السير المدروس والحثيث نحو دكتاتورية السلطة الدينية. القرار رغم اقتصاره اليوم على الحزب الشيوعي وحزب الأمة،  فأني أرى فيه بداية لشوط أكثر سعة وانتشارا، وهو في حقيقة أمره جرس إنذار لباقي الأحزاب غير الدينية للتهيؤ لذات المواجهات. الهجمة تبدأ صغيرة ولكنها سوف تكبر وتتسع مثل  دوائر الماء حين يقذف وسطه حجر. لقد خلع المالكي والمجموعة المحيطة به من قادة حزب الدعوة خلال فترة حكمهم الثانية التي لم تتجاوز الأشهر المعدودة، قطع كبيرة من ثيابهم وظهرت إثر ذلك الكثير من العورات. بدأت بالهجوم على الثقافة وإشاعة التجهيل وتصفية الخصوم ولن تنتهي بغير اجتثاث مخالفي الرأي جميعا.
كنت أتوقع حدوث شيء من هذا القبيل فالمثل العراقي يقول " البيه ما يخليه " وبدواخل المالكي الكثير مما يخبئه ويضمره من عداء نحو إي مسمى ديمقراطي أو حريات مدنية. إن أيدلوجية هذا الرجل وأفكاره تستمد قيمها من نزعة دينية طائفية عدوانية لا يمكن لها أن تكون صنوا للديمقراطية، وبوصلته في حراكه وفعله اليومي تؤشر دائما لمنهجية واحدة تحاول بمثابرة تكييف السلطة  وحرفها نحو بناء دولة دينية ترفض قطعا التوائم مع حريات الآخرين وتضع في حساباتها إخضاعهم بمختلف الطرق.     
وها هو المرعوب من حراك الجماهير يعلن فتواه ويعطي أوامره بغلق مقر الحزب الشيوعي ومكتب جريدته الرسمية طريق الشعب وأيضا مقر حزب الأمة انتقاما من تضامنهم ومشاركتهم في المظاهرات التي تطالب بحقوق الناس والإصلاح، أيضا يأتي تنفيذا لأيدلوجيته ونظرته للعلاقة بالفكر العلماني والحريات المدنية.
 فلو نظرنا لبيانه المرقم 183 في 5/ 3 / 2011 لوجدناه فتوى دينية سياسية دون ريب، فخلال ساعات لا بل دقائق أصدر المالكي فتواه السياسية لتسارع أجهزته وأذرعه الضاربة لتنفيذ الفتوى ومداهمة مقر الحزب ومكتب الجريدة ومقر حزب الأمة. أعقبت فتواه تلك حركة سريعة لكتب رسمية مستعجلة ومتعاقبة صدرت عن تلك الأجهزة وكأن تلك الجهات على عجل من أمرها لتنفيذ خطة مبيته وسريعة لمداهمة وكر أو قلعة لانقلابيين أو أعضاء بمنظمة القاعدة، وليس لحزب يناضل من أجل إنجاح التجربة السياسية وشريك في نضال المعارضة ضد الطاغية صدام حسين وقدم من أجل الوطن تضحيات جسام وخيرة من رجاله وكان دائما منافحا ومدافعا عن الحريات المدنية ورافضا لكل ما يسيء للوطن والمواطن ووقف بجدية وإخلاص متناه مع مصالح الجماهير.
فتوى المالكي كانت مثل صاروخ بالستي سريع صدرت في يوم 5/3 وأعقبتها بشكل مستعجل وفوري وفي الحال رسالة أمين السر العام المرقمة 156 وفي نفس الساعات، وتلقفت قيادة عمليات بغداد الفتوى لتنفذها بسرعة البرق برسالتها المرقمة 443 ولم تنتظر أمرا قضائيا أو تتريث مثلما تفعل مع مخابئ وأوكار الإرهاب والقاعدة ففي ذات اليوم وبسرعة الضوء أصدرت رسالتها وتوجيهها لتنفيذ فتوى القائد نوري المالكي فراحت عربات الهمر وجنود الفوج الثاني من اللواء الثامن شرطة اتحادية مع هوسات ماقصرتو ... اليوم كلنا جنود .. عن المالكي نذود ...ومثل السهام اخترقت تلك القوات  شوارع  العاصمة معلنة عن وجهتها نحو جبهات القتال لدحر الأعداء وعملاء الأجنبي ومن شارك بالتظاهر لإسقاط الحكومة، وما هي إلا ثوان  دخلت بعدها تلك القوات عقر الشيوعيين وطوقته كي لا يقترب أو يخرج منه أحد.
فتوى المالكي السياسية يوم 5/ 3 / 2011  وبامتياز، واحدة  من الملاحق الموثقة لبيان  13 في شهر شباط من عام   1963 للمقبور رشيد مصلح وحزبه الفاشي أو هي  ملحق للفتوى الدينية التي ما زالت تمثل وصمة عار وجريمة كبرى راح إثرها وبسببها الآلاف من رجال العراق الديمقراطيين والشيوعيين. فليفرح المالكي بفتواه بعد أن جردته فعلته هذه من ثياب الملك التي كان يظن أنه يتستر بها.



246

المهام والرؤية البرنامجية للجنة تنسيق
قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم



رؤية لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم
لمنهجية عمل التيار الديمقراطي

 
ترى لجنة تنسيق التيار الديمقراطي العراقي المنبثقة عن اجتماع القوى والفعاليات والشخصيات الديمقراطية  في العاصمة السويدية ستوكهولم يوم 14 / 01 / 2011 إن ما تقدمت به فعاليات التيار الديمقراطي في الوطن وأيضا ما جاء من طروحات برنامجية من قبل لجان التيار في خارج الوطن لا يمثل إلا بعض المطالب والمشاريع التي على التيار التمسك بها  والعمل على إنجازها. وبالرغم من ضخامة المهمة التي تقع على عاتقه فإن السعي الجاد والمخلص ونكران الذات يمثل الحلقة الأولى في ترابط وتماسك تلك المطالب والمشاريع والسعي  لتنفيذها. وترى اللجنة أيضا إن حاجات التيار الديمقراطي حقيقية ومهمة ليس فقط للوطن وأبنائه وإنما مهمة وفاعلة للجاليات العراقية في الخارج وهي الخالقة لتفاعل حيوي بين أبناء الوطن الواحد والرافعة لأواصر العلاقات الأسرية والمجتمعية، وفي مجمل ما ورد فيها وبالرغم من أهميتها وحيويتها ولكن اللجنة  ترى  وجود مهمتين ينبغي أن لا يكون هناك خلط بينهما:
تتمثل الأولى في كيفية حشد قوى التيار الديمقراطي وتتمثل الثانية في آليات عمله و مهامه البرنامجية المستقبلية، ومن هذا فالموجب إن لا تطغي أو تتقدم المهام البرنامجية على منهج حشد تلك القوى، وفي هذا الإطار تعتقد اللجنة إن هناك نقاط مختصرة وشفافة ودقيقة يمكن أن تكون أكثر حيوية وتأثيرا  في وضع أسس لحشد العدد الأكبر من التيارات والقوى والشخصيات التي لها مصلحة حقيقية ببناء الدولة الديمقراطية المدنية العصرية. فهناك قوى وشخصيات ليبرالية وعلمانية وحتى دينية متنورة تهتم بطبيعة الدولة الديمقراطية المدنية، لذا ترى اللجنة إن التوسع والانفتاح على جميع تلك الشخصيات والفعاليات والأحزاب وبعيدا عن كل من تلطخت أياديهم بالدم العراقي، لهو ضروري وحيوي ويجعل عمل ذلك التيار حقيقيا وواعدا ليس فقط  لمرحلة بعينها بقدر ما هو لمستقبل العراق والعملية السياسية برمتها. إن اقتصار حشد التيار الديمقراطي الاجتماعي على طبيعة التكتل وفق معيار محدد دون التوافق مع باقي من لهم مصلحة حقيقية في بناء الدولة المدنية يمثل انغلاقا يسيء لمفهوم الديمقراطية والتعددية ويعيد تركيب محتوى أخر للانغلاق والتخندق التي يبغضها الجميع والتي سببت خسارات كبيرة للشعب العراقي.
نحن نعتقد بأن هناك وفي بدأ العمل أسس لقواسم مشتركة يجب إن توضع لدفع الجميع للتوافق عليها دون اشتراطات أخرى، ثم بعد ذلك تتم مناقشة برنامج عمل مشترك يلبي طموح الجميع ويؤكد على مصالح الجماهير، ومن تلك القواسم نستطيع خلق طيف واسع يعي المهام الراهنة والمستقبلية ويستطيع الوقوف بوجه المد الرجعي الساعي لخطف ثمار ما تحقق بعد 2003 وحرفه نحو دكتاتورية الدولة الدينية وإعادة ذات المناهج والأفكار القسرية الخانقة للحريات والساعية لتغييب وقمع جميع مخالفي الرأي وتحويل الدولة إلى مؤسسة يمتلكها فقط المنتمون لذلك المنهج.
القواسم المشتركة التالية:

ـ النضال اليومي من أجل ضمان الحريات المدنية.
ـ النضال من أجل نبذ العنف وإدانة جميع أنواع الإرهاب.
ـ العمل والنضال لأجل سيادة القانون والتشريعات الكافلة لحقوق الإنسان وكرامته.
ـ فصل الدين عن الدولة وبناء الدولة المدنية.
ـ القبول بالتداول السلمي للسلطة.

واللجنة ترى إن تلك القواسم تشكل اللبنة الأولى الأكثر واقعية والأهم لحشد تيار فاعل وقوي تجتمع حوله مختلف الشرائح والفعاليات والأحزاب والشخصيات الديمقراطية. لذا تتوجه إلى جميع تلك القوى لبذل الجهود وبمسؤولية ونكران ذات للوصول إلى الجميع وحشدهم في النضال من أجل تحقيق تلك القواسم وصولاً إلى مهام برنامجية تسعى الى قيام دولة ديمقراطية مدنية عصرية في وطننا العراق.






المهام البرنامجية للجنة تنسيق
قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي
في ستوكهولم



على ضوء الاجتماع الذي أنعقد في يوم 14 / 01 / 2011  لقوى وشخصيات عديدة من التيار الديمقراطي العراقي في العاصمة ستوكهولم وتمخض عنه تشكيل لجنة لقيادة التيار، فقد عقدت اللجنة عدة اجتماعات طرحت خلالها العديد من  الأفكار والآراء عن طبيعة عمل لجنة التنسيق في ستوكهولم وكذلك رؤيتها لواقع وعمل التيار الديمقراطي داخل الوطن وخرجت بالبرنامج والرؤية الواردة أدناه:

  التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، تجمع حر يضم في صفوفه ممثلي قوى سياسية و شخصيات اجتماعية وثقافية ومنظمات مجتمع  مدني وحركات شعبية  تؤمن ببناء دولة مدنية ديمقراطية في بلادنا الحبيبة العراق عبر آليات عمل:
1.   يسعى التيار لبلورة تجمع واسع من جميع شرائح الجالية العراقية في ستوكهولم من مختلف الأطياف والمكونات والشخصيات التي لها مصلحة لبناء دولة مدنية في العراق بسلطة وقوانين تضمن الديمقراطية والحريات وفق دستور ينضم حياة المجتمع العراقي ويكفل للفرد حرياته الأساسية وكرامته وأمنه.
2.   تقوم اللجنة المنبثقة عن المؤتمر التأسيسي بصياغة اطر برنامج  وبلورة أفكار لسياقات عمل اللجنة وارتباطاتها بمجموع المنضوين في عضوية التيار وتهيئة مستلزمات العمل وتبليغ الأعضاء بوقائعها.
3.   تتداول اللجنة ما يناسب من أفكار وطروحات حول ما يجري  داخل العراق وتتخذ المواقف المناسبة إزاءها،  ومن خلال عمل مجموع التيار الديمقراطي في ستوكهولم ووفق ما تمليه سياسة التيار.   
4.   تعمل اللجنة على وضع منهجية لمراقبة الأحداث في الوطن ومراقبة التزام القوى الحاكمة بالدستور، ودفع وحث القوى السياسية الالتزام به لحين تعديله باليات دستورية نحو الأفضل لتوسيع دائرة الحقوق وهوية الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الفدرالية الموحدة.

5.   السعي من خلال الفعاليات والمطالبات المستمرة عبر وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة أو بالشكل المباشر وكذلك من خلال العلاقة بالهيئات الدولية والسويدية المهتمة بالديمقراطية والحريات، من أجل دفع البرلمان العراقي لسن قانون للأحزاب بمحتوى ديمقراطي، وتشريع قانون انتخابات جديد يعزز مبدأ تكافؤ الفرص لجميع القوى الوطنية ويضمن المشاركة النزيهة والعادلة والحرة ويلغي نهج الاستفراد والإقصاء.

6.   تقوم اللجنة بتنظيم لقاءات ومشاركات مع باقي أطراف التيار الديمقراطي  المشكلة في المدن السويدية الأخرى. ويسعى التيار الديمقراطي لتشكيل روابط فاعلة للتعاون مع التيار الديمقراطي الذي أنشا في العراق وكذلك مع باقي تنظيمات التيارات المشكلة في الخارج لصياغة برنامج يلبي الطموح وينفذ فعاليات مشتركة تساهم في إنضاج تلك المشاريع والجهود والمواقف الساعية لبناء الدولة المدنية الحديثة في العراق.
7.   يقوم التيار الديمقراطي بالعمل على خلق أواصر علاقات متينة مع الأحزاب والتيارات والمنظمات والمؤسسات السويدية ومحاولة إشراكها لتقديم النصح والعون المعنوي لدفع العملية السياسية في العراق نحو وجهتها الصحيحة في البناء الديمقراطي وقيم التحضر وإشاعة الحريات المدنية. وكذلك تعريفها بواقع الحال في العراق من خلال إيصال المعلومة بشكل دقيق ووفق أرقام ووقائع حقيقية وموثقة. وعلى اللجنة استغلال تلك العلاقات بما يخدم العراق في مختلف المجالات.
8.   تقوم اللجنة المكلفة بقيادة التيار الديمقراطي بالعمل على إيجاد منابر إعلامية للتيار تستغل فيه جميع وسائل الإعلام الممكنة. 

9.   على اللجنة المكلفة بالتنسيق لعمل التيار إيصال المستجدات والمعلومات إلى مكونات التيار من فعاليات وشخصيات، وأن تقام ندوات فكرية أو سياسية وحسب الحاجة بما لا يقل عن أربع ندوات سنويا في ستوكهولم أو حين المستجدات، وكذلك تنظيم طاولات وورش عمل تخص البناء الدستوري والتشريعي (قانون الأحزاب، قانون الانتخابات..عمل السلطات التنفيذية والتشريعية).







المهام البرنامجية لمجموع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي

 
1ـ  يرى التيار الديمقراطي إن من أسوء ما يجري في العراق هو استمرار الاحتلال الأمريكي للبلد، لذا يؤكد موقفه الرافض للاحتلال ووصايته ويطالب بالتعجيل بإنهائه ورحيل كامل جنوده وتوقف وصايته وتدخلاته في الشأن العراقي.

2ـ  السعي لتبني مطالبة حقيقية لتغيير طابع المحاصصة في تشكيل اللجان والمفوضيات الخاصة بحقوق الإنسان والانتخابات والنزاهة وغيرها بما يضمن استقلاليتها الكاملة والتزامها بالمعايير المهنية والديمقراطية، وعدم وضعها تحت وصاية الحكومة أو التدخل في شؤونها.

3ـ تقديم كافة أشكال الدعم لجهود بناء الثقة بين طوائف وقوميات وشرائح المجتمع العراقي والدفع من أجل مصالحة وطنية حقيقية عادلة بين الجميع وبالذات لمن يؤمنون بالتطور الديمقراطي ونبذ العنف والتبادل السلمي للسلطة والحث من أجل أبعاد هيكل الدولة ومؤسساتها عن أن تكون وفق المحاصصة القومية والطائفية.

4ـ يؤكد التيار الديمقراطي على طبيعة تشكيلات السلطات في العراق وضرورة فصلها عن بعضها مع التأكيد الدائم على القوى المشاركة بالعملية السياسية  للعمل على حث البرلمان العراقي على أخذ دوره التشريعي والرقابي الحقيقي وأن يتمتع أعضاؤه جميعا بالنزاهة والإخلاص للوطن والهوية العراقية والتصرف بضمير وأخلاق نبيلة والدفاع الحقيقي عن مصالح الشعب، والتجرد عن المصالح الشخصية والحزبية.

5ـ  يقف التيار الديمقراطي مع مصالح الناس داخل العراق والدفاع عن الحريات المدنية وحقوقهم في التنظيم السياسي والنقابي وحرية التعبير عن الرأي، وعلى مؤسسات الدولة احترام التنوع الديني والإثني والسياسي وحق الجميع في اختيار التعبير عنها ديمقراطيا.

6ـ ينبه التيار الديمقراطي إلى عمق المأساة والأوضاع المزرية التي تتعرض لها الطفولة في العراق وما يترتب على ذلك من نشوء وظهور أجيال جديدة مخربة ومشوهة تضاف إلى الأجيال التي خربتها ودمرت حياتها حروب الطاغية صدام. ومن هذا فإن منطلق التيار يصب في تنبه السلطات العراقية لاتخاذ الإجراءات المناسبة في وضع حد لعمالة الصغار والتسرب من المدارس كذلك رعاية الأيتام وإيجاد صيغ تكفل لهم حياة كريمة وسوية. أيضا يهتم التيار بالعلاقة مع المنظمات الدولية المهتمة بالطفولة لحثها نحو توسيع برامجها الخاصة بمساعدة الطفولة في العراق.

7ـ بالرغم مما تعرضت له المرأة العراقية خلال عقود طويلة فقد كانت دائما عنصرا قويا وفعالا في حياة الشعب العراقي، واليوم يرى التيار الديمقراطي إن المرأة في العراق تتعرض للكبت والإقصاء والتهميش وتجرد من جميع المكاسب التي حققتها في نضالاتها السابقة، حيث تقوم القوى الرجعية بإعادة تركيب قوانين المجتمع وفق نضرتها الضيقة التي تبخس حق المرأة وتحتقر وضعها الإنساني. أن مهمة التيار الديمقراطي تصب في فضح تلك الأساليب والمطالبة بالمساواة الحقيقية للمرأة بمثيلها الإنساني الرجل، والسعي للوقوف مع قوى العلمانية والديمقراطية في العراق وكذلك التوجه إلى المنظمات الدولية للضغط على السلطات والفعاليات السياسية العراقية لنبذ تلك الأفكار الاقصائية والأساليب المستهجنة.   

8ـ يتخذ التيار الديمقراطي موقفا داعما وقانونيا للإعلام المستقل وحرية النشر والحصول على المعلومة وفق المعايير الدولية  المهنية والأخلاقية.

9ـ تأكيد التيار الديمقراطي على أهمية وزارة الثقافة كوزارة لها ثقلها المعنوي وتأثيرها المحقق في تشكيل منهجية لإنعاش الثقافة العراقية ورفع الوعي الجماهيري، لذا يؤكد على ضرورة  إخراج الوزارة من واقع المحاصصة الطائفية ورفع سقف مخصصاتها المالية، وإنعاش  برامج ثقافية تغني  قيم الشعب وثقافته وتهتم بتراثه وأرثه الحضاري وترعى المثقفين ونشاطاتهم دون وصاية وتكبيل واشتراطات.

10ـ  يقوم التيار على تأشير الخلل الكبير الحاصل في تقسيم الثروة في العراق والظهور الحاد للتمايز الطبقي الحاصل نتيجة ذلك، مع تفاقم ظواهر الفساد الإداري وسرقة المال العام وضياع ثروات العراق عبر نشوء مافيات تتحكم بالثروات والسوق.

11ـ تشكل البطالة المرتع الخصب لجميع الدوافع الفردية والجمعية لممارسة الخروقات والاعتداء على القانون واستفحال الجريمة  لذا يرى التيار ضرورة أن تعالج هذه المشكلة وتداعياتها الخطرة بتوفير فرص للعاطلين عن العمل وأبعادهم عن أجواء الجريمة والضياع وخرق القانون، مع ضرورة العمل على تعزيز دور الشباب ودفعهم للمشاركة بفعالية في إعادة بناء البلد والدولة والمجتمع وضمان سماع أرائهم في مشاكل العراق والحلول التي يقدمونها.

12ـ يقف التيار أمام مشكلة انتشار ظاهرة المخدرات التي تفاقمت دون رادع حقيقي من قبل السلطة في العراق. ولضرورة معالجة هذه المشكلة من الموجب حث السلطات على ضبط الحدود والتشدد في العقوبات لمنع تسريبها وانتشارها بين أوساط الشباب، كذلك تطوير المشاريع والبرامج الرياضية والمهنية والثقافية لأبعاد الشباب عن تلك الظواهر.

13ـ تمثل منظمات المجتمع المدني والنوادي الاجتماعية والثقافية الواجهة الحقيقية للنظم الديمقراطية وتنمية المعارف بالحريات المدنية، لذا يرى التيار من الموجب على السلطات العراقية المسؤولة مساندة تلك المنظمات وبالذات الحقيقية والهادفة منها عبر تقديم المساندة والمساعدات المالية غير المشروطة وضمان استقلالها في العمل والتوجهات.

14ـ التأكيد الدائم والمستمر من خلال المطالبات بإيجاد حلول ناجعة وعاجلة لمشاكل الخدمات والبنى التحتية مثل (  الكهرباء، والماء، النقل،الحصة التموينية الشهرية، الصحة،  التعليم، السكن، الصرف الصحي...ألخ).


15ـ يقوم التيار الديمقراطي بالحث على وضع أسس منهجية معرفية عصرية  لتطوير نظام التعليم ابتدأ من رياض الأطفال حتى الدراسات العليا، والعناية بالتعليم المهني وتطويره بما يلبي حاجات العراق حاضرا ومستقبلا.


247
المالكي في ملكوت الكرسي

فرات المحسن
نقل بيان صادر عن مكتب المالكي قوله  لدى استقباله في بغداد  رؤساء الهيئات المستقلة : ( إن ما يحدث في العراق يختلف عن ما يحدث الآن في العالم من متغيرات، لأن ما مطلوب تغييره غير موجود في بلدنا، لأن العملية السياسية في العراق جاءت عبر الانتخابات و على الجميع احترام الانتخابات وما جاءت به من نتائج خلال إرادة أبناء الشعب".)
يبدو إن السيد المالكي قد نسي أو تناسى تصريحاته السابقة عن الانتخابات وكفاحه ومنافحته وإصراره وطلبه من الهيئة المشرفة على الانتخابات إعادة العد والفرز لبعض المراكز الانتخابية بعد إن أعلن شخصيا عن وجود تزوير وإن هناك غبن وحيف وقع على قائمته التي سماها دولة القانون ؟؟ وفي النهاية خذله الأمريكان وهيأتهم. واليوم يعلن وبكل قناعة بان على الجميع احترام نتائج الانتخابات وإن العملية السياسية وحكومته هما ناتج حقيقي وطبيعي لتلك العملية. ولا ندري ما يريد السيد المالكي تمريره من تصريحه هذا، فهل صدق ما أسفرت عنه تلك النتائج أم تراه وبعد إن ضمن تسيده في موقعه لمرة ثانية يريد إعطاء الشرعية لتلك الانتخابات ومن ثم لحكومته. وفي هذا يتناسى المالكي إن مجموع من حصل على الأصوات التي أهلتهم لمقاعد البرلمان مع فداحة التزوير وعلنيته، لا يتجاوزون في عددهم الستة عشر عضوا والمتبقي من مجموع 325 عضوا هم من رشحتهم قوائمهم ومنهم من لم يحصل حتى على العشرين صوت من أصوات الناخبين.
يصر المالكي على إن ما يحدث في العراق يختلف عما يحدث في العالم العربي من متغيرات، في قوله هذا الكثير من الصحة فلو نظرنا اليوم إلى حال مؤسسات السلطة العراقية لوجدناها في حالة من البؤس والتخبط والرثاثة لا تشابهها أو تضاهيها حالة مؤسسات دولة أخرى، ففي العراق هناك مراكز قوى لا بل حكومات تتمتع بسلطات تتجاوز حتى سلطة المالكي لا بل تهزأ وتسخر بما يصدر عن حكومته، كذلك تعج مؤسسات السلطة ويتسيدها الجهلة وأصحاب الشهادات المزورة، وأعداد هؤلاء لا يضاهيها ما موجود في جميع بلدان العالم، وهناك أيضا أحزاب تبيح لأعضائها سلب ونهب وسرقة حتى عواطف الناس، وهناك الملايين من العراقيين ممن هم تحت خط الفقر تتفوق أعدادهم على عدد نفوس بلد مثل لبنان أو الأردن، وباتت النفايات مصدر لإشباع بطونهم الجائعة، وأعداد العاطلين عن العمل لا توازيها وتساويها أعداد مجموع العاطلين لدى الشعوب المحيطة بالعراق جميعها. أما أوضاع الخدمات أثناء فترة حكم المالكي فهي في أوج بؤسها وتخلفها باعتراف من يشرف على تحسينها. ولا أريد إن أتحدث عن سرقة المال العام والفساد الإداري فتلك لوحدها تشي بالكثير من خيانة الضمير والوطن ويبدأ سلمها من راس سلطة المالكي هبوطا وليس العكس.
 ومع كل هذا الوضع المزري والبائس فأن مصادر الثروة العراقية وما تدره على خزينة الدولة يجعلنا نقول للمالكي ورهطه من الأحزاب المشاركة معه في الحكم، نعم إن ما يحدث في العراق يختلف كليا عما يحدث في العالم، فغرابة الحدث العراقي لا شبيه له في العالم كله حتى في الدول المتخلفة والفقيرة منه، وقيام الانتفاضات في مصر وليبيا وتونس لا يمكن مقارنتها بذات الدوافع بعدما حل بالعراق من فواجع ومواجع من جراء حكم الأحزاب الإسلامية وبالذات قيادة حزب الدعوة وامينه العام المالكي وقبله الجعفري ورفاقهم الذين يحتمون ويخدعون الناس بكذبة الدين والتدين.
لحد اللحظة فأن ما يعرف عن كرسي الحكم قدرته على تجريد محبيه ومريديه من الأخلاق وإفساد ضمائرهم وإدارة رؤوسهم 360 درجة، لذا فتمسك المالكي بكرسيه لا يبدو بعيدا عن ذات الهوس الذي يتمتع به الكثير من الساسة في الشرق والذي يصل في بعض منه إلى حالة من جنون العظمة والهلوسة والاعتقاد بأنه الزعيم والقائد الملهم وهو معجزة الرب، أرسله الله لإنقاذ البشرية وتقويم الناس وإن الحق لا يخرج إلا من بين يديه. ليس هذا بمرض معد بقدر ما هو نقمة وبؤس تحل بروح هؤلاء فيروحوا يتخيلون أشياء بعيدة عن الحقيقة وتغلق عقولهم وتتوقف عند مشهد واحد ليصبحوا في نهاية المطاف مجانين تسخر منهم شعوبهم وشعوب العالم مثلما يحدث اليوم لملك ملوك العالم معمر القذافي الذي أصيب بالجنون وراح يصرخ بأن لا وجود لتظاهرات أو انتفاضات في ليبيا وأن من يخرج من هؤلاء ويعترض فهو يتعاطى المخدرات ووضع ليبيا يختلف عن وضع جاراته مصر وتونس.
 حتما سمع المالكي بالنكتة التي تتحدث عن مقولة للقذافي يقول فيها لا أمنع شعبي من الدخول إلى مواقع الفيس بوك وتويتر ولكني سوف أعتقل كل من يدخل لتلك المواقع، ولذا فالمالكي يفعل مثلما يفعل القذافي، حيث يصرح بأنه لن يمنع المظاهرات، والدستور ضمن للشعب العراقي حق التظاهر، ولكنه يأمر قواته بتطويق المتظاهرين والاعتداء عليهم واعتقالهم، وقبل يوم من التظاهر يفرض منع التجول في المدن ويقطع الجسور والشوارع بالكتل الكونكيريتية وقواته تحتل رؤوس الشوارع لتمنع الناس الوصول إلى مواقع المظاهرات. هذه هي أذن ديمقراطية المالكي ودستوره وانتخاباته التي تختلف عن شبيهاتها في العالم.
لقد دخل نوري المالكي ملكوت الكرسي وراح رأسه يطن بطنين العظمة ويوحي أليه بقدرات ربانية فاستساغ الخدعة وبدأ يلوي الحقائق بل يراها بالمقلوب ووصل به الحال وبفترة قصيرة جدا إلى ما سبقه أليه صدام حسين وحسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلى عبد الله صالح والقذافي ورهطهم من حكام العرب رسل الرب إلى شعوبهم ناكرة الجميل.     

 

248

عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة

                                                                                                                          فرات المحسن

اليوم عصرا جلست في المقهى الواقع طرف الزقاق الشمالي والقريب من سوق التتن. سوق التتن تسمية أطلقت على سوق صغير اشتهر قبل خمسة عقود ببضعة محلات أقتصر بيعها على التبغ وكان التبغ تلك الأيام بضاعة رائجة لشاربي سجائر اللف والمزبن. ومع ظهور معامل السجائر اختفى المزبن ومثله أنقضت أيام اللف وربك يقول وتلك الأيام نداولها، بعدها اعتاد الناس طبيعة الترف والخدر ليقوموا بشراء علب السجائر الجاهزة. وبين فترة وأخرى يظهر أحدهم ليجلس على أحد مقاعد المقهى ويروح يتلذذ بلف سيجارة وراء أخرى. إعادة أنتاج القديم شي حلو وينفع هكذا يفكر البعض.
سمعت الخبر من صيهود الجايجي، قال لي إن رئيس الوزراء نوري المالكي بسط يديه الكريمتين وأمر بأن تقدم مع الحصة التموينية هدية للمواطنين مقدارها  15000 ألف دينار شهريا عدا ونقدا.
 15000 ألف دينار تره مو هينه، وخطيه القائد نوري المالكي راح يطلع المبلغ من حشاشات جبده. شوف العراقيين شلون لوتيه ملاعين، قشمرو  القايد وخلوه يصرف عليهم.. بس تره موزين سوه القايد نوري المالكي لأن راح يعلم العراقيين على البذخ والاستهتار والترف وراح يصير بالوطن هواية سكر وعربدة واعتداء على المواطنين،، وهاي بينت من أوله، كَامو العراقيين يسكرون ويتظاهرون مثل الشعب الليبي يكبسل ويريد القايد معمر القذافي يرحل.
الخمسة عشر ألف دينار مالت السيد المالكي خلتني ضربت دالغة عميقة سرحت بيها نحو ذلك التأريخ البعيد القريب حين أعلن من إذاعة الجمهورية العراقية في بغداد بأن القايد صدام حسين تكرم على العوائل العراقية بدجاجة، أي والله دجاجة، دجاجة مربربة ومهلوسة ومسنعة. بذاك الوكت أني رحت زايد وكامت صفنه تاخذني وصفنة توديني، بس دماغي توقف عند نقطة واحدة لم يتجاوزها قط، ماذا أفعل بعد استلامي عطية السيد القايد، هل أضعها بيد أم عبيس لتصنع للزعاطيط تشريب يقوي عظامهم لو أبيع الدجاجة وأفك الحسرة اللي بكلبي صارله جم شهر.
هدية القايد مو شوية. دجاجة تتقسم إلى أشكال،  مرة تشريب أجنحة وحباشات وثاني يوم مطبك على تمن، لو مركة دجاج وتمن، أدري أم عبيس شاطره ومن تسمع بدجاجة الريس راح تكوم تلعب جوبي وتخلي الجهال يومين يمصمصون ويتريعون. بس أني جنت ادري مرتي مثل الأطرش بالزفة لا تسمع أخبار وما تشتري أقوال الريس بزبانه وكلما أحجيله على الريس ما تجاوبني بغير كلمة وحدة. أي غمه ألهل جهرة. وبذاك الوكت ما ادري تقصد جهرتي لو جهرة الريس. بس فد يوم شلت ربد المسحاه وصرخت بيه ولج عليمن، كالت بويه شني ماتدري عليمن، على هذا أبو فج الأعوج.
 بذاك الوقت ردت أضم سالفة الدجاجة على أم عبيس ومن أبيعها أعلس أفليساتها حتى أشوف دربي بعد ما يبست روحي يباس لفقدانها السوائل مما يرطب الروح والجسد ولمدة طويلة تجاوزت حدود المعقول.
ذهبت إلى محل العطارة الذي نستلم منه الحصة التموينية بعد أن قررت أن أبيع الدجاجة عطوة الريس إلى من يشتري وأذهب بالنقود إلى أبو نؤاس وأريح نفسي بربع ماي ورد وشيصير بعده خلي يصير وإذا عرفت أم عبيس وحجت حجاية  زايدة راح أخليه ثلاثة أيام تسكر بسكرات الموت.
 وقفت مندهشا أمام باب الدكان ولم أتبين نوع الدجاجة المرجوة إلا بعد ظهورها بيد أحدى الخارجات من شدة الازدحام والتقاتل لنيل دجاجة القايد المباركة. فجأة وجدته يلتصق بي ويهمس بأذني... تبيع.. عمي تبيع الدجاجة. كان شابا وسيما أنيقا بقميص نصف ردن مزركش وتسريحة شعر حديثة  لم يسبق لي إن شاهدته في المدينة وأنا من يعرف جميع أبنائها، الظاهر أنه من هؤلاء الذين يشترون الحصص التموينية ثم يبيعونها في مكان أخر بسعر أعلى.. لكن يجوز هو من جماعة الأمن يريد يجس نبض وبعدين يلعبون بيه طنب وتصير عليه دجاجة القايد فيل أركط يطير بس على ناصي .. لا بويه ما أبيع.. الجهال يردون ياكلون .. وبعدين هاي مو قليله .. هاي هدية القايد... وأنا أنطق كلمة القائد وبدون شعور أحسست بأن حركة اهتزاز اجتاحت كتفي ورقبتي وأردافي وكأنما جميعها تريد أن تهتز فرحا وطربا بذكر اسم القايد،  مو بيدي الجسم من الخوف تعلم لوحده على الهز والردس حين يذكر اسم القايد. أبتعد الشاب وكأنه شعر بلدغة، وأنا شعرت بنوع من الانتصار على قوى الأمن الداخلي وأتباعهم حيث فوت عليهم الفرصة.
لمحت المعلم أبو جبار يقف منزويا عند طرف الشارع ماسكا خرجه العتيد، المعلم أبو جبار يظهر دائما يوم توزيع الحصة ليشتري ما لا يرغب اقتنائه الباقون من الصابون والشاي والدهن وغيره، ظهوره اليوم يعني نيته شراء عطية القايد الدجاجة المباركة. نظرت نحوه ورفعت يدي ملوحا له بما معناه أن يستعد فأنا بائع لدجاجة القايد، فرد علي بعلامة رفع إبهام الكف إلى أعلى دلالة الرضا و القبول. كان حشد من العباءات السود الكالحة يغطي كليا وجه الدكان والأيادي تمتد لترتفع بعد حصولها على الدجاجة المباركة. أنشغل المعلم أبو جبار مع أحدى النساء وشاهدته وهو يدفع لها مبلغا لم أستطع معرفة مقداره ولكني خمنت بأنه يغطي سعر جلستين عند بار في شارع أبو نؤاس ولربعيتين من ماء الورد.. صدقه للعزيز .. فدوه أندار للمربرب والمهلوس.. راح اليوم أرجع مشي للبيت أبو نواس وأطك بالطريق سبعين بيت أبوذية..اليوم راح أتسودن سوادين... هذا شلون قايد حسبالك يدري جسمي محتاج مي ورد ... وجماله يكولون عليه أثول.
لم يخطر في بالي ذلك المشهد مطلقا، وإن كنت أعرف إن مثل هذا سوف يحدث لبقيت جالسا في المقهى ومريح راسي وألعب دومنه مع أبو فرج التتنجي. كان المشهد صعبا مثل فلم من الخيال العلمي قلب علي كل برامجي وخططي، فجأة ظهرت أم عبيس من بين الجموع الحاشدة وهي تحمل دجاجة القايد، لوحت بها في وجهي ثم لفت عباءتها على خصرها وأطلقت هلهولة سمع صداها في جميع أنحاء المنطقة وراحت تهتف بهوسات متعاقبة بدأ معها الرجال والنساء يرددون ويردسون وهم في أماكنهم أمام دكان الحصة.
 
أبشرك يبو عبيس ماتت البشة
أوديها النجف لوبيها نتعشة

من القايد وردنه اليوم هل المكتوب
دجاجة بالجدر تمن عله مقلوب

الكلافه والكرم والجود والطيبات
 لبن حسين من زمان الفات
أله وكفات طيبة وبيه مشهودات
 
ها خوتي ها
خل القايد عله الديايه يسولف
خل القايد عله الديايه يسولف
 
ضاع المرتجى والمؤجل عند ظهور أم عبيس وهي تحمل تلك الدجاجة المبجلة. نظرت إلى المعلم أبو جبار فأشاح وجهه عني مدركا ما ابتلعته من صدمة على يد أم عبيس. عدت بعد صفنة طويلة إلى المقهى خائبا منكفئ على عقبي حتى دون خفي حنين.
حين عودتي ومن بعيد وقبل اقترابي من البيت شممت رائحة الطبيخ تفوح فوق سطوح المنازل وكأن الجميع يطبخون بقدر واحدة من قدور الهريسة أو القيمة في شهر محرم. كانت وجوه عبيس وأخوته كمن زقت دن من شربت الزبيب. للمرة الأولى أشاهد وجوههم وقد توردت وطفحت بالحمرة ، فسألت أم عبيس عما أطعمت به الصغار، فأجابتني.
 لا خويه بعده المركة ما صايره بس الزعاطيط من شمو الريحة تفحو. مو كتلك خويه، يرادلهم شي يسند رويحتهم... بس أبو عبيس أنه ما سويت الدجاجة كله.. سويت الأجنحة والحواصل والجبده وخليت الباقي بالطرمه جوه الطشت حتى أسويه الباجر والعكب باجر.....
أي أم عبيس عفيه عليج زين سويتي.

كان الصباح التالي مشؤوما كدرا ومفجعا منذ ساعات الفجر عندما هزتني وقضت مضاجعي صرخة أم عبيس التي انطلقت مثل الرعد، ثقبت السماء وأيقظت سابع جار راحت بعد ذلك تولول وهي منكفئة فوق الطشت في الباحة الأمامية للدار.
ها شني الصار أم عبيس ...
يبووو علينه  أبو عبيس  راحت دجاجة القايد ...
ولج شلون
البزازين باكنه..
الله لا يوفقج على هل سالفة.... لو خالتني بدالغتي أبيعه لبو جبار جا مو أحسن.

،،،،،،،،،،،،،

حجاية  الـ 15000 دينار مال القايد الجديد هم تستاهل واحد يسولف بيه، وبهذا الوكت المبلغ يسوه دجاجتين، بس تعال ودبر بطل مي ورد حلال...



249
ما فضحته مظاهرات 25 شباط
فرات المحسن

رغم الأعداد التي لم تتجاوز عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين خرجوا إلى شوارع المحافظات العراقية في تحد كبير لما فرضته السلطات العراقية من استحكامات واستعدادات وإحضار حشود من الجيش والشرطة ووضع الحواجز الكونكريتية ومنع وسائل الإعلام واعتقال المصورين ومنع التجول وقطع الطرق لمنع تلك الجماهير من التجمهر والحركة، فإن ما يسجل لتلك التظاهرات قدرتها على كسر حاجز الخوف ومواجهتها لكل إجراءات السلطة بصدور عارية لا تمتلك غير الشجاعة. وما يسجل لتلك التظاهرات وحشود جماهيرها أنها قدمت للعراق صفحة جديدة على الجميع التمعن بها وتدقيق وقائعها، تلك الرؤية الجديدة كشفت الكثير من المستور وعرت طبيعة الحكام الجدد لعراق ما بعد الطاغية صدام حسين.
إن ما جرى من وقائع قبل انطلاقة انتفاضة 25 شباط أظهر دون شك طبيعة المرحلة واصطفاف القوى السياسية فيها، ونوعية حراكها وتركيبة السلطة الحاكمة. فخطاب أمين عام حزب الدعوة الإسلامي رئيس الوزراء ورئيس قائمة دولة القانون نوري المالكي يوم 24 شباط جاء تتويجا لحملة الافتراءات ولما أشيع من اتهامات وتوجيه طعون للمعدين ولمن ينوي المشاركة في التظاهر. وجاءت خطبة المالكي التي طالب فيها من الشعب الامتناع عن الالتحاق بالمظاهرات وقبلها تصريحه عن مظاهرة مدينة الكوت، أشارة صريحة لقوى الأمن والجيش لتطويق المظاهرات ومنعها من التحرك خارج أماكن انطلاقها والطلب من تلك القوات التعامل مع المتظاهرين بأقسى الأساليب إن تطلب الأمر وهو ما قامت به فعلا وحسب التوجيهات والأوامر التي كانت تصدر لها من قادتها المتواجدين فوق البنايات العالية المجاورة لأماكن التظاهرات.
انتفاضة 25 شباط فضحت طبيعة التحالفات التي كانت الأحزاب الإسلامية تحرص التمويه عليها وإخفائها عن الأنظار. حيث ظهر للعيان قبل وإثناء يوم الانتفاضة النموذج العملي لتكتل قوى الإسلام السياسي وخلفه الجدار الصلب من الإسناد المعنوي والمادي ممثلا بالمؤسسة الدينية بمختلف تلاوينها دون استثناء. فما قدمته المؤسسة الدينية وشيوخها من إسناد مثل طبيعتها النفعية المخادعة، حيث تنكرت لجميع ما كان يصدر عنها من تصريحات حول وقوفها إلى جانب المظلومين والطلب من الحكومة والبرلمان النظر لأوضاع الناس المزرية ومعالجتها بأسرع ما يمكن، ولكنا رأيناها وقبل أيام من المظاهرات قد فضلت معاضدة السلطة ووقفت تساندها بالرغم مما يجلل هامات تلك السلطات من مساوئ وعاهات ومفاسد. ونرى شيوخ المؤسسة الدينية وقد تخلوا بسهولة وفي لحظة حاسمة عن نفاقهم المعتاد لينحازوا الى الحكومة ويديروا ظهر المجن لمظلومية الناس وأوجاعهم وهمومهم وكل ذلك الكم من العذاب الذي يعانونه من جراء تدهور الأوضاع في جانب الخدمات وشح الموارد مع ضخامة السرقات التي يقترفها رجال السلطة للمال العام وبالذات منهم رجال الأحزاب الإسلامية الذين باتوا يشكلون الثقل الأكبر في دوائر الدولة ومؤسساتها، وظهور الفوارق الهائلة بين دخول الأفراد وتوزيع الثروة الوطنية.
 إن انحياز شيوخ المؤسسة الدينية لصالح السلطة ووقوفها بالضد من مصالح الجماهير يمثل الجانب الأكثر وضوحا وحقيقة لطبيعة تركيبة المؤسسة الفكرية والعملية وتوافقها مع متبنيات السلطة الممثلة بأحزابها الدينسياسية الساعية لبناء الدولة الدينية في العراق، وبان للعيان الترابط العضوي بين تلك المؤسسة وأذرعها من الأحزاب الحاكمة.
وما عرته وفضحته تلك المظاهرات أيضا زيف الشعارات التي كان وما زال حزب الدعوة الإسلامي وباقي الأحزاب الدينسياسية يحاولون الترويج لها وخداع الجماهير بها وإخفاء نواياهم الحقيقية ورائها من خلال الهذر عن بناء دولة القانون ومنح الحريات المدنية للشعب وأيضا الحديث اليومي عن ديمقراطية الإسلام والسعي ليكون العراق أحد أفضل الديمقراطيات في العالم.
فمع كل تلك السفسطة والثرثرة اليومية الكاذبة أظهر حزب الدعوة الإسلامي وحلفاؤه القدرة على استعارة أساليب الدكتاتور صدام حسين، لا بل أثبتوا أنهم أرجح من ذلك الحكم البغيض المقبور وأشد ذكاء منه في أساليب الخداع والتضليل واستخدام التقية الخبيثة، وكذلك في نوعية الحضر والمنع واستخدام القوة. فقد أقدمت قوات الشرطة والجيش وبأوامر وأشراف كوادر من تلك الأحزاب وبحجة حماية المظاهرات على تطويق الجماهير ومنعها من الوصول إلى أماكن التجمهر ثم مارست ضدهم أساليب مختلفة من القمع راح من جرائها العشرات من القتلى والجرحى ولم تتوان تلك القوات وبأوامر من قياداتها على اعتقال العديد من المتظاهرين لا بل أوعزت لبعض منتسبيها التظاهر بالإصابة والإغماء جراء اعتداء المتظاهرين.
 وإن كانت تلك الأحزاب الإسلامية وخلفها شيوخ المؤسسة الدينية ترفع أصواتها وقدراتها لحشد أعداد هائلة من قوى الأمن والشرطة والجيش تبلغ عشرات الآلاف لحماية ملايين الزائرين أثناء المراسم الدينية، لا بل تحرص على استقطاع المال العام لتقديم الخدمات الكبيرة وتأمين جانب السلامة لهؤلاء الزوار، فأننا نراها يوم  25 شباط  كيف تستعرض عضلاتها عبر حشد ذات الوفرة من قوى الأمن للوقوف بوجه أعداد من المتظاهرين لا يقاربون عشر تلك المجاميع من الزائرين، وفي ذات الوقت ترفع عقيرتها لاتهام الجياع والعاطلين عن العمل والمنكوبين والمكتوين بسوء الخدمات، بشتى التهم والتلفيقات وتحرض رعاعها عليهم. 
أنه حلف الشيطان الذي فضحته أول مظاهرة وإن القادم سوف يكشف لنا الكثير من اللؤم والجرائم.


http://www.youtube.com/watch?v=efi5LORM7Nc

http://www.youtube.com/watch?v=m5E_HeF9O54

http://www.youtube.com/watch?v=jF1q2w9aKrI




250
المنبر الحر / شلون أو وين ويمته
« في: 20:43 16/02/2011  »
شلون أو وين ويمته

فرات المحسن

في مقال كتبه الناشط السياسي الأخ إسماعيل زاير في أحد المواقع العراقية وكذلك في جريدته الصباح الجديد، قدم فيه مقترحات عديدة لجميع من يريد المشاركة في تظاهرة 25 فبراير والتي سماها ثورة الربيع العراقي. الحقيقة يعجبني جدا ما يطرحه العزيز إسماعيل زاير من أفكار تحض على التجمع والنهوض والثورة على الواقع الفاسد ورجال السلطة الذين استهتروا بحقوق الشعب ومصالحه وراحوا يعبثون بمصير الوطن ويمتلكون شهية الحيتان في التهام ثرواته وباتوا يناصرون بعضهم بعضا وبالذات منهم أتباع الأحزاب الدينسياسية وتوابعهم في عمليات سرقة المال العام وقمع المواطنين.
في كل هذا أقف مع الجماهير الغاضبة وأناصرها مثلما أناصر الأخ إسماعيل زاير. ولكن العزيز زاير وضعني في حيرة كبيرة ورغم ما يتملكني ويسيطر عليً من دوخة ودالغات لا تنفك تأكل رويحتي العزيزة وصرت أذبل مثل نومية. لم أجد في ستوكهولم أمام أو ضريح لبنات أمام أو حتى لسكن سايق أمام حتى ألجأ أليه لأدعو على إسماعيل زاير دعاء المستجير وأطلب في هذا الضريح بجاه المدفون فيه عند رب العالمين إن يدوخ إسماعيل زاير مثل ما دوخني وخلاني منذ يومين أحسب وأرجع كري، أحسب وألملم وأجمع واقسم وبعدين أجد إن هناك من فلت من حساباتي وزاغ خاتلا متختلا من رحمة الله وأنا نسيته دون عمد.
العزيز إسماعيل زاير وبعد ديباجة مطولة كل ما جاء فيها يستحق الثناء والتقدير ختم مقاله بالأتي. وبعدما تطلعون عليه أرجو أن تدركوا الموقف الذي وضعنا جميعا فيه العزيز إسماعيل بن الحاج زاير ومقدار العذاب الذي يدفعنا أليه، أنها شدة ومحنة كبرى وغم وهم وكدر في الدنيا والآخرة.
يقول إسماعيل زاير في دعوته للجماهير قبل يوم تظاهرة 25 فبراير.

بداية نقترح هنا أن :
 
* نجري جردا محددا لقائمة السياسيين العشرة الأكثر مناهضة للشعب . والأكثر فساداً والأكثر تهديدا وترويعا للعراقيين .
* ولنطرد مزوري الشهادات الدراسية وننشر اسماءهم ومواقعهم .
* لنوقف نهب المال العام من قبل أعضاء مجلس النواب. السابقين والحاليين .
* ولندفع المحكمة الدستورية وهيئة النزاهة لمراجعة جميع القرارات المتخذة من قبل السلطات المركزية والمحلية لتحويل ملكية الشعب من الأراضي والمصانع للمناصرين للأحزاب الحاكمة.

صفنت وأصابتني دوخة وانصطرت وصعد ضغطي للضالين بس قريت الفقرة الأولى . يوم كامل صمطت فيه باكيت ونص دخان وقبل التاسعة ليلا وهذه ليست من عاداتي المستحسنة، كنت قد قضيت بالكامل وبسرعة البرق مع نصف نومية حامض لا سواها، على ربع شيشة شربت إنكليز. ودلعت زيكي يم شباج المطبخ وصحت ربي أي أني بهذي الغمة التي هي أكثر من غمة العراق،، ودالغة تجيبني ودالغة توديني وضيعت الدرب ما كو اليدليني وأشوف العراق ديجروه الى عصر البعران والهوايش بحجة الدين، هل نوب عليه أبن الحجي زاير وجماله يريدني أسوي جرد،  يعني فوك ،،،، جيلت ماش، ومحدد لي قائمة للسياسيين العراقيين العشرة الأكثر مناهضة للشعب.  أي يرحم جدك المات لمن شرك بالببسي، على الأقل سويها مثل قمار الأمريكان وخليه خمسين. لا والعجيب، يجملهه ويكًول، والأكثر فسادا وتهديدا وترويعا للعراقيين.
 زين شلون ومنين ابدي إذا على كَولة المرحوم عبود الكرخي .. السمجة وصل خياسه لحد ذيله . شنو ومنو وشلون وأوين وشتكمش. عند ذهابي إلى الفراش بقيت ليلة كاملة مضطربا مضطرا أردد وبسرعة ،، خميس كمش خشم حبش،، وحبش كمش خشم خميس، حتى أنصطر وأنام.
كعدت الصبح وأخذت ورقة وقلم وبدأت أكتب الأسماء العشرة المبشرة بجهنم أشو القائمة وصلت أبو السبعة وسبعين وبعد أكو فائض القيمة وأني بعد ممغسل وجهي. بعدين صفنت وكلت، لو كمشت جبير أخوته مو راح يطفر كدامي فيلق كامل من الحرامية والقتلة ومن يهدد مصالح وأرواح الناس، أشو كلهم عند جبيرهم من حبال المضيف ويدافع عنهم، منين ما تلتفت لو تلاكي واحد منهم يكلك جا بويه موش أنه عمي جبير أخوته، وفنه الواحد يجيس لو يتلمس لو يتحارش بدشداشة  واحد منهم.
ولو كمشت عضو زغيروني بالبرلمان جان ما مصدك فد يوم يجلس على كرسي مدوشم ويلحس عصيدة ويعلس دجاج بالمطعم، وجان يحلم يصير فراش أباب مدرسة، وهسه، أي هسه، من تسأله وين أقابلك مولانا،  أبن المسموط ، أبن سير النعال، يتنحنح ويفر بمحبسه أبو شذرة زركه ويكًلك بالكافتريا،،، خوش عليك كافتريا، عمت عينه  للزوري أو وحش الطاوة والمسموطة.. وإذا واجهته بالحقيقة وقلت له أنت حرامي سرقت أموال الشعب وأخذت غير استحقاقك عن ثمانية اشهر كنت فيها عطال بطال، وكذلك لا تستحق الراتب، وما تسرقه باسم الحمايات لهو حرام. ومع هؤلاء يا أبو سمعه سوف تكون حساباتنا خائبة جمع بكسر وغير واقعية وتقفز فوق العشرة المبشرة التي حددتها يا أبن الحاج زاير، أي عليً وعلى من دعاهم أن يعدوا العشرة المبشرة لنقع في حساب أخر يجمع 325 عضوا فاسدا ومرتشيا وخالي من ضمير وذمة وهو إن رضي بما يسرقه منذ اليوم الأول لجلوسه في البرلمان، فهو راض عن سرقة وطن، حتى وإن ترس شاشات التلفزيون عياطا وتفالا ودموعا وضجيجا وصراخا عن نزاهته ونزاهة رفاقه وأخوته وعشيرته وعشيقاته وغلمانه.
وأظن إن العزيز إسماعيل زاير يريد إن أصاب بجلطة ويرتاح هو وأخوه جهاد وعشيرتهم فهو يضع طلبه الثاني وهو الأكثر إيلاما وعيلاما ووجعا. تعال دور على مزوري الشهادات الدراسية لا وأجماله يطلب نشر أسمائهم ومواقعهم.. فدوه اروحلك عيوني اسماعين أي مو هيه منظمة وهيأة النزاهة المستقلة للوحة أصدرت 433 مذكرة قبض بحق مزوري الشهادات من بينهم 4 وزراء  و18 بدرجة مدير عام مما اضطر جبير أخوته إصدار عفو عن مزوري الشهادات وبعد ذلك قتل الدوشش بيد رحيم العكيلي رئيس الهيئة وألحلق الهيئة هيه وقلاقيلها وحباشاتها بمجلس الوزراء وصار كلشي وكلاشي بجيب جبير أخوته، وبعد منين راح نحصل على قوائم لو نلكف الأسماء، وأعتقد إن علينا إن نأتي بجهاز سونار يكشف لنا منو حامل شهادة مزورة لو حامل بشهر لو شهرين. وهذه المهمة تتطلب ما يقارب الثلاثة ملايين جهاز والفحص يستمر بوجبتي عمل خلال أيام الدوام الرسمي ما عدا أيام زيارات التعازي واللطم والولادات أي يعني ذلك فقط 90 يوم عمل بالسنة وأعتقد إن هذا لا يكفي لجرد المرضعات والحوامل للشهادات المزورة.
شوف أخويه إسماعيل تره أني احبك بس راح أضطر أدعي عليك عند زيارتي إلى مدينتي في العراق لعدم وجود ضريح لإمام فحل ومجكنم في السويد بالرغم من إن الجماعة وعدوا إن يجعلون أحد الأئمة متزوجا من سويدية وخلفت له أثنى عشر قمرا يجري البحث عن مراقدهم بين مدينتي مالمو وكيرونا بعد إن تخف موجة الثلوج. ومع هذا سوف أطالبك بحقوق استحقت عليك في محكمة أوربية وليس غيرها، رغم يقيني بعدالة المحاكم العراقية لحد الكشر وبالذات قضاتها من خريجي معهد القضاء العالي في عهد أبو الكَمل، وسبب شكواي، أنك رفعت ضغطي وسببت في انقطاعي عن تناول حبوب الضغط لفترة طويلة لأنها لا تتوائم حسب قول الطبيب مع شربت الإنكليز الذي اضطررت وأجبرت من جراء مطالبك على ارتشاف جرعات يومية منه، وبسبب دوختي وكسر قاعدتي الأسطرلابية وهي يوم واحد في الأسبوع لتناول المياه المعدنية الروحية، وكل ذلك بسبب ما طرحته من مقترحات جعلتني أنخدع وأضع أمامي ورقة وقلم وحاسبة وأروح أعد وأعد لجموع النهابة والسلابة والسختجية والحرامية والما يستحون وأرجع ليوره ولحد الآن تعبت وأرجوك رجاءا أخويا أن لا تغني لي أغنية كوكب الشرق أم كلثوم ..عد وأنا أعد وأنشوف ياهو منهم خوش ولد.
وحدي وبعد أن أكتمل القمر وتربع كبد السماء منتصف الليل وتحت وطأة الهواجس وتناول المحرمات وأوراقي التي امتلأت  بأكثر من خمسة وخمسين اسما بعد الألف وهم أبناء المداس الذين توصلت ذاكرتي لجهرهم الزفرة ..تعبت وكل متني ولما كلمتني كلمتني، فقلت أيا إسماعيل صبرا .....ثم نهضت أجرجر خطاي في سكينة الليل ورفعت كأسي وارتشفت رشفة هائلة قضيت بها على ما تبقى من محتويات الكأس، ثم فتحت شباك المطبخ ودلعت صدر قميصي فتسلل البرد إلى جسدي فشعرت بالنشوة تنعش روحي، وفي سكون الليل تنحنحت ثم عطت بأغنية ،،على وزن أغنية...
 هاي وهاي وهيه ..هاها.....  هاي وهاي وهو

شلون أوين ويمته ... هاها
أوين ويمته شلون ....


251
جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم
 
البلاغ الختامي الصادر عن المؤتمر السادس عشر لجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم
 
تحت شعار يد بيد من اجل تفعيل دور المرأة     
   
 
عقدت جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم وبنجاح  مؤتمرها السنوي السادس عشر في يوم 29/1/2011   في منطقة ألفك


     
   

 
تم افتتاح المؤتمر بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء في العراق الحبيب، بعدها قرأت البرقيات والتحايا الموجه إلى المؤتمر من قبل الجمعيات والمنظمات الصديقة. بعدها تم انتخاب هيئة رئاسة المؤتمر ولجنة الاعتماد ولجنة صياغة البلاغ الختامي.
 قدمت الهيئة الإدارية التقرير الانجازي السنوي للفترة من 26 / 02 / 2010 ولغاية 29 / 01 /  2011 والمتضمن نشاطات الهيئة الإدارية وما قامت به من إنجازات على مستوى مجالات العمل في الجوانب الاجتماعية والترفيهية والعلاقات العامة والندوات العلمية والثقافية وعقد السمنارات. بعد ذلك تم مناقشة التقرير الانجازي ونوقشت القضايا التي طرحت فيه وقدمت العديد من الاقتراحات والتوصيات التي صبت جميعها على ضرورة تطوير عمل الجمعية وتوسيع نشاطاتها الحيوية لمصلحة المرأة والطفولة وعموم الجالية العراقية ومساندة المرأة العراقية في الداخل. وقد أجابت الهيئة الإدارية على بعض الاستفسارات الواردة من العضوات، وقد نال التقرير موافقة الحضور وتم إقراره والإشادة بعمل الهيئة الإدارية وأثنوا على جهودها.
ثم تلي التقرير المالي المتضمن الوارد والصادر من مالية الجمعية من تأريخ 28 /02 /2010 ولغاية 29 / 01 / 2011 وأشير فيه إلى عدد الاشتراكات السنوية للعضوات والوارد من المساعدات المالية والنشاطات الثقافية والترفيهية والتبرعات. وقد أجابت الهيئة الإدارية على بعض الاستفسارات وكذلك قدمت الزميلة وداد زكي مشكورة توضيحات وافية عن طبيعة التقرير المالي وتوزيع جداوله. وقد أشير في التقرير إلى إرسال مبلغ أربعة آلاف دولار إلى العراق وزعت من قبل الزميلة أم بشرى وعن طريق رابطة المرأة العراقية في الداخل على عوائل الأطفال المصابين بالأمراض السرطانية وكذلك العيادة الطبية الشعبية المتجولة. وقد وثقت الزميلة أم بشرى تسليم المبالغ بالصور والأسماء للمستفيدين من المعونة. وصودق على التقرير المالي من قبل الحضور وتم إقراره.

   
      

بعد هذا قدمت الهيئة الإدارية استقالتها، ليفتح بعد ذلك باب النقاش حول طبيعة عمل الجمعية في الراهن والمستقبل واستعراض بعض الأعمال التي قامت بها بعض الزميلات لصالح الجمعية وأهدافها ومشاريعها. وفي البداية تم قراءة مقترحات لقرارات وتوصيات قدمتها الهيئة الإدارية السابقة وباشر المؤتمر مناقشة تلك المقترحات والتوصيات وتم تعديل بعضها وتقديم بدائل عنها وكذلك أقرت بعض القرارات الملزمة للهيئة الإدارية القادمة من الموجب العمل بها مستقبلا لصالح تطوير عمل الجمعية. منها مواصلة وتوسيع دعم الجمعية للنساء والأطفال المرضى وكذلك العيادة الطبية الشعبية الجوالة داخل العراق وبكافة السبل المتاحة. أيضا إلزام كافة العضوات ممثلات الجمعية بتقديم تقرير عن النشاط الذي يشاركن فيه مع الجهات السويدية وغير السويدية ليتسنى للجمعية دراسته والاستفادة من ما يرد فيه واعتباره واحدا من أعمال الجمعية ونشاطها. وكذلك أكدت الجمعية في توصياتها على ضرورة مواصلة التعاون والتنسيق مع اتحاد الجمعيات العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم وجميع الجمعيات والروابط المتواجدة على الساحة السويدية.
وثمن المؤتمر موقف الزميلة أم بشرى وجهودها الكبيرة والمميزة داخل العراق أثناء سفرها إلى هناك وإنجازها بشكل تام بما كلفت به من مهام.
 وقد أقر المؤتمر رفع برقية تضامن ودعم لشعوب كل من مصر وتونس واليمن في نضالها من أجل نيل الحريات والديمقراطية وحياة أفضل.
بعد ذلك تم أجراء الانتخابات واختيار هيئة إدارية جديدة لقيادة الجمعية للفترة القادمة.




252
ندوة
 
بتاريخ 28 / 01 / 2001 وعلى قاعة نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم أقامت لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في العاصمة السويدية ستوكهولم ندوة مفتوحة للأستاذ جاسم الحلفي عضو السكرتارية العامة لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي في العراق.
في افتتاح الندوة رحب السيد فرات المحسن سكرتير لجنة تنسيق التيار الديمقراطي بالحضور وبالأستاذ جاسم الحلفي وقدم الشكر لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي  لاستضافته وللمرة الثانية فعالية التيار الديمقراطي وتقديمه التسهيلات لعقد مثل هذه الندوة. بعدها تحدث الدكتور عقيل الناصري بشكل موجز عن ضرورة مثل هذه اللقاءات والحراك السياسي الدائر في الوطن بموجباته وأيضا تداعياته الخطيرة والأسباب التي دعت لتشكيل هذا التيار داخل وخارج العراق،معطيا الحديث بعد ذلك للأستاذ جاسم الحلفي.

        
         
شكر الأستاذ الحلفي ووجه التحية للحضور ولجنة تنسيق التيار الديمقراطي في ستوكهولم،  وطلب من الحضور الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء الانتفاضات في تونس ومصر واليمن والتي مثلت انتفاضاتهم قدرة الحركة الاجتماعية في الدفاع عن الحريات والكرامة الإنسانية. بعد ذلك تطرق في حديثه إلى أهمية إدراك مغزى العملية السياسية الجارية اليوم في العراق، والتي يتمحور صراعها في الأساس على شكل الدولة ومحتواها. ويتجلى الصراع فيها بمختلف الأساليب، بما فيها المليشيات لفرض الإرادات في هذا المجال أو ذاك وووفق شروط بعينها.
ويمكن الإشارة إلى إن هناك صراع محتدم بين القوى التي تتبنى العملية السياسية، والمناهضة لها، وهؤلاء تمثلهم القاعدة وبقايا الصداميين، والذين يسعون لعودة النظام المباد وأساليبه في الحكم، فيما تسعى منظمة القاعدة لبناء نظام على وفق نظام  طالبان. وهناك أيضا صراع بين أطراف العملية السياسية ذاتها، مظاهرها تلك الضغوطات الموجه إلى العملية السياسية والمتمثلة في  قوى الردة وهي مجموعة قوى مختلفة،  كما لا يمكن استبعاد قوى الاحتلال ومصالحها وتوجهاتها وطبيعة علاقتها بالقوى السياسية وتأثيرها في هياكل الدولة والمشاريع السياسية. ويمثل تدخل قوى الاقلمية الحالة الأكثر وضوحا، حيث تخضع حركة وتوجهات بعض التيارات والأحزاب السياسية إلى أجندة ورغبات الدول الإقليمية المتصارعة الأهداف والنوايا والذاهبة لتشكيل النموذج العراقي وفق رؤيتها وبما يخدم مصالحها  للتحرك في الإقليم. أيضا يمكن الإشارة إلى الوضع غير المستقر أمنيا وانعكاساته على طبيعة الحراك السياسي مع وفرة السلاح ووجود المليشيات، وهناك الكثير من المشاكل التي تفرض نفسها بقوة على المشهد السياسي في العراق وتحدد مساراته لا يمكن حصرها الآن، مؤكدا على إن العملية السياسية ومن جراء الاحتلال وتلك العوامل شابها الكثير من العيوب والمساوئ ورافقتها العديد من الأمراض التي لا يمكن التخلص منها بسهولة وخلال فترة زمنية قصيرة، ولكن يمكن القول إن مع تنامي الوعي الجماهيري وافتضاح عجز القوى المسيطرة على مقاليد السلطة من تلبية مطالب الجماهير وابتعادها عن مصالحهم وإغراق نفسها بمفاهيم الطائفة والعشيرة والشللية والحزبية الضيقة  جعلها غير قادرة حتى على إصلاح ذاتها فكيف يتسنى لها تقديم نموذج ديمقراطي يلبي طموح الجماهير ويقدم لهم الحاجات الأساسية من المعيشة والأمن والخدمات. 
ضمن هذا المشهد يعمل التيار الديمقراطي، ولذا فأنه تبنى خيار الديمقراطية بجانبيها: الديمقراطي السياسي، والديمقراطي الاجتماعي. فالحق بالتنظيم الحزبي، والنقابي، والتظاهر والاحتجاج، وحرية التعبير عن الرأي، إلى جانب الانتخابات والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة والتعددية، إلى آخر ما تتطلبه الديمقراطية السياسية هو طابع التوجه السياسي للتيار. ومن جهة أخرى كانت القضايا الاجتماعية ولازالت، المطالب الرئيسية  للتيار ومنها : تحقيق العدالة الاجتماعية وحق العمل، والتقاعد، وتوفير الضمانات الاجتماعية والضمان الصحي والتعليم المجاني ومحاربة العوز والفقر والتهميش إلى جانب المساواة على وفق مبدأ المواطنة، واحترام التنوع القومي وحرية المرأة وتوفير إمكانيات نهوضها، وتفعيل مشاركتها في المجتمع وفي السلطة السياسية، وتوفير الخدمات سيما تلك التي تهم حياة ومعيشة المواطن. إن هذه القضايا ،وغيرها، هي ما يهتم بها التيار الديمقراطي و تعد أولوية في برامجه وفي حركته المطلبية التي شهدها تاريخ العراق المعاصر، وروجت لها دائما القوى الديمقراطية  وتركت تأثيرا واضحا في الوعي الجمعي، رغم السنوات العجاف الذي رزح شعبنا فيها تحت ظل النظام الدكتاتوري وأساليبه القمعية التي سعت بكل الأحوال إلى إبعاد القوى الديمقراطية عن التأثير في المجتمع. ونال التيار وقواه وقياداته من النظام البائد التعذيب والتنكيل والإبعاد والاضطهاد المنظم الجسدي والفكري والنفسي وصولا إلى إطلاق ما سمي في حينه بـ " الحملة الإيمانية " التي أريد منها إبعاد كل اثر للفكر اليساري الديمقراطي في البلاد. ولكن رغم ذلك ظلت مفاهيم الديمقراطية التي تبناها اليسار عنوانا للكفاح من اجل تحقيقها. ولم تفلح قوى الإرهاب والإقصاء في تغييب الدور الريادي الذي لعبه اليسار في الترويج للديمقراطية كقيمة إنسانية غير قابلة للتجزئة. لذا فان واحة الديمقراطية هي متنفسنا، وعليه نحن من اشد الحريصين عليها وعلى إعلاء قيمها. ومن هنا نحمل أنفسنا، سوية، مع كل الحريصين على راهن ومستقبل التيار الديمقراطي مسؤولية لمِّ شمل هذا التيار والعمل على وحدة قواه وتنسيق جهوده
ومن أجل ذلك ارتأينا السعي لتشكيل تكتل التيار الديمقراطي وعليه عقد أول مؤتمر لهذا التيار في أيلول عام 2009. وفي ذلك المؤتمر كان هناك اتجاهين الأول أقترح الدخول في الائتلافات المشكلة لخوض الانتخابات والحصول على مقاعد في البرلمان والثاني أشار لضرورة الذهاب إلى الانتخابات فقط كتيار ديمقراطي وطرح برنامجنا المميز والبديل عن الوضع الموجود. وحدث ما حدث. وأصبحت لدينا قناعة بأن أي حزب أو تنظيم ليس بقادر وبشكل منفرد على أحداث التغيير.
وهذا دفعنا للتفكير بأسباب الإخفاق والعودة لسلوك طريق جديد ورؤية واضحة لحشد قوى وشخصيات التيار الديمقراطي، وطرح برنامج واقعي وإظهاره كبديل للمشاريع التي تطرحها القوى السياسية الحاكمة. وكان برنامجنا يصب في اتجاه تحديد مسارات ومشتركات واضحة يتفق عليها الجميع تتمثل في الجانب الفكري والجانب السياسي ومن ثم الاجتماعي. مشروع يتحدث بلغة يفهمها الشارع العراقي ويحوي المسائل الحيوية اليومية المتعلقة بالواقع المعاشي والخدمي ومن هذا سعينا لطرح برنامج اجتماعي في محتواه تجتمع عليه شرائح المجتمع ونخبها السياسية والثقافية من مثقفين ومحامين وباحثين وأساتذة وأطباء ومهندسين وجميع المهتمين بالشأن الحياتي العراقي ولهم مصلحة بالديمقراطية. ولحد الآن استطعنا تحقيق إنجازات كثيرة في هذا المجال فقد عقد 18 مؤتمر، ستة منها في بغداد والباقي في المحافظات حضرها ما يقارب الـ 5000 شخصية على مستوى العراق واليوم لدينا ما يقارب الـ 400 شخصية قيادية في هذا التيار وهناك 18 إلى 25 شخصية في كل محافظة تشكل اللجان التنسيقية للتيار هناك.
        
 
             
 
بعد استراحة قصير شارك الجمهور بتقديم مداخلات وأسئلة وجهت إلى السيد الحلفي عن طبيعة التيار وتسميته ومبررات حصره في طابعه اليساري ونموذجه الاجتماعي. وعن ضرورة أيجاد منابر عديدة للتيار وتشكيل منتديات شهرية ثقافية سياسية اجتماعية تروج لمشاريعه، كذلك الاستفسار عن موقف قوى التيار من باقي الفعاليات اللبرالية والعلمانية والدينية المتنورة وضرورة التحرك نحوها ومحاولة التنسيق معها وضمها إلى التيار. وأكدت المداخلات على أهمية وضرورة مثل هذا التشكيل للوقوف بوجه الموجة الرجعية والعمل على أخراج العراق من الوضع المأساوي الذي يعيشه في ظل السياسات غير العقلانية والمؤذية التي أضرت بالعملية السياسية والحياة اليومية للجماهير. 
بعدها رد السيد الحلفي على تلك المداخلات والأسئلة قائلا: مع كل تلك الوقائع التي أشرتم أليها وشخصتموها، دعوني أشير أولا إلى ظهور حركات شعبية جديدة تستخدم وسائل الإعلام المتطورة وهي في توجهاتها العامة تنحوا للنضال ضد أشكال القسر وسياسات الترويع وتكميم الأفواه والتجهيل في المجتمع وعلى التيار الديمقراطي أن يضع في حساباته تلك القوى الناشئة ويناصرها، وفي الوقت ذاته يستخدم مثلها بمنهجية واعية إمكانيات وسائل الإعلام المتطورة. وعلى هذا التيار التحرك لملأ الفراغ وعرض رؤيته للواقع ومشروعه المستقبلي، ومثل هذا التحرك مهم جدا بين أوساط الجماهير التي ملت الكذب والنفاق السياسي والطائفي مع استشراء الأوضاع السيئة وارتفاع معدلات الفقر وسرقة المال العام.
أما علاقتنا بالتيارات اللبرالية والإسلامية المستقلة فهي علاقة جيدة ولكن هناك في تلك الأوساط تردد يواكبه جملة من الاشتراطات وكذلك خلاف في المنهجية حول بعض الرؤية للواقع الاجتماعي والديمقراطية وكيفية توزيع الثروات بين المدن العراقية. وهناك قوى ديمقراطية تروج لمفهوم اقتصاديات السوق المنفلتة وهي تخالف طبيعة ومحتوى منهج التيار الديمقراطي وما نسعى أليه من تأمين مصالح الجماهير. 
 
 واستعرض الأستاذ جاسم الحلفي بعدها مجمل الأوضاع التي تتطلب تشخيص سليم للمهام والحركة ودفع المزيد من الشخصيات والشرائح الاجتماعية للمشاركة في رصد الأوضاع العامة وبلورة حركة نضالية قوية.
في نهاية الندوة قدم الأستاذ فرات المحسن باسم لجنة تنسيق التيار الديمقراطي العراقي في ستوكهولم باقة ورد للأستاذ جاسم الحلفي شاكرا له تلبية الدعوة والحضور وتقديم جهد ليس بالهين لشرح طبيعة التيار الديمقراطي وتوجهاته وأهدافه الحالية والمستقبلية. وعلى هامش الندوة عقدت جلسة مصغرة ضمت أعضاء لجنة تنسيق التيار في ستوكهولم والسيد الحلفي دار الحديث فيها حول طبيعة العلاقة بين تشكيلات التيار في الخارج والداخل وطرحت أفكار عديدة عن أهمية التنسيق بين تشكيلات التيار في المدن السويدية وأيضا مع باقي التشكيلات في أوربا وباقي العالم لتقديم الدعم المعنوي والمادي لتيار الداخل وقد أكد السيد الحلفي على طبيعة عمل التيار الديمقراطي في الداخل والنية لعقد مؤتمر موسع يحضره أعضاء من خارج العراق وداخله. وقوى التيار وشخصياته في الداخل تستعد اليوم لتهيئة الظروف المناسبة لحضور شخصيات الخارج بالرغم من الإمكانية المادية الضعيفة أملا على أيجاد مثل تلك القدرة لتجاوز الصعوبات. وشكر لجنة تنسيق التيار على جديتها واهتمامها بمحتوى العمل ومهامه.
 
إعلام لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في ستوكهولم
    

253
المنبر الحر / البو عزيزي العراقي
« في: 12:38 24/01/2011  »
البو عزيزي العراقي


فرات المحسن

دفع بي وضع العراق المأساوي والحال الذي وصلت أليه الخدمات والفقر المزري الذي جعل ثلثي الشعب العراقي تحت خط الفقر يهرولون وراء لقمة العيش طوال يومهم والعشه خباز، وفوق هذا وذاك يتطلعون للثلث الباقي وهو يمتلك الخيرات والقصور الفارهة ويلتهم السحت الحرام ومع كل هذه الخيرات يحسدون الأخرين ويتطلعون نحو الناس من عليين. أيضا فكرت بالنخب السياسية الحاكمة واستهتارها بالقيم الوطنية وسرقتها لجهود الناس وأرزاقهم وفقدانها قيم الشهامة والنخوة وصحوة الضمير ونكران ألذات وطمعها الذي أعماها فراحت تنهب خيرات العراق وتعيث بالأرض فسادا وكل يوم ترفع من سقف مطالبها لحلب ضرع الدولة وتنظر بتعال إلى الناس وتعدهم قطيع من خراف ليس إلا.
اليوم جلست في غرفتي وأوصدت على نفسي الباب وقررت أن أختلي بروحي وأغلقت نفسي وشهيتي عن كل شيء ولم أجلب معي غير باكيت سجاير أبسن وأخر أسمه بنيتت وجدت سعره  يتوائم وأخر ما تبقى في جيبي من خردة نقود. قبل الساعة الواحدة ظهرا كنت قد صرعت ثلاثة أرباع  سجاير بنيتت فأحال دخان السجائر الغرفة إلى ما يشبه غبرة يوم من أيام آذار العراقي. شعرت بالكثير من الراحة والاطمئنان لاكتمال عزلتي عن العالم بمثل هذه الأجواء المغبرة. فللحقيقة أنا محتاج لمثل تلك الطقوس لإكمال مناقشة الموضوع الذي اتخذت قراره يوم البارحة.
 البارحة اجتاحني غضب عارم وأنا أفكر بالشعب العراقي وبنخبه السياسية. لم أدع زاوية من زوايا الوضع دون بحوشتها بتأني وتمعن. السؤال الأول الذي ورد في خاطري كان جوابه صعب المنال رغم إن المعاينة الحياتية تدفع نحو احتمال مقنع بصعوبة أن يكون الشعب العراقي بكل تلك الجاهلية والتهريج والهوس بالخرافات وضعف الإرادة والتشظي يستحق من المرء أن يجود بروحه من أجله، أيضا وهو السؤال الأخر الأكثر إحراجا يا ترى لو إن المرء أشعل النار بجسده وسط الشارع مثلما فعل ألبو عزيزي التونسي، سوف ينال بعد ذلك الحدث اهتمام النخب السياسية الحاكمة ويخيفها وفي الوقت ذاته يحرض الشارع عليهم فتكون هناك ثورة عارمة تغير الأوضاع السيئة. سؤالان صعبان وقفا أمامي واجتاحا كياني وأنا ألتهم السجائر واحدة من جعب الأخرى في محاولتي للوصول إلى أجوبة تقنعني بالعدول عن قراري أو العكس الذهاب إلى حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أهووو هم هاي مو خوش سالفة لأن أنا لم يكن قلبي سليما على طول الخط تجاه ربي ولذا سوف تنقلب محاولتي وما أنوي وأريد منها إلى الضد، والسبب الأول في ذلك أني وبعد أن شاهدت وسمعت وعاينت وراقبت رجال الدين وقادة الأحزاب التي ترتكن إلى الدين في دعايتهم وفذلكاتهم وريائهم وما يقوم به رجال ونساء من حملة الشهادات العليا من أفعال وترهات مستهجنة وخرافية، وكذلك بعد أن شبع ناضري من مشاهدة ما يفعله الناس بأنفسهم في أيام التعازي الشيعية من لطم وزحف وتطبير والذي يقابله وبذات الطبيعة ما يفعله المتدينون من السلفية السنية في تفخيخ أنفسهم وتفجيرها وسط الناس، كل ذلك جعلني أقتنع بكامل الرضا واليقين والرسوخ بأن الأخ صاحب اللحية والكفشة البيضاء حجة الماركسيين والشيوعيين طيب الله ثراه المسمى كارل ماركس كان على كامل الحق وعين الصواب حين أعلن بأن الدين أفيون الشعوب دون ريب، وأنه لقادر على جعل الناس في قمة النشوة السادية أو المازوكية. تأخذهم اللذة مكبسلين أو مسطولين على طول الخط ليذهبوا إلى حتفهم و مبتغاهم بنشوة العاشق الولهان وهم ينشدون نشيد الظفر وكأنهم في معركة تحرير، طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع.. وبدون مقدمات يدخلون  الحومة تطبيرا أو تفجيرا .
صباح البارحة ذهبت إلى المقهى وجلست عند التخت المفضل في صدر المقهى، تذوقت طعم الشاي الذي قدمه لي صاحب المقهى  فشعرت بطعم الخشب المحترق. جال نظري في الوحل الممتد أمامي على طول الشارع والمخلوط بأكوام النفايات وشممت روائح العفونة التي تنقلها موجات الأتربة المتصاعدة في الفضاء الفسيح ووجوه الرجال المغبرة وعباءات النساء الكالحة. وأنا في قرفي وضجري هذا وجدت صاحبي عقيل حاروكه يلكزني لينبهني بوجوده جواري.
ـ ها أشو مدولغ ؟ وين رايح مخك.. بعدك بسوادينك
ـ ليش أنته ضل عندك عقل حتى تتهمني بالسوادين. أشو تلث ترباع العراقيين صارو مثلنا مخابيل وأكثر...صدك  عقولي ... همزين أجيت.. عندي سؤال.
ـ كَول .. بس لا تجفص..
ـ لا جديات.. إذا واحد حرك نفسه مثل البو عزيزي  التونسي كدام البرلمان العراقي راح هذا الشي يسوي ضجة بالعراق وتطلع مظاهرات وتسقط الحكومة ويتفلش البرلمان.
ـ أني أعرف أنته مثل كل مرة راح تلوص وتجفص .. بس هم ميخالف راح أجاوبك.. أنته دائما تكَول أني من أسمع أسمك عقيل أتذكر أولاد مسلم أبن عقيل.. مو هذا صحيح.
ـ أي صحيح .. بس هذي أشجابها على هذي.
ـ حبيبي أبو السوم .. لو تحرك نفسك وتحرك أمك وعصابتها وأبوك وجنبر الجكاير مالته وعشيرتك ما راح تطلع على مودك مظاهرات.. وراح الوادم تلوم بيك مو بغيرك... وتطلع دعايات أشكال أرناك عن سبب حركَك الروحك، جميع النهابة والسلابة مشاركين بالحكومة وهذا يعني أنهم راح يقفلون عليك وتموت ويموت وياك الدوشش، وما من ناصر يناصرنا ومعين يعيننا.. وأخيرا تصبح مثل أولاد مسلم من طبو الكوفة واشتغلت عليهم السيوف ومحد ناصرهم بعد ما ورطوهم بالرسايل والدعوات. وفوك كل هذا وأعتقد وربك المعبود راح البرلمانيين يجون يتضاحكون ويورثون جكايرهم من النار المشتعله بيك، وبعدين يصدر بيان يتهمك بأنك مشارك بسرقة المال العام وفعلت هذا لإخفاء جريمتك ومن شاركك فيها، لو أنك كنت إرهابي تنوي تفجير نفسك وفشلت المحاولة، بعدين تروح رويحتك العزيزة بوله بشط.  بسك عاد من هل السوالف الفاينات البايخات.
البو عزيزي آل. ليش هو أكو واحد يستاهل تحرك روحك عله موده. بعدين إذا أنته ناوي على هذا، ليش متفخخ نفسك وتفجره بنص البرلمان لو مجلس الوزراء هم تخلصنه من هذوله الميستحون الهتلية الحرامية وهم نخلص من جهرتك الزفرة. وشنو يابه أنته أم حنينه على الجوعانين والعريانين ليش مو همه ألي أختارو أعضاء البرلمان لو غيرهم،  ليش منو انطه صوته الدولة القانون وباقي الشلل من النشالين.

اليوم وفي غرفتي فكرت مليا بحديث عقيل حاروكه الذي أربك حساباتي وضعضع قناعاتي، وجالت بخاطري جميع الاحتمالات. وفجأة تنبهت إلى أمور كانت خافية عني، أولها هل أستعمل تنكة بانزين أم تنكة نفط،  وهل إن الاشتعال هو ذاته في المادتين، وهل إن استخدام عبوة البلاستك أفضل من صفيحة التنك، وأي لباس علي ارتداءه كي يعجل الاحتراق سريعا، فأنا لا أريد أن اتشعوط وأنسلك لمدة طويلة.   في نفس الوقت، أنا لا أمتلك عربة خضار مثلما كان يمتلكها البو عزيزي لتصادرها مني أمانة العاصمة، ولم أشاهد شرطيا أو حتى أمين العاصمة السيد العيساوي أو ناطقها السيد تحسين الشيخلي يصادر عربة من أي نوع  لا بل هم من سمح لأي كان في فتح بسطة في كل بقاع بغداد والعراق على شرط عدم المساس بأرض الله المباركة المسماة المنطقة الخضراء. فكرت في هذا وأردت أن يكون لدي جنبرا أو بسطة أو عربة كي تصادر مع محتوياتها من قبل قوى الأمن حينها سوف أشعل النار في جسدي المقدس لتلتهب ثورة الجياع  والعريانين.
 أي دبرت.. فكرت أن أسرق جنبر الجكاير العائد لأبي واقف في اقرب منطقة لبوابات المنطقة الخضراء والمؤدية إلى البرلمان.  لن يلومني أبي على سرقة بسطيته ومصادرتها من قبل أمانة العاصمة، وحتى عائلتي لن تحزن على موتي لأسباب واضحة وضوح الشمس منها خلاصها من واحد عكره ولغوي وبس يلوج وفوكاهه يشرب عرك، وعلاوة على ذلك سرق جنبر الجكاير. والسبب الأخر سوف يجعلها تتبرأ مني بعد أن توجه لها الحكومة تهمة العلاقة العائلية بإرهابي أراد تفجير نفسه قرب البرلمان ولكن رحمة الله وجاه الأئمة عنده جعلت العبوات توج في جسده قبل أن تنفجر على المخلصين من القادة. وقبل هذا فالسبب الأكثر أقناعا ومجلبة للسعادة لعائلتي بعد التخلص مني سيكون تهافت بعض أغنياء الخليج والطلب من أبي بيع جمبر الجكاير لهم والذي سبب في اشتعال لهيب الثورة العراقية، وبمبالغ خيالية لم يكن يحلم بها. وهم من فرط غناهم الفاحش واستهتارهم يريدون الحصول على أدوات أعدائهم الفقراء من الأحذية والنعلان والجنابر ليشعروا بالاطمئنان بعد الاستحواذ على أدوات الفقراء الجارحة وكأن الدنيا خلت من النعلان والقنادر بعد نعال أبو تحسين وعربة البو عزيزي. والمهم أيضا أن أختار اليوم المناسب حيث يجتمع فيه أكبر عدد من البرلمانيين ليكون منظري مؤثرا عندهم وأنا أشتعل لهبا حارقا يكوي أفئدتهم. ولكني توقفت في تفكيري عند تلك اللحظة من الاشتعال وتساءلت هل من ضرورة لوجود وسائل إعلام لنقل المشهد. هيئة الإعلام والاتصالات العراقية ومحطاتها الفضائية وإذاعاتها سيكون موقفها مني معروفا، فسوف تذهب للتحريض ضدي وتختلق الروايات عن سبب انتحاري وهي لن تقبل بغير التصريح الصادر عن قاسم عطا أو اللواء الفريق أول ركن الجنرال كمبر علي. وهنالك محطات يهمها أمر موتي اشتعالا لتذهب بعيدا في فبركة الحدث وتصعيده لترفع من شدة اللهب الحارق وتجعل مني رجل الساعة الذي ضحى بنفسه من أجل تحريض الشعب للثورة على الطغيان وتنبيه الناس لأوضاعهم المزرية التي ذهبت بالعراق إلى الدرك الأسفل في قائمة الشعوب الفقيرة. 
ـ يمه سويلم بعدك بسوادينك...
كان صوت أمي يلعلع في باحت الدار
ـ ليش يمه شتردين.
ـ أنا وأبوك وأخوتك رايحين نروح ويه موكب أبو زهراء نزور بنات الحسن ونطلب مراد..سيارة بلاش وغدوة على حساب الموكب وهمين كل واحد باكيت جكاير..ليش ما تجي ويانه بلجي  بنات الحسن يطلعن الطنطل من راسك.
ـ متأكدين أكو باكيت جكاير
ـ غمه الغمتك بكلشي متصدك ، جا السيد أبن رسول الله يصير يجذب. شني نسيت البطانية مال الانتخابات.
ـ هسه راح ترحون لو بعدين
ـ لا يمه هسه راح نروح..  بس أبوك يودي الجنبر والجكاير ويضمهن يم جارتنه الزايره أم جوده ويجي.
ـ خوش انتظروني بس ألبس هدومي.


254
دعوة لعقد إجتماع لأطراف التيار الديمقراطي

الأخت الفاضلة / الأخ الفاضل

تحية طيبة .. وبعد

تعيش بلادنا الحبيبة منذ غزوها وسقوط الدكتاتورية، ظروفاً غاية في الصعوبة والتعقيد، حيث حُطمت الدولة وأهدرت السيادة الوطنية وتحول الوطن الى ساحة لجرائم الإرهاب ونهب المال العام وغابت الخدمات وتضاعفت البطالة وخيم الجوع والخوف والجهل والمرض على بيوت أهلنا. ورغم نجاح القوى السياسية العراقية في البدء بإعادة بناء الدولة ، فإن معوقات كبيرة ما زالت تعترض تحقيق طموحات شعبنا في الخلاص من تبعات الاحتلال و الهيمنة، وتوفير الخدمات الأساسية ومكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن والاستقرار ومواجهة الفساد وإعادة تأهيل الاقتصاد وامتصاص البطالة وتطوير التعليم وعصرنته وتوفير الضمان الإجتماعي والصحي للجميع، إضافة الى قيام نظام ديمقراطي يصون الهوية الوطنية الجامعة لكل العراقيين وعبر انتخابات عامة نزيهة، يتم الإلتزام بنتائجها وبما تشترطه من تداول سلمي للسلطة.
أن إستنهاض قوى التيار الديمقراطي  وتوطيده وتحقيق تنسيق وتضامن كامل بين أطرافه شرط أساسي لوضع بلاد الرافدين على طريق  تحقيق السيادة التامة و التقدم والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وإخراجها من الأزمة الشاملة التي تعيشها، وهذا ما دفعنا لتشكيل لجنة تحضيرية أخذت على عاتقها تنظيم إجتماع للتداول في أبعاد وآلية تحقيق هذه المهمة النبيلة.
وإذ تتشرف اللجنة بدعوتكم لحضور الإجتماع التحضيري الذي سنعقده في مدينة ستوكهولم نأمل أن تلبوا دعوتنا وتساهموا معنا في الجهود الرامية تخليص عراقنا الحبيب من أزمته.
وتقبلوا خالص التقدير

المكان: ستوكهولم منطقة الفك قاعة نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي
الزمان: الجمعة 14 / 01 / 2011  الساعة السادسة والنصف مساءً

برنامج الإجتماع
•   كلمة اللجنة التحضيرية
•   إختيار هيئة لرئاسة الإجتماع
•   مناقشة البيان التأسيسي للتيار الديمقراطي في ......... وتعديله وإقراره
•   إنتخاب لجنة تنسيق التيار الديمقراطي في مدينة ......................... السويدية.




المهام البرنامجية
لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في السويد


التيار الديمقراطي العراقي في السويد، تجمع حر يضم في صفوفه ممثلي القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني والحركات الشعبية التي تؤمن ببناء دولة مدنية ديمقراطية في بلادنا الحبيبة عبر:
1.   مراقبة الالتزام بالدستور وحمايته والاحتكام اليه لحين تعديله باليات دستورية نحو الافضل بتوسيع دائرة الحقوق وهوية الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية.
2.   سن قانون للاحزاب وبمحتوى ديمقراطي.
3.   تشريع قانون انتخابات جديد يعزز مبدأ تكافؤ الفرص لجميع القوى الوطنية ويضمن المشاركة النزيهة والعادلة والحرة ويلغي نهج الاستفراد والإقصاء.
4.   الدعم القانوني للإعلام المستقل العام.
5.   تشكيل المفوضية المستقلة لحقوق الانسان و الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية ذات الصلة.
6.   احترام التنوع الثقافي للشعب وصيانته وتعزيز اواصر الوحدة الوطنية بين قومياته المختلفة وعلى أساس الهوية الوطنية الجامعة.
7.   توطيد الأمن والاستقرار والسلم الاهلي واستكمال معالجة الملف الامني ومشروع المصالحة الوطنية بين القوى التي تؤمن بالتطور الديمقراطي السلمي للبلاد وتدين كل اشكال العنف والارهاب.
8.   المساهمة في فضح قضايا الفساد والتلاعب بالمال العام وتعريتها والمطالبة بتقديم المتهمين الى المحاكم المختصة وانزال القصاص العادل بحق المدانين.
9.   بناء وتطوير شبكة الضمان الاجتماعي ودعم البطاقة التموينية والعمل على توفير فرص عمل جديدة ، وخفض معدلات الفقر وتوفير ضمانات العيش اللائق للشرائح الاجتماعية المتضررة (الأرامل ، الأيتام ، الموظفين ، المتقاعدين ، المفصولين السياسيين ، وضحايا الدكتاتورية والإرهاب).
10.   معالجة مشاكل الكهرباء والماء والنقل والمنشئات النفطية وتحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية ، وتطوير شبكات الصرف الصحي والبنى التحتية في مجال الطرق والمواصلات ودعم مشاريع البناء لمعالجة أزمة السكن.
11.   تامين دور فعال للمرأة في المؤسسات المختلفة وتعزيز مكانها في المجتمع ، ودعم حقوقها في المساواة والمشاركة والمطالبة بسن قانون جديد للأحوال الشخصية يلغي كل أشكال التميز ضد المرأة.
12.   ضمان حياة أفضل للطلبة والشبيبة وتطوير التعليم وتحسين نوعية ورعاية الجامعات وتطوير البحث العلمي واحتضان الاكاديميين ورعاية الكفاءات العلمية.
13.   تفعيل دور منظمات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات والجمعيات ، ودعم استقلاليتها.
14.   اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان حقوق المهجرين ( الداخل ، الخارج ) وتشجيعهم للعودة دون ضغوط سياسية أو اقتصادية.
15.   المطالبة بوقف نهج المحاصصة الطائفية والاستئثار الفئوي بإدارة شؤون الدولة.
16.   إحداث تنمية ثقافية متطورة.
17.   إعادة أعمار البلاد وتحقيق التنمية ، والبدء بتأهيل المنشئات الصناعية والاهتمام بالقطاع الزراعي وتأمين الحصول على حصة عادلة من مياه دجلة والفرات، وحماية الثروات الوطنية ، وتوظيفها في تنمية الاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية.
18.    حماية البيئة العراقية والعمل الجاد على إزالة مخلفات الحروب والمواد الضارة بصحة ودعم الجهود المحلية والدولية الهادفة الى إزالة الألغام في مختلف مناطق البلاد.

*******

آليات عمل التيار الديمقراطي العراقي في السويد

1.   تمتين علاقة أطراف التيار بابناء الجالية وتعبئتها للدفاع عن أهداف التيار.
2.   الإهتمام بالشباب والجيل الجديد من أبناء العوائل العراقية السويدية وتعزيز علاقاتهم بوطن أبائهم.
3.   تعزيز مساهمة المرأة العراقية وحشد المنظمات النسوية من اجل الدفاع عن حقوق المرأة في المساواة الشاملة.
4.   عقد المهرجانات الثقافية الفنية والادبية ( سينما ، مسرح ، شعر...)، والتحفيز على تنظيم الندوات والسمينارات العملية والاكاديمية.
5.   تنظيم طاولات وورش عمل تخص البناء الدستوري والتشريعي ( قانون الأحزاب، قانون الانتخابات...).
6.   اطلاع الرأي العام الوطني والعالمي عن طريق إصدار البيانات والتصريحات إزاء الأحداث التي تشهدها الساحة الوطنية والإقليمية، والتركيز على مطالب المواطنين وانتهاكات حقوق الإنسان وقضايا العدالة الانتقالية. و تعزيز اللقاءات مع الأوساط الإقليمية والدولية.
7.   الحضور الاعلامي الفاعل  والاستفادة من تعدد وسائل الاعلام و تنوعها و انفتاحها على الجميع.
8.   توسيع وتنشيط العلاقات مع منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والجمعيات ودعم استقلالياتها وتوجهاتها الوطنية والمدنية والمهنية، والعمل على سد المنافذ أمام المحاولات الرامية  إلى التحزب الضيق داخل هذه المنظمات والى الإقصاء والهيمنة والتهميش للاخرين.
*****************************



255
كلمة السر مقر اتحاد الأدباء

                                                                                                              فرات المحسن


استطاع رجال الدين والأحزاب الدينسياسية وأتباعهم، تحويل الخصومة حول الحريات المدنية إلى نزاع بين الكحوليين وغير الكحوليين وأختصر الأمر بمقولة أن هناك من يطالب بإباحة المحرمات والسماح بتناول الكحول في الشوارع وجعل عري الراقصات هو المطلوب لتجميل وسط المدن العراقية. وهؤلاء هم الزنادقة الكفار من الشيوعيين والماركسيين ودعاة الديمقراطية الغربية.
إثر الحملة التي قادتها جريدة المدى لصاحبها السيد فخري كريم المستشار الأول لرئيس الجمهورية والتظاهرة التي أنظم لها الأدباء وجمع كبير من المثقفين والديمقراطيين في شارع المتنبي. حشدت قوى الرجعية أدواتها وعدت عدتها لاستكمال المهمة ممهدة هجومها بتهديدات ووعود وكلمات هابطة وصلت في البعض منها إلى الطلب من الرعاع تصفية هؤلاء دعاة إباحة الفجور والفسوق. ووجه هؤلاء الظلاميون سهامهم في جميع الاتجاهات ولم يبخلوا على أي من العلمانيين واللبراليين والديمقراطيين وحتى الشيوعيين بالشتائم والكلام الساقط والتهديدات بالتصفية. وشيئا فشيئا ركز وكثف الهجوم على الحزب الشيوعي العراقي، متهمة إياه بقيادة الحملة المضادة لإجراءات خنق الحريات. وبالرغم من إن الحزب الشيوعي العراقي حدد اعتراضه على غلق النوادي الاجتماعية ومنها نادي اتحاد الأدباء وطلب تنظيم عملية منح أجازات وتراخيص للجميع ووفق القوانين السارية والمعتمدة، ولكن هذا الأمر لم يشفع له لحد هذا الوقت. فخطباء الجمعة ومحطات التلفزيون الدينسياسية  بدأت تصب جام غضبها وبتركيز مكثف على الحزب الشيوعي، معلنة بأن من يعترض على غلق البارات والنوادي هو الحزب الشيوعي وأعضاءه دون سواهم، وما دار المدى وحملتها وكذلك من قام بالتظاهر في شارع المتنبي غير أتباع أو أذرع للحزب الشيوعي. مثل هذه الخلط لم يأت عفو الخاطر أو جهل بواقع الحال بقدر ما هو عملية مدروسة ومعد لها بحرفية واعية وتدار وفق سياقات أعدت من قبل رؤوس لا يخفى على الشعب العراقي موقفها السابق والحالي ومدى قلقها وتطيرها من وجود الحزب الشيوعي في الشارع العراقي.
العملية مدروسة وبشكل دقيق من قبل الأحزاب الدينسياسية وبمباركة رجال الدين وسوف يشارك فيها جمع غفير تختلف دوافعهم ولكنهم جميعا يلتقون بخوفهم من وبغضهم للشيوعيين والديمقراطيين ودعاة الحريات المدنية. وبالرغم من إن هذه الحملة ليست وليدة اليوم ولكن هجومها الرئيسي والمركز بدء الآن وعملية إغلاق النادي الاجتماعي لاتحاد الأدباء كانت كلمة السر للبدء بصولة (( فرسان ؟!)) تضرب بالعمق الحزب الشيوعي وغيره من الديمقراطيين.
مثل هذا السيناريو البغيض سبق أن نفذته القوى الدينسياسية ورجال الدين وتوابعهم في العام الثاني لقيام الثورة الإسلامية في إيران. في ذاك الوقت حين أطمئن رجل الدين الخميني وحاشيته بأن الشارع الإيراني قد سيطر عليه من قبل أتباعه، صدرت الأوامر للشروع بحملة منظمة ضد حزب تودة وهو الحزب الشيوعي الإيراني، الذي شارك بكامل قوته بالإطاحة بسلطة الشاه وقدم الضحايا من أجل حرية الشعب الإيراني بلغت أكثر من ما قدمته الأحزاب الدينسياسية. قام أتباع رجال الدين الخميني باعتقال خيرة قادة حزب تودة وأعضائه ليتعرضوا لأنواع بشعة وسادية من التعذيب الوحشي ثم يتم عرضهم على شاشات التلفزيون ليقدموا اعترافات مفبركة بخيانتهم للوطن الإيراني.
اليوم ذات العملية تكررها الأحزاب الدينسياسية العراقية للبدء بعملية تصفيات جسدية ومعنوية لأعضاء الحزب وأصدقائهم ومناصريهم وكذلك لجميع الديمقراطيين العراقيين. حملة بدأت بكلمة السر (( غلق المقر الاجتماعي لاتحاد الأدباء العراقي))  وهي عملية تجمع بين خسة فعل  قادة إيران ضد حزب تودة والديمقراطيين الإيرانيين، وقذارة وخسة حزب البعث يوم أنهى الجبهة الوطنية بمجزرة بشعة لجميع الديمقراطيين ومن لهم علاقة بالحزب الشيوعي.
يا ترى هل إن الحزب الشيوعي العراقي قد استعد للمجزرة القادمة التي ينتظر أن تنفذ ضده على يد الأحزاب الدينسياسية أم تراه سيكرر موقفه الذي اتخذه من خيانة حزب البعث للجبهة الوطنية ويقف ذات الموقف الصعب المتخبط لتكون هناك مجزرة أو هجرة جديدة لأعضائه وأصدقاءهم ومناصريهم.
ونتسائل عن موقف الأحزاب الكردية مما يجري من خروقات للدستور وبالضد من الحريات المدنية ومن محاولات شركاؤهم في السلطة لبناء دولة العراق الإسلامية. ففي الوقت الذي نجدهم يقاتلون من أجل المناصب وتقاسم السلطة، ويصرون على حقوق إقليم كردستان في الأرض والخيرات وهم من يدعي شراكتهم في الوطن العراق، ويسمون أنفسهم أحزاب علمانية، نجدهم اليوم يقفون موقف الحياد وكأن ما يجري في باقي الوطن لا يعنيهم لا من بعيد ولا من قريب، أو أنه يحدث في دولة جارة يرفضون التدخل في شؤونها الداخلية، ومثلهم يفعل السيد أياد علاوي ومجوعته تحاشيا لغضب جديد يبعده وبعض قادة العراقية من العلمانيين عن المناصب.
على الشيوعيين والديمقراطيين الاستعداد للهجمة القادمة، فقد أعطت الأحزاب الدينسياسية أشارة بدء الهجوم، ولا تخدعكم التقية الدينسياسية فهي مماثلة في نواياها واستعداداتها لما فعله حزب البعث. 

256
أجندة الأحزاب الدينسياسية

                                                                                                                       فرات المحسن
 
لا يبتعد نظر الكثير من أعضاء حكومة العراق وكذلك أتباعهم في مجالس محافظات الوسط والجنوب ابعد من أرنبة أنوفهم، حين النظر لمشاكل البنى التحتية المتضررة في أماكن مسؤولياتهم. بل تراهم يفضلون الأخذ بالحلول المبتورة والكسيحة، ليكونوا وفي الأعم المسبب في جلب ما يزعج ويؤذي المواطن ويضعه في تخبط وخيبات وأمراض نفسية وجسدية. فجميع هؤلاء يتصرفون وفق حساباتهم القاصرة وأعراف ومناهج تعلموها ورسخت في أذهانهم والتي بدورها تحدد لهم أطر العلاقة مع الوطن والمواطن ومؤسسات الدولة. فنموذج الفوضى ونقص الخدمات وتفشي الجهل، في حساباتهم هو المفضل، كونه يوفر الفرصة لإدامة المشاريع الدينسياسية للسيطرة على الناس وقيادتهم وفق مناهج ومفاهيم مبسترة لطبيعة الحياة ومساراتها، لذا فهم يعتقدون، بل البعض منهم يجزم بأن نقص الخدمات مع تفشي الضلالات والجهل وحدهما ما يجعل الناس تتمسك بالدين والعقائد وإن المدنية والعمران والخدمات الجيدة سوف تجعل الناس تبتعد عن الدين وتغرق في لهو عابث وبضائع مفسدة. ولا يختلف من يقود السلطة باسم الدين عن بعضهم في هذا التفكير والسلوك شيعة كانوا أم سنة حتى وإن تنافروا في العقائد والأعراف. فموقف أهل الدينسياسة من الرياضة والفن بمختلف أنواعه والثقافة والعلوم بتعدد انماطهما، معروف وليس بخاف على أحدا. ولن نعجز عن اكتشاف تلك الطبائع والتوجهات غير السوية لو دققنا في السبع سنوات العجاف التي سيطر فيها هؤلاء على الشارع السياسي والسلطة في وسط وجنوب العراق. فهم ساعون لإبقاء حالة الخدمات على شحتها وسوئها مع جهد مبذول لتعميم ثقافة التجهيل والشعوذة، ومهمتهم تصب في أبقاء الوعي مغيبا والعمل على استلاب هوية الناس الوطنية وتحويلها إلى هوية موحدة مسيطر عليها وخاضعة ومشدودة لتيار يلهث وراء فكر السلف، يمجد رأي واحد ومنهج واحد، مغلق وكاره للحوار وكل ما يمنح الناس المعرفة، لا بل يخلق الأزمات ليبعد الناس عن التطور الإنساني الحضاري والحداثة. وتلك الأيدلوجيات السلفية بمختلف مذاهبها وفرقها وتفرعاتها تضع في مقدمة حساباتها إبعاد المثقف التنويري عن المشاركة في العملية السياسية والثقافية عبر تحجيمه وغلق المنافذ عليه أو تغييبه.
وتترافق هذه الأفعال بفكر منهجي ينهل من تقاليد وسلوك أهل القرى والأرياف وأعراف البداوة والعشائرية. ويعزز هذه الظاهرة وجود غالبية منحت سلطات واسعة، قدمت من أرياف العراق وقراه وفقعت فجأة مثل الفطر متسلقة السلطة وإدارة مؤسسات الدولة من خلال انتمائها لتلك الأحزاب الدينسياسية.
 
وكطبيعة راسخة لمفهوم التقية بنموذجيها الديني والسياسي وحرصا من السلفيين بتعدد أقنعتهم على أبعاد حقيقة تهمة التخلف والظلاميه الملتصقة بهم والتمويه على وقائعها وحقائقها، تجدهم يبحثون عن مقاربات يحاولون فيها التغطية على سلوكهم المعوج والغريب. فيعلنون بين الحين والأخر عن مشاريع ثقافية وفنية ورياضية ترصد لها مبالغ ضخمة، بعد ذلك تتحول تلك المشاريع إلى مهازل ثقافية وفنية تروج فيها قيم التخلف والركاكة والنفاق الديني والسياسي، لا بل تكون تلك المشاريع أبواب مشرعة لسرقة المال العام والضحك على الذقون.
وإن تفحصنا المهرجانات المتكررة التي تقام في العراق من قبل روابط ومؤسسات السلطة وكذلك الأحزاب الدينسياسية، وخاصة ما تسمى بالفعاليات الثقافية والفنية منها، لرئينا العجب العجاب مما يجري خلف الكواليس، والجهد الجاد والقسري لاحتواء تلك الفعاليات ثم تجيرها لصالح فكر بعينه ليروج فيها لثقافة القرى والأرياف والبكائيات والعويل واللطم على الصدور أو الدرباشة والدروشة والثوب القصير والتكايا التي تستلهم فكر الضلالات وخداع الناس وتحفزهم لكره الأخر المخالف للمذهب والرأي.
ومن خلال عمليات تمويهية يقدم قادة الأحزاب الدينسياسية رؤيتهم لعراق ديمقراطي ودولة تسيرها سلطة القانون وحين يستمع المرء لهذرهم هذا يعجب بما يبزون به أقرانهم في الدول الديمقراطية الكبرى، ولكن التدقيق في حقيقة السلوك اليومي وما يخطط له وراء الكواليس يشي بمقدار الخداع والنفاق السياسي الذي يغلف أقوالهم وأفعالهم ونواياهم، ويؤكد رؤيتهم الكسيحة للديمقراطية باعتبارها وسيلة للوصول إلى مرحلة التحكم برقاب الناس.  فهؤلاء القادة هم المحرك الأساسي لرعاعهم في مؤسسات الدولة وأيضا أنصارهم في الشارع العراقي وهم من يعمل على إرهاب الناس بتشكيل المليشيات، لتطبيق نهجهم ومشاريعهم المستقبلية بالإكراه والقسوة ودفع العراق نحو جمهورية ظلامية تحتقر الحريات المدنية وتسلب الناس حقوقهم. وهؤلاء القادة في دعوتهم لدولة القانون وغيرها من التعابير المخادعة والمراوغة يسعون التمهيد لمشروع دولتهم القامعة للحريات المدنية، ويمهدون لفرض قانونهم الخاص ومشروعهم الساعي للسيطرة على مقدرات البشر من خلال مؤسسات حكومية تفرض فيها أحكام وشرائع تستنسخ طبيعة السلطة الشمولية حيث لا حريات ولا قانون دون أن يأتي متساوقا مع فكر السلطة ومشاريعها، ليعاد اليوم بواسطة تلك الأحزاب ومؤسساتها السلطوية صياغة العبارات وسن القوانين والمناهج والتشريعات في عملية متواليات رغم بطئها فهي دقيقة وواعية ومحكمة، لتكون طبيعة الدولة العراقية في نهاية المطاف تحت سلطة قوى الظلام ويبعث وجه البعث القذر بسحنة جديدة قديمة خانقة واقصائية.
وفي أخر فعل لهؤلاء من أجل دفع العراق ليكون جمهورية طلبانية. ودون أدنى شعور بالخجل والعار، يعلنون صراحة انتمائهم لعهد الطاغية صدام، حين يصرح بعضهم بأن عملية التضييق والمنع لبعض الحريات المدنية جاء وفق قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم 82 الصادر عام 1994 وهو جزء مما عرف في حينه باسم الحملة الإيمانية. لذا فأن القاعدة موجودة وراسخة ولا تحتاج للتوريات والمطلوب من الشعب العراقي التكيف للسير نحو بناء الدولة الجديدة لحزب البعث وحسب قرارات الأب الروحي صدام ورؤيته في حملته الإيمانية الزائفة.
 

257
عجائب وغرائب ساسة العراق

فرات المحسن

غرائب وعجائب بلاد مابين الشاختين تختلف اليوم عن سابقاتها فهي تدخل المرء في متاهة لا يجد منها فكاك، تحيطه مثل شبكة صيد بأسلاك حديدية، وليس له معها غير أن يتحول إلى مهووس بمحطات التلفزيون ومواقع الانترنيت ليس بحثا عن أغنية أو مسلسل أو برنامج يمتع بها نفسه ويطيب خاطره ويريح بها الروح بضع دقائق، بقدر ما يواجه الكدر والرعب والخوف ليدخل بعد كل تلك العجائب الصادقة أو الكاذبة في قوقعته ويغرب نفسه بخياره الذاتي ويروح يلطم على جبهته ويندب حظه العاثر الذي دفعه في تلك اللحظة للضغط على مفتاح الكومبيوتر أو جهاز التلفاز.
بعض العجائب الحديثة التي تبدو مثل الأساطير، تجاوزت كل ما جاء من غرائبية وكذب وادعاء ورخص وابتذال في تأريخ العالم العربي والإسلامي ولم تدع لسابقاتها ذلك البريق الذي حافظت عليه عبر كل تلك القرون. فلو قارنا بين أساطير الماضي وأساطير الحاضر العراقي لبان لنا أن المقارنة ليس لها من وجهة حق في تفوق القديم على الجديد.
يصر رواة الغرائب الحديثة على أن هناك حكومة وبرلمان وبناء ديمقراطي في العراق، الجميع فيها يمتلك روح الشفافية والتوافق الوطني والخوف على الوطن والمواطن وغير ذلك الكثير من التعابير المجازية أو التوريات، وقبل كل ذلك، للجميع اليوم ما يفخر به من حسن السلوك ونظافة السمعة والسريرة لا بل يتفوق على أبناء وطنه بالإخلاص وحب الخير وبياض اليد والترفع عن الإيذاء والتمسك بالسلوك الديمقراطي والسعي نحو تأسيس دولة حديثة عمادها مشروعه الوطني الديمقراطي.

لا أريد الحديث عن الكثير من العجائب التي تمثل نهج الساسة في دولة العراق اليوم بل اعرض بدعة واحده قدمت في البرلمان من أحد الممثلين الكبار اللذين أبيضت حدقات عيونهم من كثرة البكاء على مظلومية الشيعة والتركمان واسودت جبهته من كثرة السجود لربه وبللت دموعه أضرحة أئمته الأطهار.
 هذا الرجل مخترع البدعة الجديدة قدم اقتراحا في جلسة البرلمان الأخيرة داعيا إلى عدم احتساب الثمانية أشهر الماضية التي أضاعها الساسة وابتلعوا فيها رواتبهم المليونية دون عمل أو خدمة للناس لا بل قضوها يتسكعون ويجترون الأحاديث ويتصارعون مع بعضهم لإكمال سرقة العراق بعد أن سرقوا ما سرقوه. يريد السيد المؤمن الورع  أن لا تحتسب تلك الفترة من عمر البرلمان وعمر الحكومة، مؤكدا على أن احتسابها سوف يعطل تنفيذ مشاريع كثيرة.
 غرائب وأساطير سرقة السلطة والمال العام والخاص ليس بمعيب عند هذا الرجل وأصحابه في باقي الكتل السياسية، وسوف نرى عندما يطرح المقترح اللئيم من قبل الرفيق الجديد التقي الورع للتصويت كيف تتسارع الأيادي لترفع وتمنح المباركة لمقترح سرقة المال العام ومن ثمة يقر تمديد سلطتهم وسطوتهم على رقاب الناس لفترة ثمانية أشهر أخرى دون أن يشعر أحد ما في برلمان ديمقراطية العجائب بنوع من الخجل وتأنيب ضمير لما سببوه في فترة الثمانية أشهر المنفرطة، من جرائم وعذاب طالت أوجاعها أبناء العراق. وسوف لن يكون بينهم من يعلن أن شرف العمل والكلمة يتطلب أن يكون ضميره في كامل صحوته وهو مستعد أن يرجع مبالغ استلمها دون وجهة حق، ويقر بأن فعلته ما كانت غير عملية سرقة بالمعنى الكامل للكلمة، أو يعلن بأن زمن الثمانية أشهر لم يضيعها الشعب العراقي بل أهدرها الساسة الذين كانت خصوماتهم وصراعهم على تقاسم السلطة السبب الرئيسي فيها. لا بل المطالبة بمحاسبتهم عن كل قطرة دم سالت على ارض العراق.
فتحية لأصحاب شرف المهنة والضمائر الحية، من السجد الركع لربهم الكريم الرحيم، ومن المروجين لأساطير الشفافية والديمقراطية ومشاعر الوطنية، والمدافعين عن الوطن، والمضحين بالغالي والنفيس لأجل الشعب العراقي، ورافعي رايات لا آله إلا الله محمد رسول الله من أصحاب المشاريع الوطنية الرنانة الطنانة ونبارك لهم مقدما الثمانية أشهر من الرواتب ومن الزمن الذي سوف يعوض لهم ليبقوا في سدة الحكم على مبدأ شراكة المحاصصة الوطنية.
لوعة وغصة في الصدر نتسائل معها. هل نرى في برلمان العجائب من يمتثل لقيم الشرف والنبالة ليمنع مثل هذا المقترح من الإقرار ويقذفه في سلة المهملات ويعطي الناس والوطن حقوقهم. نحن ننتظر ونحمل رايتين فإيهما سوف نرفع، مباركة أم لعنة. 

 
 
   

258
رحيم الغالبي وجسوره الطينية الملونة

                                                                                                                      فرات المحسن
 
ليس بي حاجة لمقدمة طويلة عن صاحبي رحيم الغالبي الذي كان يطلع جواري كل صباح ليراني ونتجاذب حديث المحبة والألفة، ضحكة بريئة كأنها صادرة عن طفل، ودقة في التعبير وذكاء وقاد وحافظة أعجز عن مجاراتها.  أربع سنوات فيها كل ذلك العمر الموشى بندى الحشائش وطراوة الروح، ما افترقنا سوى عطل الدراسة.
 صبواتنا، ألق محبتنا، هواجسنا، مرحنا، شدونا وقوة شكيمتنا، وأملنا بأن مسيرتنا تمشي الهوينى نحو مرافئها الفسيحة المزركشة بضوء الأقمار. لن يثلمها القبح وأن القادم هو المسرة والوطن الحر السعيد.
ما كنا لنعرف أننا مشبعون ببكائية تتوارثها الأجيال، وأن أحلامنا محشورة لحين في مجمرة تتقد بها الأرواح وتضج بالدم القاني فتتوقف نقطة الزمن الرجراجة ويباغتنا الشر ونحن بعد لم نعب ضحكاتنا، ولم تكتمل نشوتنا، فنصمت وتمتلئ صدورنا قيحاً وصدياً.
 ما كنا لندرك أننا كالمسحورين كنا نردد حزنا ونتوعد أرواحنا بأن الزمن سوف ينفصم وتفلق نواته إلى شطرين لا ثالث لهما.. أبدأ لا ثالث لهما. حزن العراق حزننا نحن الذين أردنا له السعادة والحرية والفرح، وما التقينا أبدا في دروبنا غير البكاء والنواح كأنه عاصفة قدر لها أن تلفنا مثلما قدر لنا أن نكون دائما في جوفها. معادلة ظالمة بقدر قبحها. هدت فينا أحلى سنوات العمر.
 
 أليمشي بدربنه شيشوف يا أبو غيث .. لو موت لو سعادة.
 
وأنشطر الزمن عنوة لتستباح وتقتل زهورنا وتخمد ضحكاتنا ويتلوث البنفسج ويتوقف صوت مزاميرنا وطرطشة الماء وكركرات الطفولة، وتندفع الضباع تنهش كل تلك الصباحات البليلة وتحيلها عتمة قست وقست لتجف في مآقينا تلك الالتماعة ويختفي ذاك البهاء وتهرب منا الكلمات ونلوذ وراء صمت أشد وجعا وظلمة من عالم المكفوفين و الصم والبكم.
ولكن لم تكن لتختفي من خاطري صورته حين يعود من مدينته ويستقبلني بوجه فلاح لوحته شموس الشطرة وتباريحها. وكانت ابتسامته تحيله لطفل مشاكس فيبدو وكأنه أرق من نسمة وأفصح من فاخته.
 
اجيتك ارد بالوحشه...مهر
كالولك نهر يمشي عكس ممشاه
جي ضيّع مصبه وما بعد يلكاه
اكول الهم :
نهر ... من يرجع بشوكه
يغمك بالعشك مجراه
بحلم  باجر يبوسك ،
يدفه باللذه...
تطيح الوحشه كلها  اوياه
 
ولكن صاحبي عافني مثلما تواعدنا على لقاء وعفنا سوية رائحة الياس وجلسات النادي الصاخبة ورقة وحياء دكتورة حياة شرارة وضفائر ألف تينه وحيوية دكتور سلام شهباز وطيبة وأريحية دكتور ضياء نافع وضحكات الفرح وجدل الكلمات وأشعار العاشقين وجدائل الصبايا.
 ذهب نحو طراوة الغراف وخرير ماء البدعة يتلحف بهما ويعب منهما رحيق كلماته وقعدت أنا أتملى سماء الوحشة ببلاهة الثكالى. ورقدت سنواتنا في المتاهة.
كان رحيم الغالبي ينصت في خلوته دبيب الحياة كمن يترصد اللون حين يهبط مع جاري الماء، يجيس بروحه بين قطراته، يتلمس بأصابعه فورانه ثم يلملم قوس قزحه ليصيره لوحة. أنه صياد اللحظة، المتلذذ أبدا  ببهجتها.
 
 
هواجس روحي
نور وضي ..
مشه ألحايط ..... وظل الفي..!!!
عبرت اشكد
سواجي وياك...
عافتني الجروف..
وثبت بس المي !!!
 
ولكنه يتعلق بكل العمر الذي يتسرب من بين الضلوع كما الماء، يهرب من بين الأصابع، يمسكه ولكن... تظل الكف خاوية، يتلمسه فيشعر بالخذلان للفراغ المكين الذي يحيط به. وكأن رجع سنواته الماضيات هي الفي الراكد المخادع وليس الحائط .
ما حسبالي..
ورد الليل 
ألكه ألصبح .. بس * خرنوب *
..جم مره ؟؟
جم مره ...كسرنه العمر 
من نصه ؟ أبمعزه نتوب !!!
جم مره ..
نحط ألعين :
... بجفوف الزغار... أنريد بس مكتوب !!!
 
بجفوف الزغار كان يبعث رسائله بعذوبتها المطرزة بالماء الرقراق، يُحمَلها حلمه وشغفه ببريق أخر لسماء صافية وأمل مرتجى. يراوغ  ما يواجهه من صيهود روحي يجعله يتخبط بإحساس مفرط بالغربة،  لذا تراه يستخدم لغة مشاكسة  تلعن الواقع وتحيله لما هو هلامي غير ملموس وغير واقعي. تتحول الأشياء لديه إلى صور مقلوبة تفزعه، ولكنه يقاربها ولا يملها فيفرط في توسلاته وأمانيه التي يحلم أن يعود معها كل شيء لسابق عهده حين كان يبث لواعجه بطمأنينة يستكين بها عند رفاقه وأصحابه وطيبة ناسه.
ولكنه أبدا يستيقظ مكسورا من وجع غربته عن عالم اختلف معه وفيه، وهربت منه طيبة الناس وألفتهم.
 
مشت ليش الشوارع ؟
ظلت الخطوات..تتخبط بغربه وهم
كمت اتطشر و التم ...!
فتحت الكلب طلعت الاسرار البيه....
..... شفناها , جذب مديوره دايرنه ..
 
الحب عند رحيم ليس لحظة تمر عابرة وهو ليس فقط طقس وجداني  يخطر  بالروح فينفض في جعبتها شجنه ولوعته. أنه حب أخر يجمع حشد من أطياف وأحلام وألوان ووجوه تلتف ألفة ابتساماتها حوله. أنه الحب بطعم وشذا لا يمسكه غير قلب رحيم وروحه المعلقة في تلك الشموس التي تآلف معها أبدا فبدت تسكنه دون فكاك ويشعر تجاهها بالذنب بقدر الحب.  يتعذب ويتوجع لأنها عافته مثل أيام سفر لم يبق منها غير مسمى ريل ومكان مقفر وعبق ثياب وأشباح صور. وأن هجرته تلك الأيام فهو يشعر بالذنب يثقله لأنه ما كان يستطيع الإمساك بها و الحفاظ عليها. ولذا فهو يعتذر حتى من الصبر كونه لم يملكه في لحظة المحنة ، وقبلها يعتذر من الظل ( الفي ) رغم كونه الرديف المخادع للمكان والشخوص. وحتى اعتذاره يحمل نكهة المنتظر.
 
 
 
هاي اسنين
تاكل عمري
دوب ادوب
ورد ألنرجس بروحي.. مثل صبير
يرسم عالضمير اذنوب..
.... ذبنه , ومثل ثلج أيذوب
تبنه... ونعتذر من الزمن
 والفي....
ومن * أيوب *
 
 
ما انفك رحيم الغالبي يصارع زمنه الذي أعطى له ظهر المجن وعافه في غربة ووحشة وتوحد، يتلمسه جرحا يعاقره كل يوم، دمعته رقيقة تتلوى لتحفر في شغاف القلب وجع الأمس الذي رقد في روحه دون رحمة، ليجد بعد ذاك أن أشياء كثيرة قد هربت منه وإن ناسه وصحبه راحوا دون وداع. فرح الأمس وأصوات الضحكات وقرقعة الكؤوس والنقاشات الحادة والمستكينة  وأوراق تتخفى بتحد وبسالة تحت جلد الحقائب، كل ذلك أنفرط دون أن يجد لهجرانه جواب.
 رحيم يخالط بذكاء وحرفة بين ثلاثة أشياء يمسكها بإصرار ويمسد بها روحه لتنطلق قريحته فترسم دمعته ألوان لوحة عامرة تعبق ببديع الكلم ويعلو صوتها رغم همسه. لوحة تجمع قبل كل شيء حسجة أبناء أور الخالدة. وبوعي لملمه من خبرة طويلة بالأحداث، يفجر لوعته بوصم المحيط بالخراب والغرائبية، يدينه ويستنكره لأن الأشياء فيه اُستبدلت، لتنقلب معادلة الخير التي يواددها الغالبي دوما ويركن أليها، إلى صور مشوهة معكوسة ملوثة.
 
 
فكتني ألسوالف باب أشوف ألناس

شفت سعف ألنخل مدفون وسط ألطين..!!

و سبّاح ألنخل

ليفوك..

هوّ ألشايل ألراس ..

وشفت خرسان، بس هيّ ألتغني

و كاضّه ألاعراس

وشفت عميان....

يقرون بتعاليم .. ألنبي، بأوراق سود

أثيابهم بيضه، و أيصفّك وراهم ..

. . . واكف ألفحّام . . !!!

ويتساءل أبدا ويييييييييييييين... أنه جمع الأنين بالآه .. البحث عن الحنين المخلوط بالتعب.. انفلات العمر... وجع من وقاحة وقباحة يتبرع البعض بها لنهش جسده.. تراوده الوجوه الطافحة بالحزن وصدى ضحكات المحبين ورايات الأمل التي حلم بها ترفرف مثل أشرعة تذهب نحو الشمس.
رحيم يتنفس الشعر ويجد روحه المعذبة تستكين عند حوافه الموشاة بكلمات يدبجها من شغاف قلبه ليضمها إلى صدره مثل حمامات بيض، يفلس لها ريشها ثم يطلقها سابحة في فضاء شفيف. دائما هو الباقي عند فرحه الطفولي العامر بالخسارات . 
 
من أسنين . . .
ويايوم من أرد  لهلي ,
طعم بوسات . .طعم التين
غركانين
ومامش ماي جوّانه...!!
أعثر لون بحلامك : أرد أزغير
يمه وفركه كتلتني
 و لا كذله....
 وتحرّك ماي راكد .. بالنواعير....؟!
وييييييين ...؟
وين ألكه مهر  وأيدير ناعورك ...!!
. . يحنن كلبك أعليّ
وجديد اتصير....
يرجع
عمري
وآنه ..أزغير
 
وها هو اليوم يعود ليلملم خيوط وشيعته ويعاود حلمه، مسكون بوطن وسعه عراق وأصحاب يخاطبهم رغم النأي ووحشة البعاد. يجمع ما أنفرط من خرزات عقده ويروح يشدو، وبدأب وعزيمة يدق ركائز جسور طينية جديدة تتلمس أفق الحياة الممتد نحو سماء تتوشح ببروق خلابة تبهر الأبصار.
 يا صاحبي  رغم ما بات عليه شجر الياس في حديقة كلية الآداب قسم اللغات من يباس  فإن ود الصحبة والرفقة وضحكات وفرح شباب وقصائد وأمل لقاء، ذخيرة نحتفظ بها سوية لعهد ربما.. ربما تتجدد فيه الآمال وتورق نجمات توشم سماء العراق بوميضها المبهر. لنتأمل ونحلم ونرفع فرشاتنا ونروح نخط ألوان محبة فوق جسرك الطيني المدهش.   
 
 
 

259
قصة رمزية من الادب السياسي الساخر
 
 
 
 
في انتظار جوده

فرات المحسن

جوده عراقي أمبلحس طويل، أسمر وخشمه كأي خشم عراقي دفع الله له عوازه فبات ذلك المبجل مثل كبة السراي. جوده أبن حموله وزلمه خشن أخو خيته حسب قول الحجية حبوبة جوده أم حسين، أريحي وحباب وتكول عليه الوادم جادود ومن تريد منه شي وتنخاه راح يوكفلك حزام ظهر.
جوده هذا لا علاقة له بجودو  الشخصية المسرحية التي خلقها مستر صموئيل بيكيت في مسرحيته الشهيرة في انتظار جودو. الشيء الوحيد الذي تتشابه به شخصية أخونا جوده بالعزيز جودو هي طول الاختباء بحيث جعل الناس في تعلق مستمر وانتظار طويل وشوق لحضوره. أيضا الغياب المادي والحضور الفكري هما ميزتا جوده ومثيله جودو، ما عدا ذلك فجودو بيكيت أحمر أبرص أو وجهه مكرمش يلعب النفس. وجوده العراقي صحيح مبلحس بس طول  وهيبه وأبن عشاير وهو مثل الحمص بكل جدر ينبص أو مثل الطماطة التي تحتاجها جميع القدور ومختلف أنواع المروقات أو الأمراق (جمع مرق) بالرغم من أن المرق يأتي مفرد وجمع.
جوده عنده أخوة وهم محيسن أبو السبح ودكتور مهناوي يعمل حملدار وعبيس مزور جناسي ووثائق وصديد أبو العجايز مهرب غنم وناس وعنده أيضا أخ بالرضاعة أسمه قادر.
يوميه حبوبة جوده أم حسين جارتنه بعد ما تجاوز عمرها الخمس سنوات بعد الثمانين وأطفأت جميع أنوارها الأنثوية، أسمعها صباح كل يوم تصيح.
 يمه جوده جاوينك... يمه فدوه جوده ما بيك جيه.. يمه جوده أندارلك صدقه بس تعالو ... بس تعالو ...وفرحو روحي العذبتني تريدكم ... والله لو أحجيلكم ...منول أحجاية تهل ادموعكم... بس تعالو ... لو اجيتو ..كل عزيز بعمري أطشنه فده لعيونكم بس تعالوا... بس تعالو
 وبدوري حين أنصت لمثل تلك المناجاة واللوعة الصباحية وهي تخرج من صدر حبوبة أم حسين، ينمرد جبدي وأروح دون أن أدري في نوبة بكاء مر وأكرر فدوه ربي متجيب هذا الجودة حتى ترتاح أم حسين وهمين نعرف أحنه شني ومنهو جوده. شيكدر يسوي وشراح يغير، أشو الصريفة هي الصريفة وكلوبات أم حسين وكلوباتنا من سابع المستحيلات يجي بيهن كهرباء ويشبن مره ثانيه. والزبالة الداير مداير البيوت يرادله سبع شفلات وعشرين لوري ويمكن سنة من العمل حته تنشال. والماي مخبوط بالمجاري ويكولون أنتظر صافيها. والانفجارات حسبالك صعادات لو جراقيات  يوم راس السنة أبغداد.
 
ذاك الصباح المغبر واليباس يلف الشوارع ورائحة عفن طاغية تملأ المكان وأصوات انفجارات متتالية هزت البيوت. خرجت حبوبة أم حسين متلفعة بعباءتها الكالحة ووقفت عند حفرة موحلة أمام الباب وصرخت بأعلى صوتها
ـ يمه يالوادم .. يالناس .. يلحلوين .. يالأجاويد ..فروخ الحلال ... يالحواسم .. يالعلاسة..  يالكواوويد ...يالترسية ... يلبريكية .. من فدوه أندار ألكم محد شاف وليدي جوده... جوده يمه شجاك أشو طولت جيتك..
نظرت إلى أم حسين ثم اقتربت منها وهمست في أذنها، بيبي حجية تره وروحه للحجي محد هنا بالشارع.
تلمست أم حسين طرف نظارتها لتتأكد من وجودها ثم دفعت بيدها نحو صدري وغلت أصابعها المتيبسة فيه. وبعد أن تأكدت من أن عينيها مع النظارات تشاهد كل شيء زجرتني بشدة.
ـ حبوبه سويلم  تبقه دومك سليت.. جا مو أنه لابسه نظاره. وخوش، تره بعلمك صدك أنه عيوني رجيجه بس كلبي يشوف كلشي... يمه جوده وينك.. جوده يابعد جبدي وينك.. بس تعالو.. بس تعالو.
 
تركت الحجية أم حسين تسير متهادية تتلاطم أقدامها بين حفر الشوارع وتلال المزابل. رحت أسير خلفها لأراقبها. كنت أنظر نحوها ويتملكني الخوف من أن ترتكب حماقة أو أن تقع في مأزق، لكنها اتجهت نحو الشارع الرئيسي ومشت بخطا كتبت عليها... ومن كتبت عليه خطا مشاها .. وراحت تردد لازمتها الأبدية

ـ يمه أهل الحلال محد شاف جوده..؟
فيجيبها أحد المارة
ـ يمه جوده راح يصلح الكهرباء بذاك الصوب.
 
ـ يمه أهل المروه محد شاف جوده؟
ـ حبوبه جوده ديصلح بوريات إسالة الماء بذاك الصوب.
 
ـ فدوه أل هل الشكل الحلو بهذا الصبح محد شاف جوده؟
ـ بيبي مو اليوم توزيع الحصة التموينية وجوده يراقب الوكلاء ويشرف على التوزيع بذاك الصوب.
 
ـ حبوبه من فدوه رحتلكم محد شاف جوده؟
ـ ليش بيبي متدرين جوده البارحة كَال بالتفزيون راح نبلط شوارع ذاك الصوب.
 
ـ الله وكبر.. بروح الحسين.. من صدقه أندارلكم محد شاف جوده؟
ـ يمه وروحه العفلق اليوم شافو جوده يدير عملية مد أنابيب مياه الصرف الصحي بذاك الصوب.
ـ يمه هذي شني عفلج وشنهي صرف مدري شني.
ـ أي يمه هيه نفس الشي.
ـ جا الغسل الغسلك .. أسالك ما شفت جوده تحجيلي رطينه.
 
ـ يمه يهل الرحم محد شاف جوده .
ـ حبوبه اليوم بذاك الصوب اجتماع على مود النفط
ـ أي والغسل وغمه أل هل طول.. جا جوده يبيع نفط،، تروحوله فدوه أنته وطوايفك.
 
ـ أندارلكم صدقه محد شاف جوده.
ـ حجيه يكولون بذاك الصوب يجتمع ويه الجيش والشرطة علمود الإرهاب والمتفجرات.
ـ يبوه عليه راح وليدي هل نوب ويه الإرهاب والمفخخات.
ـ لا يمه لتصدكَين تره جوده بذاك الصوب مجتمع عله مود الأراضي المتنازع عليها.
ـ أدري بوليدي جبير أخوته وبسوالف العشاير ما ينكدرله. جا موصعبه عليه.
 
لفت أم حسين عبائتها حول خصرها وتطلعت نحو السماء وكأنها تناجي الرب في عليائه ثم صرخت.
يمه جوده متى نراكم .....
 
مدت أم حسين يدها تتلمس الفراغ المعتم الممتد أمامها بسعته وهي تناجي المجهول بصوت مبحوح مكتوم ويائس.
 بيبي .. حبوبه فدوه أروحلك، جوده.. ذاك الصوب بعيد وما أندله وأنا رجيجة عين وهاي المناظر صارلها خمسين سنه وبعد ما توالم ،، وأخاف ذاك الصوب صوب الصد ما رد..حبوبه جوده، جا وين زماطك ذاك،،وين وعدك .. وين الوعد وين وعليك ليل أنهار تهمل العينين.
كنت قريبا منها أستمع لها وهي تدندن بكلمات الأغنية وتشير بإصبعها نحو جهة الشمال ثم تستدير لجهة الجنوب ثم الغرب ثم الشرق، يلتف جسدها الناحل في دورانه دون أن تسقط يدها وهي تؤشر نحو جميع الاتجاهات.
 وفجأة توقفت وصمتت مطرقة نحو الأرض وكأنها تبحث عن شيء سقط منها.
ـ حبوبه ما تعرف بيا صفحة يصير ذاك الصوب.
ـ بيبي كدامج بس تعبرين الجسر.
ـ ليش يمه هنا أكو جسر.
ـ أي يمه هذا كدامج، جسر طويل عريض ويروح الذاك الصوب.
رفعت أم حسين يديها باتجاه الجسر وصرخت بأعلى صوتها وكأنها تنزع بقايا روح لتقذها بوجه ذاك الصوب.
 
كتلك يجوده ما تقيديش ... طلابة حكومة وما تفضيش.
 
 
 

260
السيد جوليان آسانج يشرب نقيع وثائقه

فرات المحسن
منذ دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية درجت الإدارة فيها على اتخاذ طابع القسوة المفرطة اتجاه الخصوم، وقد أباحت الإدارة لقادتها من العسكريين استعمال أقسى درجات العنف غير التقليدي ضد مناوئيها وأعدائها. فتجليات المعارك ما بعد معركة بيرل هاربر التي على وفقها أسقطت القنابل الذرية على مدينتي ناغاساكي وهيروشيما اليابانيتين انتقاما ومن ثم حرب فيتنام ولحين جريمة 11 سبتمبر وما أعقبها من غزو لأراضي أفغانستان ومن ثم العراق وغير تلك الحروب والغزوات الكثير، أفصحت طبيعة المعارك والمواجهات عن توجه حقيقي في استخدام أشرس الأسلحة وأقذرها للفتك بكل من يقف في وجه مشاريع الإدارة الأمريكية وقواتها المسلحة. وكان الذراع السياسي والإعلامي يجهد بشكل دائم لتعقب التداعيات وامتصاص صدمة المواجهات وتمرير ما يجعل التساؤلات والشكوك والاتهامات تنحصر في نهاية المطاف عند تراتيبية مقننة تدفع نحو التراضي والاقناع  بأن ما حدث شيء نسبي قابل للنقاش والمساومة أو حتى التجاوز وهو في كل الأحوال مشكوك في حقيقته وليس هو الواقع الفعلي للحدث وهناك الكثير مما يختفي خلف الواجهة. عند هذه اللعبة القذرة قدر للكثير من الوقائع الظالمة والعدوان والقسوة التي اقترفها الجنود الأمريكان في جميع مواقع ( انتقام ) الولايات المتحدة ، أن يموه عليها أوتختفي من سجلات المحافل الدولية الرسمية وغير الرسمية. ووفق تلك اللعبة القذرة سُحبت أغلب حكومات العالم لمواقع اختارتها الإدارة الأمريكية لها وعملت على زجها ومشاركتها بذات العملية البشعة ترضية لمصالح سياسية وضغوط اقتصادية.
في أحدث معركة إعلامية تواجهها الولايات المتحدة للطعن في مسارات حربها في أفغانستان ومن ثم العراق كشف موقع ويكيليكس عن وثائق تتعلق بمجريات خطط ووقائع وممارسات عساكر الاحتلال الأمريكي في تلك المناطق. التسريبات الأخيرة التي قام بها الموقع تشير إلى معلومات دونها القادة العسكريون وجنود للولايات المتحدة وتم تداولها عبر البريد الالكتروني للبنتاغون أثناء العمل وخلال الفترة الممتدة منذ عام 2004 ولغاية 2009 وهي الفترة الأكثر دموية على مساحة الخارطة العراقية بطولها وعرضها.
 قام الموقع المذكور بنشر 391831 وثيقة سرية. وتعتبر العملية هذه أوسع عملية نشر لوثائق سرية عسكرية. تقطعت أنفاس العالم في انتظار ظهورها لتكون طعنة نجلاء في ظهر الإدارة الأمريكية وحلفائهم العراقيين بحسب ما يرغب به خصومهم. ولكنها وبقدر سريتها فهي لم تقدم ما هو مخالف لوقائع جرمية معروفة ارتكبت من قبل الأمريكان أو العراقيين ضد بعضهم ونشرت قبل تأريخ نشر تلك الوثائق و دونتها ذاكرة أبناء العراق على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم.
الجديد في مسألة تلك الوثائق هو برودة أعصاب الإدارة الأمريكية وتصريحاتهم المقننة والديبلوماسية بعد نشرها، وإنكار واستنكار السلطات العراقية لها حد المطالبة برفع دعوى قضائية ضد الموقع، أيضا أنعكس الأمر على الهاكرز جوليان اسانج بالذات وهو مؤسس موقع ويكيليكس التي تصوره الصحافة الغربية بأنه بات طريد أشباح مخابراتية غربية وأمريكية تبحث عنه وتتعقبه في كل مكان مما يجعله يغير هاتفه النقال عدة مرات في اليوم ويطلب وجبة طعامه في المطاعم الراقية بصوت هامس، ويبدل لون شعره لعدة مرات في الأسبوع  في ذات الوقت الذي يعيش وسط العاصمة لندن ويقيم مؤتمراته الصحفية. وأصبح بعدها الهاكرز جوليان اسانج طريدة رغم قوة الشكيمة التي أبداها أمام زملائه في ذات الموقع وإصراره الغريب على نشر الوثائق، إذن بدأت اللعبة الدولية تمهيدا لحملة التوريات واحتواء التسريبات ومن ثم طمس المعلومة والحقيقة كاملة وضياع حق الضحايا.
لاشك إن تسريب هذه الوثائق له دلالات كثيرة في السياسة الدولية وإن الغاية منها لا تقصر على البعد الظاهر وإنما تذهب إلى ما هو ابعد من ذلك بكثير. ويتملكني الاعتقاد بأن السيد جوليان اسانج لم يعد هاكرز لسرقة المعلومات من المواقع بقدر ما بات مكلفا بمهمات هاكرزية محددة وذات طبيعة وخصوصية تريد أن تكون تسريباتها تخرج نحو الفضاء الطليق وفق شروط بعينها. فمن أطلع على نوع المعلومة التي بثت عبر الوثائق يجد إن السيد أسانج كان حذرا جدا ولم تتوسع وثائقه لتطال الكثير من الجرائم التي اقترفها الجنود الأمريكان وأختصر أمر الجرائم أيضا على شركة بلاك ووتر دون العشرات من شركات الأمن الخاصة، وهناك كذلك إشارات خجولة للدور السوري وإفاضة فيما يدين إيران  ومرتزقتها وإهمال مفرط ومتعمد لباقي الأدوار التي تلعبها دول الإقليم وكأن من كتب التقارير في تلك الوثائق وهو جالس في مواقع القيادة والسيطرة للجيش الأمريكي، كان مصابا بعمى الألوان أو أعورا، لذا نجد الوثائق وقد خرجت علينا كسيحة وذات توجه نحو هدف محدد مبعدة لوحة كبيرة وواسعة ومهمة من المشهد البشع الذي أباح دم العراقيين، مهملة كذلك أي دور للإرهاب السياسي والجنائي الذي تديره فرق خاصة مرتبطة بمشاريع سياسية وإجرامية، لا بل أن الوثائق تبدو وكأنها ساعية لغرض تثبيت مهمة قدر لها أن تظهر في مثل هذا الوقت وبرغبة من الطرف الأمريكي راعي  العملية السياسية في العراق. والادهى ما فيها تلك الروح الطائفية التي حرص الهاكرز جوليان اسانج على أن تكون فاضحة في صراخها وتوجعها.
وبالرغم من كوني أدين الإدارة الأمريكية وجيشها ومرتزقتها وأيضا لا أعفي أي من الأشخاص المشاركين في السلطات العراقية على تعددها وكذلك بعض معارضيهم، من ما ناله الشعب العراقي على أياديهم من ظلم وقسوة وجرائم منفلتة أن كانت عادية أو إرهاب سياسي أوطائفي، فإن مهمة الوثائق التي أنحصر عرضها بين أعوام 2004 و 2009  وضعت جميع الجرائم والخروقات وفي الجانب العراقي منها في شخص السيد المالكي والتيار الصدري دون سواهم، مهملة عن عمد فترة حكم السيد علاوي التي أسس فيها لسرقة المال العام وأبيحت فيه مؤسسات الدولة، عدا الجرائم التي اقترفت في عهده في النجف والفلوجة، ومثل ذلك فترة حكم السيد الجعفري والتي بلغت فيها الجرائم أوجها واشتعل العراق بجميع ربوعه جراء الصراع الطائفي الذي ذهب ضحيته الآلاف، وتتسع اللوحة لنتذكر مجزرة الزركة والحسينية واطلاق سراح 900 مجرم إيراني سال على أياديهم الدم العراقي بغزارة، وتختفي اللوحة القذرة من المشهد عن أساليب وزارة الداخلية في عهد السيد باقر جبر لا بل لا أثر في الوثائق لدور الحزب الإسلامي العراقي وجبهة صالح المطلق ولا هيئة علماء المسلمين ومرتزقة حزب البعث وما اقترفوه من جرائم وتحريض طائفي .  وجميع تلك الجرائم والشخوص كانت ضمن فترة الوثائق المعلن عنها. ومع كل تلك القسوة والجرائم وبشاعة الصورة نجد الوثائق تخجل عن ذكرها،  لا بل كأن المدون الأمريكي كان يتعمد إخفائها على جوليان اسانج ويمنع يديه المباركتين من النيل منها لترمى الجرائم برمتها على شخص السيد المالكي وعهده الذي طال أمده ليمتد إلى خمس سنوات حسب عرف الديمقراطية العراقية. وبرغم ذلك أعلن السيد جوليان أسانج  في مؤتمر صحفي في لندن إن الوثائق تمثل اشمل تقرير وأغنى تفاصيل عن أي حرب دخلت السجل العام والتاريخ الدولي.
منذ أن خرج علينا موقع ويكيليكس وصاحبه الهاكرز جوليان اسانج بوثائق عن حرب أفغانستان ومجريات المعارك هناك وحراك حكومة السيد كرزاي، أتضح لنا بعدها أن الأمر لا يعدو غير لعبة ختيبله بين أطراف تعرف أين تقودها أقدامها وعند أي المنعطفات يختبئ رجالها وليس هناك حاجة لارتداء الدرع الواقي والتحصن ضد القادم حتى وإن أستطاع الهاكرز خرق منظومات عسكرية ليسرب أسرارها في العراق أو غيره، لذا كان رد الفعل اكبر من حجم السيد جوليان ليصبح بعدها ومعها حسب ما يملى عليه وأعطيت له أرقام الوثائق والصحائف التي عليه تسريبها.
أعتقد أن شروط اللعبة السياسية العسكرية الأمريكية تبحث دائما عن شياطين متمردين مشاكسين يبدون على قدر كبير من القدرات والتفوق الذهني في ذات الوقت الذي يمتازون بملكات أخرى تلبي الطموح والحاجات الشخصية، وهذا ما يتمتع به أسانج المدان على مدا أعوام من حياته بالقرصنة ( هاكرز) في بلده استراليا ومطلوب في 24 قضية. وهو اليوم متهم بجرائم جنسية، أي بمعنى من المعاني، هو مطارد تحت الحماية ؟؟ّّّ.

 بعد وثائق أفغانستان بالذات أعطته الولايات المتحدة حقه ونصيحة عليه أن لا يغفلها أو يتناساها والنصيحة تقول بأن عليه أن ينقع الوثائق ويشرب مياهها، ولذا فهو يجلس اليوم ويهمس في أذن نادل المطعم : هل إن  ماء النقيع قد أصبح جاهزا ؟  فقد استطاب الطعم الذي وضع له وعليه نشر المزيد من الوثائق ولكن حسب الطلب وليس الرغبة الشخصية. وتبقى ردود فعل الإدارة الأمريكية واضحة وجلية وحسب أعرافها، فهي ساعية لجعل تلك الوقائع التي جاءت بها الوثائق وفي جميع الاحتمالات قابلة للمعالجة وهي نسبية تخضع لشروط العلة والمعلول ومناقشتها أو تجاوزها ممكن جدا كونها وقائع غير واضحة ولا تحمل الحقيقة كاملة.




261
الارتزاق وأجندة دول الإقليم


فرات المحسن

تبدو لغة اللواصق المفخخة والمسدسات الكواتم  قد راجت كبضاعة موت تسير بانفلات غريب في شوارع المدن العراقية ساعية لدفع العراق نحو عمق الهاوية. بعد أن شاعت بين الأوساط الشعبية فكرة أن يعيش المرء ويثري حاله وعياله من خلال تحوله إلى مجرم مرتزق ينفذ ما يؤتمر به أن جاء ذلك الارتزاق من الداخل أو من الخارج. وتحول الكثير من الناس العاطلين عن العمل أو من متبرعي الإيذاء أو المرتزقة إلى مجرمين محترفين همهم الأول والأخير كسب المال والعيش برفاهية، لقناعتهم بأن حياة الجريمة مع سند مضمون هي أفضل من الدراسة أو الوظيفة والعمل فيما تدره من مكاسب.
ومثلما أتهمت دول مجاورة وبعيدة بأفعال حرق البنايات والمؤسسات الحكومية وسرقة محتوياتها في أول أيام سقوط نظام المجرم صدام حسين ومرتزقته، وأعفي العراقي من أي تهمة أو تواطأ فيما وقع، وتناسى الناس صور الفضائح الوحشية والمخجلة التي كانت تعرضها شاشات التلفزيون، يبدو أن الأمر يتكرر مرة أخرى ليجد أبناء العراق أنفسهم في حيرة وربكة، يتساءلون، هل أن تلك العبوات اللاصقة وكواتم الصوت تأتي من الخارج أم هي صناعة محلية بامتياز. وبرغم تلك الحيرة هناك من يقول يقسم وبيقين يؤكد، إن عمل ( التورنجية ) أي بعض أصحاب محلات الحدادة في العراق قد ازدهر، بعد أن جعلهم تركيب وإطالة ( سبطانة ) فوهة المسدس بأنبوب كاتم للصوت، روادا لأغلى فنادق ومراقص وخمارات العراق.
 لا يحتاج المرء للوقوف في حيرة وعند درجة الصفر وعليه أن يبحث في الكثير من البواعث التي تدفع العراقي ليكون اليد المنفذة للجريمة. وقبل أن يبدأ بالبحث عن ذلك عليه أن يتساءل عن معنى الزيارات المتكررة للكثير من قادة وأعضاء الكتل السياسية لدول الجوار ودعوتها للتدخل في الشأن العراقي منذ سقوط الدكتاتورية ولحد هذه اللحظة. وعليه أن يوجه اتهامه الصريح لهؤلاء وكذلك إلى المؤسسات الحكومية العراقية، لما يبدو محاولات منها لإخفاء معالم تتعلق بنوع العلاقة بين الحدث أي الجريمة وبين قوى الأمن العراقية مع منفذي الجرائم. وقبل ذلك عليه أن يسأل عن السبب في وضع أغلب الجرائم حتى العادية منها في خانة منظمة القاعدة وفروعها. ولم نجد ولحد الآن ما يضعنا بكامل اليقين من أن ما يحدث له جذور غير تلك المعلنة. وحتى في جلسات التحقيق تختفي الأسئلة الأكثر حيوية والتي من الموجب توجيهها إلى جميع هؤلاء المجرمين عن سوابقهم الجنائية التي تستحق لوحدها عودتهم إلى السجون وأيضا علاقتهم بحزب البعث قبل السقوط وبعده، أو حتى عن الحواضن التي كانت تؤويهم والتي يتم بعد التحقيق التكتم عليها لا بل إعفائها من المسؤولية. وأعتقد أن تلك الأسئلة يتهرب منها المحققون قبل غيرهم لأسباب عديدة أولها المحاولات المستميتة لأبعاد حزب البعث عن الواجهة والإبقاء على خيوط خفية تمسك علاقة البعض داخل الأجهزة الحكومية بذلك الحزب الفاشي، وأيضا عدم التورط بأبعد من حدود الجريمة وشخصية المنفذ، خوفا من تداعيات غير مستحبة ربما تعري شبكات الارتزاق على سعتها وتنوعها.
بعد مضي العام السابع من عمر سقوط الطاغية واحتلال العراق، دخل في ثقافة الشارع العراقي عرف رائج تمثل بنوعيات عالية من الارتزاق السياسي والمادي. ولم تكن ممارسة هذا الفعل حكرا على المهمشين أو العاطلين عن العمل بقدر ما بادرت به وأقدمت عليه واستسهلته وروجت له النخب السياسية، التي أظهرت قدرة فائقة دون توريات أو خجل على امتهانها الارتزاق،  بتبرير أن ما تقوم به هو سلوك ديمقراطي وحضاري يتطلب أن يكون السياسي فيه محاورا ذكيا وشاطرا يمد جذوره نحو مختلف الاتجاهات ويحاول الإمساك بجميع خيوط اللعبة ومنها حتما الارتزاق من خارج الوطن سياسيا كان أم ماديا، وإن الامتناع عن امتهان مثل هذا الارتزاق سوف يخلق فجوة وجفوة لا بل أعداء وخصوم لا قدرة على مواجهتهم في الوقت الراهن.
 
كل تلك المظاهر المخجلة والوضيعة والوحشية جعل دول الجوار تمسك بكل ما أوتيت من قوة بالميزات والخصال القذرة التي يتمتع بها البعض من العراقيين وخاصة وسط النخب السياسية التي تساوت في طمعها ووضاعتها مع أبناء الشوارع من المجرمين والشواذ، لذا سعت تلك الدول جاهدة ومنذ البداية لاستغلال هذا الخزي بمختلف أوجهه في محاولاتها الجادة لإفشال التجربة العراقية، لا بل النيل من العراق أرضا وشعبا. وبعد أن تيقنت بأن التجربة الجديدة في العراق كانت لعبة مشوهة غير متوازنة لا يمكن لأي من العراقيين الشرفاء تصحيح مسارها والسير فيها بخطى ويقين ثابتين. مع وجود إمكانيات كبيرة يوفرها الشارع العراقي ذاته لإفشال تجربته والسير حثيثا نحو تمزيق جسد العراق وتحطيم قدراته.
لذا اتجهت طبيعة الحراك لإفشال التجربة نحو بناء شبكات واسعة من وسطاء لهم روابط تمسك بتلابيب الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي يتم عبرها جر العراق نحو هاوية اللا قرار وعدم الاستقرار الذي يعني بدوره إبعاد شبح تجربة جديدة رغبت فيها قطاعات واسعة من أبناء العراق. وما زالت مهمة تلك الشبكات وحواضنها، هي الذهاب بالعراق إلى حالة التشرذم والضياع الذي بدوره يطمأن جميع كارهي العراق ومبغضيه. والذي يعني في النهاية إخراجه ككتلة جغرافية ووطنية ورميه بعيدا عن لعب دور مهم في المنطقة، والسيطرة على مقدراته ونهب خيراته. والأهم من كل ذلك منعه من بناء مشروعه الاقتصادي والديمقراطي الذي يجعله، في حالة صيرورته، محورا وقطبا وممرا مثاليا ومهما للاقتصاد العالمي، ويجعل من الآخرين توابع أو في درجة متدنية من التأثير.
وفي نظرة فاحصة لوقائع الأحداث اليومية الدامية وفي سؤال محرج لأبناء العراق وبالذات منهم أبناء المحافظات الشمالية والغربية.حيث نرى أن الجرائم اليومية تقع اليوم في أغلبها عند تلك المحافظات المتمثلة بالموصل والانبار وديالى وكركوك وتكريت وهي محافظات معروفة بأغلبيتها الطائفية وتتماثل معها طبيعة التركيبة السكانية في شمال محافظتي الحلة والكوت وبالذات المتاخم منهما للعاصمة بغداد.
السؤال الملح حول ما يقع هناك من جرائم يومية، يفقئ العين ويفصح صراحة على إن الارتزاق المالي يلعب لعبته ليضع العراق فوق بركان من اللهب الدائم وأن شحنات الأسلحة والسخاء بالمال المبذول من دول الجوار تسلم لشبكات الارتزاق لتنفذ الأجندة الخاصة بتلك الدول لقطع الطريق على أي سلم وأمان اجتماعي. فيا ترى هل أن منظمة القاعدة وفروعها ومعها حزب البعث ومرتزقته وغيرهم من المجرمين العاديين ساعون لإبادة أهل السنة قبل الروافض ؟؟! أم أن المهمة تتعدى ذلك، وتنصب أساسا في مشروع يبذل بسخاء مفرط لإدامة العنف وجر العراق نحو الضياع؟؟ وهي المهمة الرئيسية في الراهن من الزمن، سعيا لخضوع العراق لشروط وأجندة دول تنأى به بعيدا عن الاستثمارات وتبقيه مشرذما ضعيفا لا يملك القدرة على بناء دولة مستقرة وحديثة .
 
 


262
المنبر الحر / من يربح البرلمان
« في: 23:08 04/10/2010  »
من يربح البرلمان


فرات المحسن
قيل إن السياسة فن الممكن ولا معجزات تعلق بثياب سادتها أومن يسلك طرقها. ولكن كثرة المفاجئات واجتراح العجائب والغرائب في سلوك من يعمل في وسطها، يجعل المرء البسيط في حيرة من أمره.
في الساحة السياسية العراقية لن نجد من يبتعد عن تلك الحالة، ولكن تشعب الحدث والتباسه يضعنا في الكثير من عدم الاستقرار ويباغتنا في مفاجأته، وهذا لا يعطي المرء القدرة الكافية لمشاهدة اللوحة برؤية مكينة واضحة وإنما تعرضه للكثير من الإرباك والتشويش، وتدفعه في النهاية إلى خاتمة القول بأن العراق بلد العجائب بامتياز وهو عصي على من يريد وضع توصيف منهجي للحالات والتبدلات التي تحصل له وفيه.
المصالح الحزبية والشخصية والطائفية والقومية تعلوا فوق الوطنية العراقية، ذلك التوصيف يبقى لوحده الثابت في طبيعة العملية السياسية اليوم، أما الباقي فهو المتغير والمتحرك والمنفلت في طبيعة المشهد الحالي، ويفصح عنه الحراك والتصريحات والحوارات المنفلتة والضجيج الإعلامي.
هل كان اصطفاف السيد هادي العامري مع المالكي وخروجه عن سلطة السيد الحكيم مفاجئة غير متوقعة أم إن هناك جذور للحدث تمتد بعيدا وتحمل في طياتها خلافات كانت ترقد تحت السطح، كان السيد هادي العامري قد انكرها واستنكرها قبل شهرين حين وجه له سؤال عن صدق الإشاعات التي تتحدث عن انشقاق بعض قيادات وجماهير منظمة بدر عن قيادة السيد عمار الحكيم وهمام حمودي. وفي الوقت ذاته لم يكن موقف قيادات التيار الصدري ليدع مجالا لليقين عن الجهة التي سوف يختارها ليقف جانبها في سعيه نحو السلطة والتمتع بحلاوة طعم الحكم.
أما الأخوة الكورد فكانت لهم دائما ثوابتهم القومية يتشبثون بها ويلحون بلجاجة لاقتسام الإرث في الساعات الأول من احتضار الأب.
ومن باب تصديق الأنباء والتسريبات الإعلامية عن عدم تدخل دول الجوار والمحتل الأمريكي في عملية تشكيل الحومة العراقية، تلك التصريحات والأخبار التي هي نكتة غير موفقة وكاذبة من ألفها إلى يائها في عرف السياسة ووقائع الوضع في العراق، نضطر بحسن نية لقبول واقع صراع الأخوة الأعداء ونحاول الوصول نحو توصيف الصورة مبعدين تلك النكتة الباهتة وشديدة البؤس.

انتخاب السيد المالكي دون نيله مباركة حصة المجلس الإسلامي الشيعي وحزب الفضيلة في مجلس النواب أوجد معادلة صعبة ليس فقط بالنسبة له وإنما للقائمة العراقية بقيادة السيد علاوي أيضا. وبات المشهد أكثر تعقيدا من السابق. هذا المأزق البرلماني جعل من تحالف القوى الكردستانية بيضة القبان. أي بصريح العبارة، أن ليس لقائمة السيد المالكي وحلفائه الجدد القدرة على نيل الأغلبية البرلمانية ومثلهم حال القائمة العراقية، دون أن تكون قائمة التحالف الكردستاني السند الشرعي لكسب العدد الكافي لأغلبية برلمانية.
هذا المشهد سوف يبعد محاولات تشكيل الحكومة أشواطا بعيدة ولزمن ليس بالقصير كونه يحتاج إلى فترة صراع وحوارات طويلة لن يتخلى المتصارعون فيها بسهولة عن ثوابتهم، وربما سيكون الصراع أشد شراسة مما رأيناه قبل انتخاب السيد المالكي. فهناك الكثير من الاعتراضات تواجهه طبيعة المطالب الكوردية لا بل هناك رفضا لها من أطراف عديدة في التشكيلين السياسيين الكبيرين ولم تنل الورقة المقدمة من قبل السيد مسعود البرزاني، والتي تبناها التحالف الكردستاني، ولحد الآن، رضا وموافقة حتى أقرب حلفاءهم. لا بل إن بعض القوى الممثلة في القائمة العراقية تناصب العداء وترفض ما يطالب به الكورد وبالذات في ما يتعلق بالمادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها في كركوك والموصل وديالى وهذا الموقف مماثل لموقف التيار الصدري وبعض رجالات قائمة دولة القانون. إذن بيضة القبان لا يمكن لها أن تميل كفة الجبهات المتصارعة، واحدة على حساب الأخرى دون أن تجد سندا لمطالبها أو نزوع للموافقة على بعض الشروط التي يحصل بها التحالف الكردستاني على القليل من ما طرحته ورقة السيد مسعود. أو إن المقابل يتنازل عن الكثير من اعتراضاته على مطالب الكورد كي يضمن تحالفهم وقدرتهم التصويتية في البرلمان.
السيد طارق الهاشمي وصالح المطلق والنجيفي وظافر العاني بقوتهم التصويتية العددية لن يستطيعون منح الكورد الضوء الأخضر لتمرير ورقتهم، ويبقون سدا منيعا في وجه المطالب الكوردية ومثلهم العديد من رجالات القائمة العراقية، ومن هنا فمسألة عقد صفقة توافقية مع التحالف الكردستاني سوف تكون عصية أو شبه مستحيلة دون تقديم تنازلات كبيرة وموجعة لكلا الطرفين. مثل هذا الموقف يبدو في جانب دولة القانون وحلفائه من الصدريين والجعفري أكثر عسرا وتعقيدا ولن يكون لمطالب الاتحاد الكردستاني ردود فعل ايجابية مثلما يروج لها بعض السادة من أعضاء الاتحاد الكردستاني.
ومثلما الوضع العراقي وبما عرف عنه من غرائب يحمل دائما بين طياته الكثير من المفاجئات. وحسب ما تخبئه جعبة التيار الصدري دائما وهي مثل جعبة الحاوي التي لا نعرف ما تحويه من غرائب وتمنحنا دائما الكثير من الدهشة، وربما يخرج علينا بمفاجأة صاعقة حين يتخلى التيار عن تحالفه مع السيد المالكي ليعود ويغازل القائمة العراقية ومساومتها على ترجيح الكفة في البرلمان مقابل عدد ما يحصلون عليه من المنافع الحكومية.
ولإتمام شروط اللعبة  { الديمقراطية ؟ } علينا أن ننتظر قوة تأثير المحتل ومعه دول الإقليم  وما تلعبه  جينات الارتزاق السياسي والمالي،  وما أكبرها وأكثرها وأضخمها لدى الكثير من سياسيينا.
فهل يا ترى أن بوصلة السياسة بإرادة المحتل ورغبة دول الإقليم تتجه صوب إعادة الانتخابات كحل يختصر الكثير من المشاحنات والهلوسات والتخاريف. أم تراهم يدفعون لإعادة لحمة التحالف الشيعي ويتراجع السيد الحكيم  ومجلسه عن عناده وتبدأ مرحلة بمعادلات جديدة.
كل تلك المساومات والحوارات والنقاشات إن كانت في العلن أو وراء الكواليس فأنها سوف تتخذ طابع لي الأذرع أو عض الأصابع، وألمها مهما كانت قوته لن يكون بمقدار ما يعانيه المواطن من آلام وأوجاع.


263
جيش محمد العاكَول في البغدادية


فرات المحسن

طيبة البعض من العراقيين مشهود لها، لا بل يمكن وضعها في الكثير من المواقف في خانة الفطارية عالية الجودة، ولذا يمكن لمن يحمل قليلا من خباثة حتى وإن كانت أكسر باير، أن يجعل هؤلاء المساكين طليان كمش يذهبون لحتفهم برضا وبشاشة لا بل بنشعة وفرفشة يحسدهم عليها المكبسل في قمة نشوته. لا يحتاج هؤلاء المساكين غير دقائق من جهد بسيط بعدها تستطيع أن تقودهم حيث تشاء حتى وإن كان إلى الحتف بعينه.
شاهدت هذا بأم وبيبية وخالة عيني وأنا أباوع التلفزيون وبالذات قناة البغدادية. وقفت مشدوها ومتوترا لا بل أصابتني الكآبة وشعرت بضيق في الصدر وتمنيت لو أني كنت في كابوس لأستيقظ منه ويذهب عني كل ذلك الغم والهم الذي اجتاح كياني وغلف روحي. لم اصدق عيني بادئ الأمر ولكني تيقنت بالتمام والكمال أن ما يحدث هو حقيقة لتطبيق ما أسلفت حول بعض الخرفان أو الطليان وهي التسمية الأكثر دقة لتلك المجموعة من الجيش العراقي كانوا يرتدون كامل قيافة المعركة ويحملون أسلحتهم الاتوماتيكية ويقفون جوار ناقلتهم رباعية الدفع. كل هؤلاء يحيطون بصيدهم الذي يجلبه لهم مقدم البرامج الشاب علي الخالدي ككبش فداء يذبح في مجزرة وفي ساحة ترابية لصالح قناة البغدادية وبرنامج خل ن بوكَا وهي تسميه لها من التورية الكثير وتربط بين سرقة أو استغفال البعض وسجن بوكَا سيء الصيت.
برنامج خل ن بوكَا مثال صارخ للسادية التي تتلذذ بتعذيب الآخرين وإيقاعهم في شرك الرعب والصدمة. وهذا الشيء ما تعتمد عليه قناة البغدادية ومقدم برامجها علي الخالدي. والبرنامج حتما يجد له صدى حسن ولذة فائقة عند الكثير من العراقيين من الجهلة والمتخلفين وورثة سادية أجهزة الأمن والمخابرات ورجال الشرطة والجيش العراقي وحزب البعث من بقايا نظام المقبور صدام الذين كانوا يجدون ذواتهم عبر التسلية المكتسبة من تعذيب البشر وإرهابهم.
يقود بطل البغدادية علي الخالدي ضحاياه نحو سيطرة عسكرية حيث تمارس على الضحية عملية نصب لتوجه له تهمه وضع عبوة ناسفة ينوي تفجيرها بمكتب قناة البغدادية أو غيره من أماكن في بغداد. السيطرة العسكرية وبالاتفاق مع علي الخالدي يديرون مسرحية تعذيب الضحية باتهامه بالإرهاب وتجري خلالها لعبة مطاردات وجرجره ودفع وإطلاق نار وإرهاب وترويع وسط غنج الخالدي علاوي وصراخه وولولته وميوعته لتنتهي اللعبة السادية بالاعتذار من الضحية بعد أن استنزفت اللعبة كامل أعصابه ووصل البعض فيها حد البكاء والإغماء.
 والعجب أن في ذات القناة برنامج باسم رمضان دون خطايا للشيخ أحمد الكبيسي الذي عالج في أحدى الحلقات موضوعة الإساءة وترويع الأخر فأتى بحديث للنبي محمد يقول فيه لعن الله من أشار لأخيه بحديدة حتى بمزاح.. أي روعه بسلاح فهو ملعون، ومن أخاف أخيه دخل النار. وترويع أخاك لدى الله لعظيم. فكيف تعرض القناة هذه الأحاديث وهي لا تلتزم بها. وما دواعي عروضها المتناقضة وعلاقة ذلك بالمهنية والدعوة للسلم الاجتماعي كما تروج لذلك.
المستغرب في هذه اللعبة السادية السمجة والمؤذية أن الضحية يرتضي في النهاية اعتذار علي الخالدي ويأخذ بمدح قناة البغدادية والبعض منهم يروح في نوبة غناء دلالة على رضاه وقناعته بأنه كان كبش أو طلي ذهب بظلفه إلى حتفه مبتسما بشوشا. ولم نر أحدا من هؤلاء أستهجن تلك اللعبة السادية السمجة أو حتى فكر بالشكوى القانونية من استغلاله وتعذيبه وإرهابه بتلك الطريقة البشعة. وكان بعد فرحته ورضاه يستحق لقب طلي بجدارة.
المشكلة لا تقتصر على البغدادية وعلي الخالدي وليس على الضحايا أيضا بالقدر الذي يظهر عليه جيش محمد العاكول الذي شارك في البرنامج، فرغم معرفتنا بما يكتنف الوضع العراقي من فوضى تضرب اطنابها في مختلف نواح الحياة.  ولكن مشاركة قوى الأمن في ذلك العرض البائس يمثل بكل معانيه وصوره الحالة المزرية التي تمر بها قوى الشرطة والجيش العراقي، فمن يشاهد البرنامج يرثي حال تلك القوى التي وصل بها الاستهتار وعدم المهنية حد القبول بمثل هذه اللعبة القذرة وظهورها بمظهر القدرة على إرهاب الناس بوضاعة ووقاحة دون حدود أو لياقة عبر صراخ وتهريج واتصال بقيادات من خلال جهاز النقال وإطلاق عيارات نارية وتهديد ووعيد. وأن أردنا أن نوجه اللوم إلى أحد لهذا المظهر والسلوك المشين والمستهجن الذي يدل على أن قناة البغدادية قد استطاعت أن تدفع لتلك السيطرة العسكرية المقسوم لتشركها في برنامج سادي مؤذي من هذا النوع، فعلينا أن نلج المدخل القانوني لهذا الوضع ونسأل القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير الداخلية وقيادة قوات بغداد عن العرض والصفقة التي قدمت لهم مجتمعا والذي  دفعهم للموافقة على مشاركة تلك السيطرة العسكرية في تلك اللعبة المستهجنة. وما هو التفسير القانوني لمظهر قطعة عسكرية تشارك في صناعة برنامج يسيء قبل أي شيء أليها ويظهرها بهذا الشكل المزري.
ولكن الكثير من الأمور التي تحدث في عراق اليوم تشي بأن هناك جيش وقوى شرطة مهلهلة ومخترقة ليس لها من مظهر الجيوش ما يوحي بحرفيتها قادة وجنود، ولن يستطيع أحد إقناعنا بأن جيشا من مثل هذا بقادر على أمساك الشارع العراقي وتأمين الحياة الآمنة للشعب.
يا ترى هل طلبت تلك السيطرة العسكرية من قيادتها الأذن بالمشاركة في ذلك البرنامج، وما هو موقف تلك القيادات وكيف سمحت لهم بالقيام بهذا الدور الذي يطعن بسلوك ومهنية الجيش والشرطة فضلا عن تعذيبه لبعض البشر، وفي الوقت ذاته يوحي لقوى الإرهاب بالكثير الذي من الممكن استغلاله وتمريره عبر أمثال هؤلاء. وهناك وقائع كثيرة قامت بها وحدات عسكرية بعد مجموعة من الأحداث ظهر فيها عمق المأزق والعيوب التي تكتنف تدريب وإعداد وعمل تلك القوى. وربما يتذكر الكثير منا تلك الحوادث والخروقات التي أغلق بعدها التحقيق وذهبت أرواح الضحايا هدرا دون أن يعرف المواطن من المسبب أو كيف جرى ذلك. وأخفيت النتائج خوفا من تأثيرها على قوة ومتانة وجاهزية تلك القوى التي يثبت برنامج خل ن بوكا بؤسها وترهلها وإمكانية توظيفها في جوانب وأماكن متعددة دون وجل أو حتى الرجوع إلى قواعد سلوك أو تدرج وظيفي.
وفق تلك المسرحية الهزيلة السادية أوجه سؤالي إلى السيد المالكي قائد عموم القوات البرية والجوية والبحرية عن موقفه من تلك السماجات والإيذاء وأيضا أريد معرفة موقف راعي ومناصر المظلومين وأبو الضعفاء مثلما تسميه وتتوسله بمقالات هزيلة مدفوعة الثمن بعض المواقع الإلكترونية، السيد البولاني وزير الداخلية الذي ينأى بنفسه عما يحدث في العراق ليرمي المسؤولية دائما على غيره في طهرانية غريبة عجيبة، وأيضا رجل المرحلة وصانع الأمجاد السيد عبد القادر وزير الدفاع ومعه ناطقه الرسمي وكذلك قيادة قوات بغداد عن ذات الحدث وهل فاتتهم تلك المناظر المؤلمة التي يعرضها برنامج خل ن بوكَا، وما هي طبيعة مشاركتهم في مثل هذا البرنامج.
 وقبل كل ذلك، أذكرهم بأن جيش محمد العاكَول الساذج والمرتزق لن يحمي عراقا محاطا بآلاف الذئاب. ودمتم على خل ونومي وراس خس وجاجيك من بقايا معسكر بوكا يوفرها لكم علي الخالدي.
 


264
مهرجان أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم
من 9 – 14 تموز 2010



على مدى أربعة أيام حافلة وعلى قاعة هوسبي تريف وسط العاصمة السويدية ستوكهولم أقام نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم، وبرعاية اتحاد الجمعيات العراقية في السويد وبدعم مديرية الثقافة والاندماج في ستوكهولم  مهرجان "أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم لعام 2010 ".
 هذه الفعاليات التي باتت تقليدا سنويا تترقبها جاليتنا العراقية في ستوكهولم وضواحيها، والتي تجري من كل عام تزامنا مع ذكرى ثـورة 14 تمـوز 1958 المجيدة وعيد تأسيس الجمهوريـة العراقيـة، وقد كانت في هذا العام للفترة من 9 - 14  تموز.
لقد أحيا النادي على شرف الذكرى الـثانية والخمسين لثـورة 14 تمـوز 1958 المجيدة وعيد تأسيس الجمهوريـة العراقيـة، حفلا فنيا غنائيا ساهرا على قاعة هوسبي تريف، في يوم الجمعة المصادف 9 تموز 2010، وهو اليوم الأول لانطلاق فعاليات أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم. حضره جمهور كبير من أبناء الجالية العراقية في ستوكهولم، كما حضرها ضيوفنا الإعزاء: سعادة سفير جمهورية العراق في السويد الدكتور حسين العامري والسيد وكيل وزارة الثقافة العراقية الاستاذ فوزي الاتروشي والسيد مستشار السفارة السيد فارس شاكر فتوحي وأعضاء من السلك الدبلوماسي للسفارة، والسيد رئيس اتحاد الجمعيات العراقية في السويد الاستاذ عبد الواحد الموسوي.





بدأ الحفل بالنشيد الوطني العراقي "موطني" الذي أداه الفنان جـلال جمـال وجمهور الحضور، بعدها تم الترحيب بالحضور والضيوف الكرام، ثم قدمت كلمة بالمناسبة ألقاها السيد سكرتير النادي الاستاذ حكمت حسين، جاء فيها:
"الحضور الكريم .. مساء الخير، اسمحوا لي بأسم نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي أن احيي حضوركم الكريم، وحضور الضيوف الاعزاء، ومشاركتكم الجميلة في حفلنا الفني الساهر بهذه المناسبة الخالدة والعزيزة على قلوبنا. اعزائي الحضور، في هذه الأيام من كل عام يحتفي نادينا كما العادة بهذه المناسبة المجيدة. وبمرور الزمن قدم ومازال يقدم نادينا ما يستطيعه وفاءا وتخليدا لهذه الثورة العظيمة بمنجزاتها ومكتسباتها المهمة. وقد حرص نادينا ان يستلهم من وحيها وأهدافها ما يجعل  أهدافه ومهماته الأساسية مرتبطة دائما يالمهمات الثقافية والاجتماعية والسياسية المبنية على روح المشاركة والشفافية وأسس الديمقراطية، والمناداة بالمساواة والحريات واحترام حقوق الانسان، بعيداً عن الضغائن والنعرات الطائفية البغيضة. لنبني وطنا جميلا بأهله، تصان فيه كرامة وحقوق الانسان. مرة أخرى أحييكم واشكر حضوركم الكريم متمنين للجميع قضاء وقتاً ممتعاً وسهرة سعيدة. وشكراً - الهيئة الادارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي."

بعدها تعاقب الفنان جلال جمال والفنانة نورا والفنان عباس البصري والفرقة الموسيقية، على تقديم وصلاتهم الغنائية العراقية المنوعة التي أسعدت الحضور الذي أمضى فيها أمسية عائلية متمتعا بحفل فني ساهر وأجواء عراقية جميلة الى مابعد منتصف الليل، وكانت أمنيات الجميع هي اندحار الإرهاب وأن يعم السلام والأمن ربوع العراق ويعيش أبنائه منعمين مرفهين سعداء وتقوى روابط الألفة بينهم  وتزداد عرى العلاقات الطيبة بين أبناء جاليتنا وأهلهم وشعبهم في داخل العراق.
هذا وأشاد الاستاذ فوزي الأتروشي بمهرجان أيام الثقافة العراقية الذي يقيمه نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي وبرعاية اتحاد الجمعيات العراقية في السويد قائلا "ان هذه الأيام الثقافية هي رسالة سلام ومحبة إلى المثقفين من العراقيين والسويديين وهي حلقة تواصل مابين المثقفين في الداخل والخارج."


أما اليوم الثاني من المهرجان، فقد انطلقت فعالياته يوم الاثنين 12 تموز، بحضور حشد كبير من أبناء الجالية العراقية في ستوكهولم الذين تجمعوا أمام الصالة في انتظار إعلان بدء الفعاليات، حيث تم دعوة الشخصية الوطنية الدكتور كاظم حبيب لقص الشريط وافتتاح المهرجان إيذانا بانطلاق فعاليات أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم لهذا العام، وفي كلمة قصيرة شكر فيها الدعوة الموجهة له وتمنى أن تكون الفعاليات خطوة لتعزيز أواصر وجسور المحبة بين العراقيين أينما كانوا، بعدها تقدم السيد رئيس اتحاد الجمعيات ليطلع ضيوف المهرجان على معرضي الفنانين الدكتور فؤاد الطائي، والمصور الصحفي السيد سمير مزبان، وتنوعت أعمال الطائي من نماذج ابداعية فنية بين الرسم والنحت على الخشب والتصوير، أستخدم في بعضها مواد بسيطة كورق السجائر والحلويات، لكنها كانت من الدقة والحرفية يصعب على المرء اكتشافها دون التمعن والتدقيق فيها عن قرب، كما كان معرض سمير مزبان تحت عنوان "الحنين" تعبيرا عن الحياة اليومية للعراقيين، فكانت جولة ممتعة في تتبع تلك الذكريات، وبعد مشاهدة المعرضين وفي داخل صالة الفعاليات تعرف الزائرين على معرض مطبوعات الاتحاد وصحافته. وكذلك تم توزيع مجلة النادي الفصلية "المنار" عدد 64 صيف/ 2010 على الحضور. وحين البدء أنشدت فرقة "دار السلام" نشيد "موطني"، ووقف الجميع يرددون النشيد سوية.





رحب عريف الحفل الاستاذ فرات المحسن بالحضور، قائلا: "باسم الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي واللجنة الثقافية فيه نشكر لكم حضوركم ومشاركتكم لنا بمهرجان أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم والتي اعتاد النادي على أحيائها كل عام، وباسم جاليتنا وأعضاء نادينا وأصدقائه نحيي ضيوفنا الكرام الذي لبوا دعوتنا ليشاركونا هذا المهرجان، السيد سفير جمهورية العراق الدكتور حسين العامري والدكتور كاظم حبيب وزوجته الكريمة والسيد وكيل وزارة الثقافة في جمهورية العراق الاستاذ فوزي الأتروشي والدكتور صالح ياسر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والسيد رئيس اتحاد الجمعيات العراقية في السويد الأستاذ عبد الواحد الموسوي"، بعدها قدم السيد سكرتير نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي كلمة النادي، والتي جاء فيها:
 "الحضور الكريم .. مساء الخير، أسمحوا لي باسم الهيئة الإدارية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي وباسم اللجنتين الثقافية والفنية فيه أن أحيي حضوركم الكريم ومشاركتكم الجميلة في أيام الثقافة العراقية لعام 2010.
أعزائي الحضور، على مدى السنوات الأثنى عشر درج نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم على إقامة مهرجانه الثقافي السنوي (أيام الثقافة العراقية) وخلالها يحرص النادي وجمهوره على تقديم الكثير من الفعاليات النوعية التي تعطي الانطباع على أن النادي يولي الاهتمام الجدي ليس فقط بالتواصل مع أبناء الجالية ومن خلالهم مع شعبنا العراقي، بقدر ما يحمل من نوايا خالصة يحرص بها على إظهار قدرات وإبداعات أبناء العراق في المهجر وتعلقهم بوطنهم وإبراز تماسكهم وأيمانهم بعراقة وحضارة وتراث وتقاليد الخير والمعرفة التي تمثل الخزين الثر لذلك الشعب الطيب. بمرور الزمن الطويل من عمر نادينا الممتد لأكثر من عشرين عاما ونيف قدم ومازال يقدم ما يستطيعه وفاءا وتخليدا لثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 المجيدة، وحرص دائما أن يضع نصب عينييه، ترسيخ منهجية ثابتة تستلهم من وحيها وأهدافها ما يجعل النادي مبنيا دائما على أسس الديمقراطية المرتبطة بالمهمات الثقافية، الاجتماعية والسياسية مقصيا كل ما يفرق أبناء العراق ويزرع العداء والنفرة بينهم.
أن الظروف العصيبة التي يمر بها بلدنا تجعلنا أكثر وعيا بالمهمات الملقاة على عاتقنا كأبناء لذلك الوطن الجريح،  يهمهم مصيره وأوضاعه الحياتية بكل تفرعاتها ومشاهدها. ولذا نعمل دوما على أن نكون جنبا إلى جنب مع أبناء شعبنا في السراء والضراء. نفخر بما يتحقق من إنجازات ونمنح ثقتنا ودعمنا لكل ما هو ديمقراطي تقدمي يقدم الحرية والحياة الكريمة لشعبنا. أيضا، وبوعينا المستقر نفكك الأحداث بكل تجلياتها ونوجه لها نقدنا ونشارك في استنكار ورفض ما هو مسيء ومضر. وإذا أبعدنا عن أرواحنا حزم الضغائن، فأن نوايانا مهما اختلفت لا نستطيع معها التقليل من شأن كل تلك الأحداث بحلوها ومرها لذا نشعر دائما أننا نشارك أبناء وطننا حياتهم اليومية بكل تفاصيلها.
لذا ندعو كنادي بمهمات ثقافية اجتماعية ديمقراطية، أبناء عراقنا الحبيب إلى لغة حوار حضاري بين شرائحه وطوائفه وإثنياته في الداخل ومثل ذلك في الخارج، لنبني وطنا يصون كرامة أهله ويقدم لهم كل ما هو حضاري وعلمي وقانوني وديمقراطي. ومن خلالكم وفي أيامنا الثقافية هذه ندعو لتشكيل حكومة تكنوقراط  تتجلى فيها روح الشراكة الحقه المبنية على أسس الوطنية العراقية ومن أجل بناء العراق الديمقراطي الاتحادي. مرة أخرى أحيكم واشكر لكم حضوركم الجميل متمنين للجميع قضاء وقتاً ممتعاً مع الفعاليات المنوعة لهذه الايام الثقافية. وشكراً - الهيئة الإدارية/ لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي"
بعد الكلمة واصلت فرقة "دار السلام" للغناء والإنشاد التراثي الفلكلوري العراقي، بتقديم وصلاتها الغنائية العذبة، وهي فرقة متكونة من 25 عضو وتتألف من الشابات والشباب المجدين والمحبين والمهتمين بالتواصل مع تراث وفن بلاد الرافدين، وقد تأسست الفرقة عام 2008 وشاركت في عدة فعاليات للجالية العراقية، وهي بقيادة الفنان عباس البصري وهي فرقة مشتركة بين رابطة المرأة العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي.



 وبعد استراحة قصيرة قدم الفنان التشكيلي الدكتور فؤاد الطائي أحاديث أسماها "شذرات من ذاكرته في الفن والإعلام"، وكانت تلك الشذرات طافحة بالمعاني والمواقف المؤثرة لجيل كامل من رواد الثقافة والفن في العراق ومعاناتهم مع أزلام السلطات الحاكمة في تلك الفترات المظلمة من تاريخ العراق السياسي، والطائي له سيرة طويلة من العطاء تمتد لحقب طويلة، فهو خريج أكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد ، وحاصل على ماجستير في الفن التشكيلي وعلى شهادة الدكتوراه عام 1987. له العديد من المعارض داخل وخارج العراق. كان حديثه مفعما بالحيوية ويدلل على عمق التجربة الفنية والحياتية، بعد انتهاء حديثه تم تكريمه بدرع المهرجان قدمه له الفنان نبيل تومي وسط تصفيق الجمهور.

القسم الأخر من يوم المهرجان خصص لعرض مسرحية "دعوة للاعتذار" وهي من نتاجات فرقة مسرح الصداقة في ستوكهولم، وهي من أخراج بهجت هندي، أراد المؤلف في هذه المسرحية أن يقدم شهادة إدانة للحرب ويلعن مشعليها ومن روج لها أو كان سببا في ما أنتجته من خراب. اختار المؤلف جاسم ولائي والمخرج بهجت هندي أن يكون العمل (مونودراما) بممثل واحد والذي يمثل دوره الفنان نضال عبد فارس. موضوعة المسرحية تتحدث عن غربة البطل وخصامه مع محيطه. بعد انتهاء المسرحية تم تكريم المساهمين فيها بالزهور كما تم تقديم درع المهرجان للفرقة ممثلة بشخص المخرج بهجت ناجي هندي قدمه له الأستاذ محمد الكحط تكريما لعطاء الفرقة وعرفانا بجهودها.
اليوم الثالث من مهرجان أيام الثقافة العراقية كان يوما حافلا رغم طبيعة جو الصيف السويدي لهذا العام الذي بدا ساخنا وثقيلا. رتبت الكراسي على محيط القاعة لتكون هناك فسحة واسعة لفرقة "الفنون الجميلة" للرقص والأغاني الفلكلورية الكردية والعربية التي تشكلت في مدينة يتبوري من 60 عضواً, فبالإضافة إلى عروضها الفلكلورية الراقصة في إحياء الذاكرة الشعبية وإثراء الثقافة الوطنية، فإن لها نشاطات مسرحية ورياضية وتعليمية .. قدمت الفرقة طوال مسيرتها القصيرة عروضاً رائعة نالت استحسان الجمهور السويدي والجالية العراقية والجمهور المهاجر عموماً في السويد، وقدمت عروضها أيضاً في مدينة السليمانية, وفي 22 من تموز الجاري ستقدم الفرقة عروضها في المهرجان الثقافي العالمي الذي سيقام في مدينة زغرب بجمهورية كرواتيا.


 


بعدها بدأت فعاليات هذا اليوم، حيث رحب عريف الحفل الاستاذ محمد المنصور بالحضور وبفرقة "الفنون الجميلة" للرقص والأغاني الفلكلورية الكردية والعربية برئاسة الفنان دلشاد أحمد التي حضرت إلى ستوكهولم لتشارك في أيام الثقافة العراقية. مجموعة تجاوز عددها 40 فتاة وشاب بروح بشوشة وطافحة بالفرح ووجوه باسمة أسعدوا الجمهور بعروضهم الراقصة. وكانوا وكأنهم طيور ملونة يجوبون قاعة الحفل رقصا ودبكات كردية بديعة تنوعت على تنوع إيقاعات الفنان فرات وصوت المطرب صابر، ولكن القاعة ضاقت عليهم لذا صرح مدير الفرقة دلشاد في نهاية عروضهم قائلا "إن الفرقة قد اعتادت تقديم عروضها في الحدائق والساحات العامة". ومع هذا فأن عروضهم شدت الجمهور وأمتعه.





وقدم الشاب مهند هواز وهو عضو الفرقة وسبق أن كان عضوا في الفرقة القومية للفنون الشعبية العراقية، ومعه رفيقته روزا، رقصة الحسجة على إيقاع أنغام الريف العراقي، وهي لوحة راقصة قدمتها الفرقة القومية للفنون الشعبية العراقية قبل عدة سنوات وكانت من تصميم وإخراج وأداء الفنانة الراقصة هناء عبدالله والتي تعتبر الراقصة الأولى في الفرقة القومية وقدمت هذه اللوحة سبع راقصات, إلا أن الفنان مهند هواز أعاد تصميم وإخراج هذه اللوحة مجدداً وقدمها بصحبة الفنانة روزا. ثم قدما رقصة السيوف حيث صفق لهم الجمهور طويلا وأشاد بادائهما الخلاب. وبعدها قدمت الزهور لأعضاء الفرقة، وكذلك قدم الأستاذ حكمت حسين درع النادي والمهرجان الى مدير الفرقة الفنان دلشاد أحمد تكريما للفرقة.
وبعد استراحة قصيرة عاد الجمهور إلى قاعة العرض ليشاهد الفقرة الأخرى من برنامج المهرجان لليوم الثالث والتي كانت تحوي عروض لأفلام وثائقية وروائية لمجموعة من الفنانين المخرجين المبدعين العراقيين، الذين أنتجوا وأخرجوا أفلامهم تلك بالرغم من الظروف القاسية المتمثلة بشح الموارد وقلة الكادر والبعد عن الوطن وبساطة الآلات والمعدات المستخدمة. كانت هناك رغبة صادقة في حضور المخرجين لعروض أفلامهم خلال المهرجان لتكريمهم بما يليق وما قدموه من جهود سخية ونتاجات تظهر حرصهم وقدراتهم الإبداعية في صناعة سينما عراقية تحيي وشيجة الثقافة والمعرفة التي تعتمر بها روح العراقيين وتعطي الانطباع الحسن والجيد وتعكس روح التواصل بين هؤلاء وأبناء شعبهم، ولكن الظروف حالت دون ذلك، عسى أن نلتقيهم في أفلام ومهرجانات قادمة.
قبل بدأ عرض الافلام السينمائية، تحدث الفنان المخرج فاروق داوود ليضئ جانباً من تجربة المخرجين المبدعين بمهنيتهم الواعدة، وبتواضع جم قال: يسعدني ويشرفني ان اقف أمامكم ليس فقط لاني مشاركاً في هذا المهرجان الثقافي من خلال فلمي الذي سيعرض عليكم لاحقاُ، وانما اعتبر نفسي واحداً منكم وأحمل رسالة زملائي المخرجين للافلام الوثائقية والروائية، التي لم تسنح ظروف النادي وظروفهم الحضور واللقاء بكم في هذا اليوم. واتمنى ان اكون قد اوصلت لكم رسائلهم من خلال الأفلام التي ستعرض عليكم هذه الليلة الجميلة متمنيا لكم مشاهدة طيبة.
الفلم الأول كان للمخرج فاروق داوود بعنوان "ذاكرة وجذور"، عن حياة الروائي المبدع غائب طعمة فرمان. مثلما يقول الراحل غائب فرمان "من الطفولة تبدأ الذاكرة" حافظ الفلم على تلك الوشيجة فسجل وقائع عن علاقة المبدع بوطنه، بالحياة اليومية البسيطة للمحلات الشعبية، للصور والتكوينات في تلك الأماكن والوجوه وسيرة الحياة اليومية للناس وكيف كانت عالقة في ذهب الراحل غائب طعمة فرمان وحاضرة في ذاكرته يستنبط منها ويعيشها ليدونها في رواياته. كانت حركة الكاميرا تتعقب صور تلك الأحداث والأماكن وتدونها في لقطات من حياة الشعب العراقي عدسة الرصد لعين المخرج كانت تمسك بتفرعات تلك الأحداث لتدون فترة طويلة من تاريخ العراق. الفلم حاز على جائزة الفلم المتوسط الطول في مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية في سبتمبر من عام 2009.
الفلم الثاني كان "تقويم شخصي" للفنان المخرج بشير الماجد. وهو فلم روائي قصير، يقتنص لحظة ليست بالعابرة من حياة الناس في العراق. ركاب حافلة داخلية في أحد طرق بغداد يتخاصمون ويختلفون حول تحديد تأريخ يومهم الذي هم فيه، لكل منهم مشاغله ومشاكله. الحديث الساخن المشاكس يعرض طبيعة الخصومة اليومية التي تطغي على الشارع العراقي وتبدو معها النزاعات وكأنها تنفلت مع هموم الناس لتنعكس في اختلاف التقويم الذاتي للحدث الشخصي. الفلم أمسك لحظة حيوية بقدر ما كانت قصيرة فإنها قدمت معنا دقيقا لتسرب الزمن من حياة العراقيين وذوبانه في خيباتهم وتقاطعاتهم.
 الفلم الثالث كان روائيا بعنوان "لقالق" من إنتاج وإخراج الفنان جمال أمين.الفلم لا يتعدى الخمس دقائق، يتحدث الفلم عن اختلاف الثقافات أو نبرة العنصرية لدى بعض الأوربيين.
أما الفلم الروائي الرابع "الأمكنة المشاكسة" للفنان المخرج علي ريسان كان بطول 35 دقيقة. ثيمة الفلم تتحدث عن سفر أحد الرجال من الذين كانوا قد شاركوا في حرب الأنصار في كردستان العراق أبان فترة حكم الطاغية صدام حسين من السويد إلى كردستان حيث الأماكن التي قاتل فيها مع رفاقه. يتلمس ذات الطرق ويبحث عن أشياء علقت بالمكان مثلما علقت في ذاكرته، يناجي الأماكن ويناجي صحبه. بقايا متناثرة يستحضر فيها طبيعة العلاقة برفاقه وبالمكان.
وكان الفلم الوثائقي الأخير "سفر التحولات" يتحدث عن سيرة شخصية لأحد مبدعي العراق وهو الفنان التشكيلي جبر علوان. الفلم من إخراج الفنان كاظم صالح. عبر مزج اللون وتقنيات الرسم والسيرة الذاتية للفنان علوان سجل المخرج كاظم حركة الألوان ومساقط الضوء وكيف تتعامل فرشاة المبدع معها، أيضا دون المخرج عبر حديث شخصي للفنان سيرته الشخصية وطبيعة تلك الحياة اليومية الحافلة وتعلقه بالأماكن والشخصيات التاريخية العراقية وعائلته أيضا.



بعدها قدم الأستاذ فرات المحسن درع المهرجان إلى الفنان المخرج فاروق داوود قائلا: أن منح درع المهرجان للمخرج فاروق داوود هو في حقيقته تكريما له ولرفاقه المخرجين الذين قدموا جهدهم وشاركونا أيام مهرجاننا، شاكرين لهم وعبر المخرج فاروق داوود تفاعلهم ومشاركتهم متمنين أن نجد لهم أعمال أخرى يسعدنا أن تكون دائما ضمن برامجنا المعرفية والثقافية التي نقدمها إلى جمهور جاليتنا في السويد
أظهر الجمهور ارتياحه وإعجابه بالعروض وأشاد بالمنجز الذي قدم خلال تلك الأفلام وشكر البعض مبادرة اللجنة المشرفة على المهرجان وأكدوا ضرورة سعي اللجنة لتبني مهرجانا جديدا خاصا بالأفلام الوثائقية والروائية للمبدعين العراقيين.




في اليوم الرابع/ الختام لأيام الثقافة العراقية والذي هو اليوم الذي انبثقت فيه ثورة 14 تموز 1958 المجيدة وإعلان الجمهورية العراقية. استمرت المعارض المقامة، واحتفاء اتحاد الجمعيات العراقية في السويد ونادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم بضيوفهما في حفل استقبال أقيم لهذه المناسبة، تبادل فيه المحتفون وضيوفهم التهاني بالمناسبة الخالدة. وكذلك تم توزيع مجلة الاتحاد الشهرية "تواصل" عدد 48 لشهر تموز/ 2010 على الحضور.

 



بعدها بدأت فعاليات هذا اليوم، حيث رحب عريف الحفل الشاعر جاسم الولائي بالحاضرين وقرأ عليهم برنامج هذا اليوم الذي تضمن فقرتين غنائيتين تقدمهما فرقة "دار السلام" للتراث والفلكلور العراقي الأصيل. وأيضًا حديثًا للباحث والمفكر الدكتور كاظم حبيب. مضيفًا: الحضور الكريم من فاضلات وأفاضل ... في اليوم الأخير من أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم لعام 2010 أجدد التحية والترحيب بكم جميعًا باسم زميلاتي وزملائي في نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي، وباسم راعي هذه الأيام إتحاد الجمعيات العراقية في السويد، وكذلك باسم مديرية الثقافة في ستوكهولم. وأستغل الذكرى الثانية والخميس لثورة 14 تموز 1958 المباركة والتي تصادف هذا اليوم لأضيف تهنئة جديدة أخرى.
ثم رحب بالضيوف الجدد الذين حضروا اليوم الأخير وهم الأستاذ جوهر نامق والأستاذ منذر الفضل والأستاذ فرج الحيدري رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق ورجل الدين الشيخ صبيح ميرزا.
دعا بعدها فرقة "دار السلام" إلى المسرح لتقدم أغانيها التراثية الشجية وكانت على التوالي: عراق الأبد، يا حلو يا أسمر، سمر سمر، يا نبعة الريحان، الردته سويته، يا عمّة. لقد صفق الجمهور طويلاً على ادائهم الجميل.
بعد انتهاء الفرقة من وصلتها الغنائية الأولى وشكرهم على فقرتهم المميزة، تحدّث الاستاذ جاسم الولائي عن الدكتور كاظم حبيب واصفًا سيرته الذاتية بأنها سيرة غنية ومشرّفة، وهي واحدة من سيّر المبدعين والمفكرين المخلصين الكبار. مضيفًا، أن سيّر هؤلاء الناس بمجموعها تحكي سيرة وطن. ليس أستاذنا كاظم حبيب وحده، بل هو ومعه العديد من رجال ونساء ومن أجيال عديدة يشكّلون صورة العراق المشرقة المشرّفة. أقول مجددًا ليس وحده – من أجل أن لا نُصاب بمرض التمجيد. فهو والعديد من أمثاله ومثيلاته، وكل واحد وواحدة من الحضور الكريم يذكر ويُذكّر بأسمائهم وإنجازاتهم، هم لوحة عراقنا الحبيب. هذه السيرة من الصعب تقديمها كاملة بكل تفاصيلها من كربلاء إلى برلين مرورًا ببغداد والجزائر وكردستان وغيرها من المدن والبلاد والأصعب هو إيجاز هذه السيرة وحصرها. الدكتور كاظم حبيب .. كاتب وسياسي وأحد العاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني وحقوق المرأة. سُجن وأبعد في العهد الملكي لأسباب سياسية. درس الاقتصاد في كلية الاقتصاد ببرلين، وحاز على درجة البكالوريوس ومن ثم  الماجستير وفي عام  1968 حصل على شهادة الدكتوراه (PHD) من ذات الكلية، وشهادة الدكتوراه (علوم) (D.SC) عام 1973.. ترأس وشارك في عضوية العديد من المنظمات والروابط والنوادي وتحرير الصحف والمجلات ومنها مجلة الاقتصادي العراقية. وهو الآن أمين عام هيئة التجمع العربي لنُصرة القضية الكردية. وأمين عام هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق.




بعد هذه التفاصيل تحدّث د. كاظم حبيب عن الأوضاع العامة في العراق. وشمل حديثه تفاصيل عن الأزمة الوزارية التي يعيشها العراق اليوم ودور الأحزاب والصراعات فيما بينها على مصالحها الذاتية، وكذلك الصراعات داخل هذه الأحزاب نفسها. وتدخلات ومصالح دول الجوار. وتحدث أيضًا عن الدستور الجديد الذي من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدًا وخطورةً. وعن الأوضاع الاقتصادية في العراق وكردستان وعدم وجود قوانين تنظم العلاقات الاقتصادية، وهذا الأمر له مردود سلبي على مستقبل العراق وشعبه. كذلك تناول الدكتور حبيب أوضاع مكونات وطوائف شعبنا الأخرى في العراق وما لحق بها من تعسف وإيذاء كالكرد الفيليين والمسيحيين والأيزيدين والشبك والمندائيين وما تعرض له هؤلاء من قتل وسلب وتشريد وضياع حقوق،وأشار إلى انعدام الخدمات وتلوّت البيئة والواقع الصحي المؤلم للمجتمع العراقي. وتحدّت بالتفصيل عن الفساد المالي والإداري في العراق. قائلاً: إن هذا الفساد ليس ظاهرة والذي يصفه بأنه ظاهرة مخطئ حتمًا، إنه أصبح سياسة وأسلوب حياة يمارسه الجميع علنًا ودون خجل أو تردد، وأصبح قاعدة طبيعية وأسلوبًا يقبله الجميع من حكومة ومحتل ودوائر ومؤسسات وفي الوظائف العليا والدنيا. وبطبيعة الحال تحدّث د. حبيب عن الحل وما الذي على الجميع فعله لمواجهة هذه المشاكل والمعضلات.
بعد حديث د. كاظم حبيب، قام الأستاذ حكمت حسين سكرتير النادي بتكريمه ومنحه درع النادي ومهرجان أيام الثقافة العراقية وبعض الزهور له ولشريكة حياته احتفاءً بحضورهم ومشاركتهم وبمناسبة بلوغه العام 75 متمنين له الصحة الوافرة والعمر المديد والتقدم والتوفيق في عمله من أجل بناء أسس عقلانية لمسيرة الوطن في مختلف المجالات.




  بعد استراحة قصيرة عادت فرقة "دار السلام" لتقدّم وصاتها الغنائية التالية وبصحبة الفنان عباس البصري. وقدمت الأغاني التالية: حرقت الروح، كلّي يا حلو، الله من عيونك، كان القلب ساليك، العراق أول، هربجي. ادائهم الجميل واصواتهم الصداحة لتراثنا الشعبي العراقي الغزير وللذين كتبوا ولحنوا هذه الاغاني المرتبطة بوجداننا وعراقيتنا جعل الجمهور يصفق لهم طويلاً. بعدها قدمت الزهور الى اعضاء الفرقة، وقدم السيد احمد طه درع المهرجان الى المسؤول الفني للفرقة الفنان عباس البصري. من ثم قام الاستاذ محمد المنصور بتكريم فرقة دار السلام  بدرع النادي والمهرجان من خلال ممثلة الفرقة وعضوة الرابطة الفنانة زاهرة سرحان.

 


ثم كرم المصور الصحفي السيد سمير مزبان بمنحه درع المهرجان من قبل السيد سعدي الحداد، تثمينا لمشاركته في مهرجان النادي لهذا العام عبر معرضه الفني للصور الفوتوغرافية "الحنين". وكذلك كرم بدرع المهرجان رئيس اتحاد الجمعيات العراقية في السويد من قبل سكرتير النادي تثمينا لمشاركة الاتحاد في المهرجان عبر معرض مطبوعات الاتحاد ولما بذله من جهود في التحضير والإعداد للمهرجان.



وبعدها تم تكريم ضيف نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم وإتحاد الجمعيات العراقية في السويد السيد وكيل وزارة الثقافة العراقية الاستاذ فوزي الأتروشي من قبل السيد رئيس الاتحاد الاستاذ عبد الواحد الموسوي والسيد سكرتير النادي الاستاذ حكمت حسين بدرع النادي والمهرجان والزهور. وقد طلب الاستاذ الأتروشي الحديث بدوره شاكرًا نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم واتحاد الجمعيات العراقية في السويد الذي قام بهذا المهرجان الثقافي قائلاً: إنه حل ضيفًا على مهرجانات من هذا النوع في العديد من بلدان العالم. فيما أشار إلى أنه يتفق مع الكثير من حديث الدكتور كاظم حبيب ولكن كان فيه الكثير من التشاؤم، وخصوصًا فيما يتعلق بالثقافة والمثقفين، ليقدّم الوكيل بعد ذلك صورة عن الإنجازات التي حدثت في العراق وخصوصًا إنجازات وزارة الثقافة هناك، معلقًا أنه لا يريد تعداد جميع الإنجازات خشية من أن يحسدون عليها.
في الختام قدّم النادي الشكر والامتنان للجميع من: حضور كريم وضيوف وشخصيات اعزاء وفنانين مبدعين وفرق رائعة، والتي شاركت وأسهمت في انجاح ورفع من شأن مهرجاننا الثقافي السنوي " أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم لعام 2010"، وشكر خاص لفريق عمل أيام الثقافة العراقية وهم كل من السيدات/ السادة: "فرات المحسن، محمد المنصور، سعدي الحداد، محمد الكحط، نبيل تومي، جاسم الولائي، هادي الجيزاني، أحمد طه، بهجت ناجي، عباس الدليمي، توما شمعون، نورا، فيروز عبد الأحد، مرتضى يحيى، مؤيد البلها، جلال جمال، سنار شمعون، صالح رسن، بشار، سامي هندي، عبد الواحد الموسوي، حكمت حسين". وعلى أمل اللقاء في مهرجاننا القادم لعام 2011.





وكان مسك الختام مع النشيد الوطني العراقي "موطني" وأداء الاصوات الشابة الشجية لفرقة "دار السلام" وتفاعل الجمهور معهم، دلالة على اختتام أيام الثقافة العراقية في ستوكهولم لعام 2010، التي بدأت في التاسع من تموز/ يوليو واستمرت حتى الرابع عشر منه.
اعداد: اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي   
تصوير: سمير مزبان/ بهجت ناجي هندي/ محمد الكحط       
البريد الالكتروني للنادي: idkse@yahoo.se


265
النوارس تشدوا للفرح والسلام
فرات المحسن

في الحفل السابق فاضت بنا الدهشة حين طوقتنا نوارس دجلة بصدح شجنها الرائق البديع، فيا ترى ما بجعبتهن اليوم. القاعة ضجت بالجمهور.حضور كثيف بالرغم من إن جميع الطرق المحيطة بالقاعة كانت مغلقة، فاليوم هو الخامس من حزيران لعام 2010 من القرن الواحد والعشرين، هو موعد المارثون السنوي لمدينة ستوكهولم التي اعتادت خلق بديع البهجة وفعاليات الفرح لأيامها، وعافت البكائيات ونبش الماضي على بعض من يشتهي اجتراره ولوك الخيبات والتلذذ بطعم الحنظل دون سواه.
 كانت هناك ثمة قاعة فسيحة وجمهور كثيف صاخب. ترقب وتوجس في انتظار حفل جديد، موعد أخر مع نوارس دجلة. هل هي حفلة شبيهة بسابقاتها طافحة بالفرح والحبور، أم هناك شيء جديد. تقليد جديد وعدتنا به فرقة نوارس دجلة، فاليوم يشاطرها الحفل فرق غنائية أخرى، فرقة تركية وفرقتان سويديتان. إذن هناك كسر للتقاليد وسوف لا تنفرد فرقة نوارس دجلة بمجمل الحفل وعلينا أن نستعد لتذوق طعم أخر لغناء متنوع.
خرجت النوارس بألقهن ووجوههن النظرة الباسمة، مرتديات الهاشميات الموشاة بماء الذهب كأنهن أشرعة تمخر عباب بحر، بعدها تقدم المايسترو المتألق علاء مجيد. سكنت القاعة تترقب حركة يديه لتعطي شارة البدء وتدعو النوارس لتحلق في الفضاء لتمسك الزمن وتعيد تركيبه.
 يسكنني فرح غامر وأيضا كان هناك فخر يمور في الروح. أمامي رجل بكل ما يحمله من حرفية وعشق للفن ونسوة باسلات سامقات يؤكدن كل يوم أنهن فخر المرأة العراقية وروحها الوثابة، مثابرات كدودات ينشدن كلماتهن حباً بوطن يجدنه أقرب لهن من شغاف القلب، فيحتضن ربوعه وينشدن فرحه وبديع أيامه وألق عالمه الفخور بالحضارة والمنشد أبدا للحرية والمحبة والسلام. تلك المرأة التي عاشت الدهور حبيسة أبداً في قمقم لا تستطيع البتة التعبير عن نفسها وفك أسرها، ولكن في روحها هدير يسمع ضجيجه يتردد في الأفاق. في هذا الكورال الموشح بنثار من ضوع وضوء وجدت المرأة العراقية نفسها. في روحها زهو محبة، بهجة وورود بلون الشمس وسطوعها. ولذا أنشدن عذب الكلمات حبا بالسلام وشوقا للعراق.



صَمتُ لفّ القاعة
نحن نوارس دجلة... نوارس العراق.. للحب ننشّد نحن ...نغني للعراق ..لأرضنا، لمجدنا، لأرثنا، لأهلنا، أليك ياعراق......
ما عدت أسمع همس جمهور، ما عاد للمكان وجود. لملمت شتاتي وتفردي بأقصى ما استطعت فعَلقتْ عيناي وروحي هناك وراحتا تتنقلان بين يديّ المايسترو علاء مجيد ووجوه وأصوات النسوة وشاشة عريضة تدفع بي بين حواشي العراق وقلبه الفياض، تتلقفني النغمات وتسحبني لأسبح في أكوان ليس لها من حدود. طغى حفيف النخل وهسيسه، خرير الماء وموجه الدافق، أصوات النوارس وهي تتهادى مقتربة من جسر الصرافية تنادي صويحباتها عند منعطف جسر الأئمة، كل ذلك كان يأتي متهاديا ملونا مطرزا مشعا، فغبت معه، نسيت واختفى كل ما كان حولي، استحال الكون لدفق أنغام وليس سواها. عشت منفردا بين الصور والنغمات، متيم كنت ولذا فلتت دمعة دافئة لم أخجل منها بقدر ما شعرت بحرارتها وصدقها.
أكَول أنسى وتذكرني ليالينا على دجلة  ... وأكَول أرجع ويألمني ... وأخاف النار من وصلك
أحبك وأنا أريد أنساك

أبدا ما سمعت عذوبة وشدواً بهذا النهم والنشوة. هديل حمام أعادني لتلك الأغباش حيث يسجد ويبتهل قلبي لهفا بها وعليها. حارات وأزقة مدن صباي وشبابي وأغان تتشح بها مقاهي مدني القصية. شعرت إن في ذلك الإنشاد لشيء من تراتيل سماوية، قطع منثورة مبثوثة تحمل طلع النخيل وعبق روائح بساتين العراق، عصافير تركن روحها وعشقها تحت ظل شجرة مساء فاقعة الخضرة تتهدل أغصانها وتتمايل فرحة بلمة عشاقها.
لوحات من سحر كانت تومض وتضيء ما حولي وأمامي، كنت كأني محمول فوق نتف الغيم، ترتعش روحي وجدا وتنسى وجودها في تلك القاعة الواسعة. كنت وحيدا لا يشاطرني المكان غير تلك النغمات العذبة الرقراقة التي راحت تذيب روحي. لم يكن ثمة ما يبعث في السماء البعيدة الشفيفة غير صدح النوارس. صوت طيور الكون حين تجمعت لتنشد، وصور لدجلة الخير ومشاحيف تطرها، شناشيل البصرة وقبة لإمام وصليب يعتلي كنيسة وخبز تنور ووجه أمي المدور يتلفع بشيلته وشوارع مزدانة بالبشر ويد المايسترو تدوزن النغمات وحركة الكورال. لفني فرح غامر ولكن عند تلك اللحظة غل الشجن العراقي حزنه الأسطوري فشعرت بلذة بكاء محتبس.

الأسى والويل مكتوم بعيوني
وأخاف الليل يفضحها الجفوني
أسمر مغرور مغرور عذبني بغرامه

ثمة في الكون ما يشع نورا مبهرا، ضاعت معه رائحة خشب الأبواب وتراب الشارع المنقوع برذاذ الماء في أيام القيظ وأنفاس ورود وأريج ياس وروائح طلع. بدت وتبدت أمامي الشوارع كما هي. ثبتت بإحكام في رأسي، أيامي الخوالي هناك في مدني الحبيبة. أمشي وأمشي، تأسرني الألحان فأدخل حواف الأنهار، أهش النوارس لتحلق بعيدة في كبد السماء، ولكني أجدها أمامي مثل سرب بلابل ينفش زغبه الأصفر فرحا. تفرّش أمام عينيّ غابة سحرية طرية صادحة فرحة باكية موجوعة ودودة حنونة، تهدهدني مثل أم رؤوم. أغان ملتاعة شدون بها، ولكني رأيت واستحضرت فيها أجمل سنوات عمري وأزهاها فرحا وبريقا. أنوار خارقة تضيء فردوسا من حرير.

سلمت الكَلب بيدك .. طير وتاه عن وكره
دعني من مواعيدك .. كل يوم .. كل يوم ..وكَلت بكره

النسوة أمامي اشتعلن مجمرة من شجون يخالطها فرح غامر فاضت بها أرواحهن. لا يكتشف كنه هذا الخليط العجيب غير من يذوب عشقا ووجدا حين يسمع تلك الأصوات وتلك الموسيقى الشجية. تدفقن كزخات مطر تكتسح جدب الصيف وحره اللافح في أرض بلادي، دفق مفعم بسخاء قوس قزح ينثال فوق الحقول وعند عتبات الأبواب ويدور بين الأزقة منشدا يشاطر الناس غنائها وفرحها وحبها للحياة.

لذا وقف الجمهور أجلالا وعرفانا ودهشة وحبا لنوارس دجلة بعد أن قدمن عطائهن ونثرنه أجنحة فراشات طافت في سماء قاعة الحفل.

 

بدورها قدمت الفرق المشاركة الأخرى عروضها. الفرقة التركية Stockholms Turkiska Musikförening  قدمت الموسيقى التراثية التركية والغناء الجماعي والفردي الذي أمتع الجمهور. وكان كورال فرقتي God on Line    ومثلها فرقة  Consensus Gospelkör  قدما عروضهما الجميلة التي تفاعل معها وصفق لها الحضور طويلا مانحا لهم شهادة التقدير ومتعته وفرحه بمشاركتها في مهرجان نوارس دجلة. مسك الختام كان أغنية جماعية باللغة الإنكليزية شاركت فيها جميع الفرق. الأغنية كانت من كلمات الأستاذ محمود الرضا ضيف الفرقة القادم من دولة الأمارات العربية ومن ألحان الأستاذ علاء مجيد. كلمات بسيطة تتحدث عن التغيرات الخطيرة في المناخ والبيئة وتحذر من الخطر القادم وتدعو الجميع للانتباه لتداعياته وأن يعملوا من أجل إيقاف هذا الخطر. جمل بسيطة بمغزى كبير ولحن ينساب بحدة ليكون توليفة فنية متقنة تتوافق مع أحد الأهداف الذي أطلقت من أجله الحفلة.
مع ما خلفته الموسيقى والأصوات الجميلة والرقصات الرائعة للفرق الثلاث فقد بقيت راسخة في الخاطر أغاني نوارس دجلة ببهائها ونبلها وحرفيتها وفنها الذي فاح ضوع شذاه وملأ قاعة الاحتفال وكان طعما ونكهة ليس من السهل نسيانه. 
 

266


انتخابات الخارج دعوة مفتوحة للسرقات

فرات المحسن

لم تسجل المفوضية ( المستقلة ؟؟) للانتخابات سوى مشاركة ما يقارب 270 ألف عراقي من القاطنين خارج العراق في الانتخابات الأخيرة للبرلمان العراقي. واستبعد من أصل هذا الرقم أكثر من الأربعين ألفا بحجج واهية ودون مسوغ مقبول. لا بل كان الأبعاد نموذجا سيئا لعملية إقصاء متعمد لقوائم بعينها. ورافق تصويت الخارج الكثير من اللبس والإرباك وظهرت عمليات تلاعب وتزوير مؤكدة سجلها المراقبون والبعض من موظفي التسجيل. ولم تكن بعض المكاتب تمتلك الأمانة المهنية والشفافية في التعامل مع الحدث، بل دفعت نحو إثارة الشبهات في جميع إجراءاتها. وخير مثال على ذلك ما فعلته بعض المكاتب من ابتذال مارست فيه خدع خبيثة مع البعض من مواليد الخارج أو مع أخوتنا الأصلاء من الكورد الفيلية لتبعد الكثير من أصواتهم. 
سجلت ملاحظات عديدة على أداء مديري المكاتب واتهمتهم بعدم الحيادية أو تبعيتهم لبعض القوى السياسية المتنفذة وهذا الأمر لا يخلو من الصحة. وظهر واضحا للكثير من المراقبين في مختلف الدول التي أجريت فيها الانتخابات مدا فاعلية تلك العلاقات وتأثيرها على وقائع ومجريات الحدث الانتخابي. فقد عمل مدراء المكاتب على استقطاب نسب كبيرة لموظفين من عينات منتقاة وفق الميل الجهوي والطائفي أو الحزبي. وبني ذلك على وفق أغراض سياسية ومصالح شخصية وارتباطات مالية، مؤكدا السلوك غير المهني وغير الحيادي للمدراء الذين انتدبتهم المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات لإدارة العملية الانتخابية في ما يقارب الستة عشر بلدا. وظهر جراء ذلك عمليات تزوير وتسويف واسعة، لتشطب أثرها الكثير من أوراق التصويت التي تخالف سياسيا توجهات مديري المكاتب وأتباعهم. ومورس ابتزاز علني نحو أصحاب الوثائق الأجنبية التي تشير لعراقيتهم و تثبت هويتهم الوطنية. وسجلت حوادث تفضيل ومحاباة بين مدراء و موظفي قاعات الاقتراع وبعض الناخبين.
ومع كل تلك الأحداث الإدارية، سجلت أيضا وقائع نهب للمال العام لا يمكن التغاضي أو السكوت عنها. لا بل هناك سرقات يستحي من ممارستها حتى شحاذي الشوارع.  ففي أغلب مكاتب الانتخابات التي افتتحتها المفوضية ( المستقلة ؟؟) وانتدبت أليها أفراد من الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية لإدارة العملية الانتخابية في بلدان الشتات. قدمت لهؤلاء المفوضين تخصيصات مالية بلغت الملايين من الدولارات. وقد استغل هؤلاء تلك الأموال للبذخ والهبات والسرقات. وفي هذا السياق نذكر أن أحد هؤلاء المفوضين أستأجر له ثلاثة رجال كمرافقين ( في البلد الآمن ) وبراتب لحين نهاية العملية الانتخابية، بآلاف الدولارات للفرد الواحد. كذلك حجزت ثلاث سيارات للتنقلات، وشقق سكنية وجناح خاص في أحد فنادق الدرجة الأولى ( البزنس) تبلغ ليلة السكن فيه 400 دولار. وأحد هؤلاء صرح بأن مكتبه قام بطبع 2800 نسخة من الدعاية الانتخابية وبذات العدد لكراس أخر لشرح العملية الانتخابية. ولكن لم تظهر من تلك الكراسات غير بضع عشرات، لا بل لم يلحظ الناخب وجودا لها حتى في مراكز الاقتراع وطيلة أيام الانتخابات الثلاثة للتصويت. في حين أن تكلفة طباعة تلك الكراسات كانت بالغة الفحش وبالدولار الأمريكي. وجاءت مبالغ تأجير المخازن وشراء القرطاسية وصناديق الاقتراع وتأمين حمايتها لتسجل مبالغ خيالية تثير الكثير من الاستغراب والشكوك.  وذهبت جميع تلك المبالغ والحصص الى شخصيات ترتبط بأصدقاء ومعارف مدراء المفوضيات ومشايعيهم من ذات الحزب أو باقي الأحزاب القريبة. واستدلالا على تلك المحاباة وتبادل المنافع الشخصية، فأن أحد مدراء المكاتب المرسل من العراق لإدارة العملية الانتخابية أستأجر من أحد أصدقائه ومن المقربين لحزبه مخزنا متهالكا دون حماية وبنوافذ محطمة لتأمين مواد الانتخابات بمبلغ خيالي، في حين أن في انتخابات عام 2005 تم أيجار مخزن بمواصفات عالية الجودة مع توفير الحماية له من قبل سلطات ذلك البلد لم تتجاوز تكلفته ربع مبلغ ما قدم كمكافئة لهذا الصديق الرفيق صاحب المخزن. وذات الشيء حدث في عمليات شراء القرطاسية وغيرها من احتياجات المكاتب التي أحيلت بعهدة أشخاص أغلبهم من تجار الدرجة الثانية ومن أتباع الأحزاب التي تدير العملية الانتخابية.
وسجلت أيضا نسب عالية وبإفراط ملحوظ لأعداد الموظفين المشاركين في إدارة مواقع وغرف الانتخابات كحراس ومفتشين وإدلاء، كان جل عملهم الوقوف بين الممرات وأمام الأبواب لاجترار الأحاديث وو. وأغلب هؤلاء دفعت أجورهم تحت الطاولة أي خارج نظام ضريبة دخل العمل المعمول بها في تلك البلدان.
والغريب في هذا الأمر هو ورقة الدفع حيث سجل فيها على أن القابض عليه دفع رسوم الضريبة، وحين أعترض هؤلاء على هذه الصيغة أخبرهم مدير مكتب المفوضية بأن هذه الصيغة لاتعنيهم وأنما الغرض منها فقط يخص مركز المفوضية في اربيل.
وتفاوتت أجور العاملين من الذين شاركوا في الإعداد والعمل للعملية الانتخابية في جميع مكاتب المفوضية وفي مختلف البلدان. حيث أن مركز المفوضية الرئيسي لم يضع قواعد ثابتة للأجور وحسب طبيعة العمل وإنما ترك الأمر لمدير المكتب ليتصرف على هواه وحسب تقديره الشخصي لمستوى المعيشة في ذلك البلد. مما جعل الأمر يدخل في دائرة اللغط والشكوك في فرق المبالغ ولأي جهة ذهبت. حيث أن بعض مدراء المكاتب منح العاملين أجورا بلغت 1500 دولار أمريكي وفي مكاتب أخرى منح العاملين من ذات المواصفات الوظيفية مبلغ 1200 دولارا وفي أحد المكاتب منح العاملين ألف دولار ومن ثم مائة دولار بصيغة مكافأة أو إكرامية حسب قول مدير المكتب.
و لا أدري ما هو موقف المركز الرئيسي لمفوضية الانتخابات في بغداد واربيل ومعهم هيئة النزاهة من الأجراء الذي اتخذه البعض من مندوبي المفوضية لإدارة عملية الانتخابات في البلدان الأوربية، حيث قام بعضهم باستدعاء جوقة من أقاربهم ومعارفهم ومن بلدان أوربية مجاورة للمشاركة في إدارة العملية الانتخابية. وتحملت دائرة المفوضية دون مبرر معقول أجور سفرهم الى تلك البلدان وكذلك مبالغ تنقلاتهم وسكناهم في أضخم الفنادق. في الوقت الذي أهمل وأبعد الكثير من العاملين الذين اكتسبوا خبرة كبيرة حين أداروا بنجاح عملية الانتخابات عام 2005 في تلك البلدان.   
الأسئلة الكبيرة التي تثار والتي على السياسيين العراقيين من الحريصين على أموال وسمعة العراق أن يتأملوا ويدققوا في مسبباتها ونتائجها الحقيقية على الأرض.
ـ هل أن حجم أعداد المشاركين في انتخابات الخارج يوازي ما قدم وصرف من مبالغ لفتح مكاتب للمفوضية في بلدان العالم.
ـ ما هو حجم ونسب من شارك في انتخابات الخارج مقارنة بما أعلنته المفوضية عن أعداد الذين من الموجب مشاركتهم في الانتخابات في عموم العراق.
ـ ما هي النسبة الحقيقية لهؤلاء مقارنة بأعداد من شارك فعلا في الانتخابات والذي بلغت نسبتهم حسب إحصائية المفوضية 62% من 12 مليون ناخب. وهل شكلت أعداد من صوت في انتخابات الخارج رقما يعتد به ويمكن أن يشكل مركز لقضاء أو ناحية في خارطة العراق. 
ـ هل أن عمليات الصرف الباذخ الذي يقوم بها مدراء المفوضية ( المستقلة ؟؟؟) للانتخابات الذين انتدبوا لإدارة عمليات الخارج، تخضع للمراقبة والتفتيش والتدقيق ومن ثم المسائلة.
ولو أخضعنا تصريحات المسؤولين في الأمم المتحدة ومعهم المسؤولين الدوليين عن المهاجرين العراقيين في بلدان الجوار العراقي وأيضا بلدان الشتات الأخرى وكذلك وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، للتدقيق والمراجعة لظهرت لدينا معطيات بائسة عن أعداد المشاركين في انتخابات الخارج، تكذب وتنفي كل تلك التبجحات والتقديرات المبالغ فيها والساعية أصلا لابتزاز الشعب العراقي وسرقة أمواله. وفي هذا النوع من الكذب والابتزاز توجه أيضا أصابع الاتهام الى شخصيات سياسية عراقية متنفذة تشارك تلك الجهات والدول ادعاءاتها وتقدم الدعم الكامل لها لابتزاز وسرقة أموال الشعب العراقي.
وبذات المعايير تخضع عمليات فتح مكاتب الاقتراع في بلدان العالم المختلفة حيث تتوافق الأحزاب المتنفذة وتتحاصص على تقاسم المندوبين وتوزيعهم على تلك البلدان وتقدم لهم التسهيلات المالية واللوجستية دون أية مسائلة أو تدقيق. ومن الجائز القول أن عمليات انتخابات الخارج أصبحت تشكل واردا جيدا للبعض من الشخصيات والأحزاب العراقية وباتت بابا مفتوحا للسرقات بمختلف أنواعها.
وعين اليقين القول أن السارق مثل المأبون لا يهمه ما يقال عنه بل هو سادر في غيه وابتذاله وسقوطه وينظر الى الجميع بعين القبح والرذيلة، لذا لا نرى اليوم من يستمع لصرخة مظلوم وتضور جائع، وإنما نجد غلبة ساعية دائما لخطف حتى فتات الخبز من أفواه الجياع والعراة من العراقيين. وأبواب السرقة مشرعة مثل شهية هؤلاء الظلمة قساة القلوب. وقيل أن المال السائب يعلم السرقة. ومع وفرة السراق، توجد هناك وفرة لأموال سائبة لا تجد من يؤتمن عليها.


 

267
طريقان لا ثالث لهما

فرات المحسن

شيء حسن أن يكون العراقي قادر على أن يحمل جراحه وخوفه ليسير نحو صناديق الانتخابات ويسجل ظاهرة تبعده شوطا كبيرا عن باقي شعوب بلدان الشرق وبالذات العربية منها، حتى وأن كان ذهابه لأجل التسلية وملء الفراغ اليومي وتزجية الوقت. فنتيجة 62  %توضع في خانة المراكز المتقدمة لانتخابات في بلد يعاني كل تلك الاضطرابات والمصائب. لا بل المشهد يحمل الكثير من التفوق العددي في حساب المشاركين في انتخابات دول متقدمة من مثل أمريكا أو السويد. ومثل هذه الظاهرة تجعل المرء يفترض بأن استمرار مثل ذلك الاستعراض العددي كاذبا كان أم صادقا وبمتوالياته الانتخابية مع استقرار الأوضاع، فأن الدورات الانتخابية القادمة سوف تحمل لنا الكثير من المفاجأت تكون ذات طبيعة ونتائج مختلفة كليا عن سابقاتها. ومن الممكن لها أن تدفع العملية السياسية الى نموذج عقلاني لو أحسن الناخب المحاسبة ثم الاختيار، وأبعدت عن العملية الانتخابية تدخلات دول الإقليم وخرج المحتل كليا. ربما أن مثل هذا الظن يدخل في خانة التمنيات ويحتاج الى حسم الكثير من القضايا والإشكالات في مقدمتها وأهمها معني بسلوك الناخب وكذلك نواظم العمل الحزبي والانتخابي.
اختلفت وجهات النظر في مجريات العملية الانتخابية ووقائعها وبمثلها تصاعدت حدة الخلاف حول النتائج التي أسفرت عنها. وعاش غالبية أعضاء القوائم صراعا نفسيا، واحتدم النزاع بينهم لأجل استجلاء نتيجة التصويت واثبات فوزهم الحاسم سلفا. ومع ارتفاع وتيرة التصريحات وشد الأعصاب بين الكتل، جاراهم الشارع بتخوفه من النتائج وما سوف يرافقها أو يعقبها من حوادث فبدت بعض المدن يوم الانتخابات خالية من سكانها.
أكثر من فاجأتهم النتائج هو الشارع العراقي غير المسيس الذي اندفع لآجل أن يضع بصمته على الورق ليغير ما يستطيع تغيره بعد سبع عجاف. سبع لم يكن يحلم أن تطاله فيها كل تلك العذابات والأوجاع التي كان يبتلعها كل يوميا ولا يحمل في جعبته اتجاهها غير التأفف والتشكي والتوجع. ولم تكن كل تلك الجموع المعذبة لتتوقع وجود كل ذلك الفيض من الحيتان والثعابين التي زحفت لتلتهم كل ما فوق أو تحت الأرض وتنافس الناس حتى على الفتات.
انحسرت النتائج عند عتبة أربع قوائم كبيرة، وكأنما هي الأضلاع التي عليها أن تحيط العراق وتغلق بطوقها على حواشيه وبطونه كي لا يتسرب منه ما يقلق المحتل، وفي الوقت ذاته تجاور تلك القوائم مشايعيها وعرابيها في دول الجوار. قسمة لا تحتمل غير أربع كتل تطمئن مشهد التنوع الطائفي، الأثني والقومي ولا تخرج عن رؤية وخطط الإدارة الأمريكية لمراحل بناء العملية السياسية في العراق الجديد.
الإدارة الأمريكية أعطت لكل كتلة حجمها المناسب في هيكل السلطة التشريعية مستندة على دراسات لمعاهد ومؤسسات ترى أن العراق لا يمكن أن يكون بهوية واحدة، وعلى قواه السياسية أو بالاحرى طوائفه وقومياته أن تتكتل لترسم ملامح عراق متنوع يبحث له عن جامع ونظم لتقاسم السلطة دون منغصات كبيرة ومقلقة.
رؤية الإدارة الأمريكية تعتمد كبح جماح البعض ورفع شأن أخر. أيضا أخراج القوى والأحزاب الصغيرة بعيدا عن المشهد، دفعا لأي لبس أو تأثير واختلال في حالة وجودها داخل قبة البرلمان. هذه السياسة وضعت في حساباتها طريقين لا ثالث لهما وعلى الكتل الفائزة المتصارعة تحت قبة البرلمان أن تسلكهما بشكل أو أخر. وفي جميع الاحتمالات فأن الطريقين حسب قوى الاحتلال يفضيان الى الحل المناسب الذي تيقنت الدراسات ومن ثم الإدارة الأمريكية أنهما السلوك الموجب اتخاذه لاستقرار العملية السياسية وجعل المحتل الأمريكي يضمن النجاح لمشروعه في العراق، ويفضي في النهاية لعودة أغلب جنوده الى بلدهم.
نتائج الانتخابات واجهت اعتراضات كبيرة من جميع القوى التي شاركت في العملية السياسية وأبدت تلك القوى امتعاضها واحتجاجها المصحوب بكيل الاتهامات للمفوضية ( المستقلة؟؟) للانتخابات التي بدورها واجهت تلك الطعون بإرادة صلبة وعناد غير معهود، وصمدت بمواجهة تحديات وجهت لها من ذات القوى والأحزاب التي ينتمي جميع أعضاء مفوضية الانتخابات لعضويتها. وكان ذلك التحدي ظاهرة غريبة لم يعتادها الشارع العراقي ولم تستسيغها ذات الأحزاب من قبل بعض أعضائها مهما بلغت درجة عضويتهم. وبدا المنظر وكأنه خروج عن الطاعة، أثار الكثير من التساؤلات عن أسباب ومبررات هذا الجحود والعناد أو لنسمه الانقلاب على الراعي من قبل الرعية في عرف السياسة العراقية. ولكن ما دار في الكواليس وتسرب الى الشارع يشير الى ضغوط ووعود أو مناصرة تلقتها مفوضية الانتخابات من قبل ممثل الأمم المتحدة وقبله إدارة قوى الاحتلال وبرضا بعض الشخصيات والأحزاب المشاركة في الانتخابات وموافقتها على اتخاذ مثل هذا الموقف سيرا مع رغبة المحتل في تشكيل وهيكلة البرلمان العراقي الجديد.
خيار الإدارة الأمريكية الأول يتمثل في تشكل كتلة برلمانية كبيرة توازيها أو تنازعها كتلة معارضة برلمانية ليست بالهينة تستطيع المناورة وتهذيب الخطط وفي أبسط الحالات الموازنة داخل السلطة التشريعية والحد من غلواء بعض أجنحتها. وفي استجلاء المشهد الذي أفرزته نتائج الانتخابات فأن حظوظ القائمة العراقية تؤكد أنها ومهما غالت وجاهدت فلن تستطيع أن تمتلك غير موقع المعارضة في مثل هذه المعادلة وأن الغلبة في نهاية المطاف سوف تكون لتكتل القائمتين الشيعيتين وحلفاؤهم من التحالف الكردستاني. وفي مثل هذا الوضع فأن المعارضة سوف تكون غير قادرة على كبح إرادة هذا التحالف، ولن تبتعد الصورة عن ما شاهدناه في البرلمان السابق. ومن الجائز أن مثل هذا الحل سوف يصعد من طبيعة التخندق والخصومة الطائفية. ولذا فخيار الإدارة الأمريكية وخارطة الطريق الثاني الذي تقدمه، وهو المفضل لديها ويمثل المسعى المطمئن لمشاريعها وطموحها، يصب في موافقة جميع الكتل أو اقتناعها الناجز بأن ليس هناك من مسلك يؤدي لحل الخصومات وبناء الدولة غير تشكيل سلطة توافق بمسمى وطني؟ أساسها وهيكلها المحاصصة بين جميع الكتل الفائزة وتوابعها. وهذه الحالة التي هي خيار مطاط تروج له بعض القوى وتقبله على مضض قوى أخرى، فأن إرادة الاحتلال تجد فيه الكثير من منافذ الخلاص لورطتها وهي ساعية لفرضه أن عزفت الكتل عن خيار الطريق الأول. ولكن هذا الخيار سوف يدفعنا للتفكير في جدوى وقائع الانتخابات وما أسفرت عنه وما سوف تجلبه مثل تلك المحاصصة من منافع للعراقيين الذين جربوها وجلبت لهم الفواجع والنكبات. 
 


268
انتخابات عجفاء وخيار كسيح
فرات المحسن

انتهت الانتخابات الفريدة في تحضيراتها ومجرياتها والكاشفة لعورات الكثير من السياسيين الذين ابتذلوا جدا وهم يوجهون الطعون لبعضهم البعض. لم يبخل الكثير منهم في توزيع التهم والشتائم التي وصلت حد الإسفاف وجارت في بعضها المتداول من الحديث اليومي السائد في الأزقة الخلفية. هذه الصورة الغرائبية أفصحت عن مأزق أخلاقي وغباء فطري في طبيعة المنافسة السياسية، لا بل جهل تام بأس العملية الانتخابية وكيفيات التنافس الديمقراطي في بلد يريد أن يبني وطنا ديمقراطيا ودولة دستورية يحكمها القانون مثلما يصرحون. كل تلك التعديات في السلوك والتعبير أتت من الذين يطلق عليهم اليوم قادة لنخب تحكم أو تدير الشارع السياسي العراقي.
لا يمكن القول أن ما حدث كان تنافسا سياسيا وأن العملية الانتخابية كانت شفافة وحقيقية وديمقراطية. فهي في واقع الحال بعيدة كل البعد عن كل هذا وذاك. وقد أظهرت عمليات العد والفرز وإعلان النتائج وقبلها الدعاية الانتخابية والعمل الحزبي، عن ابتعاد العملية برمتها عن توافقها وتلك التسميات.
يعزو الوضع هذا لمجريات العملية السياسية منذ التأسيس الجديد للدولة العراقية بعد استدعاء حزب البعث وقائده صدام للقوات الأمريكية لاحتلال العراق عام 2003. فقد وضع بريمر قواعد مؤسسات كسيحة وشاركه الكثير من السياسيين في وضع اللبنات الأولى لهذا البؤس المؤسساتي منذ لحظة تشكيل مجلس الحكم حتى كتابة الدستور ومن ثم انتخاب البرلمان ومجالس المحافظات.
شكل البرلمان السابق ظاهرة فريدة في صناعة التشويش والالتباس، وظهر في أردى حال وهو يدير العملية التشريعية في العراق الجديد. وقدم أعضاؤه الصورة الأكثر سوءا والأشد سماجة لبرلمان ائتمنه الناس على مصائرهم ومجريات حياتهم. فاكتملت معه لوحة مؤسسات الدولة بهشاشتها وضعفها لا بل ضحالتها في الأداء والتعبير والإنجاز، وقدمت ما يضيف لساحة الصراع السياسي وكذلك الدموي الكثير من المساعدة وصعدت من حدة الفساد الإداري والمحسوبية والإقصاء والفرقة والتشويش والإرهاب.
وقف غالبية أعضاء البرلمان بالضد من القوانين التي تساعد على تنظيم وترشيد العملية السياسية. وبقدر ما كان البعض من هؤلاء يجهدون في البحث عن المكاسب الشخصية، كانوا يتعمدون أيضا لإيصال أكثر القوانين فاعلية وايجابية الى اللحظات الأخيرة. حين ذاك يبدأ شوط الصراع للوصول الى توافقات تنقذ جلودهم وتعطي ديمومة لمصالحهم الحزبية والشخصية. والكثيرون يتذكرون اليوم الكثير من القوانين التي كان لها لو أنجزت، أن تضع العملية السياسية في طريقها الصحيح نحو الديمقراطية، ولكن تلك القوانين جوبهت بالرفض القاطع ووضعت في طريقها شتى العراقيل كي لا يؤخذ بها وتوضع موضع التنفيذ.
فقانون تنظيم عمل الأحزاب لم ير النور لأنه يفضح الكثير من تلك القوى والأحزاب التي ترتزق من دول خارجية أو من عمليات سرقة المال العام أو إدارة شبكات الإرهاب وبيع السلع المحرمة. وفي هذا الشأن فأن مجموعات كبيرة حزبية وغير حزبية وقوى ونخب سياسية ومجتمعية من داخل العملية السياسية وخارجها، تدير وتشارك دون وجل أو تهيب وحتى خجل في تلك العمليات الإجرامية. وفي اعتقادي أن مثل قانون تنظيم العمل الحزبي في العراق سوف يوضع على الرف مرة أخرى في البرلمان الجديد، وربما سوف يناقش في أواخر عام 2014 أي عند نهاية الفصل الأخير للبرلمان الجديد، ثم يسدل عليه الستار دون مبررات مقنعة. والسبب في ذلك يعود لكون من أعيد انتخابهم هم ذات الشخوص والقوى المتنفذة في البرلمان السابق ولم يتغير المشهد بالشكل الذي يروج له بعض السذج.
والبرلمان السابق مع كثرة إخفاقاته وعوراته لم يستطع أيضا أن يجد آلية تنظم العملية الانتخابية بوقائعها وحرفيتها. وبذل أعضاؤه الجهود السخية ليرموا على عاتق المفوضية (المستقلة؟؟) للانتخابات وضع تلك الآليات استنادا لاجتهاداتهم ومزاجاتهم الشخصية. ففي داخل العراق وضعت المفوضية قواعد غير رصينة للتصويت تطلب من الناخب وثيقتي أثبات شخصية يتقدمها البطاقة التموينية التي يشكك بصحتها الكثيرون. ولم تكلف السلطة التنفيذية أو التشريعية نفسها لدفع عملية الإحصاء السكاني لتخذ مجراها الطبيعي حتى في المناطق الآمنة المتمثلة في الجنوب والوسط وشمال العراق واستثناءا من بعض المناطق الساخنة في نواحي الموصل وديالى. تلك العملية لو أجريت لحلت لنا الكثير من المشاكل وأغلقت الأبواب أمام الشكوك والتقولات. ولكن هناك قوى سياسية في السلطة المؤتلفة الحاكمة منعت هذا الشيء خوفا من فضيحة النسب والحجوم الحقيقية.
 أيضا لم تستطع المفوضية وضع أسس رصينة لتصويت أبناء العراق في الخارج وكانت مجمل تعليماتها متضاربة ومقلقة أخلت بعملية التصويت وغيبت الكثير من الأصوات بحجج واجتهادات رؤساء المكاتب الرئيسية وأحيانا الفرعية. وتناست المفوضية الإشكالات الكبيرة التي تحيط بأعداد وهويات التعريف للمواطن العراقي الساكن في خارج العراق. ومن مجريات عملية الاقتراع ظهر تخبط المفوضية ورؤساء مكاتبها وحيرتهم أمام أعداد كبيرة من ذوي الأصول العراقية المولودين خارج العراق، كذلك العراقيين من أبناء الشعب الكردي الفيلي. التي ضاعت أصواتهم دون مبرر مقنع. ويمكن القول أن سبب ذلك التضارب لا بل الخراب يعود في أساسه الى السلطة التشريعية التي كانت تفتقد الرؤية المتوازنة عن سير العملية الانتخابية وأهملت الأخذ بالآراء التي حددت حجم المشكلة وقدمت رؤيتها عن الهيكلة التي من الموجب اتخاذها كقواعد ناظمة لعمل المفوضية أولا ومن ثم أعداد المصوتين ووثائقهم الثبوتية.
ومع تخندق العراقي وانتخابه ذات الكتل والقوى التي تمثل الامتداد الطائفي والعرقي والقومي والحزبي فأن المستقبل لا يبشر بالخير وأن ما حدث لن يغير شيئا في المشهد السياسي بقد ما أعاد هيكلة العملية على وفق رغبة الحيتان والكواسر، وفاز في الانتخابات سخاء دول الإقليم وسرقات المال العام وتجار الإرهاب، وأقصي برغبة الناس وخيارهم الكتل التي كان من الممكن لها أن تكون ذات صوت مؤثر في داخل البرلمان. فالبعث والقوميون العرب والسنة اصطفوا وراء كتلة العراقية، والشيعة راحوا وراء كتلتي المالكي والحكيم. أما الكرد فلهم التحالف الكردستاني والتغيير والاتحاد الإسلامي وجميعهم دعاة قومية كردية مهما اختلفوا.
واليوم وبعد أن أعلنت مفوضية الانتخابات ما يقارب فرز 95% من الأصوات بدأت معركة حقيقة بين الكتل ازدادت معها حدة الطعون والاتهامات المتبادلة. وفي جميع تلك الخصومة وتبادل التهم، أبعدت الأطراف المتصارعة عن ذهنها هوية الوطن أو هموم المواطن وظهرت على حقيقتها، تتطاحن وتتعارك لاقتسام كعكة أسمها العراق ومن أجل صراع قادم لحلب ضرع العراق ليس إلا. وأعلنت منذ البداية وبصريح العبارة بأن العنف الطائفي والإرهاب المنفلت سوف يعود أن لم تفوز قوائمها. وهذا ما أعلنه السيد أياد علاوي منذ بداية العملية الانتخابية وجاراه السيد نوري المالكي بعد ختامها. مما يعني أن ليس للوطن والمواطن من أهمية بقدر أهمية الصراع على المقاعد.
 أجزم بأن الأعوام القادمة سوف تزيد عذاب العراقيين وكذلك ترفع من شراسة تلك القوى لتندفع مبتلعة العراق هوية ووجودا. ولا يلام في نهاية المطاف غير الناخب الذي تخندق وراء تلك الائتلافات وأعطاها صوته. ولا لوم على تلك القوى أن فعلت ما تشاء ويكفي الناس تشكيا وتأسيا ونواحا، فهم من ذهب بقوة للتصويت، وهم من أختار، وبرغبتهم جاءت تلك القوى الى البرلمان وعلينا الإقرار بأن أعضاء البرلمان العراقي هم صفوة الشعب العراقي وخياره الذي أراد. وأن أعاد الناس التشكي والنواح من ( غالبية ) من صوتوا، فعليهم أولا قطع أصابعهم التي دفعت بهؤلاء المفسدين الى حومة البرلمان.
   

269
صباح بهي نسائمه شيوعية
                                                                                             فرات المحسن

اليوم استيقظت عند شحيح الضوء، ليل كان مغطى بالثلج. الأبواب مغلقة والصباح بعيد المنال. سهرت حتى منتصف الليل ولكني نهضت مثل قبرة استفزتها ريح الحقول. لاسنونو يخطر في الأفق ولا حتى خطاطيف تخرق سكون الليل الموحش. كل شيء يكتنفه الهدوء وتلتاع فيه الهواجس.
جارتي العجوز أيقضها كلبها فراحت معه تغرز أقدامها المتعبة في تلال الثلج.
صباح معافى وجميل سيدتي الرائعة. ولكن زجاج النافذة كان سميكا وثقيلا. مساء الخير أيها الكلب الصغير النطاط. ولكن الطوق كان يشده دون فكاك.
دروب الرب تضاء الساعة في بغداد وأنا أرطن معها شغفا من بعد ألاف وآلاف. ولكنها قريبة جدا لقلبي لا يفصلني عنها غير زجاج النافذة وثلج تكومت نتفه فوق حوافها. الليل والغابة والثلج وسيدتي كانت سلوتي وسروري فاليوم هو الخامس من آذار. وأنى على موعد مع الوفاء بوعدي. وفاء لمن علمني تهجي الحروف وأرشدني لتملي الألوان وبروقها، وعلمني أن نشيج الريح حتما سيدر مطرا غزيرا.. فلا تبتأس. وأن البيادر بغلتها هي زرع الناس وصبرهم.
 وفاء لمدرستي وتلك اللوحة التي خطت أناملي فوقها أول الشعارات. وفاء لأصاحب غابوا عني دون أن أقبل جباههم النيرة.   عليَّ أن أنتصر وأملي إرادتي.
عليَّ أن أوفي بوعدي لكل تلك الحروف والدفاتر والكتب التي تملتها عيني وعب منها قلبي فباتت مثل قطرات دم تجوب شرايني.  لذا سهرت، لذا توجعت وكان بضع من صحبة يعرفون سبب ألمي وما يوجع قلبي ويقلقني. خفت أن تنهمر دموعي وأقعد متحسرا وأصاب بكل ضيم الدنيا ولوعتها، أن لم أوفي بعهدي الذي بدأت به صبيا. خفت من أربع عجاف ربما تجعلني أتحسر فيها وأود أن أقطع إصبعي المغمس باللون البنفسجي لأنه انزلق في الدروب وتاه وأضاع عليَّ حفيف الفراشات وعطر الرياحين. أربع سنوات قادمات كانت ستكلم قلبي أن لم أوفي بوعدي وأعطي صوتي لتأريخي وتراث أهلي وكل الذين عشقت فيهم البسالة وتلمستها حبات من مودة فاض بها قلبي.
سهرت وكلي قلق وضجر فتوسلت أن لا يطول الليل، أن لا تضيع الشمس موعدها، فترقبتها وشغفت بشروقها. وحين فرشت أشعتها كنت عجولا مرتبكا. لملمت أوراق تثبت أني فرات أبن ذاك الفرات الذي مست قلبه نسائم دجلة فما زاغ عن فؤاده يوما كل ذلك العشق ولا كلم فيه الشوق.
وأخيرا ناضلت واستجمعت قواي وكل خزين الروح واستنهضت أهلي وصحبي وأزقة مدينتي ووصايا دفاتري وموشحات الحب وشموس كنت ارقبها وناديت أصحابي، أن أنهضوا من لحودكم فقد نودينا والساعة ساعة لا كما باقي الساعات وأنتم راياتنا الخالدات وعلى هداكم نسير.
 ووفاء للعهد ولكل اشراقة صبح وطلعة بهية ومَعلم ودرب سرت فيه وعلمني أن الهزيمة لا وجود لها في قاموس تلك الأرواح والانتصار له وثبات ومسير لا يكل. لكل هذا وذاك دونت في دفاتري مرة أخرى (( رقم 363 اتحاد الشعب )) وطليت إصبعي باللون البنفسجي وخرجت مثل عصفور لملم غلة ليطعم بها فراخه لأربع قادمات. لقد انتصرت ووضعت إصبعي في الموقع الصحيح.
  

270
الشيخ عزة الشاهبندر والترويج الانتخابي

                                                                                                  فرات المحسن

مثلما أعتاد عليه البعض من الساسة المغمورين أصحاب التاريخ المنسي أو الملوث وجد السيد عزة الشاهبندر ضالته عبر الضرب تحت الحزام، فوجه قبضته وطوح بها في الهواء معتقدا أن تشويه سمعة الشيوعيين وإثارة ملفات بات المرء الحصيف والقارئ النبيه يعرفها جيدا، ربما يعطيه دفعا واستحقاقا انتخابيا ويجعل الشارع العراقي يتذكر أن هناك شخصا بمسمى عزة رشح للانتخابات القادمة وهو واحد من حماة الدين ومحارب مغوار من أجل عقائد الناس ونواميسهم وهو الضرغام القادم الحريص على أن يعدل كفة القبان التي أمالها الشيوعيون الزنادقة لغير وجهتها.
 وأن كان مسعى الشاهبندر من إثارة تلك الفرية الساذجة للتقرب وإعلان الولاء لشخوص الائتلاف الذي أنظم أليه مؤخرا، ولأجل نيل رضاهم وبركاتهم فكان الأولى به أن يوشم جبهته بالباذنجان مثلما يفعل الكثير من الفاسدين والمفسدين، والحيلة تلك يقبلها شرعا الخالق الغفور الرحيم. وأنصحه أن لم يجد باذنجان رغم رخصه، أن يضع قنينة الخمر التي أمامه فوق جمر موقد، ويضعها فوق جبينه لوشم جبهته، وهذا الحال يغني عن الباذنجان واختلاف التشريع حوله، أن كان استعمال المستورد منه لوشم الجباه حلال ومباح شرعا من عدمه.
تلك هي دوافع السيد الشاهبندر التي جعلته في ليلة وضحاها واعظا دينيا لا يشق له غبار، وراح في فورة الوعي الديني يحلل ويحرم ويساوي بين الأفكار والأيدلوجيات، بين الفكر الفاشي والفكر التنويري.
 كل ما ذكره مولانا الشيخ عزة يدل دلالة واضحة على جهل فاضح بالتاريخ ورغبة مبيته في عدم القراءة والاطلاع وتدقيق الكثير من الوثائق التي عرضها أشخاص محايدون عن تلك الأحداث، ولا يستطيع إنكارها غير الحاقد والمغرض، ممن يريد ترويج شخصي ودعاية رخيصة موجه للجهلة والأميين.
نظرية عزة الشاهبندر الدينية هي ذاتها التي روجت ومازالت تروج لها القوى الرجعية وحزب البعث، وكانت دعاية رخيصة لم تزكها الأحداث رغم تمسك أصحاب النوايا السود والمرضى والأغبياء بتجزئة الوقائع والقفز فوقها لتبرئة المجرمين الحقيقيين وإبعادهم عن دائرة الاتهام.
يتحدث مولانا التقي النقي عزة الشاهبندر بعد أن لبس لبوس الدين والحرص على معتقدات الناس، عن كفر الشيوعيين وإلحادهم بالرغم من أن أدبيات الحزب الشيوعي تتكلم صراحة وبتكرار ممل عن أيمان الحزب بحرية المعتقد حتى بين منتسبيه. ويبرر الشيخ عزة فكرته بترحيلها الى المقولة الماركسية عن الدين كأفيون للشعوب. ولست الآن في وارد الحديث عن زمن المقولة ومبرراتها والجهة التي عنتها، ووجهت بالضد منها، لأدانتها بما تفعله لتلويث عقول الناس وترويج البدع والضلالات والأمية، وهذا ما كانت الكنيسة تقوم به.
وبودي أن يفسر لي مولانا مفتي الديار عزة الشاهبندر ما يحدث اليوم في العالم الإسلامي وبالعراق بالذات، من استغلال للدين وتشويه لمهماته بحيث باتت مجاميع كبيرة تتحرك على وفق ضلالات وعقائد ومحدثات ما أتى الله بها من سلطان. أليس هذا يسمى أفيون وبدع تسلب الناس عقولهم مثلما سلب حزب البعث عقول الكثيرين باسم الوحدة والحرية والاشتراكية. أم ترى مولانا الشاهبندر أدام الله ظله أراد أن يدشن حملته الانتخابية بإعلان الموافقة والإفتاء بصحة تلك الفتن والبدع والمحدثات. ولذا صرح بكامل القناعة، قبوله ورضاه عن جميع تلك الموبقات الكاذبة المنافقة التي تصل في بعضها حد الكذب الصريح وغسل عقولهم والضحك على ذقونهم بأفيون الخدع والبدع. وباتت بفضل فتواه وفتوى غيره من المتقلبين والنفعيين، هناك طبقة مختصة من رجال دين شغلهم الشاغل ومصدر رزقهم أن ينافقوا الناس ويروجوا لتلك الخزعبلات والبدع باسم الدفاع عن الدين والترويج له، وليس لنا غير أن نتمعن مع شيخنا عزة الشاهبندر، فكر منظمة القاعدة وفروعها والفتاوى الطائفية لرجال الدين الداعية لتكفير وقتل الناس  أو في الطرف الأخر حيث فضائح الشيخ الحائري واضرابه من الوعاظ.
 
أيها الشيخ عزة الشاهبندر لقد وطئت موطأ الخطأ وكانت حربك الانتخابية وترويجك لشخصك، بائسة جدا، وكنت أظنك حصيفا حريصا على نفسك دون أن تسلك هذا المسلك الوعر والساذج. والذي سبقك في هذا السلوك الشائن الكثير ومنهم عزة الدوري الذي مارس الدروشة والدرباشة بالرغم من أن يديه كانت ملوثة بدم الآلاف من أبناء الشعب العراقي، ثم بصق عليه الشعب ووضعه ورفاقه في زرائب الهوش.
  كان باستطاعتك أن تجعل حملتك الانتخابية على الأقل أكثر عقلانية ونظافة وفي اتجاه خدمة العراق أولا أن كنت حقيقة مهتما بذلك،  دون إثارة الأحقاد والضغائن والإفصاح عن مكنون الحقد دون مبررات أخلاقية ولسبب واحد هو دفاعك عن حزب البعث والتقرب من حلفائك الجدد. وكان الأفضل لك في البداية أن تحسن صورتك التي عرفت بها في المنفى أو حين دخلت حومة البرلمان. والشيء الحسن أن لا تفقد الذاكرة وتبقى تتذكر بأنك كنت واحدا من أعضاء البرلمان السابق الذين استلموا رواتب العضوية سحتا واستغلوا المنصب ولم يحضروا ولو جلسة واحدة من جلسات البرلمان، ولم يشاركوا في نقاش أو يعطوا رأيا. وكان الأجدر بك قبل أن تصبح داعية إسلاميا وتدافع عن نواميس الناس، أن ترد مال الشعب الى أهله. فبأي فم وقدرة وكفاءة تريد اليوم الترويج لشخصك عبر مطارحة بائسة خالية من أي ذكاء وفطنة.

271
الفن والثقافة ميوعة وبدعة

 

فرات المحسن

 

في برنامج حوار حر ظهر السيد فائق العقابي مقدم البرامج المغضوب عليه في قناة العراقية الفضائية والممسك بعقدة التجديد في قناة البغدادية، ليقدم برنامجه الجديد القديم، كلام أو حوار حر مفتوح يتناول ملفات شتى من الواقع العراقي. مشاهدتي الأخيرة للبرنامج كانت مع حلقة عن الفن والفنون وما يحيط به من خلل وبخل وإهمال وعقوق وحقد وجنون.

السيدة ميسون الدملوجي والسيد عقيل مهدي ومجموعة أخرى كانوا ضيوف البرنامج، انتشروا بمحيط نصف دائرة في ليل ساحة التحرير في بغداد، يخالط حديثهم زعيق سيارات الشرطة وهي تزف مواكب السادة حكام العراق. وبعد أن شعر كادر البرنامج بمدى الكره الذي تكنه أمانة العاصمة وسادتها ورفاقهم في محافظة بغداد لنصب الحرية، أهدت البغدادية إنارة جميلة غطت نصب جواد سليم فأضفت عليه شعاع بهجة جسد عظمة وشموخ ذلك النصب الخالد.

 لسعة برد شعر بها الجميع، وكان بعضهم يفرك أصابعه طلبا للدفء رغم سخونة الموضوع ومقدار ما يحمله من وجع وألم مضن.

 في ذاك اللقاء طال الحديث وتشعب. والكلام الحر بدا يسخن. أسئلة وأجوبة، فيض من عتاب، تحليل وتساؤل. كرة مطاط قذفت في ساحة هذا وذاك، تلقفتها الألسن ولاكتها ثم قذفتها نحو نقطة الهدف الرئيسية دون عناية أو بالأحرى دون تدقيق وتصويب. لامست الأجوبة بعض حقيقة وتهربت عن حقائق شاخصة. بدوري تنبهت لذلك الأمر وأدركت أن رعدة البرد كان لها سببا أخر. سبب كان عصيا على الجميع، في مثل تلك الساعة من الليل، ووسط بغداد، وفي ساحة مكشوفة تسمى ساحة التحرير. كل ذلك كان كافيا ليجعل الفرائص ترتعد، فتتهرب من الإجابات، مستوحشة طريق الحق لقلة سالكيه.

 الهروب بعيدا عن ذكر السبب الرئيسي كان غاية المنال لا بل المنال نفسه. وأنصافا أقول ربما صدرت عن السيدة الدملوجي جملة خجولة ومثلها بادر لتمريرها مقدم البرنامج السيد العقابي. ولكن الكرة وبحرفية عالية ومقصودة مرت لتصطدم بالعارضة وخرجت خلف الكواليس دون أن تكون في صلب الهدف. وكان السيد عقيل المهدي حافظ نشيد الإنشاد يردد بصوته الجهوري وكأنه فوق خشبة مسرح، تعويذته الدبلوماسية الدائمة عن المستقبل الزاهر وقوة وعزيمة ومكنة الفنان على انتزاع النصر. ومثله أيضا سار ركب الحضور مبتعدا عن تشخيص العلة في التدهور الحاصل والحصار المميت والتعسف والقسوة التي توجه ليس فقط للفنون والإبداع وإنما لكل ما هو حيوي وجميل في  حياة العراقيين.

كان البرد يحيط بساحة التحرير من كل حدب وصوب. وكان الحضور ومقدم البرنامج وحتى أشعة الضوء الساقطة فوق نصب الحرية، تتلمس وتتشمم رائحة البرد، وترتجف له القلوب ولا ينفع لطرده فرك أصابع أو تدليك أفخاذ. فربما هو خاتل خلف عامود كهرباء أو عربة مصفحة للشرطة الوطنية أو حتى في صندوق عربة لبلبي، وفي الجوار هناك سوق الأمريكان.  أنه البرد القاتل يتربص الأفواه وحتى لفتات العيون.

هرب المقدم ومثله ضيوفه وتغافلوا عن ذكر من يكره الفنون والثقافة والتمدن بل يمقت حتى اسم الحواضر من المدن. تغاضوا عن ذكر دعاة البكاء على الأطلال وعشاق المقابر وضاربي الخدود ورواد الأقبية والسراديب. هؤلاء العتاة الذين يكرهون الحياة بنعمها وفرحها وزينتها. ويغذون السير نحو الماضي تتلبسهم لوثاتهم، ويمرغون ذواتهم بكل ما هو بغيض وقبيح. ويسعون لجعل حياة الناس وطرا من بكاء ووطرا من سواد ووطرا من تفجع.

 تناسى مقدم البرنامج وضيوفه كل هؤلاء الذين يواجهون الفرح بالدم، والسعادة باللؤم، والغبطة بالنكد. هؤلاء الذين يفترشون الطرقات مثل أفاعي وعقارب. زحفوا مثل الوباء ليبتلعوا مؤسسات الدولة ويديرونها اليوم بعقول مريضة ملوثة قادمة من زمن الجاهلية الأولى.

تغافل ضيوف الفضائية البغدادية وهم يرتعشون ( بردا ) عن أصحاب الجباه المكوية بالبذنجان من الذين يقفون اليوم سدا منيعا في وجه الثقافة والمعرفة، لا بل في وجه أي نوع من أنواع التحضر والمدنية. وهم من يغلق المنافذ كي تختنق الأرواح الساعية نحو تمدن الحياة ومواكبة الحداثة. يكرهون شيئا أسمه الحضارة والثقافة لأنها تسحب البساط من تحت أقدام أراجيفهم الباطلة. تخلى حضور البرنامج عن الحقيقة، رهبة من ظل يجاورهم ويرصدهم، وغلسوا عن ذكر هؤلاء الأوباش الذين يرمون وزارة الثقافة على بعضهم البعض كرها باسمها ومحتواها، ويمنعون عنها الموارد المالية، لا بل يعدونها وباء وجعلوها وكرا للقتلة وتصفية الحسابات السياسية ووضعوها بيد قاتل وشيخ جامع أوشويعر يريد تمجيد قصائد التعازي والبكائيات. نسى ضيوف السيد العقابي أن جمعا من أصحاب الكهوف لا يحبذون الأنصاب والصور، فهي كفر في أعرافهم، وأن التمثيل في المسرح أو السينما أنما هو زندقة، والممثل والممثلة ما هم إلا زناة فساق حلت عليهم أللعنة الى يوم الدين، وأن قتلهم منجاة للأمة وولوج للجنة. أما الموسيقى والغناء فهما فجور وغواية شيطان ولغة من جهنم فما بالك مع الرقص الفلكلوري. حتى الرياضة تعني في أعراف رجالات الخطاب الديني الكاذب، رجس من عمل الشيطان على المؤمن تجنبه، والطوبة آه الطوبة وهي بالذات أم الكبائر يركض وراؤها المجانين من ناقصي الدين والعقل.

لا ترتجفوا يا سادتي وسيداتي فهذه هي الحقيقة وليس غيرها. الحقيقة التي ابتعدتم عن ذكرها خوفا، ولكم الحق في هذا.

 ربما أن بعضكم كان يجيل بناظريه محيط ساحة التحرير يترقب أن يأتي وميض يعقبه صوت أزيز لتائهة تخترق الهواء، ولن تكون معنية بالهدف فكلكم مشروع مرغوب في أعرافهم،  يستحق أن يصمت والى الأبد. ولكن ظهوركم كانت مكشوفة، فلكم كل الحق في ترقب البرد وهو يقترب وترتعد معه الفرائص كونه يتوعدكم بالويل والثبور وعظائم الأمور. 

وأن أردتم معرفة تلك الحقيقة وأنتم حتما تعرفون الشيء الكثير عنها، ولكنكم خشيتم أصحاب الظنون ومفسري النوايا. لا عليكم فأنا أدعوكم للجلوس وسط قادة مجالس المحافظات الجنوبية والوسطى وحتى الشمالية لتروا العجب العجاب وكيف يبنى ويعد لاستقبال دولة الدين الحق ويروج لرسالتها الخالدة بين الناس. فالبدايات تبشر بالقادم ولا من اعتراض والسلطة غير مركزية وراضية مرضية، وللمحافظات حكامها وقوانينها. ولا حاجة لوجود فلسفة أيمن الضواهري وصحبه فاليوم هناك في العراق من يحمل أرصن واشد أثرا من شخابيطه وترهاته. فمائتي دولار مبلغ مناسب لزوج أو قريب النائبة المصون في مجلس المحافظة، ضمانا لها من غواية الشيطان حين يوسوس في صدرها ليزوغ منها البصر، وخوفا عليها من زملاء رؤوسهم تضج بتفاصيل جسد المرأة أكثر من تفاصيل رفع الضيم عن الناس. أيضا تعالوا نشاهد كيف يسرق المال العام بواسطة من يؤتمن على وقفه الديني الشيعي وهو الذي يعتمر العمامة ويرتدي الجلباب ويطقطق بسبحته ويتهدج ويبكي حين يذكر ربه ومظلومية طائفته... وغير تلك الفعلة لكثير الكثير. 

 وقبل هذا أرجو أن تعرض عليكم السيدة ميسون الدملوجي وقائع ما يحدث من حوقلة وبسملة وضجيج وطنين وفحيح في البرلمان عند ذكر الفنون والثقافة والرياضة وغيرها من بدع الشيطان الرجيم. وادعوا السيد عقيل المهدي للتخلي عن نشيد الإنشاد ليحدثنا عن الرصاصات التي ينصت لطنينها وهي تشنف أسماعه كل يوم. ولا أريد أن أراه مهموما منكودا شاكيا نائحا باكيا عندما يتحدث عن عواصم الثقافة ومهرجاناتها واحتفالات أيامها الخوالد، وكيف تقف الصقور والبوم ولوكَية العهد الجديد يتقدمهم كبيرهم بلحيته الحمراء المشذبة لتهيئة الأجواء الرومانسية للمشاركين والضيوف.

كان على السيد مقدم البرنامج فائق العقابي أن يدير الحلقة بسؤالين مباشرين دون غيرها. سؤال عن سبب إقدامه والكادر المنفذ للبرنامج على إنارة صرح نصب الحرية أو ( وجه بغداد) على حسابهم الخاص، وعن السبب الذي يدفع ( الرفاق ) الجدد في أمانة العاصمة وزملاؤهم في محافظة بغداد لتشذيب لحاهم وترصيع جباههم بكثرة السجود، وبالمقابل إهمالهم للنصب والتماثيل التي غدت ألوانها كالحة وغطاها براز الطيور.

 أظن أني تجاوزت على سكان العاصمة العراقية حين أطالب الاعتناء بالنصب دون أن أذكر بؤس الأحياء والأزقة وفقرها وترع المياه الأسنة وطفح المجاري وأكوام النفايات.

 ومع كل هذا فأنا على يقين وأقول للجميع بأن تلك المناظر المنفرة والمخدشة للذوق، تصاحبها الرايات الملونة المرفوعة فوق رؤوس الشوارع وعلى أسطح البيوت والحافلات وتتقدم الجموع الزاحفة لتعميم ثقافة التجهيل. كل ذلك بات عند مرتدي لبوس الدين زورا، جزءً مكملا لحملة أيمانية واعدة وعالية الجودة، وهي الحالة المناسبة التي تنتعش فيها ومعها قيمة الإنسان ويتصاعد أيمانه الروحي نحو الذرى ويكون قريبا من بارئه ومنجيه يوم الحشر العظيم. أليس أبن لادن قد ترك حياة النغنغة والفخفخة والعز والبذخ وفضل عيش الكهوف وحياة الكفاف متمثلا بحياة السلف الصالح. وحياة السلف الصالح لها شروطها المعروفة، وهي لا تختلف عند هذا أو ذاك رغم التقية واختلاف المنهل. أنها نهج ودعوة لأن يخشوشن البشر. والفن والثقافة ميوعة وبدعة، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ومن ضل فمأواه جهنم وبأس المصير.

272
قناة الفيحاء بين الشطارة وسرقة جهود الآخرين


لسنا اليوم في وارد استعراض برامج قناة الفيحاء الفضائية ولا نملك الرغبة في انتقاد ما تعرضه.حديثنا وباختصار يدور عن المهنية التي تتمتع بها هذه القناة التي نعتقد أن مديرها السيد محمد الطائي يهمل هذا الأمر بشكل كبير.وهو بالذات قبل غيره يتحمل كامل المسؤولية، مثلما متعارف عليه في جميع المؤسسات، وواحدة منها الإعلامية السمعية والبصرية، حيث يكون المسؤول الأول في إدارتها مسؤول مسؤولية مباشرة مهنيا وأخلاقيا وقانونيا عن مصادر ومحتوى البرامج.
لا يخفى أن قناة الفيحاء الفضائية قدمت ومازالت تقدم بعض الخدمات لجمهورها، ولبعض برامجها وقع جيد في الشارع العراقي، بالرغم من الهنات والهفوات الكبيرة والكثيرة التي تكتنف العروض والبرامج.ولا نريد أن نصف السيد محمد الطائي والقناة كموقع أنترنيتي شبيه باليوتوب يعرض ما يرده دون تمحيص حتى وأن كان مفبركا. ونعتقد كذلك أن موقع يوتوب له هيأة رقابية أو فلتر لا تسمح بأن تخرق مهنية الموقع وخاصة في مواضيع الجنس الفاضح.ولكننا نجد ان قناة الفيحاء بشخص مديرها ومسؤولها السيد محمد الطائي غير مبال بما يرده من مراسليه، أو بالأحرى لا يسألهم عما يقدموه من مواد، وما هي مصادرهم، وكيف أعد العمل ، ووفق أي أسس ومعايير، وهل هناك حقوق للآخرين في هذا العمل المرسل، وما طبيعة تلك الحقوق، وهل يا ترى أن العمل المنجز كان بخصوصية بحت لقناة الفيحاء، أم أن العمل المنجز والمرسل ثم المعروض قامت به أو حتى شاركت فيه أطراف غير قناة الفيحاء.وإن اختفت من العرض وبصورة متعمدة ومفبركة الجهة المنفذة أو الجهة التي قدمت الجهد وتبنت المشهد بكامله تمويلا وإعدادا، فما هو موقف إدارة قناة الفيحاء المهني والأخلاقي من مثل هذا العمل، وما نوع المهنية والأخلاقيات التي تسمح بإخفاء صورة واجتزائها وفبركتها ثم تجيرها لصالح قناة الفيحاء.
والسؤال الأكثر إيلاما متأتي من البحث عن القصد والسبب في أن يسرق برنامج بكامله ليكتب في مقدمته ونهايته (قناة الفيحاء تقدم لكم حفلة أو برنامج ....إعداد فلانه ومونتاج علان ) ترى ما نوع البطولة والشجاعة والمهنية في ذلك، لا بل ما علاقته بالصداقة والجيرة والمعرفة الشخصية والتحايا والسلام والتودد حين يظهر بمثل هذا الطرح الغير المهني أن لم نقل غير الأخلاقي.أين تختفي كل تلك الأعراف في عمل لا يعرض فيه أي جهد للطرف الرئيسي الذي تعب وسهر واستضاف وبذل المال والجهد من أجل أن يخرج العمل ويعرضه للجمهور متعة ومحبة ثم تأتي قناة الفيحاء وبتشاطر مكشوف وعدائي حد نخاع العظم لتعلن أن البرنامج من إعداد مراسلتها بعد أن قام المونتاج بتقطيع الفلم وبفبركة تختفي معها جميع معالم تشير الى الجهة المنظمة.
في هذا نسأل جميع الإعلاميين والكتاب ومحترفي الفنون بمختلف أنواعها هل أن هذا العمل ممكن أن يكون من أخلاقيات المهنة أم هو نوع من الفذلكة والفبركة والتشاطر والنهب المتعمد،وما القصد من ذلك، وما هي المعايير التي وفقها تم ذلك التقطيع لإخفاء الجهة الرئيسية، وهل أن المال ممكن له أن ينتزع من صاحب المهنة ضميره الرقابي الموجب أن يكون جزء من أخلاق وعرف عام.أم يا ترى علينا أن نقتنع بأن قناة الجزيرة حين فبركت بالصورة والصوت فيلم عمليات الإعدام في كربلاء كانت تتمتع بحرفية مهنية وأخلاقية عالية يسمح لتسميتها بالشاطرة والذكية.ونقول بعد ذلك من حق الجميع فبركة أي خبر أو فلم للحصول على المصاري والشهرة.
في كل ما تقدم عنينا السيدة إنعام عبد المجيد مراسلة قناة الفيحاء في السويد والتي كنا نكن لها دائما الاحترام كأمرأة قبل أي شيء أخر بالرغم من طرقها الملتوية وغير المنطقية في عملها كإعلامية. فهي التي ترى أن على الأخرين القبول بها شخصيا، وبعد ذلك عليهم الرضا عما تقوم به باعتبارها مراسلة تمثل قناة فضائية لها الحق في دخول أي فعالية دون أستاذان، لا بل تأتي في أي لحظة تختارها هي وعلى الأخر القبول والتهليل لها.وهذا ما حدث في أغلب فعاليات الجالية العراقية في ستوكهولم.ربما لا اعتراض على ذلك فمن حقها كمراسلة للقناة تغطية ما ترتئي تغطيته من فعاليات.ولا تحاسب على مثل هذا الأمر فهي في هذا تكسب رزقها، ولذا تقوم بعمل برامج لترسلها لقناة الفيحاء مقابل مبالغ.ولكن نتساءل أليس من الأنسب أن تكون هناك أعراف وقواعد للعمل الصحفي والبرامجي، من مثل موافقة الطرف الأخر وأيضا إعلامه عن الرغبة بالتغطية في وقت مناسب. ولكن حتى هذا الأمر يمكن أن يغتفر ويهمل ويتجاوز عليه وفق سياقات ومشاعر الأخوة والصداقات الشخصية وحتى الحاجة لتبادل المنافع ونحن في الغربة،أن كانت هناك حسن نية.ولكن أن يلطش برنامج كامل ويسرق ويجير لصالح السيدة إنعام عبد المجيد إعدادا وإنتاجا دون التطرق والإشارة الى الطرف الممول والراعي والمعد والمشرف على الفعالية جميعها، فذلك قطعا ليس من أخلاق أية مهنة ممكن أن تسمى مهنة وحرفة بمستوى ما متعارف عليه.
عرضت قناة الفيحاء أيام عيد الفطر المبارك ولمدة ما يقارب الساعة حفلا فنيا لفرقة المقامات العراقية ( فرقة أنور أبو دراغ) وكررت عرضه لمرات عديدة. كان ذلك الحفل هو عنوان ومحتوى اليوم الأول من أيام الثقافة العراقية لعام 2008. وهو تقليد سنوي اعتاد نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم تنفيذه ويمتد لمدة 4 أيام. وقد قام النادي بصرف مبالغ وجهود كثيرة وسخية من أجل تلك الأيام التي أمتعت الجمهور. وسبقت تلك الأيام أشهر عديدة من الاتصالات والتنسيق مع شخصيات وفعاليات عراقية عديدة شاركت وساهمت بأحياء تلك الأيام.وكانت هناك أيضا اتصالات وتنسيق مع الفرقة الفنية الرائعة للفنان الجميل أبو دراغ وزملائه من المبدعين. وقامت اللجان الثقافية والفنية في النادي بتذليل الكثير من الصعوبات والعوائق لمجيء الفرقة المنتشر أعضائها في بلدان عديدة. وكذلك قامت اللجان بحجز وتهيئة القاعة وتوفير ملتزمات تلك الاحتفالية.وسجل حضور الجمهور وتفاعله مع فرقة المقامات العراقية قيمة وثيمة بارزة لذلك اليوم ومثله لباقي الأيام التي شهد بها الجمهور مقدار ما بذله أعضاء نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم من طاقات لأجل تقديم الممتع والمفيد من البرامج والفعاليات وأيضا لتخليد ثورة 14 تموز المجيدة التي تعمد مونتاج السيدة إنعام عبد المجيد والسيد عادل بلؤم ظاهر طمس كل ما يشير لها من قريب أو بعيد لأن الإعداد والمونتاج والمبلغ المدفوع يستحق التلاعب بالصورة.والأدهى من ذلك أن السيدة إنعام وعلى هامش الأمسية الفنية وبعد انتهائها، أجرت مقابلة مع الفنان أبو دراغ وفنانين آخرين من الفرقة وبحضور بعض الجمهور ممن حضر فعالية النادي وبذات المكان، مما أضطر نادي 14 تموز لدفع مبلغ أضافي ترتب عليه من جراء تمديد فترة حجز المكان لصالح السيدة إنعام وفرحتها بعيد تأسيس قناة الفيحاء.وخرجت السيدة إنعام بعد اللقاء التلفزيوني منتشية ببرنامج من إعدادها وإخراجها.ولحست بشطارة كل شيء، متناسية كرم النادي عليها وعلى قناة الفيحاء بمبلغ الساعة الإضافية.

أين كل ذلك من مهنية السيدة إنعام عبد المجيد وصاحبها حين راحت تقطع بذكاء وفبركة نادرة فلم الأمسية الغنائية لفرقة أبو دراغ ليأتي المونتاج متكاملا وبدقة متناهية ومتعمدة ولئيمة، لاغيا جهد النادي ولجنتيه وأعضائه ومؤازريه ومحبيه ولكل ما له علاقة بالفعالية السنوية وليكتب في تايتل العرض وبالبنط العريض على شاشة فضائية الفيحاء ((حفل فرقة المقامات العراقية..إعداد إنعام عبد المجيد ومونتاج عادل بازكار)).
نتسائل ماالذي قامت السيدة مراسلة قناة الفيحاء بإعداده ليكون برنامجا من إعدادها وإخراجها.أعتقد أن من حقنا سؤال السيدة عبد المجيد عن مقدار ما قبضته من مبالغ ثمنا لجلوسها على كرسي وسط الجمهور، وهل كان ذلك الثمن يستحق أن تبخس معه جهود وحقوق نادي 14 تموز المعنوية والأدبية والمادية ومعه حق الأعضاء الذين هيئوا لها ذلك المقعد وفي مقدمة القاعة.
ليس مستغربا منها كل ذلك فقد فعلته أيضا مع حفل فرقة نوارس دجلة النسوية لتكون تلك الأمسية الخاصة بالفرقة حصرا، برنامجا صنع خصيصا لقناة الفيحاء بمناسبة عيد الفطر وأعد وأخرج كذلك من قبل السيدة إنعام عبد المجيد متجاهلة عن عمد حضور قنوات فضائية أخرى شاركت الفيحاء في تغطية الحفل.ومثل ذلك حدث عام 2007 وفي ذات المناسبة وهي احتفالات النادي بأيام الثقافة العراقية حين قامت السيدة بفبركة فلم عن حفل عيد ميلاد الفيحاء في وسط قاعة احتفال النادي في ستوكهولم/السويد وبذات المناسبة الثقافية السنوية ليظهر حفل النادي وكأنه أعد للاحتفال بعيد ميلاد الفيحاء.وشمل الحفل أغان لمطربين ورقص وطعام ومرطبات وشموع وتوزيع كيك على ما يقارب 200 شخص من الحضور (وبتمويل وصرف باذخ) من قبل الأخت إنعام عبد المجيد؟؟!، التي كانت بطاقات دخولها وخمسة من حاشيتها الى الحفل مجانا، تبرعا من النادي.
وإذا كنا نسمح لقناة الفيحاء ومراسلتها السيدة إنعام وبكل طيبة وحميمية، بتغطية فعاليات النادي الذي بلغ من العمر كمؤسسة سويدية لذوي الأصول العراقية أكثر من 20 عاما وفعالية أيامه الثقافة تجاوزت العشرة أعوام،فيا ترى ماهي الدوافع والأغراض التي استندت أليها وفعلت مثل ما فعلته من تهميش لوجود النادي الراعي لتلك الأماسي.أكان ذلك عرفانا بمودة ورفقة وتقربا من النادي أم هو شيء متعمد وله أغراض شخصية مضمرة.ولكن للحقيقة فأنها لا تخفى علينا.
أنها لصياد ماهر حقا.
ليس لنا بعد كل هذا العمل المتذاكي والأعمال المبهرة بعدم مهنيتها، غير أن نرفع القبعات تحية للسيدة إنعام الممولة والمعدة والمنتجة والمخرجة والمراسلة البارعة لشطارتها في سرقة جهود الأخرين وبضمير مرتاح جدا، وقبر أية معلومة تشير لوجودهم وأهميتهم وحقوقهم المادية والمعنوية،.وعبر السيدة إنعام نهنىء قناة الفيحاء ومديرها السيد محمد الطائي على روحه السمح وقبوله ورضاه بمثل هذه الأعمال التي لا ترضي أي ضمير مهني وأخلاقي.
وبودنا أخيرا أن نسأل السيد محمد الطائي عن رأيه وموقفه القانوني والمهني لو طالب نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم بحقوقه المعنوية والمادية على وفق سياق المعايير القانونية المتعارف عليها، عارضا حيثيات ووقائع الحدث في المحاكم السويدية أو أية دولة أخرى وبالوقائع العينية والشهود.

نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم / السويد
08/ 10 /2008


273
ض ..... وزانه وضاع الحساب
فرات المحسن

رفع بعض أعضاء البرلمان العراقي المنتخب لائحة الى رئيس البرلمان ومساعديه طالبين فيها زيادة رواتبهم ومخصصاتهم ومبررين طلبهم ذلك بكثرة الأعمال والتكاليف الملقاة على عاتقهم وما يواجهونه يوميا من تهديد لحياتهم.
يقال والعهدة على الراوي أن البرلمان أقر راتب سخي لعضو البرلمان يتكون من سبعة ملايين ونصف المليون دينار عراقي شهريا عدا ونقدا دون تأخير ومماطلات. وكذلك يمنح العضو مخصصات للحماية تبلغ أيضا سبعة ملايين ونصف المليون دينار دون نقاش أو دوخة راس باعتبار أن لكل عضو 15 حارس شخصي حسب ما أقره البرلمان ولذا فأن كل فرد من الحماية الشخصية  يتقاضى  500 ألف دينار شهريا.
 البعض من مروجي الإشاعات المغرضة والأحقاد الفاسدة، أقسموا أغلظ الأيمان وبأقدس المقدسات بأنهم لم يشاهدوا وعند أكثر أعضاء البرلمان رعشة وارتعابا أو ممن تعتبر حياتهم مهددة بشكل فعلي يوميا ورقبته مطلوبة للإرهاب على مدى ساعات اليوم لا بل دقائق الساعة.
لم يشاهدوا مع هؤلاء عدد من الحماية يقارب ما أقره البرلمان،لا بل هناك من يستخدم أقاربه وبعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة كحماية وباقي المخصصات تدرج تحت بند ( شفطكيشن) في التقرير المقدم للسفير الامريكاني ونسخة منه لرئاسة البرلمان والمقرر المالي ونسخة عن عين الحسود للمحاسب.
لا بل الأكثر فضاعة من كل هذا وذاك، أن هناك أعضاء يحميهم الإرهاب والعصابات وهم أقرب من حبل الوريد لهؤلاء القتلة ومبالغ مخصصات الحماية تذهب لشراء الذمم والسلاح والمتفجرات التي تنشر بركات الموت المجاني في مناطق بغداد وغيرها من المدن العراقية التي تطلب الثواب من ازارقة البرلمان لتهدي العقاب لمتجاوزي الخطوط الحمر من زملائهم في البرلمان وهذا ما ناله السيد مثال الآلوسي وحمايته حين قتل بعض أفرادها بعد أن تجاوز السيد مثال في أولى جلسات البرلمان على أحدى الخطوط الحمر لمافيا القتل وكانت تلك الحادثة رسالة واضحة وصريحة للسيد مثال الآلوسي وغيره من زملاءه في البرلمان. 
أبطال البرلمان العتيد حريصون على لقمة عيشهم ومورد رزقهم وضمانة حياتهم وشخصياتهم الاعتبارية أكثر مما عليه حال فقراء رجال الشرطة والجيش ممن ( دعبلهم) الدهر على هذه المهنة والذين يواجهون الإرهاب المتنوع يوميا وهم مشروع للشهادة في كل دقيقة أثناء الخدمة وبعدها، ويقعون تحت سيف الإرهاب المعشش بين جنباتهم ومن حولهم، بعكس الكثير من البرلمانين الذين تتوزع مهامهم بين لعبة الختيلة داخل المنطقة الخضراء وفي مساكنهم وسط حماية الأهل والأقارب.وكل ما أنجزوه ولحد الساعة لا يعادل ما يدرأ عن المواطن تأثير عبوة ناسفة.
البرلمانيون لا يقبلون التجاوز على حقوقهم ومخصصاتهم النقدية ووقتهم الثمين وهم يؤكدون وفي كل جلسة من جلسات البرلمان الذي يحضرون وقائعها مرتين في الأسبوع أن سمحت الظروف ولم تزعل قائمة من القوائم وكذلك حسب روقان المزاج والحالة النفسية،يؤكدون دائما رفضهم للتجاوز على حقوقهم ويأتي ذلك من شدة حرصهم على شؤون بلدهم ومسيرة الديمقراطية فيه ولغرض توفير الخدمات للعباد من المصاليخ واللطامة والنائحين والنائحات ،ولذا تراهم يتمسكون حنبليا بنصوص الدستور وفي أية فقرة منه وينهر بعضهم بعضا ويصل ذلك حد المهاترات الملغمة بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة وصواريخ غراد والكاتيوشا أن أراد أحدهم تجاوز ما أقره الشعب في أخر زحف مقدس له نحو صناديق الانتخابات في 15 تشرين أول / أكتوبر من العام المنفرط.
هذا هو حال الديمقراطية عند معدان عشائر الزولو التي عادت الى بلدها العراق بعد أن عاشت الهجرة والتهجير في بلدان لها تجربة وباع طويل بالديمقراطية منذ عهد نبي الله دقناووس لحين سقوط نبي العروبة الأثول صدام.
ولكن هؤلاء وبعد كل تلك السنين (السمان) لم يتعلموا غير لغة الخراب والفساد والإفساد وجعل الوطن في حال يرثى له ووضعه تحت خط الفقر لدهور طوال عجاف قادمات، من خلال لعبة إعداد وتقديم البرامج والمشاريع وكيفية صرف مبالغها على المامش والحو والأحباب واللهو أو ترحيلها الى بنوك الخارج ثم تقديم التقرير بالإنجاز الفائق الخدمة والخدمات، وهذه الشيمة أو الفذلكة الحضارية القانونية نقلها أبناء العراق من عشائر الزولو عمدا ولقنوها لمعدان التوتسيي الذين لم يكن باستطاعتهم مغادرة العراق وأطلقت عليهم تسمية أبطال الداخل.
فأبدعت عشائر التوتسيي الداخلية أيما أبداع فعم الفرح وغمرت السعادة ربوع الوطن وظهر أول موديل للممارسات الحضارية فائقة الجمال والجودة حيث ترمى الجثث فوق المزابل وفي الأنهر والترعات وتوضع الرؤوس المجزوزة في صناديق الكارتون وترسل الى مكان أخر حيث يأتي رجال الشرطة والحرس الوطني تعلو فوق وجوه بعضهم ضحكة صفراء ساخرة وتسجل الجريمة على مجهول ويكتب في محاضر الاستلام أن العراق يمتلك حضارة عمرها 3 ملايين من السنيين.
وبعد أن أنجز أعضاء البرلمان مهمتهم العظيمة والشاقة التي تمثلت في تفليس وبحوشة ومحاسبة وزارة السيد المالكي، مما جعل وزرائها يرتجفون من شدة الرعب وكأن ياجوج وماجوج يعصر دهنهم قبل الترحيل الى مواجه رب العزة وشمر وعنزه وآل مناتي.وأيضا فقد وضع البرلمانيون الخطط والبرامج والحلول الصائبة لمشكلة الكهرباء والماء وانسداد مجاري الصرف الصحي (الله يسد مجاريكم) وتخسفات الشوارع والقضاء على ظاهرة المزابل وتردي الخدمات الصحية وتدهور وضع التعليم وتفشي الفساد الإداري وسرقة المال العام والتصدي لحالة الأمن المنفلتة والقتل اليومي الطائفي وغيره وبعد أن تمت السيطرة على كل تلك الأزمات من خلال القدرة الفائقة لعضوات وأعضاء البرلمان وتم الإمساك بقوة وبقبضة من حديد على كل المشاكل وجعلها ملك اليمين واليسار لذا قرر البرلمانيون أعطاء أنفسهم راحة أي عطلة صيفية تستمر لمدة شهر وهذا ما أعلنه السيد خالد عطية النائب الأول للسيد المشهداني القائد المظفر والهمام للبرلمان العراقي.
وسوف تكون تلك العطلة بأجور تامة مدفوعة عن أتعاب ضخمة قام البرلمانيون بإنجازها.والعطلة ستكون في آب اللهاب الذي يموع البسمار بلباب ويقلل الأعناب ويكثر الأرطاب لذا يقال والعهدة على الراوي ،أن أولى مهام برلماننا بعد العطلة سوف تكون فرز أنواع الرطب وتقسيمه الى رطب شيعي ورطب سني ورطب كردي والدكَل للسيد علاوي والحبوبة الغنوجة مرام بت أم مرام.
وتشير معلومات لم تتأكد لنا حاليا  الى أن هناك مقترح سوف يقدم للبرلمان بعد انتهاء عطلته المدرسية، حول مشروع لوائح عمل جديدة للوقفين السني والشيعي يوجب عليهما الأخذ على عاتقيهما المبجلين مهمة تلقيح النخيل وفق الشريعة الإسلامية وحسب المذاهب والطوائف حتى لا يزعل أحد. ومهمة الوقفين سوف تكون أيضا منع البيض المستورد والذي يثبت أنه لم يلقح في مصادره لكون البيضة غير الملقحة بت حرام أي نغله.
ومن ضمن عمل الوقفين أجبار أصحاب حقول الدواجن على وجوب وضع 25% ديوجه (ديوك) ضمن أعداد طيور الحقول وهاي مينرادله فهم.ولكن حتى هذا لم يمنع أصحاب الإشاعات من نشر دعاياتهم المغرضة حيث تقول الإشاعة المغرضة ( من كَال أحبك) أن النية تتجه لدى غالبية كاسحة من أعضاء البرلمان لتقديم لائحة تحدد مهماتهم في أول جلسة للبرلمان بعد العطلة المدرسية، وفي مقدمة كل تلك المهمات إصرارهم على دراسة لائحتهم حول زيادة رواتبهم ومخصاصت الحماية وفي حالة عدم الأخذ بذلك فسوف يمتنعون عن الحضور واليزعل يطخ رأسه بالحايط .....

الله يطيح حظكم أعضاء برلمان صدام حسين شكد جنتو أرخاص.[/b] [/size][/font]



274
المنبر السياسي / أبناء العقرب
« في: 19:07 28/07/2006  »
بين موت العراق ونحن نتفرج على تفسخ جثته
أبناء العقرب
فرات المحسن

أوضح موفق الربيعي في موءتمر صحافى أن القوات الأمنية تمكنت في الأيام القليلة الماضية من اعتقال زعيم فيلق عمر المدعو محمود جاسم محمد مهدي السامرائي والملقب بابي عثمان وثلاثة من كبار مساعديه ...‏
وأضاف انه تم كذلك اعتقال القيادي الثاني في التنظيم المدعو علي بدران والملقب بابي عائشة وهو الممول لعمليات القاعدة في العراق والمسؤول عن قيادة أكثر من ألف ‏مقاتل فضلا عن تورطه بتفجير سيارة مفخخة في منطقة الكاظمية كما تم اعتقال المدعو زامل أبو ايهاب وهو القيادي الثالث في فيلق عمر والمسؤول ‏ العسكري له والمسؤول المباشر عن تجنيد المقاتلين فيه.
ويسترسل تاجر السجاد الأصفهاني في تغطية خبره بإفراط في الثقة بإعلان أن ما تم إنجازه يعتبر مفخرة لوزارته أو مؤسسته التي اختلقتها قوات الاحتلال لتجعلها موازية أو مشابه لمجلس الأمن القومي الأمريكي .
موفق الربيعي الذي أشبهه بتاجر السجاد الأصفهاني هو أحد أكثر الشخصيات التباسا في المؤسسة الحاكمة في العراق، فهو الطماطة التي تناسب جميع الأكلات‏ وهو الناطق باسم الحكومة مثلما هو المتحدث الرسمي عن وقائع عمليات مكافحة الإرهاب ولكن المتابع لهذا التاجر الأصفهاني يجد أن جل حديثه عبارة عن تلفيق لصور وحوادث وعمليات كاذبة لا وجود لها في أرض الواقع، وأن احتسبت فتعد قصص من بنات أفكاره ليس إلا، يريد فيها التغطية على ما تقترفه العصابات المرتبطة به وبغيره من قادة الائتلاف .
 لحد الآن فأنه يستسيغ ما يصرح به أو يختلقه دون أي دليل يظهره للشعب العراقي وهو صانع ماهر لأفلام تحتاجها السلطة الحاكمة أكثر مما ينفع التحدث به للشعب، فكثرة من هم في عداد السواعد اليمنى للمقبور الزرقاوي وقد تجاوز عدد من القي القبض عليهم العشرات وربما المئات دون أن نرى أحدا منهم يتحفنا باعترافاته.ولا نعرف غير أسمائهم التي ذكرها تاجر السجاد ومجموعته الخائبة تاركا قناعة الناس وراء ظهره.تلك القناعة التي تتحدث عن صراع الأقطاب داخل وزارة السيد المالكي ومجموعة المحاصصة، حيث تشطر وزارة الداخلية وكذلك الدفاع الى مجاميع من المرتزقة توزع ولائها لكتل وأجنحة مؤتلفة نفاقا وزورا تحت قبة البرلمان وفي سلطة تتصارع وتتناطح رؤوسها لتتحول تلك الصراعات الى لي أذرع وكسر عظم على شاكلة مفخخات وقتل يومي مجاني لأبناء الشعب العراقي .هذه السلطة وعصاباتها تعرف جيدا أن أغلب الجرائم المقترفة تتم بإيعاز من داخلها وهم الرؤوس المحركة لتلك العصابات ومن يوعز للقيام بتلك الجرائم من اجل غايات بعيدة كل البعد عما يصرحون به. وهم أصحاب الأيادي الملطخة بدم الناس وأدواتهم معروفة وهي ألوية من مرتزقة الجيش والشرطة تسمى فرق الموت.
أن هذا الموت المجاني للبشر في العراق يأتي نتيجة حتمية لذلك الصراع القذر داخل الكتل التي شكلت الحكومة وقبلها البرلمان وجعلت سلاحها وذراعها المنفذ لتلك العمليات البشعة ألوية الشرطة والجيش التي انقسمت بدورها الى ألوية شيعية وألوية سنية ولكنها في حقيقة الأمر ألوية بعثية وألوية إيرانية ومرتزقة يبيعون أنفسهم وضمائرهم لمن يدفع أكثر.
فجبهتي الأجلاف (الحوار والتوافق ) اللتان تتستران نفاقا باسم الكتلة السنية ما هما إلا خليط من البعثيين والتكفيريين بمسميات كثيرة وهم القادة السياسيون لعصابات جيش محمد وفيلق عمر وأنصار السنة والطائفة المنصورة وقوات صلاح الدين وقيادة جيش تحرير العراق وغيرها من مجاميع فرق الموت القذرة. وفي حقيقة أمر جبهتي الأجلاف، فهما الذراع السياسي الذي يقود العمليات العسكرية ضد أبناء الشيعة وغيرهم ويمارس سياسة الأرض المحروقة للحصول على ما يضمن عودة قتلة الشعب العراقي من ازلام العهد السابق وإعادة سيطرتهم على السلطة.
 أما الجبهة التي تتستر نفاقا باسم كتلة الائتلاف الشيعية فهي صاحبة المشروع الإيراني الساعي لإيصال الشيعة العراقيين الى حالة اليأس المفرط والقناعة بأن لا خلاص لهم غير الانفصال عن الجسد العراقي والالتحاق بولاية الفقيه الإيرانية وعدة هؤلاء وقوتهم عصابات الائتلاف من مرتزقة بدر والصدر وحزب الفضيلة وثار الله وبقية الله والحواسم الذين يشكلون أغلبية كبيرة داخل قوات وزارة الداخلية والأمن الوطني.
لقد بلغ قتلى العراق خلال سبعة أيام من 12 / 7 ولغاية 18 / 7  ( 976 ) مغدور و2345 جريح وهذا الرقم الذي يشير لفجيعة العراق ونزيف الدم الذي لم يشهد مثله أي بلد أخر يدلل على مقدار ما يحمله أبناء العقرب من خسة ولؤم ودناءة وهم ينهشون جسد أمهم دون أن يشعروا بوخز الضمير أو شعور بمواطنة حتى ولو بشكلها البسيط.
دون أي توريات أونفاق ومهادنة أقول أن هذا الدم المراق والقتل اليومي للناس الأبرياء يتحمله البرلمان العراقي بمختلف كتله قبل أي مؤسسة حكومية عراقية. ومسؤولية البرلمانيين كبيرة بحجم عدد الضحايا الذين سقطوا منذ تم انتخاب هذا البرلمان ولحد اليوم. والبرلمان وحكومة السيد المالكي الحاضن الرئيسي لقتلة الشعب العراقي ومن داخلهم تصدر الأوامر للقتل والتعذيب والاختطاف وسرقة المال العام والخاص وهدم بنية الدولة العراقية. وتعتبر وزارتي الدفاع والداخلية والعصابات الطائفية الأذرع المنفذة لتلك الجرائم.
لن يتوقف نزيف الدم العراقي أذا لم يتصالح أبناء العقرب مع بعضهم ومع أنفسهم،وقبل كل شيء أن تنال تلك المصالحة موافقة شريكهم في نشر الرعب والجريمة، المحتل الأمريكي. [/b] [/size] [/font]

275
المصالحة مع المجهول
[/size]

فرات المحسن
في العرف العام فأن مفهوم المصالحة والحوار بين الخصوم تبدو منافعه كثيرة رغم تشعب وتنوع مسالكه وهو في نهاية المطاف مجلبة للاستقرار على المستوى الشخصي والعام لذا فأن جميع الأطراف ذات الأهداف العقلانية البرغماتية تحبذ الذهاب نحو طاولة المفاوضات والتخلي عن لغة السلاح وهذا النهج يمثل الخيار الحضاري لمن يريد الحياة الآمنة المستقرة والرفاهية والتقدم لشعبه.
طرح السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي مفردة المصالحة الوطنية التي أرفقها ببندين تمثل بمجموعها أهداف وزارته الحاضرة والمستقبلية، وتلك الأهداف بالإضافة لنقطة المصالحة الوطنية تتمثل أولا بتوفير الأمن والقضاء على الإرهاب والظواهر المسلحة وتفكيك المليشيات والنقطة الثانية التسريع في تقديم الخدمات عبر إعادة الأعمار للبنى التحتية وبالذات حل أزمتي الكهرباء والوقود.
المطروح أمام السيد المالكي والقوى القريبة منه وبالذات الائتلاف الشيعي والكتلة الكردستانية حزمة من خيارات لأجل محاولة التوصل لتعريف الطرف الذي تتوفر فيه صفات المحاور والقابل للاشتراك في العملية السياسية.وإذا كان هناك اختلاف وخلاف داخل القائمة الوطنية العراقية في التوصيف فأن قائمتي جبهة التوافق وجبهة الحوار الوطني تملكان التصور الكافي عن الجهات التي يمكن لا بل يجب أن تتحاور معها حكومة السيد المالكي أو بالأحرى ودون هرطقات سياسية، قائمتي الائتلاف الشيعي والجبهة الكردستانية  كونهما يمثلان اليوم الثقل الأساس في إدارة السلطة.
 لقد وضحت الصورة وبشكل جلي بعد الانتخابات الأخيرة للبرلمان العراقي ومشاركة أبناء المناطق الغربية العراقية فيها والتي ساعدت على جلب أطراف كانت تعارض العملية السياسية.وقد قبل هؤلاء المشاركة ولكنهم بقوا ماسكين بخيوط متشابكة تمتد عميقا مع حاملي السلاح من معارضي العملية السياسية. واعتبرت مشاركتهم  نصرا للأطراف القيادية في السلطة وللإدارة الأمريكية أيضا ولكن مع تشعب الأهداف وتماهي تلك الأطراف مع بعضها فأن عقبات كأداء تقع في طريق من يريد توصيف أطراف النزاع ومكامن الاختلاف والخصومة بدقة.
لازالت بعض الأطراف وبالرغم من مشاركتها في العملية السياسية، تؤمن بشكل جازم بأن المقاومة المسلحة ضرورة لابد منها وأن من يريد أنجاح العملية السياسية عليه أن يفسح المجال لتلك القوى لتأخذ طريقها في تقويم العملية السياسية عبر إحراج المحتل ووضعه في طريق مسدود لا مفر معه من تسريع خروجه وتسليم البلد لها أو لمن تفصح عنه تراجيديا الأحداث بعد خروجه.وتتمثل تلك القوى بمجاميع من بقايا الجيش العراقي وكذلك بعض البعثيين المعترضين على ما أفرزته سياسات صدام حسين. وأغلب هؤلاء تمتد روابطهم وتتداخل مع جبهة التوافق المؤلفة من ( الحزب الإسلامي، مؤتمر أهل العراق، مجلس الحوار الوطني) وأيضا مع جبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلك. ونستطيع القول ان هاتين الجبهتين تمثلان الجناح السياسي لتلك القوى المختبئة والضاغطة بقوة التهديد اليومي بالسلاح.
تستطيع حكومة السيد المالكي أيجاد منفذ للوصول الى خطة حوار مع هؤلاء عبر شركائه في السلطة من جبهتي التوافق والحوار الوطني ولكن ما سوف يواجه المفاوضات من صعوبات يتمثل بمقدار ما يقدمه المالكي من تنازلات لمحاوريه والتي تتمثل في أهم نقطتين تصر عليهما تلك القوى، الأولى إلغاء قانون أجتثاث البعث وما ترتب عليه من وقائع والثانية عودة الجيش السابق. وفي هذه المحاولة أو التفاوض سوف يلاقي السيد المالكي التشجيع والمؤازرة من التحالف الكردستاني والقائمة العراقية ولكنه سوف يواجه صعوبات جمة من بعض الجهات داخل ائتلافه وكذلك من قبل أطراف إقليمية.وبالمقابل يفترض أن يقدم هؤلاء تنازلات لإنجاح المفاوضات وربما من أولى تلك التنازلات، أنهم سوف يسقطون من مطالبهم شرط جدولة انسحاب المحتل ويقبلوا بوضع آلية مناسبة لعودة ضباط أو وحدات من الجيش السابق للعمل وهناك قرائن ودلائل تشير لمثل هذا الاحتمال لا بل تؤكده.
المشكلة الحقيقية تتمثل بأن هؤلاء لا يشكلون وزنا يعتد به في قوائم من يحمل السلاح ويمارس القتل والقتال في العراق.لذا فأن على السيد المالكي وحلفائه البحث عن مجاميع أخرى يمكن استدراجها الى العملية السياسية من خلال الحوار. وفي هذه الحالة فأن جهود السيد المالكي وملامح مبادرة صلحه سوف تضيع في دهاليز البحث المضني عن أطراف  ترغب بالحوار، والسبب في ذلك هو أن لا وجود لطرف يريد التفاوض والمصالحة وكل ما يعلن عن وجود مثل تلك الأطراف يقع في باب التخمينات والتقولات وصناعة الشخصيات وفي الجانب الأخر من الالتباس،فأنه لم يظهر الى العلن ولحد الآن ذلك الطرف السياسي ليقدم برنامجا وطنيا ورؤية سياسية لما وقع من أحداث قبل سقوط البعث الفاشي أو بعد وقوع الاحتلال.
يمثل الكثير من حاملي السلاح الذين يقعون في خانة التوصيف بين إرهابيين أو مقاتلين عدة أنواع تتنافس بمقدار الإيذاء أو القسوة التي يوجهونها لمخالفيهم بالرأي، ويمكن اختزال توصيفهم دون تجني لنحو أربع جبهات الأولى هي جبهة العصابات والحواسم وهم اللصوص والقتلة المحترفون والعصابات على مختلف تنوعاتها ومشاربها والجبهة الثانية هم المليشيات الحزبية بمختلف مسمياتها والتي تنفذ سياسات حزبية ولا تتورع عن تصفية الخصوم ومخالفي الرأي بأقذر الوسائل وأخسها.أما الجبهتان الباقيتان فهما صاحبتا الفعل اليومي المؤثر على مجمل الوضع وهما العمود الفقري لجبهة الإرهاب في العراق ويعزوا لهما جميع التفجيرات وعمليات القتل التي يتعرض لها المدنيين وكذلك الشرطة والجيش العراقيين وأحيانا قوات الاحتلال.

تمثل بقايا حزب البعث وتفرعاته وكذلك القوى المرتبطة به من مثل بقايا الجيش الجمهوري وسرايا القدس وتنظيمات الحرس الخاص وفدائي صدام والمخابرات والاستخبارات وأجهزة الأمن السابقة، يمثلون مجتمعين القوى الأساسية التي تخوض القتال ضد السلطة ومجمل العملية السياسية.وتعتمد تلك القوى على إستراتيجية أعد لها منذ زمن ما قبل سقوط سلطتهم وتنفذ اليوم بحرفية عالية وتعتمد نهج سياسة الأرض المحروقة، حيث لا تدع مجالا لا لقوى الاحتلال وكذلك الحكومة ومؤسسات الدولة لنيل قسط من الراحة والوصول الى حالة تتمكن معها من بسط نفوذها وتقديم ما يمكن تقديمه من خدمات الى الشعب لتتمكن من التقرب أليه وكسب رضاه.وتلك المجاميع تمد أذرعها داخل مؤسسات السلطة وصولا الى مواقع الجيش والشرطة وهي تعمل بتنسيق عال ودقيق لتهشيم ما تقوم به الحكومة ليس في المجال السياسي فقط وإنما تركز عملها التخريبي في مجالات الخدمات والبنى التحتية وقتل الخصوم والعاملين في مجال الخدمات العامة وكل من له علاقة بالحكومة أو قوات الاحتلال حتى وأن كانوا من رفاقهم السابقين.وأيضا فأنهم يقدمون الإسناد والتشجيع لعصابات الجريمة لتعميم الفوضى في جميع مناح الحياة.
هذه القوة الضارية والمتوحشة ترفض رفضا قاطعا أي نوع من أنواع الحوار مع أي طرف سياسي مشارك في العملية السياسية وتستند على اعتقاد جازم بأنها القوة الوحيدة القادرة على إدارة دفة الحكم في العراق وأن المحتل وحلفائه قد انتزعوا منها السلطة عنوة وغدرا ولن ترضى بغير عودة الأوضاع الى ما قبل 9 نيسان 2003 أي قبل يوم من سقوطها وهزيمتها.ولذا فأن تلك القوة لن تقبل التفاوض مع السيد المالكي إلا في حالة واحدة وهي موافقته الطوعية على تسليمها مفاتيح الحكم وخلعه وأصحابه وحلفائه عن وطن أسمه العراق.

أما القوة الأخرى فهي الأكثر شراسة ووحشية وتتمثل بالمسلمين من أتباع أهل السنة وفروعهم مثل الحنابلة الوهابية والخوارج وأتباع أبن تيمية وأبن حجر العسقلاني وغيرهم.وهؤلاء يكفرون جميع مخالفيهم بالرأي ويبنون قاعدتهم الجهادية على تصفية الخصوم وإباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وفي منهجهم هذا يسعون لبناء دولة الأمارة الإسلامية وإعادة هيكلة الحياة بما يشبه ما كان يعيش عليه السلف في عهد النبي محمد والصحابة والخلافة الإسلامية, ويؤكد أصحاب هذا الفكر بأن أشد أعدائهم يتمثل بالصليبيين واليهود والروافض والمقصود بذلك قوات الاحتلال والمواطنين من الديانات غير الإسلامية وكذلك أصحاب المذهب الشيعي الذي يطلقون عليهم تسمية الروافض. ويبيح فكر هؤلاء السلفيون سفك دماء مخالفيهم ويعتبر قتلهم أكثر المسائل شرعا ويعد تقربا الى الله ونوع من أنواع الجهاد الأكبر. ويستغل السلفيون قربهم المذهبي وقرابتهم من عشائر المناطق الغربية في العراق والتي توفر لهم الحماية والمكامن والإسناد المعنوي واللوجستي وتعد تلك المناطق وعشائرها مصدر تموين ورافد فعال للقوى السلفية من خلال رفد حركتهم بالأشخاص والعتاد.ويعمل البعثيون أيضا على تنسيق مواقفهم مع هؤلاء ويقومون بتسهيل مهماتهم وتزويدهم بالمعلومات والمعدات ويعتبر أكثر هؤلاء السلفيين من الذين خرجو أساسا من صلب تنظيمات حزب البعث ولا زال لبعضهم ارتباطات به بشكل أو أخر وبحكم اختلاط المفاهيم العشائرية بالحزبية بالمذهبية.
يرفض هؤلاء الإسلاميون وبالأخص منهم مجلس شورى المجاهدين المتكون من ستة مجاميع ترتبط بتنظيم القاعدة، أي نوع من أنواع الحوار لا مع الحكومة ولامع قوى الاحتلال ولا يرتضون بغير تحقيق النصر والسيطرة على السلطة بعد طرد المحتل وتصفية المسلمين من أصحاب المذهب الشيعي ومن ثم بناء الأمارة الإسلامية النقية.
بعد هذا الاستعراض الموجز للقوى العاملة على الأرض والتي يحلو للبعض تسميتها بالمقاومة ويصر البعض من أمثالي على تسميتها بالإرهاب مهما تعددت الدوافع، أجد أن مبادرة السيد نوري المالكي لن تجد طريقها الى النور ولن تحصل على الفرصة المناسبة للتنفيذ ما تصبو له على أرض الواقع إذا لم تبنى المبادرة على قدر من القراءة الدقيقة لواقع الأحداث ووزن القوى المؤثرة داخليا وتحاول في البداية القيام بسلسلة من الإجراءات الحاسمة تبدأ أولا بعزل الإرهاب عن حواضنه المتمثلة بعشائر وأهالي المنطقة الغربية وكذلك تضييق الخناق عسكريا على مصادر التموين والتجنيد، يرافق ذلك معالجات جادة لتنقية أجهزة الجيش والشرطة من أزلام البعث واللصوص والقتلة وأبعاد تلك الأجهزة عن المحاصصات الطائفية ومن ثم تقديم الخدمات السريعة في مجال الكهرباء والوقود ولتبدأ بمشاريع كبرى ومختلفة تمتص البطالة وتستفاد من الخبرات، وأن تعمل الحكومة وعبر مبادرة واقعية على الوقوف بجدية وتحد حقيقيين في مواجهة الفساد الإداري وسرقة المال العام.أن تلك المهام هي الضمانة الكفيلة لإنجاح العملية السياسية أما التمنيات بنجاح خطط للمصالحة أو للقضاء على الإرهاب فتبدوا مستحيلة وسط متاهة الخراب العام في أسس بناء الدولة العراقية الجديدة وما يصدر عن مؤسساتها الحكومية ومليشيات ومنتسبي أحزابها المشاركة في الحكم وما يعانيه المواطن العراقي من أفعالها التخريبية القسرية والتي توازي في أكثر الأحيان أو هي أشد وقع وإيذاء من الإرهاب البعثي والإسلامي السلفي.

F_almohsen@hotmail.com
 
   [/b]

276
دعاء واحد بالحزب الشيوعي العراقي
 هههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
ههههههههههههههههههههههههههه
ههههههههههههههه
يخبــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
ماأعرف شلون صفطه ..........والله

دعاء شلش
 
رب عبدك شلش ابن سوادي ،  قد ضاقت به الاسباب ،وأغلقت دونه الأبواب ،وبعد عن جادة الصواب ،وزاد به الهم والغم والاكتئاب من استهتار الميليشيات والاحزاب ،روعته المفخخات والعبوات ، وانقضى عمره في التاتات والكيات ، افتح له فسيح مناهل الصفو و جنبه ظلمات القبو ،وانت المرجوّ سبحانك لكش هذا المصاب ، واستبدال صولاغ باخر حباب ، لانه كذاب ابن كذاب ، يا من اذا دعي اجاب ،يا سريع الحساب ،يا رب الأرباب ،يا عظيم الجناب ،يا كريم يا وهّاب ،ارحم العمال والموظفين والطلاب ، وامن حياتنا من ظلم الكلاب ابناء الكلاب  رب لا تحجب دعوتي ،ولا ترد مسألتي ،وانصر أهل بلدي ولا تدعني بحسرتي ولا تكلني الى حولي وقوّتي ،وارحم عجزي ،فقد ضاق صدري ، من التيار الصدري وتاه فكري، وتحيّرت في امري ،وانت العالم سبحانك بسري وجهري ،المالك لنفعي وضري لقد دمرني الحكيم وانت بافعاله لعليم يريد تقسيم البلاد وتشتيت العباد وتقطيع ارض السواد ، وشفط الجادرية عن بغداد وتسميم حياة العباد اللهم الحقه بقوم ثمود وعاد ،اللهم اهلك فيلق الغدر لاتبقي لهم ولاتذر واجعلهم حجرا على حجر، لقد قتلوا الاطباء والطيارين وشردوا العلماء والاكاديمين.
القادر على تفريج كربي ،وتيسير عسري ، سلمتك امري وانت بحالتي تدري اللهم احينا في الدنيا مؤمنين طائعين ،وتوفنا مسلمين ليبراليين ديمقراطيين غير مرائين ولامنافقين ولاسم دين نبيك غير مستغلين ولاتخويف البسطاء باسم عذاب يوم الدين
غير فاعلين  ،اللهم ارحم تضرعنا بين يديك،وتوكلنا عليك ، اهلك اصحاب الدشاديش القصيرة والعقول غير البصيرة احرمهم من حور العين واسجرهم في صليين، واسالهم عن تقتيل المساكين وتفجير المصلين في الشعلة وخانقين واقطع رجاءهم الى يوم الدين ،اللهم عليك بالصداميين والسلفيين والزرقاويين وبعض المقاولين الذين جاؤوا مع المحتلين  
اللهم قوّمنا اذا اعوججنا، وادعنّا اذا استقمنا ، اللهم اغفر للشيوعيين غفلتهم عن الدين فاولئك مساكين يحبون احبابك المساكين ، وكن لنا ولا تكن علينا ،اللهم نسألك يا غفور يا رحمن يا رحيم ،أن تفتح لأدعيتنا ابواب الإجابة،المجرم لايعاد انتخابه ، مهما تعددت اعذاره واسبابه اخذل قائمة المشعوذين ،قائمة استغلال الدين وانصر عليهم الكلدواشوريين وسائر العراقيين لقد وعدونا واخلفوا وعاهدونا ونقضوا يا من اذا سأله المضطر أجاب، يا من يقول للشيء كن فيكون ،اللهم لا تردنا خائبين ،وآتنا أفضل ما يؤتى عبادك الصالحين ،وحبب قلوب الناخبين الى قائمة تفصل السياسة عن الدين ، اللهم ولا تصرفنا عن بحر جودك خاسرين ،ولا ضالين ولا مضلين واغفر لنا الى يوم الدين ،برحمتك ياأرحم، اللهم آمين .
 
شلش العراقي[/b][/size][/font]
 

277
الازارقة  يتبادلون الصور التذكارية

فرات المحسن

وأخيرا ظهر الطنطل المرعب يتبختر بين رفاقه دون عاهة  أو عوق،ظهر بشحمه ولحمه وبلباسه الأنيق.  يهدد ويتوعد خصومه بوقاحة وحيوية ظاهرة.البعبع الذي لا مثيل له والذي بز أستاذه أبن لادن بالقوة والرعب قدم صورته على نمط رامبو الأمريكي وليس على شاكلة الحمزه أبو حزامين في فلم الرسالة الشهير.الزرقاوي يحتضن بندقية آلية من الطراز المزدوج وهي صناعة أمريكية خالصة. يوجه رصاصاته بثبات ورباطة جأش نحو هدف بعيد ولكن الغريب أنه يتلكأ في العثور على الزناد فينبهه لذلك أحد أبنائه الزرق.

لم يكن المنظر ليختلف عن صورة رامبو الذي أدى دوره سلفستر ستالون في الثلاثية الشهيرة، سوى كون الزرقاوي فضل الحجاب الإسلامي وستر صدره بقميص أسود وحزام ناسف بينما سلفستر ابن ستالون كان وطوال الفلم صلوخ بطرك البنطلون.

راح الدعاة والروزخونية وازارقة الأطراف الأخرى يتنافسون في توصيف ما ظهر عليه الزرقاوي الخلايلة أبن الخلايلة ممثل الفكر البدوي في حواضر العرب الأقحاح فقال أكثرهم عن فلمه المعنون ((يا عواذل خلخلو))

((أنها رسالة لبث العزيمة بين اتباعه الذين تلقوا ضربات قوية في الآونة الأخيرة في العراق وجاء عرض التسجيل النادر للزرقاوي والذي يعتقد انه قديم نسبيا , لبعث رسالة تقول بأنه مازال ناشطا وأن جماعته موجودة . وهي رسالة مشكوك في قدرتها على الإقناع بعد التدهور الذي أصابه والانشقاقات الكثيرة  التي تعرضت لها مجموعاته الإرهابية))
((كانت وزارة الداخلية العراقية والجيش الأمريكي في العراق قد أعلنا عن مقتل واعتقال الكثير من أعوان الزرقاوي في الأونة الأخيرة . ورغم استمرار التفجيرات المفخخة والتي هي السلاح الإرهابي الذي يستخدمه الزرقاوي غالبا , ألا أن العمليات تراجعت قياسا للعام الماضي , كما ان اعترافات بعض أعوانه المعتقلين ساعدت على كشف مواقع وأوكار كثيرة كان الزرقاويون يستخدمونها بدعم وتمويل من حزب البعث السري المسلح الذي يتولى عمليات قتل الشرطة العراقيين والموظفين في الدولة العراقيه )).

هذا ما توصل اليه وما تفتقت عنه قريحة خصومه ومنافسيه على ثريد العراق.وكانت رسالتهم اليومية جوابا على عرض فلم زرقامبو انفجار سبعة سيارات مفخخة في بغداد وعدة عبوات ناسفة في مختلف المدن العراقية وخمسة وثلاثين جثة لبني آدم مرمية فوق مزابل بغداد .

أذن لا شيء بات يؤكد وجود جميع الأزارقة سنة وشيعة وأمريكان وبعثيين وسوريين وسعوديين وإيرانيين وإسرائيليين وحتى موزامبيقيين وموريتانيين غير الدم العراقي الرخيص.وهم اليوم يتبادلون الصور التذكارية فيما بينهم لتأكيد أن مستقبل العراق لن يكون غير حصص تستقطع وتعمدها هذه الأجساد التي باتت اليوم بين قطبي الرحى إما معتقل أو قتيل أو لاهث وراء لقمة عيش يتلفت مفزوع مرعوب خوفا من انفجار ينقله بطرفة عين الى مشرحة وسخة في مستشفيات طورتها حملة أعمار النهب بعد سنة ثالثة أنتصر فيها الفانوس واللالة.

 يبدوا أن دم العراقي بسعره البخس هو من يعطي الحصص التي تسعى لتقاسمها أحزابنا العتيدة وهو من يرسم تلك الحدود ويمنحها شرعيتها.

 

يأتي عرض فلم الزرقاوي بعد بضعة أسابيع من بث الفضائيات العربية لصوت أبو بريص عزت الدوري وهو يتحدث عن حقيقة وجوده وقيادته للإرهاب. ذلك التسجيل الصوتي كان هدية القيادة السورية للأزارقة الأخرين كصورة تذكارية عن المشاركة الفاعلة والمستمرة.في المقابل وبامتنان بالغ أرسلت القيادات الأخرى للأزارقة صورها التذكارية التبادلية مع المزيد من الجثث المثقوبة الرأس والمنخورة الأجساد والمجهولة الهوية وكانت أزقة حي الأعظمية ميدان لفلم رعب زرقاوي ضاع فيه الحساب على العراقيين ولم يعرفوا حماها من رجلها ولم يتعرفوا لحد الآن على من هاجم ومن هوجم وليش وشلون وعليمن ولم تنفع مع ذلك الجهل بنوع الحدث وسبب وقوعه وأطرافه، لا بيانات الأزارقة ولا الحكومة ولا شهود العيان ولا حتى فحوصات WC أو DNA   وكذلك H2O و CNN

أذن كيف تغلق الأبواب أو بالأحرى كيف يرتق الفتق والركَعه كلش زغيرونه وخلق الله عرايا ودليلهم بلابوش مغمس بقزلقورت وأبو طبيلة ينقر ويصيح تصبحون على ركَعة بالوطن.

هذا ما يجيبنا عليه أخوتنا في العروبة وهم يهدوننا فيلق كامل مجهز بالعدة والعتاد من المجاهدين المستعدين لبذل دمائهم مسترخصين أرواحهم من أجل عزة ورفعة الإسلام والسير في المهمة التي تحدث عنها رب الأزارقة في كتابه الأزرق (( أنما خلقنا العراقيين سهوا فشتتوهم واقتلوهم فأن مثواهم النار ولعنة الله على المارقين، لعلكم تتعظون )) لذا أعلنت مصادر وثيقة الإطلاع خلال حديث لها مع "إيلاف" أن السلطات الأمنية السعودية قد أفرجت عما يناهز الأربع مئة معتقل سعودي من الذين يعتنقون الفكر التكفيري وقُبض عليهم في إطار عمليات الدهم الأمنية التي تقوم بها السلطات بحق من يُشتبه في انتمائهم إلى القاعدة، وذلك بعد نحو عدة أشهر من عمل لجان { المناصحة الشرعية !!؟؟} التابعة لوزارة الداخلية في البلاد، والتي يُشرف عليها نخبة من رجال الدين السعوديين.

لم يطل الأمر بالأزارقة الكبار للرد على الصورة التذكارية التي قدمها الأزرق الخلايلة أبو مصعب فقدمت الى بغداد على عجل السيدة المزورقة كوندا ليزا بنت السادة من آل رايس وهم فخذ من عشاير التوتسي وسارع بعدها رامبوسفيلد ليصل أيضا الى مرابع المنطقة الخضراء ذات التكييف والإنارة عالية القدرة وفائقة الجودة.جاء رامبوسفيلد لكي لا يجعل ( كونده ) تنفرد بالزلم وتظهر في الصورة متأبطة ذراع المرشح الجديد مذوب وعاصر وقاهر ومفلش المليشيات مثلما وعد شعبه بذلك.والقدوم الميمون لخارجية ودفاع أمريكا كان صورة تذكارية مهداة الى جميع الأزارقة وتعني بالتحديد بأن لا قوة هناك تعلوا فوق الأزيرقيو الكبير.

ظهر بعد ذلك أية الله قائد الكَدعان في أرض الشجعان ( تك أيمن الظواهري) في شريط متلفز ليقدم جردة بعدد الانتحاريين الذين نفذوا المذابح بمختلف أنواعها ( السلك والشوي والكَلي ) في عراق الدم. ولعمري فقد كان فلم الظواهري صورة بإطار من الكريستال قدمها هدية لخصومه وعليهم أن يضعوها في مختبراتهم ويحلولها لعل DNA الستارة المخططة التي ظهرت وراءه سوف تدلهم على مكان تواجده.

لم تمض سوى أيام معدودات ليعلن بعدها عن تقرير الإدارة الأمريكية حول حالة الإرهاب في العالم فأعطى الانطباع بأن كل شيء في مكانه والحمد لله فالحال مستورة ولا شيء ينقص العالم وما هي غير سبع سنوات عجاف يعقبهن بحول الله وقوته سبع سمان. وختم التقرير سطوره ببشرى سارة للمساكين من الحفاة والعراة والجائعين والمولولين، بأن العراق أصبح بؤرة للإرهاب الدولي ومكان لتجمع قياداته وأتباعهم .... وعفطولة  للبعث الصامد عفطولة.

ومثلما يتبادل كبار الأزارقة الصور التذكارية فيما بينهم فان الأزارقة الصغار من سماسرة البغاء ومتعهدي سرقة المال العام والخاص ومن بيدهم مقاولات التفليش والبناء وحنفيات النفط وقادة المليشيات بمختلف أنواعها ومسمياتها وسرايا الجيش والشرطة والحواسم والعلاسة والهلاسة والذباحة والطبارة والعصارة ومن ينتظر المحاصصة ومن يمنع الحصة ومن يقفل باب الحصة ومن يبكي على قلة الحصة وسوء تقسيم الحصص كل هؤلاء وغيرهم يتبادلون الصور التذكارية التي تستعرض قوتهم وجبروتهم عبر ضخ يومي لكمية من الرؤوس المقطوعة بقطعة من تنكة دهن معقجة أو الرؤوس المثقوبة بدريل مزنجر أو باستعراض البراعة في تفخيخ السيارات وزرع العبوات. وأن شحت الرؤوس في يوما ما ولم تينع ولم يحن وقت قطافها (( أن العمليات تراجعت قياسا للعام الماضي!!!؟؟؟)) فأن شاشة الجزيرة والعربية وأخواتهن العربيات والعراقيات يصبحن متنفسا للهموم والمكان المناسب لتبادل الصور التذكارية.

كل هؤلاء يستعرضون اليوم رجولتهم المخصية سابقا بوجه العزل من العراقيين.

ألا شاهت الوجوه .....أ.....لن أستثني أحدا.[/b][/size] [/font]   .

 

278
العملية التربوية بين خراب الأمس وتخريب اليوم
فرات المحسن

عام 1958 وتبركا بانتصار ثورة الرابع عشر من تموز أقدمت قيادة الثورة على منح الطلبة العراقيين ما اعتقدته مكرمة تجلب  الفرحة والسعادة لقلوبهم وتجعلهم وأهاليهم يستبشرون خيرا مع قدوم العهد الجديد .لذا قررت قيادة الثورة ووزارة التربية آنذاك عدم اعتبار السنة الدراسية لعام 58 سنة رسوب .أي أن المتخلفين والراسبين من الطلبة في الامتحانات النهائية رحلوا الى صفوف متقدمة دون الأخذ بنتائج الاختبار الدراسي النهائي .وبالرغم من تحذيرات البعض من التربويين والمختصين في مجال العملية التربوية والأكاديمية، حول الأضرار التي سوف تلحق بالعملية التربوية من جراء القرار الذي أطلق عليه حينذاك تسمية (الزحف ) ، فقد نفذت سلطة ثورة 14 تموز وعدها وكانت الفرحة كبيرة وشاملة لدى من كان متخلفا عن أقرانه من الطلبة.

لم تمض غير سنوات قليلة حين ظهر خطل ومضار ذلك القرار على مجمل العملية التربوية وظهرت نتائجه السلبية في الكثير من مجالات التدريس والبحث وبالذات في المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات العراقية، وبدأ التشكيك برصانة العملية التربوية  في العراق يأتي ليس فقط من بين أوساط الباحثين والتربويين العراقيين وإنما بادرت الكثير من الهيئات التعليمية والجامعات في أغلب  دول العالم والتي كانت لها علاقة جيدة بالعملية التدريسية العراقية،بدأت تشكك بقدرة الطلبة العراقيين وتحصيلهم الدراسي.وبالرغم من أن العملية التربوية اتجهت نحو علاقات أكاديمية وتربوية جديدة مع بلدان المنظومة الاشتراكية تعويضا عما أصابها من خسائر من جراء العلاقات المتوترة مع الغرب على مختلف الأصعدة ومنها العلاقات في جانب العملية التربوية والمنح والزمالات، فأن الأمر أحتاج للعديد من السنوات للتعويض  وتجاوز الخسائر والأضرار واستعادة العملية التربوية العراقية عافيتها ومنهجيتها الرصينة.

ما ترتب ونتج من أضرار عن ذلك الأجراء كان من الموجب أن يكون درسا وإنذارا لتنبيه من يريد للعملية التربوية أن تكون أكثر رصانة وقوة وشفافية وفاعلية.وأن توضع قواعد صارمة توقف أية قرارات غير مدروسة ممكن لها المساس بالعملية التربوية لما لذلك من تأثير على الحياة العلمية والعملية للعراق برمته.

من الجائز القول أن بداية سنوات السبعينات كان باستطاعة المرء وببساطة ملاحظة التحولات النوعية في مختلف مناح الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.وكانت تلك النقلات النوعية السريعة التي حدثت تضفي جانبا إيجابيا وتدلل على رغبة عارمة لدى المجتمع العراق لاكتساب المعرفة والحصول على أحدث التقنيات والخبرات.ولكن تلك المكاسب والمنجزات أصيبت بانتكاسة خطيرة ولم تستمر بذات الوتائر من التسريع لاكتساب المزيد وإنما قننت لصالح مشروع عسكري سلطوي. فقد تم تحويل تلك المعارف والخبرات والتقنيات لغرض بناء مشروع عسكري وترسانة سلاح هائلة، وترافق ذلك مع عسكرة واسعة للمجتمع ومن ثم كانت النتيجة النهائية لتلك الإجراءات، حروب داخلية واعتداء على الجيران في غزوات بربرية عممت الخراب والكوارث. وقد وقع العراق من جراء ذلك الاستغلال المشوه للعلوم والتقنيات الحديثة في مطب خطر قاد في نهاية الأمر نحو تدمير الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية.

لقد وضع المتخلفين من رجال البعث جميع موارد الدولة ومرافقها وبالذات العلمية منها طوع هوسهم  ورغباتهم الإجرامية. وكانت في مقدمة أهدافهم الحرص على ربط التغيرات الاقتصادية والعلمية والثقافية بالتدابير السياسية التي تصب جميعها في الرغبة لإعادة ترتيب البيت العراقي وفق النموذج الشمولي ألبعثي وتحت شعار (( كل شيء من أجل المعركة.)).ولم تمثل تلك النداءات المستمرة عن المعركة الموعودة المفتوحة الاتجاهات والمتعددة الأغراض والأهداف لدى حزب البعث الفاشي سوى مفهومين متوازيين تغلق داخلهما باقي المهام والتطلعات ويبقيان دائما في طليعة الأهداف التي تؤطر المساعي الأخرى، أو أن المهمات الأخرى يجب أن تستنبط منهما وتصب في خدمتهما في مختلف المراحل. وهذان المفهومان هما إخضاع وترويض أو تدمير مخالفي الرأي ومن ثم عسكرة المجتمع.

 

إخضاع أو ترويض الخصوم ومخالفي الرأي أعتبر جزأ مهما من البناء المرحلي التصاعدي لأسس المعركة التي أريد أن يسخر لها كل شيء.وهذا الجانب يحتاج الى طرق واختبارات عديدة لتنفيذه.ومن تلك الطرق أسلوب الدوائر المغلقة أو تنقية المراكز باتجاه الأطراف.حيث تكون بعض مرافق الدولة أو مؤسساتها حكرا على منتسبي حزب البعث ولا يقبل فيها سواهم مهما كانت الحاجة أو الضرورات.ولذا اعتبرت المؤسسة العسكرية مغلقة ولا يقبل التطوع فيها لغير البعثيين.ومثلها مؤسسات الأمن والشرطة وبعض الدوائر الحكومية القريبة أو التي تصب خدماتها في صالح الجيش  وأجهزة الأمن وكانت تلك المهمة سهلة الإنجاز.ولكن للسيطرة على وإغلاق المؤسسات التربوية فقد أحتاج الأمر لفترة زمنية طويلة بعض الشيء وبدأ تنفيذه بآليات منهجية محكمة وشمل كامل هيكل مؤسسات الدولة التربوية والأكاديمية وبالذات منها التعليمية حيث أقتصر القبول في الكليات والمعاهد التي تخرج المدرسين والمعلمين على غالبية من الطلبة البعثين وتطور الأمر مع مرور الوقت لتقفل تلك المؤسسات الأكاديمية بوجه من لم يحصل على تزكية حزبية ثم تبعه تأطير كليات ومعاهد محددة واقتصارها القبول فيها على الطلبة من البعثيين، مثل كلية التربية والهندسة وأكاديمية الفنون والجامعة التكنولوجية وكليات عديدة أخرى.

 

مثلت الحرب العراقية الإيرانية منعطفا جديدا أضفى تداعيات خطيرة على العملية التربوية ليس فقط على مستوى المناهج وإنما تعداه نحو عموم الجو الدراسي وحجم الملاك التدريسي مما أضطر السلطة لدمج المدارس واختزال التعليم الى أدنى مستوياته تلبية لما سمي باحتياجات المعركة. فقد كانت أعداد كبيرة من خريجي الدراسات الجامعية والمعاهد يستدعون الى الخدمة العسكرية أو يساقون في فصائل الجيش الشعبي التي تتوجه شهريا نحو جبهات القتال حيث تذهب منهم أعداد لا يستهان بها كضحايا لتلك الحرب المجرمة، يضاف لذلك هروب البعض أو تهربه من الخدمة العسكرية،مما سبب شح فعلي في عدد الكادر التدريسي في عموم العراق.

يمكن القول أن من أكثر مسببات الخراب العام الذي طال العملية التربوية  يقع في وجهين متلازمين وهما السببان الرئيسيان اللذان نشرا السوس الذي نخر العملية التربوية برمتها، الأول: مشاركة الطلبة في العمل الحزبي وقواطع الجيش الشعبي.فالطالب يمنح درجات أضافية تفوقيه حسب عدد مشاركاته في قواطع الجيش الشعبي أو مقدار الخدمة الحزبية في منطقته.هذه الدرجات الإضافية تسمح له التفوق على باقي أقرانه ممن لم يؤدوا ذات العمل العسكري والسياسي .ويمكن للطالب الحصول على درجات أضافية إذا كان أحد أقاربه من الدرجة الأولى قد قتل في جبهات القتال أو نال أحد أنواط الشجاعة.

ومن خلال هذا الأمر أستطاع الكثير من الطلبة وبالذات طلبة الإعدادات والثانويات الحصول على معدلات تفوق كبيرة ساعدتهم في الدخول الى كليات لم تكن معدلاتهم الحقيقية تسمح بأن يجلسوا على مقاعدها الدراسية أو حتى الحلم بمثل هذا الأمر أو حتى الحصول على فرصة الدراسة في المعاهد التأهيلية. فطالب المرحلة الإعدادية بمعدل درجات تخرج 55% يحصل على 10 درجة لمشاركته في الجيش الشعبي في جبهات القتال لمرة واحدة و 10 درجات لحصوله على نوط شجاعة و 10 درجات لمشاركته في الواجبات الحزبية في مقرات حزب البعث في منطقة سكناه و10 % لتبرع عائلته بالمال لدعم المعركة و15 درجة لكونه من عائلة قتل أحد أفرادها في المعركة وربما نال درجات أخرى لأسباب عديدة يتم تصنيفها وترتيبها في المؤسسة العسكرية والأمنية التي باتت تشرف على كل شيء في أرض العراق.أذن فأن هذا الطالب قد حصل على معدل درجات 100 % أو لربما أكثر ولن يستطيع أن ينافسه أي معدل أخر، ومع هذا المعدل أصبح بوسعه الدخول في أي كلية يختارها دون اعتراض أو عوائق.

الوجه الأخر تمثل في قوة وسطوة القرار التسلطي الذي فرض في المدارس والجامعات من قبل الجهاز الحزبي الذي مثله الاتحاد الوطني لطلبة العراق. فتلك المؤسسة الحزبية الأمنية مثلت عند نهاية السبعينات سلطة القرار الفعلي الذي يفرض شروطه وإرادته ليس فقط على الطلاب وإنما بات يتحكم بالعملية التربوية بالكامل ويملي قراراته على الهيئات التدريسية. ومن خلال التقارير التي ترفع الى الجهاز الحزبي والمؤسسات الأمنية يتم التدخل لا بل إدارة العملية التربوية. وكانت تلك التقارير في أغلبها عبارة عن مديح للمتعاونين من الأساتذة أسهمت في تقدمهم عبر السلم الوظيفي وفي التنظيم الحزبي، أو كانت التقارير وشايات وأكاذيب يراد بها تطويع من يرفض الوصاية أو يخالف القرارات الحزبية. وراح ضحية تلك التقارير الملفقة الكثير من التدريسين الذين شملتهم عقوبات شتى مثل الحبس أو الفصل أو النقل وحتى الإعدام للبعض منهم، ومثلَ السوق لقواطع الجيش الشعبي الذاهبة لجبهات القتال واحدة من أكثر التهديدات شيوعا.وبسبب تلك التهديدات والوضع الاقتصادي فقد بدأت هجرة منظمة للتدريسيين الى خارج العراق.ولذات الأسباب أنصاع الكثير من التربويين وقدموا خدماتهم الطوعية وفق ما تمليه عليهم إرادة الحزب وذراعه الاتحاد الوطني.فمنهم من تطوع ليعطي الطلبة أسئلة الامتحانات أو يتغاضى عن الغش أو يرفع من الدرجة الممنوحة للطالب. وحدثت  تجاوزات مفزعة وصلت في بعضها أن يقوم الأساتذة بكتابة الأطروحة التي يريد الطلاب من المتنفذين في الحزب تقديمها لنيل شهادتي الماجستير أو الدكتوراه.هذا الأمر ساعد على ضخ أعداد هائلة من التدريسيين الفاشلين بين أروقة وزارة التربية ووزارة التعليم العالي وفي المدارس والمعاهد والجامعات وسبب في حدوث كارثة وطنية شاملة تتمثل في سوء الإدارات لقطاع التعليم ومناهج تعليمية ضيقة الأفق حزبية التوجه ذات معلومات سطحية متخلفة وتقدم بأساليب وطرق تدريس بائسة ومملة تعاني من الفقر المعرفي وغياب المنهجية.

أن دمار مؤسسات التعليم ينظر اليه ضمن الكوارث الناجمة عن الحروب، لكنه يشكل أيضا إحدى أسوأ عواقب العقوبات الاقتصادية والفوضى المستمرة.فقد شكلت سنوات العقوبات الاقتصادية القشة التي قصمت ظهر البعير.فعلى امتداد سنوات الحصار التي أستغلها نظام حزب البعث لصالحه الى أقصى المديات وحول الحصار الاقتصادي لتجارة درت عليه الأموال الطائلة، عانت المؤسسات التعليمية والعملية التربوية برمتها من الفوضى والنقص في الموارد المالية والمعرفية وعاش العراق انقطاع شبه كامل عن العالم ولم يكن ذلك ليقتصر على شح الموارد المخصصة لهذا القطاع أو النقص في المصادر المعرفية والكتب ومواد القرطاسية فقط وإنما أصبح قطاع التدريسين وكذلك الطلبة عرضة للإفقار والجوع مما أضطرهم للبحث عن مصادر رزق أخرى لهم ولعوائلهم وصار التدريس والتعلم  يمثل الدرجة الدنيا في سلم أولوياتهم،وهجر الكثير منهم مقاعد الدراسة أو الأستاذية ليبحث عما يسد به الرمق ويبعد غائلة الجوع الذي بدا ينهش الجميع دون السلطة الحاكمة.ومن أجل سد العوز باع الأساتذة جهودهم ومعارفهم بأبخس الأثمان حيث نشأة تجارة بيع وشراء واسعة تبدأ من المراحل الدراسية الأولى حتى الدراسة الأكاديمية وبرزت بحدة ظاهرة الدروس الخصوصية التي كانت تقتصر على الطلبة من ميسوري الحال، وفي تلك الدروس الخصوصية كانت تحدث مساومات لبيع الجهود والمعلومة ويعتمد ذلك على مقدار المبالغ المدفوعة للأستاذ في الحصول على النتائج الإيجابية بالنسبة للطالب. ومنذ أواسط الثمانينات بدأ بتعيين وإشراك الخريجين في مجال التدريس وهم أغلبية ممن  كانوا قد حصلوا على شهاداتهم الدراسية عن غير جدارة وعبر الشراء بالمال أو مساهمة روابطهم الحزبية بشكل حاسم لمنحهم تلك الشهادة.

 

لقد تعرضت العملية التربوية في العراق على يد حزب البعث ومرتزقته لعملية تدمير وتخريب منهجي سعى فيها حزب البعث الى وضعها في أقصى حالات التردي عبر حصرها في وجهة واحدة تمثل أهدافه السياسية فكانت حصيلة كل ذلك فقر وتخلف ثقافي ومعرفي يلف أغلب الهيئات التدريسية التي تقود العملية التربوية وهذا ما أفصحت عنه الوقائع بشكل جلي بعيد سقوط حكم حزب البعث. واليوم فأن أغلب هؤلاء الأساتذة أحوج من غيرهم لإعادة تأهيل كاملة.فمثلما هناك اليوم عملية جادة لتغيير المناهج الدراسية فمن الضروري أيضا الأخذ بعين الاعتبار مهمة مستعجلة وفي غاية الأهمية ترافق ذلك التغيير، ألا وهي إعادة تأهيل جميع التربويين من تدريسيين وإداريين من العاملين في مختلف مجالات العملية التربوية.ويتم ذلك عبر إشراكهم في دورات تربوية علمية مركزة تشرف عليها لجنة عليا ترتبط برئاسة الجمهورية ويشارك فيها خبراء من الأمم المتحدة تكون مهمتها إعادة تقييم خبراتهم في مجال الاختصاص ومن ثم إدخالهم في دورات تأهيلية في ذات الاختصاص مع إعطائهم دروس في طرق التدريس الحديثة والبحث عن المعلومة.

 

العملية التربوية ما بعد سقوط حزب البعث
 

تواجه العملية التربوية اليوم مشاكل جديدة ذات نمط يقارب أو يبز ما تعرضت له من تخريب في عهد حزب البعث الفاشي. ويمكن تأشير ذلك والجزم بأن وقائع اليوم أكثر قسوة وضرر. وتتوزع تلك المشاكل بنماذج قسرية تفرض في أروقة الدراسة وعلى مختلف المراحل وكذلك بين أوساط إدارات العملية التربوية عبر تدخل بعض الأحزاب والعصابات والمصالح الشخصية في جميع شؤونها وإدارتها يرافقه فساد إداري ومالي يضرب أطنابه بعيدا في جميع المراحل والمرافق التعليمية مما أحال التعليم لساحة صراع ونهب ومساومات وفرض أفكار وطقوس بعيدة كل البعد عن مفاهيم التعليم العلمي الأكاديمي وبات الوضع معه في حال يرثى له.وإذا استمرت الأمور مثلما عليه الآن دون أن يتداركها الخيرون فربما ستكشف السنوات القادمة عن مشهد لن تستطيع تغير طبيعته التخريبية جميع الجهود وأخلص النوايا.

 أظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة، أن 84% من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بداية الاحتلال سنة 2003، إضافة الى اغتيال ما يقارب الـ 120 أستاذا جامعيا لحد الآن وهناك الكثير من التهديدات اليومية توجه الى الآخرين في قطاع التدريس.

وفي مقابلة مع أحدى الوكالات الأخبارية يشتكي وزير التعليم من تردي حال الجامعات العراقية بسبب المخاطر والضغوط التي توجه للوزارة ولقطاع التدريس والعملية التربوية في أغلب الجامعات والمعاهد والمدارس.وحول مقتل ما يقارب الـ120 أستاذا جامعيا يخلص الوزير سامي المظفر الى نتيجة تظهر مدى الإهمال الذي يتعرض له هذا القطاع من قبل السلطات العراقية الحالية. 

 

((لكنني أجد أن الدولة غير قادرة الآن على حماية الأساتذة لان الوضع الأمني بأكمله ليس مستقرا وفيه الكثير من الخروقات.. المصيبة تكمن في أن الدولة مازالت عاجزة عن التعامل مع الملف الأمني بشكل عام وهو ما ينسحب على حياة أساتذة الجامعات ؟؟))

وحول مشكلة التدخل في شؤون الدراسة والحياة التعليمية من قبل الأحزاب يقول الوزير

(( هذه المشكلة ليست جديدة .. فمنذ النظام السابق كانت كلمة الاتحاد الوطني للطلبة فوق كلمة نقابة المعلمين وألان لدينا اكثر من اتحاد واكثر من جهة تعمل في الجامعة مع إننا عملنا على إبعاد الجامعة عن دائرة تأثير الأحزاب ، إلا أن هنالك ضعف لدى العديد من الأساتذة يهيئ الفرصة أمام استغلالهم والتأثير عليه .... ومسالة التهديدات مستمرة منذ (4) سنوات ، فالطالب الراسب ومن لديه مطالب غير مشروعه يهدد بهذا الحزب أو تلك الميليشيا واعترف أن هنالك تخوفا جديا لدى الكثير من الأساتذة.))

وتعتبر حالة الانفلات الأمني التي تعم العراق اليوم واحدة من أهم المخاطر التي تواجهها المؤسسات التربوية فلأختناقات المرورية التي تعقب التفجيرات تسبب عدم انتظام الدوام في حين تشكل التهديدات الإرهابية الموجه للطلبة والأساتذة المصادر الأكثر خطرا والتي ممكن لها أن توقف الدراسة أو تمنع الطلبة والأساتذة من الذهاب الى مدارسهم وكلياتهم وتتمثل تلك التهديدات برسائل موجه تهدد بالقتل في حالة الاستمرار في الدوام، وكذلك لجأ الإرهاب الى أساليب بث الدعاية والشائعات من أجل إرهاب الطلبة وذويهم.كل تلك المحاولات تسعى لإيقاف العملية التربوية كونها تمثل صلب ومستقبل الحياة الثقافية العلمية والاقتصادية للشعب العراقي وفي حالة توقف العملية التربوية أو حرفها عن مسارها العلمي الأكاديمي فأن ذلك يعد نجاحا باهرا لفكر قوى الإرهاب والجريمة المنظمة وقوى التخلف.

ويتحدث الوزير عن مهمات تطوير الجامعات والتعيينات وإرسال البعثات وهو في قوله هذا يشخص أس البلاء المستشري اليوم والمتمثل بالجهل المطبق أو المتعمد الذي يركب رؤوس البعض من السياسيين والذي يمنعهم من تفهم الوضع الخاص والقيمة الحقيقية لاستقرار ونجاح العملية التربوية وما يترتب عليه مستقبلا من تقدم وتطور لحياة المجتمع وما يقدمه من منافع جمة للعراق شعبا وأرضا.

(( هناك ملفات مهمة وكبيرة كالتعيين والبعثات وتطوير الجامعات لا يفهمها الا من عمل وعاش في الجامعة واغلب ممن يعملون في الوسط السياسي لا يفهمون ما هي وظيفة الجامعة ومستقبل البلد المرتبك بشكل أساس على مستقبل الجامعة .. وهذه الحقيقة لا قيمة لها لدى البعض من السياسيين بينما يراها البعض الأخر الأساس في الحياة ))

أن تصريحات الوزير المظفر تدلل بلا شك على الحال المتردي والمفزع الذي آلت أليه العملية التربوية  على يد تلك الأحزاب المتخلفة ومعها مليشياتها ومصالح شخصية أكثر قسوة وضلالة.أن تلك العصابات الحزبية وغير الحزبية تكمل اليوم الشوط الذي بدئه حزب البعث لتجهز بدورها على ما تبقى من العملية التربوية وتضعها في أردى حالات التخلف والجهل، فقد تحولت الجامعات والمدارس  لضياع وممالك ومقاطعات خاصة تمارس فيها جميع أنواع التهديد والضغوط والاعتداءات وتشيع وسطها لغة التجهيل والخرافات وسياسات التمييز ضد الأخر من خلال تصعيد حدة التوتر والصراع الطائفي والعرقي،وأصبحت مقاعد الدراسة أماكن لإقامة الاحتفالات الدينية حيث يجبر الأساتذة والطلبة على المشاركة في المحاضرات الدينية والسياسية، وتعطل الدراسة في المناسبات الدينية وغيرها أو للمشاركة في موكب عزاء أو تظاهره دينية .وتقوم تلك المجاميع من منتسبي الأحزاب الدينية والعصابات القريبة منها والتي حلت محل الاتحاد الوطني، بأحياء أعراف القهر والتهديد البعثية عبر إجبار الجميع على تنفيذ شروط ورغبات وأوامر أفراد ولجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنتشرة اليوم في الوسط الجامعي والمدارس بنماذج ومسميات مختلفة.

أن هذا الأمر يستحق وقفة جادة وفاعلة وأن لم يتدارك بأسلوب علمي صارم ( وهذا ما أشك فيه ) فأن الغلبة في السنوات المقبلة ستكون لطق الحرمل وقراءة الكف والفنجان وانترنيت القامات والزنجيل ولوغريتمات أبن تيميه وجراحة القلب بأدعية أبن لادن والظواهري ورسائل الفقه الديني.[/b][/size][/font]

279
الزرقاوي السني والزرقاوي الشيعي وما بينهما من أزارقة
فرات المحسن

بعد أكثر من ثمانين مساعد للزرقاوي تم إلقاء القبض عليهم لازال الزرقاوي وهو النسخة الأصلية المستوردة من الزرقاء قلب البداوة والسلفية الأردنية والذي وزعت صوره عبر وسائل الأعلام الأمريكية،  مازال هذا الزرقاوي حرا طليقا.
ويقال والعهدة أيضا على التسريبات الأمريكية أن الخلايلة أو من سمي بالزرقاوي كانت قد أجريت له عملية في بغداد فقد أثرها أحدى ساقيه وذلك قبل سقوط نظام البعث القذر في العراق وهذه علامة فارقة تغوي على تعقبه وتجعله أقل قدرة على الحركة من باقي معاونيه.
قبل عام من الآن أشيع بأنه ألقي القبض عليه ولكن أطلق سراحه سهوا بسبب عدم اكتشاف هويته الحقيقية.الخلايلة أو الزرقاوي يصول ويجول بين المدن العراقية ورغم الملايين التي رصدت من أجل ألقاء القبض عليه فأن قدراته الخارقة تخطت كل تلك الإغراءات التي قدمت لحواضنه ومريديه.
كلمة حواضنه تعني الكثير وتجبر المرء على التفكير في المكان أو الحيز الذي من الممكن أن يلجأ إليه الخلايلة الذي يلذ للجميع خصوم ومناصرين أطلاق أسم أبو مصعب الزرقاوي عليه.وحسب التشخيص الأمريكي فأن الزرقاوي يتنقل بين الموصل وديالى والرمادي والمناطق المحيطة ببغداد ويستطيع أن يمد أذرعه السحرية نحو البصرة والعمارة والنجف وكربلاء والحلة.
خلاصة القول يمكن توصيفه بأنه الشبح الهابط من السماء، الذي يملك طاقية الإخفاء التي تساعده في التمويه والضحك على وتسفيه ادعاءات الأخرين.
في أهم مفصل من مفاصل التأريخ العراقي أي في يوم التصويت على الدستور وانتخابات البرلمان صمت الزرقاوي واختفت صورته لا بل عقلنها الإعلام وبالذات جناحه السياسي حين وضع على عاتقه عملية حماية صناديق الاقتراع.
وحسب قول الدكتور عدنان الدليمي فأن الزرقاوي وجماعته قاموا بحماية مراكز الانتخابات في المناطق الغربية والموصل ولم يقترفوا خلال ذلك اليوم أي عملية تفجير أو نهب أو خطف أو زرع عبوات أو قصف مثلما يفعلونه في باقي الأيام.
أن كان الزرقاوي قد خص العراقيين بذلك الوضع الاستثنائي فأنه منح الأمريكان ذات الفرصة ووضعهم في يوم هدنة طويل وممتع ربما كانت فرصتهم فيه ثمينة ونادرة جدا ليجدوا فيها الساعات الهادئة لممارسة السباحة ولعب الكرة والتمتع بسماع الموسيقى وأصوات عوائلهم عبر الهاتف أو الانترنيت.
أذن كان الخلايلة مهادنا وطيب الطباع في ذلك اليوم وطبق بحرفية عالية اتفاق الجنتلمان أو ما سمي توجيهات أصدقاءه الأمريكان وحلفائه من السنة على حد سواء.
ولكن الجميل في الأمر هو أن الجانب الأخر المتمثل بالزرقاوي الشيعي قد تمالك أعصابه أيضا وأوقف عملياته وقرر أن يمنح حفاته ومصاليخه ورداحيه راحة وسكينة ومن ثم يجعلهم يفخرون بالإنجاز الذي حققوه وبالنصر الذي كللوا به مسيرتهم بعد جهد جهيد.
يتهم السنة بعلاقتهم الوطيدة بالزرقاوي وفي أغلب المرات ثبت بالدليل القاطع بأن قطاعات وشرائح لا بل عشائر وسكان مدن وقصبات بالكامل وتحديدا في المنطقة الغربية توفر للزرقاوي وأصحابه الحواضن المكتملة العديد والعدة والمتعددة الأغراض والمنافع والتي تساعده على تنفيذ جرائمه ويلقي الزرقاوي كفكر وكشخص معنوي كامل التأييد والمناصرة من الآلاف من أبناء تلك المناطق وهم على ذات مبادئه السلفية أو من القوميين العروبيين الذي شعروا بالإفلاس السياسي فزاوجوا بين فكرهم وفكر الإسلام السلفي ولذا فالزرقاوي السني يلاقي الدعم الكامل من أزارقة السعودية والأردن وسوريا.
ويجد هذا الجمع الخبيث مؤازرة نشطة من داخل السلطة العراقية وبالذات وسط كوادر وزارة الداخلية وبالذات الشرطة منها وأيضا من قادة وضباط ومراتب وزارة الدفاع وفي الكثير من الأحيان يمنح الإسناد والنصرة من الزرقاوي الأمريكي الذي يقدم له التسهيلات الميدانية.
يتهم الأمريكان بامتلاك زرقاوي بذات المواصفات التي يتمتع بها الزرقاوي السني. ولكن الزرقاوي الأمريكي مرتزق محترف واسع الحيلة مدجج بالسلاح وهو حليف ومساند لمشاريع تؤمن المصالح الأمريكية ولكن الميزة التي تميزه عن الزرقاوي السني هي سعة واختلاف الدوافع والأهداف المستقبلية.
أن إلحاح الطرف السني والأمريكي على صناعة وتبني زرقاوي ما بمواصفات ذات خصوصية محددة وبما يلائمهم من أغراض وأهداف يريدون الوصول أليها بقوته وقدراته التنظيمية في تعميم الخراب والجرائم في طول وعرض العراق.
ذلك الملمح بات يشكل المشهد العام للسياسة في العراق ويعطي الانطباع عن مقدار جريمة وظلم طرف بعينه يقابله سعة وبشاعة مظلومية الطرف الأخر، ولكن ما يؤشر له  هو مقدار النجاح الذي أحرزته بعض الأوساط الشيعية في قدرتها على تحويل مظلوميتها الى دافع للنفور من الأخرين على اختلاف ألوانهم ومسمياتهم في ذات الوقت الذي أبعدت زرقاويها الى ما وراء اللوحة وأصبح هذا الزرقاوي الشيعي يعمل بكامل طاقته دون أن يواجه عقبات مؤثرة أو رادعة.
الزرقاوي الشيعي الباحث عن دولته المستقلة المدججة بالطائفية والخيرات الطبيعية لا يجد ضيرا في تنفيذ أساليبه الخبيثة لتحقيق أهدافه ومشاريعه.
أنها ذات الطريقة التي استعملتها الصهيونية في العراق للوصول الى مبتغاها حيث عملت على إيذاء اليهود العراقيين ودفعهم للهجرة الى إسرائيل.الزرقاوي الشيعي يريد إيصال الأمر وبالذات مع الشيعة قبل غيرهم الى الحال المستعصي والميئوس منه والذي لا يرى معها الشيعي بد من القبول بأكثر الخيارات مرارة. الزرقاوي الشيعي ولحد الآن حصد من أهدافه الكثير وأول تلك الأهداف أن على صوت الطائفية على العراقية بين أوساط العراقيين الشيعة الأصلاء.
الزرقاوي الشيعي يريد دفع شيعة العراق للوقوع في لحظة الرعب الشديد ومن ثم اليأس حيث تغلق أمامهم جميع المنافذ ويصبح الحل الوحيد والخيار الأخير هو القبول بدولة الجنوب والوسط الشيعية المستقلة وهذا الحل يناسب الزرقاوي الأمريكي ولذا يقدم خدماته الميدانية لرفيقه الزرقاوي الشيعي الذي بات محط أعجاب الأزارقة من بني إسرائيل.
هذا الزرقاوي أشد بأسا ومكنة من باقي الزرقاويين وهو ذو سلطة وسطوة في جميع مفاصل الدولة ويملك نفوذ واسع بين أوساط الناس البسطاء وتفتح له خزائن الأزارقة في طهران و سوف ينجح مشروعه لأنه يلاقي الإسناد والمؤازرة من جهات كثيرة ومن أهمها زرقاويين ذوي قدرة وجبروت وخبرة أنه يمثل المنهج والفكرة التاريخية  والمشروع الذي روج له صهيونيا منذ عام 1953 والذي يسعى لتقسيم العراق برعاية الأمريكان ومباركة جميع بلدان المنطقة دون استثناء.[/b][/size][/font]
 

280
الحياة والحرية للزميل الدكتور احمد الموسوي

تحت وطأة الانفلات الأمني وتنامي قوى العنف الدموي للميلشيات الحزبية والطائفية والمناطقية المختلفة وغياب المسؤولية الرسمية ( البرلمان ,الحكومة ، رئاسة الجمهورية ) وضعف الأداء الأمني لوزارتي الداخلية والدفاع العراقيتين , وتصاعد حدة الاحتقان الطائفي والمذهبي , زادت وتيرة وحجم العمليات التخريبية الإجرامية لقوى وجهات عديدة , داخلية وخارجية , مناهضة للتغيير والعملية السياسية مستفيدة من أجواء وظروف خلقها وكرسها الاحتلال والقوات المتعددة الجنسيات , وفي ظل أوضاع معقدة وعصيبة يمر بها العراق و المواطنين العراقيين وعجز النخبة السياسية وأحزابها عن تبني مشروع وطني  لإنقاذ العراق وتشكيل السلطة الوطنية. في مثل هذه الأوضاع الشاذة انعدمت فرص ضمان حق الحياة والحرية للمواطنين العراقيين . فتضاعفت أعداد قتلى التفجيرات والخطف والتغييب والاعتقالات العشوائية التي تقوم بها المجاميع الإرهابية وزمر الميلشيات وعصابات الجريمة.
قبل ثلاثة أسابيع وفي وضح النهار ومن داخل مقر الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في المنصور , اختطف الشخصية الوطنية والناشط في مجال حقوق الإنسان الزميل الدكتور احمد الموسوي , رئيس الجمعية العراقية لحقوق الإنسان. كان الدكتور الموسوي ولعقود طويلة مناهضا و معارضا للنظام الديكتاتوري المقبور وعمل على تعزيز حركة حقوق الإنسان العراقية ووحدة منظماتها وتبنى مشروع الجمعية العراقية لحقوق الإنسان وساهم بالترويج لتأسيس منظمات وجمعيات ولجان حقوق الإنسان في مختلف دول العالم .
أننا في الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان / السويد , ندين ونستنكر العملية الإجرامية الإرهابية التي استهدفت الزميل الدكتور احمد الموسوي والتي لا تعني وفي كل الأحوال غير جريمة إرهاب وترويع للجميع وفي مقدمتهم ناشطي منظمات وجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني العراقية , إننا نحمل الخاطفين والجهات الداعمة لهم المسؤولية عن حياة وحرية الزميل الدكتور احمد الموسوي  رئيس الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في ذات الوقت الذي نشعر بالقلق البالغ على حياته  ونحمل  الحكومة العراقية ومؤسساتها الأمنية كما قوات الاحتلال المسؤولية الكاملة ونطالب بالكشف عن مصيره وضمان سلامته وحريته  مؤكدين ضرورة تظافر جهود الجميع لوضع حد لعمليات الخطف والقتل وترويع المواطنين العراقيين الآمنين .
في نفس الوقت نقول آن الأوان للفعاليات العراقية  لتحمل مسؤوليتها الوطنية وذلك بالاتفاق على حكومة وحدة وطنية بعيدا عن المحاصصة الطائفية والعرقية وإعادة الاعتبار للهوية الوطنية العراقية ووضع حد لفوضى القتل اليومي  وكذلك نزع سلاح الميليشيات الحزبية والطائفية ووضع حد للتدخل الخارجي. ونؤكد على ضرورة دعم سلطة القانون ومؤسسات الدولة ومنها الأجهزة الأمنية لتتمكن من دحر  القوى التخريبية الإجرامية الصدامية والتكفيرية وضمان حقوق المواطنين العراقيين بالحياة الآمنة المستقرة .
إننا نهيب ونكرر المناشدة لجميع الجهات الحكومية والحزبية العراقية العمل على كشف مصير الزميل الدكتور احمد الموسوي وبما يضمن سلامته وحياته وحريته .
ستوكهولم في 26/3/2006


الهيئة التنفيذية
الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان / السويد[/b][/size][/font]

281
الاعتراض على أمانة بغداد ومشاريعها لـ تطوير منطقة الحضرة الكاظمية
فرات المحسن

يبدوا أن كلمة معارضة واعتراض أصبحت وجبة دسمة لدى غالبية ظاهرة من العراقيين، حيث بات الجميع يتناولها بشهية مفتوحة دون شعور بأعراض عسر الهضم.أية فكرة ورأي أو مشروع أو مقترح  أو حتى نية في خاطر عند أحد ما سوف تواجه بسيل من الاعتراضات وعدم القبول والشجب أيضا.يمكن اعتبار ذلك الاعتراض والمعارضة ظاهرة صحية أن جاءت مدروسة وتقدم البديل المقنع وعدا ذلك فهي تعد من باب الترف أو المشاكسة.

قدم صفوة من الباحثين والأكاديميين والفنانين المبدعين العراقيين لائحة اعتراض على تصريحات ونية أمين العاصمة د. صابر العيساوي التي أعلنت في وسائل الأعلام العراقية حول مشروع ضخم لتطوير منطقة الحضرة الكاظمية.

اللائحة الاعتراضية التي قدمها الأخوة افتتحت بمانشيت شعاري جميل ((  لنعمل على حماية التراث النفيس .. لا تدميره!  )) ثم أعلنوا عن قلقهم من نية أمانة العاصمة و أمين بغداد د. صابر العيساوي  إزالة المباني والبيوت القديمة في محيط الصحن الشريف ، وفي دائرة يصل نصف قطرها الى 250 متراً كي  تقام على أنقاضها فنادق ومطاعم وبنايات تجارية ومرائب للسيارات وساحات لتجميع الزوار وما الى ذلك. فضلاً عن شق أربعة شوارع رئيسية تصب في محيط الصحن.

لقد خلقت هذه النوايا والتصريحات شعورا بالصدمة لدى هؤلاء الأحبة ومعهم الكثير من الحريصين  على التراث وأشركوا معهم في مخاوفهم تلك أهالي المناطق المعنية بالإزالة.

القلق مشروع ظاهرا ولكنه لا يخرج بنتائج ملموسة ولا يقدم حلول منطقية وهو أن طرح مثل هذا فهو يستند على ضرورة إعادة التفكير بالخطط الجديدة وعلى مهمة البحث في (الخطط السابقة) التي أقرت في العهد المباد لمشروع تطوير محيط الحضرة الكاظمية.

في موازاة المشروع القديم الجديد لتطوير الحضرة كانت هناك خطة أو نية سابقة لبناء جسر يمتد من منطقة كريعات ـ صليخ الاعظمية نحو شارع المحيط في الكاظمية ثم تخترق مقترباته والشوارع المرتبطة بها مناطق أم النومي والقطانة والبحيه والتل والمباريين ليصل الى محيط الحضرة الكاظمية. وذلك الجسر لو صدقت النيات وتم إنشاءه فسوف يتحول الى منفذ جديد يسهل تنقل سكان أغلب مناطق رصافة العاصمة الممتدة من جنوبها حتى شمالها، مثل بغداد الجديدة والشعب و مدينة الثورة وحي الأعظمية وما جاوره.كذلك فأن هذا الجسر سوف يقلل من شدة الزحام والضغط على جسر الأئمة وبالذات أيام المناسبات الدينية.

مقتربات هذا الجسر والشوارع المرتبطة به ستضطر المخططين ومعدي التصاميم والمنفذين للأخذ بعين الاعتبار ما تفرضه الوقائع على الأرض، أي الموجودات في أغلب المساحة المحيطة بالحضرة  وكذلك  المرتبطة بالمقتربات وما جاورها.

في العهد العفلقي المباد وضعت خطط كبيرة وكثيرة لتطوير المناطق الدينية ونفذ من تلك الخطط الشيء القليل، وكانت أكثر تلك الدراسات قد اهتمت بشقين يمثلان أولا تأمين الجانب الأمني وثانيا النفع التجاري للسلطة قبل الأخذ بالجانب العمراني الحضاري،ومن تلك الخطط نفذت تسوية وتطوير المساحة بين الحضرتين الحسينية والعباسية في كربلاء ومناطق أخرى. وبالرغم من أن التوسع والتطوير كان يصب لصالح تأمين الوضع الأمني بعد أحداث الانتفاضة الشعبية،ولكن لا يمكن إنكار ما قدمه ذلك التحوير من خدمات وما أضفاه من مشهد جميل على مساحة الساحة الممتدة بين الحضرتين. ويمكن النظر بذات المعيار لما ناله شارع حيفا ومنطقة الصالحية والتكارته في العاصمة بغداد من تغيير مع الحفاظ على بعض الأبنية التراثية التي أضفت على المنطقة منظرا بديعا برونقها وجمال صورتها وبعدها الـتاريخي الحضاري.

لكن أسوء خطة وتحوير وضع في العهد العفلقي المباد، ونفذ دون أي حسابات مستقبلية وبعدم تقدير لمقدار الأضرار التي ممكن أن يلحقها بالحضرة الكاظمية ذاتها وما يسببه من فوضى واختناقات أيام المناسبات الدينية. ويعد هذا الأجراء الأخطر والأكثر فشلا في خطط أمانة بغداد في العهد النافق  ومن الموجب اليوم أن يتم تصحيحه قبل أن تتفاقم مساوئه. فقد تم وفق ذلك التخطيط إزالة المنطقة الملاصقة للحضرة من جانب الباب الشمالي الصغير المؤدي الى محلة التل وسبب في ضياع أحد أهم المعالم والبيوت الأثرية الرائعة وهو بيت الجواهرية (الحاج محمد الجواهري ) الذي سكن فيه الملك فيصل الأول في أول قدومه الى العراق. وشيد بعد الهدم العشوائي مرأب (كراج ) للسيارات ترتفع في زواياه ووسطه أعمدة تدلل على النية المسبقة لتسقيفه ومع مرور الوقت أهمل هذا المرأب ولم يكمل وترك دون تسقيف وبعد سقوط حزب البعث وبسبب الظروف الأمنية التي تم معها منع وصول العجلات الى وسط المدينة أصبح هذا المرأب مكب للنفايات وأستغل بشكل عشوائي ولم تبادر أمانة العاصمة الجديدة لوضع خطط لتطويره وجعله سوق كبير أو تسقيفه و بناء سوق أخرى أو مؤسسة ثقافية في طوابق تبنى فوقه، مع وجوب أبعاد فكرة جعله مرأب للعجلات،لما يسببه وجود مثل هذا المرأب وسط المدينة من أختناقات مرورية بموازاة ضيق الشوارع والساحات الدائرية المجاورة لمدخله من جهة باب المراد ومخرجه عند باب القبلة. وأن أرادت أمانة العاصمة الإبقاء عليه كمرأب للعجلات فأن عليها تغيير مدخله ومخرجه ليكونا من الجهة الشمالية له والبعيدة عن الحضرة وهذا الشيء لن يتم دون تنفيذ التطوير المقترح للمنطقة المحيطة بالحضرة. وأعتقد أن إعادة النظر في موضوعة مرأب العربات هو المهمة الآنية والمستعجلة لأمانة العاصمة اليوم. وذات الإجراءات المستعجلة يصح اتخاذها مع سوق الاستربادي المهمل، الذي يعد من أجمل الأسواق الشعبية التاريخية في مدينة بغداد وهو يحتاج الى عناية خاصة جدا، يتم فيها إعادة أعماره وترميم دكاكينه وأرضيته ومجاري الصرف وبناء سقف جديد له بمواصفات حديثة تنم عن الذوق السليم وطابع الفن الرفيع والحضاري .

 

 بذات العشوائية وسوء التخطيط نفذت أمانة العاصمة في العهد المقبور خططها السيئة مع المباني العائدة لأقبال الدولة والشارع والأزقة المؤدية لمنطقة العبيد والفضوة والمتصلة بشارع باب المراد شمالا وبداية باب الدروازة ومنطقة العبيد جنوبا حيث خطط لتطويرها ثم أهمل التخطيط لتسمح أمانة العاصمة بالبناء في تلك الأزقة لعمارات ومحلات تجارية وترك للأهالي تشييد تلك الأبنية حسب خرائطهم وبشكل عشوائي لتصبح تلك الأزقة معرضا لبنايات وأسواق غير متجانسة بل مشوهة، وبواجهات متداخلة وخارجة عن بعضها البعض وبأشكال هندسية عجيبة غريبة لا تسر الناظر.

 

أعتقد وأرجو أن أكون قد أسأت الظن،بأن بعض من وقع على لائحة الاعتراض على تصريحات وخطط أمانة وأمين العاصمة حول تطوير محيط الحضرة الكاظمية،هم من الشخصيات غير المطلعة على واقع المنطقة والبعض منهم لم يشاهدها بشكل دقيق وربما لم يصلها قط، وقد قام بتوقيع اللائحة بحسن ظن ونية صافية طيبة وهذا ما يشكرون عليه ويسجل لصالحهم. وبأنهم يتابعون شأن وطنهم ويريدون له ما هو كل خير وصلاح، ويدركون قبل غيرهم القيمة غير العادية للموروث الثقافي – التاريخي  لوطنهم.

واقع الحال في مناطق المحلات المحيطة بالحضرة الكاظمية والممتدة على مساحات واسعة تشمل محلات القطانة، البحيه ،المباريين،الكنجلي،النعش خانة،التل، الفضوة ،الشيوخ، السميلات. العبيد  وغيرها يكشف عن وضع مزر.فالأزقة ضيقة جدا ومهملة تتجمع فيها المياه والنفايات وأغلب بيوتها قديمة جدا خربة وآيلة للسقوط وبعضها أصبح خانات ومخازن للبضائع والكثير منها مكتظة وتزدحم بالعوائل وهم  فقراء المدينة من غير القادرين على الانتقال الى مساكن لائقة في المناطق المفتوحة التي أنتقل اليها أغلب أهالي الكاظمية من ميسوري الحال، مثل منطقة فتاح باشا، بستان الشيخ حسين،شارع الكورنيش ، بستان حمد،منطقة الربع التي سميت جميعا بالعطيفية 1 ، 2 ، 3  وغيرها من المناطق المجاورة لوسط مدينة الكاظمية.

وللحقيقة المجردة أقول، إذا كانت هناك بيوت في محيط الحضرة الكاظمية تستحق أن يطلق عليها بيوت وبنايات أثرية يفترض الحفاظ عليها وصيانتها، فأن تلك البيوت يمكن عدها وهي لا تتجاوز أصابع اليدين ومنها بيت آل أعبيدة، بيت الأستربادي، بيت آل ياسين، وبيت مدير البلدية الأسبق السيد جعفرعطيفة، بيت حسن عجمي (الملاك)، بيت شبر، بيت الجواهرية، بيت سيد أبراهيم الحكيم وغيرها وكذلك جامع الجمهور وربما هناك بيت أو بيتين أخرين يستحقان العناية والحفاظ عليها كموروث تأريخي ـ ثقافي، بعد أن ترمم ويعتنى بها ويحافظ على هيأتها ويراعى موقعها عند شق الشوارع الممتدة نحو محيط الحضرة.أما باقي البيوت فأغلبها خرائب رطبة متداعية قميئة وآيلة للسقوط فوق رؤوس ساكنيها، وأن هد أحدها فسوف تتبعه بالسقوط البيوت المجاورة.أما الأزقة فهي عدا كون منحنياتها مجمعات للنفايات، فأنها من الضيق بحيث تبدوا الواجهات متلاصقة من الأعلى لا ينفع معها أي ترميم وواجهاتها لا تشكل البعد الحضاري والفني التي تستحق معه الصيانة والإبقاء.ولذا فالتخطيط لتطوير المنطقة المحيطة بالحضرة الكاظمية يستوجب هدم تلك البيوت الخربة وبناء عمارات سكنية من ثلاثة طوابق لا أكثر تكون شققها بدل تعويضي لسكانها. وبناء تلك العمارات سوف يعطي أمانة العاصمة حرية تشييد مشاريع سياحية وتجارية وثقافية ودراسية على مساحات كافية من الأرض مع توظيف تلك البنايات في نشاطات سياحية ثقافية وإنتاجية،وبدوره فأن التطوير يمهد للكثير من الحسنات والمنافع لأهل المنطقة ولعموم أهل مدينة الكاظمية ويعمل على توسيع سوق العمل ليقلل من حجم البطالة ويساعد في التخفيف من الضغط الحاصل على شوارع المدينة أثناء الزيارات و أيام المناسبات الدينية ويعطي للمدينة بعدا حضاريا جديدا.

أن المناطق المحيطة بالحضرة الكاظمية لو خطط لها من قبل خبراء أكفاء وأحسن تطويرها واستغلت بشكل علمي وعملي فأن ذلك سوف يعطي المنطقة والمدينة برمتها سعة من فضاءات تغير وجه المحيط الكئيب الغير متجانس والمهمل والذي يصعب على المؤسسات تقديم الخدمات له بشكلها المناسب، وأصبح واقعها يشكل عائق حقيقي في وجه إدخال مدينة الكاظمية عصرا جديدا يقارب الحداثة في عمارته وتنسيق شوارعه ومهمات مؤسساته.

وليتقبل أساتذتي مني المودة والاحترام..
         
f_almohsen@hotmail.com[/b][/size][/font]


282
حقوق المرأة  العراقية بين الواقع والطموح
ملايين الورود عساها تفترش طريقكن نحو السؤدد والرفعة
فرات المحسن

يسجل التاريخ البشري للثورة الفرنسية عام 1789 أول تدوين تشريعي لحقوق الإنسان، ومع انطلاق شرارتها شرعت أولى العهود والمواثيق الخاصة بحرية الفكر ووحدة الطبيعة الإنسانية والمساواة بين البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم، ولم يقصر شأن الثورة وتوجهاتها في هذا المجال وإنما أعطت البشرية عمقا فكريا جديدا في السلوك الأخلاقي والتنظيم السياسي وأعراف وقواعد العمل القانوني، ويسجل لها الريادة في تسليط الضوء على قضية المرأة وحرياتها ومساواتها بالرجل في مختلف مناح الحياة.

هذا الطرح الذي جاءت به الثورة الفرنسية كان إيذانا بتغيرات عميقة اجتاحت العالم في مجال العقائد الفكرية والمذاهب السياسية والاجتماعية وحيث أصبحت قضية المرأة والمساواة تمثل الجهد الرئيسي للكثير من المنظمات المحلية والدولية وشارك في ذلك الجهد بحيوية فعاليات كثيرة كان للرجال فيها قوة مؤثرة ومهمة، وقدمت دراسات وبحوث في هذا الشأن دفعت قدما وطورت الفعل اليومي لتلك المنظمات نحو الغايات التي تصبو لها وفي مقدمتها المساواة بين الجنسين وانعتاق المرأة وحريتها وحقها في العمل والاختيار.

من المعروف، أن ما يحدد المكانة الاجتماعية للإنسان امرأة كان أم رجل هو موقعه في العمل أي وجوده ودوره في العملية الإنتاجية والذي يحدد بدوره شكل ونموذج العلاقة الإنسانية بين الجنسين على المستوى الاجتماعي والاقتصادي ثم الفكري، وهذه هي لب الإشكالية التي تتمحور حولها عملية الحقوق والواجبات البشرية لكلا الجنسين والذي يؤكد على أن العمل وحده يتيح للمرأة الاستقلال المادي الذي يساعدها على الاستقلال الفكري والنفسي وينمي مداركها ويوسع أفاق وعيها لذاتها وقدراتها.

بقيت المرأة العراقية ولازالت تصارع حزمة واسعة من الاعتراضات والعوائق المصطنعة والمفاهيم المتشددة التي وضعت في طريق انعتاقها ونيل حقوقها،وباتت المرأة العراقية أسيرة ضمن نظم وأطر سياسية واجتماعية واقتصادية جعلتها بعيدة جدا عن الموقع الاجتماعي المناسب لقدراتها الجسدية وكفاءتها الفكرية والمهنية.وتم بشكل منهجي وقسري أبعادها عن المشاركة في العملية الإنتاجية والسياسية، ويعود السبب في ذلك الإقصاء الى عاملين أساسيين.

الأول يتمثل في النظام الأبوي الصارم الذي أجبر الغالبية من نساء العراق على أن يبقين فقط كربات بيوت يلبين حاجات الرجل والعناية بالأطفال،أما العامل الثاني وهو الأشد سطوة وقسوة فتمثله منظومة الأفكار الاجتماعية والدينية التي تضع المرأة دائما في مقام أدنى من مكانة الرجل وتحجب عنها أي فرصة للحراك الاجتماعي الاقتصادي الذي تنال به حقوقها الإنسانية.

تلك المسألة كانت دائما وستضل قضية المرأة العراقية الأولى في نضالها من أجل حرياتها ومشاركتها في قضايا العراق المصيرية، وهي أيضا في صلب مهمات العراقيين جميعا من التقدميين والديمقراطيين الساعين لتفكيك المنظومة المشوهة من المتاريس والعقد التي تقف في وجه حرية المرأة والمساواة والعدالة الاجتماعية.

أنها مهمة عسيرة وكبيرة ولكنها موجبة وضرورية ليست فقط للمرأة بقدر ما هي تتعلق بالمطلق بقضايا الشعب العراقي في مجال الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي توجب أن تأتلف من أجلها الكثير من الجهود لرفع الحيف عن الجميع بمن فيهم المرأة العراقية، ولضمان تشريع متوازن ومنصف يحوي مباديء وقوانين تؤكد على حقوق النساء وترفع الإجحاف الكبير الواقع عليهن، بدأ بإعادة النظر  بقانون الأحوال الشخصية وما يحويه من تشريعات تتناقض كليا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتشريعات العالمية الخاصة بالمرأة كالاتفاقية الدولية لإزالة جميع إشكال التمييز ضدها.

أن التمعن في التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية المنصوص عليها في القوانين العراقية المعنية بحقوق النساء سوف يظهر مدى الإجحاف والإيذاء الذي يطال حياتهن ووجودهن المعنوي وكيانهن الإنساني، وتلك التشريعات تشير لاستعصاء قضايا المرأة العراقية وفي ذات الوقت تكشف المأزق الحضاري السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع العراقي.

 

المهمات الملقاة على عاتق القوى الديمقراطية تبدوا عسيرة وصعبة للغاية ولكنها تحتم اليوم خوض  نضال مستمر لا هوادة فيه من أجل حقوق النساء العراقيات والحقوق الأخرى لباقي شرائح ومكونات المجتمع، وفي المقدمة من هذه الأهداف يأتي الإصرار على تغيير القوانين والتشريعات المبخسة لحقوق النساء وإبدالها بما يناسب ويتفق مع روح العصر ومعايير الحضارة الإنسانية التي تكفل للجميع ذات الحقوق وتزيل الغبن والإجحاف الذي طال النساء العراقيات وألحق الخراب بالمجتمع العراقي في مختلف المجالات.أن النضال يجب أن يتركز من أجل وضع نهاية للتعديات اليومية الواقعة على حقوق النساء العراقيات وفي المقدمة من تلك التعديات والتشوهات تأتي.

1ـ الولاية أو الوصاية الأبوية والزوجية ( الوكيل والقبول أو الرفض في مسألة الزواج ـ الطلاق والنشوز والعصمة ـ تعدد الزوجات ـ الوصاية على الأطفال )

2 ـ مسألة الإرث والشهادة في المحاكم ( الرجل مثل حظ الأنثيين ـ امرأتين مقابل رجل واحد للشهادة في المحاكم)

أن مثل هذا المشهد المأساوي يكشف عن إشكاليات ليست بالهينة تثار فيها الأسئلة عن علاقة المجتمع العراقي بالمتغيرات العالمية في سياقها التاريخي وقضية المرأة فيها، وهل أن التطور المعرفي وتلك التحولات فرضت تأثيراتها داخله وأحدثت التغييرات المرجوة في منظومة قيمه المجتمعية بما يوائم المستجدات والطفرات الحضارية التي حدثت في العالم.

من المؤسف أن ما حدث هو عكس ذلك بالضبط، بل أن ما المشهد الحالي يعد ارتداد وانتكاس خطير جدا أدى الى حالة من التردي المفزع على مختلف الأصعدة وخروج غير منطقي عن سياق التطور التاريخي.

وهذا ما تؤكده خارطة المشاركة النسوية في أنشطة المجتمع والذي ممكن تلمسه بوضوح عبر ما يدور اليوم من تغيرات سلبية في المجتمع العراقي تعرض بشكل واضح الانحدار الذي وصلت أليه حالة المرأة وتصاعد وقائع التعدي والإيذاء التي تلقاه على يد المتشددين من أنصار القوى السلفية الدينية والرجعية.

أـ الحياة السياسية ( العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية وفق قواعد الخوف من السطوة والتهديد الرجولي ..عشيرة ..أب .. أخ .. زوج..أبن.... نظام العرف الاجتماعي أو ما يسمى العيب.

  ـ قلة أو عدم كفاية عدد النساء في البرلمان والذي جاء وفق الأجحاف الذي شرع في الدستور بالرغم من أن عدد النساء في العراق يفوق عدد الرجال

 ـ المساهمة في النشاطات السياسية..حيث يلاحظ الفقر العددي المروع للمرأة ليس فقط بين أوساط القيادات الحزبية وإنما يتعداه الى العضوية العادية مع تهميش وحجب ظاهر لدورها وقدراتها ويشمل ذلك قلة مشاركتها في مؤسسات وحركات المجتمع المدني الأخرى  ).

ب ـ الفرض ألقسري للحجاب في الكثير من محافظات العراق والذي طال حتى النساء من الديانات غير الإسلامية.

ج ـ تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في أغلب المحاكم وعلى امتداد رقعة الوطن، ووصل الأمر في بعض جوانبه، أن بعض الأحزاب الدينية أنشأت محاكمها الشرعية الخاصة.

د ـ الفصل بين الرجال والنساء في صفوف الدراسة الجامعية والتحذير من الاختلاط أثناء الدوام والاستراحات و منع الفعاليات المشتركة.

هـ ـ ازدياد حالات الاختطاف والاغتصاب والاعتداء الجسدي والنفسي على النساء في جميع المحافظات دون وجود رادع قانوني أو ضمانات أو تعويض معنوي أو مادي للضحايا.

و ـ وجود أعداد هائلة من الأرامل واليتيمات ( من نتائج الحروب والأمراض ) دون معيل أو مصدر رزق مما يجعلهن ضحايا لتهديد يومي يتعرضن فيه للإذلال والمهانة تحت شتى الظروف التي تتراوح بين القسر والتهديد والجوع والانحراف والجريمة.

ز ـ تشكيل منظمات نسوية تعمل بالضد من حقوق المرأة والحريات الإنسانية وتروج لعبودية النساء تحت سطوة الرجال وبما يكفل تطبيق التشريعات الدينية التي تنص على عدم أهلية المرأة وعدم رجاحة عقلها.

ح ـ استشراء حالات تعدد الزوجات وزواج المتعة والمسيار والعرفي وغيرها، والتي تسبب في أغلب الأحوال اعتداء على إنسانية وكرامة المرأة وهضم لحقوقها. 

         

هذا الارتداد لا يقتصر على المجتمع العراقي وإنما يتعداه ليشمل الكثير من البلدان العربية والإسلامية ولا يتوقف عند أوضاع المرأة فقط، وإنما هناك تدهور غير عقلاني في مجمل الفعاليات والأوضاع السياسية والاجتماعية.ويمكن القول بأن هناك دورة معكوسة لعجلة التأريخ ابتدأت بالدوران مع تصاعد المد الديني وانتصار السلفية الدينية الإيرانية عام 1979.

الأقسى في الأمر أن ذلك الأرتكاس أفرز نماذج من العنف السياسي والاجتماعي دفع الكثير من المجتمعات الشرقية للوقوع في حالة تصادم ومواجهات ونزاع داخلي تم فيه ويتم استخدام أساليب العنف والقتل على الهوية، ورحلت بعض تلك الخصومات نحو المخالف الأخر خارج الحدود الوطنية، وشجع ذلك التصعيد على ظهور قوى وتوافقات اجتماعية كان لها أن تضمحل أو تختفي عبر مسيرة التغيرات الحضارية لكنها وجدت في المد الديني نصيرا ومؤازرا لذا فقد بدأت تنهض من جديد بقوة وفاعلية، محاولة أن تكتسح من أمامها جميع الإنجازات التقدمية التي حصلت عليها شعوب المنطقة.هذه القوى والفعاليات الممثلة بالعشائرية والفئوية والطائفية الدينية تعمل اليوم على جر المجتمع العراقي نحو منظومة أفكار سلفية ظلاميه غيبية اقصائيه بدأت تعمل وبشكل منظم على ثلم ونحر كافة المنجزات الحضارية التي حصل عليها الشعب العراقي عبر سنوات نضاله التاريخي الطويل والذي قدم من اجلها قرابين كثيرة هم خيرة وصفوة أبناءه وبناته.

 أن أحد أكبر التحديات المطروحة اليوم أمام الأحزاب العلمانية الديمقراطية وحركات المجتمع المدني الأخرى وجمعيات حقوق الإنسان ومناصريها هي تمسكها بالنضال من أجل قضية الحريات العامة ومنها تحرر المرآة وانعتاقها، دون مجاملات وتفريط.ويقاس ذلك في مدى جدية تلك الفعاليات وقدرتها على صياغة برامج ومشاريع ومطالب ملموسة وواقعية تناصر وتساند المرأة وتدفع عنها الضرر والإيذاء وتشجعها للولوج والمشاركة الفعالة في الشأن العام  وتمنحها القدرة والقوة والكفاءة للتأثير والتغيير نحو الأحسن.[/b][/size][/font]


283
البعثيون قادة ومنفذو الفتنة
فرات المحسن

جاء بيان جبهة التوافق حول جريمة تخريب مرقد الإمامين الهادي والعسكري والذي ألقاء طارق الهاشمي (أمين عام الحزب الإسلامي العراقي) جزء من عملية متناغمة أعدت بشكل منسق وبروح إجرامية حاقدة.

فالخطاب جاء متوازيا ومتساوقا مع مجريات التخريب ويكمل المحاولة المسعورة لإثارة الفتنة وتصعيدها.فقد قدمت جبهة التوافق خطابها بالتهديد والوعيد لمن حاول ويحاول النيل من المنظمات التابعة للحزب الإسلامي وحلفاءه وكذلك من يوجه غضبه وسخطه نحو جوامع أهل السنة ومراقد مراجعهم الدينية ولم يتضمن الخطاب أي تلويح أو لغة تدعو للتهدئة ووأد الفتنة ومخاطبة الجميع من فئات وشرائح وقوى الشعب العراقي بروح التسامح وحثهم على إدراك ما سوف تجره الفتنة الطائفية من خراب على العراق لو قدر لها أن تشتعل بالكامل.
بالعكس من كل هذا فأن خطاب جبهة التوافق نحى منحى التصعيد الطائفي وشحن الجو العام بلغة استفزازية تهديديه وكان مسك الختام فيه رسالة المقاطعة للجهد الجماعي لإيقاف الفتنة والذي اجتمعت من أجله فعاليات الشعب السياسية في دار السيد رئيس الجمهورية جلال الطلباني.
وأخذ الحزب الإسلامي بإصدار البيانات المحملة بالتهديد والوعيد والإحصائيات الملفقة بعدد القتلى والاعتداءات الشيعية دون ذكر لما تقترفه فرق الموت التابعة لجبهة التوافق وحلفائها من البعثيين والسلفيين.

خطاب جبهة التوافق والحزب الإسلامي المتشنج والمشحون بالتهديد والنفره جاء بالتحديد بعد ساعات قلائل من الإعلان عن العملية الخسيسة التي تعرض لها مقام الإمامين الشيعيين ولكن سبق خطاب جبهة التوافق بيان للسيد علي السيستاني المرجع الأعلى للشيعة في العراق والذي  دعا فيه للاحتجاج على العمل الإجرامي بمظاهرات سلمية  وطلب من أتباعه عدم المساس والحفاظ على مرقدي أبو حنيفة النعمان والحضرة القادرية تحديدا وهذا التحديد ما يعيب النداء وجعله بابا للفتنة أيضا مما دفع بعض مجاميع من الشيعة للهجوم على جوامع ومؤسسات أهل السنة.

التوقيت الزمني للحدث الإجرامي وخطاب طارق الهاشمي والهجمات التي طالت مساجد السنة كلها تشير الى أن هناك عملية تم توقيتها للتصعيد وإثارة الفتنة والأحقاد ومن الواضح أن الخطة كانت مبيته وأعدت بالتنسيق بين البعثيين والسلفين في جبهة التوافق والقوى الإرهابية المسلحة والبعثيين المنتمين للفعاليات والأحزاب الشيعية.
فعملية تلغيم المرقد وما أحدثه من أضرار بالمبنى تؤكد خبرة القائمين وحرفيتهم في عمليات التلغيم وأن سرعة ردة الفعل للبعثيين من الشيعة لقيادة التظاهرات وتكوين مجاميع مسلحة للهجوم على مساجد وشخصيات سنية ثم صدور بيان جبهة التوافق التحريضي الذي دعا لتأليب السنة وحثهم للدفاع عن مراقد أئمتهم ومساجدهم والتهديد بالمواجهة والزلزال الذي سوف يواجهون به الآخر يؤكد بما لايدع مجال للشك بأن العملية برمتها قد خطط وأعد لها في كواليس بعض المقرات الحزبية لجبهة التوافق بالاتفاق مع أطراف إقليمية ودولية .
ونفذ بأيادي بعثية سلفية هم أعضاء حزب البعث المنتشرون ليس فقط في المناطق الغربية من العراق أو بين أوساط الحزب الإسلامي وجبهة التوافق والحوار وإنما هناك أعداد كبيرة منهم منبثة بين أوساط الأحزاب والفعاليات الشيعية واستطاعت أن تعيد تشكيل خلاياها السرية التي من خلالها تتمكن من قيادة التظاهرات والفعاليات التي تعمل على تصعيد اللغة الطائفية وإيقاع الفرقة والبلبلة بين أوساط الشعب العراقي.أن فترة الثلاث سنوات كانت جد كافية للبعثيين بأن يعيدوا ترتيب أوراقهم وينفذوا الشطر الأكثر خطورة من خطة صدام التي أعدها قبل سقوطه والتي وضعت على أسس سياسة الأرض المحروقة في مواجهة الاحتلال ومن يدير العملية السياسية من بعد سقوط حزب البعث.
وكان أخطر ما في تلك الخطة هو التغلغل بين أوساط الأحزاب على مختلف واجهاتها ومنها الشيعية وكذلك أجهزة الأمن والشرطة والجيش وهذا الأمر بات واضحا وجليا حيث نجد أن المؤسسات العسكرية وفي مختلف محافظات العراق تسير طيعة نحو تأزيم الأوضاع الأمنية وتقوم بما تؤمر به من عمليات قتل يومي على الهوية الطائفية من كلا الطرفين، وفرق الموت باتت حقيقة واضحة للعيان وهي موجودة لدى جميع الأطراف سنية كانت أم شيعية أو غيرها.
حتى عمليات التخريب اليومي للبنى التحتية وسرقة المال العام وسرقة النفط وتخريب أنابيبه واختطاف الناس وترويعهم أصبحت تمارسها عصابات مافيا مرتبطة بفعاليات عراقية وإقليمية ودولية لها اجندتها الساعية ليس فقط للاحتراب في ما بينها وإلحاق أكبر قدر من الأضرار بالخصوم وإنما تسعى جاهدة لوضع العراق في أقصى درجات الفوضى والخراب.

أن تصعيد خطاب الفتنة الطائفية يلاقي صدا إيجابيا واستحسانا لدى قادة الشيعة أيضا.فالهوية الوطنية العراقية أختف كليا خلف ضجيج الهم الطائفي وشكل الخطاب الديني الطائفي البائس أهزوجة لتمرير خبايا السياسات الإقليمية القذرة التي ليس في عرفها غير تدمير العراق ووضعه داخل فوهة الحريق الأبدي.وهذا الخطاب المشحون بالعواطف الطائفية السائبة والذي يلاقي التأييد والاستحسان من جماهير فقيرة في كل شيء يتملكها هوس وجنون الخوف من قدوم من يغلق عليها منافذ التعبير عن مشاعرها المنفلتة بعد أن وجدت نفسها طليقة السراح تبث مشاعرها دون حرج.
هذا الخطاب الطائفي يستغل اليوم من قبل تنظيمات حزب البعث المبثوثة بين أوساط الفعاليات الشيعية ليكون الأداة الفاعلة والمؤثرة في الشارع العراقي وقد استفاد البعثيون من هذا التناغم بين مساعيهم لتنفيذ مأربهم وبين خطاب بعض قادة الشيعة ليتصدروا وفق ذلك التناغم مشهد القيادات الوسطية التي تدير الحشود الجماهيرية السريعة الانقياد لتنفيذ إرادتهم ومأربهم.
فالجماهير الغير واعية كانت وستبقى سهلة الانقياد ولا تحتاج غير دعوة لهتاف ثم تلويح بسلاح وفزعة وكل ذلك يمكن توفيره بسهولة ولا يحتاج لجهد مع وجود آلاف قطع السلاح وأعداد مليونية من العاطلين عن العمل ومن الأميين مع انعدام كامل للخدمات وخطط أعدت بذكاء وخبث من قبل قيادات حزب البعث لتأجيج الصراعات وافتعال الأزمات.

أن لم تدرك جماهير الشيعة بأنها تنفذ مخططات حزب البعث بحذافيرها وحسب إرادة القيادات البعثية التي إعادة ترتيب أوراقها لتقود اليوم جموعهم وأن تلك الجموع تقع اليوم تحت سطوة خديعة حزب البعث وتنفذ له مأربه.
وأن لم تدرك قياداتهم بأن خطابها الطائفي الخالي من أي نزوع للوطنية العراقية وأنه يتساوق ويتناغم مع أهداف تنظيمات البعث وحلفائه من السلفيين ويؤدي لهم خدمات لا تحصى ولا تعد. وأن لم يدرك الشعب العراقي بأن بعض من الشخصيات القيادية في جبهة التوافق وكذلك الحوار وهيئة علماء المسلمين هم الجناح السياسي للإرهاب المسلح وهم منفذو خطة صدام حسين في ما سمي بالمعركة المفتوحة والأرض المحروقة وأن مشاركتهم في العملية السياسية هي بذات الطبيعة والأهداف التي تم وفقها زج أعداد هائلة من البعثيين والحواسم في جهازي الشرطة والجيش وبين أوساط الفعاليات والأحزاب الشيعية. أن لم يدرك الجميع خبث ودناءة وخسة خطط حزب البعث ومرتزقته وعملاءه التي تتناغم مع رغبات دول الإقليم وأطراف دولية لتمزيق وتحطيم العراق أرضا وشعبا.
وأن لم يرتفع الجميع وبالسرعة القصوى لمستوى الهم الوطني ويدركوا بأن المواطنة والهوية الوطنية العراقية دون غيرها هي الحاضنة والحاوية والحافظة للعراق وشعبه وأن الخطاب والمسعى الطائفي هو ما يريد تأجيجه حزب البعث وغيره من أعداء العراق بدأ من القوى المحتلة ودول إقليمية الى مجاميع مختلفة الانتماءات والمشارب ساعية لجعل الفوضى مكسبا وبابا للسرقة والارتزاق.

أن لم يدرك الجميع ذلك فأن شرارة صغيرة قادمة كافية لإشعال حريق لا يطفأ لهيب ناره إلا بعد موت الحرث و الضرع . 

لنقول أن الوقت لم يأت بعد لنقرأ سورة الفاتحة على روح العراق أرضا وشعبا وأن هناك كوة وبالرغم من صغر حجمها وشحت النور القادم منها فأن فيها الأمل والمرتجى ونتمنى أن نتدفأ بشعاعها حين يقف شعبنا بجميع طوائفه وقومياته وشرائحه ليحمل شعلة المسؤولية الوطنية ويعلي من شأن هويته الوطنية،مبعد عنه ذلك الخطاب الطائفي المقيت، ومدرك لما يحاك له في الخفاء.  [/b][/size] [/font]

284
حكومات ومؤسسات وشخصيات لا تستحي من نفاقها
فرات المحسن
 
يوميا أطالع بتمعن عينات من أساليب المقاطعة والعقاب الذي أقدمت عليه حكومات ومؤسسات وجماعات وأفراد مسلمة في مواجهة التعدي غير المبرر وغير الأخلاقي الذي أقدمت عليه إحدى الصحف الدنيماركية وشاركتها صحيفة نرويجية ومن ثم فرنسية بنشرها صور كاريكاتيرية تنتقص من شخصية النبي محمد.
في ذات الوقت أرسل لي أحد الأصدقاء الأعزاء فلم يمثل شخصية السيد المسيح وهو يتجول وسط المدينة  يغني ويتمايل.
طبعا الفلم من إنتاج أوربي ولا دخل للمسلمين فيه. وأشار لي صديق أخر لوجود فلم داعر يصور السيد المسيح بأوضاع شائنة. وحسب قول الصديق فأن هذا الفلم أيضا من إنتاج جهة أوربية ربما تكون من الجماعات اللادينية.

هذه التجاوزات والتعديات على معتقدات ومقدسات الآخرين ربما تكون في أغلبها عمليات تصفية حسابات مع أطراف بعينها يراد منها تغذية الكره والأحقاد أو الاستهزاء والطعن في معتقداتهم. وفي الغالب فأنه ينطوي على كراهية مفرطة تمنع النظر بعقلانية لواقع الحال وما تمثله المعتقدات الدينية والطائفية لتلك الجماعات البشرية.
في جانب أخر ربما تكون المسألة تعبير عن حرية مفرطة وغير عقلانية يهمها قبل شيء أن تخرج جميع النماذج الفكرية والشخصية من حالة القدسية المفرطة التي يحاول أصحابها إضفائها عليها، متخلين عن مراعاة المسؤولية المهنية والإنسانية.   

 يمكن القول أن من حق جميع أتباع المذاهب والديانات الوقوف بحزم في وجه من يحاول المساس بشخصيات يقدسونها ولها مكانتها الوجاهية لديهم.
ومن حقهم أيضا أن يتخذوا الإجراءات المناسبة لمقاضاة تلك الجهات المسيئة ومن ثم وقف مثل تلك التعديات والتجاوزات.وهذه المواقف وردود الفعل تعتبر دفاعا مشروعا عن حقوق إنسانية كفلتها جميع القوانين الوضعية ويجب أن تحترم تلك المعتقدات ومن المناسب أن يتم النظر بجدية من لدن جميع الحكومات والمؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان والحريات لأسباب نشوء وتصاعد حدة مثل هذه التجاوزات.

ولكن لو أمعنا النظر في أساليب الاعتراض وطرق العقوبات والمقاضاة لوجدناها تحمل وفي الكثير منها مساوئ ازدواجية المعايير والكثير من الغايات المبطنة في التعامل مع الحدث وترتكن في الكثير من وقائعها على حشد الشارع بهيجان عاطفي مفرط يصل الى حد القتل وإشعال الحرائق والتهديد والوعيد وخير مثال على تلك الأساليب الخبيثة والنوايا السيئة، تفجيرات الكنائس في العراق والمظاهرات المسلحة في فلسطين وحرق الصور والأعلام وتهديد موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي تقدم العون والمساعدة  لأبناء تلك الطوائف المسلمة في مناطقهم.

مجموعة كبيرة من الحكومات العربية المسلمة قدمت مذكرات اعتراض الى الحكومة الدنيماركية وقامت مجموعة من شركات ومخازن بيع المواد الغذائية بمقاطعة البضائع الدنماركية والنرويجية.يعد هذا النوع من المقاطعة نموذج فعال لوقف التجاوزات وتنبيه الأخر لأخطائه.
ولكن تلك الحكومات ورغم سعة ارتباطاتها الدولية ووفرة مؤسساتها لم تستطع في يوم ما أن تؤسس لجهة أو هيئة تقف بالمرصاد لمنع مثل تلك التجاوزات وبقي الأمر سائبا يتسرب بقدرة عالية مستغلا الخصومات الفكرية والدينية والسياسية في العالم الإسلامي بعكس ما نشاهده من قوة وجرأة لدى الجانب الإسرائيلي الذي يقف بقوة كبيرة في وجه أي ملمح يمس العقيدة الصهيونية أو يشير بما يسيء لدولة إسرائيل.وعندنا من الوقائع والنماذج الكثير.

قدمت السينما الأمريكية والأوربية الكثير من الأفلام والفعاليات عن العالم الإسلامي وطبيعة الحياة والعلاقات الشخصية والاجتماعية فيه بجوانبها السلبية والإيجابية، ولكن الأغلب الأعم كان يصور العربي أو المسلم باتعس وأقبح وضعياته وأوصافه وقدمته دائما كشخص وضيع أو إرهابي مجرم مهوس جنس يبيح لنفسه فعل كل شيء للوصول الى غاياته.
هذه الصورة البشعة التي قدمتها السينما الغربية وبالرغم من صدقية بعض جوانبها وتماثلها مع ما ترتكبه شرائح كثيرة في العالم الإسلامي فأنها كانت ولا زالت تغذي مشاعر الحقد والريبة لدى الأوربيين تجاه شعوب العالم الإسلامي جميعا ولا تقدم للغربيين الوجه الأخر لذلك العالم الزاخر بالتنوع الثقافي والحضاري.
والأدهى من كل ذلك أن الكثير من تلك الأفلام تم تصويرها في مناطق من العالم الإسلامي وتحت نظر وسمع تلك الحكومات ومؤسساتها الثقافية، ولم تواجه تلك النتاجات أي اعتراض أو منع من قبل أي جهة حكومية أو مؤسسة ثقافية مهنية أو دينية.

لو ذهبنا لاختبار معايير المقاطعة والمقاضاة الإسلامية والعربية التي توجه اليوم نحو الدنيمارك والنرويج حكومة وشعبا ومؤسسات وهناك أيضا من يدعوا لزج السويد في الأمر وربما سوف يتعدى ذلك دول أوربية أخرى لو تكللت الخطة بالنجاح، لوجدناها تنطوي على أغراض سياسية أستغل فيها الدين بأسلوب ماكر وخبيث.

أرى أن حدة وقوة ردة الفعل العربية والإسلامية قاسية حد كسر العظم وهي في جميع أوجهها وحيثياتها هجمة سياسية دينية مفتعلة، ذكية في توقيتها خبيثة في مراميها تقودها شخصيات ومؤسسات تعرف كيف تختار الهدف وتروج له .
وتحاول تصعيد حدة التوتر والمعركة بين الإسلام من جهة والعالم المسيحي من جهة أخرى ولن تكون لها غايات أخر.فالحكومات والمؤسسات التي تبنت الحملة وعمليات القتل والتهديدات التي وجهت للمسيحيين بمختلف مذاهبهم والشركات التي دعت لمقاطعة بضائع تلك الدول كانت الغاية منها حشد أكبر عدد من الجماهير لترسيخ ثقافة العداء لما يسمى بالصليبين ورفع حالة التحدي للأخر الكافر مثلما يسمونه ويترافق ذلك مع محاولة ظاهرة وبتوقيت مناسب لتقديم التأييد والمؤازرة والترويج لما حققه الإسلام السياسي من انتصارات في مصر والعراق وفلسطين.

هذا الأمر أحتل المساحة الأكبر من تلك الحملة الجارية والمتصاعدة اليوم واعتبرت الحكومات وقادة هذه المعركة أنفسهم فرسان أشاوس لحماية بيضة الإسلام والحفاظ عليها من أن تكسر أو تفسد.ولكني ومنذ بدأت كتابة هذا الموضوع رافقني عدة أسئلة وددت أن أوجههما لكل هؤلاء الأشاوس أبطال مقدمة التأريخ الجديد لمنطق الكهوف والظلام الدامس.

ـ من يتقدم على من ؟ النبي محمد أم القرآن؟؟

ـ إذا كانا متكافئين معنويا ودينيا فهل يجوز المساس بأحدهما ؟

ـ ما الذي تفعلونه لو أن أحد حكامكم أقدم على تدنيس القرآن ؟

عند هذه الأسئلة أتوقف لأذكر جميع من يشارك في هذه الحملة حكومات ومؤسسات وجماهير، بصمتهم المخزي والجبان والمنافق و أوصمهم بصفة مزوري التأريخ والمخصيين والمنافقين ومبتدعي الخرافات وبائعي الدعارة السياسية والدينية ومزدوجي الأخلاق والذمة والضمير.
أذكرهم بموقفهم المشين والجبان حين اقدم الفاشي صدام على تدنيس القرآن بدمه الخبيث (كتب نسخة من القرآن بدمه ) وهذه الفعلة نهى عنها القرآن ذاته.
ولكن الجميع شعوب وقبائل وهيئات وحكومات بلعت خستها وصمتت صمت القبور ولم نشاهد فلسطينيا أو سعوديا أو ليبيا أو حتى عراقيا يحرق صورة صدام أو يهتف ضده أو يحرق مقرا للبعث أو يمتنع عن استلام كوبون نفطي أو يتظاهر أمام سفارة عراقية ، بل العكس فقد فرحت الغالبة وهتفوا باسمه واعتبروه رجل الدين المؤمن بل والأكثر من ذلك فأن أغلب من تم تسميتهم اليوم بهيئة علماء المسلمين أيدوا فعلته تلك بل روجوا لها كحالة إيمانية من وحي الخالق وأيدهم في مسعاهم  رجال دين من مؤسسات عربية.
وحرمنا عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير أيتها الخنازير المنافقة المجذومة والمجبولة بالكذب والدجل. فأين كنتم في ذلك الوقت.[/b][/size][/font]

285
جمهورية البنادق الديمقراطية

فرات المحسن

بعد مضي أكثر من عام ونصف العام على صدور قرار مجلس الحكم العراقي المنحل بمنع التعامل مع قناة الجزيرة الفضائية القطرية ظهر السيد عادل عبد المهدي ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في حديث خاص لتلك القناة.وسبقته في ذلك وجوه كثيرة من مجلس الحكم المنحل أو من رجال السلطة العراقية.كل هؤلاء خرقوا ذلك القرار دون إعطاء مبرر لذلك الخرق بالرغم من كونهم كانوا من اشد المناصرين لاتخاذه في حينه. وكان البعض من القادة السياسيين  يبرر تعامله وظهوره على شاشة الفضائية القطرية برفضه المسبق للقرار جملة وتفصيلا حيث اعتبروه خرقا للالتزامات والتعهدات التي اتخذوها على أنفسهم طواعية أو أمام العراب الأمريكي قبل سقوط صدام القذر، في العمل على تعميم الديمقراطية ومبادئها بسعة ودقة وشفافية.
بدورها فأن قناة الجزيرة نهجت منهج ذكي ومخادع استطاعت من خلاله الالتفاف والتحايل على القرار وتقليل أضراره ثم تهميشه عبر إجراءات ذكية ودقيقة منها توسيع شبكة المراسلين من خارج كادر العاملين الرئيسيين.فكانت القناة تقدم تعليقات من مواقع الأحداث عبر تلفيق أسماء وهمية لصحفيين أو مهتمين بالشأن العراقي يقومون بعرض الحدث وتقييمه ومن ثم تقديم الصورة السلبية التي ترصدها وتريد عرضها القناة.استطاعت الجزيرة أن تعرض أيضا وتضخم مثالب وأخطاء رجال السلطة الجديدة وتقدم مقارنة بين الوضع الحالي وما كان عليه العراق في عهد النافق حزب البعث وجعل المفاضلة تصب في نهاية المطاف لصالح صدام وحزبه. كذلك كانت الجزيرة تجلب الكثير من شخوص العهد المقبور أو المقربين منه ممن كانوا أبواقا له، لإجراء اللقاءات معهم والترويج لعمليات الإرهاب والقتل اليومي باسم المقاومة والتشجيع على معاداة التحولات الجديدة وتصعيد وتائر الفتنة الطائفية إعلاميا.
ولكن أمر الاشتراك في برامج قناة الجزيرة والظهور في أحاديث تعد لها حصرا ومن قبل الذوات ممن شارك في التصويت والموافقة على قرار منعها من العمل لمدة شهر ثم مدد ويمدد بين فترة وأخرى، يدعوا للشك والريبة فرجال مثل السادة حاجم الحسني وهمام حمودي وحسين الشهرستاني وعادل عبد المهدي ونوري شاويس وبرهم صالح ليسوا أشخاص من الدرجة الثانية في السلطة لكي نجد لهم المبررات. و هؤلاء يحسبون من أوائل من صرح حول عداء قناة الجزيرة وتلفيقاتها وتحريضها ضد الشعب العراقي وطموحه، فما الذي يجعلهم وغيرهم يقبلوا أو يوافقوا على المشاركة في برامج تلك القناة دون أن يراعوا ابسط القواعد القانونية والالتزامات الأخلاقية التي حرصوا دائما على أن يكونوا من ضمن دعاتها ومروجيها.
هذا الأمر ليس بمستغرب فنحن نرى العجب العجاب يصدر عن ذات السلطة وذات الرجال حيث تتضارب وتتناقض القوانين والسياسات مع بعضها وكأنما شخوص السلطة ورجالها يعيشون في عالم مشهده العام ساحة لصراع الديكة وسيرك لهواة يريدون فيه ابتزاز جمهورهم بألعاب بهلوانية لا تليق ولا يتجرا على فعلها حتى الصبيان،وليكشف المشهد عن هواة سياسة في أقصى حالات التردي التي لا نملك معها وتجاهها غير الرثاء والخوف على الوطن.
فقد قام رجال السياسة من السلطة العراقية بإصدار قرار طرد الصحافية الفرنسية آن صوفي لوموف العاملة في المحطة العامة للتلفزيون البلجيكي (آر تي بي اف) وصحيفة «لوسوار» المسائية و مراسلة أيضا للصحيفتين الفرنسيتين «لومانيتيه» و«سود ويست» وإذاعة مونتي كارلو وإذاعة الفاتيكان وإذاعة كندا، دون أن يعطوا مبررا مقنعا عن السبب في ذلك القرار. وقد مر ذلك الخبر دون أن يواجه بالسؤال عن معيار التعامل الذي دفع السلطة لإصدار مثل هذا القرار وكذلك فأن وزارتي الداخلية والخارجية العراقية لم تصدر بيانا مفصلا حول الموضوع بالرغم من إدانة منظمة «مراسلون بلا حدود» لهذا الإجراء و الاحتجاجات المقدمة للوزارتين من قبل تلك الوسائل الإعلامية التي اعتبرت القرار «انتهاكا خطيرا لحرية الصحافة» وأنها تشعر «باستياء» من هذا الإجراء.
التبرير الوحيد المقدم أختصر الأمر برمته بجملة مقتضبة (يتم طردها خارج العراق لأسباب أمنية ). لم يشرح القرار أو يزيد عن تلك الكلمات ولذا طردت المراسلة الصحفية آن صوفي لوموف بليلة حالكة السواد دون إعطائها فرصة مثلما فعلت السلطة مع القناة المدللة الجزيرة.ربما تفسر جملة الأسباب الأمنية التي ذكرت في قرار طرد المراسلة الصحفية صوفي بوجود علاقات مشبوهة بينها وشخصيات إرهابية داخل العراق وخارجه وربما أنها كانت تنقل رسائل متداولة بين هؤلاء أو أنها تقدم تقاريرها الى الجهات التي تعمل لحسابها بشكل يوحي بالتحريض وتشويه الأحداث وهناك آلاف الاحتمالات لو أردنا تفسير سبب الطرد.ولكن على العاقل أن يدرك أن ما قامت وتقوم به قناة الجزيرة ولحد اليوم يعتبر من الجرائم الكبرى الموجه بالضد من الشعب العراقي وأن أخبارها تعد سبب مباشر في مقتل الكثيرين من أبنائه ولا زالت لغتها العدائية وتحريضها على الفتنة الطائفية تفعل مفعولها في تأجيج الكثير من المواقف المتشنجة والمؤذية ولن ينسى أبناء العراق ما فعله بعض مراسليها وعامليها في مكتب العراق يوم دفعوا المبالغ للإرهابيين لتصوير مشاهد التفجيرات وعمليات القتل وكانت الجزيرة باب لارتزاق وحوش الدم وبوق دعائي أعلامي لعرض أفلامهم.
ولكن الغريب في مشهد الأحداث اليوم هو الصحوة المفاجئة التي انتابت قطاعات كبيرة من الشعب العراقي من الشيعة شرطة ومدنيين يؤازرهم في هذا قادة السلطة والسياسيون .دعوني أسمي تلك الفزعة الجماهيرية بحقيقتها العراقية المجردة بالـ(فزة) أو (الخرعة ) التي أصابت الجميع فخرجت المظاهرات في المدن العراقية ورفع الساسة عقائرهم بالتنديد.حين وصل أمر تعديات قناة الجزيرة لحد التطاول على أكبر مرجع ديني شيعي في العراق وهو السيد علي السيستاني. لدغ الجميع وأصابتهم الخرعة وكأنهم صحوا من كابوس مفزع أقض مضاجعهم.
لا ضير فحقد قناة الجزيرة وكرهها للعراق وتطاولها على مرجعيات الشيعة التي يكنون لها التقديس يستحق ذلك وأكثر. ولكن هذا الأمر لم يكن الأول ولن يكون الأخير في مشوار تلك القناة الوقحة.ولكن لم هذه الصحوة المفاجئة وقناة الجزيرة تعمل على مدى 24 ساعة من الأخبار والبرامج التحريضية ضد أبناء العراق ومنذ ما قبل سقوط حزب البعث الفاشي وقائده النافق.هل حقا تفاجأ وفز أو صحا العراقيون بسبب هذا التعدي الذي قدمته قناة الجزيرة ؟؟!! و هذا السؤال يقودنا قسرا الى التذكير بعدة برامج سابقة قدمت فيها شخصيات عراقية ضحلة الأخلاق والحديث والطباع وسمجة وسخيفة وهزيلة في معتقداتها وأفكارها السياسية.ولا زالت الجزيرة تقدمهم دوريا بصفات مضحكة مبكية على أنهم محللون وعباقرة سياسيون.وقد تجاوز هؤلاء الرعاع في كل مرة يظهرون فيها من على شاشة قناة الجزيرة، ليس فقط على سماحة السيد السيستاني وإنما على جميع المراجع والشخصيات الدينية والسياسية العراقية ووصل في بعضه الى تحريض علني على القتل والإرهاب دون أن تنتاب سياسيو العراق وأبنائه مثل هذه ( النخوة )بعد أن لسعتهم الفزة والخرعة التي كهربت شوارع العراق .هل نسي كل هؤلاء القوم حين أطلق بعض السفهاء في برنامج الاتجاه المعاكس قبل الانتخابات السابقة صفة الميت أو المومياء على سماحة السيد المرجع الديني علي السيستاني.
وإذا كنا نعتقد أن الفزة أو الخرعة أصابت المتظاهرين من أبناء الطائفة الشيعية بسبب إهانة مراجعهم فما هو موقف المراجع السنية من كل ما تتحدث عنه وتنقله قناة الجزيرة عن العراق.
أنها والله لأسئلة حائرة مثل الحيرة والغثيان الذي يصيب المرء وهو يشاهد تسارع ولهاث جميع رجال الطبقة السياسية العراقية للحصول على لقطة بالزوم العريض من خلال قناة الجزيرة وهي التي تشتم العراق وتحرض على قتل أبناءه. ولا أدري لم يمارس رجال السياسة وإدارة الحكم كل ذلك الرخص والتعمية في المواقف ويتبارون بديمقراطيتهم التي يتفوقون بها على ديمقراطية الولايات المتحدة التي لم تتوانى في منع قناة حزب الله اللبناني (المنار) من بث برامجها حول العالم.ويستأسد حكامنا الأبطال على صحفية ومراسلة مثل آن صوفي لوموف ويرتجفون رعبا من أن يطالهم تقريع الراعي الأمريكي أن هم أقدموا على معاقبة قناة الجزيرة بما تستحق وليس بقرارهم الهزيل الذي أضحك منتسبي القناة ذاتها قبل باقي البشر.
تلك الفزعة التي انطلقت فجأة في شوارع المدن العراقية تند بما اقترفته قناة الجزيرة بحق المرجعية الشيعية أستغل فيها بسطاء الناس لتتحول الى دعاية إعلامية مبتذلة لقائمة بعينها ومن أجل التحريض على قائمة أخرى.فقد امتزجت هتافات التنديد بقناة الجزيرة بهتافات للسيد عبد العزيز الحكيم وقائمة الائتلاف الشيعي وشارك في ذلك جمع غفير من أفراد شرطة وجيش (الأمة العراقية الموحدة) رافعين أسلحتهم الوطنية عاليا هاتفين بحياة السيد وقائمته ثم تحول الأمر الى تنديد بقائمة 731 ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود من الاستغلال الرخيص لمشاعر الناس وإنما ذهب البعض من أفراد الشرطة الوطنية الى قيادة الجماهير لحرق مقر الحزب الشيوعي في الناصرية وأيضا مقر الوفاق الوطني وبكامل الروح الديمقراطية؟؟!! وبلغة الحوار الحضاري؟؟!! والتنافس الانتخابي الشريف؟؟!! عبر البنادق والقامات والعصي.وكان التبرير لتلك الواقعة وغيرها والتي خرق فيها ما سمته مفوضيتنا الباسلة المستقلة النقية للانتخابات (بيوم الصمت الإعلامي) سخيفا وضحلا لا يحمل من الحقيقة شيء.فجميع أبناء الشعب العراقي يعرفون لعبة قناة الجزيرة القذرة حين تنتقي وتستدعي وقبل أيام من الانتخابات العراقية أقزام ضحلين خلقا وأفكارا ومنطقا من العملاء الصداميين لتسميهم شيوعين أو ممثلين لتيار شيوعي ليشتموا الدين والمراجع الدينية وجميع السياسيين العراقيين ممن فضل خيار المشاركة في العملية السياسية.وقصد الجزيرة من هذا معروف وواضح ولا يخفى على الحليم.وقد سبق لقناة الجزيرة أن فعلته في الانتخابات السابقة حين قدمت الزعطوط الداعر نوري المرادي الذي شتم الجميع ومن ضمنهم الحوزة في النجف وقام رجال البعث ممن ارتدى العمامة والجبة بعد سقوط البعث الفاشي وقتذاك باستنساخ  برنامج الاتجاه المعاكس ليتم توزيعه على شكل أقراص مدمجة في مدينة الثورة وباقي المدن للتشويش والطعن بقائمة اتحاد الشعب، بحجة أن هذا الأرعن يمثل الحزب الشيوعي مستغلين جهل الناس بواقع الحال ومموهين على عدم وجود أي رابط بين هذا المخبول والحزب الشيوعي العراقي.واليوم تعاد الفبركة ليلصق اسم قزم قذر أخر (فاضل الربيعي ) بالحزب الشيوعي العراقي وتستغل مشاعر الناس البسطاء للتحريض ضد الشيوعيين والقائمة 731 التي شاركوا فيها. وبأسلوب الهياج الأعمى الذي تقوده عصابات محترفة لا تريد للعراق أن يخرج من فورة حوار الدم والقتل على الهوية.وقد أستغل هؤلاء البعثأسلاميون ضعف ذاكرة العراقيين ومرروا لعبتهم القذرة ووضعوا الناس البسطاء تحت سطوتهم وقيادتهم لنحر التجربة الديمقراطية.فهل نسي الناس من هو القزم فاضل الربيعي. وأن نسبه البعض للشيوعيين بعد أن خانتهم الذاكرة، فليتذكروا يوم أن قام هذا القزم بزيارة العراق في الأشهر الأخيرة قبل سقوط البعث الفاشي هو وجوقة عملاء من الأدعياء الضحلين برئاسة عبد الجبار الكبيسي ومحمد جواد الذين ذهبوا ليقدموا لصدام فروض الولاء والطاعة ويقبلوا قدميه حبا بالمال السحت وكرها بالعراقيين.هذا القزم الأرعن الدعي فاضل الربيعي يعرفه القاصي والداني وهو أن طال أو استدار أو ضخم فلن يكون أكثر من كومة نفايات من عمالة تمتد من مخابرات سوريا الى مخابرات القذافي ثم تعرج على مخابرات صدام ولا نهاية ترجى من ذلك.فكيف قيض  لرعاع البعثأسلاميون تحويله الى شيوعي وعضو في الحزب الشيوعي العراقي مستغلين هياج الناس ومشاعرهم الطيبة نحو مراجعهم الدينية ولتتحول المظاهرات من تنديد بقناة الجزيرة الى ترويج أعلامي لقائمة 555 في ساعات الصمت الإعلامي المطلوب. وياليت أنها كانت قد توقفت عند هذا المشهد ولكنها تعدته ليتم فيها الاعتداء على المخالفين أو المنافسين من القوائم الأخرى ويعتدى عليهم بالسلاح وتحرق مقراتهم.
أقول لبعض الساسة ممن يريد قيادة العراق الى بر الأمان مثلما يدعون.كونوا حقيقيين مع أنفسكم ولو لمرة واحدة.وأن كنتم تدعون وضع الله والدين في حدقاتكم وعقولكم فكونوا رجال عهد وكلمة سواء شريفة، ولتمنعوا وتدينوا قبل غيركم مثل تلك الأفعال غير الحضارية .وضعوا حدا لهذه الهمجية وعلموا أعضاؤكم ومريديكم معنى الديمقراطية الحقيقية والتنافس الانتخابي. 
أن لله في خلقه شؤون وأن للجزيرة وأذرعها العراقية شؤون أخرى فهل ترعوي بعض أوساطنا من النخب السياسية.     
   

ملحق عاجل لمقالنا المعنون مقدمات لجمهورية البنادق الديمقراطية

 

فرات المحسن

 

بعد إتمامي لعملية إرسال مقالي المعنون في أعلاه والخاص بقناة الجزيرة الفضائية القطرية وشتائمها وهذيانها ضد الشعب العراقي ومرجعياته وشخصياته الدينية والسياسية. ظهرت على شاشة ذات القناة ندوة خاصة عن الانتخابات في العراق وكان الحضور يتكون من رجل  وهو مثنى نادر من الاتحاد الإسلامي الكردستاني وامرأتين الأولى هي السيدة هدى النعيمي أستاذة جامعية دمعتها حرى وشهقتها تصل السماء وعويلها يفطر القلوب على ولي نعمتها القابع خلف القضبان. ولكن يا ويلي على المرأة الأخرى الجالسة في طرف المسرح وهي من قائمة الائتلاف الوطني لصاحبه السيد أحمد الجلبي الذي وعد العوائل العراقية ببوري نفط يجاور حنفية الماء.مريم الريس المحامية عضو الائتلاف وصاحبة الكيلو ذهب من الأساور التي ترن مع الخلاخل في قاعة البرلمان.هذه المرأة قبلت بكل ما تقدمه قناة الجزيرة لشعبها ولم يتملكها أي أحساس بالمهانة أو الضجر بعد أن سمعت ما سمعت من قناة الجزيرة.أذن من أين نمسك الخيط وهل نرى السيد أحمد الجلبي نافش ريشه ومحنفش ليثأر للمرجعية ويعامل الوجه الصبوح مريم الريس مثلما عامل السيد مثال الألوسي أم أن إغواء قناة الجزيرة أكبر من أن يتحمله قلب السيد الجلبي ورهطه من سياسي العراق. [/b][/size] [/font]

286
ديمقراطيون يديرون العملية الديمقراطية
فرات المحسن

في المشهد السياسي العراقي وبعد سقوط حزب البعث الفاشي تنوعت الصور بحيث لم يعد باستطاعة المراقب حصر الأحداث وملاحقتها أو توقعها مع ما يعتريها من حراك وتسارع.ولكن يمكن اختصار الشيء الكثير وحصر التعابير للكشف عن واحدة من أكثر المشاهد تخريبا وأيذاءا.
حيث بدت الطائفية والعشائرية والتنافس غير الديمقراطي الصفة الغالبة في نمط وسلوك وأداء الكثير من أعضاء الأحزاب السياسية الحاكمة اليوم في العراق والتي يمكن القول وبدون تردد أنها اختارت التعامل بهذه المفردات ضاربة عرض الحائط الهوية الوطنية العراقية وطرق التعامل الحضاري.
ومثل هؤلاء لا يتورعون اليوم عن فعل الكثير مما يطعن بالعراقيين ويسلب حقوقهم ويجعلهم يتخوفون مما يخبئه القادم من الأيام لو فازت تلك الأحزاب.

لا تقتصر أفعال هؤلاء الرهط وتعدياتهم وممارساتهم الغير ديمقراطية نطاق الداخل العراقي والتي وصلت لمديات فضيعة تكللت بالقتل المتعمد والتهديد اليومي بالتصفيات الجسدية وإنما تعدته الى خارج العراق وفي قلب دول أوربا الديمقراطية، حيث مارس هؤلاء الأغبياء لعبتهم المفضلة بروح لا يربطها أي رابط بالعملية الديمقراطية بالرغم من الادعاءات والمظاهر التي تقدم كواجهة لعملهم السياسي، وهذا ما أفصحت عنه أفعالهم حيث استعملت الأساليب الاستحواذية غير النزيهة والاقصائية ضد المنافسين أو مخالفي الرأي وأن دل هذا على شيء فإنما يدل، ليس على جهل سياسي بقدر ما يدل على عمى سياسي وخوف واضح من الديمقراطية تتقدمه روح عدوانية وشراسة متخلفة تستعير لغتها من سراديب معتمة مشبعة بدخان التآمر والحقد الأعمى على كل ما هو حضاري وديمقراطي.

وكمثل للروح الديمقراطية العرجاء التي يكنى بها المشروع الاقصائي لهؤلاء أوضح اليوم مثال عن أدائهم وعملهم ليحكم الناس على ديمقراطيتهم (النبيلة جدا!!؟؟) وهم من لا يتورع عن القسم بجميع المقدسات للتأكيد بأنهم يريدون ويحبذون سلوك الطرق الديمقراطية ويقدسونها وهم خير من يمثلها.هذا المثل والوقائع التي أذكرها شاهد حقيقي على بؤس ما يدعونه.

في السويد وبواسطة السيدة حمدية الحسيني عين رجل محسوب على أحد الأحزاب الإسلامية وهو رجل كيس الأخلاق طيبها متعاون ومحاور جيد، وقبل ذلك كانت هناك دعوة من قبل السيد السفير العراقي الدكتور أحمد بامرني للأحزاب العراقية المتواجدة في السويد عقد أثرها اجتماع في السفارة انبثقت على أثره لجنة مفوضية الانتخابات في السويد بالرغم من اقتصار ذلك على الأحزاب واستثناء منظمات المجتمع المدني من المشاركة خلافا لشروط المفوضية المستقلة التي تؤكد على ضرورة عدم مشاركة الحزبيين في مثل هذه اللجان.
أعقب تشكيل اللجنة تلك دعوة من قبل اللجنة الديمقراطية العراقية لندوة يقيمها السيد السفير العراقي.
في تلك الندوة تداول الجميع مع السيد السفير في شأن الانتخابات والعملية السياسية، وكانت واحدة من الأسئلة الموجه للسيد السفير جاءت عن الطواقم أو الكوادر التي سوف تقوم بواجب العمل وإدارة مكاتب ومراكز الانتخابات، فأجاب سعادة السفير بأن المقرر الاتصال بجميع من شارك في عملية الانتخابات السابقة، وأن كان هناك جزر في الأعداد يعين أشخاص جدد، وسوف تقام دورات في هذا الشأن.
مثل هذا القول أكده السيد فريد أيار الناطق الرسمي باسم المفوضية حين جاء الى السويد وقدم تصوراته وأرائه عن العملية الانتخابية في الخارج من خلال ندوة حضرها عدد كبير من العراقيين وأكد ذات القول الذي قدمه سعادة السفير العراقي حول الاستفادة من عمل الطاقم السابق الذي أدار عملية الانتخابات السابقة.

في لجنة مفوضية الانتخابات في السويد غلب على طابع التشكيلة وجود شخصيات محسوبة على التيار الديني ووضعت تحت تصرفه ليس فقط أموال المفوضية وإنما مفاصل أساسية في مجمل العملية.
في بدا مرحلة الأعداد للانتخابات حدثت وفاة والد السيد معن الجميلي وهو مسئول المفوضية مما أضطره للسفر فما كان من باقي منتسبي المفوضية من التيار الديني غير استغلال الظرف (حسب ما أخبرني به شخصيا السيد معن الجميلي ووعدني بالتحقيق في ذلك حين حدثته عن عدم أتصال المكلفين بالأتصال بالكثيرين ) والبدء بمعايير غريبة لا علاقة لها بالعمل السياسي ولا الديمقراطية ولا الحضارة فقاموا بإقصاء أغلب أفراد التيار الديمقراطي واليساري في محاولة لتهميشهم وأبعادهم عن العمل في مراكز الانتخابات.
أثر ذلك تمت الاتصالات من قبلنا مع بعض العاملين في المفوضية حيث أشاروا علينا بضرورة المجيء الى المفوضية وملأ استمارة العمل حسب أفضلية السبق في المشاركة السابقة، وقمنا بذلك حسب الأصول.
وبرر لنا عدم دعوتنا، بأن الهواتف التي اتصلوا بها كانت أما مغلقة أو مشغولة ولذا لم يتم أعلام الجميع فصدقنا بحسن نية،ولكن ظهر أن تلك العملية كانت مبيته حيث لم يتصل بالكثيرين مرة أخرى لدعوتهم الى الدورات التدريبية التي تقيمها المفوضية.
واضطررنا مرة ثانية وعبر أشخاص من داخل المفوضية بالاستفسار عن موعد الدورات وأماكنها.وقمت بالذات بالاتصال بالسيد معن وشرحت له ما حدث فدعاني لحضور الدورة وأكد أفضلية من عمل سابقا وأن ما حدث شيء مستهجن وغير مقبول.
حضرت الدورة صباح اليوم التالي فدهشت بأن اسمي وأسماء أخرى من المحسوبين على التيار الديمقراطي واليساريين قد شطبت من القائمة الموجودة في القاعة ولكن إصرارنا على الحضور وكذلك رغبة السيد مسئول الدورة السيد سلام محمود أجبرهم على درج الأسماء في اليوم التالي.

انتهت الدورة التي شاركنا فيها والتي دامت لثلاثة أيام على أساس أنهم سوف يتصلون بنا قبل يوم الانتخاب المصادف 12 / 12 / 2005 لأخبارنا عن مواقعنا في مراكز الانتخابات. وعبر أحد العاملين في المفوضية علمنا بأنهم حاولوا شطب أسمائنا ولكن من خلال تأثير السيد معن الجميلي وآخرون، أضطر هؤلاء (الديمقراطيون للكشر ) أدراج الأسماء مرة أخرى وكان ذلك يوم 12 / 12 .ولكنهم عادوا الى لعبتهم الخبيثة مرة أخرى فلم يتصلوا بنا هاتفيا لأعلامنا عن مواقعنا وفي أي مركز انتخابي سوف نعمل.
وقد اخبرني أحد الأصدقاء الذين كانوا متواجدين في المفوضية صدفة لغرض يتعلق ببحثه عن مكان عمله حيث ذكر لي بأنه كان موجود ويستمع لحالة توزيع العاملين حيث أشار أحد هؤلاء (الديمقراطيون الإسلاميون ) قائلا ( شوف وين تخلي هذا الشيوعي فرات المحسن ).ولحد الساعة الواحدة ظهرا من يوم 13/ 12 /2005 وهو أول يوم للانتخابات في الخارج لم يتصل بي أو بغيري أحد ولحد الآن.

يشرفني أن يدرج أسمي ضمن أعداد الشيوعيين رغم أن لا علاقة تنظيمية تربطني بحزبهم. ولم أكن في محاولة مشاركتي بمراكز الانتخابات أسعى للحصول على المال أو لغرض سياسي بقدر تقديم الخدمة لأبناء وطني ولست في وارد استجداء العمل من أحد. وأتفهم أيضا عملية المنافسة الانتخابية بين القوائم ولكني لا أستطيع أن أهضم هذا النوع من الديمقراطية الإقصائية السخيفة وغير الشريفة التي تؤكد على المقدار الضخم من الدونية التي تجلل عمل هؤلاء وعلى ضحالة عقولهم.
ولن أستطيع أن أسمي فعلهم الدنيء بالعمل السياسي وإنما هي عملية ترتبط بفكر حاقد أسود ظلامي لا يمكن أن يقدم أمل وخير وأمن وتقدم وسلام للعراق وشعبه وهم في ممارساتهم تلك يؤكدون على الهوة العميقة التي تفصل بينهم وبين ادعاءاتهم.وأقول لهم مبروك عليكم مثل تلك الأفعال القذرة فأنتم لها وهي لكم ولن تتغيروا مهما فعلتم فأرواحكم لا يتلبسها غير الشر وبه تتزودون فزقوه زقا.وأن اعتقدتم بأن ما تسعون أليه هو نهاية المطاف فذلك حلم غبي يجهل منطق التاريخ وحقائق السياسة وحراك الواقع.[/b][/size][/font]

 


287
برزان التكريتي يرد الجميل للسيد الرئيس جلال الطلباني
فرات المحسن

وسط الهرج والمرج الذي لف ويلف محاكمة الطاغية صدام وأعوانه تتواتر صور ذات دلالات ومعان كبيرة.مناظر وكلمات لا تلاقي الاهتمام المطلوب من لدن السيد رئيس المحكمة وكذلك من هيئة الادعاء العام التي يبدوا وضعها أشد ركاكة وبؤسا من السيد القاضي،ولكن تأثير تلك المشاهد بدا شديد الوقع على أبناء الشعب العراقي.وبشكل ناجز فالجميع يعزو مجريات ووقائع المحكمة ويصفها حسب معتقداته وتصوراته فالبعض يقول أنها مسرحية مفبركة وسيئة الإعداد والبعض يعتقد أن القاضي سبب جميع ما يحدث من ترهات وغير ذلك من الأحاديث. ربما تتحقق الظنون في نهاية المطاف لنجد المحاكمة بقضها وقضيضها،أنها كانت لعبة بائسة سمجة وفي ذات الوقت قاسية الوقع ووحشية أعدت من قبل الأطراف المشاركة في صياغتها وإخراجها، وهي أطراف كثيرة.مثل هذا الهاجس الذي يشاع اليوم بين غالبة أهالي الضحايا، يقابله اعتقاد عند مجاميع أخرى تجد في المحكمة ومجرياتها تأسيس جديد لنموذج عقلاني لقضاء ومحاكم عراقية تبنى وفق منظور الحقوق الإنسانية والعدالة الكاملة وحق الجميع من الضحايا وخصومهم في تقديم الأدلة والترافع والتقاضي والدفاع عن النفس بشكل واضح وشفاف للوصول في النهاية الى الحقيقة المجردة.
ولكن المحاكمة ورئيسها والادعاء العام وحتى هيئة الدفاع عن المتهمين خرجوا وابتعدوا إداريا وقانونيا وبشكل واضح وصريح عن طرق وأساليب المحاكمات والمرافعات المعروفة على مستوى العالم المتحضر والمتخلف.فما شاهدناه من أسلوب التعامل مع المتهمين والشهود من قبل السيد القاضي رزكار محمد أمين يبدوا من الهشاشة والتبسيط وسوء الإدارة ما ينم عن شخصية يتلبسها الحذر الشديد يخالطه خوف واضح وصريح من المتهمين أنفسهم.فهو يسمح لهم بالحديث والإسهاب والتجاوز دون أن يأخذ بحق وقواعد إدارة المحاكمات لمنع التجاوز أو إيقافه حسب القواعد المعروفة في جلسات المحاكم .فالقاضي رزكار حين يريد إيقاف ذلك يظهر عليه التردد وعدم القناعة بما يريده منهم. وكان يكلمهم بلطف ولين ويخاطبهم بتودد، ولكن هذا الشيء يختفي حين يريد الحديث مع الشهود، فلغته تكتسي فجأة نوع من الصرامة والجد،ولوحظ هذا عندما شتم المجرم برزان التكريتي الشاهد الأول أحمد محسن محمد الدجيلي  الذي رد على شتيمته، فما كان من القاضي غير توجيه الكلام للشاهد وتنبيهه بعدم التجاوز والتطاول.وحين افتعلت هيئة الدفاع عن صدام وأعوانه مسألة وجود شخص جالس بين الجمهور،كان يوجه لهم التهديد، وكانت تلك لعبة ذكية من محاميي الدفاع أخذت من وقت الحاكم وحرفت القضية جانبا لبعض الوقت.عند تلك الحادثة راح السيد رازكار محمد أمين يفر بأذنيه ببلاهة واضحة ويشارك محامو الدفاع في البحث عن ذلك الشخص ثم أمر أفراد الشرطة بأخذه والتحقيق معه وفي نفس الوقت تغاضى عما فعله برزان التكريتي الذي وقف واستدار نحو منصة جلوس المشاهدين ورفع رأسه وبعد أن كال لهم سيل من السباب والشتائم القذرة بصق بقوة باتجاه أماكن المشاهدين.وفجأة نجد القاضي يشيح بوجهه جانبا ويوجه اللوم للشاهد ويطلب منه البقاء في الموضوع دون تجاوز أو كلمات غير لائقة وكأن من شتم أو بصق على الجمهور كان الشاهد وليس المجرم برزان التكريتي.
السيد القاضي رزكار أمين كان مراوغا بائسا متصنعا لا يملك الحبكة والدراية في تقمص الجد وأخذ دور الحاكم الحقيقي وفي نفس الوقت كانت علائم الخوف بادية عليه وتتمظهر في البلاهة التي يكتسي بها وجهه حين يواجه حديث من صدام أوشقيقه أو محاميي دفاعهم.
الكلمات البذيئة والبصاق الذي وجهه المجرم برزان الى الجمهور كان بحد ذاته جريمة يستحق عليها الإدانة والمحاكمة ليس لأنها جناية متعمدة وإنما كونها حدثت داخل المحكمة وهي تطاول علني وصريح وإهانة لجميع من كان هناك.ولكن القضاة والادعاء العام وقائده سيد جعفر الذي قدم مرافعته وهو يرتجف وصوته يتهدج من الخوف، أغمضوا عيونهم وبلعوا الشتيمة وهذا ما فعله أيضا السيد رزكار محمد أمين قائد المحكمة الميمون وزاد الطين بلة حين وجه اللوم للشاهد أحمد محسن الدجيلي.
كل تلك الوقائع تبدوا وكأنها سوف تكون الطابع الغالب للباقي من جلسات المحاكمة وربما سوف تصل الى مرحلة جديدة بائسة بكل ما تملكه تلك الكلمة من معنى، ليصبح معها ضحايا البعث القذر في حال يرثى له، وقد يجبرهم ذلك الحال ليس فقط على طلب الحماية من قبل السلطة (أن وجدت) خوفا من التصفيات الجسدية،   وإنما يدفعهم للامتناع عن الإدلاء بشهادتهم.
أسلوب ولغة المجرم برزان التكريتي وتعامله مع الواقعة داخل المحكمة كان واضحا وصريحا ينم عن طبيعة بعثية متأصلة،فقد أظهر دونية وسفالة في الخلق وضحالة في التصرف ووقاحة وصلافة وصفاقة لا تليق بغير شخصية بعثية متعفنة حد النخاع.ولنتصور ما كان عليه موقف ذلك الشخص الذي ادعت هيئة الدفاع أنه هددها، لو بقي برزان رئيسا لجهاز المخابرات وكم طره سوف يطره هذا الوحش الكاسر.
لم تعد تستهويني وقائع المحاكمة بالرغم من شعوري بأهمية لحظتها التاريخية التي وضعت الفاشي صدام في قفص اتهام واضطرته للجلوس كمجرم توجه له الاتهامات والطعون ويعيش مشاعر الذل والمهانة في كل مواجهة بالرغم مما يبذله من عنجهية فارغة. ولكني أجد أن المحكمة وتصرفات القاضي والأدعاء العام باتت تشكل عامل أضافي وفاعل في زيادة أوجاعي وأمراضي. وأعتقد أن القادم منها سيلوك أهالي الضحايا بعذاباته ويطحنهم بوجعه دون هوادة، وربما ستكون وقائع المحاكمة هذه وغيرها من الدعاوى القادمة سببا في الموت كمدا لضحايا جدد يلتحقون بأهاليهم ممن طحنتهم سابقا ماكنة البعث الفاشي.
ولكني اليوم أود أن أشير الى جانب أخر مهم. فالجميع يتذكر رسالة الاستعطاف التي وجهها المجرم برزان الى جهات عديدة من أجل إطلاق سراحه بسبب إصابته بالسرطان، وكان ضمن من وجهت لهم تلك الرسالة السيد رئيس الجمهورية مام جلال الطلباني.والسيد الطلباني كان الوحيد الذي استجاب لرسالة المجرم برزان وكان جوابه واضح وعلني دون لف ودوران أو لبس وتمويه.فقد طلب السيد مام جلال من رئيس الوزراء السيد إبراهيم الجعفري إطلاق سراح المجرم برزان التكريتي مستندا لحالته الصحية وشفع طلبه ذلك والذي نشر في جميع الصحف العربية والكردية ، بإيضاح عاطفي مهم وفاعل عن العلاقة السابقة التي ربطته ببرزان التكريتي شخصيا وعائليا.أثار ذلك الطلب في حينه لغطا بين الأوساط الشعبية والرسمية والشارع السياسي العراقي بعربه وكرده، ووصل في بعض الحالات الى عتب شديد وأحيانا تقريع واتهامات.

في المحكمة وقف الشاهد الأول أحمد محسن محمد وهو أخ لستة شهداء وقريب لشهداء أخرين أعدمهم برزان التكريتي.في بداية شهادته طلب من المحكمة الموقرة قراءة سورة الفاتحة على أرواح شهداء مدينة بلد ومدينة الدجيل ومدينة حلبجة والأنفال فما كان من المجرم برزان التكريتي غير أن أطلقها كلمة مدوية سمعها الجميع.كلمة واضحة المعنى والقصد والنية.كلمة لا لبس فيها ولا توريات.لحظتها توقفت أنا عند تلك الكلمة وتذكرت طلب السيد مام جلال الطلباني.صحيح أن المجرم برزان التكريتي معتوه لا يملك شيء من الحياء ووضيع ومن سقط متاع الرعاع وفاقد للضمير والأخلاق.ولكني أعتقد أنه وبكلمته تلك قدم للسيد رئيس الجمهورية رسالة واضحة ورد سريع، ليس فقط عن المعنى الأخلاقي للصداقة والعشرة والعمل المشترك وإنما كذلك عن مفهوم الحق العام والضمير الإنساني والعمل السياسي وقواعد إدارة الدولة وقوانينها.
منع القاضي رزكار محمد أمين الشاهد أحمد محسن الدجيلي من قراءة الفاتحة على أرواح الضحايا فذكر الشاهد القاضي بأنه سبق وأن سمح بقراءة سورة الفاتحة على روح المحاميين اللذين قتلتهما يد من يريد نقل المحاكمة خارج العراق.ولكن الحاكم رزكار أمين أصر في منعه وتمنعه.
عندما طلب الشاهد المشتكي أحمد محسن قراءة الفاتحة على أرواح شهداء بلد والدجيل وحلبجة والأنفال،صرخ المجرم برزان التكريتي من مقعده ( الى جهنم ).
لقد أرسل المجرم برزان التكريتي ضحاياه الى جهنم وهو جالس في قفص الاتهام وفي الأيام الأخيرة من حياته.لقد كانت تلك الكلمة الوقحة ردا على نداء السيد رئيس الجمهورية مام جلال لإطلاق سراحه وتوفير العلاج له. كانت كلمته القبيحة وفاء وتقدير عال لأرواح ضحايا الكرد والعرب وبارك مسعى مام جلال  بكلمة طيبة ؟؟؟!! رشت ماء الورد وزرعت آلاف الزهور عند قبور ضحايا حلبجة والأنفال والدجيل والمقابر الجماعية.رسالة (وفاء !!!؟؟؟) وعرفان بالجميل تستحق المعاينة والصفنة الطويلة.ومع هذا الرد القذر الوقح من المجرم برزان فهل نستطيع أن نمنع ظنوننا من أن تنمو وتتشعب وتتلبس بالشكوك ونحن نشاهد وقائع المحاكمة البائسة.. أليس كذلك سيدي العزيز مام جلال الطلباني.     
     [/b]

288
الشيوعيون.... اتخذوها وفق حساب الحقل أم وفق حساب البيدر
فرات المحسن

ميزة المشهد السياسي العراقي اليوم هي رغبة قواه السياسية في بناء تكتلات وأتلافات وتحالفات جبهوية تمثل لملمة لمصالح فئوية حزبية وطائفية وعرقية آنية غايتها الوصول لمبنى البرلمان القادم.
على مستوى الأهداف فالملاحظ أن جميع تلك التكتلات قدمت تقريبا ذات البرنامج الانتخابي الذي تتقدم واجهته مشكلتي الأمن والخدمات. وهما المعلمان البارزان لعراق اليوم، أما باقي الأهداف فقد تقدمتها أو تخطتها مهمة الصراع الحزبي لكسب شوط الغلبة في مواجهة الأخريين.
ارتهانا باستمرار تدني الوعي الثقافي والسياسي فأن جبهتي الائتلاف الكردستاني والائتلاف الشيعي يبدوان الأكثر تماسكا وقوة بالرغم مما طال الأخيرة من انقسام وتشرذم ولكن ذلك النقص عوض بدخول مجموعة السيد مقتدى الصدر بالرغم من محاولات المراوغة والخداع.
أما ائتلاف السيد أياد علاوي المسمى بـ(القائمة العراقية الوطنية) فهي البكر الذي يحلم بالتماسك وينشد القوة.فهل يستطيع الإمساك بهما ..؟ ذلك ما سوف تفصح عنه الانتخابات القادمة.
تحليل مصادر قوة القائمة العراقية الوطنية أو لنسميها قائمة السيد علاوي كونه من سعى أليها وحشد لها وترأسها.وفي هذا لا أجزم بقدر ما أعني وفق اجتهادي الشخصي الخوض في مشكلة عويصة تتطلب البحث والتحليل في حسابات أحد أهم أطراف تلك القائمة وهو الحزب الشيوعي العراقي ، والأسس التي وفقها قيض له  الدخول تحت مظلة القائمة  العراقية الوطنية وامتناعه عن تكرار تجربة قائمة اتحاد الشعب التي عمل بموجبها في انتخابات 30 كانون الثاني   2005.
 الأسباب الموجبة للتطرق لمثل هذه المسألة بالرغم من خصوصيتها وحساسيتها، يأتي من شدة التباسها وسعة الخلاف حولها بين أوساط الشيوعيين واليساريين العراقيين وأصدقائهم وكذلك عند أوساط أعدائهم من المتصيدين والباحثين عن الإثارة.
وأيضا فأن الحزب الشيوعي كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني يمثل الثقل الأكبر والأوسع والأقدم في هذا الائتلاف، يضاف لذلك ذخيرة الأسئلة عن طبيعة التحالف ذاته والتباس الموقف ومسالكه  بين قوى تلك القائمة وتأريخ شخصياتها وأحزابها ومن ثم رؤاهم وتصوراتهم عن مستقبل العملية السياسية ومجرياتها في العراق.
قبل الخوض في ذلك علينا أن نبدأ باستعراض مجموعة من الوقائع المهمة والحساسة التي ممكن بواسطتها الاقتراب من حل بعض الإشكاليات أو الحكم على صحة أداء المؤسسة الشيوعية العريقة سياسيا من عدمه. وفي هذا المنحى أسعى لملامسة رأي الشارع العراقي العادي في تفسير الحدث بعيدا عن الأدلجة السياسية.
حصلت قائمة السيد علاوي في الانتخابات الماضية على أربعين مقعدا في الجمعية الوطنية وكان السيد علاوي في حينها رئيسا للوزراء وفي يده الكثير من مفاتيح إدارة الدولة وأيضا خيوط اللعبة السياسية بإسناد من قبل إدارة قوات الاحتلال الأمريكية. وكانت تحت تصرفه أموال الدولة ، وقد عمل جاهدا على توظيف كل تلك العوامل لصالح قائمته ولصالحه شخصيا، وضمن تلك الحسابات شهد عهده توقيع عقد بمبلغ يقارب 450 مليون دولار مع قناة الفضائية العربية لتطوير ( قناة العراقية) ولكن أغلب المبلغ جير لإعداد لقاءات دعائية مع السيد علاوي وأيضا إعلانات متكررة لقائمته ولقاءات تمجد إنجازات وزارته في برنامج  ( من العراق ). وعملت الهبات التي منحت لبعض رؤساء العشائر والصحفيين وغيرهم فعلها المؤثر فخرج السيد علاوي بحصيلة من المقاعد ليست بالهينة.
وجزء من هذا الفعل مارسه أيضا حليف السيد علاوي اليوم السيد غازي عجيل الياور الذي استطاع خلال ترأسه لمجلس الحكم أن يوظف مركزه وقوة عشيرته وسيطرتها على صناديق الاقتراع في المناطق التي فضلت المفوضية المستقلة للانتخابات إيداعها وفي الكثير من المناطق الشمالية والغربية بذمة أبناء تلك العشيرة.كذلك فقد استعان السيد أياد علاوي بأفراد الجيش والشرطة لكسب الأصوات حاله في ذلك حال السيد فلح النقيب عضو القائمة العراقية الوطنية الآن.
اليوم وبعد أن اختفت تلك الظروف والإمكانيات، فهل يستطيع السيد أياد علاوي الحصول على ذات النسب من المقاعد ؟.
من الجائز القول أن البعثيين ممن أعيد ترتيب أوراقهم باتوا اليوم يحسبون على حزب الوفاق الوطني بقيادة السيد علاوي وهم عدته وقوته التصويتية في الانتخابات القادمة مثلما كانوا في الانتخابات المنصرمة، وقد جهد السيد علاوي لإعادة الكثير منهم وفرض سيطرتهم على بعض مفاصل الدولة، ويعد السيد علاوي وطاقم وزارته أصحاب الفضل الأول في تهيئة الأجواء وتشجيع البعثيين على الخروج من حالة الرعب الذي تملكهم بعد سقوط حكمهم، واستطاعوا بواسطته العودة للحديث والابتزاز والمساومات بصوت مرتفع .
ومع هذا فأن هؤلاء يحصون اليوم على دوائر محددة تقع ضمن جغرافية بغداد وديالى وتكريت والموصل أما في باقي الدوائر فوضع حزب البعث بات معروفا حيث أصبح أغلب منتسبيه في جعبة الأحزاب الدينية والكردية.
بالرغم مما أبداه السيد علاوي من جفوة مع الأفكار الفاشية لحزب البعث وبالرغم من تصريحاته العلنية ولأكثر من مرة حول انتهاء دور حزب البعث، فأن أمر ماضيه السياسي كبعثي، وحسب الأعراف العراقية، لازال عالقا بأردانه شاء أم أبى. وأيضا فأن سياساته ومنهجه أثناء ترأسه الوزارة ما كانت لتشي كثيرا بابتعاده عن علاقاته مع شخوص ذلك الحزب وبقاياه.
أذن السؤال الحقيقي والحارق الذي يواجه السيد أياد علاوي.
ـ هل باستطاعته الحصول على ذات العدد من المقاعد لو دخل الانتخابات بقائمته السابقة.

الجواب سوف يكون بـ( كلا) جزما ودون لبس. وهذا الجواب أدركه جيدا السيد علاوي وأفصحت عنه الكثير من الوقائع على الأرض، وبموجبه أقدم السيد علاوي على تشكيل هذا التكتل للوصول الى قوة مؤثرة في البرلمان القادم.وهذا الهدف يتقدم كثيرا على باقي خياراته.
ولكن على المرء أن لا يجافي الحقيقة بشكل كامل ويتنكر لواقع ظهر بحدة خلال فترة الستة أشهر الماضية والذي يؤكد تنامي القوة التصويتية للسيد علاوي واكتسابه قاعدة جماهيرية ظاهرة بين أوساط المتنورين والمثقفين وقطاعات شعبية أخرى مستفيدا من تخبط ومساويء سياسات حكومة الجعفري.
فالسيد علاوي استطاع بهدوئه واتزان طروحاته ونأيه بعيدا عن أساليب المحاصصة العرقية والطائفية، يضاف لذلك الإسناد الإقليمي العربي الكبير والواضح لتوجهاته وسياساته. كل ذلك جعله وبرنامجه معادل علماني عقلاني في مواجهة مشاريع الأحزاب الدينية. 
حين ندقق في وضع الباقين من شخوص (القائمة العراقية الوطنية) وفعالياتها نجد أن حظوظ بعضهم لن تبلغ شأوا يذكر، وبالذات منهم ممن خسر في الانتخابات السابقة أو ممن لم يشارك فيها.
وبالحسابات الواقعية وليس وفق النفخ (التهويل) العراقي،فأن أغلب هؤلاء مع احترامي لهم أحزابا وشخصيات لا يملكون قواعد جماهيرية أو وزن سياسي.وكانت أغلب قوتهم التصويتية في انتخابات 30 كانون الثاني 2005 قد جاءت على أسس العلاقات الشخصية والوجاهة العائلية والمناطقية أو العشائرية.
واليوم وبعد التحولات في المعادلات السياسية  فأن أغلب هؤلاء لن يقدم للقائمة العراقية الوطنية وفي أكثر الاحتمالات تفاؤلا، ما يعتد به من الأصوات. وهذه الأصوات لن تغني أو تشبع في عز هذا الهوس الطائفي والعرقي.
واقع القائمة العراقية الوطنية يشي بأنها تسعى لخوض الصراع والوصول الى قاعة البرلمان وفق حلم كسب أصوات العلمانيين من يساريين ولبراليين وممن لهم مصلحة حقيقية بعراق بعيد عن المحاصصات، بالرغم من أن الواقع اليوم وسمات هذا التيار تفصح عن تشتت ووضع غير صحي.¨
ولذا نتساءل: هل يتحقق هذا الحلم ويكسب السيد أياد علاوي الرهان لتكون قائمته المعادل الحاسم لكسر شوكة السلفيين دعاة الطائفية والدولة الدينية الذين أظهروا بعض نواياهم غير المطمئنة منذ بداية دخولهم العملية السياسية.
ومع التفاؤل الذي يطغي على خطاب الأحزاب والشخصيات المشاركة في القائمة العراقية الوطنية حول نجاحها في الحصول على نسب مرتفعة من المقاعد.فأني أشك في تلك القدرة وأرى أن القائمة لن تحصل على ما يوازي هذا التفاؤل.
في مجمل الحسابات فان علاوي استطاع لملمة شتات وكسب أصوات فعاليات وشرائح وشخصيات كان من الموجب لها أن تتدارك الأمر منذ البداية وتأتلف في انتخابات كانون الثاني الماضي.وفي هذا الجانب يجب أن لا ينكر جهد الحزب الشيوعي وقتذاك، فقد عمل ما بوسعه على أن يظهر للعلن مثل ذلك التحالف على أسس الابتعاد عن المحاصصة والطائفية وانتهاج الوطنية والديمقراطية والعلمانية كخيارات تنضوي تحت لافتتها أحزاب وشخصيات تلتقي في البعض من رؤاها وتطلعاته.
ولكن ذلك المسعى واجه الفشل لأسباب معروفة جاءت في أغلبها بناءا على تقديرات غير صائبة للقوة والمراكز وتوجهات الشارع التصويتية.
بجردة سريعة لواقع القوى المؤتلفة في القائمة العراقية الوطنية فأن الرابح الأكبر من الصفقة هو السيد علاوي وحزبه حيث استطاع كسب ليس فقط أصوات فعاليات وشخصيات لبرالية وضمها لقائمته وإنما حصل على أصوات كتلة مؤسساتية لا يستهان بها وهي الحزب الشيوعي العراقي الذي كان حال التصويت له في انتخابات مجالس المحافظات السابقة يشي بقوة تصويتية كبيرة تختلف كليا عما حصل عليه في انتخابات الجمعية الوطنية.
 وفق ما تقدم من الأمر تثار الأسئلة الأكثر التباسا وقلقا وتضاربا وهي تعني بالدرجة الأولى مسألة مشاركة الشيوعيين في القائمة العراقية الوطنية.
فإذا كان السيد علاوي قد كسب أصوات الشيوعيين.فأية مكاسب يجنيها الحزب الشيوعي من دخوله في قائمة السيد علاوي ؟؟؟.
بعد أن أجريت التعديلات على نظام الانتخابات وصوت في الجمعية الوطنية لصالح الاستغناء عن نظام الدائرة الواحدة فأن حظوظ الفعاليات والشخصيات المكونة للقائمة العراقية الوطنية ومنها الحزب الشيوعي وفي ظل  الصراع الطائفي والعرقي المستشري اليوم، باتت في وضع صعب بعض الشيء في أغلب محافظات العراق.
وفي هذا الأمر يمكننا التدقيق في أسئلة جديدة تخص الحزب الشيوعي بالذات وتحتاج لتوصيف وإجابة علمية دقيقة تشخص الواقع الحالي وتنظر الى الأمر بتجرد ودون عواطف وصبيانية فكرية.

ـ مع من يمكن للحزب الشيوعي الائتلاف في قائمة لخوض الانتخابات ؟.

حسم الحزب الشيوعي أمره وقرر المشاركة في العملية السياسية عبر ائتلاف أعدت له الإدارة الأمريكية ممثلة بشخص مندوبها السيد بريمر وشاركته في ذلك الائتلاف أحزاب عراقية أخرى مثل حزب الدعوة بشقيه والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والحزب الإسلامي العراقي وأيضا الحزبين الكرديين وحزب الوفاق بقيادة أياد علاوي وبعض الشخصيات المستقلة وسمي ذلك الائتلاف بمجلس الحكم المؤقت.
واجه ذلك الائتلاف الواسع بعض الإشكاليات على مستوى التقديرات السياسية ولم ينظر له كتحالف بخيارات مستقلة وإنما جاء بناء على طلب أمريكي. ولكن لا ينكر فانه كان متوافقا مع حقيقة خارطة القوى السياسية العراقية الفاعلة والمهمة التي كان من الموجب أن تقود العملية السياسية المخطط لها نحو بر الأمان لبناء الدولة العراقية الجديدة.
ولذا فقد اقتنعت أغلبية من سياسيي العراق بأن للضرورات السياسية وللوقائع على الأرض أحكام تجبر الخصوم وأيضا الأصدقاء على نزع عدتهم الحربية والجلوس حول الطاولة المستديرة كمحاورين يملكون القرار والتصور العقلاني للمسيرة الجديدة.
ومع تدرج العملية السياسية قام السيد الأخضر الإبراهيمي وإدارة الاحتلال بصناعة توافق ائتلافي جديد ممثلا بوزارة شارك فيها أعضاء من مجموعة ائتلاف مجلس الحكم وكان الوزراء ووكلائهم من الشيوعيين يقفون بجانب وزراء السيد علاوي حالهم حال الباقين من وزراء الأحزاب الأخرى ولم توجه لذلك التكتل اتهامات بالشكل الذي توجه  اليوم للشيوعيين بسبب تحالفهم مع السيد علاوي.   

في منطقة كردستان العراق حسم الشيوعيون الأكراد أمرهم وأعلنوا ائتلافهم مع القوميين الأكراد حزبي السيدين مسعود البرزاني وجلال الطلباني.ولو تفحصنا أمر هذا التحالف فلن نجد ثغرة تتعلق بخلاف حول أهداف ذات خصوصية بعينها تسعى لها بعض أطرافه، فالجميع يأتلفون حول الهم القومي الكردي وفدرالية كردستان قبل أية أهداف أخرى، وهذا يكفي للملمة الشمل في الوقت الراهن ولترحل باقي الأهداف الى المراحل المقبلة.
لكن الحزب الشيوعي العراقي يواجه في أمر الائتلافات وضعا مختلفا، ففي وسط وجنوب العراق وفرة من أحزاب وكتل أغلبها تبدوا متقاربة الأهداف ولكنها تنحو للتفرد والجفوة. وفي خضم هذا الوضع تبدوا الخيارات ضيقة جدا عند الشيوعيين، وأن أرادوا الدخول في تحالفات انتخابية، عليهم البحث عن مقاربة في الراهن من الأمر قبل النظر في ما يخبئه المستقبل.
وفي المنظور العملي فأن الدستور الذي حوى الكثير من النواقص، يتطلب أيضا وعبر قوة تصويت برلمانية، إعداد ما يقارب أكثر من خمسين قانونا تستكمل بها ملامح مؤسسات الدولة القادمة.وهذا لن تضمنه عملية جرد مشوبة بالتفاؤل المفرط تغمض العين عن سقطات الانتخابات الماضية.
أذن مع من يأتلف الحزب الشيوعي بعد أن درس وخبر وضع قائمته في الانتخابات الماضية، وكذلك بعد أن سنت الجمعية الوطنية قانون الدوائر الانتخابية المتعددة. وما هي حظوظه في المحافظات الجنوبية والغربية وهل يستطيع أن يعزز قوته التصويتية في مواجهة الحملات المنظمة التي تحاول خنق أصوات مؤيديه وخير دليل على ذلك استعمال بعض القوى السياسية للتهديد والتصفيات الجسدية ضد رفاقه.ولذا فالسؤال الحارق هو: هل يستطيع الحزب الشيوعي الدخول منفردا بقائمته السابقة ( اتحاد الشعب) وخوض الانتخابات في دوائر المحافظات ؟.

مثلما كنت ومنذ البداية أوجه النقد لمسألة مشاركة الحزب الشيوعي في مجلس الحكم المؤقت ولي في ذلك وجهة نظر وأيضا حول موافقته على بنود الدستور، فأني ميال وكانت أمنيتي أن يدخل الحزب الشيوعي الانتخابات بقائمته السابقة ( اتحاد الشعب ).
وتلك الرغبة تصبوا أساسا لقياس مقدار قدراته الذاتية وجماهيريته التي لا شك فيها،وكذلك تجنبا لردود فعل تحمل قناعات قاصرة عن واقع العمل السياسي برمته، لا زالت تتعامل بهامش العواطف المغلقة والمبتورة. ولكن السياسة اليوم أو بالآحرى العملية السياسية في العراق ما عادت تحتمل العمل والممارسة بأمنيات وعواطف سائبة.
ولذا فأني أدرك جيدا أن وقائع على الأرض ومنها مجريات العملية الانتخابية يمكن لها أن تقف حائل أمام هذا المسعى ويخرج الشيوعيون بإحباط جديد. ليس فقط لقصور ذاتي وإنما يأتي أغلبها أيضا من أسباب خارجة عن إرادة الشيوعيين أنفسهم، ويمكن تشخيصها وتوصيفها بدقة وأنصاف عند المحايدين.
تنحسر الخيارات الواقعية للتحالفات عند الشيوعيين هذه المرة في مقاربة تنظيمين في ذات القائمة هما تجمع الديمقراطيين المستقلين أي مجموعة السيد عدنان الباجه جي وكذلك الحركة الاشتراكية العربية الممثلة بمجموعة السيد عبد أله النصراوي.هذان التجمعان يمكن أن يقال عنهما أنهما الأقرب للحزب الشيوعي من باقي شخصيات وأحزاب القائمة العراقية الوطنية، ولكنهما وفي جميع الاحتمالات لو خيروا بين الائتلاف مع الحزب الشيوعي أو السيد علاوي لما ترددوا في اختيار الأخير لأسباب معروفة في أغلبها.
ولذا فأن الوضع العام لمحاور التحالفات دفع الحزب الشيوعي لتفضيل الخيار البرغماتي والسير مع الأخريين وفق برنامج علماني ديمقراطي وخوض تجربة الانتخابات ضمن قائمة تستطيع المنافسة بقوة وجاء ذلك التوجه بعد أن أستنفذ الشيوعيون أخر محاولاتهم.وفي التقدير النهائي فأن تكلفة تلك الجبهة لن تكون أكثر سوءا مما لو خاضوا الانتخابات بقائمة منفردة.

هل تحالف اليوم بين علاوي والحزب الشيوعي له علاقة أو تشابه بتحالف عام 1973 والذي سمي في حينه بالجبهة الوطنية.؟؟.
خلال فترة استيزار السيد علاوي وعبر مقابلاته التلفزيونية وتصريحاته تكون انطباع لدى البعض من العراقيين عن شخصية توحي بالنموذج الدكتاتوري أو مثلما قال لي أحدهم أن السيد علاوي مشروع دكتاتور قادم في كل ما يوحي جسده وحركة يديه وتعبير وجهه وطريقة حديثه.
هذه الصورة النمطية لها جذورها المغروسة عميقا في الذاكرة العراقية وربما نحتاج الى فترة زمنية طويلة لأبعادها عن المخيلة وبعد أن يطمئن العراقي بأن لا عودة لمثل تلك الشخصيات الى حكم العراق.
إذا كانت شخصية السيد أياد علاوي توحي بذلك النموذج فأن المشهد السياسي العراقي المفتوح والمتنوع ما عاد يسمح أن يتكرر النموذج التقليدي للدكتاتورية.ومع هذا لا يمكن الاطمئنان بأن يخلوا المستقبل من عناصر المفاجئات،  وأهم تلك المفاجئات ربما تكون وفي ظرف تأريخي بعينه منسجمة مع الرغبة والحاجة الأمريكية لصناعة الدكتاتور، وهذا لا يتوفر في الوقت الراهن أو في السنوات القريبة القادمة. والمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير لا يحبذ مثل هذا النمط من الحكومات.
لذلك فأن السيد علاوي خاضع لتلك الاشتراطات حاله حال الأخرين ولن يكون أستثناءا في ذلك. وأن افترضنا أن قائمته حصلت على المقاعد الترجيحية وأستلم السيد علاوي رئاسة الوزراء مع وجود الظن بكونه قائدا لحزب بعثي جديد.ففي جميع الأحوال لن تكون حكومته شبيهة بوضع حكومة حزب البعث المنحل ولا سلطته شبيهة بسلطة وقيادة صدام حسين الذي عرض على الشيوعيين التحالف في الجبهة الوطنية عام 1973.فليس التأريخ وحده الذي تغير وإنما هناك الكثير مما لا يمكن مقارنته أو مطابقته بين التحالفين ووضع الحزبين في الظرف الحالي.

عام 1973 كانت الدعوة التي وجهت للشيوعيين من أجل التحالف قد فرضتها ظروف العراق وعلاقاته الخارجية وأيضا ظروف البعث وسمعته الملوثة بعد انقلاب رمضان الأسود عام 1963 ، تقابلها ظروف الحزب الشيوعي.ولكن العامل الأكثر تأثيرا والذي دفع للتسرع في عقد مثل ذلك التحالف والتغاضي عن جميع الشروط المنطقية والضامنة لحلف يراد له الحياة دون تعديات وتجاوزات،كان مصالح الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الاقتصادية والسياسية.
كان البعثيون يملكون السلطة أو بالأحرى الدولة العراقية كاملة وكان بإمكانهم الولوج بهدوء وقدرة في المجتمع الدولي الذي لم يضع أية موانع في وجه أنقلابهم وعودتهم الى السلطة عام 1968 .وكان بترول العراق وأمواله وأسواقه تلعب الدور المؤثر والناجز على جميع الأصعدة، وهذا ما أغرى البلدان الاشتراكية وأسال لعابها وجعلها تتعجل في دفع الحزب الشيوعي عام 1973 للوقوع في مصيدة حزب البعث الفاشي دون ضمانات وبشروط لا يقبلها غير المرتعب واليائس.
اليوم فأن التحالف بين السيد علاوي ومجموعة الأحزاب والشخصيات ومنهم الحزب الشيوعي يختلف كليا ليس فقط بشروطه التعاقدية وطبيعة علاقته الحزبية ولائحة برنامج قائمته وحتى ظرفه العراقي، وإنما في مقدمة كل ذلك أن لا ضغوط أبوية لرفيق لا يرى في توابعه غير بيادق شطرنج يناقلها فوق الرقعة، وهذا أهم شرط يحرر الحزب الشيوعي العراقي من التزامات تفرضها عليه علاقات كانت دائما توصف بالطفيلية و تعتمد على الأخ الكبير رب الجهات الأربع وصانع المعجزات.
من المنطقي القول وبشكل ناجز أن التكتل الحالي للقائمة العراقية الوطنية لا يملك أي توصيف منهجي أو سمات لتحالف اجتماعي طبقي.
يضاف لذلك شخصية السيد علاوي ذاتها التي تصر على أن لا علاقة لها بحزب البعث وهو يعيد دائما عبارته في هذا الشأن، بأن حزب البعث قد أندثر أو انتهى وأن حزب الوفاق الوطني في التقييم العام لن يكون وريثا لتراثه.
ومهما بالغ البعض في تقيم وضع حزب الوفاق وقائده السيد علاوي فالحقائق تشير الى أن ظروف وإمكانيات حزب الوفاق لن تكون ذات الظروف الإمكانيات التي كان عليها حزب البعث بين أعوام 1973 ـ 1979 وهي أعوام الجبهة الوطنية.
ويجب أن لا يغيب عن البال أن سنوات الستينيات والسبعينيات لم تكن تحمل ذات الأنماط والنماذج من المنافسة الحزبية وبهذه الوفرة من الفعاليات السياسية مثلما يظهر اليوم، وإنما كان الشارع السياسي وقتذاك يقف متأرجحا بين الشيوعيين وحركة القوميين العرب والبعثيين، أما اليوم فالوضع السياسي وصل حد التخمة وفاض وما عاد يحتمل.
وأن السيد علاوي وحلفاءه أن أرادوا إدارة دفة السلطة فما عليهم غير الأخذ بالحسبان وضع جميع تلك الفعاليات وفي مقدمتهم القوى الكردستانية والشيعية وغيرها وبوجود برلمان متعدد الأطراف، ويمكن أيضا احتساب فعاليات الخارج العراقية ضمن تلك القوى الضاغطة.
في نهاية الأمر يمكن القول أن ليس المشهد السياسي هو ذاته في أعوام 1968  1973 أي سنوات ما قبل الجبهة بين الشيوعيين والبعثيين، ولا علاقة للإنسان والشارع العراقي اليوم بتلك الأيام، وكذلك فأن ظروف وشخوص ووضع الحزب الشيوعي بعيدة كل البعد عن خيارات وضغوط أعوام جبهة عام 1973. وذات المواصفات تنطبق على حزب الوفاق الوطني وقادته وعلى رأسهم السيد أياد علاوي.
ويمكن أيجاز ذلك والتفريق بين الواقعتين من خلال مفهومين وفعلين محددين.
فجبهة عام 1973 كانت قد بنيت على أساس حلف ستراتيجي له برنامجه واشتراطاته أما ائتلاف اليوم فيستند  لشراكة انتخابية تشترط اللحظة التاريخية الراهنة، ممكن لها أن تنفرط بسهولة لو حدث الافتراق في المبررات والأهداف تحت سقف البرلمان ودون وقوع جرائم ضد الإنسانية مثلما فعلها حزب البعث الفاشي ضد حلفائه من الشيوعيين عامي 1978 ـ 1979.   
من الجائز القول أن هامش الخيارات عند الشيوعيين كان شحيحا ففضلوا الانضواء في التشكيلة القريبة بعد أن غامت ملامح الأقرب. وفضل هذا الأقرب إما أن يكون منافسا في قوائم أخرى أو حليفا في قائمة متنوعة ومتعددة الأهداف والطموحات وهي القائمة الوطنية العراقية.
أن رؤية الشيوعيون للجو السياسي العام بجميع مساوئه وخوفهم من الأخطار المحدقة بالعراق جعلتهم يفضلون الشراكة مع من يمتلكون ذات الأهداف والمساعي لإخراج العراق من محنته.
في النهاية أقول: أن حصد المقاعد البرلمانية عبر عملية تشكيل التكتلات والقوائم الانتخابية يمثل المدخل الأساس والحاسم للجميع ولكنه لن يكون نهاية المطاف وأن هذا المشهد سوف يواجه الكثير من التغيرات داخل البرلمان القادم.
فأمام أعضاء البرلمان حزمة كبيرة من القرارات والقوانين التي تخضع لاشتراطات المصالح الاقتصادية السياسية والاجتماعية وعندها سوف تبرز تحالفات جديدة  تنفرط معها الكثير من التحالفات الظاهرة الآن وسوف تتغير الخريطة السياسية بشكل متسارع خلال السنتين الأوليتين من عمر الدولة العراقية الحديثة وربما سوف نشهد انتخابات مبكرة أن استمرت العملية السياسية مثلما أقرها الدستور وقبلتها وتروج لها القوائم المتنافسة.[/b][/size][/font]

289
رسالة الى قتلة الشهيدين الشيوعيين
عبد العزيز جاسم حسن و ياس خضير حيدر
فرات المحسن

لن نمنحكم غير كومة من عار تجللون به رؤوسكم العفنة وتطلون به وجه من دفعكم لاقتراف جريمتكم البشعة.
ثكلتكم أمهاتهم كم تحملون من جبن الرعاع وخوفهم ...سلاحكم القتل وتعذيب الأخرين وثكل النساء ويتم الأطفال.
لن نمنحكم غير وسام الخسة والجبن والرعب من الكلمة التي تهز مضاجع من دفع لكم لتقتلوا بالجبن الظاهر رجلين أعزلين.
لن نمنحكم غير وسام الفئران المذعورة .
رصاصاتكم الجبانة الغادرة لن تغلق كوة النور،ومن دفعكم للجريمة لن يكون غير خصي يتستر برجولة السلاح البارد.
عجزتم والله أن تكونوا رجالا فاخترتم ثياب الغدر القذرة.
ألا شاهت الوجوه القبيحة والأرواح الشريرة.
لن نمنحكم غير لقب الشواذ قتلة الحب والسلام والحق والوطنية، ونبصق في وجه من أغواكم لتمزيق صدر الشهيدين عبد العزيز جاسم حسن وياس خضير حيدر.
كلمة بكلمة أن كنتم رجالا
كلمة بكلمة أيها الأراذل
يتلبسكم الرعب من كلمة الحقيقة ونوايا الخير ولذا تخطفون مدينة الثورة بوحشية سلاحكم وعهر تخاريفكم.
سفلة ودواعر ،حشاشون وبائعي ضمائر.
نطفة لزانية كنتم وتبقون.
لكم العار والخسة والدناءة والفحشاء فتدثروا بها.
تزودوا منها ما شئتم.
عبوا من كؤوس الحقد ثم إملاؤها بالعفن الأسود والضغينة.
أنتم يا من حملتم راية البعث الفاشي وترثون اليوم تراثه.
أيتها النعاج الكسيحة ...مهما ألتهمتي من أوراق شجرتنا الوارفة..عليك بقراءة التأريخ جيدا.فأن جذور شجرة اليسار متنوعة وممتدة عميقا في أرض العراق ومن طيب طينتها يصنع النسغ الجميل لتتفتح دائما زهور جديدة تعبق بالشذا.
عار سلاحكم لن يكمم الأصوات.
سوف يبقى اليسار شوكة في عيونكم..... يقض مضاجعكم ويسفه أحلامكم ودجلكم .... يعري خواء أفكاركم ويفضح عهر أرواحكم الشريرة.
لعرابيكم ومن دفعكم الى ارتكاب جريمة القتل القذرة نقول: أن صدام كان أكثر منكم خسة وسطوة ولكنه خاب في كل شيء ولم تنفعه كل إجراءاته وها هو اليسار يجمع وروده ويعيد ترتيب أصصها من جديد.[/b][/size][/font]


290
على خطى صدام...أنه يدعوهم لاحتلال سوريا
فرات المحسن

في سنوات حكم حزب البعث الفاشي للعراق لجأت الكثير من قوى المعارضة العراقية الى الجمهورية العربية السورية وكان ذلك خيارا اضطراريا لبعضها.وقد استفادت تلك الفعاليات من الخلاف السياسي بين جناحي حزب البعث في البلدين، وبدورها فأن سلطة الرئيس حافظ الأسد وظفت وجود تلك المعارضة على أراضيها للضغط على ومقارعة حكم صدام.
كانت تلك الروابط بين السلطة السورية والمعارضة العراقية تخضع لنوع من العلاقة الطفيلية. فتحت مراقبة وتهديد الأمن السوري كان المعارضون العراقيون يعملون بتوجس وخوف دائمين. في ذات الوقت فقد ارتضوا أن يتغاضوا عن الوقائع الجرمية اليومية التي يقترفها نظام حزب البعث السوري ضد أبناء الشعب السوري، وصموا آذانهم وأغمضوا أعينهم عن وقائع يندى لها جبين الإنسانية، مفضلين البقاء تحت خيمة وحماية البعث السوري لأسباب ما كان يمكنهم الحديث عنها أو شرحها.
ولازالت بعض تلك القوى تتهيب الخوض في الشأن السياسي السوري وكشف الانتهاكات الجارية بحق المواطنين أو ما تقوم به السلطة السورية من حشد وتصدير للإرهاب البعثي والسلفي الى العراق. ويأتي ذلك بسبب حرص تلك الأحزاب على بقاء سوريا ممرا لها نحو العالم الخارجي وبالعكس.
تلك التبعية التي فرضتها أيام النضال المعارض حاولت إعطاء انطباع عام عن حكم البعث السوري باحتسابه الجناح اليساري من حزب البعث وأنه كان يمثل الوجه التقدمي والطرف المهم الذي يمكن الركون أليه في معادلة الحرب ضد سلطة صدام وحزبه الفاشي، وان هناك اختلاف شاسع بين النموذجين البعثيين ؟؟.

ووفق تلك المعادلة العمياء صمتت المعارضة العراقية متقبلة الكثير من الاملاءات التي فرضت عليها في حينه. ويبدوا أن طبيعة هذا الحال هي من مهازل العمل السياسي الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة )، حيث يتناسى السياسيون مبادئهم أو يركنوها جانبا ليتبنون معادلة (عدو عدوي صديقي  ..وبالعكس ) دون الحاجة لتمحيص من هو العدو ومن هو الصديق ومن أية طينة جبل.
ذات الموقف الذي اتخذته المعارضة العراقية من السلطة السورية لازال يتلبس ((المعارضة السورية)) التي ناصبت الشعب العراقي وفعالياته الوطنية العداء وراحت تمجد الطاغية صدام وتتقبل هباته وعطاياه وتوجيهاته، ولازالت ثابتة عند موقفها الغير نبيل ولحد الآن وتحاول الانتقام من وإيذاء الشعب العراقي ثأرا لسقوط من كان يحتضنها ويقدم لها العون.

بعد سقوط صنم البعث في العراق تكشفت الكثير من الأمور وأفصح النظام البعثي في سوريا عن وجهه القبيح بكل تجلياته ودون مواربة، حيث ضم لصفوفه حثالات وبقايا القتلة وعتاة المجرمين من بعثيي العراق وأصبحت سوريا ليس فقط مقر ومنبع ومصدر للإرهاب الموجه نحو العراق وإنما مصيدة للمناضلين العراقيين ممن يتخذون من الأراضي السورية معبرا لهم نحو وطنهم العراق .

وهناك المئات من الشواهد على ذلك والتي تعرض لها أبناء العراق من المهاجرين العائدين أو ممن يخرج من العراق عبر الأراضي السورية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الجريمة المقترفة بحق المغيب السيد شاكر الدجيلي الذي تشير جميع الوقائع والدلائل على أن المخابرات السورية اختطفته من مطار دمشق وغيبته ولا زالت تمانع وتماطل في إعطاء أية معلومة حقيقية عن اختفاءه .

أنتظر الشعب السوري ومعه أبناء الشعوب العربية خطاب الرئيس السوري بشار الأسد متأملين أن يكون خطابا بنكهة جديدة تستوعب الحدث الجلل الذي يلف المنطقة برمتها.ظانين رجاحة عقول القيادة السورية (كما صورها لنا البعض) واستيعابها لجوانب الإشكاليات الكبيرة والتحديات المحيطة بسوريا اليوم.
 
وأعتقد البعض أن البعث السوري وقيادته قد أحاطت بالأخطاء الخطرة والكبيرة التي أقترفها الحمار الكبير صدام بسياساته وعنجهيته الفارغة والتي وفقها تم استدعاء قوات الاحتلال لتدخل العراق.ولكن خيبة الأمل كانت كبيرة وأظهر حزب البعث السوري بأنه الوجه الأخر للعملة الفاسدة.

وأنه غير قادر على الخروج من ذلك الرداء القبيح المهلهل للأفكار الفاشية الغبية المجرمة لحزب البعث.
ومارس بشار ذات الخطاب التضليلي الكاذب ووضع رأس شعبه جوار رأسه المبجل مثلما كان يفعل مثله الأعلى الجرذ صدام  الذي أصر ولأخر دقيقة قبل هزيمته على القول ( إذا قال صدام قال العراق ).

كان المتوقع وبعد درس السقوط المدوي لحزب البعث العراقي أن تكون القيادة السورية قد استوعبت الدرس ودققت في وقائع الأمور وتوضحت لديها الرؤية عن المشروع الكبير للإدارة الأمريكية الساعي وفي الراهن من الوقت الى ثلم المتاريس والمصدات التي تعترض أو تضيق الخناق على دولة إسرائيل وأن سوريا واحدة من تلك الموانع (الرخوة) ولكن العدائية، التي يجب أن تختفي أو تتغير منهجيتها تجاه إسرائيل والعالم الغربي.

ما العمل:

المعادلة بسيطة جدا وربما لا تحتاج لجهد كبير لإدراكها، ولكنها وهذه هي المصيبة بعينها، تواجه بغباء مستفحل وعناد أجوف. فرأس عائلة الأسد وليس رأس الشعب السوري هو المطلوب وهذا لا يقبل النقاش أو التعمية.
 
وإذا أراد حزب البعث السوري إنقاذ رأسه فعليه قبل أي شيء أن يفكر بسلامة رأس الشعب السوري قبل أن يضع المعادلة الخبيثة والقذرة الداعية وفق طرق التضليل البعثي  لوضع الرأسين في سلة واحدة وفق لغة يعتقد البعث السوري أنها لغة تخويف وتحدي ومواجهة ضرورية يمكن عبرها إخافة الأعداء وهز قناعاتهم ،حسب ما جاء في خطاب بشار الأسد.

كان المؤمل وبعد الدرس العراقي أن تسارع القيادة السورية لتعلن خطوات بعينها.خطوات وطرق للمصالحة مع شعبها.نعم المصالحة مع الشعب المكبل بالقيود منذ أكثر من أربعين عاما.
أن تتبنى السلطة السورية  مشاريع سالكة وحقيقية يكون في مقدمتها إطلاق سراح جميع سجناء الرأي والكشف عن مصير المغيبين والاعتذار منهم وتعويضهم والخطوة الثانية لاستقرار الوضع السياسي وبناء علاقات جديدة مبنية على أسس وخيارات الديمقراطية والحوار الحضاري وتقبل الرأي الأخر .
ويأتي ذلك عبر حل الجبهة القومية الشمطاء التي تضم المخصيين ولاعقي الأحذية  واللاعبين على الحبال ثم إشراك الشعب السوري في القرارات المصيرية ، ثم يأتي بعد ذلك الإعلان عن مؤتمر مصالحة وطنية حقيقي وانتخابات برلمانية ورئاسية بأشراف دولي لتحسم الكثير من القضايا الساخنة ويجد الجميع أن سوريا حافظت على وجودها عبر بقاء رأس شعبها سالما حيث ضمنته الديمقراطية والحلول العقلانية.

 وقبل هذا وذاك فالحلول العقلانية لموضوعة اغتيال الرئيس الحريري وكذلك العلاقة مع لبنان ليست بالمستحيلة ويمكن التعامل مع الأمر بشفافية من خلال تقديم كامل التسهيلات لميليس ولجنته حتى وأن طال التحقيق عائلة الأسد ذاتها فالشعب السوري لا علاقة له بما يقترفه جلاوزة البعث ورجال مخابراته وأن رأسي أصف شوكت وماهر الأسد وحتى رأس بشار ذاته، لا يجوز أن يكون معادلا للعذاب المرتقب والإيذاء الذي سوف يطال الشرائح الفقيرة من الشعب السوري.

أن الخطاب العروبي المتعجرف الكاذب لن ينقذ السلطة الحاكمة في سوريا وإنما سوف يهيء الأرضية الخصبة لسقوط سوريا جميعها بين فكي الوحش الكاسر المتربص، مثلما فعلته حكومة البعث الفاشي في العراق حين استدعت القوات الأمريكية لاحتلال العراق عبر خطاب التحدي الأجوف ثم هربت خلال أيام معدودات تاركة للشعب المظلوم ندب ودمل وأمراض سنوات حكمها الوحشي مضيفة لها احتلال قاسي وبشع.

كذبة ذلك الخطاب لازالت تتلبس العائلة المالكة في سوريا وهي كما ديدن البعث دائما وفي جميع صوره ونماذجه. فهو لا يستطيع ولا يملك القدرة على استشراف المستقبل وتتلبسه دائما نزعات الاستئثار والجريمة والعزة بالإثم ويسلك ذات الطرق التي قادت الى كل هذا  الخراب الذي حاق بالمنطقة.[/b][/size][/font]

291
هل أن إيران بريئة أم الرس نداس

فرات المحسن

في حديث منسوب للنبي محمد يقول فيه ( الرس نداس) ويعني سيطرة ما فطر عليه الإنسان وما تعلمه في حياته  وما رسخ في نفسه مما تعلمه ولقن له في عائلته ومجتمعه.وهذه المقولة علمية خالصة وقد أثبتت صحتها على مدى الدهور. فمن سجايا البشر أنهم يتبعون أهوائهم ورغباتهم وعواطفهم وما جبلوا عليه في اتخاذ المواقف والتعبير عن خوالج الذات وبالأخص في المواقف الصعبة والمتشنجة أو ردود الفعل المتعجلة وهذه سمة طبيعية لن يستطيع البشر التخلي عنها أو نزعها والتجرد منها بسهولة فهي نقش في الحجر مثلما يقول المثل وميل فطري للتعبير عن طباع مكتسبة يظهرها المرء وقت الحاجة .
لست ممن يعيبون الأخر ويطلقون عليه صفة (غير عراقي) وبالذات لمن هاجرت عائلته من بلد أخر وتوطنت العراق.فنظرتي للجميع بأنهم عراقيين خلص. فالعراق تعرض لهجرات كثيرة وكبيرة على مدى طويل من الزمن بسبب خصوبة أرضه ووضعه الاقتصادي ووجود أضرحة الأولياء وانتشارها في أراضيه، وغيرها من الحسنات والأسباب التي تفتقدها بعض مناطق الجيران.
تكرر الهجرات على العراق جعلت  طبيعة تركيبته السكانية عرضة للتغيير المستمر فأصبح أحد  أكثر شعوب الأرض تنوعا أثنيا وطائفيا. ولا زال العراق يتعرض  لهجرات فردية وعائلية إما طلبا للرزق أو غير ذلك من الأمور الحياتية.
أذن العراق خليط متنوع من أقوام وطوائف،ومنهم العرب الذين هاجروا من الجزيرة العربية ليستوطنوا العراق وسبقتهم عشائر عربية كانت من سكان العراق الأصليين ومثله حدث لعرب من الأحواز قدموا الى جنوب ووسط العراق وبالعكس وذات الشيء تعرضت له جميع مناطق العراق دون استثناء وكانت الهجرات في أغلبها تتكون من قبائل وعوائل تركية وفارسية وأفغانية وعربية وغيرها من أجناس قدمت من أراضي إيران والأسكندرونة وديار بكر  أو سوريا وحتى أفغانستان.
ربما تكون واحدة من الهجرات المهمة والتي لازالت تشكل مصدر نزاع وخصومة ويختلف فيها الكثيرون هي هجرة عوائل كثيرة من الإيرانيين لوسط وجنوب العراق واختلاطهم بالقومية العربية بحكم الموقع الجغرافي والقرب المذهبي والثقافي.وهؤلاء المهاجرون مروا بالكثير من الظروف الحياتية الصعبة وعانوا من مشاكل ليست بالقليلة ولكنهم في النهاية أظهروا قوة الشكيمة والقدرة والعزيمة على إثبات الوجود وبدءوا يأخذون مكانتهم الطبيعية في المجتمع العراقي كمواطنين عاديين وأصيلين.
ولكن بعض الحجج التي كانت تثلم وطنية البعض منهم وتنفي إخلاصهم للعراق ، تأتي من رفض البعض منهم سابقا، وبحجج واهية، الحصول على الجنسية العراقية وامتناعهم عن قبول المواطنة العراقية ليس فقط في الوثائق الرسمية وإنما عبر الإصرار على التشبث بارتباطهم ومرجعيتهم الوطنية وتبعيتهم العاطفية الاجتماعية والثقافية والسياسية لإيران سلطة وشعب وأرض .
وقد استمر هذا الإشكال يلتصق بعوائل معروفة وبمسميات إيرانية خالصة عاشت في العراق ويوجد من أبنائها اليوم من ينسب الى الجيل الخامس أو السادس ممن ولد وترعرع في العراق ولا علاقة له بإيران.
 الملتبس في الأمر هو وجود نوع أخر من هؤلاء وبالرغم من حصوله على الجنسية العراقية فأنه يشعر باستمرار بقربه الروحي من الشعب الإيراني واعتقاده الراسخ بأن إيران هي الموئل الملهم ، وأن عواطفه ووشائجه وميوله تستنبط من مركب وعقدة الانتماء خارج حدود العراق.
ولا زال ذلك النزاع يصارع ضمائرهم بشدة، ولكن في الغالب فأن العواطف والتربية البيتية والفكر الجمعي والتمسك بالغة الأم وبالعلاقات الاجتماعية والثقافية المتوارثة يغلب حقيقة الوجود وواقع العيش ولن يتمكن الكثير منهم  من انتزاع وشائج غذتها روح النفور والكره والاعتقاد بعلو الكعب والمحتد تجاه المحيط الاجتماعي العربي الذي صورته وطعنته المخيلة الفارسية المتعالية ووسمته بالتخلف والجهل ليصل التوصيف في مدياته الى تصوير ذلك المحيط بـ(البدوي الجلف راكب الجمل عطن الرائحة القذر الذي لا يعرف كيف يغتسل)أو في الدارج من اللغة الفارسية (عرب ... زرب . أو عرب ...جرب) والذي يرد عليه البعض من القوميين العرب بلغة مشحونة بالطعون والاستهزاء ( عجمي مكطم ..) أي دون أصول وأنساب قبلية.
وهذا بدوره جاء كموروث يعبر عن خصومة تاريخية منذ دخول الجيش الإسلامي للعراق وطردهم لحكامه الفرس والذي أعقبته السيطرة على كامل أراضي الدولة الفارسية، ومن ثم توالت الأحداث لتكون بلاد فارس موطن لجميع الحركات المناهضة لسلطة الأمويين ومن ثم العباسيين وليمتد النزاع بعدها الى تواريخ متقدمة من حياة السلطات الحاكمة والشعب في كلا البلدين.
لازالت الروابط العائلية والاجتماعية والثقافية مستمرة بين أوساط العراقيين من ذوي الأصول الإيرانية مع جذورهم في بلدهم الأصلي إيران، وتغذي تلك المشاعر عوامل كثيرة، وهناك رغبة عارمة لدى هؤلاء لإدامتها وتطويرها.وهذا النزوع العاطفي لا يقتصر فقط على العراقيين من الأصول الإيرانية وإنما يظهر مثل هذا الميل للأصول والجذور وبشكل جلي بين أوساط باقي الأقليات العرقية العراقية.
 يتساءل البعض عن حقيقة التصريحات التي أطلقها السيد وزير الخارجية السعودي حول التغلغل الإيراني في العراق وهل أن ذلك يمتلك بالفعل ما يثبته ويؤكده.
دارت ولا زالت تدور الكثير من الأحاديث عن وقائع على الأرض تثبت ما يفعله الإيرانيون في العراق عبر أجهزتهم السلطوية أو كأفراد وما أمر السيد رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري بإطلاق سراح ما يقارب الألف أيراني من السجون العراقية غير مؤشر على المدى الذي وصله ذلك التدخل الذي بات يقلق الجميع ومنهم الجانب السعودي. وأيضا هناك الكثير مما يمكن تأشيرة حول الموضوع وبالوقائع الملموسة وبالذات في مدينتي البصرة والعمارة وقد أشار أليه بشكل جلي مسئولون في السلطة العراقية والحكومتين الأمريكية والبريطانية وشهود عيان وكتاب عراقيون.
ما أثاره السيد وزير الخارجية السعودي لم يأت اعتباطا وقد طرح رسميا في الكثير من اجتماعات ومؤتمرات دول الجوار العراقي بعد سقوط فاشية البعث. والمملكة العربية السعودية واحدة من تلك البلدان التي تستشعر مجساتها خطر التدخل الإيراني بالرغم من أن المملكة لم تكن بعيدة عن التدخل المؤذي في الشأن العراقي منذ ما قبل تأسيس السلطة الوطنية في العراق عام 1921.
لن يستطيع احد إنكار التدخل الإيراني في العراق مهما أراد التمويه والتعمية، وإيران من جانبها لن تستطيع إنكار ذلك بالكامل، فالشواهد كثيرة ومنذ قديم الزمان.فجميع الحكومات التي تعاقبت على حكم بلاد فارس أو إيران الحديثة رأت في العراق امتدادا طبيعيا وحيويا، جغرافيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وأخيرا وليس أخرا روحيا ومذهبيا.
تشير وقائع الأحداث اليومية التي يتداولها الشارع العراقي، لوجود أذرع إيرانية لها القدرة على التأثير وتغيير الأحداث بسهولة وقوة ليس فقط في الشارع العراقي وإنما في سياسات وقرارات  بعض الأحزاب العراقية.ونستطيع تأشير فاعلية ذلك التأثير عبر استرجاع الدور الإيراني الذي فرض نوع من السلطة والقرار وحسم الكثير من المواقف ووزع الأدوار السياسية على أطراف عراقية حضرت مؤتمر (شيعة العراق) الذي عقد مطلع عام 2003 في العاصمة الإيرانية طهران.
ففي ذلك المؤتمر وزعت الأدوار استعدادا لما بعد سقوط الفاشي صدام، ووضعت إيران في سلتها الكثير من أوراق الضغط والفعل المؤثرة على مجريات العمل المستقبلة في الشارع السياسي العراقي وعلى رأس ذلك ضمان تحالف واسع ورضا تام عن مشاريعها عند  شخصيات سياسية كثيرة من الشيعة العراقيين ممن حضر المؤتمر. وقد ضمنت إيران في ذلك المؤتمر مشاركتهم في خططها المعدة سلفا لمستقبل العراق والمنطقة.
ولقد أعدت وقتذاك وبعناية فائقة برنامج يرسم صورة الاستعداد للعمل المباشر وغير المباشر للسيطرة على الشارع العراقي وبالذات في المحافظات الجنوبية والوسطى وكذلك لمواجهة الاحتلال الأمريكي ورغباته في التوسع.
لم يتطرق تصريح السيد وزير الخارجية السعودي سوى لأمرين ولكنهما في غاية الدقة والحساسية في العرف الدبلوماسي.التصريح الأول أشار الى خلل وتخبط السياسة الأمريكية والتي بسببها وحسب اعتقاد الوزير السعودي، تمكنت إيران من توسيع نفوذها وسيطرتها على الكثير من المناطق والأحداث في العراق.إما التصريح الثاني فقد أشار الى ضرورة عدم تعميم تجربة فدرالية كردستان على باقي مناطق العراق، اعتقادا منه بأن تلك الفدرالية سوف تكون خاتمتها تقسيم العراق لأقاليم مستقلة ومنفصلة عن بعض.
وهو في ذلك يستبق الأحداث متوقعا أن يكون إقليم الجنوب الشيعي مصدر خطر على المملكة السعودية، والذي يقع مباشرة شمالها والذي سيكون مع استمرار هذا المشهد وتداعياته، تحت سطوة إيران سياسيا وإداريا ويطبق من خلاله حلم بلاد فارس الدائم بالإحاطة بركني خليجهم الفارسي مرورا بمنطقة الأحساء السعودية الشيعية ودولة البحرين .
السيد وزير الخارجية السعودي لم يتطرق سوى لتلك النقطتين وحاذر أن يقترب من مفاهيم أخرى ربما تعتبر خطوط حمراء لن يسمح له بالحديث عنها الآن وبالقلم العريض. ومنها العملية السياسية الجارية في العراق بمحتواها ونماذج تطبيقاتها التي يقال عنها ديمقراطية. أي أن الوزير السعودي لم يعط نصائح في الديمقراطية أو شيء من هذا القبيل.
ولكن الملاحظ سرعة ردة فعل الوزير العراقي السيد باقر جبر الزبيدي وتحريفه لوجهة نظر الوزير السعودي وجعلها تعطي مفهوما أخر مغايرا لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بصلب تصريح الوزير السعودي.وقد جاءت تصريحات الوزير العراقي عبارة عن شتيمة صريحة وتجني  وخروج عن الأعراف الدبلوماسية دون مبرر منطقي وقد شط بعيدا ولم يظهر حرصه  للدفاع عن وطنه العراق مباشرة، وإنما الواضح أن ما أثار حميته وغضبه هي الاتهامات الموجهة للجانب الإيراني من قبل الوزير السعودي.
وكان من المناسب في مثل هذه الوضعية والتصريحات أن يستغلها  وزير داخلية ( العراق..؟! ) السيد الزبيدي ويدين أي تدخل في الشأن العراقي ومن أي طرف كان .وكان عليه الابتعاد عن ردود الفعل الآنية المتشنجة والشخصنة المقيتة، وقبل ذلك التدقيق في تصريح الخارجية السعودية ثم الرد عليها باتزان ومن خلال نظرة عراقية وطنية واعية تحدد الهدف لتوضيح مظلومية العراق وصبره على ظلم الأشقاء والأصدقاء أولا وأخيرا عبر تذكير السعوديين بتدخلاتهم الفجة في الشأن العراقي وعن العشرات من السعوديين الإرهابيين الذين يتسللون الى العراق بمساعدة رجال حرس الحدود السعوديين. وتذكيره أيضا بالموقف الطائفي التحريضي الذي تقوم به جميع وسائل الأعلام السعودية والهيئات الدينية والفتاوى التي تبيح قتل العراقيين والتي لم تواجه من قبل السلطات السعودية ولحد الآن بغير الصمت الذي يفسر بالرضا عنها. وتذكيره أيضا بالمبالغ الكبيرة التي تجمع من قبل جمعيات النفع العام وتذهب لمساعدة الإرهابيين وشراء الأسلحة لهم.وكان من الأفضل تذكير أيضا بموقفهم السلبي من معارضي سلطة الفاشي صدام وكذلك من لاجئي معسكري رفحا والأرطاوية. أن مثل هذا التذكير سوف يؤشر لسوء ما يقدمه جيران العراق للوضع الجديد ويظهر أن جميعهم وليس فقط إيران يشتركون في إيذاء الشعب العراقي وإدامة مشهد الموت اليومي لأبنائه.
وهل كان الوزير العراقي عاجزا عن تذكير السعوديين بجرائمهم بحق الشعبين الإيراني والعراقي حين كانوا يغذون حرب صدام وعصابته ضد إيران بدفع الملايين من الدولارات، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشعبين والتي أعترف بها الوزير السعودي وبعظمة لسانه.
ولكن من الواضح أن السيد باقر الزبيدي أطلق تصريحاته المنفعلة والمنفلتة بحسب ما أملته عليه عواطفه وردة فعله التي تحرص على أن تستعير لغتها من المكنون والطباع والثقافة التي رسخت في ذهنه، لذا فأنه أختصر العرف الدبلوماسي بالحديث عن (البدوي راكب الجمل الذي يريد أن يعلمنا الديمقراطية).وهو في ذلك تقدم الصفوف وتطوع للدفاع عن إيران ونفي تدخلها في الشأن العراقي دون شعور بالعواقب أو دون تفكير مسبق وتدقيق بالوقائع، وإنما كان ينطق من مشاعر مكنونة أفصحت عن المتخيل والمضمر في النفس.
لم يدافع الوزير العراقي عن إيران مباشرة وبفصيح العبارة ولكن تعبير البدوي راكب الجمل وأيضا تحوير وحرف تصريح الوزير السعودي كان تعبيرا صادقا عن الرغبة في الدفاع عن الطرف الذي أتهمه وزير خارجية السعودية وتلك الرغبة تأتي وفق منطق الدفاع عن القريب الذي يمثل بدوره البعد العائلي والثقافي  والاجتماعي للسيد باقر جبر الزبيدي وهو في تهجمه الغير ذكي إنما دافع دون شعور  بأدوات تركد وترقد ثقيلة في مشاعره الفطرية وكانت ردود فعل قاصرة كشفت عن تفضيله التعامل بأحاسيسه وانتمائه لأصوله وجذوره بالرغم من عراقيته ولم يكن قطعا في باب الدفاع عن العراق .
منطقيا فأن رؤية وزير الداخلية العراقي السيد الزبيدي لموضوعة التدخل الإيراني تختلف كليا عن رؤية الوزير السعودي و أيضا عن رؤية الكثير من العرب والعراقيين. فالوزير العراقي ينظر للأمر من زاوية أيدلوجية أخرى، فهو يعتبره ووفق أعرافه الثقافية وفكره الديني السياسي وأيضا تربيته وتقاليده الاجتماعية ووشائج القربى ،وفي ابسط معانيه ونماذجه شيء طبيعي ومفضل. لا بل ضرورات ملحة لدمج الشعبين وتوحيد المرجعية. وهو حتمية في مسار الأحداث لتوطيد أواصر الوحدة الإسلامية وتحقيق الحلم بنموذجها الشيعي ، وحفاظا على ما وصلت أليه ثورة الشيعة في إيران. وهذا هو جوهر الموضوع الذي يجعل رجالات الأحزاب الشيعية يتسابقون في الدفاع عن إيران وينفون عنها أي تدخل في شؤون العراق.
ويترافق مع ذلك هاجس البحث عن إطار قانوني سياسي وديني لإعادة اللحمة بين العوائل التي تقطعت أواصرها ولحمتها تحت سيل العداوات والحروب والهجرة والتهجير .أذن الوزير الزبيدي كان أمين على أعرافه وتقاليده وخلفياته ولذا فأنه يرفع عاليا راية الدفاع عن بيضة الإسلام الشيعية ويمانع بشكل قاطع وحازم وحاسم أن توجه لإيران أية اتهامات ومن أي مصدر كان وقد تسابق قبله في هذا المجال الكثير من رجال السياسة في الأحزاب الشيعية العراقية تفاعلا وتعبيرا عن نظرية الرس النداس التي وفق قاعدتها عقد أيضا مؤتمر شيعة العراق ودبجت أوراقه وأعدت أجندته في طهران ووضحت أهدافه الآن وبدأت أطرافه في جني ثماره.   
f_almohsen@hotmail.com[/b]  [/size] [/font]     

292
من فنتازيا الخراب
فرات المحسن
سماوتومو

ما حدث في أراضي جمهورية السماوة الاتحادية الفدرالية في الفترة الماضية جلب انتباه وكالات الأنباء وقنوات التلفاز الدولية والعربية وحسب ما يشاع فأن أجواء مدينة السماوة لا زالت محتقنة وملبدة بما ينذر بالكارثة بعد محاولات تظاهر لمرتين حصل فيهما إطلاق نار وذهب خلالهما ضحايا أبرياء من أهل السماوة.

((علق 16 عضوا" في مجلس محافظة المثنى عن العمل في اللجان وعدم حضور الاجتماعات جراء عدم الاستجابة لمطالب المتظاهرين وتغليب المصلحة الحزبية وعدم تجانس اعضاء المجلس .
واكد السيد قاسم جابر نائب رئيس المجلس في تصريح للمدى ان اعمال العنف التي راح ضحيتها الابرياء وتسارع تدهور الوضع الامني تتطلب الاستجابة لمطالب الجماهير باتخاذ قرار باقالة السيد المحافظ كونه المسؤول الاول عن الجهاز التنفيذي .))

أثر ورود الخبر أعلاه كُلفت من قبل وكالة الأنباء التي اعمل لديها كمراسل، للذهاب الى جمهورية العراق ومن ثم الى إقليم السماوة الاتحادي لاستطلاع الأمر وتقديم تقرير تفصيلي عن سبب تكرار تلك الأزمات.
في البداية انتابني الرعب وراودتني في أحلامي ولعدة مرات صورة جسدي الممزق ورأسي المبجل منخورا بعشرات الاطلاقات الصماء الباردة.
شاهدت بفزع صورة عينيي الجاحظتين وهما تطالعان السماء ببلاهة الموت المحقق ورأسي المهشم المتدلي عند ساقية ماء آسن في ظهيرة صيف قائظ.
 واجهت الأمر بغضب باديء ذي بدأ ولكني ومع مرور الأيام وسرعة وحرارة الاستعداد وإجراءات السفر الموجبة، حشدت في روحي حب الفضول واسترجعت شجاعتي وروح المغامرة التي تتملكني دائما والتي يشهد ليّ بها زملائي في المهنة.
لمَ لا فربما سوف اخرج بروبرتاج صحفي يكون قنبلة مدوية في عالم التحقيقات .أوه منذ البداية سيطرت على ذهني لغة القنابل والاطلاقات النارية.
عند المعبر الحدودي على الجهة السورية من الحدود واجهت أول عائق مزعج ومتعب في رحلتي، فقد أوقفني الحاجز السوري لعدة ساعات وبإهمال ظاهر ووجوه عابسة وبدون أن يخبرني أحدهم عن السبب في ذلك وتركوني دون أن يوجهوا لي أية أسئلة. بعد أن تملكني الغضب والتذمر بالكامل وبان على جسدي الإنهاك جلست القرفصاء جوار باب غرفة الحرس.
شعرت باني معتقل لديهم وليس غير ذلك. بعد كل تلك الساعات البغيضة تقدم نحوي شاب برتبة نقيب بسلطة الحدود وسلم عليَّ بصوت خافت جدا وكأنه لا يريد أن يسمعني كلمة ترحيب. سألني أن كنت ضجر، فضحكت ولكنه سارع وبادرني القول  : لن تبقى طويلا... قليلا من المصاري للشباب وينفرج الموقف، وهناك أيضا أصدقاء عليك أن تنقلهم معك في السيارة هذا كل ما يراد منك.
وافقت بعجالة وأنا أدس في يده مائة دولار وأنفذ دخانا كثيفا من سيجارتي والذي بدا وكأنه كان حبيسا في رئتي طيلة تلك الساعات.
صعدت بجانب سائق سيارتي الصامت والذي أُرسل معي من قبل الوكالة وصعد الى المقاعد الخلفية برشاقة وخفة ظاهرتين شابان أنيقان.وصلنا نقطة التفتيش في الجانب العراقي فطلب رجال الشرطة هناك جواز سفري وهويتي .عند مشاهدتهم للجواز والهوية وباج الوكالة المعلق فوق صدري وصدر السائق قالوا بصوت واحد : كَو مستر كَو....كَو ورحمة الله وبركاته.
لم يطلبوا من الباقين جوازات السفر أوالهويات ولم يطلبوا مصاري للشباب.لذا بدأت أدخن سجارتي بشراهة ولذة فائقتين وأطالع أفق الصحراء الممتد أمامي والذي بدأ يبتلع في جوفه المفتوح سيارتنا المنطلقة بأقصى سرعتها.
بعد ما يقارب الكيلومتر داخل الأراضي العراقية سمعت أحد الركاب ممن حملناهم معنا من المعبر السوري،سمعته يهمس بهاتفه النقال بتمتمة لم استطع فك رموزها رغم ما بذلته من جهد، ولكن بعد مضي ما يقارب العشرة كيلومترات توضح ليَ كل شيء وعرفت مغزى تلك المهاتفة السريعة التي قام بها الراكب الجالس خلف مقعدي.
سيارتان من نوع أوبل إحداهما بيضاء والأخرى بلون أزرق وسبعة من الملثمين اعترضوا طريق عجلتنا وأجبرونا على التوقف تحت تهديد السلاح.
رغم محاولاتي تمالك الأعصاب فأن وجه سائقي المصفر وجسده الذي كان يختض بشكل ظاهر جعلاني أشعر بالخدر يسري في جسدي وبفقدان السيطرة على حركات عضلات وجهي وقدمي وأصابع يدي.هبط الراكبان من مقعد السيارة الخلفي وحشرا جسديهما بين مجموعة الملثمين وشاركا في طقوس التكبير والضحك والتهليل والقبلات المسموعة.
ـ أنهما صيد سمين ....
ـ لا.. دعهما يذهبان فقد قدما لنا اليوم خدمة جيدة.
أستلم سائقي إشارة الانطلاق فراحت السيارة تلهب الأرض. صمتت تماما دون أن انبس بحرف واحد فقد كنت في ذروة الذهول من الصدمة ولم اصحوا منها إلا عند حدود مدينة بغداد عند سيطرة للشرطة العراقية.
***
لم تكن ليلة المبيت في أرقى فنادق بغداد لتسعدني بقدر ما كانت عبارة عن حالة مقلقة ومرعبة لم تغمض فيها عيني غير دقائق معدودات. كانت إذني عبارة عن لاقط راداري لجميع الأصوات المترددة في ظلمة ليل العاصمة العراقية وعشت ساعات الليل أتنصت نباح الكلاب وضجيج العربات وانفلات عيارات نارية من مختلف أنواع الأسلحة.

جلس بالقرب مني ووضع قدح الشاي أمامه فوق المنضدة وبدأ الحديث بوجه باش وابتسامة عريضة ولغة إنكليزية سلسة وواضحة.
ـصباح الخير سيدي العزيز... أهلا بكم في بغداد...أنها المرة الأولى لكم في بغداد..أليس كذلك....نتمنى لكم طيب الإقامة...وكذلك تحقيق النجاح في المهمة التي جئتم من اجلها....أعتقد أنك بحاجة لمترجم يرافقك في مهمتك الصحفية.
اختصرت إجابتي وأنا أواجه سيل الكلمات الخارجة من هذا الفم الثرثار في هذا الصباح الثقيل والمتعب.
ـ شكرا فأنا أتكلم العربية.
أطلق ضحكة ضاجة وقحة وكأنها صرخة مبحوحة صادرة عن ممثل فاشل واثق من قدرته على إضحاك الجمهور.
ـ توقعت هذا.... والله العظيم عرفت هذا ...لم يخبرني به أحد ...قلبي يعلمني... حسنا.... ولكني أعتقد أنك توافقني دون تردد بأنك بحاجة لحماية ..أربعة يكفون ...أنهم أشداء وبسعر بخس بالرغم من أن ذلك يتعلق بنوع المهمة... إذا كنت في نية السفر الى المناطق الغربية أو الموصل أو المناطق المحيطة ببغداد فأنك تحتاج ما لا يقل عن ستة حراس شخصيين وهؤلاء أسعار أجرهم اليومي لن تقل عن الألفي دولار.... قلت لك أن ذلك يتعلق بنوع المهمة.
ـ إلا تظن أنك طرقت الباب الخطأ .....لست بحاجة لشيء ..فقط أريد أن أكمل فطوري واذهب الى الجحيم دون حمايتك ومترجميك.
ـ لمَ العصبية يا سيدي ..نحن فقط نعرض خدماتنا..... نحن لا نستحق غضبك أيها الصحفي الشاطر.. من أجل سلامتكم ليس إلا.....اشك أنك سوف تنجح دون معونتنا...طاب صباحك أيها الصحفي الذي أفزعته العاصفة يوم أمس عند الحدود.
أنتفض جسدي برعشة مكبوتة وشعرت بالقشعريرة وبالعرق البارد ينساب فوق عمودي الفقري عندما واجهت عينيه، فقد وردت صورة تلك العينين عبر خاطري وهما تنظران لي من خلف اللثام في ظهيرة البارحة عند الحاجز الذي أوقفنا عنده المسلحون.
***
قدمت لسيطرة الشرطة عند حدود مدينة السماوة ورقتيي وزارة الثقافة والداخلية وكانتا تحملان تعريف بشخصيتي ومهنتي وكذلك سائقي.
مازحني احدهم قائلا.
 ـ كان يو سبيك انكلش .
فأجبته بلهجة عراقية
ـ  لا والله شوية بس مكسر .فانطلقت ضحكاتنا جميعا وحصل الشرطي السائل على كفخة بريئة من صاحبه.
أذا كنت قد تركت بغداد وأنا ابحث عن تسمية مستخلصة من خلط ألوان قوس قزح لأطلقها على لون سماء وبيوت وشوارع بغداد فأصبت بمزاج سيء واعتقاد بأن لا لون هناك مطلقا يناسب مدينة بغداد، فالأصفر المغبر أو لون التراب أو شيء قريب من ذلك هو ما يلطخ وجه بغداد، ولكن أي لون يختاره المرء لوجه السماوة المليء بالأخاديد والخرائب وبفقر الدم المزمن.
ضحكت في قرارة نفسي وأصابني نوع من الهوس المجنون وأنا أتملى بقلب كسير لوحة الفقر الممتدة أمامي. تذكرت تقرير متفائل أصدرته الأمم المتحدة كان يتحدث عن مهام ونوع المساعدة المرتقبة التي ستقدمها القوات اليابانية غير القتالية عند قدومها .
ألتبس عليّ الأمر، فقد شاهدت وجوها لأهل السماوة بسحنات يابانية ولكنها ترتدي الزي العربي، العقال والكوفية المرقطة بالأسود وأيضا نساء بعيون لوزية وفم صغير دقيق مثل اليابانيات يجمعن المطال ويغسلن القدور عند مسناية الشط.
من الجائز أن تكون قلة النوم والسفر الطويل والتعب الشديد قد سبب لي بعض الهلوسة والالتباس في الصور والمشاهد. دعكت وجهي بقليل من الماء. شعرت بالفزع والقلق من تلك المشاعر التي كانت تنتابني. مشاعر غريبة طرأت على بالي فجأة وغيرت وقع الأحداث.احتدمت في خاطري صورتان أخذتا تنتزعاني عنوة من صحوتي وترمياني عنوة في تهويمة طويلة .مقارنة بين واقع جاد وصارم ووضع غير معقول أو فنتازيا هزل .
أنظر للدمار أمامي فأحسه مثل شفرة زجاج حادة تسحبها يد خشنة وتمررها بثقل وبطأ شديدين فوق شغاف القلب، وخواطر وعيون تترقب الوجوه العابرة المبتسمة بسخاء وتلويحة لأطفال يثيرون غبار الشوارع وهم يلوحون بفرح عفوي ضاج لوجهي الأبله الشارد الذهن.
ولكن كان هناك في البعيد صراخ فزع وضجيج موت وخراب ولكنه مكتوم أو بالأحرى خائف ومخنوق ولكنه حقيقي...حقيقي وواضح يتناوب على مسمعي مع كركرات أطفال وضحكات صبايا.هذا ما كنت أخشاه .أن أصاب بفنتازيا لوثة الخراب .
أيكون التحقيق الصحفي الذي سوف أنجزه عن السماوة مثل تلك الغرابة والمفارقة التي تتمتع بها المدينة بعد أن مر عليها ما يقارب الثلاثة أعوام وهي بعهدة جيش الإمبراطورية اليابانية.خرائب يديرها جيش أتى من أكثر بلدان العالم حضارة ومدنية وأعلى شؤا في عالم التقنيات.كان ذلك السؤال الملحاح ملهم لهلوستي أو لأسميها بالتحديد لوثتي التي تملكتني بالكامل.
لم ادع الوقت يمر فقد أجريت حديثا صحفيا جادا مع بعض الجنود اليابانيين الذين كانوا يتسوقون من السوق المسقف وسط المدينة. باغتهم وحاصرتهم بأسئلتي.كانت أسئلتي محددة تتعلق بفترة بقائهم وأمنياتهم وعن علاقتهم مع المواطن السماوي.إجاباتهم كانت مختصرة ومراوغة بعض الشيء وكأنما يتعمدون فيها التهرب من الإفصاح بأكثر مما مصرح لهم به.
ومع هذا فقد كانت إجاباتهم ودودة تنم عن حميمية وأدب جمين ولكنها ابتعدت عما أردت الحصول عليه. فاجأني أحدهم عندما تكلم العربية مع بائع الفاكهة ولكنه رفض أن يتحدث العربية معي حين طلبت منه ذلك.أخبروني عن مشاريع كثيرة في نيتهم تقديمها لأهالي السماوة وحسب خطط موضوعة تنتظر مصادقة البرلمان الياباني.منها معمل ثلج جديد ومحطة كهرباء وجسر فوق الشط ومعمل للمهفات وعودان الشخاط والمكانيس وكراسي الجريد ومعامل يدوية لصناعة الجراغد والهاشميات والشيلات واليشامغ والعبي والعكَل وكذلك توسيع ساحة كرة القدم لتستوعب 200 ألف مشاهد ومحطة تلفزيون خاصة للأطفال تعرض فقط أفلام كارتون يابانية.
وأسروني أيضا بما تنوي دائرة التطوير الذاتي للأعمار والتنمية في قيادة الجيش الياباني من بناء معملين ضخمين الأول لإنتاج الجراقيات أو ما يسمى الصعاديات والثاني لصناعة المشاحيف ومن خلال هذه المشاريع سوف تكون السماوة واحدة من أهم مدن العالم على قوائم اقتصاديات الصادرات والاكتفاء الذاتي. قال أحدهم بحماس بأنهم وضعوا تلك الخطط قبل أن يقرروا القدوم الى العراق وأن الحكومة اليابانية أعدت برنامج على مراحل لتوأمة مدينة السماوة مع مدينة هيروشيما لتشابههما في الكثير من الأوضاع خاصة في وضع مدينة السماوة الحالي بما يشبه منظر هيروشيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أثر قصفها بالقنبلة الذرية.
وقالوا أن السماوة ستكون في المستقبل العاجل في عداد المدن اليابانية وتنال ما تناله المدن اليابانية من عناية ورفاهية ولن نخفي عليك فقد أطلق على مدينة السماوة في الوثائق الرسمية اليابانية تسمية ( سماوتومو ) وأيضا فأن التسمية ذاتها متداولة اليوم في الشارع الياباني ويلذ للكثير من مواطني اليابان التحدث عن الأخوة أبناء وطننا الساكنين في البعيد في مدينة ( ريح الشمس الصفراء) وهي الترجمة الحرفية لكلمة ( سماوتومو ), الطلاب أيضا في مدارسنا وعند رفعة العلم يوم الخميس وكذلك في الأعياد الوطنية ينشدون الأغاني التي تمجد مدينة ريح الشمس الصفراء (سماوتومو ) وحين اكمل جملته تلك لمعت عيناه اللوزيتنان وسالت على خديه دمعة ساخنة فدس وجهه بين يديه وأجهش بقليل من البكاء ليفرج الكرب عن قلبه الصغير الأبيض الذي يشبه لون أسنانه البراقة.
لكن أحد الجنود لم يكتم هواجسه وأفصح عن قلق فعلي من أن هناك محاولات من بعض دعاة الأقاليم الفدرالية لسحب محافظة السماوة من عهدة اليابان وعزلها عن الحضارة ووضعها في المجهول ،وحين سألته عما يقصده بالمجهول أمتنع وأشاح بوجهه بعيدا ولوح بيده بحركة دائرية فوق رأسه لم افقه كنهها.
 لاحظت وأنا أدير الحديث مع الجنود اليابانيين أن هناك قليل من جلساء المقهى القريب كانوا ينظرون إلينا بريبة وعيون يتطاير منها الشرر وهناك علامات ضجر واضحة يبديها بعض المارة يقابلها أيضا ابتسامات من أخرين يقتربون منا محاولين الاستماع للحديث أو يطلقون كلمات المداعبة وأحيانا التحية بالإنكليزية أو اليابانية فيرد عليهم الجنود بالتحية اليابانية التقليدية حين يطبقوا باطن الكفين وينحنون مطأطئي الرأس ويردون بصوت خافت يشبه الهمس ( ماتاسو كوتمازا كاتسو تيو ) والتي تترجم الى العربية (والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) مثلما أخبروني.
في نهاية اللقاء الصحفي ودعتهم وقد استغرق الوداع فترة ليست بالقصيرة،  فكلما انحنيت فعل الجنود اليابانيون ذات الشيء،وعلى هل رنه أنعلس مني ما يقارب الربع ساعة ولم ينقذني من ذلك غير يد سائقي حين سحبني بقوة ودفعني نحو باب السيارة بعد أن أدرك الورطة التي وقعت فيها.
 بمزاج سيئ ومعنويات نص نص قررت أن أتوجه للقاء محافظ المدينة السيد محمد الذي يتهم هذه الأيام بإصدار أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين في كلا المرتين اللتين خرج بهما بعض الأهالي احتجاجا على الأوضاع، والذي قرر بعدها مجلس المحافظة أقالته من منصبه، وبقيت هذه المسألة معلقة وتثار بين فترة وأخرى.كنت بعجالة من أمري فقررت أن يكون لقائي بالمحافظ هو أخر عمل أقوم به اليوم بعدها سوف أتناول بعض الطعام واخلد للراحة.
عند الباب وقف عشرة حراس  يتأبطون السلاح ويراقبون حركة الناس بحذر ظاهر ولكنهم كانوا ودودين معي حين عرفوا مهمتي.فوق الدكة العلوية لباب الدار الأمامية تدلت مجموعة متشابكة من أسلاك بألوان مختلفة تنحدر بعشوائية من جذع نخلة ترتفع من جهة اليمين وسط حديقة مهملة بأرض سبخة عطشى. تنفرد شجرة ياس صغيرة منزوعة الأوراق بتوسط الجهة المجاورة للنافذة المطلة على الحديقة.
بادئ الأمر  ظننتها شجرة ياس ولكن حين اقتربت منها عرفت أنها عوسجة برية جلبت هنا بالخطأ  أو أن الدار شيدت جوارها عنوة. ولم تسق تلك العوسجة بالماء سوى أيام المطر الممتنع دائما عن أرض محافظة المثنى.
جلست في غرفة الضيوف فوق بساط بعرض متر وبألوان زاهية يلتف بموازات جدران الغرفة التي تتوسطها زولية من القاشان الإيراني بألوان مبهرة.كانت فوق رأسي صورة ملونة دون إطار لأحد أئمة الشيعة يجلس القرفصاء وأمامه يرقد أسد صهور .صنوان للشجاعة ذاك ما فسره لي المحافظ بعد أن قرر أن يفتح قلبه ليَّ حسب قوله.
أنكر أن تكون المشاكل والمظاهرات التي وقعت في المدينة سببها الخلافات العشائرية بين آلبو حسن وآل زياد مثلما تقول بعض الأوساط المغرضة، ولم يكن السبب نزاع بين منظمة بدر التي ينتمي أليها مع خصومها. وأيضا على عكس ما يشاع فأن اليابانيين دائما يفضلونه على الجميع لأسباب لا يجد أن الوقت مناسب لإعلانها.
أفاض في شرح سبب محاولات إقصائه عن منصبه، حيث أكد أن الأمر يعود الى نهاية عام 2004 حين شجع وساند إنشاء فرقة للإنشاد الوطني وحاول استباق الزمن والتهيئة لإعلان جمهورية السماوة الفدرالية الاتحادية وقد شارك شخصيا أعضاء تلك الفرقة في اختيار الأغاني والأناشيد التي قدمتها في الاحتفالات الرسمية والدينية. وقد لاقت الفرقة التشجيع والاستحسان بين أوساط الجماهير الشعبية في المحافظة وقدمت لها عدة عروض من الخارج وبالذات من شركة روتانا وشركة فوكس الأمريكية وكذلك شركة دمبك شلولو الإيرانية.
ولكن الحس الوطني والالتزام الديني جعل الفرقة تفضل التفاعل مع المحيط المحلي وقبلت فقط عرض الشركة الإيرانية دون أن تتعرض لضغوط مني حسب ما يشاع.
وحسب ما قاله ايضا، فأنه وعند بداية عام 2005 أختار أغنية نجاة الصغيرة (سنتين ونا أحايل فيك ودموع العين تناديك ....  يا سبب تعذيبي) أختار تلك الأغنية التي عشقها منذ الطفولة لتكون السلام الوطني لإقليم السماوة الفدرالي الاتحادي ولتقدمها فرقة الإنشاد حين يتم تسليم السيادة الى أبناء السماوة.          ولكن أولاد المومسات (ترجمة حرفية ) لم يتركوا الأمر يمر بسلام فذهبوا الى الأمريكان ليحرضوهم ضدي وينسبون سبب اختياري لتلك الأغنية الى نوع من التهكم والتحريض ضد القوات الأمريكية وبان تلك الأغنية تأتي متزامنة مع مناسبة مرور سنتين على التحرير دون أن يتغير شيء وكل الخدمات ( حو ) والتخصيصات ( بح ). وكان عدم موافقة فرقة الإنشاد السماوية على قبول عرض شركة فوكس الأمريكية واحدا من أسباب التحريض وأنت يا سيدي تعرف دور الكارتلات والاحتكارات الدولية .
قال ذلك وراح في نوبة بكاء سخية وعندها طرق سمعي نواح لمجموعة من النسوة كن يبكين في الغرفة المجاورة.وقال أيضا لقد حشدوا ضدي الشباب المراهق وهم مجاميع منفلتة من البريكية والحواسم  والمكبسلين، أنها والله مؤامرة خبيثة لوقف التقدم والتحديث الذي عملنا بجهود جبارة من أجل أن يعم محافظة السماوة.
فأنا أول من شجع الممارسات الديمقراطية حين طلبت من جميع العشائر أن تختار رايتها الخاصة وقدمت تبرع خاص مني كعربون صداقة وحسن نية لعشيرة آل زياد لشراء راياتهم، واستوردت الزناجيل والقامات الحديثة للمواكب الحسينية.أنني وسط أبنائي وأحبتي وشعبي ولن يستطيع كائن من كان إزاحتي من منصبي.
كانت تلك أخر جملة سمعتها من المحافظ وبعدها فقد استفقت وعلى ضوء شحيح لفانوس ربما بيع في ذات العهد الذي عثر فيه على مصباح علاء الدين.تحسست جسدي فوجدتني ممددا فوق ذات البساط يغطي جسدي دثار ثقيل وبجانبي رقد السائق الذي بدا في رقدته وكأنه يمت بصلة لمن سماهم القرآن بأهل الكهف.جلست أدخن بانتظار الفجر.أنهيت تدخين سجارتين ثم تملكني النعاس مرة أخرى فوضعت الغطاء فوق جسدي ومددت قامتي تحته مطمئن لنوم مريح تحت الحراسة المشددة حصلت عليه في بيت المحافظ.
ضجيج وقرقعة صحون وبكاء جوقة أطفال وأصوات نساء هذا ما أيقضني وبقيت أتنقل بعينيي بين صورة الأمام وأسده الصهور وبين صور أخرى لخيام تحترق ورأس مقطوع بعيون جاحظة ولكنها جميلة ومكحلة ومشعة بابتسامة حيوية بالرغم من الدم العبيط الذي يقطر من الرقبة المجزوزة والجسد المليء بأنصال السهام والرماح التي لم تترك منه قطعة فارغة .
بالرغم مما حوته مائدة الفطور من طعام فقد تناولت الشاي وقطعت بأسناني قطعة صغيرة من رغيف أبتلعتها  بصعوبة. شكرت مضيفي وقبلته كعادة أهل السماوة في الوداع وقام المحافظ بإمساك كفي والاحتفاظ بها لفترة وهو يحثني بلغة متوددة أن أذكر ما قاله ليّ .أن أوصل صوته للعالم فوعدته خيرا وأنا أهم بصعود السيارة.
توجهت نحو وسط المدينة لأستطلع آراء الشباب حول الأحداث الأخيرة فوجدت جمهرة تربوا على عشرين  شابا تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرون .كانوا يتحلقون حول بعضهم البعض ويتداولون بحديث لا يصح نقله عبر شبكات الأخبار غير العراقية.تدافعوا وهم يشاهدون السيارة تقترب منهم وقد دس البعض منهم أياديهم المرتبكة في جيوب ثيابهم الكالحة ودفعوا بعض التراب بإقدامهم ليثيروا الغبار الذي صنع غمامة عتمت ملامح الموقع. حين باغتتهم برغبتي لمعرفة المزيد عما جرى في المدينة من أحداث، وقد عرضت لهم سؤالي  بمقدمة أشرت فيها لحديث الجنود اليابانيون والوعود حول مستقبل المدينة المشرق.
كان عرضي لمقدمة السؤال وكأنه قنبلة موقوتة انفجرت وسطنا. فقد تقافز الشباب واخذوا بالدوران حول بعضهم وهم يرددون الهتافات والهوسات النارية ضد الاستعمار والإمبريالية وشتموا أهل اليابان وروسيا وإيطاليا وأيضا موزمبيق والنيجر.أصابتني الحيرة وأنا اسمع أسمي النيجر وموزمبيق تساءلت باستغراب وبصوت عال لماذا ...لماذا النيجر وموزمتيق ...ما علاقة تلك البلدان بالموضوع.
رجاء الهدوء...لطفا لنتحدث.... يمكنكم قول ما تريدون فأنا قادم من أحد أهم وكالات الأنباء في العالم ...تستطيعون أسماع أصواتكم ونقل آراؤكم..بح صوتي وأستغرق مني ذلك فترة زمنية ليست بالقصيرة لحين ما استطعت إقناعهم بالهدوء وتداول الحديث.سألتهم باستغراب عن موضوعة النيجر وموزمبيق فأجابوني بشكل جماعي يخالطه ضجيج وضحك وصراخ ولكني وفي النهاية فهمت من كل ذلك اللغط أن النيجر وموزمبيق امتنعتا في عهد صدام عن تزويد العراق باليورانيوم ولولا ذلك لكانت الأمور غير ما عليه الآن، ولكانت أمريكا تقبل أيادينا وتتوسلنا لمصالحتها والتصدق عليها وعلى أعوانها.
قالها ذلك الشاب ذو العين الواحدة بحرقة صاحبتها هزة عنيفة للرأس وضربات متتالية على الأرض المتربة من قدمه التي كانت تنتعل خفا كالح اللون يسمى حسب ما عرفت بالكَيوة. ثم تنحى جانبا بسرعة خاطفة  وتناول شيء ما وضعه في فمه ثم أرتشف جرعة من صفيحة البيبسي التي كان يمسك بها.
أغريته بورقة الخمسة دولارات حين طلبت منه أن ندخل السيارة لنتحدث على انفراد وبشيء من الهدوء بعيدا عن ضجيج الشباب، لكي لا نقاطع لهوهم البريء فوافق دون تردد داسا الدولارات بعجالة في جيب سروال كان يرتديه تحت ثوبه.
أعدت عليه مقدمة سؤالي وحدثته عن الوعود التي حدثني بها الجنود اليابانيون وتصوراتهم عن القادم من الأيام لوضع السماوة ومواطنيها.حك فروة رأسه وكان يطالع أصدقاءه الذين رجعوا لحالهم يلتفون حول بعضهم ويصدرون أصوات ترتفع أحيانا الى نوع من الصراخ والهرج.
 قال بنبرة حازمة ضاما قبضته وملوحا بها في وجهي: مثل هذه المعامل وغيرها وطوبات القدم من نوع جوب لس وشورتات للفرق الرياضية وجسو للسباحة وعودان للأكل بدل الخواشيك وغير ذلك من الوعود لا تكفي لإخماد حماس وثورة وغضب الشباب السماوي  في أراضي جمهورية المثنى الاتحادية الخالدة والواعدة.أننا لا نريد معمل نستعبد فيه ويسجن شبابنا طيلة الوقت دون أن يتمكنوا من أجراء فروض الشريعة.
في الوقت الذي يتجه العالم للاستغناء عن الشخاط والمكانس والمهفات يريد اليابانيون وضعنا في اسفل قائمة الشعوب المتخلفة. والشباب هنا يقولون بصوت واحد يحمل حرارة وحيوية الشباب، يا سيدي أخبر العالم،أذكر ما أقوله لك بأمانة، فقضيتنا مغيبة وهناك من يحاول التعتيم عليها.....أنهم يعدونا فقط ..سوف يتركون مدينتنا على عجل لو قرر برلمانهم الانسحاب وهذا ما يترقبه جنود الحملة اليابانية هذه الأيام.... حين رفع شباب السماوة لافتتهم الكبيرة لا لليابان أو أخرج أخرج يا ياباني المترجمة عن (كوز ماتو  طاي ماني  يا ياباني ) وقدموا الضحايا من الشهداء، فأن السبب المباشر والخطر الذي استدعى خروج تلك التظاهرات لم يكن مشكلة سياسية أو تعاون بعض شخصيات مجلس المحافظة مع المحتل وتغليس بعضهم عن الشفط واللفط أوالمشاركة فيه.
الموضوعة ليست كذلك وليس مثلما صورتها وسائل الأعلام بأنها خلاف عشائري أو رفض لسيطرة منظمة بدر، إنما السبب الرئيسي يتعلق بأقدام الحكومة اليابانية على عمل جبان وغادر أساء لتاريخ محافظة السماوة ووجه لها طعنة نجلاء وتم ذلك في ليلة مظلمة.
لقد كانت مؤامرة بكامل الخسة والجبن.أنه الحقد الحضاري...تصور.... ونريد أن تنقل هذا الكلام عبر وكالة الأنباء التي تعمل لديها ومن خلالها الى جميع شعوب العالم المضطهدة ليطلعوا على ما فعله أهل اليابان من أثم وتعدي بحق مواطني السماوة.
تصور أنهم انفردوا بجريمتهم دون علم أحد، ودون الرجوع أو إعلام الحكومة الفدرالية السماوية أو حتى حكومة الاتحاد الديمقراطي الفدرالي العراقي الموحد، وأخذ موافقتها للقيام بمثل هذا العمل الخسيس.لقد أقدم اليابانيون على سرقة  أغنية ((نخل السماوة يكَول طرتني سمرة))  واتخذوها كسلام إمبراطوري لليابان بشكل قسري ومراوغ مع سبق الإصرار والترصد.أن ذلك يعد طعنة غدر واستخفاف بتاريخ وتراث هذه المدينة النبيلة.
أن لدى شباب السماوة أدلة دامغة وشريط مصور لذلك العمل الغادر، ولذا فأنهم يقولون بحماس نادر وبصوت واحد لا لليابان شعبا وجيشا وحكومة...و المايصدك بينا خل يشاهد لعبة كرة القدم الأخيرة بين اليابان وإيران (قبل أقل من شهر ) حين عزف السلام الإمبراطوري وردد الجمهور الياباني كلمات الأغنية (تكما سماوتومو يكوما طركتمي سمراتومو....... سعفاتمي ذليتنما مابيتو تمراتمو ) والغريب والذي أستفزا وخرب أعصابنا أكثر وأكثر وهي الخربانة أصلا، مشاركة رفاقنا وشركائنا وأبناء عمومتنا من الرياضيين الإيرانيين وبتحريض من محافظ السماوة، في ترديد السلام الإمبراطوري  بذات اللحن ولكن على طور مقام الدشت الإيراني المعروف الذي أجادته الراحلة الخالدة زهور حسين ولم تستطع كَوكَوش تأديته.
فجأة تغيرت سحنة الشاب وظهر على وجهه فزع شديد ثم أدار جسده بسرعة فائقة وفتح باب السيارة وهرب نحو مجموعته.عندها سمعت طرقا ثقيلا فوق زجاج النافذة التي كنت أسند أليها ظهري .استدرت فرأيت ثلاثة شبان يرتدون ملابس الشرطة.أسدلت زجاج النافذة ورحبت بهم فتلقيت الصمت ووجوه متجهمة تطالعني بشراسة.
ـ لقد تماديت بما فيه الكفاية دون أن تحصل على رخصة. نشك أنك سوف تنجح دون معونتنا...يجب أن تدرك أنك بحاجة ألينا دائما..... أيها الصحفي الذي أفزعته العاصفة قبل أيام عند الحدود.
***
حين جلست في غرفة الفندق في العاصمة الأردنية عمان لم أتذكر ما فعلته بالتحديد عند تلك اللحظة غير  صرختي الهستيرية ورعبي الشديدين.لقد وجهت صرختي نحو سائقي مباشرة... أخرج بسرعة من هذه المدينة ....أخرج منها يا ملعون ......أتجه مباشرة الى الحدود دون توقف ....هذه المرة أتخذ طريق أخر ليس الطريق الذي جئنا منه...لا تناقش أسرع قبل أن نخرج من خراب الحاضر لنصبح في عداد الخراب الماضي.

f_almohsen@hotmail.com[/size]

293

وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي:
((أن ينصركم الله فلا مانع لدينا))



فرات المحسن
العنوان أعلاه هو نص البرقية المشتركة التي وصلت الى وزارة التخطيط مرسلة من قبل وزارتي الداخلية والدفاع العراقيتين بعد أن أطلعتا على نص الخبر التالي.
((قال مسؤول في الهيئة الوطنية العراقية لشؤون الألغام التابعة لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين طن من الصواريخ والقنابل والذخائر مازالت مهملة في مناطق كثيرة إضافة الى وجود اكثر من 25 مليون لغم تحت الأرض يجب أن تستخرج.))
خبر عادي جدا أذيع عبر وسائل الأعلام دون أن يجلب انتباه المهتمين حول ما يسمى بعمليات مكافحة الإرهاب في العراق.فمسؤول الهيئة الوطنية العراقية لشؤون الألغام عبارة عن موظف في وزارة التخطيط وعليه أن يضع مع موظفيه الخرائط والتقديرات الإحصائية ليس فقط عن الألغام أو الذخائر الحربية وإنما عن الكثير من العقود والأعمال المدنية والعسكرية والمواد الموجودة والداخلة أو الخارجة من والى العراق،ولكن مع انفلات الوضع في وزارات ومؤسسات الحكومة فقد تعددت وتشعبت الاختصاصات والجهات الراعية والمسؤولة أو المقررة،  ولذا فالمرء يقع في حرج شديد أو بالأحرى لا يعرف لمن يرسل أو يسلم تلك الدراسات والإحصائيات التي أجرتها المؤسسة التي ينتمي أليها. ربما فكر أحد منتسبي وزارة التخطيط بدرجة مدير وهو الذي أستقر أمر تعينه وفق المحاصصة التي اتفقت عليها الأحزاب العراقية في مؤتمر لندن قبل سقوط البعث القذر.أقول ربما فكر ذلك المدير أن ترسل تلك الدراسات والإحصائيات عن الألغام وملايين الذخائر المنتشرة في الأرض العراقية الى جهتين إحداهما السيد كوفي أبن حجي عنان للإطلاع مع فائق التقدير أو الى أحدى مكتبات الحسينيات أو الجوامع ليطلع عليها المصلون ومن ثم تدحس في نهاية المطاف مع كتب الأدعية وشعائر الزيارات المرمية مع السبح والترب في أحد الصناديق المباركة.
فجأة اكتشفت وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي وجود ثلاثة ملايين من الأطنان لصواريخ وقنابل وحشوات وذخائر وكذلك 25 مليون لغم مخبأ تحت الأرض.فجأة دون مقدمات وبعد مضي أكثر من سنتين ونصف من مصائب الاحتلال، تنشر الوزارة تلك الإحصائية ودون إعلان مسبق عن لجنة شكلت لتقدير حجم ومواقع ذلك الخزين المبعثر بين أخاديد وطيات أرض العراق أو الإفصاح عن خرائط والإعلان عن وضع اليد على تلك الأماكن .
لا أحد ينكر أهمية تلك التقارير والتقديرات وخطورتها ولكنها تبقى ناقصة أن لم تعالج بالسرعة اللازمة  ووفق خطورتها وعلاقتها بالقتل المجاني الذي يتعرض له المواطن العراقي يوميا، ولذا يثار السؤال المهم والحائر: لمََ لم تتكفل وزارتي الدفاع والداخلية مهمة الكشف عن ذلك الخزين الخطر ومن ثم تقومان بإتلافه أو الاستفادة منه.ما الذي جعل وزارتي الدفاع والداخلية تتغاضيان وتهملان الموضوعة وتتركانها كمهمة إدارية روتينية إحصائية ليس إلا، تقوم وزارة التخطيط بدراستها وتقديم التقارير عنها. 
أثناء حروب صدام الخارجية والداخلية تحركت قطعات الجيش في طول وعرض أرض العراق وكذلك في أرض جيرانه إيران والكويت أثناء غزوهما وكانت تلك القطعات تعسكر لفترات محددة في مناطق الحركات العسكرية. وأثناء حلولها في أية بقعة أرض يقوم الجنود بحفر الملاجيء لهم وللعتاد والذخائر وحين تصدر الأوامر لتلك القطعات بالتحرك السريع للهجوم أو الإسناد أو ما شابهها من مقتضيات وضرورات المعارك فأن تلك القطعات تخلف ورائها الكثير من تلك الذخائر من مثل عتاد البنادق وحشوات المدفعية وقنابلها والقنابل اليدوية وقنابر الهاون وحتى السلاح أحيانا.وقد درج بعض ضباط الإعاشة على التسامح في ترك العتاد ليقوموا بعد ذلك بإسقاطه من السجلات عبر أدراجه كمستخدم أو تالف خلال  المعارك.
يمكن القول أيضا أن الهزيمة الشنعاء التي تعرض لها الجيش العراقي أثناء عملية إزاحة حزب البعث الفاشي من قبل الأمريكان كانت سببا في ضياع الكثير من السلاح والعتاد حيث تركت الكثير من المواقع العسكرية عرضة للنهب والسلب بعد أن هرب منتسبوها تاركين ورائهم سلاحهم وعتادهم في أرض المعركة والمواقع والمخازن المنتشرة في العراق.
ومع رواج سرقة وتجارة السلاح قبل وبعد سقوط حزب البعث الفاشي وارتباطا بتدني وتردي الوضع الاقتصادي والأمني.فأن ظهور وتطور العمليات الإرهابية بمختلف مسمياتها فرض نوع جديد من تجارة السلاح وهو بيع الذخائر والحشوات والصواريخ والقنابل والقنابر والقاذفات الصاروخية وبعض أنواع من مدافع الهاون. وقد تخصصت عصابات كثيرة في تلك المهنة وكانت ولازالت منشآت التصنيع العسكري ومخازن العتاد مصدرا ثريا لمن يريد العمل في تلك المهنة.فمخازن عتاد التاجي وكذلك منشآت التصنيع العسكري جنوب بغداد وغربها بقيت تمثل مصدرا سهلا للحصول على تلك المعدات والذخائر من قبل أبناء المنطقة أو ممن يمارس عمليات شرائها وبيعها وقد لاقت تلك التجارة رواجا بين أوساط المنظمات الإرهابية وباتت بعض المواقع تخضع لسيطرة تلك المنظمات وتعتبر ضياع وممتلكات خاصة لا يمكن لغيرهم الاقتراب منها والمساس أو العبث بمحتوياتها.ولازالت مناطق جنوب وشرق العراق وبالذات الحدود مع إيران، تعتبر مقالع أو مناجم غنية يمكن الحصول منها وإخراج آلاف الأطنان من العتاد والذخائر. وباتت المناطق تلك تقدم دخلا مهما لمن يعمل على أخراج خزينها المكنون في ملاجيء الجيش التي طمرتها المياه والأتربة ولا تحتاج لجهد فائق لاستخراج محتوياتها.
الغريب أن ثلاث وزارات للدفاع ومثلها للداخلية تداولت شؤون الدولة العراقية منذ سقوط البعث النتن، ومع وجود فطاحل من أنواع مختلفة من العسكريين في كلا الوزارتين ممن دُجنوا أو كُرموا أو أُعيدوا أو تبرعوا بخدماتهم. ومع وجود التنافس والضجيج والعياط عن خطط للدفاع والأمن وجاك الذيب وجاك العكرب وأبو السبعة وسبعين وأبو بريص وخطة الصاعق المدمر والسيف الباشق والحلزون الخارق وكرين دايزر وعنتر بريجه بيده وخطة تطويق بغداد بثلاثة أحزمة الأول دللوه يالولد يبني والثاني ياذيب ليش تعوي وأخير حزام العجائب طفي الضوه... وحسابك يكون ....وحزومي أشتره سلاح بالنقدي عبر بيروت وفلوحي يقود جحافل النصر السامرائية.... الى أن وصل الأمر الى باقر صولاغ الذي يصولغ بهم يوميا دون حساب مع صاحبه سعدون الدليمي.. والملقب بلنكولن بنو ديلم ....والدلم .مع كل تلك الصور والافانين التي يتحدثون عنها ويفاخرون بها فقد بقيت أماكن العتاد والذخائر مهملة من قبل وزارتي الدفاع والداخلية ومصدر لتمويل عمليات الإرهاب. وبحساب المعدان وليس خبراء وزارة التخطيط فأن الطن الواحد من ذلك العتاد لو قسم الى أربع أجزاء وفخخت به أربعة سيارات وانفجرت اثنان فقط من تلك السيارات وقتلت كمعدل ثابت فقط 2 من المواطنين فأن العدد الكلي سوف يكون 6 ملايين شخص ومع هذا العدد من الضحايا فأن قائمة الشمعة لن تضمن الفوز في انتخابات قادمة ولكنها سوف تكسب الكثير من أيام اللطم والبكاء وشق الجيوب. 
كل ذلك الزمن الرهيب الذي مر ويمر ويرقد فوق الصدور ويزرع في طريقه الرعب والدمار....كل ذلك الدم العبيط الذي سفح ويسفح يوميا......كل ذلك النثار من الأجساد التي تستصرخ الضمائر قبل أن تتوقف حشرجة الموت في بقاياها المتناثرة،كل ذلك ووزارتي دفاعنا وداخليتنا تتفرجان بوجه باش وصبوح على وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي وهي تقوم بمسح مواقع العتاد والسلاح والذخائر التي تنتشر في أرض العراق والتي تعتبر المصدر الأول من مصادر تمويل الإرهاب، دون أن تقوما بواجبهما لأخذ زمام المبادرة  وتكليف كوادرهما لتشكيل فرقة للكشف عن تلك الأماكن ووضع الخرائط لها ومن ثم إتلافها وبأسرع ما يمكن من الوقت لغلق أهم منفذ ومصدر لتمويل وتجهيز عمليات الإرهاب.
ربما أن حكمة مجلس الحكم المنفرط ووزارة علاوي المنخرطة وحكومة الجعفري المدوخنة ووزاراتهم الأمنية في ذلك الأمر العجب العجاب الذي يمر على العراق،هو أن الأمور ليست على ثبات واليوم في حال وغدا في ترحال. ولكن  هناك وعد دون أن يسقى الكمون، يتأمل معه سياسيونا الجهابذة أن تصلح الأمور... ومنكذب خبر ودك للصبح. يقال والعهدة على العاني والراوي والحديثي أن في القريب العاجل سوف يتم عقد صفقة بين الدول المانحة و(وزارة التخطيط وإنماء الكروش) لتطوير عمليات صيد الأسماك والخضيري في الأهوار من خلال استعمال طرق زرع العبوات الناسفة وقاذفات آربي جي  7 . أو لافتتاح متحف للمفخخات تعرض فيه السيارات بأنواعها المحروكَة والمطعجة والطاكَة والسليمة وكذلك ممن وقعت كمش هيه والعتاد البيه وصاحبه أي يعني بيك وبالداره. وسوف يحتوي المعرض على أنواع الحيوانات التي لغمت وما هي أنواع الذخائر التي استعملت لتلغيمها وهل كان الحيوان متردي أم نطيحة أم صاغ سليم حين تطوع لتفجير نفسه.
الغريب أن هناك دعاية انتشرت بين أوساط أهل مدينة السماوة بعد اذاعة الخبر مباشرة، مفادها أن اليابان عرضت على الحكومة العراقية استغلال خزين الذخائر والعتاد المكتشف لبناء مصنع للصعادات التي تسمى في مناطق محافظة السماوة والجنوب العراقي الجراقيات. وبعد أن جهز الرفاق اليابانيون نوادي السماوة بكرات قدم جوبلس،ووعدوا عجائز المدينة بتطوير صناعة المهفات والليف والمكانيس، فأنهم يفكرون اليوم بتطوير الأمر وخدمة المحافظة بعمل تُخلد فيه روح الهاراكيري والكاميكاز اليابانية (طرق مستعجلة للانتحار) بأن يكون معمل الجراقيات العراقي حديث ومن النوع الذي ينافس مصانع شركة ناسا الأمريكية في الجودة. وسوف تستغل فيه جميع تلك الذخائر والحشوات والأعتدة التي خلفها جيش صاحب رواية ((أخرج منها يا كَركَور)) والتي اكتشفتها مؤخرا وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي وليس اعتمادا على ما سوف تخلفه وزارتي الدفاع والداخلية الحاليتين من عتاد وسلاح حديثين.
و عساها ابختك يا بوش وبخت أبوك..... ما أكول غير شي.


f_almohsen@hotmail.com     
         

294
طرق قديمة حديثة في العكرف لوي


مسيرة الألف ميل تبدأ بنعال إسفنج
وأول الكذب حب الوطن من الأيمان.


فرات المحسن

منذ سقوط حكم حزب البعث الفاشي ولحد الآن ونحن نتقلب بمزاج الديمقراطية وأصحاب معلقاتها . ولكن ما هي تلك الديمقراطية التي نمزمز بها اليوم. هل هي دهن نباتي أم حيواني ،قدمت من هذا الصوب  أم من ذاك الصوب.بالعربانة جابوك يالزبري  أم على ظهر أبو صابر حفظه الله ورعاه.أو مثل ما يصرخ وينطق به المواطن العراقي حين يواجه عدسات التلفزيون ( كهرباء ماكو ... ماي  ما كو ...أي هيه هذي المقراطية الكالونه عليهه بويييييه)
 يوم انعقد مؤتمر لندن للمعارضة العراقية ( سابقا ) عرفنا أن جهودا تبذل وسط تلك المعارضة لإعداد ميثاق أو عقد توافقي يتقدم حروفه أو نقاطه مبدأ الديمقراطية السامي،وأنهم في نهاية المؤتمر صادقوا على ما يشبه ميثاق شرف أن يكون العراق في مقدمة المباديء. ولكن حين جاء غارنر محمولا على طوافة أمريكية يهز ساعده طيلة الوقت ليعرض معصمه المحاط بسوار فضي. فعل رنين ذلك السوار فعله في الشارع العراقي وفزز العكًل واليشاميغ والعمايم بخرخشته. وكان غارنر يلوك علكة اشتراها على عجالة من دكان مجاور للبيت الأبيض وهو يستقل الطائرة في طريقه الى مهمته التي لم يدرك خطورتها قبل أن يشاهد شنعار تتجول في الشوارع المتربة تشتم ذلك وتغازل آخر، وليعرف أخيرا أن المهمة تحتاج الى صندوق من العلكة وصناديق كثيرة من عرك هبهب.
ودعنا غارنر بعد أن لم يتبقى لديه ما يلوكه وبعد ان مللنا من رؤيته وهو يستعرض سواره على عناد العاندوه ورمينا خلفه سبع جلمودات صخرا هدها السيل من عل .
 حل بدلا عنه سيد الأكوان السبعة أبو حيدر عبد الأمير الملقب ( بريمر ) ابو فرك وكذيلة الذي أستسلم مباشرة وكليا وطوعيا لطروحات جماعة ربعنه من الديمقراطيين  حين أحاطوه مثل مصاليخ عشاير الزولو وهم يردحون . وبإصرار عجيب دسوا لوائح وبنود الديمقراطية التي ضجوا وهللوا لها في مؤتمر لندن.رموها في خزائن مغلقة ووضعوا عليها الحراس وطلبوا بدلا منها ما يثلج صدورهم.توسلوا بريمر أبو كذيلة أن يشرع لهم المحاصصة الطائفية والقومية فقبل الرجل الفكرة دون تردد لعدم وجود أي منفذ يلج منه ليجمع هذا الخليط من الألوان المتمازجة والمتنافرة في آن واحد. وبعد أن صرخ العراقيون بوجهه ـ قفلت الدومنة ومات الدوشيش..فتسودن الزلمة .......فراح يردس ويهتف معهم (( يعيش العراق حرا ديمقراطيا تحت نير الظلم والاستعباد.))
في نهاية المطاف وردا للجميل رمى سياسيونا سوءاتهم على أبو حيدر عبد الأمير بن أنس البريمري واتهموه وجماعة ربعه في البيت الأبيض بأنهم من جاء بمرض الطائفية والمحاصصة بأنواعها المقلي والمشوي والمسلوق الى العراق الذي كان يخلوا من أي نوع من أنواع الطائفية والتهميش والإقصاء والعنصرية القومية ومن يريد البرهان الوافي والشافي فليذهب ويرى بؤس مدن الجنوب والأهوار وكذلك أطلال القرى  والضياع الممسوحة في كردستان وقصور العوجة وسيارات وقلاع ومزارع قادة البعث من أبناء مدن الموصل والصحراء الغربية ومزارع الراشدية واللطيفية واليوسفية. ويمكن الإطلاع أيضا على محتويات متحف حزب البعث لنكتشف الفرق بين عريف الأمن ألبعثي الجنوبي ومدى خسته ووضاعته وعريف الأمن من المبشرين بالجنة وكيف يأمر وينهي .ولله في صناعته تلك شؤون وشجون.


( حمامات السلام الوديعة تهدل من أجل رجوع الفراشات الى البساتين )

ولنأتي بعد ذلك الى قصة الحشد المؤمن من الملائكة وطيور الحب،وعصافير الجنة وبلابل البساتين الصداحة،أو يسميهم البعض تلفيقا واعتداءا وحقدا بمروضي المجتمع أو ذراع صدام،ويستحي الأخر فيسميهم سور الوطن وحماة الديار والحدود الشرقية والعراقية والفرات والفيحاء ..   
كان صناديد وأبطال قادسية (أخرج منها يا كَركَور) و(أم مديحة معارك) و(بيبية الحواسم) قد خلعوا الملابس العسكرية وورطوا زوجاتهم وأمهاتهم في عملية إخفاء أو حرق أو دفن الرتب والنياشين ولم ينبسوا بكلمة عتب تذكر يوجهوها الى السيد غارنر منذ قدومه لحين رحيله لتذكيره بوجودهم كطناطل مرعبة مهدلة الكروش تستطيع أن تخربط عليه طقوس التمعلج والتسوفه اليومية خاصة وأنهم في البنت اغون يقولون عن غارنر أبو قميص الدلع أن قلبه كلش أرهيف وما يتحمل الفزات.
 لم يقف أصحاب الكروش بوجه غارنر أبو العلوج ليصرخوا صرختهم المدوية المهددة : نحن أبطال العروبة وطلائعها. نحن الجيش العرمرم الذي أرعب المحافظة 19 وسرقها عن بكرة أبيها ودغدغ الأكراد وسكان الأهوار بشوية خردل. نحن من دمر المحمرة وعبادان وديزفول تحت مرأى ومسمع وتوجيهات طائرات الأواكس الامريكية.
صمت ذلك الجيش الجرار العرمرم طيلة فترة حكم السيد غارنر طيب الله أنفاسه. وكانت فرحة وغبطة هؤلاء الصناديد دون حدود بعد أن عرف جمعهم الميمون أن دائرة الانضباط العسكري قد سرحت نفسها أيضا علواهس. ومن فرط الفرحة وزع آمرها الشربت والكليجة بالمناسبة ولم يعد للدائرة وجود  بعد ذاك الزمن. لا آمر ولا جنود ولا حتى بيرية حمرة ونطاق أبيض كذكرى لديناصور نافق.إذا كان رب البيتو للشلعتي جاهزون فشيمة أهل البيت أكَلب والهوه بظهرك.
حين جاء أبو حيدر عبد الأمير البريمري وأعلن عن وفات ذلك الجيش مستند لوقائع على الأرض حيث أحصي ودون وسجل بشهادة الشهود والحوادث والوثائق وبقايا المعسكرات واختفاء وهروب الزيتوني من أرض العراق ودخوله في السبات الكوني بناء على التطبيق الحرفي لمقلوب عجز الأنشودة الخالدة   يا حوم أتبع لو جرينه.... زواج أحنه وما فرينه.
عند ذاك صفن السيد عبد الأمير البريمري ورمى كذلته الى الخلف ثم رجع ومسدها ببعض الدهن الياردلي كم ياردلي سمرة قتلتيني وصاح بصوته الصداح: أن جيش العراق قد هرب من أرض المعركة وأن قادته وجنوده تركوا سلاحهم ومواقعهم وتواروا خلف ..... موقعين بالعشرة على ثلثين المراجل.لذا قررنا حل الجيش العراقي و... والحك ربعك.
فجأة استفاق البعض من غفوتهم وكسلتهم بعد أن أطمئن ان لا عقاب هناك ولا حسيب ولا رقيب  وعهد قنادر قصي أبن أبيه والتي كانت تملأ الأفواه دون سبب يذكر، قد ولى. وبدلا من فضح الواقع والخجل مما حدث والقبول بالتقاعد والتأكيد على المبدأ العسكري وأعراف الجندية وشرف المهنة التي جميعها ترفض إعادة الجندي الى الجيش بعد أسره أو هزيمته أو ثبوت هروبه من أرض المعركة أو تركه لسلاحه أو استسلامه للعدو.راح رجال المهمات الصعبة ومشعلي الحروب وبناة المقابر الجماعية يتفننون في شتم أبو كذيلة السيد بريمر قدس الله سره، ويتهموه  وربعه في البنت اغون  بتفليش حامي حمى الوطن الجيش العراقي مع سبق الإصرار والترصد وتناسوا  (فوت بيه وعلى الزواج خليه).ولذا فقد صرح أبن ولايتي طيب الله أنفاسه اللواء الركن عبد الجليل محسن أحد أذرع السيد أياد علاوي، والذي يمكن عده من ضمن الثلاثة التي يملكها علاوي وهن حسب التوصيف والتصنيف العراقي : وحده شكَف وحده لكَف وحده أكله الواوي.

((( أعلن قيادي في حركة الوفاق الوطني بزعامة أياد علاوي أمس أن لا حل أمنيا في العراق إلا بعودة جيش العراقي المنحل، مشددا على أن جاهزية الجيش العراقي الجديد، في ضوء التدريبات التي يحصل عليها، غير قادرة على النهوض بواجبات حماية البلد.
وقال اللواء الركن عبد الجليل محسن للسفير، ردا على التقارير الأميركية والعراقية التي تقول بإمكانية انسحاب قوات الاحتلال من بعض المدن العراقية خلال النصف الأول من العام المقبل، إنه من دون عودة الجيش العراقي القديم بوحداته القادرة والمدربة على الحفاظ على امن العراق، لا نعتقد بإمكانية الجيش العراقي الجديد، مع احترامنا للأفراد العاملين فيه، على النهوض بواجبات عسكرية في العراق. بغداد عن جريدة  السفير)))

دعوة هؤلاء لإعادة الجيش القديم الى ساحات الوغى تقف اليوم على ثلاثة أضلع، يعني مثل الجدر ميرهم بالطبخ إذا لم تتوفر له ثلاثة أرجل ليقعد عليها قعود الأباطرة المبجلين .القدم الأولى عودة الجيش القديم وأجهزة الشرطة والأمن وبما كانت عليه في عهد صدام. والقدم الثانية أطلاق سراح جميع المعتقلين من رجال العهد القديم وهذا ما يحتاج تعلوم. والقدم الثالثة والتي تكمل الحسبة وتضع الأمور في موازينها ونصابها ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا شهادة تزكية من حزب البعث. هذه القدم الثالثة تكمل القدمين الأخريين وأن سبقاها ولكنها تتقدم عليهما بالمعنى العام المعلن والمضمر. الحصول على القدمين في البدأ هو محور التمهيد وضرورته للقدم الثالثة وهي عودة صدام و نظامه للقيادة، وكفى الله العراقيين شر القتال بعودة الابن البار لعرشه وليستعد جيش الأيمان للقضاء على زنادقة الشيعة والكورد الكفار تحت راية الله أكبر والعزة للعرب وليخسأ الخاسئون.   
وصخام وجهك بريمر الى يوم القيامة، يوم يبعث الناس في حشر لا أول لهم ولا أخر، وكل واحد دفتره وقلمه  بيمينه والامتحان دون ترك ولبيك اللهم لبيك، أن الملك والنعمة لك لبيك.ولعنة الله على أبو حيدر وربعه في بنت أغون على هل الاختراعين الخطرين، المحاصصة وحل الجيش .
وعود نسأل الله أن تتحقق
ربما أن كان لدينا واهس  وهذا لا يتوفر إلا بطلعان النفس. سوف نبحث في حلقة قادمة عملية التنفيذ الحرفي لتحليلات مراكز البحوث ومنتديات التحليل الإحصائي عن كيفية اختفاء عرباين بيع النفط لصالح بوريات الشفط من الأبي مباشرة.وكيف تدفع قناة الجزيرة الفضائية عربون الصداقات لرجال السياسة العراقيين من أجل إغوائهم للظهور في برامجها.وهم يعوعون مثل الديكة. ضاربون عرض الحائط قرارهم بمقاطعتها.أوعن كيفية وأسباب رجوع أبناء عمومتنا قجقجية ومهربي المخدرات وسراق البنية التحتية والفوقية والغربية والشرقية والظاهرية والباطنية للعراق، وزراع المفخخات والقتلة المأجورين من الإيرانيون الى بيوتهم أمنين مطمئنين تحف بهم بركات السيد رئيس الوزراء بعد أن زرعوا فحصدنا ويحصدون ونأكل القزلقورت والزقنبوت وهم يتريعون العوافي بصدر السيد وبصدر الخلفوه. وأيضا بعض أعضاء الجمعية الوطنية يطلبون أن تكون اللغة الفارسية لغة رسمية ثالثة للعراق لكي يتم تسهيل تداول التومان دون مستحه.وسوف نتحدث أيضا عن أيهم والأربعين سويج كهرباء الماتنتل والمحولات المستوردة فقط بادي ( كَشر ) دون مكينة وفيوزات. وعن الحدود مع المملكة العربية السعودية حيث تهرب الأغنام ومعها الهدايا والنعم من الغزلان والأرانب المفخخة ويصرخ السنة: تره الإرهاب يأتي من إيران ويصرخ الشيعة : تره الإرهاب يأتي من سورية ويضحك آل سعود مع كل بنجر ونفاخة تطق وتخلي العراقيين خايفين ويكَمزون ضد سورية و الأردن.ولكني محتار كيف أكتب عن سلطة رئيسها لا علاقة له بنوابه ورئيس وزراءه .ورئيس وزراء لا يريد أن تكون له علاقة بالآخرين. جميع هؤلاء من الذين كانوا حلفاء الأمس أصبحوا يضمرون لبعضهم العداء ويتصيدون الفرقة، ولذا قرروا أن تكون تعزيتهم بوفاة الملك السعودي أثبات لتلك الخصومات المبطنة فكان التنافس في الوصول والتفرد في التعزية بأربعة طائرات وأربعة جوقات من الحراسات وبأربع شيكات من أموال جياع ومرضى العراق.ولا أدري لم يعيب الشعب العراقي على عزة الدوري أنه كان ينوح ويلطم في مجلس عزاء النسوان على روح أم صدام.ويمكن أيضا أجراء جرد ومقارنة بين رواتب موظفي الدولة العراقية الكبار مع أقرانهم من موظفي الدول الأخرى وعلى سبيل المثال راتب رئيس جمهورية العراق الديمقراطية الاتحادية الفدرالية التعددية اللامركزية العظمى الذي يبلغ مليون دولار صافي مصفه شهريا،أي لا تدخل ضمنه الحبربشيات مثل الحراسة وأجور التنقلات والكهرباء والحب والعلج والشامية والدوندرمة وعزايم الربع وجقه مصطفى. هذا ما أخبرني به احد مستشاريه، وأجتافاتي للعباس أبو فاضل إذا أني جايب هذا الرقم مني، وتعرفون شنو يعني الحلفان براس العباس، مو لعب جهال وياهو اليجي يحلف بيه .والعجيب أن راتب السيد رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية سيدة الأكوان وصاحبة القول والفصل والسلطان على بلاد الأنس والجان لا يتعدى 650 ألف دولارا فقط وبطاقة شهرية للتنقل في وسائط النقل العامة في العاصمة واشنطن وشوية لحوسات ومطكَيات للكلب وشوية مزة وعركات ضمن الراتب على ان يقدم جردا سنويا بأوجه الصرف وإلا قطعت عنه بطاقة النقل الشهرية والضمان الصحي للكلب.
عذرا فقد طكَت مفخخة يمي وانقطعت الكهرباء.مو كلت الحلفان مو هين ومو لعب جهال.     






 

295
ليدافع المثقف العراقي عن بيته


فرات المحسن

ما الذي يجعلك تحتار كل تلك الحيرة وتتملكك الدهشة وتصاب بالدوار ويعتصر قلبك الألم وأنت تقرأ وتشاهد الاختلاف والتناقض بين رد المكتب الإعلامي في وزارة الثقافة العراقية على العمود اليومي لجريدة الاتحاد العراقية والذي يحرره الأستاذ عبد المنعم الأعسم وبين ما ورد في استقالة مدير الإعلام في الوزارة ذاتها الشاعر إبراهيم الخياط .رد المكتب الإعلامي على مقالة السيد الأعسم خرج عن المتعارف عليه في لغة الخطاب الصحفي وبروتوكول ردود الوزارات على يوجه لها من نقد في الصحافة، وذهب نحو لغة الإسفاف والطعون وتعداها الى تلك اللغة السوقية غير المؤدبة التي تستعمل من قبل فتيان الأزقة الخلفية من غير الأسوياء. ولو تمعن القارئ في عبارات رد مكتب الأعلام في وزارة الثقافة لتملكته الدهشة من قرب كلماتها وتشابهها الشديد مع ما كان يصدر عن عبد حمود سكرتير النافق صدام وغيره من حراس أبواب ومرافقي الوزراء والمدراء العامين، من تعليمات وهوامش وتوصيات في ذاك الزمن الوسخ.
أذن ما الذي كنا نترقبه أو نطلبه من وزير هلك وطرد من سلك الشرطة أثر رشوة تعدت خطوط الوالي الحمراء في عهد وصلت فيه فنون  عمليات الارتشاء وبيع الذمم الى حدود نيل الدكتوراه وحتى بيع الطماطة في الأسواق الشعبية.وما الذي نتوقع الحصول عليه لصالح الثقافة العراقية من حاشية بكذا لغة متشنجة إقصائية شاتمة تشرف من صالة الوزير وعبر منبره على دوائر الثقافة والمعرفة في العراق.
ما ورد في استقالة الشاعر الخياط لم يكن غير كشف علني  لما آل أليه حال الوزارة على يد مقدم الشرطة المفصول السيد نوري الراوي بعد أن تجاوز في إجراءاته مع بطانته حدود المعقول .
ولكن من يلام على ذلك الوضع ومن يتحمل ذنب الثقافة العراقية وهي تتعرض لذلك التسطيح والتخريب وفرض سلوك وإجراءات رجال الشرطة عليها.هل يلقى اللوم على ( مجموعة أهل السنة ) وهي التي رشحت هذا الشخص، أم أن رئيس الوزراء وكتلة الائتلاف والقائمة الكوردستانية يتحملون وزر ذلك وهم العارفون بما كان عليه وضع نوري الراوي (الشرطي ) سابقا.
هل خدع السيد رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري وأهمل الموضوع بعد أن ظن أن من رشحه السنة لمنصب الوزير وفق المحاصصة البغيضة هو الفنان التشكيلي نوري الراوي.أم أن إشارة أتته من بعيد توضح بأن الوضع مسيطر عليه من قبل الوكيل.
ولكن السؤال الصارخ : ما هو موقف المثقف العراقي اليوم  مما يجري في وزارة من المفترض أن ترعى وتصون منتجي ومبدعي الثقافة ونتاجهم وتعمم لغة إبداع جديدة لا علاقة لها بلغة الدجال الصحاف وعبد الغني عبد الغفور ولطيف نصيف جاسم أو ما شاع بين أوساط وزارة الأعلام المنحلة من تعريف قسري وتأطير وتخريب للأدب والفن وعموم الثقافة بأهزوجة التكاتف والتكالب (ها خوتي ها ) 
على رجال الثقافة والمعرفة أن يرفعوا أصواتهم احتجاجا وأن يعملوا قبل فوات الأوان على صيانة صرح هم أحق به من غيرهم. عليهم الدفاع عن حقهم في التواجد بين أروقته ونشر روح المحبة بلغة أدبية وثقافة راقية وحوار حضاري. عليهم اليوم المبادرة لمحاصرة تلك الأفكار الاقصائية التخوينية ولغة الشوارع المبتذلة التي غذتها ثقافة سقط المتاع وحثالات ورعاع المجتمع من أمثال صدام وعبد حمود وحسين كامل وعلي الكيماوي ووطبان وسبعاوي.
ليدافع المثقف العراقي عن أحد معاقله قبل أن تهد الجرذان ذلك الهيكل.   

296
بلاغ صحفي
اجتماع اللجنة العراقية لدعم الدستور الديمقراطي الدائم
في ستوكهولم
[/b]

عقد في ستوكهولم يوم الأحد 19 حزيران 2005  اجتماع حضره عدد من الشخصيات الوطنية- الديمقراطية وممثلين عن الأحزاب والقوى السياسية  والاتحادات والجمعيات العراقية  , للتداول في تعبئة الإمكانيات والطاقات الحقيقية والفعلية لأبناء الجالية للتأثير في صياغة الدستور الدائم للبلاد , والعمل على المساهمة في الاستفتاء الشعبي عليه, انطلاقاً من ان مهمة صياغة الدستور تمثل الحجر الأساس في بناء دولة القانون والمؤسسات, وكونه عقداً اجتماعياً بين المكونات الاجتماعية وخطوة لاستكمال العملية السياسية الجارية في العراق .
ناقش الحاضرون ورقة العمل المقدمة من الهيئة التحضيرية التي دعت الى تشكيل " اللجنة العراقية لدعم الدستور الديمقراطي  الدائم " , إدراكا منها بأهمية تجميع كل القوى (الوطنية) الديمقراطية لتحقيق الهدف المنشود في أن يكون للبلاد دستوراً ديمقراطياً علمانيا , وليتواصل الصوت العراقي في الخارج مع المساعي النبيلة لأبناء شعبنا في الوطن.
وقد حددت الهيئة أهدافها في " خلق وبلورة رأي وطني ديمقراطي عام, يشيع ثقافة ووعي ديمقراطيين, لتبني دستور علماني , يعزز الوحدة الوطنية في إطار نظام حكم جمهوري ديمقراطي فيدرالي تعددي موحد، يعمل على تثبيت الأسس والمبادئ التي تضمن الحقوق والحريات الفردية وحق المواطنة والمساواة التامة بين المواطنين دون تمييز بسبب المعتقد أو العرق أو الجنس أو الانتماء الديني والمذهبي, والفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)،والفصل بين الدين والدولة, وبناء دولة القانون والعدالة , وتأمين التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة, ومنع عودة حكم الاستبداد والتسلط، إضافة الى ضمان  العدالة الاجتماعية في التوزيع العادل للثروة الوطنية، وإقرار الفدرالية لكوردستان العراق وضمان الحقوق القومية والثقافية لجميع المكونات المتآخية للشعب العراقي، والمساواة بين المرأة والرجل، وحماية حقوق المرأة والطفل" .إضافة الى أشراك الجميع في حل القضايا الكبيرة التي تخص حياة الشعب والوطن من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية .
ويدعو البرنامج , الذي اقره الاجتماع , العراقيين للمساهمة الفعالة في تنظيم الفعاليات السياسية والفكرية والدعائية لمناقشة أسس ومبادئ الدستور ,وتوسيع دائرة مشاركة أبناء الجالية ، وخلق حركة ضاغطة من ذوي  المصلحة الحقيقية بالديمقراطية وجميع من يهمهم مستقبل العراق الحضاري،لأجل المشاركة في الاستفتاء عليه.   
وفي ختام الاجتماع, الذي سادته أجواء من الصراحة والنقاش العميق والجاد تم انتخاب لجنة متابعة  مكونة من تسعة شخصيات تأخذ على عاتقها الأعداد والترتيب لاجتماع قادم تناقش فيه مهمات العمل وأسس المشاركة .
كما وجه المجتمعون نداءا الى الحكومة السورية والجهات المعنية للعمل على كشف مصير الأستاذ شاكر حسون الدجيلي, الذي اختفى منذ يوم 31/3/2005  في دمشق العاصمة السورية.

ستوكهولم

صفحات: [1]